المهذب في فقة الإمام الشافعي

كتاب اللعان
مدخل
...
كتاب اللعان
إذا علم الزوج أن امرأته زنت فإن رآها بعينه وهي تزني ولم يكن نسب يلحقه فله أن يقذفها وله أن يسكت لما روى علقمة عن عبد الله أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن رجل وجد مع امرأته رجلاً إن تكلم جلدتموه أو قتل قتلتموه أو سكت سكت على غيظ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم افتح". وجعل يدعوا فنزلت آية اللعان: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ} [النور: 6] الآية فذكر أنه يتكلم أو يسكت ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم كلامه ولا سكوته وإن أقرت عنده بالزنا فوقع في نفسه صدقها أو أخبره بذلك ثقة أو استفاض أن رجلاً يزني بها ثم رأى الرجل يخرج من عندها في أوقات الريب فله أن يقذفها وله أن يسكت لأن الظاهر أنها زنت فجاز له القذف والسكوت وأما إذا رأى رجلا يخرج من عندها ولم يستفض أنه يزني بها لم يجز أن يقذفها لأنه يجوز أن يكون قد دخل إليها هارباً أو سارقاً أو دخل ليراودها عن نفسها ولم تمكنه فلا يجوز قذفها بالشك وإن استفاض أن رجلا يزني بها ولم يجده عندها ففيه وجهان: أحدهما: لا يجوز قذفها لأنه يحتمل أن يكون عدو قد أشاع ذلك عليهما والثاني: يجوز لأن الاستفاضة أقوى من خبر الثقة ولأن الاستفاضة تثبت القسامة في القتل فثبت بها جواز القذف.
فصل: ومن قذف امرأته بزنا يوجب الحد أو تعزير القذف فطولب بالحد أو بالتعزير فله أن يسقط ذلك بالبينة لقوله عز وجل: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا

(3/76)


بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} فدل على أنه إذا أتى بأربعة شهداء لم يجلد ويجوز أن يسقط باللعان لما روى ابن عباس رضي الله عنه أن هلال بن أمية قذف امرأته بشريك بن سحماء فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "البينة أو الحد في ظهرك" فقال: يا رسول الله إذا رأى أحدنا رجلاً على امرأته يلتمس البينة فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "البينة وإلا حد في ظهرك" فقال هلال: والذي بعثك بالحق إني لصادق ولينزلن الله عز وجل في أمري ما يبرئ ظهري من الحد فنزلت: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور: 6] ولأن الزوج يبتلى بقذف امرأته لنفي العار والنسب الفاسد ويتعذر عليه إقامة البينة فجعل اللعان بينة له ولهذا لما نزلت آية اللعان قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أبشر يا هلال فقد جعل الله لك فرجا ومخرجا" قال هلال قد كنت أرجوا ذلك من ربي عز وجل فإن قدر على البينة ولاعن جاز لأنهما بينتان في إثبات حق فجاز إقامة كل واحدة منهما مع القدرة على الأخرى كالرجلين والرجل والمرأتين في المال وإن كان هناك نسب يحتاج إلى نفيه لم ينتف بالبينة ولا ينتفي إلا باللعان لأن الشهود لا سبيل لهم إلى العلم بنفي النسب وإن أراد أن يثبت الزنا بالبينة ثم يلاعن لنفي النسب جاز وإن أراد أن يلاعن ويثبت الزنا وينفي النسب باللعان جاز
فصل: وإن عفت الزوجة عن الحد أو التعزير ولم يكن نسب لم يلاعن ومن أصحابنا من قال له أن يلاعن لقطع الفراش والمذهب الأول لأن المقصود باللعان درء العقوبة الواجبة بالقذف ونفي النسب لما يلحقه من الضرر بكل واحدة منهما وليس ههنا واحد منهما وأما قطع الفراش فإنه غير مقصود ويحصل له ذلك بالطلاق فلا يلاعن لأجله وإن لم تعف الزوجة عن الحد أو التعزير ولم تطالب به فقد روى المزني أنه ليس عليه أن يلاعن حتى تطلب المقذوفة وحدها وروى فيمن قذف امرأته ثم جنت أنه إذا التعن سقط الحد فمن أصحابنا من قال لا يلاعن لأنه لا حاجة به إلى اللعان قبل الطلب وقال أبو إسحاق له أن يلاعن لأن الحد قد وجب عليه فجاز أن يسقط من غير طلب كما يجوز أن يقضي الدين المؤجل قبل الطلب وقوله ليس عليه أن يلتعن لا يمنع الجواز وإنما يمنع الوجوب.
فصل: وإن كانت الزوجة أمة أو ذمية أو صغيرة يوطأ مثلها فقذفها عزر وله أن يلاعن لدرء التعزير لأنه تعزير قذف وإن كانت صغيرة لا يوطأ مثلها فقذفها عزر ولا يلاعن لدرء التعزير لأنه ليس بتعزير قذف وإنما هو تعزير على الكذب لحق الله تعالى،

(3/77)


وإن قذف زوجته ولم يلاعن فحد في قذفها ثم قذفها بالزنا الذي رماها به عزر ولا يلاعن لدرء التعزير لأنه تعزير لدفع الأذى لأنا قد حددناه للقذف فإن ثبت بالبينة أو بالإقرار أنها زانية ثم قذفها فقد روى المزني أنه لا يلاعن لدرء التعزير وروى الربيع أنه يلاعن لدرء التعزير واختلف أصحابنا فيه على طريقين فقال أبو إسحاق المذهب ما رواه المزني وما رواه الربيع من تخريجه لأن اللعان جعل لتحقيق الزنا وقد تحقق زناها بالإقرار أو البينة ولأن القصد باللعان إسقاط ما يجب بالقذف والتعزير ههنا على الشتم لحق الله تعالى لا على القذف لأنه بالقذف لم يلحقها معرة وقال أبو الحسن ابن القطان وأبو القاسم الداركي هي على قولين: أحدهما: لا يلاعن لما ذكرناه والثاني: يلاعن لأنه إنما جاز أن يلاعن لدرء التعزير فيمن لم يثبت زناها فلأن يلاعن فيمن ثبت زناها أولى.

