المهذب في فقة الإمام الشافعي

كتاب الديات
باب من تجب الدية بقتله وما تجب به الدية من الجنايات
تجب الدية بقتل المسلم لقوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] وتجب بقتل الذمي والمستأمن ومن بيننا وبينهم هدنة لقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] وتجب بقتل من لم تبلغه الدعوة لأنه محقون الدم مع كونه من أهل القتال فكان مضموناً بالقتل كالذمي.
فصل: وإن قطع طرف مسلم ثم ارتد ومات على الردة وقلنا إنه لا يجب القصاص في طرفه أو قلنا يجب فعفى عن القصاص على مال ففيه قولان: أحدهما: لا تجب دية الطرف لأنه تابع للنفس في الدية فإذا لم تجب دية النفس لم تجب دية الطرف والثاني: أنه تجب وهو الصحيح لأنه الجناية أوجبت دية الطرف والردة قطعت سراية الجريح فلا تسقط ما تقدم وجوبه كما لو قطع يد رجل ثم قتل الرجل نفسه فإن جرح مسلماً ثم ارتد ثم أسلم ومات فإن أقام في الردة زماناً تسري فيه الجناية ففيه قولان: أحدهما: تجب دية كاملة لأن الاعتبار في الدية بحال استقرار الجناية والدليل عليه أنه لو قطع يديه ورجليه واندملت وجبت له ديتان ولو سرت إلى النفس وجبت دية وهذا مسلم في حال استقرار الجناية فوجب فيه دية مسلم والثاني: يجب نصف الدية لأن الجناية في حال الإسلام توجب والسراية في حال الردة تسقط فوجب النصف كما لو جرحه رجل وجرح نفسه فمات وإن لم يقم في الردة زماناً تسري فيه الجناية وجبت دية مسلم لأنه مسلم في حال الجناية وفي حال استقرار الجناية ولا تأثير لما مضى في حال الردة فلم يكن له حكم.
فصل: وإن قطع يد مرتد ثم أسلم ومات لم يضمن ومن أصحابنا من قال: تجب فيه دية مسلم لأنه مسلم في حال استقرار الجناية فوجبت ديته والمذهب الأول لأنها سراية قطع غير مضمون فلم يضمن كسراية القصاص وقطع السرقة.
فصل: وإن أرسل سهماً على حربي فأصابه وهو مسلم ومات وجبت فيه دية مسلم وقال أبو جعفر الترمذي لا يلزمه شيء لأنه وجد السبب من جهته في حال هو مأمور بقتله ولا يمكنه تلافي فعله عند الإسلام فلا يجب ضمانه كما لو جرحه ثم أسلم ومات والمذهب الأول لأن الاعتبار بحال الإصابة دون الارسال لأن الارسال سبب والإصابة جناية والاعتبار بحال الجناية لا بحال السبب والدليل عليه أنه لو حفر بئراً في

(3/202)


الطريق وهناك حربي فأسلم ووقع فيها ومات ضمنه وإن كان عند السبب حربياً ويخالف إذا جرحه ثم أسلم ومات لأن الجناية هناك حصلت وهو غير مضمون وإن أرسل سهماً على مسلم فوقع به وهو مرتد فمات لم يضمن لأن الجناية حصلت وهو غير مضمون فلم يضمنه كما لو أرسله على حي فوقع به وهو ميت.
فصل: وإن قتل مسلماً تترس به الكفار لم يجب القصاص لأنه لا يجوز أن يجب القصاص مع جواز الرمي وأما الدية فقد قال في موضع تجب وقال في موضع إن علمه مسلماً وجبت فمن أصحابنا من قال هو على قولين: أحدهما: أنها تجب لأنه ليس من جهته تفريط في الإقامة بين الكفار فلم يسقط ضمانه والثاني: أنه لا تجب لأن القاتل مضطر إلى رميه ومنهم من قال: إن علم أنه مسلم لزمه ضمانه وإن لم يعلم لم يلزمه ضمانه لأن مع العلم بإسلامه يلزمه أن يتوقاه ومع الجهل بإسلامه لا يلزمه أن يتوقاه وحمل القولين على هذين الحالين وقال أبو إسحاق إن عنيه بالرمي ضمنه وإن لم يعنه لم يضمنه وحمل القولين على هذين الحالين.
فصل: وتجب الدية بقتل الخطأ لقوله عز وجل: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 492] وتجب بقتل العمد في أحد القولين وبالعفو على الدية في القول الآخر وقد بيناه في الجنايات وتجب بشبه العمد لما روى عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ألا إن في دية الخطأ شبه العمد ما كان بالسوط والعصا مائة من الإبل منها أربعون خافة في بطونها أولادها" 1. فإن غرز إبرة في غير مقتل فمات وقلنا إنه لا يجب عليه القصاص ففي الدية وجهان: أحدهما: أنها تجب لأنه قد يفضي إلى القتل والثاني: لا تجب بأقل المثقل وهو الضرب بالقلم والرمي بالحصاة لم تجب بأقل المحدد.
فصل: وتجب على الجماعة إذا اشتركوا في القتل وتقسم بينهم على عددهم لأنه بدل متلف يتجزأ فقسم بين الجماعة على عددهم كغرامة المال فإن اشترك في القتل اثنان وهما من أهل القود فللولي أن يقتص من أحدهما: ويأخذ من الآخر نصف الدية وإن كان أحدهما: من أهل القود والآخر من أهل الدية فله أن يقتص ممن عليه القود ويأخذ من الآخر نصف الدية.
__________
1 رواه النسائي في كتاب القسامة باب 33، 34. ابن ماجه في كتاب الديات باب 5، 22. أحمد في مسنده 2/11،36.

(3/203)


فصل: وتجب الدية بالإشهاد فإن شهد اثنان على رجل بالقتل فقتل بشهادتهما بغير حق ثم رجعا عن الشهادة كان حكمهما في الدية حكم الشريكين لما روي أن شاهدين شهدا عند علي كرم الله وجهه على رجل أنه سرق فقطعه ثم رجعا عن شهادتهما فقال لو أعلم أنكما تعمدتما لقطعت أيديكما وأغرمهما دية يده.
فصل: وإن أكره رجل على قتل رجل فقتله فإن قلنا إنه يجب القود عليهما فللولي أن يقتل من شاء منهما ويأخذ نصف الدية من الآخر لأنهما كالشريكين في القتل إذا كانا من أهل القود وإن قلنا لا يجب القود إلا على المكره الآمر دون المكره فللولي أن يقتل المكره ويأخذ من الآخر نصف الدية لأنهما كالشريكين غير أن القصاص يسقط بالشبهة فسقط عنه والدية لا تسقط بالشبهة فوجب عليه نصفها.
فصل: وإن طرح رجلاً في نار يمكنه الخروج منها فلم يخرج حتى مات ففيه قولان: أحدهما: أنه تجب الدية لأن ترك التخلص من الهلاك لا يسقط به ضمان الجناية كما لو جرحه جراحة وقدر المجروح على مداواتها فترك المداواة حتى مات والقول الثاني: أنها لا تجب وهو الصحيح لأن طرحه في النار لا يحصل به التلف وإنما يحصل ببقائه فيها باختياره فسقط ضمانه كما لو جرحه جرحاً يسيراً لا يخاف منه فوسعه حتى مات وإن طرحه في ماء يمكنه الخروج منه فلم يخرج حتى مات ففيه طريقان: من أصحابنا من قال فيه قولان كالنار ومنهم من قال لا تجب قولاً واحداً لأن الطرح في الماء ليس بسبب الهلاك لأن الناس يطرحون أنفسهم في الماء للسباحة وغيرها وإنما حصل الهلاك بمقامه فيه فسقط ضمانه بخلاف النار.
فصل: وإن شد يده ورجليه وطرحه في الساحل فزاد الماء وهلك فيه نظرت فإن كانت الزيادة معلومة الوجود كالمد بالبصرة فهو عمد محض ويجب به القصاص لأنه قصد تغريقه وإن كان قد يزيد وقد لا يزيد فهو عمد خطأ وتجب به الدية المغلظة فإن كان في موضع لا يزيد فيه الماء فزاد وهلك فيه فهو خطأ محض وتجب فيه الدية مخففة وإن شد يديه ورجليه وطرحه في أرض مسبعة فقتله السبع فهو عمد خطأ وتجب فيه دية

(3/204)


مغلظة وإن كان في أرض غير مسبعة فقتله السبع فهو خطأ محض وتجب فيه دية مخففة.
فصل: وإن سلم صبياً إلى سابح ليعلمه السباحة فغرق ضمنه السابح لأنه سلمه إليه ليحتاط في حفظه فإذا هلك بالتعليم نسب إلى التفريط فضمنه كالمعلم إذا ضرب الصبي فمات وإن سلم البالغ نفسه إلى السابح فغرق لم يضمنه لأنه في يد نفس فلا ينسب إلى التفريط في هلاكه إلى غيره فلا يجب ضمانه.
فصل: وإن كان صبي على طرف سطح فصاح رجل ففزع فوقع من السطح ومات ضمنه لأن الصياح سبب لوقوعه وإن كان صياحه عليه فهو عمد خطأ وإن لم يكن صياحه عليه فهو خطأ وإن كان بالغ على طرف سطح فسمع الصيحة في حال غفلته فخر ميتاً ففيه وجهان: أحدهما: أنه كالصبي لأن البالغ في حال غفلته يفزع من الصيحة كما يفزع الصبي والثاني: لا يضمن لأن معه من الضبط ما لا يقع به مع الغفلة.
فصل: وإن بعث السلطان إلى امرأة ذكرت عنده بسوء ففزعت فألقت جنيناً ميتاً وجب ضمانه لما روي أن عمر رضي الله عنه أرسل إلى امرأة مغيبة كان يدخل عليها فقالت: يا ويلها مالها ولعمر فبينا هي في الطريق إذ فزعت فضربها الطلق فألقت ولداً فصاح الصبي صيحتين ثم مات فاستشار عمر رضي الله عنه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فأشار بعضهم أن ليس عليك شيء إنما أنت وال ومؤدب وصمت علي رضي الله عنه فأقبل عليه فقال ما تقول يا أبا الحسن فقال: إن كانوا قالوا برأيهم فقد أخطأ رأيهم وإن كانوا قالوا في هواك فلم ينصحوا لك إن ديته عليك لأنك أنت أفزعتها فألقت وإن فزعت المرأة فماتت لم تضمن لأن ذلك ليس بسبب لهلاكها في العادة.
فصل: وإن طلب رجل بصيراً بالسيف فوقع في بئر أو ألقى نفسه من شاهق فمات لم يضمن لأن الطلب سبب والالقاء مباشرة فإذا اجتمعا سقط حكم السبب بالمباشرة ولأن الطالب لم يلجئه إلى الوقوع لأنه لو أدركه جاز أن لا يجني عليه فصار كما لو جرحه رجل فذبح المجروح نفسه وإن طلب ضريراً فوقع في بئر أومن شاهق ومات فإن كان عالماً بالشاهق أو بالبئر لم يضمن لأنه كالبصير وإن لم يعلم وجب ضمانه لأنه ألجأه إليه فتعلق به الضمان كالشهود إذا شهدوا بالقتل ثم رجعوا وإن كان المطلوب صبياً أو مجنوناً ففيه وجهان بناء على القولين في عمدهما هل هو عمد أو خطأ فإن قلنا إن عمدهما عمد لم يضمن الطالب الدية وإن قلنا إنه خطأ ضمن وإن طلب رجل رجلاً فافترسه سبع في طريقه نظرت فإن ألجأه الطالب إلى موضع السبع ضمنه كما لو ألقاه

