المهذب في فقة الإمام الشافعي

كتاب الجنائز
باب ما يفعل بالميت
المستحب لكل احد أن يكثر ذكر الموت لما روى عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه "إستحيوا من الله حق الحياء" قالوا إنا نستحي يا نبي الله والحمد لله قال: "ليس كذلك ولكن من استحيا من الله حق الحياء فليحفظ الرأس وما حوى وليحفظ البطن وما وعى وليذكر الموت والبلى ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء1" وينبغي أن يستعد للموت بالخروج من المظالم والإقلاع من المعاصي والإقبال على الطاعات لما روى البراء بن عازب أن النبي صلى الله عليه وسلم أبصر جماعة يحفرون قبراً فبكى حتى بل الثرى بدموعه وقال: إخواني لمثل هذا فأعدوا.
فصل: ومن مرض استحب له أن يصبر لما روي أن امرأة جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله ادع الله أن يشفيني؟ فقال "إن شئت دعوت الله فشفاك وإن شئت فاصبري ولا حساب عليك" فقالت: أصبر ولا حساب علي ويستحب أن يتداوى لما
__________
1 رواه الترمذي في كتاب القيامة باب 24. أحمد في مسنده "1/387".

(1/235)


روى أبو الدرداء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إن الله عز وجل أنزل الداء والدواء وجعل لكل داء دواء فتداووا ولا تتداووا بالحرام1" ويكره أن يتمنى الموت لما روى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لا يتمنين أحدكم الموت لضيق نزل به فإن كان لا بد متمنياً فليقل أللهم أحيني ما دامت الحياة خيراً لي وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي2" وينبغي أن يكون حسن الظن بالله عز وجل لما روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله عز وجل3" ويستحب عيادة المريض لما روى البراء بن عازب قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم باتباع الجنائز وعيادة المرضى فإن رجاه دعا له والمستحب أن يقول أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك سبع مرات لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من عاد مريضاً لم يحضره أجله فقال عنده سبع مرات أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك عافاه الله تعالى من ذلك المرض4" وإن رآه منزولاً به فالمستحب أن يلقنه قول لا إله إلا الله لما روى أبو سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقنوا موتاكم لا إله إلا الله5" وروى معاذ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من كان أخر كلامه لا إله إلا الله وجبت له الجنة6" ويستحب أن يقرأ عنده سورة يس لما روى معقل بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اقرؤوا على موتاكم يعني يس7" ويستحب أن يضجع على جنبه الأيمن مستقبل القبلة لما روت سلمى أم ولد رافع قالت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضعي فراشي ههنا واستقبلي بي القبلة ثم قامت واغتسلت كأحسن ما يغتسل ولبست ثياباً جدداً ثم قالت: تعلمين أني مقبوضة الآن ثم استقبلت القبلة وتوسدت يمينها.
__________
1رواه الترمذي في كتاب الطب باب 2. أبو داود في كتاب الطب باب 1، 11 ابن ماجه في كتاب الطب باب 1. أحمد في مسنده "3/156".
2 رواه البخاري في كتاب المرضى باب 19. مسلم في كتاب الذكر حديث 10 النسائي في كتاب الجنائز باب 1. ابن ماجه في كتاب الزهد باب 31. الدارمي في كتاب الرقاق باب 45.
3 رواه مسلم في كتاب الجنة حديث 81، 82. أبو داود في كتاب الجنائز باب 13. ابن ماجه في كتاب الزهد باب 14. أحمد في مسنده "3/293،315".
4 رواه أحمد في مسنده "1/196".
5 رواه مسلم في كتاب الجنائز حديث 1،2. أبو داود في كتاب الجنائز باب 16، الترمذي في كتاب الجنائز باب 7. أحمد في مسنده" 3/3".
6 رواه البخاري في كتاب الجنائز باب 1،. أبو داود في كتاب الجنائز باب 16.
7 رواه أبو داود في كتاب الجنائز باب 20. ابن ماجه في كتاب الجنائز باب 4. أحمد في مسنده "5/26، 27".

(1/236)


فصل: فإذا مات تولى أرفقهم به إغماض عينيه لما روت أم سلمة رضي الله عنها قالت: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي سلمة فأغمض بصره ثم قال: "إن الروح إذا قبض تبعه البصر" ولأنه إذا لم يغمض بقيت مفتوحة فيقبح منظره ويشد حييه بعصابة لأنه إذا لم يفعل ذلك استرخى لحياه وانفتح فوه وقبح منظره وربما دخل إلى فيه شيء من الهوام وتلين مفاصله لأنه أسهل في الغسل ولأنها تبقى جافية فلا يمكن تكفينه وتخلع ثيابه لأن الثياب تحمى الجسم فيسرع إليه التغيير والفساد ويجعل على سرير أو لوح حتى لا تصيبه نداوة الأرض فتغيره ويجعل على بطنه حديدة لما روي أن مولى أنس مات فقال أنس: ضعوا على بطنه حديدة لئلا ينتفخ فإن لم تكن جديدة جعل عليه طين رطب ويسجى بثوب لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم سجي بثوب حبرة ويسارع إلى قضاء دينه والتوصل إلى إبرائه منه لما روى أبو هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى" ويبادر إلى تجهيزه لما روى علي عليه السلام أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاث لا تؤخر وهن الصلاة والجنازة والأيم إذا وجدت كفؤاً1"
فإن مات فجأة ترك حتى يتيقن موته.
__________
1 رواه الترمذي في كتاب الصلاة باب 13. كتاب الجنائز باب 73. أحمد في مسنده "1/105".

(1/237)


باب غسل الميت
وغسل الميت فرض على الكفاية لقوله صلى الله عليه وسلم في الذي سقط من بعيره إغسلوه بماء وسدر فإن كان الميت رجلاً لا زوجة له فأولى الناس بغسله الأب ثم الجد ثم الجد ثم الابن ثم ابن الابن ثم ابن الأخ ثم العم ثم ابن العم لأنهم أحق بالصلاة عليه فكانوا أحق بالغسل وإن كان له زوجة جاز لها غسله لما روت عائشة رضي الله عنها أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه أوصى أسماء بنت عميس لتغسله وهل تقدم على العصبات؟ فيه وجهان: أحدهما أنها يقدم لأنها تنظر منه إلى ما لا تنظر العصبات وهو ما بين السرة والركبة والثاني يقدم العصبات لأنهم أحق بالصلاة عليه وإن ماتت امرأة ولم يكن لها زوج غسلها النساء وأولاهن ذات رحم محرم ثم ذات رحم غير محرم ثم الأجنبية فإن لم يكن نساء غسلها الأقرب فالأقرب من الرجال على ما ذكر وإن كان لها زوج جاز له أن يغسلها لما روت عائشة رضي الله عنها قالت: رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من البقيع فوجدني وأنا أجد صداعاً وأقول وارأساه فقال: "بل أنا يا عائشة وارأساه ثم قال وما ضرك لم مت قبلي لغسلتك وكفنتك وصليت عليك ودفنتك" وهل يقدم على النساء على وجهين: أحدهما يقدم لأنه ينظر إلى ما لا ينظر النساء منها والثاني تقدم النساء على الترتيب الذي ذكرناه فإن لم يكن نساء فأولى الأقرباء بالصلاة فإن لم يكن فالزوج وإن طلق زوجته طلقة رجعية ثم مات أحدهما قبل الرجعة لم يكن للآخر غسله لأنها محرمة عليه تحريم المبتوتة وإن مات رجل ولم يكن هناك إلا امرأة أجنبية أو ماتت امرأة وليس هناك إلا رجل أجنبي ففيه وجهان: أحدهما ييمم والثاني يستر بثوب ويجعل الغاسل على يده خرقة ثم يغسله فإن مات كافر فأقاربه الكفار أحق بغسله من أقاربه المسلمين لأن للكافر عليه ولاية وإن لم يكن أقارب من الكفار جاز لأقاربه من المسلمين غسله لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر علياً أن يغسل أباه وإن ماتت ذمية ولها زوج مسلم كان له غسلها لأن النكاح كالنسب في الغسل وإن مات الزوج قال في الأم: كرهت لها أن تغسله فإن