(3/78)


باب ما يلحق من النسب وما لا يلحق وما يجوز نفيه باللعان وما لا يجوز
إذا تزوج امرأة وهوممن يولد لمثله وأمكن اجتماعهما على الوطء وأتت بولد لمدة يمكن أن يكون الحمل فيها لحقه في الظاهر لقوله صلى الله عليه وسلم: "الولد للفراش" 1. ولأن مع وجود هذه الشروط يمكن أن يكون الولد منه وليس ههنا ما يعارضه ولا ما يسقطه فوجب أن يلحق به.
فصل: وإن كان الزوج صغيراً لا يولد لمثله لم يلحقه لأنه لا يمكن أن يكون منه أن ينتفي عنه من غير لعان لأن اللعان يمين واليمين جعلت لتحقيق ما يجوز أن يكون ويجوز أن لا يكون فيتحقق باليمين أحد الجائزين وههنا لا يجوز أن يكون الولد له فلا يحتاج في نفيه إلى اللعان واختلف أصحابنا في السن التي يجوز أن يولد له فمنهم من قال يجوز أن يولد له بعد عشر سنين ولا يجوز أن يولد له قبل ذلك وهو ظاهر النص
__________
1 رواه البخاري في كتاب الخصومات باب 6. كتاب الحدود باب 33. مسلم في كتاب الرضاع حديث 37. داود في كتاب الطلاق باب 34. الترمذي في كتاب الرضاع باب 8. النسائي في كتاب الطلاق باب 48. الموطأ في كتاب الأقضية حديث 20. أحمد في مسنده 1/25، 59.

(3/78)


والدليل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: "مروهم بالصلاة وهم أبناء سبع واضربوهم عليها وهم أبناء عشر وفرقوا بينهم في المضاجع" 1. ومنهم من قال يجوز أن يولد له بعد تسع سنين ولا يجوز أن يولد له قبله لأن المرأة تحيض لتسع سنين فجاز أن يحتلم الغلام لتسع وما قاله الشافعي رحمه الله أراد على سبيل التقريب لأنه لا بد أن يمضي بعد التسع إمكان الوطء وأقل مدة الحمل وهو ستة أشهر وذلك قريب من العشرة وإن كان الزوج مجبوباً فقد روى المزني أن له أن يلاعن وروى الربيع أنه ينتفي من غير لعان واختلف أصحابنا فيه فقال أبو إسحاق إن كان مقطوع الذكر والأنثيين انتفى من غير لعان لأنه يستحيل أن ينزل مع قطعهما وإن قطع أحدهما: لحقه ولا ينتفي إلا بلعان لأنه إذا بقي الذكر أولج وأنزل وإن بقي الأنثيان ساحق وأنزل وحمل الروايتين على هذين الحالين وقال القاضي أبو حامد في أصل الذكر ثقبان أحدهما: للبول والآخر للمني فإذا انسدت ثقبة المني انتفى الولد من غير لعان لأنه يستحيل الإنزال وإن لم تنسد لم ينتف إلا باللعان لأنه يمكنه الإنزال وحمل الروايتين على هذين الحالين.
فصل: وإن لم يكن اجتماعهما على الوطء بأن تزوجها وطلقها عقيب العقد أو كانت بينهما مسافة لا يمكن معها الاجتماع انتفى الولد من غير لعان لأنه لا يمكن أن يكون منه.
فصل: وإن أتت بولد لدون ستة أشهر من وقت العقد انتفى عنه من غير لعان لأنا نعلم أنها علقت به قبل حدوث الفراش وإن دخل بها ثم طلقها وهي حامل فوضعت الحمل ثم أتت بولد آخر لستة أشهر لم يلحقه وانتفى عنه من غير لعان لأنا قطعنا ببراءة رحمها بوضع الحمل وأن هذا الولد الآخر علقت به بعد زوال الفراش وإن طلقها وهي غير حامل واعتدت بالأقراء ثم وضعت ولداً قبل أن تتزوج بغيره لدون ستة أشهر لحقه لأنا تيقنا أن عدته لم تنقض وإن أتت به لستة أشهر أو أربع سنين أو ما بينهما لحقه وقال أبو عباس بن سريج لا يلحقه لأنا حكمنا بانقضاء العدة وإباحتها للأزواج وما حكم به يجوز نقضه لأمر محتمل وهذا خطأ لأنه يمكن أن يكون منه والنسب إذا أمكن إثباته لم يجز نفيه ولهذا إذا أتت بولد بعد العقد لستة أشهر لحقه وإن كان الأصل عدم الوطء وبراءة الرحم فإن وضعته لأكثر من أربعة سنين نظرت فإن كان الطلاق بائناً انتفى عنه بغير لعان لأن العلوق حادث بعد زوال الفراش وإن كان رجعيا ففيه قولان: أحدهما:
__________
1 رواه أبو داود في كتاب الصلاة باب 26. أحمد في مسنده 2/180، 187.

(3/79)