(3/205)


عليه وإن لم يلجئه إليه لم يضمنه لأنه لم يلجئه إليه وإن انخسف من تحته سقف فسقط ومات ففيه وجهان: أحدهما: لا يضمن كما لا يضمن إذا افترسه سبع والثاني: يضمن لأنه ألجأه إلى ما لا يمكنه الاحتراز منه.
فصل: وإن رماه من شاهق فاستقبله رجل بسيف فقده نصفين نظرت فإن كان من شاهق يجوز أن يسلم الواقع منه وجب الضمان على القاطع لأن الرامي كالجارح والقاطع كالذابح وإن كان من شاهق لا يسلم الواقع منه ففيه وجهان: أحدهما: أنه يجب الضمان عليهما لأن كل واحد منهما سبب للاتلاف فصار كما لو جرحاه والثاني: أن الضمان على القاطع لأن الرامي إنما يكون سبباً للتلف إذا وقع المرمي على الأرض وههنا لم يقع على الأرض وصار الرامي صاحب سبب والقاطع مباشراً فوجب الضمان على القاطع.
فصل: إذا زنى بامرأة وهي مكرهة وأحبلها وماتت من الولادة ففيه قولان: أحدهما: يجب عليه ديتها لأنها تلفت بسبب من جهته تعدى به فضمنها والثاني: لا يجب لأن السبب انقطع حكمه بنفي النسب عنه.
فصل: وإن حفر بئراً في طريق الناس أو وضع فيه حجراً أو طرح فيه ماء أو قشر بطيخ فهلك به إنسان وجب الضمان عليه لأنه تعدى به فضمن من هلك به كما لو جنى عليه وإن حفر بئراً في الطريق ووضع آخر حجراً فعثر رجل بالحجر ووقع في البئر فمات وجب الضمان على واضع الحجر لأنه هو الذي ألقاه في البئر فصار كما لو ألقاه فيها بيده وإن وضع رجل حجراً في الطريق فدفعه رجل على هذا الحجر فمات وجب الضمان على الدافع لأن الدافع مباشر وواضع الحجر صاحب سبب فوجب الضمان على المباشر وإن وضع رجل حجراً في الطريق ووضع آخر حديدة بقربه فعثر رجل بالحجر ووقع على الحديدة فمات وجب الضمان على واضع الحجر وقال أبو الفياض البصري إن كانت الحديدة سكيناً قاطعة وجب الضمان على واضع السكين دون واضع الحجر والأول هو الصحيح لأن الواضع هو المباشر وإن حفر بئراً في طريق لا يستضر به الناس فإن حفرها لنفسه كان حكمه حكم الطريق الذي يستضر الناس بحفر البئر فيه لأنه لا يجوز أن يختص بشيء من طريق المسلمين وإن حفرها لمصلحة الناس فإن كان بإذن الإمام فهلك به إنسان لم يضمن لأن ما فعله بإذن الإمام للمصلحة جائز فلا يتعلق به الضمان وإن كان بغير إذنه ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا يضمن لأنه حفرها لمصلحة المسلمين من غير إضرار فصار كما لو حفرها بإذن الإمام والثاني: أنه يضمن لأن ما تعلق

(3/206)


بمصلحة المسلمين يختص به الإمام فمن افتات عليه فيه كان متعدياً فضمن من هلك به وإن بنى مسجدا في موضع لا ضرر فيه أو علق قنديلاً في مسجد أو فرش فيه حصراً من غير إذن الإمام فهلك به إنسان فهو كالبئر التي حفرها للمسلمين وإن حفر بئراً في موات ليتملكها أو لينتفع بها الناس لم يضمن من هلك بها لأنه غير متعد في حفرها وإن كان في داره بئر قد غطى رأسها وكلب عقور فدخل رجل داره بغير إذنه فوقع في البئر فمات ففي ضمانه قولان كالقولين فيمن قدم طعاماً مسموماً إلى رجل فأكله فمات وإن قدم صبياً إلى هدف فأصابه سهم فمات ضمنه لأن الرامي كالحافر للبئر والذي قدمه كالملقي فيها فكان الضمان عليه وإن ترك على حائط جرة ماء فرمتها الريح على إنسان فمات لم يضمنه لأنه وضعها في ملكه ووقعت من غير فعله وإن بنى حائطاً في ملكه فمال الحائط إلى الطريق ووقع على إنسان فقتله ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول إسحاق أنه يضمن لأنه لما مال إلى الطريق لزمه أزالته فإذا لم يزله صار متعدياً بتركه فضمن من هلك به كما لو أوقع حائطاً مائلاً إلى الطريق وترك نقضه حتى هلك به إنسان والثاني: وهو قول أبي سعيد الإصطخري أنه لا يضمن وهو المذهب لأنه بناه في ملكه ووقع من غير فعله فأشبه إذا وقع من غير ميل.
فصل: وإن أخرج جناحاً إلى الطريق فوقع على إنسان ومات ضمن نصف ديته لأن بعضه في ملكه وبعضه خارج ملكه فسقط نصف الدية لما في ملكه وضمن نصفها للخارج عن ملكه وإن انكسرت خشبة من الخارج فوقعت على إنسان فمات ضمن جميع الدية لأنه هلك بالخارج من ملكه وإن نصب ميزاناً فوقع على إنسان فمات به ففيه قولان: قال في القديم لا يضمن لأنه غير مضطر إليه ولا يجد بداً منه بخلاف الجناح وقال في الجديد يضمن لأنه غير مضطر إليه لأنه كان يمكنه أن يحفر في ملكه بئراً يجري الماء إليها فكان كالجناح.
فصل: وإن كان معه دابة فأتلفت إنساناً أو مالاً بيدها أو رجلها أو نابها أو بالت في الطريق فزلق ببولها إنسان فوقع ومات ضمنه لأنها في يده وتصرفه فكانت جنايتها كجنايته.
فصل: وإن اصطدم فارسان أو راجلان وماتا وجب على كل واحد منهما نصف دية الآخر وقال المزني إن استلقى أحدهما: فانكب الآخر على وجهه وجب على المكب

(3/207)


دية المستلقي وهدر دمه لأن الظاهر أن المنكب هو القاتل والمستلقي هو المقتول وهذا خطأ لأن كل واحد منهما هلك بفعله وفعل صاحبه فهدر النصف بفعله ووجب النصف بفعل صاحبه كما لو جرح كل واحد منهما نفسه وجرحه صاحبه ووجه قول المزني لا يصح لأنه يجوز أن يكون المستلقي صدم صدمة شديدة فوقع مستلقياً من شدة صدمته وإن ركب صبيان أو أركبهما وليهما واصطدما وماتا فهما كالبالغين وإن أركبهما من لا ولاية له عليهما واصطدما وماتا وجب على الذي أركبهما دية كل واحد منهما النصف بسبب ما جنى كل واحد من الصبيين على نفسه والنصف بسبب ما جناه الآخر عليه وإن اصطدمت امرأتان حاملان فماتتا ومات جنيناهما كان حكمهما في ضمانهما حكم الرجلين فأما الحمل فأنه يجب على كل واحدة منهما نصف دية جنينها ونصف دية جنين الأخرى لجنايتهما عليهما.
فصل: وإن وقف رجل في ملكه أوفي طريق واسع فصدمه رجل فماتا هدر دم الصادم لأنه هلك بفعل هو مفرط فيه فسقط ضمانه كما لو دخل دار رجل فيها بئر فوقع فيها وتجب دية المصدوم على عاقلة الصادم لأنه قتله بصدمة هو متعد فيها وإن وقف في طريق ضيق فصدمه رجل وماتا وجب على عاقلة كل واحد منهما دية الآخر لأن الصادم قتل الواقف بصدمة هو مفرط فيها والمصدوم قتل الصادم بسبب هو مفرط فيه وهو وقوفه في الطريق الضيق وإن قعد في طريق ضيق فعثر به رجل فماتا كان الحكم فيه كالحكم في الصادم والمصدوم وقد بيناه.
فصل: فإن اصطدمت سفينتان وهلكتا وما فيهما فإن كان بتفريط من القيمين بأن قصر في آلتهما أو قدرا على ضبطهما فلم يضبطا أو سيراً في ريح شديدة لا تسير السفن في مثلها وإن كانت السفينتان وما فيهما لهما وجب على كل واحد منهما نصف قيمة سفينة صاحبه ونصف قيمة ما فيها ويهدر النصف وإن كانتا لغيرهما وجب على كل واحد منهما نصف قيمة سفينته ونصف قيمة ما فيها ونصف قيمة سفينة صاحبه ونصف قيمة ما فيها لما بيناه في الفارسين فإن كان في السفن رجال فهلكوا ضمن عاقلة كل واحد منهما نصف ديات ركاب سفينته وركاب سفينة صاحبه فإن قصدا الاصطدام وشهد أهل الخبرة أن مثل هذا يوجب التلف وجب على كل واحد منهما القصاص لركاب سفينته وركاب سفينة صاحبه وإن لم يفرطا ففي الضمان قولان أحدهما: يجب كما يجب في اصطدام الفارسين إذا عجزا عن ضبط الفرسين والثاني: لا يجب لأنها تلفت من غير تفريط منهما

(3/208)