(1/238)


غسلته أجزأه لأن القصد منه التنظيف وذلك يحصل بغسلها وإن مات هل لها غسله؟ فيه وجهان: قال أبو علي الطبري لا يجوز لأنها عتقت بموته فصارت أجنبية والثاني يجوز لأنه لما جاز له غسلها جاز لها غسله كالزوجة.
فصل: وينبغي أن يكون الغاسل أميناً لما روي عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال: لا يغسل موتاكم إلا المأمونون ولأنه إذا لم يكن أميناً لم يأمن أن لا يستوفي الغسل وربما ستر ما يظهر من جميل أو يظهر ما يرى من قبيح ويستحب أن يستر الميت عن العيون لأنه قد يكون في بدنه عيب كان يكتمه وربما اجتمع في موضع من بدنه دم فيراه من لا يعرف فيظن أن ذلك عقوبة وسوء عاقبة ويستحب أن لا يستعين بغيره إن كان فيه كفاية وإن احتاج إلى معين استعان بمن لا بد له منه ويستحب أن يكون بقربه مجمرة حتى إذا كانت له رائحة لم تظهر والأولى أن يغسل في قميص لما روت عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غسلوه وعليه قميص يصبون عليه الماء ويدلكونه من فوقه ولأن ذلك أستر فكان أولى والماء البارد أولى من الماء المسخن لأن البارد يقويه والمسخن يرخيه وإن كان به وسخ لا يزيله إلا المسخن أو البرد شديداً ويخاف الغاسل من استعمال البارد غسله بالمسخن وهل تجب نية الغسل؟ فيه وجهان: أحدهما لا تجب لأن القصد منه التنظيف فلم تجب فيه النية كإزالة النجاسة والثاني تجب لأنه تطهير لا يتعلق بإزالة عين فوجبت فيه النية كغسل الجنابة ولا يجوز للغاسل أن ينظر إلى عورته لقوله صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه: لا تنظر إلى فخذ حي ولا ميت ويستحب أن لا ينظر إلى سائر بدنه إلا فيما لا بد منه ولا يجوز أن يمس عورته لأنه إذا لم يجز النظر فالمس أولى ويستحب أن لا يمس سائر بدنه لما روي أن علياً كرم الله وجهه غسل النبي صلى الله عليه وسلم وبيده خرقة يتبع بها ما تحت القميص.
فصل: والمستحب أن يجلسه إجلاساً رفيقاً ويمسح بطنه مسحاً بليغاً لما روى القاسم بن محمد قال: توفي عبد الله بن عبد الرحمن فغسله ابن عمر فنفضه نفضاً شديداً عصره عصراً شديداً ثم غسله ولأنه ربما كان في جوفه شيء فإذا لم يعصره قبل الغسل خرج بعده وربما خرج بعد ما كفن فيفسد الكفن وكلما أمر اليد على البطن صب عليه ماء كثيراً حتى إن خرج شيء لم تظهر رائحته ثم يبدأ فيغسل أسافله كما يفعل الحي إذا أراد الغسل ثم يوضأ كما يتوضأ الحي لما روت أم عطية قالت: لما غسلنا ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنا: إبدؤوا بميامنها ومواضع الوضوء ولأن الحي يتوضأ إذا أراد الغسل ويدخل أصبعه في فيه ويسوك بها أسنانه ولا يفغر فاه ويتتبع ما تحت أظافره

(1/239)


إن لم يكن قد قلم أظافره ويكون ذلك بعود لين لا يجرحه ثم يغسله ويكون كالمنحدر قليلاً حتى لا يجتمع الماء تحته فيستنقع فيه ويفسد بدنه ويغسله ثلاثاً كما يفعل الحي في وضوئه وغسله فيبدأ برأسه ولحيته كما يفعل الحي فإن كانت اللحية متلبدة سرحها حتى يصل الماء إلى الجميع ويكون بمشط منفرج السنان ويمشطه برفق حتى لا ينتف شعره ثم يغسل شقه الأيمن حتى ينتهي إلى رجله ثم شقه الأيسر حتى ينتهي إلى رجله ثم يجرفه على جنبه الأيسر فيغسل جانب ظهره كذلك لحديث أم عطية والمستحب أن تكون الغسلة الأولى بالماء والسدر لما روى ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في المحرم الذي خر من بعيره: "إغسلوه بماء وسدر" ولأن السدر ينظف الجسم ثم يغسل بالماء القراح شيئاً من الكافور لما روت أم سليم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا كان في آخر غسلة من الثلاث أو غيرها فاجعلي فيه شيئاً من الكافور" ولأن الكافور يقويه وهل يستحب الغسل بالسدر من الثلاث أم لا؟ فيه وجهان: قال أبو إسحاق: يعتد به لأنه غسل بما لم يخالطه شيء ومن أصحابنا من قال: لا يعتد به لأنه ربما غلب عليه السدر فعلى هذا يغسل ثلاث مرات أخر بالماء القراح والواجب منها مرة واحدة كما قلنا في الوضوء ويستحب أن يتعاهد إمرار اليد على البطن في كل مرة فإن غسل الثلاث ولم يتنظف زاد حتى يتنظف والسنة أن يجعله وتراً خمساً أو سبعاً لما روت أم عطية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إغسلنها وتراً ثلاثاً أو خمساً أو أكثر من ذلك إن رأيتن" والفرض مما ذكرناه النية وغسل مرة واحدة وإذا فرغ من غسله أعيد تليين أعضائه وينشف بثوب لأنه إذا كفن وهو رطب ابتل الكفن وفسد وإن غسل ثم خرج منه شيء ففيه ثلاث أوجه: أحدهما يكفيه غسل الموضع كما لو غسل ثم أصابته نجاسة من غيره والثاني يجب منه الوضوء لأنه حدث فأوجب الوضوء كحدث الحي والثالث يجب الغسل منه لأنه خاتمة أمره فكان بطهارة كاملة وإن تعذر غسله لعدم الماء أو غيره يمم لأنه تطهير لا يتعلق بإزالة عين فانتقل فيه عند العجز إلى التيمم كالوضوء وغسل الجنابة.

