المهذب في فقة الإمام الشافعي

كتاب الخلع
إذا كرهت المرأة زوجها لقبح منظر أو سوء عشرة وخافت أن لا تؤدي حقه جاز أن تخالعه على عوض لقوله عز وجل: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] وروي أن جميلة بنت سهل كانت تحث ثابت بن قيس بن الشماس وكان يضربها فأتت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: لا أنا ولا ثابت وما أعطاني فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خذ منها فأخذ منها فقعدت في بيتها" وإن لم تكره منه شيئاً وتراضيا على الخلع من غير سبب جاز لقوله عز وجل: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً} [النساء: 4] ولأنه رفع عقد بالتراضي جعل لدفع الضرر فجاز من غير ضرر كالإقالة في البيع وإن ضربها أو منعها حقها طمعاً في أن تخالعه على شيء من مالها لم يجز لقوله عز وجل: {وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [النساء: 29] فإن طلقها في هذه الحال على عوض لم يستحق العوض لأنه عقد معاوضة أكرهت عليه بغير حق فلم يستحق فيه العوض كالبيع فإن كان ذلك بعد الدخول فله أن يراجعها لأن الرجعة إنما تسقط بالعوض وقد سقط العوض فتثبت الرجعة فيه فإذا زنت لقوله عز وجل: {إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [النساء: 19] فدل على أنها إذا أتت بفاحشة جاز عضلها ليأخذ شيء من مالها والثاني أنه لا يجوز ولا يستحق فيه العوض لأنه خلع أكرهت عليه بمنع الحق فأشبه إذا منعها حقها لتخالعه من غير زنا فأما الآية فقد قيل إنها منسوخة بآية الإمساك في البيوت وهي قوله تعالى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ} [النساء: 15] ثم نسخ ذلك بالجلد والرجم ولأنه روي عن قتاده أنه فسر الفاحشة بالنشوز فعلى هذا إذا كان ذلك بعد الدخول فله أن يراجعها لما ذكرناه.
فصل: ولا يجوز للأب أن يطلق امرأة الابن الأصغر بعوض وغير عوض لما روي

(2/489)


عن عمر رضي الله عنه أنه قال: إنما الطلاق بيد الذي يحل له الفرج ولأنه طريق الشهوة فلم يدخل في الولاية ولا يجوز أن يخلع البنت الصغيرة من الزوج بشيء من مالها لأنه يسقط بذلك حقها من المهر والنفقة والاستمتاع فإن خالعها بشيء من مالها لم يستحق ذلك وإن كان بعد الدخول فله أن يراجعها لما ذكرناه ومن أصحابنا من قال إذا قلنا إن الذي بيده عقد النكاح هو الولي فله أن يخالعها بالإبراء من نصف مهرها وهذا خطأ لأنه إنما يملك الإبراء على هذا القول بعد الطلاق وهذا الإبراء قبل الطلاق.
فصل: ولا يجوز للسفيهة أن تخالع بشيء من مالها لأنها ليست من أهل التصرف في مالها فإن طلقها على شيء من مالها لم يستحق ذلك كما لا يستحق ثمن ما باع منها فإن كان بعد الدخول فله أن يراجعها لما ذكرناه ويجوز للأمة أن تخالع زوجها على عوض في ذمتها ويجب دفع العوض من حيث يجب دفع المهر في نكاح العبد لأن العوض في الخلع كالمهر في النكاح فوجب من حيث وجب المهر.
فصل: ويصح الخلع مع غير الزوجة وهو أن يقول رجل طلق امرأتك بألف علي وقال أبو ثور: لا يصح لأن بذل العوض في مقابلة ما يحصل لغيره سفه وذلك لا يجوز أن يقول لغيره بع عبدك من فلان بألف علي وهذا خطأ لأنه قد يكون له غرض وهو أن يعلم أنهما على نكاح فاسد أو تخاصم دائم فيبذل العوض ليخلصهما طلباً للثواب كما يبذل العوض لاستنقاذ أسير أو حر في يد من يسترقه بغير حق ويخالف البيع فأنه تمليك يفتقر إلى رضا المشتري فلم يصح بالأجنبي والطلاق إسقاط حق لا يفتقر إلى رضا المرأة فصح بالمالك والأجنبي كالعتق بالمال فإن قال طلق امرأتك على مهرها وأنا ضامن فطلقها بانت ورجع الزوج على الضامن بمهر المثل في قوله الجديد وببدل مهرها في قوله القديم لأنه أزال الملك عن البضع بمال ولم يسلم له وتعذر الرجوع إلى البضع فكان فيما يرجع إليه قولان كما قلنا فيمن يضمن أصدق امرأته مالاً فتلف قبل القبض.
فصل: ويجوز الخلع في الحيض لأن المنع من الطلاق في الحيض للضرر الذي يلحقها بتطويل العدة والخلع جعل للضرر الذي يلحقها بسوء العشرة والتقصير في حق الزوج والضرر بذلك أعظم من الضرر بتطويل العدة فجاز دفع أعظم الضررين بأخفها ويجوز الخلع من غير حاكم لأنه قطع عقد بالتراضي جعل لدفع الضرر فلم يفتقر إلى الحاكم كالإقامة في البيع.
فصل: ويصح الخلع بلفظ الخلع والطلاق فإن خالعها بصريح الطلاق أو الكناية مع النية فهو طلاق لأنه لا يحتمل غير الطلاق وإن خالعها بصريح الخلع نظرت لأنه لم