فأشبه إذا تلفت بصاعقة واختلف أصحابنا في موضع القولين فمنهم من قال القولان إذا لم يكن من جهتهما فعل بأن كانت السفن واقفة فجاءت الريح فقلعتها فإما إذا سارت ثم جاءت الريح فغلبتهما ثم اصطدما وجب الضمان قولاً واحداً لأن ابتداء السير كان منهما فلزمهما الضمان كالفارسين وقال أبو إسحاق وأبو سعيد القولان في الحالين وفرقوا بينهما وبين الفارسين بأن الفارس يمكنه ضبط الفرس باللجام والقيم لا يمكنه ضبط السفينة فإذا قلنا إنه يجب الضمان كان الحكم فيه كالحكم فيه إذا فرطا إلا في القصاص فإنه لا يجب مع عدم التفريط وإن قلنا إنه لا يجب الضمان نظرت فإن كانت السفن وما فيها لهما لم يجب على كل واحد منهما ضمان وإن كانت السفن مستأجرة والمتاع الذي فيها أمانة كالوديعة ومال المضاربة لم يضمن لأن الجميع أمانة فلا تضمن مع عدم التفريط وإن كانت السفن مستأجرة والمتاع الذي فيها يحمل بأجرة لم يجب ضمان السفن لأنها أمانة وأما المال فهو مال في اليد أجير مشترك فإن كان معه صاحبه لم يضمن ولم يكن معه صاحبه فعلى القولين في الأجير المشترك وأن كان أحدهما: مفرطاً والآخر غير مفرط كان الحكم في المفرط ما ذكرناه إذا كانا مفرطين والحكم في غير المفرط ما ذكرناه إذا كانا غير مفرطين.
فصل: إذا كان في السفينة متاع لرجل فثقلت السفينة فقال رجل لصاحب المتاع ألق متاعك في البحر وعلي ضمانه فألقاه وجب عليه الضمان وقال أبو ثور لا يجب لأنه ضمان ما لم يجب وهذا خطأ لأن ذلك ليس بضمان لأن الضمان يفتقر إلى مضمون عنه وليس ههنا مضمون عنه وإنما هو استدعاء إتلاف بعوض صحيح فإن قال ألق متاعك وعلي وعلى ركاب السفينة ألف فألقاه لزمه بحصته فإن كانوا عشرة لزمه مائة وإن كانوا خمسة لزمه مائتان لأنه جعل الألف على الجميع فلم يلزمه أكثر من الحصة فإن قال أنا أقيه على أني وهم ضمناء فألقاه ففيه وجهان: أحدهما: أنه يجب عليه الحصة لما ذكرناه والثاني: يجب عليه ضمان الجميع لأنه باشر الإتلاف.
فصل: فإن رمي عشرة أنفس حجراً بالمنجنيق فرجع الحجر وقتل أحدهم سقط من ديته العشر ووجب تسعة أعشار الدية على الباقين لأنه مات من فعله وفعلهم فهدر بفعله العشر ووجب الباقي على التسعة.
فصل: وإذا وقع رجل في بئر ووقع آخر خلفه من غير جذب ولا دفع فإن مات الأول وجبت ديته على الثاني لما روى علي بن رباح اللخمي أن بصيراً كان يقود أعمى

(3/209)


فوقعا في بشر فوقع الأعمى فوق البصير فقتله فقضى عمر رضي الله عنه بعقل البصير على الأعمى فكان الأعمى ينشد في الموسم:
يا أيها الناس لقيت منكرا ... يعقل الأعمى الصحيح المبصرا ... خرا معاً كلاهما تكسراً
ولأن الأول مات بوقوع الثاني عليه فوجبت ديته عليه وإن مات الثاني هدرت ديته لأنه لا صنع لغيره في هلاكه وإن ماتا جميعاً وجبت دية الأول على الثاني وهدرت دية الثاني لما ذكرناه فإن جذب الأول الثاني ومات الأول هدرت ديته لأنه مات بفعل نفسه وإن مات الثاني وجبت ديته على الأول لأنه بجذبه وإن وقع الأول ثم وقع الثاني ثم وقع الثالث فإن كان وقوعهم من غير جذب ولا دفع وجبت دية الأول على الثاني والثالث لأنه مات بوقوعهما عليه وتجب دية الثاني على الثالث لأنه انفرد بالوقوع عليه فانفرد بديته وتهدر دية الثالث لأنه مات من وقوعه فإن جذب بعضهم بعضاً بأن وقع الأول وجذب الثاني وجذب الثاني الثالث وماتوا وجب للأول نصف دية على الثاني لأنه مات من فعله بجذب الثاني ومن فعل الثاني بجذب الثالث فهدر النصف بفعله ووجب النصف ويجب للثاني نصف الدية على الأول لأنه جذبه ويسقط نصفها لأنه جذب الثالث ويجب للثالث الدية لأنه لا فعل له في هلاك نفسه وعلى من تجب فيه وجهان: أحدهما: أنها تجب على الثاني لأنه هو الذي جذبه والوجه الثاني أنها تجب على الأول والثاني: نصفين لأن الثاني جذبه والأول جذب الثاني فاضطره إلى جذب الثالث وكان كل واحد منهما سبباً في هلاكه فوجبت الدية عليهما.
فصل: وإن تجارح رجلان وادعى كل واحد منهما على صاحبه أنه قصد قتله فجرحه دفعا عن نفسه فالقول قول كل واحد منهما مع يمينه أنه ما قصد قتل صاحبه فإذا حلفا وجب على كل واحد منهما ضمان جرحه لأن الجرح قد وجد وما يدعيه كل واحد منهما من قصد الدفع عن نفسه لم يثبت فوجب الضمان.

(3/210)


باب الديات
دية الحر المسلم مائة من الإبل لما روى أبو بكر محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن بكتاب فيه الفرائض والسنن والديات وقريء على أهل اليمن أن في النفس مائة من الإبل فإن كانت الدية في عمد أو شبه عمد وجبت مائة مغلظة أثلاثاً ثلاثون حقة وثلاثون جذعة وأربعون خلفة وقال أبو

(3/210)


ثور: دية شبه العمد أخماساً عشرون بنت مخاض وعشرون بنت لبون وعشرون ابن لبون وعشرون حقة وعشرون جذعة لأنه لما كانت كدية الخطأ في التأجيل والحمل على العاقلة كانت كدية الخطأ في التخميس وهذا خطأ لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب يوم فتح مكة فقال: "ألا إن دية الخطأ شبه العمد قتيل السوط والعصا دية مغلظة مائة من الإبل منها أربعون خلفة في بطونها أولادها". وروى مجاهد عن عمر رضي الله عنه أن دية شبه العمد ثلاثون حقة وثلاثون جذعة وأربعون خلفة ويخالف الخطأ فإنه لم يقصد القتل ولا الجناية فخفف من كل وجه وفي شبه العمد لم يقصد القتل فجعل كالخطأ في التأجيل والحمل على العاقلة وقصد الجناية فجعل كالعمد في التغليظ بالأسنان وهل يعتبر في الخلفات السن مع الحمل فيه قولان: أحدهما: لا يعتبر لقوله صلى الله عليه وسلم: "منها أربعون خلفة في بطونها أولادها" ولم يفرق والثاني: يعتبر أن تكون ثنيات فما فوقها لأنه أحد أقسام أعداد إبل الدية فاختص بسن كالثلاثين وإن كانت في قتل الخطأ والقتل في غير الحرم وفي غير الأشهر الحرم والمقتول غير ذي رحم محرم للقاتل وجبت دية مخففة أخماساً عشرون بنت مخاض وعشرون بنت لبون وعشرون حقة وعشرون ابن لبون وعشرون جذعة لما روى أبو عبيدة عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال في الخطأ عشرون جذعة وعشرون حقة وعشرون بنت لبون وعشرون ابن لبون وعشرون بنت مخاض وعن سليمان بن يسار أنهم كانوا يقولون دية الخطأ مائة من الإبل عشرون بنت مخاض وعشرون بنت لبون وعشرون ابن لبون وعشرون حقة وعشرون جذعة وإن كان القتل في الحرم أوفي أشهر الحرم وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب أو كان المقتول ذا رحم محرم للقاتل وجبت دية مغلظة لما روى مجاهد أن عمر رضي الله عنه قضى فيمن قتل في الحرم أوفي الأشهر الحرم أو محرماً بالدية وثلث الدية وروى أبو النجيح عن عثمان رضي الله عنه أنه قضى في امرأة قتلت في الحرم فجعل الدية ثمانية آلاف ستة آلاف الدية وألفين للحرم وروى نافع بن جبير أن رجلاً قتل في البلد الحرام في شهر حرام فقال ابن عباس رضي الله عنه اثنا عشر ألفاً وللشهر الحرام أربعة ألاف وللبلد الحرام أربعة آلاف فكملها عشرين ألفاً فإن كان القتل في المدينة ففيه وجهان: أحدهما: أنه يغلظ لأنها كالحرام في تحرم الصيد فكذلك في تغليظ الدية والثاني: لا تغلظ لأنها لا مزية لها على غيرها في تحريم القتل بخلاف الحرم واختلف قوله في عمد الصبي والمجنون فقال في أحد القولين عمدهما خطأ لأنه لو كان عمداً لأوجب القصاص فعلى هذا يجب بعمدهما دية مخففة والثاني: أن عمدهما عمد لأنه يجوز تأديبهما على القتل فكان عمدهما عمداً كالبالغ العاقل فعلى هذا يجب بعمدهما دية مغلظة وما يجب فيه

(3/211)