(1/240)


فصل: وفي تقليم أظافره وحف شاربه وحلق عانته قولان: أحدهما يفعل ذلك لأنه تنظيف فشرع في حقه كإزالة الوسخ والثاني يكره وهو قول المزني لأنه قطع جزء منه فهو كالختان قال الشافعي رحمه الله: ولا يحلق شعر رأسه وقال أبو إسحاق: إن لم يكن له جمة حلق رأسه لأنه تنظيف فهو كتقليم الأظافر والمذهب الأول لأن حلق الرأس يراد للزينة لا للتنظيف.
فصل: وإن كانت امرأة غسلت كما يغسل الرجل وإن كان لها شعر جعل ثلاث ذوائب وتلقى خلفها لما روت أم عطية في وصف غسل بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: ضفرنا ناصيتها وقرناها ثلاث قرون ثم ألقيناها خلفها.
فصل: ويستحب لمن غسل ميتاً أن يغتسل لما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من غسل ميتاً فليغتسل1" ولا يجب ذلك وقال في البويطي: إن صح الحديث قلت بوجوبه والأول أصح لأن الميت طاهر ومن غسل طاهراً لم يلزمه بغسله طهارة كالجنب وهل هو آكد أو غسل الجمعة؟ فيه قولان: قال في القديم: غسل الجمعة آكد لأن الأخبار فيه أصح وقال في الجديد: الغسل من غسل الميت آكد وهو الأصح لأن غسل الجمعة غير واجب والغسل من غسل الميت متردد بين الوجوب وغيره ويستحب للغاسل إذا رأى من الميت ما يعجبه أن يتحدث به وإن رأى ما يكره لم يجز أن يتحدث به لما روى أبو رافع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من غسل ميتاً فكتم عليه غفر الله له أربعين مرة.
__________
1 رواه أبو داود في كتاب الجنائز باب 35. ابن ماجه في كتاب الجنائز باب 8. أحمد في مسنده "2/280، 454".

(1/241)


باب الكفن
تكفين الميت فرض على الكفاية لقوله صلى الله عليه وسلم في المحرم الذي خر من بعيره "كفنوه في ثوبيه اللذين مات فيهما" ويجب ذلك في ماله للخير ويقدم على الدين كما تقدم كسوة المفلس على ديون غرمائه فإن قال بعض الورثة أنا أكفنه من مالي وقال بعضهم بل يكفن

(1/241)


من التركة كفن من التركة لأن في تكفين بعض الورثة من ماله منة على الباقين فلا يلزم قبولها وإن كانت امرأة لها زوج ففيه وجهان: قال أبو إسحاق: يجب على الزوج لأنه من لزمه كسوتها في حال الحياة لزمه كفنها بعد الوفاة كالأمة مع السيد وقال أبو علي بن أبي هريرة: يجب في مالها لأنها بالموت صارت أجنبية منه فلم يلزمه كفنها والأول أصح لأن هذا يبطل بالأمة فإنها صارت بالموت أجنبية من مولاها ثم يجب عليه تكفينها فإن لم يكن لها مال ولا زوج فالكفن على من يلزمه نفقتها اعتباراً بالكسوة في حال الحياة.
فصل: وأقل ما يجزيء ما يستر العورة كالحي ومن أصحابنا من قال أقله ثوب يعم البدن لأن ما دونه لا يسمى كفناً والأول أصح والمستحب أن يكفن الرجل في ثلاثة أثواب إزار ولفافتين لما روت عائشة رضي الله عنها قالت: كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاث أثواب بيض سحولية ليس فيها قميص ولا عمامة فإن كفن في خمسة أثواب لم يكره لأن ابن عمر رضي الله عنه كان يكفن أهله في خمسة أثواب فيها قميص وعمامة ولأن أكمل ثياب الحي خمسة: قميصان وسراويل وعمامة ورداء وتكره الزيادة على ذلك لأنه سرف وإن قال بعض الورثة يكفن بثوب وقال بعضهم يكفن بثلاثة ففيه وجهان: أحدهما يكفن بثوب لأنه يعم ويستر والثاني يكفن بثلاثة أثواب لأنه هو الكفن المعروف المسنون والأفضل أن لا يكون فيه قميص ولا عمامة لحديث عائشة رضي الله عنها فإن جعل فيها قميص وعمامة جعل ذلك تحت الثياب لأن إظهاره زينة وليس الحال حال زينة والمستحب أن يكون الكفن أبيض لحديث عائشة رضي الله عنها والمستحب أن يكون حسناً لما روى جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا كفن أحدكم أخاه فليحسن كفنه1" ويكره المغالاة في الكفن لما روى علي كرم الله وجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا
__________
1 رواه أحمد في مسنده "3/381".

(1/242)


تغالوا في الكفن فإنه يسلب سلباً سريعاً1" والمستحب أن يبخر الكفن ثلاثاً لما روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إذا جمرتم الميت فجمروه ثلاثاً".
فصل: والمستحب أن يبسط أحسنها وأوسعها ثم الثاني ثم الذي يلي الميت إعتباراً بالحي فإنه يجعل أحسن ثيابه وأوسعها فوق الثياب وكلما فرش ثوباً نثر فيه الحنوط ثم يحمل الميت إلى الأكفان مستوراً ويترك على الكفن مستلقياً على ظهره ويؤخذ قطن منزوع الحب فيجعل فيه الحنوط والكافور ويجعل بين أليتيه ويشد عليه كما يشد التبان ويستحب أن يؤخذ القطن ويجعل عليه الحنوط والكافور ويترك على الفم والمنخرين والعينين والأذنين وعلى خراج نافذ إن كان عليه ليخفي ما يظهر من رائحته ويجعل الحنوط والكافور على قطن ويترك على مواضع السجود لما روي عن عبد الله بن مسعود أنه قال: يتتبع بالطيب مساجده ولأن هذه المواضع شرفت بالسجود فخصت بالطيب قال: وأحب أن يطيب جميع بدنه بالكافور لأن ذلك يقوي البدن ويشده ويستحب أن يحنط رأسه ولحيته بالكافور كما يفعل الحي إذا تطيب قال في البويطي: فإن حنط بالمسك فلا بأس لما روى أبو سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المسك من أطيب الطيب2" وهل يجب الحنوط والكافور أم لا؟ فيه قولان وقيل فيه وجهان: أحدهما يجب لأنه جرت به العادة في الميت فكان واجباً كالكفن والثاني أنه لا يجب كما لا يجب الطيب في حق المفلس وإن وجبت الكسوة.
__________
1 رواه أبو داود في كتاب الجنائز باب 31.
2 رواه مسلم في كتاب الألفاظ حديث 18، 19. أبو داود في كتاب الجنائز باب 33. الترمذي في كتاب الجنائز باب 6. أحمد في مسنده "3/31،47".