(2/490)


ينوبه الطلاق ففيه ثلاثة أقوال: أحدها أنه لا يقع به فرقة وهو قوله في الأم لأنه كناية في الطلاق من غير نية فلم يقع بها فرقة كما لو عريت عن العوض والثاني أنه فسخ وهو قوله في القديم لأنه جعل للفرقة فلا يجوز أن يكون طلاقاً لأن الطلاق لا يقع إلا بصريح أو كناية مع النية والخلع ليس بصريح في الطلاق ولا معه نية الطلاق فوجب أن يكون فسخاً والثالث أنه طلاق وهو قوله في الإملاء وهو اختيار المزني لأنها إنما بذلت العوض للفرقة والفرقة التي يملك إيقاعها هي الطلاق دون الفسخ فوجب أن يكون طلاقاً فإن قلنا إنه فسخ بصريحه وصريحه الخلع والمفاداة لأن المفاداة ورد بها القرآن والخلع ثبت له العرف فإذا خالعها بأحد هذين اللفظين انفسخ النكاح من غير نية وهل يصح الفسخ بالكناية كالمباراة والتحريم والتحريم وسائر كنايات الطلاق فيه وجهان: أحدهما لا يصح لأن الفسخ لا يصح تعليقة على الصفحات فلم يصح بالكناية كالنكاح والثاني يصح لأنه أحد نوعي الفرقة فأنقسم لفظها إلى الصريح والكناية كالطلاق فعلى هذا إذا خالفها بشيء من الكنايات لم ينفسخ النكاح حتى ينويا واختلف أصحابنا في لفظ الفسخ فمنهم من قال هو كناية لأنه لم يثبت له عرف في فرقة النكاح ومنهم من قال هو صريح لأنه أبلغ في معنى الفسخ من لفظ الخلع وإن خالع بصريح الخلع ونوى به الطلاق فإن قلنا بقوله في الإملاء فهو طلاق لأنه إذا كان طلاقاً من غير نية الطلاق فمع النية أولى وإن قلنا بقوله في القديم ففيه وجهان: أحدهما أنه طلاق لأنه يحتمل الطلاق وقد اقترنت به نية الطلاق والثاني أنه فسخ لأنه على هذا القول صريح في فسخ النكاح فلا يجوز أن يكون كناية في حكم آخر من النكاح كالطلاق لما كان صريحاً في فرقة النكاح لم يجز أن يكون كناية في الظهار.
فصل: ويصح الخلع منجزاً بلفظ المعاوضة لما فيه من المعاوضة ويصح معلقاً على شرط لما فيه من الطلاق فأما المنجز بلفظ المعاوضة فهو أن يوقع الفرقة بعوض وذلك مثل أن يقول طلقتك وأنت طالق بألف وتقول المرأة قبلت كما تقول في البيع بعتك هذا بألف ويقول المشتري قبلت أو تقول المرأة طلقني بألف فيقول الزوج طلقتك كما يقول المشتري بعني هذا بألف ويقول البائع بعتك ولا يحتاج أن يعيد في الجواب ذكر الألف لأن الإطلاق يرجع إليه كما يرجع في البيع ولا يصلح الجواب في هذا إلا على الفور كما نقول في البيع ويجوز للزوج أن يرجع في الإيجاب قبل القبول وللمرأة أن ترجع في الاستدعاء قبل الطلاق كما يجوز في البيع وأما غير المنجز فهو أن يعلق الطلاق على