كالنفس في الدية المغلظة والدية المخففة لأنه كالنفس في وجوب القصاص والدية فكان كالنفس في الدية المغلظة والدية المخففة.
فصل: وتجب الدية من الصنف الذي يملكه من تجب عليه الدية من القاتل أو العاقلة كما تجب الزكاة من الصنف الذي يملكه من تجب عليه الزكاة وإن كان عند بعض العاقلة من البخاتي وعند البعض من العراب أخذ من كل واحد منهم من الصنف الذي عنده وإن اجتمع في ملك كل واحد منهم صنفان ففيه وجهان: أحدهما: أنه يؤخذ من الصنف الأكثر فإن استويا دفع مما شاء منهما والثاني: يؤخذ من كل صنف بقسطه بناء على القولين فيمن وجبت عليه الزكاة وما له أصناف وإن لم يكن عند من تجب عليه الدية إبل وجب من غالب إبل البلد فإن لم يكن في البلد إبل وجب من غالب أقرب البلاد إليه كما قلنا في زكاة الفطر وإن كانت إبل من تجب عليه الدية مراضاً أو عجافاً كلف أن يشتري إبلاً صحاحاً من النصف الذي عنده لأنه بدل متلف من غير جنسه فلا يؤخذ فيها معيب كقيمة الثوب المتلف وإن أراد الجاني دفع العوض عن الإبل مع وجودها لم يجبر الولي على قبوله وإن أراد الولي أخذ العوض عن الإبل مع وجودها لم يجبر الجاني على دفعه لأن ما ضمن لحق الآدمي ببدل لم يجز الإجبار فيه على دفع العوض ولا على أخذه مع وجوده كذوات الأمثال وإن تراضيا على العوض جاز لأنه بدل متلف فجاز أخذ العوض فيه بالتراضي كالبدل في سائر المتلفات.
فصل: وإن أعوزت الإبل أو وجدت بأكثر من ثمن المثل ففيه قولان: قال في القديم يجب ألف دينار أو اثنا عشر ألف درهم لما روى عمرو بن حزم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن في النفس مائة من الإبل وعلى أهل الذهب ألف مثقال وعلى أهل الورق اثنا عشر ألف درهم وروى ابن عباس رضي الله عنه أن رجلاً قتل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل النبي صلى الله عليه وسلم ديته اثني عشر ألفاً فعلى هذا إن كان في قتل يوجب التغليظ غلظ بثلث الدية لما رويناه عن عمر وعثمان وابن عباس في تغليظ الدية للحرم وقال في الجديد تجب قيمة الإبل بالغة ما بلغت لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: كانت قيمة الدية على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانمائة ديناراً وثمانية آلاف درهم وكان ذلك كذلك حتى استخلف عمر رضي الله عنه فقام عمر خطيباً فقال: ألا إن الإبل قد غلت قال فقوم على أهل الذهب ألف دينار وعلى أهل الورق اثني عشر ألف درهم وعلى أهل البقر مائتي بقرة وعلى أهل الشاء ألفي شاة وعلى أهل الحلل مائتي حلة ولأن ما ضمن بنوع من المال وتعذر وجبت قيمته كذوات الأمثال.

(3/212)


فصل: ودية اليهودي والنصراني ثلث دية المسلم ودية المجوسي ثلثا عشر دية المسلم لما روى سعيد بن المسيب أن عمر رضي الله عنه جعل دية اليهودي والنصراني أربعة آلاف درهم ودية المجوسي ثمانمائة درهم وأما الوثني إذا دخل بأمان وعقدت له هدنة فديته ثلثا عشر دية المسلم لأنه كافر لا يحل للمسلم مناكحة أهل ديته وإن لم يعرف وجبت فيه دية المجوسي لأنه متحقق وما زاد مشكوك فيه فلم يجب وقال أبو إسحاق إن كان متمسكاً بدين مبدل وجبت فيه دية أهل ذلك الدين وإن كان متمسكاً بدين لم يبدل وجبت فيه دية مسلم لأنه مولود على الفطرة ولم يظهر منه عناد فكملت ديته كالمسلم والمذهب الأول لأنه كافر فلم تكمل ديته كالذمي وإن قطع يد ذمي ثم أسلم ومات وجبت فيه دية مسلم لأن الاعتبار في الدية بحال استقرار الجناية وهو في حال الاستقرار مسلم وإن جرح مسلم مرتداً فأسلم ومات من الجرح لم يضمن وقال الربيع فيه قول آخر أنه يضمن لأن الجرح استقر وهو مسلم قال أصحابنا هذا من كيس الربيع والمذهب الأول لأن الجرح وجد فيما استحق إتلافه فلم يضمن سرايته كما لو قطع الإمام يد السارق فمات منه.
فصل: ودية المرأة نصف دية الرجل لأنه روي ذلك عن عمر وعثمان وعلي وابن عباس وابن عمر وزيد بن ثابت رضي الله عنهم.
فصل: ودية الجنين الحر غرة عبد أو أمة لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن دية جنيتها غرة عبد أو أمة فقال حمل بن النابغة الهذلي كيف أغرم من لا أكل ولا شرب ولا نطق ولا استهل ومثل ذلك بطل فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما هو من إخوان الكهان من أجل سجعه" 1. وإن ضرب بطن امرأة منتفخة البطن فزال الانتفاخ أو
__________
1 رواه البخاري في كتاب الطب باب 46. مسلم في كتاب القسامة حديث 36. أبو داود في كتاب الديات باب 19. النسائي في كتاب القسامة باب 39. أحمد في مسنده 2/274.

(3/213)


بطن امراة تجد حركة في بطنها فسكنت الحركة لم يجب عليه شيء لأنه يمكن أن يكون ريحاً فانفشت فلم يجب الضمان مع الشك وإن ضرب بطن امرأة فألقت مضغة لم تظهر فيها صورة الآدمي فشهد أربع نسوة أن فيها صورة الآدمي وجبت فيها الغرة لأنهن يدركن من ذلك ما لا يدرك غيرهن وإن ألقت مضغة لم تتصور فشهد أربع نسوة أنه خلق آدمي ولو بقي لتصور فعلى ما بيناه في كتاب عتق أم الولد وإن ضرب بطن امرأة فألقت يداً أو رجلاً أو غيرهما من أجزاء الآدمي وجبت عليه الغرة لأنا تيقنا أنه من جنين والظاهر أنه تلف من جناية فوجب ضمانه وإن ألقت رأسين أو أربع أيد لم يجب أكثر من غرة لأنه يجوز أن يكون جنيناً برأسين أو أربعة أيد فلا يجب ضمان ما زاد على جنين بالشك وإن ضرب بطنها فألقت جنيناً فاستهل أو تنفس أو شرب اللبن ومات في الحال أو بقي متألماً إلى أن مات وجبت فيه دية كاملة وقال المزني إن ألقته لدون ستة أشهر ومات ضمنه بالغرة ولا يلزمه كاملة لأنه لم يتم له حياة وهذا خطأ لأننا تيقنا حياته والظاهر أنه تلف من جنايته فوجب عليه الدية كاملة وإن ألقته حياً وجاء آخر وقتله فإن كان فيه حياة مستقرة كان الثاني هو القاتل في وجوب القصاص والدية الكاملة والأول ضارب في وجوب التعزير وإن قتله وليس فيه حياة مستقرة فالقاتل هو الأول وتلزمه الدية والثاني: ضارب وليس بقاتل لأن جنايته لم تصادف حياة مستقرة وإن ضرب بطن امرأة فألقت جنيناً وبقي زماناً سالماً غير متألم ثم مات لم يضمنه لأن الظاهر أنه لم يمت من الضرب ولا يلزمه ضمانه وإن ضربها فألقت جنيناً فاختلج ثم سكن وجبت فيه الغرة دون الدية لأنه يجوز أن يكون اختلاجه للحياة ويجوز أن يكون بخروجه من مضيق لأن اللحم الطري إذا حصل في مضيق القبض فإذا خرج منه اختلج فلا تجب الدية الكاملة بالشك.
فصل: ولا يقبل في الغرة ما له دون سبع سنين لأن الغرة هي الخيار ومن له دون سبع سنين ليس من الخيار بل يحتاج إلى من يكفله ولا يقبل الغلام بعد خمس عشرة سنة لأنه لا يدخل على النساء ولا الجارية بعد عشرين سنة لأنها تتغير وتنقص قيمتها فلم تكن من الخيار ومن أصحابنا من قال: يقتل ما لم يطعن في السن عبداً كان أو أمة ولا يقبل إذا طعن في

(3/214)


السن لأنه يستغني بنفسه قبل أن يطعن في السن ولا يستغني إذا طعن في السن ولا يقبل فيه خصي وإن كثرت قيمته ولا معيب وإن قل عيبه لأنه ليس من الخيار ولا يقبل إلا ما يساوي نصف عشر الدية لأنه روي ذلك عن زيد بن ثابت رضي الله عنه ولأنه لا يمكن إيجاب دية كاملة لأنه لم يكمل بالحياة ولا يمكن إسقاط ضمانه لأنه خلق بشر فضمن بأقل ما قدر به الأرش وهو نصف عشر الدية لأنه قدر به أرش الموضحة ودية السن ولا يجبر على قبول غير الغرة مع وجودها كما لا يقبل في دية النفس غير الإبل مع وجودها فإن أعوزت الغرة وجب خمس من الإبل لأن الإبل هي أصل في الدية فإن أعوزت وجبت قيمتها في أحد القولين أو خمسون ديناراً أو ستمائة درهم في القول الآخر فإن كانت الجناية خطأ وجبت دية مخففة وإن كانت عمداً أو عمد خطأ وجبت دية مغلظة كما قلنا في الدية الكاملة وإن كان أحد أبويه نصرانياً والآخر مجوسياً وجب فيه نصف عشر دية نصراني لأن في الضمان إذا وجد في أحد أبويه ما يوجب في الآخر ما يسقط غلب الإيجاب ولهذا لو قتل المحرم صيداً متولداً بين مأكول وغير مأكول وجب عليه الجزاء وإن ضرب بطن امرأة نصرانية حامل بنصراني ثم أسلمت ثم ألقت جنيناً ميتاً وجب فيه نصف عشر دية مسلم لأن الضمان يعتبر بحال استقرار الجناية والجنين مسلم عند استقرار الجناية فوجب فيه عشر دية مسلم وما يجب في الجنين يرثه ورثته لأنه بدل حر فورث عنه كدية غيره.

(3/215)


باب أروش الجنايات
والجنايات التي توجب الأورش ضربان: جروح وأعضاء فأما الجروح فضربان شجاج في الرأس والوجه وجروح فيما سواهما من البدن فأما الشجاج فهي عشر: الخارصة وهي التي تكشط الجلد والدامية وهي التي يخرج منها الدم والباضعة وهي التي تشق اللحم والمتلاحمة وهي التي تنزل في اللحم والسمحاق وهي التي تسميها أهل البلد الملطاط وهي التي تستوعب اللحم إلى أن تبقى غشاوة رقيقة فوق العظم والموضحة وهي التي تكشف عن العظم والهاشمية وهي التي تهشم العظم والمنقلة وتسمى أيضاً المنقولة وهي التي تنقل العظم من مكان إلى مكان والمأمومة وتسمى أيضاً الآمة وهي التي تصل إلى أم الرأس وهي جلدة رقيقة تحيط بالدماغ والدامغة وهي التي تصل إلى الدماغ.
فصل: والذي يجب فيه أرش مقدر من هذه الشجاج أربع وهي: الموضحة والهاشمة والمنقلة والمأمومة فأما الموضحة فالواجب فيها خمس من الإبل لما روى أبو بكر محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن

(3/215)