(1/243)


فصل: ثم يلف في الكفن ويجعل ما يلي الرأس أكثر كالحي ما على رأسه أكثر قال الشافعي رحمه الله: وتثنى صنفة الثوب التي تلي الميت فيبدأ بالأيسر على الأيمن وبالأيمن على الأيسر وقال في موضع: يبدأ بالأيمن على الأيسر ثم بالأيسر على الأيمن فمن أصحابنا من جعلها على قولين: أحدهما يبدأ بالأيسر على الأيمن والثاني يبدأ بالأيمن على الأيسر ومنهم من قال هي على قول واحد أنه تثنى صنفة الثوب الأيسر على جانبه الأيمن وصنفة الثوب الأيمن على جانبه الأيسر كما يفعل الحي بالساج وهو الطيلسان وهذا هو الأصح لأن في الطيلسان ما على الجانب الأيسر هو الظاهر ثم يفعل ذلك في بقية الأكفان وما يفضل من عند الرأس يثنى على وجهه وصدره فإن احتيج إلى شد الأكفان شدت ثم تحل عند الدفن لأنه يكره أن يكون معه في القبر شيء معقود فإن لم يكن له إلا ثوب قصير لا يعم البدن غطى رأسه وترك الرجل لما روي أن مصعب بن عمير قتل يوم أحد ولم يكن له إلا نمرة فكان إذا غطى بها رأسه بدت رجلاه وإن غطى بها رجلاه بدا رأسه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "غطوا بها رأسه واجعلوا على رجليه شيئاً من الإذخر".
فصل: وأما المرأة فإنها يكفن بخمسة أثواب: إزار وخمار وثلاثة أثواب وهل يكون أحد الثلاثة درعاً؟ فيه قولان: أحدهما أن أحدها درع لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم ناول أم عطية في كفن ابنته أم كلثوم إزار ودرعاً وخماراً وثوبين ملاء والثاني أنه لا يكون فيه درع لأن القميص إنما تحتاج إليه المرأة لتستتر به في تصرفها والميت لا يتصرف فإن قلنا لا درع فيها أزرت بإزار وتخمر بخمار وتدرج في ثلاثة أثواب فإذا قلنا يكون فيها درع أزرت بإزار وتلبس الدرع وتخمر بخمار وتدرج في ثوبين قال الشافعي رحمه الله: ويشد على صدرها ثوب ليضم ثيابها فلا تنتشر وهل يحل عنها الثوب عند الدفن أم لا؟ فيه وجهان: قال أبو العباس: يدفن معها وعليه يدل كلام الشافعي فإنه ذكر أنه يشد ولم يذكر أنه يحل وقال أبو إسحاق: ينحى عنها في القبر وهو الأصح لأنه ليس من جملة الكفن.

(1/244)


فصل: إذا مات محرم لم يقرب الطيب ولم يلبس المخيط ولم يخمر رأسه لما روى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في المحرم الذي خر من بعيره إغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبيه اللذين مات فيهما ولا تقربوه طيباً فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً وإن ماتت معتدة عن وفاة ففيه وجهان: أحدهما لا تقرب الطيب لأنها ماتت والطيب محرم عليها فلم يسقط تحريمه بالموت كالمحرمة والثاني تقرب الطيب لأن الطيب حرم عليها في العدة حتى لا يدعو ذلك إلى نكاحها وقد زال ذلك بالموت.

(1/245)


باب الصلاة على الميت
الصلاة على الميت فرض كفاية لقوله صلى الله عليه وسلم: "صلوا خلف من قال لا إله إلا الله وعلى من قال لا إله إلا الله" وفي أدنى ما يكفي قولان: أحدهما ثلاثة لأن قوله صلوا خطاب جمع وأقل الجمع ثلاثة والثاني يكفي أن يصلي عليه واحد لأنها صلاة ليس من شرطها الجماعة فلم يكن من شرطها العدد كسائر الصلوات ويجوز فعلها في جميع الأوقات لأنها صلاة لها سبب فجاز فعلها في كل وقت ويجوز فعلها في المسجد وغيره لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على سهيل بن بيضاء في المسجد والسنة أن يصلي في جماعة لما روى مالك بن هبيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من مسلم يموت فيصلي عليه ثلاثة صفوف من المسلمين إلا وجبت1" وتجوز فرادى لأن النبي صلى الله عليه وسلم مات فصلى الناس فوجاً فوجاً وإن اجتمع نسوة لا رجل معهن صلين عليه فرادى لأن النساء لا يسن لهن الجماعة في الصلاة على الميت فإن صلين جماعة فلا بأس.
فصل: ويكره نعي الميت للناس والنداء عليه للصلاة لما روي عن حذيفة أنه قال: إذا مت فلا تؤذنوا بي أحداً فإني أخاف أن يكون نعياً وقال عبد الله: الإيذان بالميت نعي الجاهلية.
فصل: وأولى الناس بالصلاة عليه الأب ثم الجد ثم الابن ثم ابن الابن ثم الأخ
__________
1 رواه أبو داود في كتاب الجنائز باب 39.

(1/245)


ثم ابن الأخ ثم العم ثم ابن العم على ترتيب العصبات لأن القصد من الصلاة على الميت الدعاء للميت ودعاء هؤلاء أرجى للإجابة فإنهم أفجع بالميت من غيرهم فكانوا بالتقديم أحق وإن اجتمع أخ من أب وأم وأخ من أب فالمنصوص أن الأخ من الأب والأم أولى ومن أصحابنا من قال فيه قولان: أحدهما هذا والثاني أنهما سواء لأن الأم لا مدخل لها في التقديم في الصلاة على الميت فكان في الترجيح بها قولان كما نقول في ولاية النكاح ومنهم من قال الأخ من الأب والأم أولى قولاً واحداً لأن الأم وإن لم يكن لها مدخل في التقديم إلا أن لها مدخلاً في الصلاة على الميت فرجح بها قولاً واحداً كما نقول في الميراث يقدم بها الأخ من الأب والأم على الأخ من الأب حين كان لها مدخل في الميراث وإن لم يكن لها مدخل في التعصيب قال الشافعي رحمه الله: وإن اجتمع وليان في درجة قدم الأسن لأن دعاءه أرجى إجابة فإن لم يوجد الأسن قدم الأقرأ الأفقه لأنه أفضل وصلاته أكمل فإن استويا أقرع بينهما لأنهما تساويا في التقديم فأقرع بينهما وإن اجتمع حر وعبد وهو أقرب إليه من الحر فالحر أولى لأن الحر من أهل الولاية والعبد ليس من أهل الولاية وإن اجتمع الوالي والولي المناسب ففيه قولان: قال في القديم: الوالي أولى لقوله صلى الله عليه وسلم "لا يؤم الرجل في سلطانه" وقال في الجديد: الولي أولى لأنها ولاية ترتيب فيها العصبات فقدم على الوالي كولاية النكاح.
فصل: ومن شرط صحة صلاة الجنازة الطهارة وستر العورة لأنها صلاة فشرط فيها الطهارة وستر العورة كسائر الصلوات ومن شرطها القيام واستقبال القبلة لأنها صلاة مفروضة فوجب فيها القيام واستقبال القبلة مع القدرة كسائر الفرائض والسنة أن يقف الإمام فيها عند رأس الرجل وعند عجيزة المرأة وقال أبو علي الطبري السنة أن يقف عند صدر الرجل وعند عجيزة المرأة والمذهب الأول لما روي أن أنساً صلى على رجل فقام عند رأسه وعلى امرأة فقام عند عجيزتها فقال له العلاء بن زياد هكذا كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم على المرأة عند عجيزتها وعلى الرجل عند رأسه؟ قال: نعم فإن اجتمع جنائز قدم إلى الإمام أفضلهم فإن كان رجل وصبي وامرأة وخنثى قدم الرجل إلى الأمام