ينتفي عنه بغير لعان لأنها حرمت عليه بالطلاق تحريم المبتوتة فصار كما لو طلقها طلاقا بائنا والقول الثاني يلحقه لأنها في حكم الزوجات في السكنى والنفقة والطلاق والظهار والإيلاء فإذا قلنا بهذا فإلى متى يلحقه ولدها فيه وجهان: قال أبو إسحاق يلحقه أبداً لأن العدة يجوز أن تمتد لأن أكثر الطهر لا حد له ومن أصحابنا من قال: يلحقه إلى أربع سنين من وقت انقضاء العدة وهو الصحيح لأن العدة إذا انقضت بانت وصارت كالمبتوتة.
فصل: وإن كانت له زوجة يلحقه ولدها ووطئها رجل بالشبهة وادعى الزوج أن الولد من الواطئ عرض معهما على القافة ولا يلاعن لنفيه لأنه يمكن نفيه بغير لعان وهو القافة فلا يجوز نفيه باللعان فإن لم تكن قافة أو كانت وأشكل عليها ترك حتى تبلغ السن الذي ينسب فيه إلى أحدهما: فإن بلغ وانتسب إلى الواطئ بشبهة انتفى عن الزوج بغير لعان وإن انتسب إلى الزوج لم ينتف عنه إلا باللعان لأنه لا يمكن نفيه بغير اللعان فجاز نفيه باللعان وإن قال زنى بك فلان وأنت مكرهة والولد منه ففيه قولان: أحدهما: لا يلاعن لنفيه لأن أحدهما: ليس بزان فلم يلاعن لنفي الولد كما لو وطئها رجل بشبهة وهي زانية والثاني: أن له أن يلاعن وهو الصحيح لأنه نسب يلحقه من غير رضاه لا يمكن نفيه بغير اللعان فجاز نفيه باللعان كما لوكانا زانيين.
فصل: وإن أتت امرأته بولد فادعى الزوج أنه من زوج قبله وكان لها زوج قبله نظرت فإن وضعته لأربع سنين فما دونها من طلاق الأول ولدون ستة أشهر من عقد الزوج الثاني فهو للأول لأنه يمكن أن يكون منه وينتفي عن الزوج بغير لعان لأنه لا يمكن أن يكون منه وإن وضعته لأكثر من أربع سنين من طلاق الأول ولأقل من ستة أشهر من عقد الزوج الثاني انتفى عنهما لأنه لا يمكن أن يكون من واحد منهما وإن وضعته لأربع سنين فما دونها من طلاق الأول ولستة أشهر فصاعداً من عقد الزوج الثاني عرض على القافة لأنه يمكن أن يكون من كل واحد منهما فإن ألحقته بالأول لحق به وانتفى عن الزوج بغير لعان وإن ألحقته بالزوج لحق به ولا ينتفي عنه إلا باللعان وإن لم تكن قافة أو كانت وأشكل عليها ترك إلى أن يبلغ وقت الانتساب فإن انتسب إلى الأول انتفى عن الزوج بغير لعان وإن انتسب إلى الزوج لم ينتف عنه إلا باللعان وإن لم يعرف وقت طلاق الأول ووقت نكاح الزوج فالقول قول الزوج مع يمينه أنه لا يعلم أنها ولدته على فراشه لأن الأصل عدم الولادة وانتفاء النسب فإن حلف سقطت دعواها وانتفى النسب بغير لعان لأنه لم يثبت ولادته على فراشه لأن الأصل عدم الولادة وانتفاء النسب فإن حلف سقطت دعواها وانتفى النسب بغير لعان لأنه لم يثبت ولادته على فراشه، وإن نكل

(3/80)


رددنا اليمين عليها وإن حلفت لحق النسب بالزوج ولا ينتفي إلا باللعان لأنه ثبتت ولادته على فراشه وإن نكلت فهل توقف اليمين إلى أن يبلغ الصبي فيحلف ويثبت نسبه فيه وجهان بناء على القولين في رد اليمين على الجارية المرهونة إذا أحبلها الراهن وادعى أن المرتهن أذن له في وطئها وأنكر المرتهن ونكلا جميعاً عن اليمين: أحدهما: لا ترد اليمين لأن اليمين حق للزوجة وقد أسقطته بالنكول فلم يثبت لغيرها والثاني: ترد لأنه يتعلق بيمينها حقها وحق الولد فإذا أسقطت حقها لم يسقط حق الولد.
فصل: وإن جاءت امرأة ومعها ولد وادعت أنه ولدها منه وقال الزوج ليس هذا مني ولا هو منك بل هو لقيط أو مستعار لم يقبل قولها أنه منها من غير بينة لأن الولادة يمكن إقامة البينة عليها والأصل عدمها فلم يقبل قولها من غير بينة فإن قلنا إن الولد يعرض مع الأم على القافة في أحد الوجهين عرض على القافة فإن لحقته بالأم لحق بها وثبت نسبه من الزوج لأنها أتت به على فراشه ولا ينتفي عنه إلا باللعان وإن قلنا إن الولد لا يعرض مع الأم على القافة أولم تكن قافة أو كانت وأشكل عليها فالقول قول الزوج مع يمينه أنه لا يعلم أنها ولدته على فراشه فإذا حلف انتفى النسب من غير لعان لأنه لم تثبت ولادته على فراشه وإن نكل رددنا اليمين عليها فإن حلفت لحقه نسبه ولا ينتفي عنه إلا باللعان وإن نكلت فهل توقف اليمين على بلوغ الولد ليحلف على ما ذكرناه من الوجهين في الفصل قبله.
فصل: إذا تزوج امرأة وهي وهو ممن يولد له ووطئها ولم يشاركه أحد في وطئها بشبهة ولا غيرها وأتت بولد لستة أشهر فصاعدا لحقه نسبه ولا يحل له نفيه لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حين نزلت آية الملاعنة: "أيما رجل جحد ولده وهو ينظر إليه احتجب الله عنه وفضحه الله على رؤوس الأولين والآخرين"1. وإن أتت امرأته بولد يلحقه في الظاهر بحكم الإمكان وهو يعلم أنه لم يصبها وجب عليه نفيه باللعان لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أيما امرأة أدخلت على قوم من ليس منهم فليست من الله في شيء ولن يدخلها الله تعالى جنته" 2. فلما حرم النبي صلى الله عليه وسلم على امرأة أن تدخل على قوم من ليس منهم دل على أن الرجل مثلها ولأنه إذا لم ينفه
__________
1 رواه الدارمي في كتاب النكاح باب 42. أبو داود في كتاب الطلاق باب 29. النسائي في كتاب الطلاق باب 47.
2 رواه أبو داود في كتاب الطلاق باب 29. الدارمي في كتاب النكاح باب 42.

(3/81)