(2/491)


ضمان مال أو دفع مال فإن كان بحرف "إن" بأن قال إن ضمنت لي ألفاً فأنت طالق لم يصح الضمان إلا على الفور لأنه لفظ شرط تحتمل الفور والتراخي إلا أنه لما ذكر العوض صار تمليكاً بعوض فاقتضى الجواب على الفور كالتمليك في المعاوضات وإن قال إن أعطيتني ألفاً فأنت طالق لم تصح العطية إلى على الفور بحيث يصلح أن تكون جواباً لكلامه لأن العطية ههنا هي القبول ويكفي أن تحضر المال وتأذن في قبضه أخذ أو لم يأخذ لأن اسم العطية يقع عليه وإن لم يأخذ ولهذا يقال أعطيت فلاناً مالاً فلم يأخذه وإن قالت طلقني بألف فقال أنت طالق بألف إن شئت لم يقع الطلاق حتى توجد المشيئة لأنه أضاف إلى ما التزمت المشيئة فلم يقع إلى بها ولا تصح المشيئة إلا بالقول وهو أن تقول على الفور شئت لأن المشيئة وإن كانت بالقلب فإنها لا تعرف إلا بالقول فصار تقديره أنت طالق إن قلت شئت ويصح الرجوع قبل الضمان وقبل العطية وقبل المشيئة كما يجوز فيما عقد بلفظ المعاوضة وإن كان بحرف (متى) و (أي وقت) بأن يقول متى ضمنت لي أو أي وقت ضمنت لأي ألفاً فأنت طالق جاز أن يوجد الضمان على الفور وعلى التراخي والفرق بينه وبين قوله إن ضمنت لي ألفاً أن اللفظ هناك عام في الزمانين ولهذا لو قال إن ضمنت لي الساعة أو إن ضمنت لي غداً جاز فلما اقترن به ذكر العوض جعلناه على الفور قياساً على المعاوضات والعموم يجوز تخصيصه بالقياس وليس كذلك قوله (متى) و (أي وقت) لأنه نص في كل واحد من الزمانين صريح في المنع من التعيين في أحد الزمانين ولهذا لو قال أي وقت أعطيتني الساعة كان محالاً وما يقتضيه الصريح لا يترك بالقياس وإن رجع الزوج في هذا قبل القبول لم يصح لأن حكمه حكم الطلاق المعلق الصفات دون المعاوضات وإن كان بحرف (إذا) بأن قال إذا ضمنت لي ألفاً فأنت طالق فقد ذكر جماعة من أصحابنا أحكمه حكم قوله إن ضمنت لي في القضاء الجواب على الفور وفي جواز الرجوع فيه قبل القبول وعندي أن حكمه حكم (متى) و (أي وقت) لأنه يفيد ما يفيده متى وأي وقت ولهذا إذا قال متى ألقاك جاز أن يقول إذا شئت كما يجوز أن يقول متى شئت وأي وقت شئت بخلاف إن فإنه لو قال متى ألقاك لم يجز أن يقول إن شئت.
فصل: ويجوز الخلع بالقليل والكثير والدين والعين والمال والمنفعة لأنه عقد على منفعة لبضع فجاز بما ذكرناه كالنكاح فإن خالعها على أن تكفل ولده عشر سنين وبين مدة الرضاع وقدر النفقة وصفتها فالمنصوص أن يصح فمن أصحابنا من قال فيه قولان

(2/492)