(1/246)


ثم الصبي ثم الخنثى المشكل ثم المرأة لما روي عن ابن عمر رضي الله عنه أنه صلى على تسع جنائز رجال ونساء فجعل الرجال مما يلي الإمام والنساء مما يلي القبلة وروى عمار بن أبي عمار أن زيد بن عمر بن الخطاب وأمه أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب رضي الله عنهما ماتا فصلى عليهما سعيد بن العاص فجعل زيداً مما يليه وأمه مما يلي القبلة وفي القوم الحسن والحسين وأبو هريرة وابن عمر ونحو ثمانين من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم أجمعين والأفضل أن يفرد كل واحد بصلاة فإن صلى عليهم صلاة واحدة جاز لأن القصد من الصلاة عليهم الدعاء لهم وذلك يحصل بالجمع في صلاة واحدة
فصل: إذا أراد الصلاة نوى الصلاة على الميت وذلك فرض لأنها صلاة فوجب لها النية كسائر الصلوات ثم يكبر أربعاً لما روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم كبر على الميت أربعاً وقرأ بعد التكبيرة الأولى بأم القرآن والتكبيرات الأربع واجبة والدليل عليه أنها إذا فاتت وجب قضاؤها ولو لم تكن واجبة لم يجب قضاؤها كتكبيرات العيد والسنة أن يرفع يديه مع كل تكبيرة لما روي أن عمر رضي الله عنه كان يرفع يديه على الجنازة في كل تكبيرة وعن عبد الله بن عمر والحسن بن علي رضي الله عنهم مثله وعن زيد ابن ثابت وقد رأى رجلاً فعل ذلك فقال أصاب السنة ولأنها تكبيرة لا يتصل طرفها بسجود ولا قعود فيسن لها رفع اليدين كتكبيرة الإحرام في سائر الصلوات.
فصل: ويقرأ بعد التكبيرة الأولى بفاتحة الكتاب لما روى جابر وهي فرض من فروضها لأنها صلاة يجب فيها القيام فوجب فيها القراءة كسائر الصلوات وفي قراءة السورة وجهان: أحدهما يقرأ سورة قصيرة لأن كل صلاة قرأ فيها الفاتحة قرأ فيها السورة كسائر الصلوات والثاني أنه لا يقرأ لأنها مبنية على الحذف والاختصار والسنة في قراءتها الإسرار لما روي أن ابن عباس صلى بهم على جنازة فكبر ثم قرأ بأم القرآن فجهر بها ثم صلى على النبي صلى الله عليه وسلم فلما انصرف قال: إنما جهرت بها لتعلموا أنها هكذا ولا فرق بين أن يصلي بالليل أو النهار وقال أبو القاسم الداركي: إن كانت الصلاة بالليل جهر فيها بالقراءة لأن لها نظيراً بالنهار يسر فيها فجهر فيها كالعشاء وهذا لا يصح لأن صلاة العشاء صلاة راتبة في وقت من الليل ولها نظير راتب في وقت من النهار يسن في نظيرها الإسرار فيسن فيها الجهر وصلاة الجنازة صلاة واحدة ليس لها وقت تختص به من ليل أو نهار بل يفعل ذلك في الوقت الذي يوجد فيه سببها وسنتها الإسرار فلم يختلف فيها الليل والنهار وفي دعاء التوجه والتعوذ عند القراءة في هذه التكبيرة وجهان: قال عامة أصحابنا: لا يأتي به لأنها مبنية على الحذف والاختصار فلا تحتمل التطويل

(1/247)


والإكثار وقال شيخنا القاضي أبو الطيب رحمه الله: يأتي به لأن التوجه يراد لافتتاح الصلاة والتعوذ يراد للقراءة وفي هذه الصلاة وافتتاح وقراءة فوجب أن يأتي بذكرهما.
فصل: ويصلى على النبي صلى الله عليه وسلم في التكبيرة الثانية لما ذكرناه من حديث ابن عباس وهو فرض من فروضها لأنها صلاة فوجب فيها الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم كسائر الصلوات.
فصل: ويدعو للميت في التكبيرة الثانية لما روى أبو قتادة قال: صلى صلى الله عليه وسلم على جنازة فسمعته يقول: "اللهم اغفر لحينا وميتنا وشاهدنا وغائبنا وصغيرنا وكبيرنا وذكرنا وأنثانا" وفي بعضها "اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام ومن توفيته منا فتوفه على الإسلام والإيمان" وهو فرض من فروضها لأن القصد من هذه الصلاة الدعاء للميت فلا يجوز الإخلاف بالمقصود وأدنى الدعاء ما يقع عليه الاسم والسنة أن يقول ما رواه أبو قتادة وذكره الشافعي رحمه الله قال: يقول اللهم هذا عبدك وابن عبديك خرج من روح الدنيا وسعتها ومحبوبه وأحباؤه فيها إلى ظلمة القبر وما هو لاقيه كان يشهد أن لا إله إلا أنت وأن محمداً عبدك ورسولك وأنت أعلم به أللهم إنه نزل بك وأنت خير منزول به وأصبح فقيراً إلى رحمتك وأنت غني عن عذابه وقد جئناك راغبين إليك شفعاء له أللهم إن كان محسناً فزد في إحسانه وإن كان مسيئاً فتجاوز عنه ولقه برحمتك الأمن من عذابك حتى تبعثه إلى جنتك يا أرحم الراحمين وبأي شيء دعا جاز لأنه قد نقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أدعية مختلفة فدل على أن الجميع جائز.
فصل: قال في الأم: يكبر في الرابعة ويسلم وقال في البويطي يقول: اللهم لا تحرمنا أجره ولا تفتنا بعده والتسليم كالتسليم في سائر الصلوات لما روي عن عبد الله أنه قال: ثلاث خلال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعلهن وتركهن الناس: إحداهن التسليم على الجنازة مثل التسليم في الصلاة والتسليم واجب لأنها صلاة يجب لها الإحرام فوجب الخروج منها بالسلام كسائر الصلوات وهل يسلم تسليمة أو تسليمتين على ما ذكرناه في سائر الصلوات.