جعل الأجنبي مناسبا له ومحرما له ولأولاده ومزاحما لهم في حقوقهم وهذا لا يجوز ولا يجوز أن يقذفها لجواز أن يكون من وطء شبهة أومن زوج قبله.
فصل: وإن وطئ زوجته ثم استبرأها لحيضة وطهرت ولم يطأها وزنت وأتت بولد لستة أشهر فصاعداً من وقت الزنا لزمه قذفها ونفي النسب لما ذكرناه وإن وطئها في الطهر الذي زنت فيه فأتت بولد وغلب على ظنه أنه ليس منه بأن علم أنه كان يعزل منها أو رأى فيه شبها بالزاني لزمه نفيه باللعان وإن لم يغلب على ظنه أنه ليس منه لم ينفه لقوله صلى الله عليه وسلم: "الولد للفراش وللعاهر الحجر ".
فصل: وإن أتت امرأته بولد أسود وهما أبيضان أو بولد أبيض وهما أسودان ففيه وجهان: أحدهما: أن له أن ينفيه لما روى ابن عباس رضي الله عنه في حديث هلال ابن أمية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن جاءت به أورق جعداً جمالياً خدلج الساقين سابغ الإليتين فهو للذي رميت به". فجاءت به أورق جعداً جمالياً خدلج الساقين سابغ الإليتين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لولا الأيمان لكان لي ولها شأن". فجعل الشبه دليلاً على أنه ليس منه. والثاني: أنه لا يجوز نفيه لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم من بني فزارة فقال: إن امرأتي جاءت بولد أسود ونحن أبيضان؟ فقال: "هل لك من إبل"؟ قال: نعم قال: "ما ألوانها"؟ قال: حمر قال: " هل فيها من أوراق"؟ قال: إن فيها لورقاً قال: "فأنى ترى ذلك"؟ قال: عسى أن يكون نزعه عرق قال: "وهذا عسى أن يكون نزعه عرق" 1.
__________
1 رواه البخاري في كتاب الحدود باب 41. مسلم في كتاب اللعان حديث 18، 20. أبو داود في كتاب الطلاق باب 38. النسائي في كتاب الطلاق باب 46. ابن ماجه في كتاب النكاح باب 58. أحمد في مسنده 2/234.

(3/82)


فصل: وإن أتت امرأته بولد وكان يعزل عنها إذا وطئها لم يجز له نفيه لما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله إنا نصيب السبايا ونحب الأثمان أفنعزل عنهن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله عز وجل إذا قضى خلق نسمة خلقها". ولأنه قد يسبق من الماء ما لا يحس به فتعلق به وإن أتت بولد وكان يجامعها فيما دون الفرج ففيه وجهان: أحدهما: لا يجوز له النفي لأنه قد يسبق الماء إلى الفرج فتعلق به والثاني: أن له نفيه لأن الولد من أحكام الوطء فلا يتعلق بما دونه كسائر الأحكام وإن أتت بولد وكان يطؤها في الدبر ففيه وجهان: أحدهما: لا يجوز له نفيه لأنه قد يسبق من الماء إلى الفرج ما تعلق به والثاني: له نفيه لأنه وضع لا يبتغي منه الولد.
فصل: إذا قذف زوجته وانتفى عن الولد فإن كان حملاً فله أن يلاعن وينفي الولد لأن هلال بن أمية لاعن على نفي الحمل وله أن يؤخره إلى أن تضع لأنه يجوز أن يكون ريحاً أو غلظاً فيؤخر ليلاعن على يقين وإن كان الولد منفصلاً ففي وقت نفيه قولان: أحدهما: أنه الخيار في نفيه ثلاثة أيام لأنه قد يحتاج إلى الفكر والنظر فيما يقدم عليه من النفي فجعل الثلاث حدا لأنه قريب ولهذا قال الله عز وجل: {يَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ الله لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ الله وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ} [هود: 64] ثم فسر القريب بالثلاث فقال: {تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} والثاني: وهو المنصوص في عامة الكتب أنه على الفور لأنه خيار غير مؤد لدفع الضرر فكان على الفور كخيار الرد بالعيب فإن حضرت الصلاة فبدأ بها أو كان جائعاً فبدأ بالأكل أوله مال غير محرز واشتغل بإحرازه أو كان عادته الركوب واشتغل بإسراج المركوب فهو على حقه من النفي لأنه تأخير لعذر وإن كان محبوساً أو مريضاً أو قيماً على مريض أو غائباً لا يقدر على المسير وأشهد على النفي فهو على حقه وإن لم يشهد مع القدرة على الإشهاد سقط حقه لأنه لما تعذر عليه الحضور للنفي أقيم الإشهاد مقامه إلى أن يقدر كما أقيمت الفيئة باللسان مقام الوطء في حق المولى إذا عجز عن الوطء إلى أن يقدر.
فصل: وإن ادعى أنه لم يعلم بالولادة فإن كان في موضع لا يجوز أن يخفى عليه ذلك من طريق العادة بأن كان معها في دار أو محله صغيرة لم يقبل لأنه يدعي خلاف الظاهر وإن كان في موضع يجوز أن يخفى عليه كالبلد الكبير فالقول قوله مع يمينه لأن ما يدعيه ظاهر وإن قال علمت بالولادة إلا أني لم أعلم أن لي النفي فإن كان ممن يخالط أهل العلم لم يقبل قوله لأنه يدعي خلاف الظاهر وإن كان قريب عهد بالإسلام أو نشأ

(3/83)


في موضع بعيد من أهل العلم قبل قوله لأن الظاهر أنه صادق فيما يدعيه وإن كان في بلد فيه أهل العلم إلا أنه من العامة ففيه وجهان: أحدهما: لا يقبل كما لا يقبل قوله إذا ادعى الجهل برد المبيع بالعيب والثاني: يقبل لأن هذا لا يعرفه إلا الخواص من الناس بخلاف رد المبيع بالعيب فإن ذلك يعرفه الخاص والعام.
فصل: وإن هنأه رجل بالولد فقال بارك الله لك في مولودك وجعله الله لك خلفا مباركا وأمن على دعائه أو قال استجاب الله دعاءك سقط حقه من النفي لأن ذلك يتضمن الإقرار به وإن قال أسن الله براءك أو بارك الله عليك أو رزقك الله مثله لم يسقط حقه من النفي لأنه يحتمل أنه قال له ذلك ليقابل التحية بالتحية.
فصل: وإن كان الولد حملاً فقد أخرت النفي حتى ينفصل ثم ألاعن على يقين فالقول قوله مع يمينه لأنه تأخير لعذر يحتمله الحال وإن قال أخرت لأني قلت لعله يموت فلا أحتاج إلى اللعان سقط حقه من النفي لأنه ترك النفي من غير عذر.
فصل: إذا أتت امرأته بولدين توأمين وانتفى عن أحدهما: وأقر بالآخر أوترك نفيه من غير عذر لحقه الولدان لأنهما حمل واحد فلا يجوز أن يلحقه أحدهما: دون الآخر وجعلنا ما انتفى منه تابعاً لما أقر به ولم نجعل ما أقر به تابعاً لما انتفى منه لأن النسب يحتاط لإثباته ولا يحتاط لنفيه ولهذا إذا أتت بولد يمكن أن يكون منه ويمكن أن لا يكون منه ألحقناه به احتياطاً لإثباته ولم ننفه احتياطا لنفيه وإن أتت بولد فنفاه باللعان ثم أتت بولد آخر لأقل من ستة أشهر من ولادة الأول لم ينتف الثاني من غير اللعان لأن اللعان يتناول الأول فإن نفاه باللعان انتفى وإن أقر به أوترك نفيه من غير عذر لحقه الولدان لأنهما حمل واحد وجعلنا لما نفاه تابعا لما لحقه ولم نجعل مل لحقه تابعاً لما نفاه لما ذكرناه في التوأمين وإن أتت بالولد الثاني لستة أشهر من ولادة الأول انتفى بغير لعان لأنها علقت به بعد زوال الفراش.
فصل: وإن لاعنها على حمل فولدت ولدين بينهما دون ستة أشهر لم يلحقه واحد منهما لأنهما كانا موجودين عند اللعان فانتفيا به وإن كان بينهما أكثر من ستة أشهر انتفى الأول باللعان وانتفى الثاني بغير لعان لأنا تيقنا بوضع الأول براء رحمها منه وأنها علقت بالثاني بعد زوال الفراش.
فصل: وإن قذف امرأته بزنا أضافه إلى ما قابل النكاح فإن لم يكن نسب لم يلاعن