لأنها صفقة جمعت بيعاً وإجارة ومنهم من قال يصح قولاً واحداً لأن الحاجة تدعو إلى الجمع بينهما لأنه إذا أفرد أحدهما لم يمكنه أن يخالع على الآخر وفي غير الخلع يمكنه أن يفرد أحدهما ثم يعقد على الآخر وإن مات الولد بعد الرضاع ففي النفقة وجهان: أحدهما أنها تحل لأنها تأجلت لأجله وقد مات والثاني أنها لا تحل لأن الدين إنما يحل بمن عليه دون من له.
فصل: وإن خالعها خلعاً منجزاً على عوض ملك العوض على العقد وضمن بالقبض كالصداق فإن كان عيناً فهلكت قبل القبض أو خرج مستحقاً أو على عبد فخرج حراً أو على خل فخرج خمراً رجع إلى مهر المثل في قوله الجديد وإلى بدل المسمى في قوله القديم كما قلنا في الصداق وإن خالعها على أن ترضع ولده فمات فهو كالعين إذا هلكت قبل القبض وإن مات الولد ففيه قولان: أحدهما يسقط الرضاع ولا يقوم غير الولد مقامه لأنه عقد في قوله الجديد وإلى أجرة الرضاع في قوله القديم والقول الثاني أنه لا يسقط الرضاع بل يأتيها بولد آخر لترضعه لأن المنفعة باقية وإن مات المستوفي قام غيره مقامه كما لو اكترى ظهراً ومات فإن الوارث يقوم مقامه فعلى هذا إن لم يأت بولد آخر حتى مضت المدة ففيه وجهان: أحدهما لا يرجع عليها لأنها مكنته من الاستيفاء فأشبه إذا أجرته داراً وسلمتها إليه ولم يسكنها والثاني يرجع عليها لأن المعقود عليه تحت يدها فتلف من ضمانها كما لو باعت منه شيئاً وتلف قبل أن يسلم فعلى هذا يرجع بمهر المثل في قوله الجديد وبأجرة الرضاع في قوله القديم وإن خالعه على خياطة ثوب فتلف الثوب فهل تسقط الخياطة أو يأتيها بثوب آخر لتخيطه فيه وجهان بناء على القولين في الرضاع.
فصل: ويجوز رد العوض فيه بالعيب لأن إطلاق العقد يقتضي السلامة من العيب فثبت فيه الرد بالعيب كالبيع والصداق فإن كان العقد على عين بأن طلقها على ثوب أو قال إن أعطيتني هذا الثوب فأنت طالق فأعطته ووجد به عيباً فرده رجع إلى مهر المثل في قوله الجديد وإلى بدل العين سليماً في قوله القديم كما ذكرناه في الصداق وإن كان الخلع منجزاً على عوض موصوف في الذمة فأعطته ووجده معيباً فرده طالب بمثله سليماً كما قلنا فيمن أسلم في ثوب وقبضه ووجده معيباً فرده وإن قال إن دفعت إلي عبداً من صفته كذا وكذا فأنت طالق فدفعت إليه عبداً على تلك الصفة طلقت فإن وجده معيباً فرده رجع في قوله الجديد إلى مهر المثل وإلى بدل العبد في قوله القديم لأنه تعين بالطلاق فصار كما لو خالعها على عين فردها بالعيب ويخالف إذا كان موصوفاً في الذمة

(2/493)