(1/248)


فصل: إذا أدرك الإمام وقد سبقه ببعض الصلاة كبر ودخل في الصلاة لقوله صلى الله عليه وسلم: "ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فاقضوا1" ويقرأ ما يقتضيه ترتيب صلاته لا ما يقرؤه الإمام لأنه يمكنه أن يأتي بما يقتضيه ترتيب الصلاة مع المتابعة فإذا سلم الإمام أتى بما بقي من التكبيرات نسقاً من غير دعاء في أحد القولين لأن الجنازة ترفع قبل أن يفرغ فلا معنى للدعاء بعد غيبة الميت ويدعو للميت ثم يكبر ويسلم في القول الثاني لأن غيبة الميت لا تمنع من فعل الصلاة.
فصل: إذا صلى على الميت بودر إلى دفنه ولا ينتظر حضور من يصلي عليه إلا الولي فإنه ينتظر إذا لم يخش على الميت التغير فإن خيف عليه التغير لم ينتظر وإن حضر من لم يصل عليه صلى عليه وإن حضر من صلى مرة فهل يعيد الصلاة مع من يصلي؟ فيه وجهان: أحدهما يستحب كما يستحب في سائر الصلوات أن يعيدها مع من يصلي جماعة والثاني وهو الصحيح أنه لا يعيد لأنه يصليها نافلة وصلاة الجنازة لا يتنفل بمثلها وإن حضر من لم يصل بعد الدفن صلى على القبر لما روي أن مسكينة ماتت ليلاً فدفنوها ولم يوقظوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على قبرها من الغد وإلى أي وقت تجوز الصلاة على القبر؟ فيه أربعة أوجه: أحدها يصلي عليه إلى شهر لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على أم سعد بن عبادة بعدما دفنت بشهر والثاني يصلي عليه ما لم يبل لأنه إذا بلي لم يبق ما يصلي عليه والثالث يصلي عليه من كان من أهل الفرض عند موته لأنه كان من أهل الخطاب بالصلاة عليه وأما من ولد بعده أو بلغ بعد موته فلا يصلي عليه لأنه لم يكن من أهل الخطاب بالصلاة عليه والرابع أنه يصلي عليه أبداً لأن القصد من الصلاة على الميت الدعاء والدعاء يجوز في كل وقت.
فصل: وتجوز الصلاة على الميت الغائب لما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم نعى النجاشي لأصحابه وهو بالمدينة فصلى عليه وصلوا خلفه وإن كان الميت معه في البلد لم يجز أن يصلي عليه حتى يحضر عنده لأنه يمكنه الحضور من غير مشقة.
فصل: وإن وجد بعض الميت غسل وصلي عليه لأن عمر رضي الله عنه صلى على عظام بالشام وصلى أبو عبيدة على رؤوس وصلت الصحابة رضي الله عنهم على يد عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد ألقاها طائر بمكة من وقعة الجمل.
__________
1 رواه البخاري في كتاب الأذان باب 20،21. الترمذي في كتاب الصلاة باب 127. النسائي في كتاب الإمامة باب 57. الدارمي في كتاب الصلاة باب 59. الموطأ في كتاب النداء حديث4.

(1/249)


فصل: إذا استهل السقط أو تحرك ثم مات غسل وصلي عليه لما روى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا استهل السقط غسل وصلي عليه وورث1" ولأنه قد ثبت له حكم الدنيا في الإسلام والميراث والدية فغسل وصلى عليه كغيره وإن لم يستهل ولم يتحرك فإن لم يكن له أربعة أشهر كفن بخرقة ودفن وإن تم له أربعة أشهر ففيه قولان: قال في القديم: يصلى عليه لأنه نفخ فيه الروح فصار كمن استهل وقال في الأم: لا يصلى عليه وهو الأصح لأنه لم يثبت له حكم الدنيا في الإرث وغيره فلم يصل عليه فإن قلنا يصلى عليه غسل كغير السقط وإن قلنا لا يصلى عليه ففي غسله قولان: قال في البويطي: لا يغسل لأنه لا يصلى عليه فلا يغسل كالشهيد وقال في الأم: يغسل لأن الغسل قد ينفرد عن الصلاة كما نقول في الكافر.
فصل: وإن مات كافر لم يصل عليه لقوله عز وجل {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة:84] ولأن الصلاة لطلب المغفرة والكافر لا يغفر له فلا معنى للصلاة عليه ويجوز غسله وتكفينه لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر علياً عليه السلام أن يغسل أباه وأعطى قميصه ليكفن به عبد الله بن أبي سلول وإن اختلط المسلمون بالكفار ولم يتميزوا صلوا على المسلمين بالنية ولأن الصلاة تنصرف إلى الميت بالنية والاختلاط لا يؤثر في النية.
فصل: ومن مات من المسلمين في جهاد الكفار بسبب من أسباب قتالهم قبل انقضاء الحرب فهو شهيد لا يغسل ولا يصلى عليه لما روى جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر في قتلى أحد بدفنهم بدمائهم ولم يصل عليهم ولم يغسلوا وإن جرح في الحرب ومات بعد انقضاء الحرب غسل وصلي عليه لأنه مات بعد انقضاء الحرب ومن قتل في الحرب وهو جنب ففيه وجهان: قال أبو العباس بن سريج وأبو علي بن أبي هريرة: يغسل لما روي أن حنظلة بن الراهب قتل فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما شأن حنظلة فإني رأيت الملائكة تغسله" فقالوا: جامع فسمع الهيعة فخرج إلى القتال فلو لم يجب غسله لما غسلته الملائكة.
__________
1 رواه ابن ماجه في كتاب الجنائز باب 26. الدارمي في كتاب الفرائض باب 47.

(1/250)


وقال أكثر أصحابنا: لا يغسل لأنه طهارة عن حدث فسقط حكمها بالشهادة كغسل الميت ومن قتل من أهل البغي في قتال أهل العدل غسل وصلي عليه لأنه مسلم قتل بحق فلم يسقط غسله والصلاة عليه كمن قتل في الزنا والقصاص ومن قتل من أهل العدل في حرب أهل البغي ففيه قولان: أحدهما يغسل ويصلي عليه لأنه مسلم قتل في غير حرب الكفار فهو كمن قتله اللصوص والثاني أنه لا يغسل ولا يصلى عليه لأنه قتل في حرب هو فيه على الحق وقاتله على الباطل فأشبه المقتول في معركة الكفار ومن قتله قطاع الطريق من أهل القافلة ففيه وجهان: أحدهما أنه يغسل ويصلى عليه والثاني لا يغسل ولا يصلى عليه لما ذكرناه في أهل العدل.

(1/251)


باب حمل الجنازة والدفن
يجوز حمل الجنازة بين العمودين وهو أن يجعل الحامل رأسه بين عمودي مقدمة النعش ويجعلها على كاهله ويجوز الحمل من الجوانب الأربعة فيبدأ بياسرة المقدمة فيضع العمود على عاتقه الأيمن ثم يجيء إلى ياسرة المؤخرة فيضع العمود على عاتقه الأيسر ثم يجيء إلى يامنة المؤخرة فيضع العمود على عاتقه الأيسر والحمل بين العمودين أفضل لأن النبي صلى الله عليه وسلم حمل جنازة سعد بن معاذ بين العمودين ولأنه روي ذلك عن عثمان وسعد بن أبي

(1/251)