(3/84)


لإسقاط الحد لأنه قذف غير محتاج إليه فلم نجز الحقيقة باللعان كقذف الأجنبية وإن كان هناك نسب يلحقه ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي إسحاق أنه لا يلاعن لأنه قذف غير محتاج إليه لأنه كان يمكنه أن يطلق ولا يضيفه إلى ما قبل العقد والثاني: وهو قول أبي علي بن أبي هريرة أن له أن يلاعن لأنه نسب يلحقه من غير رضاه لا ينتفي بغير لعان فجاز له نفيه باللعان.
فصل: وإن أبانها ثم قذفها بزنا أضافه إلى حال النكاح فإن لم يكن نسب لم يلاعن لدرء الحد لأنه قذف غير محتاج إليه وإن كان هناك نسب فإن كان ولداً منفصلاً فله أن يلاعن لنفيه لأنه يحتاج إلى نفيه باللعان وإن كان حملاً فقد روى المزني في المختصر أن له أن ينفيه وروى في الجامع أنه لا يلاعن حتى ينفصل الحمل واختلف أصحابنا فيه فقال أبو إسحاق لا يلاعن قولا واحدا وما رواه المزني في المختصر أراد إذا انفصل وقد بين في الأم فإنه قال لا يلاعن حتى ينفصل ووجهه أن الحمل غير متحقق لجواز أن يكون ريحا فينفش ويخالف إذا قذفها في حال الزوجية لأن هناك يلاعن لدرء الحد فتبعه نفي الحمل وههنا ينفرد الحمل باللعان فلم يجز قبل أن يتحقق ومن أصحابنا من قال فيه قولان: أحدهما: لا يلاعن حتى ينفصل لما ذكرناه والثاني: يلاعن وهو الصحيح لأن الحمل موجود في الظاهر ومحكوم بوجوده ولهذا أمر بأخذ الحامل في الديات ومنع من أخذها في الزكاة ومنعت الحامل إذا طلقت أن تتزوج حتى تضع وهذه الطريقة هي الصحيحة لأن الشافعي رحمه الله نص في مثلها على قولين وهي في نفقة المطلقة الحامل فقال فيها قولان: أحدهما: تجب لها النفقة يوما بيوم والثاني: لا تجب حتى تنفصل.
فصل: وإن قذف امرأته وانتفى عن حملها وأقام على الزنا بينة سقط عنه الحد بالبينة وهل له أن يلاعن لنفي الحمل قبل أن ينفصل على ما ذكرناه من الطريقين في الفصل قبله.
فصل: وإن قذف امرأته في نكاح فاسد فإن لم يكن نسب لم يلاعن لدرء الحد لأنه قذف غير محتاج إليه وإن كان هناك نسب فإن كان ولداً منفصلاً فله أن يلاعن لنفيه لأنه ولد يلحقه بغير رضاه لا ينتفي عنه بغير اللعان فجاز نفيه باللعان كالولد في النكاح الصحيح وإن كان حملاً فعلى ما ذكرناه من الطريقين.
فصل: وإن ملك أمة لم تصر فراشاً بنفس الملك لأنه قد يقصد بملكها الوطء وقد يقصد به التمول والخدمة والتجمل لم تصر فراشاً فإن وطئها صارت فراشاً له فإن أتت بولد لمدة الحمل من يوم الوطء لحقه لأن سعداً نازع عبد بن زمعة في ابن وليدة زمعة

(3/85)


فقال عبد هو أخي وابن وليدة أبي ولد على فراشه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هولك الولد للفراش وللعاهر الحجر". وروى ابن عمر رضي الله عنه أن عمر رضي الله عنه قال: ما بال رجال يطأون ولائدهم ثم يعزلونهم! لا تأتيني وليدة يعترف سيدها أنه ألم بها إلا ألحقت به ولدها فاعزلوا بعد ذلك أو اتركوا وإن قذفها وانتفى عن ولدها فقد قال أحمد: أما تعجبون من أبي عبد الله يقول بنفي ولد الأمة باللعان فجعل أبو العباس هذا قولاً ووجهه أنه كالنكاح في لحوق النسب فكان كالنكاح في النفي باللعان ومن أصحابنا من قال لا يلاعن لنفيه قولاً واحدا لأنه يمكنه نفيه بغير اللعان وهو أن يدعي الاستبراء ويحلف عليه فلم يجز نفيه باللعان بخلاف النكاح فإنه لا يمكنه نفي الولد فيه بغير لعان ولعل أحمد أراد بأبي عبد الله غير الشافعي رحمة الله عليهما.
فصل: إذا قذف امرأته بزناءين وأراد اللعان كفاه لهما لعان واحد لأنه في أحد القولين يجب حد واحد فكفاه في إسقاطه لعان واحد وفي القول الثاني يجب حدان إلا أنهما حقان لواحد فاكتفى فيهما بلعان واحد كما يكتفي في حقين لواحد بيمين واحد وإن قذف أربع نسوة أفرد كل واحد منهن بلعان لأنها أيمان فلم تتداخل فيها حقوق الجماعة كالأيمان في المال وإن قذفهن بكلمات بدأ بلعان من بدأ بقذفها لأن حقها أسبق وإن قذفهن بكلمة واحدة وتشاححن في البداية أقرع بينهن فمن خرجت لها القرعة بدأ بلعانها وإن بدأ بلعان إحداهن من غير قرعة جاز لأن الباقيات يصلن إلى حقوقهن من اللعان من غير نقصان.