بكتاب فيه الفرائض والسنن والديات وفي الموضحة خمس من الإبل ويجب ذلك في الصغيرة والكبيرة وفي البارزة والمستورة بالشعر لأن اسم الموضحة يقع على الجميع وإن أوضح موضحتين بينهما حاجز وجب عليه أرش موضحتين لأنهما موضحتان وإن أزال الحاجز بينهما وجب أرش موضحة لأنه صار الجميع بفعله موضحة واحدة فصار كما لو أوضح الجميع من غير حاجز وإن تأكل ما بينهما وجب أرش موضحة واحدة لأن سراية فعلهه كفعله وإن أزال المجني عليه الحاجز وجب على الجاني أرش الموضحتين لأن ما وجب بجنايته لا يسقط بفعل غيره وإن جاء آخر فأزال الحاجز وجب على الأول أرش الموضحتين وعلى الآخر أرش موضحة لأن فعل أحدهما: لا يبنى على الآخر فانفرد كل واحد منهما بحكم جنايته وإن أوضح موضحتين ثم قطع اللحم الذي بينهما في الباطن وترك الجلد الذي فوقهما ففيه وجهان: أحدهما: يلزمه أرش موضحتين لانفصالهما في الظاهر والثاني: يلزمه أرش موضحة لاتصالهما في الباطن وإن شج رأسه شجة واحدة بعضها موضحة وبعضها باضعة لم يلزمه أكثر من أرش موضحة لأنه لو أوضح الجميع لم يلزمه أكثر من أرش موضحة فلأن لا يلزمه والإيضاح في البعض أولى وإن أوضح جميع رأسه وقدره عشرون إصبعاً ورأس الجاني خمس عشرة أصبعاً اقتص في جميع رأسه وأخذ عن الربع الباقي ربع أرش موضحة وخرج أبوعلي بن أبي هريرة وجهاً آخر أنه يأخذ عن الباقي أرش موضحة لأن هذا القدر لو انفرد لوجب فيه أرش موضحة وهذا خطأ لأنه إذا انفرد كان موضحة فوجب أرشها وههنا هو بعض موضحة فلم يجب فيه إلا فيه إلا ما يخصه.
فصل: ويجب في الهاشمة عشر من الإبل لما روى قبيصة بن ذؤيب عن زيد بن ثابت أنه قال في الهاشمة عشر من الإبل وإن ضرب رأسه بمثقل فهشم العظم من غير إيضاح ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي علي ابن أبي هريرة أنه تجب فيه الحكومة لأنه كسر عظم من غير إيضاح فأوجب الحكومة ككسر عظم الساق والثاني: وهو قول أبي إسحاق إنه يجب فيه خمس من الإبل وهو الصحيح لأنه لو أوضحه وهشمه وجب عليه عشر من الإبل فدل على أن الخمس الزائدة لأجل الهاشمة وقد وجدت الهاشمة فوجب فيها الخمس وإن هشم هاشمتين بينهما حاجز وجب عليه أرش هاشمتين كما قلنا في الموضحتين.
فصل: ويجب في المنقلة خمس عشرة من الإبل لما روى عمرو بن حزم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن في المنقلة خمس عشرة من الإبل وإن أوضح رأسه موضحة

(3/216)


ونزل فيها إلى الوجه ففيه وجهان: أحدهما: أنه يجب عليه أرش موضحتين لأنه أوضح في عضوين فوجب أرش موضحتين كما لو فصل بينهما والثاني: يجب أرش موضحة لأنها موضحة واحدة فأشبه إذا أوضح في الهامة موضحة ونزل فيها إلى الناصية وإن أوضح في الرأس موضحة ونزل فيها إلى القفا وجب عليه أرش الموضحة في الرأس ويجب عليه حكومة في الجراحة في القفا لأنه ليس بمحل للموضحة فانفرد الجرح فيه بالضمان.
فصل: ويجب في المأمومة ثلث الدية لما روى عكرمة بن خالد أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في المأمومة بثلث الدية وأما الدامغة فقد قال بعض أصحابنا يجب فيها ما يجب في المأمومة وقال قاضي القضاة أبو الحسن الماوردي البصري يجب عليه أرش المأمومة وحكومة لأن خرق الجلد جناية بعد المأمومة فوجب لأجلها حكومة.
فصل: وإن شج رأس رجل موضحة فجاء آخر فجعلها هاشمة وجاء آخر فجعلها منقلة وجاء آخر فجعلها مأمومة وجب على الأول خمس من الإبل وعلى الثاني خمس وعلى الثالث خمس وعلى الرابع ثمان عشر بعيراً وثلث لأن ذلك جناية كل واحد منهم.
فصل: وأما الشجاج التي قبل الموضحة وهي خمسة الخارصة والدامية والباضعة والمتلاحقة والسمحاق فينظر فيها فإن أمكن معرفة قدرها من الموضحة بأن كانت في الرأس موضحة فشج رجل بجنبها باضعة أو متلاحمة وعرف قدر عمقها ومقدارها من الموضحة من نصف أو ثلث أو ربع وجب عليه قدر ذلك من أرش الموضحة لأنه يمكنه تقدير أرشها بنفسها فلم تقدر بغيرها وإن لم يمكن معرفة قدرها من الموضحة وجبت فيها الحكومة لأن تقدير الأرش بالشرع ولم يرد الشرع بتقدير الأرش فيما دون الموضحة وتعذر معرفة قدرها من الموضحة فوجبت فيها الحكومة.
فصل: وأما الجروح فيما سوى الرأس والوجه فضربان: جائفة وغير جائفة فأما غير الجائفة فهي الجراحات التي لا تصل إلى جوف الواجب فيها الحكومة فإن أوضح عظماً في غير الرأس والوجه أو هشمه أو نقله وجب فيه الحكومة لأنها لا تشارك نظائرها من الشجاج التي في الرأس والوجه في الاسم ولا تساويها في الشين والخوف عليه منها فلم تساوها في تقدير الأرش وأما الجائفة وهي التي تصل إلى الجوف من البطن أو الظهار أو الورك أو الصدر أو ثغرة النحر فالواجب فيها ثلث الدية لما روي في حديث عمرو بن حزم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن في الجائفة ثلث الدية فإن أجاف جائفتين بينهما حاجز وجب في كل واحدة منهما ثلث الدية وإن أجاف جائفة فجاء آخر ووسعها في الظاهر والباطن وجب على الثاني ثلث الدية لأن هذا القدر لو انفرد لكان

(3/217)


جائفة فوجب فيه أرش الجائفة فإن وسعها في الظاهر دون الباطن أوفي الباطن دون الظاهر وجب عليه حكومة لأن جنايته لم تبلغ الجائفة وإن جرح فخذه وجر السكين حتى بلغ الورك وأجاف فيه أو جرح الكتف وجر السكين حتى بلغ الصدر وأجاف فيه أو جرح الكتف وجر السكين حتى بلغ الصدر وأجاف فيه وجب عليه أرش الجائفة وحكومة في الجراحة لأن الجراحة في غير موضع الجائفة فانفردت بالضمان كما قلنا فيمن نزل في موضحة الرأس إلى القفا وإن طعن بطنه بسنان فأخرجه من ظهره أو طعن ظهره فأخرجه من بطنه وجب عليه في الداخل إلى جوف أرش الجائفة لأنها جائفة وفي الخارج منه إلى الظاهر وجهان: أحدهما: وهو المنصوص أنه جائفة ويجب فيها أرش جائفة أخرى لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن عمر رضي الله عنه قضى في الجائفة إذا نفذت من الجوف جائفتان ولأنها جراحة نافذة إلى الجوف فوجب فيها أرش جائفة كالداخلة إلى الجوف والثاني: ليس بجائفة ويجب فيها حكومة لأن الجائفة ما تصل من الظاهر إلى الجوف وهذه خرجت من الجوف إلى الظاهر فوجب فيها حكومة.
فصل: وإن طعن وجنته فهشم العظم ووصلت إلى الفم ففيه قولان: أحدهما: أنها جائفة ويجب فيها ثلث الدية لأنها جراحة من ظاهر إلى جوف فأشبهت الجراحة الواصلة إلى الباطن والثاني: أنه ليس بجائفة لأنه لا تشارك الجائفة في إطلاق الاسم ولا تساويها في الخوف عليه فلم تساوها في أرشها فعلى هذا يجب عليه دية هاشمة لأنه هشم العظم ويجب عليه حكومة لما زاد على الهاشمة.
فصل: وإن خاط الجائفة فجاء رجل وفتق الخياطة نظرت فإن كان قبل الإلتحام لم يلزمه أرش لأنه لم توجد منه جناية ويلزمه قيمة الخيط وأجرة المثل للخياطة وإن كان بعد التحام الجميع لزمه أرش جائفة لأنه بالالتحام عاد إلى ما كان قبل الجناية ويلزمه قيمة الخيط ولا تلزمه أجرة الخياطة لأنها دخلت في أرش الجائفة وإن كان بعد التحام بعضها لزمه الحكومة لجنايته على ما التحم وتلزمه قيمة الخيط ولا تلزمه أجرة الخياطة لأنها دخلت في الحكومة.
فصل: وإن أدخل خشبة أو حديدة في دبر إنسان فخرق حاجزاً في الباطن ففيه وجهان بناء على الوجهين فيمن خرق الحاجز بين الموضحتين في الباطن: أحدهما: يلزمه أرش جائفة لأنه خرق إلى الجوف والثاني: تلزمه حكومة لبقاء الحاجز الظاهر.
فصل: وإن أذهب بكارة امرأة بخشبة أو نحوها لزمته حكومة لأنه إتلاف حاجز وليس فيه أرش مقدر فوجبت فيه الحكومة وإن أذهبها بالوطء لم يلزمه أرش لأنها إن طاوعته فقد أذنت فيه وإن أكرهها دخل أرشها في المهر لأنا نوجب عليه مهر بكر.