وقاص وأبي هريرة وابن الزبير رضي الله عنهم ويستحب الإسراع بالجنازة لما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أسرعوا بالجنازة فإن تكن صالحة فخيراً تقدمونها إليه وإن تكن سوى ذلك فشراً تضعون عن رقابكم1" ولا يبلغ به الخبب لما روى عبد الله بن مسعود قال: سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن السير بالجنازة فقال: "دون الخبب فإن يكن خيراً يعجل إليه وإن يكن شراً فبعداً لأصحاب النار" وإجابة الداعي ونصر المظلوم والمستحب أن لا ينصرف من يتبع الجنازة حتى تدفن لما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من تبع جنازة فصلى عليها فله قيراط وإن شهد دفنها فله قيراطان2" القيراط أعظم من أحد والسنة أن لا يركب لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما ركب في عيد ولا جنازة فإن ركب في الانصراف لم يكن به بأس لما روى جابر بن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على جنازة فلما انصرف أتى بفرس معرور فركبه والسنة أن يمشي أمام الجنازة لما روى ابن عمر رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي بين يديها وأبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم ولأنه شفيع للميت والشفيع يتقدم على المشفوع له والمستحب أن يمشي أمامها قريباً منها لأنه إذا بعد لم يكن معها وإن سبق إلى المقبرة فهو بالخيار إن شاء قام حتى توضع الجنازة وإن شاء قعد لما روى علي كرم الله وجهه قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الجنازة حتى وضعت وقام الناس معه ثم قعد بعد ذلك وأمرهم بالقعود ولا يكره للمسلم اتباع جنازة أقاربه من
__________
1رواه البخاري في كتاب الجنائز باب 51. مسلم في كتاب الجنائز حديث 50، 51. أبو داود في كتاب الجنائز باب 46. الموطأ في كتاب الجنائز حديث 58. أحمد في مسنده "2/ 240، 280".
2 رواه البخاري في كتاب الجنائز باب 59. مسلم في كتاب الجنائز حديث 52. النسائي في كتاب الجنائز باب 79. أحمد في مسنده "2/3، 401".

(1/252)


الكفار لما روي عن علي كرم الله وجهه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت إن عمك الضال قد مات فقال: "اذهب فواره" ولا تتبع الجنازة بنار ولا نائحة لما روى عمرو بن العاص أنه قال: إذا أنا مت فلا تصحبني نائحة ولا نار وعن أبي موسى أنه أوصى لا تتبعوني بصارخة ولا بمجمرة ولا تجعلوا بيني وبين الأرض شيئاً.
فصل: دفن الميت فرض على الكفاية لأن في تركه على وجه الأرض هتكاً لحرمته ويتأذى الناس برائحته والدفن في المقبرة أفضل لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدفن الموتى بالبقيع ولأنه يكثر الدعاء له ممن يزوره ويجوز الدفن في البيت لأن النبي صلى الله عليه وسلم دفن في حجرة عائشة رضي الله عنها فإن قال بعض الورثة يدفن في المقبرة وقال بعضهم يدفن في البيت دفن في المقبرة لأن له حقاً في البيت فلا يجوز إسقاطه ويستحب أن يدفن في أفضل مقبرة لأن عمر رضي الله عنه استأذن عائشة رضي الله عنها أن يدفن مع صاحبيه ويستحب أن تجمع الأقارب في موضع واحد لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم ترك عند رأس عثمان بن مظعون صخرة وقال أعلم بها على قبر أخي لأدفن إليه من مات وإن تشاح اثنان في مقبرة مسبلة قدم السابق منهما لقوله صلى الله عليه وسلم: "مني مناخ من سبق" فإن استويا في السبق أقرع بينهما ولا يدفن ميت في موضع فيه ميت إلا أنه يعلم أنه قد بلي ولم يبقى منه شيء ويرجع فيه إلى أهل الخبرة بتلك الأرض ولا يدفن في قبر واحد اثنان لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدفن في كل قبر إلا واحداً فإن دعت إلى ذلك ضرورة جاز لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجمع الاثنين من قتلى أحد في قبر واحد ثم يقول أيهما كان أخذاً للقرآن فإذا أشير إلى أحدهما قدمه إلى اللحد وإن دعت الضرورة لأن يدفن مع الرجل امرأة جعل

(1/253)


بينهما حائل من التراب وجعل الرجل أمامها اعتباراً بحال الحياة ولا يدفن كافر بمقابر المسلمين ولا مسلم في مقبرة الكفار ومن مات في البحر ولم يكن بقرب ساحل فالأولى أن يجعل بين لوحين ويلقى في البحر لأنه ربما وقع إلى ساحل فيدفن وإن كان أهل الساحل كفاراً ألقي في البحر.
فصل: والمستحب أن يعمق القبر قدر قامة وبسطة لما روي أن عمر رضي الله عنه أوصى أن يعمق القبر قدر قامة وبسطة ويستحب أن يوسع من قبل رجليه ورأسه لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للحافر "أوسع من قبل رجليه وأوسع من قبل رأسه" فإن كانت الأرض صلبة ألحد لقوله صلى الله عنه وسلم "اللحد لنا والشق لغيرنا1" وإن كانت رخوة شق الوسط.
فصل: والأولى أن يتولى الدفن الرجال لأنه يحتاج إلى بطش وقوة فكان الرجال أحق وأولاهم بذلك أولاهم بالصلاة عليه لأنهم أرفق به وإن كانت امرأة فزوجها أحق بدفنها لأنه أحق بغسلها فإن لم يكن لها زوج فالأب ثم الجد ثم الابن ثم ابن الابن ثم الأخ ثم ابن الأخ ثم العم فإن لم يكن لها ذو رحم محرم ولها مملوك كان المملوك أولى من ابن العم لأنه كالمحرم والخصي أولى من الفحل فإن لم يكن مملوك فابن العم ثم أهل الدين من المسلمين والمستحب أن يكون عدد الذي يدفن وتراً لأن النبي صلى الله عليه وسلم دفنه علي والعباس وأسامة رضي الله عنهم والمستحب أن يسجى القبر بثوب عند الدفن لأن النبي صلى الله عليه وسلم ستر قبر سعد بن معاذ بثوب لما دفنه.
فصل: ويستحب أن يضع رأس الميت عند رجل القبر ثم يسل فيه سلاً لما روى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سل من قبل رأسه سلاً ولأن ذلك أسهل
__________
1 رواه أبو داود في كتاب الجنائز باب 61. الترمذي في كتاب الجنائز باب 53. النسائي في كتاب الجنائز باب 85. في مسنده "4/357، 359، 363".

(1/254)


ويستحب أن يقول عند إدخاله القبر بسم الله وعلى ملة رسول الله لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوله إذا أدخل الميت القبر والمستحب أن يضجع في القبر على جنبه الأيمن لقوله صلى الله عليه وسلم "إذا نام أحدكم فليتوسد يمينه1" ولأنه يستقبل القبلة فكان أولى ويوسد رأسه بلبنة أو حجر كالحي إذا نام ويجعل خلفه شيء يسنده من لبن أو غيره حتى لا يستلقي على قفاه ويكره أن يجعل تحته مضربة أو مخدة أو في تابوت لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: إذا أنزلتموني في اللحد فافضوا بخدي إلى الأرض وعن أبي موسى: لا تجعلوا بيني وبين الأرض شيئاً وينصب اللبن على اللحد نصباً لما روي عن سعد بن أبي وقاص قال: اصنعوا بي كما صنعتم برسول الله صلى الله عليه وسلم إنصبوا علي اللبن وأهيلوا علي التراب ويستحب لمن على شفير القبر أن يحثو في القبر ثلاث حثيات من التراب لأن النبي صلى الله عليه وسلم حثى في قبر ثلاث حثيات من التراب ويستحب أن يمكث على القبر بعد الدفن لما روى عثمان رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الميت يقف عليه وقال "استغفروا لأخيكم واسألوا الله له التثبيت فإنه الآن يسأل".
__________
1 رواه أحمد في مسنده "2/432".