في خلع منجز فقبضه ووجد فيه عيباً فرده لأنه لم يتعين بالعقد ولا بالطلاق فرجع إلى ما في الذمة وإن خالعها على عين على أنها على صفة فخرجت على دون تلك الصفة ثبت له الرد كما قلنا في البيع فإذا رده رجع إلى مهر المثل في أحد القولين وإلى بدل المشروط في القول الآخر كما قلنا فيما رده بالعيب.
فصل: ولا يجوز الخلع على محرم ولا على ما فيه غرر كالمجهول ولا ما لم يتم ملكه عليه ولا ما لا يقدر على تسليمه لأنه عقد معاوضة فلم يجز على ما ذكرناه كالبيع والنكاح فإن طلقها على شيء من ذلك وقع الطلاق لأن الطلاق يصح مع عدم العوض فصح مع فساده كالنكاح ويرجع عليها بمهر المثل لأنه تعذر رد البضع فوجب رد بدله كما قلنا فيمن تزوج على خمر أو خنزير فإن خالعها بشرط فاسد بأن قالت طلقني بألف بشرط أن تطلق ضرتي فطلقها وقع الطلاق ويرجع عليها بمهر المثل لأن الشرط فاسد فإذا سقط وجب إسقاط ما زيد في البدل لأجله وهو مجهول فصار العوض فيه مجهولاً فوجب مهر المثل فإن قال إذا جاء رأس الشهر فأنت طالق على ألف ففيه وجهان: أحدهما يصح لأنه تعليق طلاق بشرط والثاني لا يصح لأنه عقد معاوضة فلم يصح تعليقه على شرط كالبيع فعلى هذا إذا وجد الشرط وقع الطلاق ورجع عليها بمهر المثل.
فصل: فإذا خالع امرأته لم يلحقها ما بقي من عدد الطلاق لأنه لا يملك بضعها فلم يلحقها طلاقه كالأجنبية ولا يملك رجعتها في العدة وقال أبو ثور: إن كان بلفظ الطلاق فله أن يراجعها لأن الرجعة من مقتضى الطلاق بل يسقط بالعوض كالولاء في العتق وهذا خطأ لأنه يبطل به إذا وهب بعوض فإن الرجوع من مقتضى الهبة وقد سقط بالعوض ويخالف الولاء فإن إثباته لا يملك ما اعتاض عليه من الرق وبإثبات الرجعة يملك من اعتاض عليه من البضع.
فصل: وإن طلقها بدينار على أن له الرجعة سقط الدينار وثبتت له الرجعة وقال المزني يسقط الدينار والرجعة ويجب مهر المثل كما قال الشافعي فيمن خالع امرأة على عوض وشرطت المرأة أنها متى شاءت استرجعت العوض وثبتت الرجعة أن العوض يسقط ولا تثبت الرجعة وهذا خطأ لأن الدينار والرجعة شرطان متعارضان فسقطا وبقي طلاق مجرد فثبتت معه الرجعة فأما المسألة التي ذكرها الشافعي رحمه الله فقد اختلف أصحابنا فيها فمنهم من نقل جواب كل واحدة منهما إلى الأخرى وجعلها على قولين ومنهم من قال لا تثبت الرجعة هناك لأنه قطع الرجعة في الحال وإنما شرطت أن تعود فلم تعد وههنا لم يقطع الرجعة فثبتت.

(2/494)


فصل: وإن وكلت المرأة في الخلع ولم تقدر العوض فخالع الوكيل بأكثر من المثل لم يلزمها إلا مهر المثل لأن المسمى عوض فاسد بمقتضى الوكالة فسقط ولزم مهر المثل كما لو خالعها الزوج على عوض فاسد فإن قدر العوض بمائه فخالع عنها على أكثر منها ففيه قولان: أحدهما يلزمها مهر المثل لما ذكرناه والثاني يلزمها أكثر الأمرين من مهر المثل أو المائة فإن كان مهر المثل أكثر وجب لأن المسمى سقط لفساده ووجب مهر المثل وإن كانت المائة أكثر وجبت لأنها رضيت بها وأما الوكيل فإنه إن ضمن العوض في ذمته رجع الزوج عليه بالزيادة لأنه ضمنها بالعقد وإن لم يضمن بأن أضاف إلى مال الزوجة لم يرجع عليه بشيء فإن خالع على خمر أو خنزير وجب مهر المثل لأن المسمى سقط فوجب مهر المثل فإن وكل الزوج في الخلع ولم يقدر العوض فخالع الوكيل بأقل من مهر المثل فقد نص فيه على قولين: قال في الإملاء يقع ويرجع عليه بمهر المثل وقال في الأم الزوج بالخيار بين أن يرضى بهذا العوض ويكون الطلاق بائناً وبين أن يرده ويكون الطلاق رجعياً وقال فيمن وكل وقدر العوض فخالع على أقل منه أن الطلاق لا يقع فمن أصحابنا من نقل القولين في الوكالة المطلقة إلى الوكالة التي قدر فيها العوض والقول في الوكالة التي قدر فيها العوض إلى الوكالة المطلقة وهو الصحيح عندي لأن الوكالة المطلقة تقتضي المنع من النقصان عن المقدر فيكون في المسألتين ثلاثة أقوال: أحدها أنه لا يقع الطلاق لأنه طلاق أوقعه على غير الوجه المأذون فيه فلم يقع كما لو وكله في الطلاق في يوم فأوقعه في يوم آخر والثاني أنه يقع الطلاق بائناً ويجب مهر المثل لأن الطلاق مأذون فيه فإذا وقع لم يرد والمسمى فاسد فوجب مهر المثل كما لو خالعها الزوج على عوض فاسد والثالث أن الطلاق يقع لأنه مأذون فيه وإنما قصر في البدل فثبت له الخيار بين أن يرضى بهذا العوض ويكون الطلاق بائناً وبين أن يرد ويكون الطلاق رجعياً لأنه لا يمكن إجبار الزوج على المسمى لأنه دون المأذون فيه ولا يمكن إجبارها على مهر المثل فيما أطلق ولا على الذي نص عليه من المقدر لأنها لم ترض به فخير بين الأمرين ليزول الضرر عنهما ومن أصحابنا من قال فيما قدر العوض فيه لا يقع الطلاق لأنه خالف نصه وفيما أطلق يقع الطلاق لأنه لم يخالف نصه وإنما خالفه من جهة الاجتهاد وهذا يبطل بالوكيل في البيع فأنه لا فرق بين أن يقدر له الثمن فباع بأقل منه وبين أن يطلق فباع بما دون ثمن المثل وإذا خالعها على خمر أو خنزير لم يقع الطلاق لأنه طلاق غير مأذون فيه فيخالف وكيل المرأة فأنه لا ويقع الطلاق وإنما يقبله فإذا كان العوض فاسداً سقط ورجع إلى مهر المثل.