(3/218)


فصل: وأما الأعضاء فيجب الرش في إتلاف كل عضو فيه منفعة أو جمال فيجب في إتلاف العينين الدية وفي أحدهما: نصفها لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في كتاب كتبه لعمرو بن حزم: "هذا كتاب الجروح في النفس مائة من الإبل وفي العين خمسون من الإبل". فأوجب في كل عين خمسين من الإبل فدل على أنه يجب في العينين مائة ولأنها من أعظم الجوارح جمالاً ومنفعة ويجب في عين الأعور نصف الدية للخبر ولأن ما ضمن بنصف الدية مع بقاء نظيره ضمن به مع فقد نظيره كاليد وإن جنى على عينيه أو رأسه أو غيرهما فذهب ضوء العينين وجبت الدية لأنه أتلف المنفعة المقصودة بالعضو فوجبت ديته كما لو جنى على يده فشلت وإن ذهب الضوء من إحداهما وجب نصف الدية لأن ما أوجب الدية في إتلافهما أوجب نصف الدية في إتلاف إحداهما كاليدين وإن أزال الضوء فأخذت منه الدية ثم عاد وجب رد الدية لأنه لما عاد علمنا أنه لم يذهب لأن الضوء إذا ذهب لم يعد وإن زال الضوء فشهد عدلان من أهل الخبرة أنه يرجى عوده فإن لم يقدرا لعوده مدة معلومة لم ينتظر لأن الانتظار إلى غير مدة معلومة يؤدي إلى إسقاط موجب الجناية وإن قدرا مدة معلومة انتظر وإن عاد الضوء لم يجب شيء وإن لم يعد أحذ الجاني بموجب الجناية من القصاص أو الدية وإن مات قبل انقضاء المدة لم يجب القصاص لأنه موضع شبهة لأنه يجوز أن لا يكون بطل الضوء ولعله لو عاش لعاد والقصاص يسقط بالشبهة وأما الدية فقد قال فيمن قلع سناً وقال أهل الخبرة يرجى عده إلى مدة فمات قبل انقضائها إن في الدية قولين: أحدهما: تجب لأنه أتلف ولم يعد والثاني: لا تجب لأنه لم يتحقق الإتلاف ولعله لو بقي لعاد فمن أصحابنا من جعل في دية الضوء قولين ومنهم من قال تجب دية الضوء قولاً واحداً لأن عود الضوء غير معهود بخلاف السن فإن عودها معهود.
فصل: فإن جنى على عينيه فنقض الضوء منهما فإن عرف مقدار النقصان بأن كان يرى الشخص من مسافة فصار لا يراه إلا من نصف تلك المسافة وجب من الدية بقسطها لأنه عرف مقدار ما نقص فوجب بقسطه وإن لم يعرف قدر النقصان بأن ساء إدراكه وجبت فيه الحكومة لأنه تعذر التقدير فوجبت فيه الحكومة وإن نقص الضوء في إحدى العينين عصبت العليلة وأطلقت الصحيحة ووقف له شخص في موضع يراه ثم لا يزال يبعد الشخص ويسأل عنه إلى أن يقول لا أراه ويمسح قدر المسافة ثم تطلق العليلة وتعصب الصحيحة ولا يزال يقرب الشخص إلى أن يراه ثم ينظر ما بين المسافتين فيجب من الدية بقسطها.

(3/219)


فصل: وإن جنى على عين صبي أو مجنون فذهب ضوء عينه وقال أهل الخبرة قد زال الضوء ولا يعود ففيه قولان: أحدهما: أنه لا يجب عليه في الحال شيء حتى يبلغ الصبي ويفيق المجنون ويدعي زوال الضوء لجواز أن لا يكون الضوء زائلاً والقول الثاني أنه يجب القصاص أو الدية لأن الجناية قد وجدت فتعلق بها موجبها.
فصل: وإن جنى على عين فشخصت أو أحولت وجبت عليه حكومة لأنه نقصان جمال من غير منفعة فضمن بالحكومة وإن أتلف عيناً قائمة وجبت عليه الحكومة لأنه إتلاف جمال من غير منفعة فوجبت فيها الحكومة.
فصل: ويجب في الجفون الدية لأن فيها جمالاً كاملاً ومنفعة كاملة لأنها تقي العين من كل ما يؤذيها ويجب في كل واحد منها ربع الدية لأنه محدود لأنه ذو عدد تجب الدية في جميعها فوجب في كل واحد منها ما يخصها من الدية كالأصابع وإن قلع الأجفان والعينين وجب عله ديتان لأنهما جنسان جب بإتلاف كل واحد منهما الدية فوجب بإتلافهما ديتان كاليدين والرجلين فإن أتلف الأهداب وجبت عليه الحكومة لأنه إتلاف جمال من غير منفعة فضمن بحكومة وإن قلع الأجفان وعليها الأهداب ففيه وجهان: أحدهما: لا يجب للأهداب حكومة لأنه شعر نابت في العضو المتلف فلا يفرد بالضمان كشعر الذراع والثاني: يجب للأهداب حكومة لأن فيها جمالاً ظاهراً فأفردت عن العضو بالضمان.
فصل: ويجب في الأذنين الدية وفي أحدهما: نصفها لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب في كتاب عمرو بن حزم في الأذن خمسون من الإبل فأوجب في الأذن خمسين من الإبل فدل على أنه يجب في الأذنين مائة ولأن فيها جمالاً ظاهراً ومنفعة مقصودة وهو أنها تجمع الصوت وتوصله إلى الدماغ فوجب فيها الدية كالعين وإن قطع بعضها من نصف أو ربع أو ثلث وجب فيه من الدية بقسطه لأن ما وجبت الدية فيه وجبت في بعضه بقسطه كالأصابع وإن ضرب أذنه فاستحشفت ففيه قولان: أحدهما: تجب عليه الدية كما لو ضرب يده فشلت والثاني: تجب عليه الحكومة لأن منفعة الأذن جمع الصوت وذلك لا يزول بالاستحشاف بخلاف اليد فإن منفعتها بالبطش وذلك يزول بالشلل وإن قطع إذناً مستحشفة فإن قلنا إنه إذا ضربها فاستحشفت وجبت عليه الدية وجب في المستحشفة الحكومة كما لو قطع يداً شلاء وإن قلنا إنه تجب عليه الحكومة وجب في المستحشفة

(3/220)


الدية كما لو قطع يداً مجروحة فإن قطع أذن الأصم وجبت عليه الدية لأن عدم السمع نقص في غير الأذن فلا يؤثر في دية الأذن.
فصل: ويجب في السمع الدية لما روى أبو المهلب عن أبي قلابة أن رجلاً رمى رجلاً بحجر في رأسه فذهب سمعه وعقله ولسانه ونكاحه فقضى فيه عمر رضي الله عنه بأربع ديات والرجل حي ولأنها حاسة تختص بمنفعة فأشبهت حاسة البصر وإن أذهب السمع في أحد الأذنين وجب نصف الدية لأن كل شيئين وجبت الدية فيهما وجب نصفها في أحدهما: كالأذنين وإن قطع الأذنين وذهب السمع وجب عليه ديتان لأن السمع في غير الأذن فلا تدخل دية أحدهما: في الآخر وإن جنى عليه فزال السمع وأخذت منه الدية ثم عاد وجب رد الدية لأنه لم يذهب السمع لأنه لو ذهب لما عاد وإن ذهب السمع فشهد شاهدان من أهل الخبرة أنه يرجى عوده إلى مدة فالحكم فيه كالحكم في العين إذا ذهب ضوءها فشهد شاهدان أنه يرجى عوده قد بيناه وإن نقص السمع وجب أرش ما نقص فإن عرف القدر الذي نقص بأن كان يسمع الصوت من مسافة فصار لا يسمع إلا من بعضها وجب فيه من الدية بقسطه وإن لم يعرف القدر بأن ثقلت أذنه وساء سمعه وجبت الحكومة وإن نقص السمع في أحد الأذنين سدت العليلة وأطلقت الصحيحة ويؤمر رجل حتى يصيح من موضع يسمعه ثم لا يزال يبعد ويصيح إلى أن يقول لا أسمع ثم تمسح المسافة ثم تطلق العليلة وتسد الصحيحة ثم يصيح الرجل ثم لا يزال يقرب ويصيح إلى أن يسمعه وينظر ما بين المسافتين ويجب من الدية بقسطه.
فصل: ويجب في مارن الأنف الدية لما روى طاوس قال: كان في كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأنف إذا أو عب مارنه جدعاً الدية ولأنه عضو فيه جمال ظاهر ومنفعة كاملة ولأنه يجمع الشم ويمنع من وصول التراب إلى الدماغ والأخشم كالأشم في وجوب الدية لأن عدم الشم نقص في غير الأنف فلا يؤثر في دية الأنف ويخالف العين القائمة فإن عدم البصر نقص في العين فمنع من وجوب الدية في العين وإن قطع جزءاً من المارن كالنصف والثلث وجب فيه من الدية بقدره لأن ما ضمن بالدية يضمن بعضه بقدره من الدية كالأصابع وإن قطع أحد المنخرين ففيه وجهان: أحدهما: وهو المنصوص أن عليه نصف الدية لأنه أذهب نصف الجمال ونصف المنفعة والثاني: يجب عليه ثلث الدية لأن المارن يشتمل على ثلاثة أشياء المنخرين والحاجز فوجب في كل واحد من المنخرين ثلث الدية وإن قطع أحد المنخرين والحاجز وجب عليه على الوجه الأول نصف الدية للحاجز وعلى الوجه الثاني يجب عليه ثلثا الدية ثلث للحاجز وثلث

(3/221)


للمنخر وإن شق الحاجز وجب عليه حكومة وإن شق الحاجز وجب عليه حكومة وإن قطع المارن وقصبة الأنف وجب عليه الدية في المارن والحكومة في القصبة لأن القصبة تابعة فوجب فيها الحكومة كالذراع مع الكف وإن جنى على المارن فاستحشف ففيه قولان كالقولين فيمن جنى على الأذن حتى استحشف: أحدهما: تجب عليه الدية والثاني: تجب عليه الحكومة وقد مضى وجههما في الأذن.
فصل: وتجب بإتلاف الشم الدية لأنها حاسة تختص بمنفعة مقصودة فوجب بإتلافها الدية كالسمع والبصر وإن ذهب الشم من أحد المنخرين وجب فيه نصف الدية كما تجب في إذهاب البصر من أحد العينين والسمع من أحد الأذنين وإن جنى عليه فنقص الشم وجب عليه أرش ما نقص وإن أمكن أن يعرف قدر ما نقص وجب فيه من الدية بقدره وإن لم يمكن معرفة قدره وجبت فيه الحكومة لما بيناه في نقصان السمع وإن ذهب الشم وأخذت فيه الدية ثم عاد وجب رد الدية لأنا تبينا أنه لم يذهب وإنما حال دونه حائل لأنه لو ذهب لم يعد.
فصل: وإن جنى على رجل جناية لا أرش لها بأن لطمه أو لكمه أو ضرب رأسه بحجر فزال عقله وجب عليه الدية لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب في كتاب عمرو بن حزم وفي العقل الدية ولأن العقل أشرف من الحواس لأن به يتميز الإنسان من البهيمة وبه يعرف حقائق المعلومات ويدخل في التكليف فكان بإيجاب الدية أحق وإن نقص عقله فإن كان يعرف قدر ما نقص بأن يجن يوماً ويفيق يوماً وجب عليه من الدية بقدره لأن ما وجبت فيه الدية وجب بعضها في بعضه كالأصابع وإن لم يعرف قدره بأن صار إذا سمع صيحة زال عقله ثم يعود وجبت فيه الحكومة لأنه تعذر إيجاب جزء مقدر من الدية فعدل إلى الحكومة فإن كانت الجناية لها أرش مقدر نظرت فإن بلغ الأرش قدر الدية أو أكثر لم يدخل في دية العقل ولم تدخل فيه دية العقل لما روى أبو المهلب عم أبي قلابة أن رجلاً رمى رجلاً بحجر في رأسه فذهب عقله وسمعه ولسانه ونكاحه فقضى فيه عمر رضي الله عنه بأربع ديات وهو حي وإن كان الأرش دون الدية كأرش الموضحة ونحوه ففيه قولان: قال في القديم يدخل في دية العقل لأنه معنى يزول التكليف بزواله فدخل أرش الطرف في ديته كالنفس وقال في الجديد: لا يدخل وهو الصحيح لأنه لو دخل في ديته ما دون الدية لدخلت فيها الدية كالنفس ولأن العقل في محل والجناية في محل آخر فلا يدخل أرشها في ديتها كما لو أوضح رأسه فذهب بصره وإن شهر سيفاً على صبي أو بالغ مضعوف أو صاح عليه صيحة عظيمة فزال عقله وجبت عليه الدية لأن ذلك سبب لزوال عقله وإن شهر سيفاً على بالغ متيقظ أو صاح عليه فزال عقله لم تجب