(1/255)


فصل: ولا يزاد في التراب الذي أخرج من القبر فإن زادوا فلا بأس ويشخص القبر من الأرض قدر شبر لما روى القاسم بن محمد قال: دخلت على عائشة رضي الله عنها فقلت: اكشفي لي عن قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه فكشفت لي عن ثلاثة قبور لا مشرفة ولا واطئة ويسطح القبر ويوضع عليه الحصى لأن النبي صلى الله عليه وسلم سطح قبر ابنه إبراهيم عليه السلام ووضع عليه حصى من حصى العرصة وقال أبو علي الطبري: الأولى في زماننا أن يسنم لأن التسطيح من شعار الرافضة وهذا لا يصح لأن السنة قد صحت فيه فلا يعتبر بموافقة الرافضة ويرش عليه الماء لما روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم رش على قبر ابنه إبراهيم عليه السلام ولأنه إذا لم يرش عليه الماء زال أثره فلا يعرف ويستحب أن يجعل عند رأسه علامة من حجر أو غيره لأن النبي صلى الله عليه وسلم دفن عثمان بن مظعون ووضع عند رأسه حجراً ولأنه يعرف به فيزار ويكره أن يجصص القبر وأن يبنى عليه أو يعقد أو يكتب عليه لما روى جابر قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر وأن يبنى عليه أو يعقد وأن يكتب عليه ولأن ذلك من الزينة.
فصل: إذا دفن الميت قبل الصلاة صلي على القبر لأن الصلاة تصل إليه في القبر وإن دفن من غير غسل أو إلى غير القبلة ولم يخش عليه الفساد في نبشه نبش وغسل ووجه إلى القبلة لأنه واجب مقدور على فعله فوجب فعله وإن خشى عليه الفساد لم ينبش لأنه تعذر فعله فسقط كما يسقط وضوء الحي وإستقبال القبلة في الصلاة إذا تعذر فإن وقع في القبر مال لآدمي وطالب به صاحبه نبش القبر لما روي أن المغيرة بن شعبة طرح خاتمه في قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال خاتمي ففتح موضعاً فيه فأخذه وكان يقول أنا أقربكم عهداً برسول الله ولأنه يمكن رد المال إلى صاحبه من غير ضرورة فوجب

(1/256)


رده عليه وإن بلع الميت جوهرة لغيره ومات وطالب صاحبها شق جوفه وردت الجوهرة وإن كانت الجوهرة له ففيه وجهان: أحدهما يشق لأنها صارت للورثة فهي كجوهرة الأجنبي والثاني لا يجب لأنه استهلكها في حياته فلم يتعلق بها حق الورثة وإن ماتت امرأة وفي جوفها جنين حي شق جوفها لأنه استبقاء حي بإتلاف جزء من الميت فأشبه إذا اضطر إلى أكل جزء من الميت.

(1/257)


باب التعزية والبكاء على الميت
تعزية أهل الميت سنة لما روى ابن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من عزى مصاباً فله مثل أجره1" ويستحب أن يعزي بتعزية الخضر عليه السلام أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: إن في الله سبحانه عزاء من كل مصيبة وخلفاً من كل هالك ودركاً من كل فائت فبالله فثقوا وإياه فارجوا فإن المصاب من حرم الثواب ويستحب أن يدعو له وللميت فيقول: أعظم الله أجرك وأحسن عزاءك وإن عزى كافراً بمسلم قال: أحسن الله عزاءك وغفر لميتك وإن عزى كافراً بكافر قال أخلف الله عليك ولا نقص عددك.
__________
1 رواه ابن ماجه في كتاب الجنائز باب 56. أحمد في مسنده "1/432".

(1/257)


فصل: ويكره الجلوس للتعزية لأن ذلك محدث والمحدث بدعة.
فصل: ويجوز البكاء على الميت من غير ندب ولا نياحة لما روى جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يا إبراهيم إنا لا نغني عنك من الله شيئاً ثم ذرفت عيناه فقال له عبد الرحمن بن عوف: يا رسول الله أتبكي أولم تنه عن البكاء قال: لا ولكن نهيت عن النوح" ولا يجوز لطم الخدود وشق الجيوب لما روى عبد الله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس منا من لطم الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية1" ويستحب زيارة القبور لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: زار رسول الله صلى الله عليه وسلم قبر أمه فبكى وأبكى من حوله ثم قال: "إني استأذنت ربي عز وجل أن أستغفر لها فلم يأذن لي واستأذنت في أن أزور قبرها فأذن لي فزوروا القبور فإنها تذكركم الموت2" والمستحب أن يقول السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون ويدعو لهم لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخرج إلى البقيع فيقول: "السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد" ولا يجوز للنساء زيارة القبور لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لعن الله زوارات القبور3"
__________
1رواه البخاري في كتاب الجنائز باب 56 الترمذي في كتاب الجنائز باب 71.
2 رواه الترمذي في كتاب الجنائز باب 60. أبو داود في كتاب الجنائز باب 7، ابن ماجه في كتاب الجنائز باب 47. أحمد في مسنده "1/145".
3 رواه الترمذي في كتاب الجنائز باب 61. ابن ماجه في كتاب الجنائز باب 49. أحمد في مسنده "2/337، 356".

(1/258)


فصل: ولا يجوز الجلوس على القبر لما روى أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لأن يجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه حتى تخلص إلى جلده خير له من أن يجلس على قبر1" ولا يدوسه من غير حاجة لأن الدوس كالجلوس فإذا لم يجز الجلوس لم يجز الدوس وإن لم يكن له طريق إلى قبر من يزوره إلا بالدوس جاز له لأنه موضع عذر ويكره المبيت في المقبرة لما فيه من الوحشة.
فصل: ويكره أن يبني على القبر مسجداً لما روى أبو مرثد الغنوي أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يصلي إليه وقال: "لا تتخذوا قبري وثناً فإنما هلك بنو إسرائيل لأنهم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد2" قال الشافعي رحمه الله: وأكره أن يعظم مخلوق حتى يجعل قبره مسجداً مخالفة الفتنة عليه وعلى من بعده من الناس.
فصل: ويستحب لأقرباء الميت وجيرانه أن يصلحوا لأهل الميت طعاماً لما روي أنه لما قتل جعفر بن أبي طالب كرم الله وجهه قال النبي صلى الله عليه وسلم "اصنعوا لآل جعفر طعاماً فإنه قد جاءهم أمر يشغلهم عنه3".
__________
1رواه مسلم في كتاب الجنائز حديث 96. أبو داود في كتاب الجنائز باب 73. النسائي في كتاب الجنائز باب 97.
2 رواه البخاري في كتاب الجنائز باب 62. مسلم في كتاب المساجد 19. أبو داود في كتاب الجنائز باب 72. النسائي في كتاب المساجد باب 13. الدارمي في كتاب الصلاة باب 120. الموطأ في كتاب المدينة حديث 17.
3 رواه الترمذي في كتاب الجنائز باب 21. ابن ماجه في كتاب الجنائز باب 59.

(1/259)