(3/86)


باب من يصح لعانه وكيف اللعان وما يوجبه من الأحكام
يصح اللعان من كل زوج بالغ عاقل مختار مسلماً كان أو كافراً حراً كان أو عبداً لقوله عز وجل: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِالله إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} [النور: 6] ولأن اللعان لدرء العقوبة الواجبة بالقذف ونفي النسب والكافر كالمسلم والعبد كالحر في ذلك فأما الصبي والمجنون فلا يصح لعانهما لأنه قول يوجب الفرقة فلم يصح من الصبي والمجنون كالطلاق وأما الأخرس فإنه إن لم يكن له إشارة معقولة ولا كتابة مفهومة لم يصح لعانه لأنه في معنى المجنون وإن كانت له إشارة معقولة أو كتابة مفهومة صح لعانه لأنه كالناطق في نكاحه وطلاقه فكان كالناطق في لعانه وأما من اعتقل لسانه فإنه إن كان مأيوساً منه صح لعانه بالإشارة كالأخرس وإن لم يكن مأيوساً منه ففيه وجهان: أحدهما: لا يصح لعانه لأنه غير مأيوس

(3/86)


من نطقه فلم يصح لعانه بالإشارة كالساكت والثاني: يصح لأن أمامة بنت أبي العاص رضي الله عنها أصمتت فقيل لها: ألفلان كذا ولفلان كذا فأشارت أي نعم فرفع ذلك فرؤيت أنها وصية ولأنه عاجز عن النطق يصح لعانه بالإشارة كالأخرس.
فصل: وإن كان أعجمياً فإن كان يحسن بالعربية ففيه وجهان: أحدهما: يصح لعانه بلسانه لأنه يمين فصح بالعجمية مع القدرة على العربية كسائر الأيمان والثاني: لا يصح لأن الشرع ورد فيه بالعربية فلم يصح بغيرها مع القدرة كأذكار الصلاة فإن لم يحسن بالعربية لاعن بلسانه لأنه ليس بأكثر من أذكار الصلاة وأذكار الصلاة تجوز بلسانه إذا لم يحسن بالعربية فكذلك اللعان وإن كان الحاكم لا يعرف لسانه أحضر من يترجم عنه وفي عدده وجهان بناء على القولين في الشهادة على الإقرار بالزنا أحدهما: يحتاج إلى أربعة، والثاني: يكفيه اثنان.
فصل: ولا يصح اللعان إلا بأمر الحاكم لأنه يمين في دعوى فلم يصح إلا بأمر الحاكم كاليمين في سائر الدعاوي فإن كان الزوجان مملوكين جاز للسيد أن يلاعن بينهما لأنه يجوز أن يقيم عليهما الحد فجاز أن يلاعن بينهما كالحاكم.
فصل: واللعان هو أن يقول الزوج أربع مرات أشهد بالله إني لمن الصادقين ثم يقول وعلي لعنة الله إن كنت من الكاذبين وتقول المرأة أربع مرات أشهد بالله إنه لمن الكاذبين ثم تقول وعلي غضب الله إن كان من الصادقين والدليل عليه قوله عز وجل: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِالله إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ الله عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِالله إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ الله عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} فإن أخل أحدهما: بأحد هذه الألفاظ الخمسة لم يعتد به لأن الله عز وجل علق الحكم على هذه الألفاظ فدل على أنه لا يتعلق بما دونها ولأنه بينة يتحقق بها الزنا فلم يجز النقصان عن عددها كالشهادة وإن أبدل لفظ الشهادة بلفظ من ألفاظ اليمين بأن قال أحلف أو أقسم أو أولى ففيه وجهان: أحدهما: يجوز لأن اللعان يمين فجاز بألفاظ اليمين والثاني: أنه لا يجوز لأنه أخل باللفظ المنصوص عليه وإن أبدل لفظ اللعنة بالإبعاد أو لفظ الغضب بالسخط ففيه وجهان: أحدهما: يجوز لأن معنى الجميع واحد والثاني: لا يجوز لأنه ترك المنصوص عليه وإن أبدلت المرأة لفظ الغضب بلفظ اللعنة لم يجز لأن الغضب أغلظ ولهذا خصت المرأة به لأن المعرة بزناها أقبح وإثمها بفعل الزنا

(3/87)


أعظم من إثمه بالقذف وإن أبدل الرجل لفظ اللعنة بلفظ الغضب ففيه وجهان: أحدهما: يجوز لأن الغضب أغلظ والثاني: لا يجوز لأنه ترك المنصوص عليه وإن قدم الرجل لفظ اللعنة على لفظ الشهادة أو قدمت المرأة لفظ الغضب على لفظ الشهادة ففيه وجهان: أحدهما: يجوز لأن القصد منه التغليظ وذلك يحصل مع التقديم والثاني: لا يجوز لأنه ترك المنصوص عليه.
فصل: والمستحب أن يكون اللعان بحضرة جماعة لأن ابن عباس وابن عمر وسهل ابن سعد رضي الله عنهم حضروا اللعان بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم على حداثة سنهم والصبيان لا يحضرون المجالس إلا تابعين للرجال فدل على أنه قد حضر جماعة من الرجال فتبعهم الصبيان ولأن اللعان بني على التغليظ للردع والزجر وفعله في الجماعة أبلغ في الردع والمستحب أن يكونوا أربعة لأن اللعان سبب للحد ولا يثبت الحد إلا بأربعة فيستحب أن يحضر ذلك العدد ويستحب أن يكون بعد العصر لأن اليمين فيه أغلظ والدليل عليه قوله عز وجل: {تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمَانِ بِالله} [المائدة: 206] قيل هو بعد العصر وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولهم عذاب أليم: رجل حلف يميناً على مال مسلم فاقتطعه ورجل حلف يميناً بعد صلاة العصر لقد أعطى بسلعته أكثر مما أعطى وهو كاذب ورجل منع فضل الماء فإن الله عز وجل يقول: اليوم أمنعك فضلي كما منعت فضل ماء لم تعمله يداك" 1. ويستحب أن يتلاعنا من قيام لما روى ابن عباس رضي الله عنه في حديث هلال بن أمية فأرسل إليهما فجاآ فقام هلال فشهد ثم قامت فشهدت ولأن فعله من قيام أبلغ في الردع واختلف قوله في التغليظ بالمكان فقال في أحد القولين إنه يجب لأنه تغليظ ورد به الشرع فأشبه التغليظ بتكرار اللفظ وقال في الآخر يستحب كالتغليظ في الجماعة والزمان والتغليظ بالمكان أن يلاعن بينهما في أشرف موضع من البلد الذي فيه اللعان فإن كان بمكة لاعن بين الركن والمقام لأن اليمين فيه أغلظ والدليل عليه ما روي أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه رأى قوماً يحلفون بين الركن والمقام فقال: أعلى دم؟ قالوا: لا
__________
1 رواه البخاري في كتاب الشرب باب 10. كتاب التوحيد باب 24.