(3/222)


عليه الدية لأن ذلك ليس بسبب لزوال عقله.
فصل: ويجب في الشفتين الدية لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب في كتاب عمرو بن حزم في الشفتين الدية ولأن فيهما جمالاً ظاهراً ومنافع كثيرة لأنهما يقيان الفم من كل ما يؤذيه ويردان الريق وينفخ بهما ويتم بهما الكلام ويجب في إحداهما نصف الدية لأن كل شيئين وجب فيهما الدية وجب في أحدهما: نصف الدية كالعينين والأذنين وإن قطع بعضها وجب فيه من الدية بقدره كما قلنا في الأذن والمارن وإن جنى عليهما فيبستا وجبت عليه الدية لأنه أتلف منافعهما فوجبت عليه الدية كما لو جنى على يدين فشلتا فإن تقلصنا وجبت عليه الحكومة لأن منافعهما لم تبطل وإنما حدث بهما نقص.
فصل: ويجب في اللسان الدية لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب في كتاب عمرو بن حزم وفي اللسان الدية ولأن فيه جمالاً ظاهراً ومنافع فأما الجمال فإنه من أحسن ما يتجمل به الإنسان والدليل عليه ما روى محمد بن علي بن الحسين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للعباس: "أعجبني جمالك يا عم النبي" فقال يا رسول الله وما الجمال في الرجل قال: "اللسان". ويقال: المرء بأصغريه قلبه ولسانه ويقال ما الإنسان لولا اللسان إلا صورة ممثلة أو بهيمة مهملة وأما المنافع فإنه يبلغ به الأغراض ويقضى به الحاجات وبه تتم العبادات في القراءة والأذكار وبه يعرف ذوق الطعام والشراب ويستعين به في مضغ الطعام وإن جنى عليه فخرس وجبت عليه الدية لأنه أتلف عليه المنفعة المقصودة فأشبه إذا جنى على اليد فشلت أو على العين فعميت وإن ذهب بعض الكلام وجب من الدية بقدره لأن ما ضمن جميعه بالدية ضمن بعضه ببعضها كالأصابع وبقسم على حروف كلامه لأن حروف اللغات مختلفة الإعداد فإن في بعض اللغات ما عدد حروف كلامها أحد وعشرون حرفاً ومنها ما عدد حروفها ستة وعشرون وحروف لغة العرب ثمانية وعشرون حرفاً فإن كان المجني عليه يتكلم بالعربية قسمت ديته على ثمانية وعشرين حرفاً وقال أبو سعيد الأصطخري: يقسم على حروف اللسان وهي ثمانية عشر حرفاً ويسقط حروف الحلق وهي ستة الهمزة والهاء والحاء والعين والغين ويسقط حروف الشفة وهي أربعة الباء والميم والفاء والواو والمذهب الأول لأن هذه الحروف وإن كان مخرجها الحلق والشفة إلا أن الذي ينطق بها هو اللسان ولهذا لا ينطق بها الأخرس وإن ذهب حرف من

(3/223)


كلامه وعجز به عن كلمة وجب عليه أرش الحرف لأن الضمان يجب لما تلف وإن جنى على لسانه فصار ألثغ وجب عليه دية الحرف الذي ذهب لأن ما بدل به لا يقوم مقام الذاهب وإن جنى عليه فحصل في لسانه ثقل لم يكن أو عجلة لم تكن أو تمتمة لم تجب عليه دية لأن المنفعة باقية وتجب عليه حكومة لما حصل من النقص والشين.
فصل: وإن قطع ربع لسانه فذهب ربع كلامه وجب عليه ربع الدية وإن قطع نصف لسانه وذهب نصف كلامه وجب عليه نصف الدية لأن الذي فات من العضو والكلام سواء في القدر فوجب من الدية بقدر ذلك فإن قطع ربع اللسان فذهب نصف الكلام وجب عليه نصف الدية وإن قطع نصف اللسان وذهب ربع الكلام وجب عليه نصف الدية واختلف أصحابنا في علته فمنهم من قال العلة فيه أن ما يتلف من اللسان مضمون وما يذهب من الكلام مضمون وقد اجتمعا فوجب أكثرهما وقال أبو إسحاق الاعتبار باللسان إلا أنه إذا قطع ربع اللسان فذهب نصف الكلام دل ذهاب نصف الكلام على شلل ربع آخر من اللسان فوجب عليه نصف الدية ربعها بالقطع وربعها بالشلل فإن قطع ربع اللسان وذهب نصف الكلام وقطع آخر ما بقي من اللسان وجب عليه على تعليل الأول ثلاثة أرباع الدية اعتباراً بما بقي من اللسان ويجب عليه على تعليل أبي إسحاق نصف الدية وحكومة لأنه قطع من اللسان نصفاً صحيحاً وربعاً أشل وإن قطع واحد نصف لسانه وذهب ربع الكلام وجاء الثاني وقطع الباقي وجب عليه على تعليل الأول ثلاثة أرباع الدية اعتباراً بما ذهب من الكلام ويجب عليه على تعليل أبي إسحاق نصف الدية اعتباراً بما قطع من اللسان وإن قطع نصف لسانه فذهب نصف كلامه فاقتص منه فذهب نصف كلامه فقد استوفى المجني عليه حقه وإن ذهب ربع كلامه أخذ المجني عليه مع القصاص ربع الدية حقه فإن ذهب بالقصاص ثلاثة أرباع كلامه لم يضمن الزيادة لأنه ذهب بقود مستحق.
فصل: وإن كان لرجل لسان له طرفان فقطع رجل أحد الطرفين فذهب كلامه وجبت عليه الدية وإن ذهب ربعه وجب عليه ربع الدية وإن لم يذهب من الكلام شيء نظرت فإن كانا متساويين في الخلقة فهما كاللسان المشقوق ويجب بقطعهما الدية وبقطع أحدهما: نصف الدية وإن كان أحدهما: تام الخلقة والآخر ناقص الخلقة فالتام هو اللسان الأصلي والآخر خلقة زائدة فإن قطعهما قاطع وجب عليه دية وحكومة وإن قطع التام وجبت عليه دية وإن قطع الناقص وجبت عليه حكومة.

(3/224)


فصل: وإن جنى على لسانه فذهب ذوقه فلا يحس بشيء من المذاق وهي خمسة الحلاوة والمرارة والحموضة والملوحة والعذوبة وجبت عليه الدية لأنه أتلف عليه حاسة لمنفعة مقصودة فوجبت عليه الدية كما لو أتلف عليه السمع أو البصر وإن نقص بعض الذوق نظرت فإن كان النقصان لا يتقدر بأن كان يحس بالمذاق الخمس إلا أنه لا يدركها على كما لها وجبت عليه الحكومة لأنه نقص لا يمكن تقدير الأرش فيه فوجبت فيه حكومة وإن كان نقصاً يتقدر بأن لا يدرك أحد المذاق الخمس ويدرك الباقي وجب عليه خمس الدية وإن لم يدرك اثنين وجب عليه خمسان لأنه يتقدر المتلف فيقدر الأرش.
فصل: وإن قطع لسان أخرس فإن كان بقي بعد القطع ذوقه وجبت عليه الحكومة لأنه عضو بطلت منفعته فضمن بالحكومة كالعين القائمة واليد الشلاء وإن ذهب ذوقه بالقطع وجبت عليه دية كاملة لاتلاف حاسة الذوق وإن قطع لسان طفل فإن كان قد تحرك بالبكاء أو بما يعبر عنه اللسان كقوله بابا وماما وجبت عليه الدية لأنه لسان ناطق وإن لم يكن تحرك بالبكاء ولا بما يعبر عنه اللسان فإن كان بلغ حداً يتحرك اللسان فيه بالبكاء والكلام وجبت الحكومة لأن الظاهر أنه لم يكن ناطقاً لأنه لو كان ناطقاً لتحرك بما يدل عليه وإن قطعه قبل أن يمضي عليه زمان يتحرك فيه اللسان وجبت عليه الدية لأن الظاهر السلامة فضمن كما تضمن أطرافه وإن لم يظهر فيها بطش.
فصل: وإن قطع لسان رجل فقضى عليه بالدية ثم نبت لسانه فقد قال فيمن قلع سن من ثغر ثم نبت سنه أنه على قولين: أحدهما: يرد الدية والثاني: لا يرد فمن أصحابنا من جعل اللسان أيضاً على قولين وهو قول أبي إسحاق لأنه إذا كان في السن التي لا تنبت في العادة إذا نبتت قولان وجب أن يكون في اللسان أيضاً قولان ومنهم من قال لا يرد الدية في اللسان قولاً واحداً وهو قول أبي علي ابن أبي هريرة والفرق بينه وبين السن أن في جنس السن ما يعود وليس في جنس اللسان ما يعود فوجب أن يكون ما عاد هبة مجددة فلم يسقط به بدل ما أتلف عليه وإن جنى على لسانه فذهب كلامه وقضى عليه بالدية ثم عاد الكلام وجب رد الدية قولاً واحداً لأن الكلام إذا ذهب لم يعد فلما عاد علمنا أنه لم يذهب وإنما امتنع لعارض.
فصل: ويجب في كل سن خمس من الإبل لما روى عمرو بن حزم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن وفي السن خمس من الإبل والأنياب والأضراس والثنايا والرباعيات في ذلك سواء للخبر ولأنه جنس ذو عدد فلم تختلف ديتها باختلاف منافعها كالأصابع وإن قلع ما ظهر وخرج من لحم اللثة وبقي السنخ لزمه دية السن لأن المنفعة