(2/495)


فصل: وإذا خالع امرأة في مرضه ومات لم يعتبر البدل من الثلث سواء حابى أو لم يحاب لأنه لا حق للورثة في بضع المرأة ولهذا لو طلق من غير عوض لم تعتبر قيمة البضع من الثلث فإن خالعت المرأة زوجها في مرضها وماتت فإن لم يزد العوض على مهر المثل اعتبر من رأس المال لأن الذي بذلت بقيمة ما ملكته فأشبه إذا اشترت متاعاً بثمن المثل وإن زاد على مهر المثل اعتبرت الزيادة من الثلث لأنه لا يقابلها بدل فاعتبرت من الثلث كالهبة فإن خالعت على عبد قيمته مائة ومهر مثلها خمسون فقد حابت بنصفه فلم يخرج النصف من الثلث بأن كان عليها ديون تستغرق قيمة العبد فالزوج بالخيار بين أن يقر العقد في العبد فيستحق نصفه وبين أن يفسخ العقد فيه ويستحق مهر المثل ويضرب به مع الغرماء لأن الصفقة تبعضت عليه وإن خرج النصف من الثلث أخذ جميع العبد نصفه بمهر المثل ونصفه بالمحاباة ومن أصحابنا من قال هو بالخيار بين أن يقر العقد في العقد بين أن يفسخ العقد فيه ويستحق مهر المثل لأنه تبعضت عليه الصفقة من طريق الحكم لأنه دخل على أن يكون جميع العبد له عوضاً وقد صار نصفه عوضاً ونصفه وصية والمذهب الأول لأن الخيار إنما يثبت بتبعيض الصفة لما يلحقه من الضرر لسوء المشاركة ولا ضرر عليها ههنا لأنه صار جميع العبد له فلم يثبت له الخيار.

(2/496)