(3/88)


قال أفعلى عظيم من المال؟ فقالوا: لا فقال: لقد خشيت أن يبهأ الناس بهذا المقام وإن كان في المدينة لاعن في المسجد لأنه أشرف البقاع بها وهل يكون على المنبر أو عند المنبر اختلفت الرواية فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم فروى أبو هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من حلف عند منبري على يمين آثمة ولو على سواك من رطب وجبت له النار". وروى جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من حلف على منبري هذا بيمين آثمة تبوأ مقعده من النار". فقال أبو إسحاق: إن كان الخلق كثيراً لاعن على المنبر ليسمع الناس وإن كان الخلق قليلاً لاعن عند المنبر مما يلي قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقال أبوعلي ابن أبي هريرة: لا يلاعن على المنبر لأن ذلك علو وشرف والملاعن ليس في موضع العلو والشرف وحمل قوله على منبري أي عند منبري لأن حروف الصفات يقوم بعضها مقام بعض وإن كان بيت المقدس لاعن عند الصخرة لأنها أشرف البقاع به وإن كان في غيرها من البلاد لاعن في الجامع وإن كانت المرأة حائضاً لاعنت على باب المسجد لأنه أقرب إلى الموضع الشريف وإن كان يهوديا لاعن في الكنيسة وإن كان نصرانيا لاعن في البيعة وإن كان مجوسياً لاعن في بيت النار لأن هذه المواضع عندهم كالمساجد عندنا.
فصل: وإذا أراد اللعان فالمستحب للحاكم أن يعظهما لما روى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكرهما وأخبرهما أن عذاب الآخرة أشد من عذاب الدنيا فقال هلال: والله لقد صدقت عليها فقالت كذب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لاعنوا بينهما". وإن كانت المرأة غير برزة بعث إليها الحاكم من يستوفي عليها اللعان ويستحب أن يبعث معه أربعة.
فصل: ويبدأ بالزوج ويأمره أن يشهد لأن الله تعالى بدأ به وبدأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم في

(3/89)


لعان هلال بن أمية ولأن لعانه بينة لإثبات الحق ولعان المرأة بينة الإنكار فقدمت بينة الإثبات فإن بدأ بلعان المرأة لم يعتد بها لأن لعانها إسقاط الحد والحد لا يجب بلعان الزوج فلم يصح لعانها قبله والمستحب إذا بلغ الزوج إلى كلمة اللعنة والمرأة إلى كلمة الغضب أن يعظهما لما روى ابن عباس رضي الله عنه قال لما كان في الخامسة قيل يا هلال اتق الله فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة وإن هذه الموجبة التي توجب عليك العذاب فقال: والله لا يعذبني الله عليها كما لم يجلدني عليها فشهد الخامسة فلما كانت الخامسة قيل لها اتقي الله فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة وإن هذه الموجبة التي توجب عليك العذاب فتلكأت ساعة ثم قالت والله لا أفضح قومي فشهدت الخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين ويستحب أن يأمر من يضع يده على فيه في الخامسة لما روى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر رجلاً أن يضع يده على فيه عند الخامسة يقول إنها موجبة.
فصل: وإن لاعن وهي غائبة لحيض أو موت قال أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميت به زوجتي فلانة ويرفع في نسبها حتى تتميز وإن كانت حاضرة ففيه وجهان: أحدهما: يجمع بين الإشارة والاسم لأن مبنى اللعان على التأكيد ولهذا تكرر فيه لفظ الشهادة وإن حصل المقصود بمرة والثاني: أنه تكفيه الإشارة لأنها تتميز بالإشارة كما تتميز في النكاح والطلاق.
فصل: وإن كان القذف بالزنا كرره في الألفاظ الخمسة فإن قذفها بزناءين ذكرهما في الألفاظ الخمسة لأنه يكون صادقاً في أحدهما: دون الآخر فإن سمى الزاني بها ذكره في اللعان في كل مرة لأنه ألحق به المعرة في إفساد الفراش فكرره في اللعان كالمرأة فإن قذفها بالزنا وانتفى من الولد قال في كل مرة وإن هذا الولد من زنا وليس مني فإن قال هذا الولد ليس مني ولم يقل من زنا لم ينتف لأنه يحتمل أن يريد أنه ليس مني في الخلق أو الخلق وإن قال هذا الولد من زنا ولم يقل وليس مني ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول القاضي أبي حامد المروزي أنه ينتفي منه لأن ولد الزنا لا يلحق به والثاني: وهو قول الشيخ أبي حامد الإسفرايني أنه لا ينتفى لأنه قد يعتقد أن الوطء في النكاح بلا ولي زنا على قول أبي بكر الصيرفي فوجب أن يذكر أنه ليس مني لينتفي الاحتمال.
فصل: وإذا لاعن الزوج سقط عنه ما وجب بقذفه من الحد أو التعزير والدليل عليه

(3/90)