ألفاً فأنت طالق ثلاثاً فأعطته بعض الألف لم يقع شئ لأن ما كان من جهته طريقه الصفات ولم توجد الصفة فلم يقع وما كان من جهتها طريقه الأعواض فقسم على عدد الطلاق وإن بقيت له على امرأته طلقة فقالت له طلقني ثلاثاً ولك علي ألف فطلقها واحدة فالمنصوص أنه يستحق الألف واختلف أصحابنا فيه فقال أبو العباس وأبو إسحاق المسألة مفروضة في امرأة علمت أنه لم يبق له لا طلقة فيكون معنى قولها طلقني ثلاثاً أي كمل لي الثلاث كرجل أعطى رجل نصف درهم فقال له أعطني درهماً أي كمل لي درهماً وأما إذا ظنت أن لها الثلاث لم يجب أكثر من ثلث الألف لأنها بذلت الألف في مقابلة الثلاث فوجب أن يكون لكل طلقة ثلث الألف ومن أصحابنا من قال يستحق الألف بكل حال لأن القصد من الثلاث تحريمها إلى أن تنكح زوجاً غيره وذلك يحصل بهذه السلفة فاستحق بها الجميع وقال المزني رحمه الله: لا يستحق إلا ثلث الألف علمت أو لم تعلم لأن التحريم يتعلق بها وبطلقتين قبلها كما إذا شرب ثلاث أقداح فسكر كان السكر بثلاث وإذا فقأ عين الأعور كان العمى بفقء الباقية وبالمفقوءة قبلها وهذا خطأ لأن لكل قدح تأثيراً في السكر ولذهاب العين الأولى تأثيراً في العمى ولا تأثير للأولى والثانية في التحريم لأنه لو كان لهما تأثير في التحريم لكمل لأنه لا يتبعض وإن ملك عليها ثلاث تطليقات فقالت له طلقني بألف فطلقها ثلاثاً استحق الألف لأنه فعل ما طلبته وزيادة فصار كما لو قال من رد عبدي فلاناً فله دينار فرده مع عبدين آخرين فإن قالت طلقني عشراً بألف فطلقها واحدة ففيه وجهان: أحدهما يجب عشر الألف لأنها جعلت لكل طلقه عشر الألف والثاني يجب له ثلث الألف لأنه ما زاد على الثلاث لا يتعلق به حكم وإن طلقها ثلاثاً فله على الوجه الأول ثلاثة أعشار الألف وعلى الوجه الثاني له جميع الألف وإن بقيت له طلقة فقالت له: طلقني ثلاثاً على ألف طلقة أحرم بها عليك وطلقتين في نكاح آخر إذا نكحتني فطلقها لثلاث وقعت طلقة ولا يصح ما زاد لأنه سلف في الطلاق ولأنه طلاق قبل النكاح فإن قلنا إن الصفقة لا تفرق فقال المسمى ووجب مهر المثل وإن قلنا نفرق الصفقة ففيما يستحق قولان: أحدهما ثلث الألف والثاني جميع الألف كما قلنا في البيع.
فصل: وإن قالت أنت طالق على ألف وطالق وطالق لم تقع الثانية والثالثة لأنها بانت بالأولى وإن قالت أنت طالق وطالق وطالق على الألف وقال أردت الأولى بالألف لم يقع ما بعدها لأنها بانت بالأولى وإن قال أردت الثانية بالألف فإن قلنا يصح خلع الرجعية وقعت الأولى رجعية وبانت بالثانية ولم تقع الثالثة وإن قلنا لا يصح خلع الرجعية وقعت

(2/497)


الأولى رجعية أو الثانية رجعية وبانت الثالثة وإذا قال أردت الثالثة بالألف فقد ذكر بعض أصحابنا أنه يصح ويستحق الألف قولاً واحداً لأنه يحصل بالثالثة من التحريم ما لا يحصل بغيرها وعندي أنه لا يستحق الألف على القول الذي يقول أنه لا يصح خلع الرجعية لأن الخلع يصادف رجعية وإن قال أردت الثلاث بالألف لم تقع الثانية والثالثة لأن الأولى وقعت بثلث الألف وبانت بها فلم يقع ما بعدها.
فصل: وإن قال أنت طالق وعليك ألف طلقت ولا يستحق عليها شيئاً لأنه أوقع الطلاق من غير عوض ثم استأنف إيجاب العوض من غير طلاق فإن كان ذلك بعد الدخول فله أن يراجع لأنه طلق من غير عوض وإن قال أنت طالق على أن عليك ألفاً فقبلت صح الخلع ووجب المال لأن تقديره أنت طالق على ألف فإذا قبلت وقع الطلاق ووجب المال.
فصل: إذا قالت إن دفعت لي ألف درهم فأنت طالق فإن نويا صنفاً من الدراهم صح الخلع وحمل الألف على ما نويا لأنه عوض معلوم وإن لم ينويا صنفاً نظرت فإن كان في موضع فيه نقد غالب حمل العقد عليه لأن إطلاق العوض يقتضي نقد البلد كما تقول في البيع وإن لم يكن فيه نقد غالب فدفعت إليه ألف درهم بالعدد دون الوزن لم تطلق لأن الدراهم في عرف الشرع بالوزن وإن دفعت إليه ألف درهم نقرة لم تطلق لأنه لا يطلق اسم الدراهم على النقرة وإن دفعت إليه ألف درهم فضة طلقت لوجود الصفة ويجب ردها لأن العقد وقع على عوض مجهول ويرجع بمهر المثل لأنه تعذر الرجوع إلى المعوض فوجب بدله وإن دفعت إليه دراهم مغشوشة فإن كانت الفضة فيها تبلغ ألف درهم طلقت لوجود الصفة وإن كانت الفضة فيها ألف درهم لم تطلق لأن الدراهم لم تطلق إلا على الفضة.
فصل: وإن قال أعطيتني عبداً فأنت طالق فأعطته عبداً تملكه طلقت سليماً كان أم معيباً قناً أو مدبراً لأن اسم العبد يقع عليه ويجب رده والرجوع بمهر المثل لأنه عقد وقع على مجهول وإن دفعت إليه مكاتباً أو مغصوباً لم تطلق لأنها لا تملك العقد عليه وإن قال إن أعطيتني هذا العبد فأنت طالق فأعطته وهو مغصوب ففيه وجهان: أحدهما وهو قول أبي علي بن أبي هريرة أنها لا تطلق كما لو خالعها على عبد غير معين فأعطته عبداً مغصوباً والثاني وهو المذهب أنها تطلق لأنها أعطته ما عينه ويخالف إذا خالعها على عبد غير معين لأن هناك أطلق العقد فحمل على ما يقتضيه العقد والعقد يقتضي دفع عبد تملكه.

(2/498)


فصل: وإن اختلف الزوجان فقال الزوج طلقتك على مال وأنكرت المرأة بانت بإقراره ولم يلزمها المال لأن الأصل عدمه وإن قال طلقتك بعوض فقالت طلقني بعوض بعد مضي الخيار بانت بإقراره والقول في العوض قولها لأن الأصل براءة ذمتها وإن اختلفا في قدر العوض أو في عينة أو صفته أو في تعجيله أو تأجيله تحالفا لأنه عوض في عقد معاوضة فتحالفا فيه على ما ذكرناه كالبيع فإذا تحالفا لم يرتفع الطلاق وسقط المسمى ووجب مهر المثل كما لو اختلفا في ثمن السلعة بعدما تلفت في يد المشتري وإن خالعها على ألف درهم واختلفا فيما نويا فادعى أحدهما صنفاً وادعى الأخر صنفاً آخر تحالفا ومن أصحابنا من قال لا يصح للاختلاف في النية لأن ضمائر القلوب لا تعلم والأول هو المذهب لأنه لما جاز أن تكون النية كاللفظ في صحة العقد عند الاتفاق وجب أن تكون كالفظ عند الاختلاف ولأنه قد يكون بينهما أمارات يعرف بها ما في القلوب ولهذا يصح الاختلاف في كنايات القذف والطلاق وإن قال أحدهما خالعت على ألف درهم وقال الآخر خالعت على ألف مطلق تحالفا لأن أحدهما يدعي الدراهم والأخر يدعي مهر المثل وإن بقيت له طلقة فقالت له طلقني ثلاثاً على ألف فطلقها قلنا أنها إن علمت ما بقي استحق الألف وإن لم تعلم لم يستحق إلا ثلث الألف وإن اختلفا فقالت المرأة نعم أعلم وقال الزوج: بل علمت تحالفا ورجع الزوج إلى مهر المثل لأنه اختلاف في عوض الطلقة وهي تقول بذلت ثلث الألف في مقابلتها وهو يقول بذلت الألف.
فصل: وإن قال خالعتك على ألف وقالت بل خالعت غيري بانت المرأة لاتفاقهما على الخلع والقول في العوض قولها لأنه يدعي عليها حقاً والأصل عدمه وإن قالت خالعتك على ألف وقالت خالعتني على ألف ضمنها عني زيد لزمها الألف لأنها أقرت به ولا شيء على زيد إلا أن يقر به وإن قال خالعتك على ألف في ذمتك فقالت بل خالعتني على ألف لي في ذمة زيد تحالفا لأن الزوج يدعي عوضاً في ذمتها وهي تدعي عوضاً في ذمة غيرها وصار كما لو ادعى أحدهما أن العوض عنده وادعى أخر أنه عند الآخر.

(2/499)