ما روى عبد الله بن عباس رضي الله عنه أن هلال بن أمية قذف امرأته فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " البينة أوحد في ظهرك" فقال هلال: والذي بعثك بالحق إني لصادق ولينزلن الله في أمري ما يبرئ ظهري من الحد فنزلت {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} فسري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أبشر يا هلال فقد جعل الله لك فرجا ومخرجا " فقال هلال: قد كنت أرجوا ذلك من ربي عز وجل وإن قذفها برجل فسماه في اللعان سقط عنه حده لأنه سماه في اللعان فسقط حده كالمرأة فإن لم يسمه في اللعان ففيه وجهان: أحدهما: يسقط حده لأنه أحد الزانيين فسقط حده باللعان كالزوجة والثاني: لا يسقط حده لأنه لم يسمه في اللعان فلم يسقط حده كالزوجة إذا لم يسمها فعلى هذا إذا أراد إسقاط حده استأنف اللعان وذكره وأعاد ذكر الزوجة.
فصل: وإن نفى باللعان نسب ولد انتفى عنه لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن رجلاً لاعن امرأته في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتفى عن ولدها ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما وألحق الولد بالمرأة فإن لم يذكر النسب في اللعان أعاد اللعان لأنه لم ينتف باللعان الأول.
فصل: ويجب على المرأة حد الزنا لأنه بينة حقق بها الزنا عليها فلزمها الحد كالشهادة ولا يجب على الرجل الذي رماها به حد الزنا لأنه لا يصح منه درء الحد باللعان فلم يجب عليه الحد باللعان
فصل: وإن كان اللعان في نكاح صحيح وقعت الفرقة لحديث ابن عمر رضي الله عنه وحرمت عليه على التأبيد لما روى سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: مضت السنة في المتلاعنين أن يفرق بينهما ثم لا يجتمعان أبداً فإن كان اللعان في نكاح فاسد أو كان اللعان بعد البينونة في زنا أضافه إلى حال الزوجية فهل تحرم المرأة على التأبيد ففيه وجهان: أحدهما: تحرم وهو الصحيح لأن ما وجب تحريماً مؤبداً إذا كان في نكاح أوجبه وإن لم يكن في نكاح كالرضاع والثاني: لا يحرم لأن التحريم تابع للفرقة ولم يقع بهذا اللعان فرقة فلم يثبت به تحريم.
فصل: وللمرأة أن تدرأ حد الزنا عنها باللعان لقوله عز وجل: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ

(3/91)


أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِالله إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ} [النور: 8] ولا تذكر المرأة للنسب في اللعان لأنه لا مدخل لها في إثبات النسب ولا في نفيه
فصل: إذا لاعن الزوج ثم أكذب نفسه وجب عليه حد القذف إن كان المرأة محصنة أو التعزير إن لم تكن محصنة ولحقه النسب لأن ذلك حق عليه فعاد بتكذيبه ولا يعود الفراش ولا يرتفع التحريم لأنه حق له فلا يعود بتكذيبه نفسه وإن لاعنت المرأة ثم أكذبت نفسها وجب عليها حد الزنا لأنه لا يتعلق بلعانها أكثر من سقوط حق الزنا وهو حق عليها فعاد بإكذابها.
فصل: وإن مات الزوج قبل اللعان وقعت الفرقة بالموت وورثته الزوجة لأن الزوجية بقيت إلى الموت فإن كان هناك ولد ورثه لأنه مات قبل نفيه وما وجب عليه من الحد أو التعزير بقذفها يسقط بموته لأنه اختص ببدنه وقد فات وإن ماتت الزوجة قبل لعان الزوج وقعت الفرقة بالموت وورثها الزوج لأن الزوجية بقيت إلى الموت وإن كان هناك ولد فله أن يلاعن لنفيه لأن الحاجة داعية إلى نفيه فإن طالبه ورثتها بحد القذف لاعن لإسقاطه ولا يسقط من الحد لولم يلاعن شيء لحقه من الإرث كما يسقط ما لها عليه من القصاص لأن القصاص ثبت مشتركاً بين الورثة فإذا سقط ما يخصه بالإرث سقط الباقي وحد القذف يثبت جميعه لكل واحد من الورثة ولهذا لو عفا بعضهم عن حقه كان للباقين أن يستوفوا الجميع فإن مات الولد قبل أن ينفيه باللعان جاز له نفيه باللعان لأنه يلحقه نسبه بعد الموت فجاز له نفيه وإذا نفاه لم يرثه لأنا تبينا باللعان أنه لم يكن ابنه.
فصل: إذا قذف امرأته وامتنع من اللعان فضرب بعض الحد ثم قال أنا ألاعن سمع اللعان وسقط ما بقي من الحد وكذلك إذا نكلت المرأة عن اللعان فضربت بعض الحد ثم قالت أنا ألاعن سمع اللعان وسقط بقية الحد لأن ما أسقط جميع الحد أسقط بعضه كالبينة.
فصل: إذا قذفها ثم تلاعنا ثم قذفها نظرت فإن كان بالزنا الذي تلاعنا عليه لم يجب حد لأن اللعان في حقه كالبينة ولو أقام البينة على القذف ثم أعاد القذف لم يجب الحد فكذلك إذا لاعن وإن قذفها بزنا آخر ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا يجب الحد لأن اللعان في حقه كالبينة ثم بالبينة يبطل إحصانها فكذلك في اللعان والثاني: يجب عليه الحد لأن اللعان لا يسقط إلا ما يجب بالقذف في الزوجية لحاجته إلى قذف الزوجة وقد زالت الزوجية باللعان فزالت الحاجة إلى القذف فلزمه الحد وإن تلاعنا ثم قذفها أجنبي حد لأن اللعان حجة يختص بها الزوج فلا يسقط به الحد عن الأجنبي فإذا قذفها ولاعنها

(3/92)


ونكلت عن اللعان فحدت فقد اختلف أصحابنا فيها فقال أبو العباس لا يرتفع إحصانها إلا في حق الزوج فإن قذفها أجنبي وجب عليه الحد لأن اللعان حجة اختص بها الزوج فلا يبطل به الإحصان إلا في حقه وقال أبو إسحاق يرتفع إحصانها في حق الزوج والأجنبي فلا يجب على واحد منهما الحد بقذفها لأنها محدودة في الزنا فلم يحد قاذفها كما لوحدت بالإقرار أو البينة.

(3/93)