(3/225)


والجمال فيما ظهر فكملت ديته كما لو قطع الأصابع دون الكف فإن عاد هو أو غيره وقلع السنخ المغيب وجبت عليه حكومة لأنه تابع لما ظهر فوجبت فيه الحكومة كما لو قطع الكف بعدما قطع الأصابع وإن قلع السن من أصلها مع السنخ لم يلزمه لما تحتها من السنخ حكومة لأن السنخ تابع لما ظهر فدخل في ديته كالكف إذا قطع مع الأصابع وإن كسر بعض السن طولاً أو عرضاً وجب عليه من دية السن بقدر ما كسر منها من النصف أو الثلث أو الربع لأن ما وجب في جميعه الدية وجب في بعضه من الدية بقدره كالأصابع ويعتبر القدر من الظاهر دون السنخ المغيب لأن الدية تكمل بقطع الظاهر فاعتبر المكسور منه فإن ظهر السنخ المغيب بعلة اعتبر القدر المكسور بما كان ظاهراً قبل العلة لا بما ظهر بالعلة لأن الدية تجب فيما كان ظاهراً فاعتبر القدر المكسور منه.
فصل: وإن قلع سناً فيها شق أو أكلة فإن لم يذهب شيء من أجزائها وجبت فيها دية السن كاليد المريضة وإن ذهب من أجزائها شيء سقط من ديتها بقدر الذاهب ووجب الباقي فإن كانت إحدى ثنيتيه العلياوين أو السفلاوين أقصر من الأخرى فقلع القصير نقص من ديتها بقدر ما نقص منها لأنهما لا يختلفان في العادة فإذا اختلفا كانت القصيرة ناقصة فلم تكمل ديتها وإن قلع سناً مضطربة نظرت فإن كانت منافعها باقية مع حركتها من المضغ وحفظ الطعام والريق وجبت فيها الدية لبقاء المنفعة والجمال وإن ذهبت منافعها وجبت فيها الحكومة لأنه لم يبق غير الجمال فلم يجب غير الحكومة كاليد الشلاء وإن نقصت منافعها فذهب بعضها وبقي البعض ففيه قولان: أحدهما: يجب فيها الدية لأن الجمال تام والمنفعة باقية وإن كانت ضعيفة فكملت ديتها كما لو كانت ضعيفة من أصل الخلقة والثاني: يجب فيها الحكومة لأن المنفعة قد نقصت ويجهل قدر الناقص فوجب فيها الحكومة وإن ضرب سنه فاصفرت أو احمرت وجبت فيها الحكومة لأن منافعها باقية وإنما نقص بعض جمالها فوجب فيها الحكومة فإن ضربها فاسودت فقد قال في موضع تجب فيها الحكومة وقال في موضع: تجب الدية وليست على قولين وإنما هي على اختلاف حالين فالذي قال تجب فيها الدية إذا ذهبت المنفعة والذي قال تجب فيها الحكومة إذا لم تذهب المنفعة وذكر المزني أنها على قولين واختار أنه يجب فيها الحكومة والصحيح هو الطريق الأول.
فصل: وإذا قلع أسنان رجل كلها نظرت فإن قلع واحدة بعد واحدة لكل سن خمس من الإبل فيجب في أسنانه وهي اثنان وثلاثون سناً مائة وستون بعيراً وإن قلعها في دفعة واحدة ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا يجب عليه أكثر من دية لأنه جنس ذو

(3/226)


عدد فلم يضمن بأكثر من دية كأصابع اليدين والثاني: أنه يجب في كل سن خمس من الإبل وهو المذهب لحديث عمرو بن حزم ولأن ما ضمن ديته بالجناية إذا انفرد لم تنقص ديته بانضمام غيره إليه كالموضحة.
فصل: إذا لمع سن صغير لم يثغر لم يلزمه شيء في الحال لأن العادة في سنه أن يعود وينبت فلم يلزمه شيء في الحال كما لو نتف شعره فإن نبت له مثلها في مكانها لم يلزمه ديتها وهل تلزمه حكومة فيه وجهان: أحدهما: لا تلزمه كما لو نتف شعره فنبت مثله والثاني: تلزمه حكومة الجرح الذي حصل بالقلع وإن لم تنبت له ووقع الإياس من نباتها وجبت ديتها لأنا تحققنا إتلاف السن وإن مات قبل الإياس من نباتها ففيه قولان: أحدهما: يجب عليه دية السن لأنه قلع سناً لم تعد والثاني: لا يجب لأن الظاهر أنها تعود وإنما مات بموته وإن نبتت له سن خارجة عن صف الأسنان فإن كانت بحيث ينتفع بها وجبت ديتها وإن كانت بحيث لا ينتفع بها وجبت الحكومة للشين الحاصل بخروجها عن سمت الأسنان فإن نبتت أقصر من نظيرتها وجب عليه من ديتها بقدر ما نقص لأنه نقص بجنايته فصار كما لو كسر بعض سن وإن نبت أطول منها فقد قال بعض أصحابنا لا يلزمه شيء وإن حصل بها شين لأن الزيادة لا تكون من الجناية قال الشيخ الإمام: ويحتمل عندي أنه تلزمه الحكومة للشين الحاصل بطولها كما تلزمه في الشين الحاصل بقصرها لأن الظاهر أن الجميع حصل بسبب قلع السن وإن نبتت له سن صفراء أوسن خضراء وجبت عليه الحكومة لنقصان الكمال فإن قلع سناً من أثغر وجبت ديتها في الحال لأن الظاهر أنه لا ينبت له مثلها فإن أخذ الدية ثم نبت له مثلها في مكانها ففيه قولان: أحدهما: يجب رد الدية لأنه عاد له مثلها فلم يستحق بدلها كالذي لم يثغر والثاني: أنه لا يجب رد الدية لأن العادة جرت في سن من ثغر أنه لا يعود فإذا عادت كان ذلك هبة مجددة فلا يسقط به ضمان ما أتلف عليه.
فصل: ويجب في اللحيين الدية لأن فيهما جمالاً وكمالاً ومنفعة كاملة فوجبت فيهما الدية كالشفتين وإن قلع أحدهما: وتماسك الآخر وجب عليه نصف الدية لأنهما عضوان تجب الدية فيهما فوجب نصف الدية في أحدهما: كالشفتين واليدين وإن قلع اللحيين مع الأسنان وجب عليه دية اللحيين ودية الأسنان ولا تدخل دية أحدهما: في الآخر لأنهما جنسان مختلفان فيجب في كل واحد منهما دية مقدرة فلم تدخل دية إحداهما في دية الأخرى كالشفتين مع الأسنان وتخالف الكف مع الأصابع فإن الكف

(3/227)


تابع للأصابع في المنفعة واللحيان أصلان في الجمال والمنفعة فهما كالشفتين مع الأسنان.
فصل: ويجب في اليدين الدية لما روى معاذ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "في اليدين دية". ويجب في إحداهما نصف الدية لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب عمرو بن حزم حين أمره على نجران في اليد خمسون من الإبل واليد التي تجب فيها الدية هي الكف فإن قطع الكف وجبت الدية وإن قطع من نصف الذراع أومن المرفق أومن العضد أومن المنكب وجبت الدية في الكف ووجب فيما زاد الحكومة وقال أبو عبيد بن حرب: الذي تجب فيه الدية هو اليد من المنكب لأن اليد اسم للجميع والمذهب الأول لأن اسم اليد يطلق على الكف والدليل عليه قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] والمراد به الكف ولأن المنفعة المقصودة من اليد هو البطش والأخذ والدفع وهو بالكف وما زاد تابع للكف فوجبت الدية في الكف والحكومة فيما زاد ويجب في كل أصبع عشر الدية لما روى أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن في كل أصبع من الأصابع من اليد والرجل عشر من الإبل ولا يفضل إصبع على إصبع لما ذكرناه من الخبر ولما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مسنداً: "الأصابع كلها سواء عشر عشر من الإبل". ولأنه جنس ذو عدد تجب فيه الدية فلم تختلف ديتها باختلاف منافعها كاليدين ويجب في كل أنملة من غير الإبهام ثلث دية الأصبع وفي كل أنملة من الإبهام نصف دية الأصبع لأنه لما قسمت دية اليد على عدد الأصابع وجب أن يقسم دية الأصبع على عدد الأنامل.
فصل: وإن جنى على يد فشلت أو على أصبع فشلت أو على أنملة فشلت وجب عليه ما يجب في قطعها لأن المقصود بها هو المنفعة فوجب في إتلاف منفعتها ما وجب في إتلافها وإن قطع يد شلاء أو إصبعاً شلاء أو أنملة شلاء وجب عليها الحكومة لأن إتلاف جمال من غير منفعة.
فصل: ويجب في الرجلين الدية لما روى معاذ رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في الرجلين: "ويجب في إحداهما نصف الدية". لما روى عمرو بن حزم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "في الرجل نصف دية". والرجل التي يجب في قطعها نصف الدية فإن قطع من الساق أومن الركبة أومن بعض الفخذ أومن أصل الفخذ وجبت الدية في القدم ووجبت الحكومة فيما زاد لما ذكرناه في اليد ويجب في كل أصبع من أصابع الرجل عشر الدية لما ذكرناه في اليد من حديث عمرو بن حزم ويجب في كل أنملة من غير

(3/228)


الإبهام ثلث دية الأصبع وفي كل أنملة من الإبهام نصف دية الإصبع لما ذكرناه في اليد
فصل: ويجب في قدم الأعرج ويد الأعسم إذا كانتا سليمتين الدية لأن العرج إنما يكون من قصر إحدى الساقين وذلك ليس بنقص في القدم والعسم لقصر العضد أو الذراع أو اعوجاج الرسغ وذلك ليس بنقص في الكف فلم يمنع كمال الدية في القدم والكف كذكر الخصي وأذن الأصم وأنف الأخشم.
فصل: إذا كسر الساعد فجبره مجبر أو خلع كفه فاعوجت ثم جبرها فجبرت وعادت مستقيمة وجبت الحكومة لأنه حصل به نقص وإن لم تعد إلى ما كانت الحكومة أكثر لأن النقص أكثر فإن قال الجاني أنا أعيد خلعها وأعيدها مستقيمة منع من ذلك لأنه استئناف جناية أخرى فإن كابر وخلعه فعاد مستقيماً وجب عليه بهذا الخلع حكومة ولا يسقط ما وجب من الحكومة الأولى لأنها حكومة استقرت بالجناية وما حصل من الاستقامة حصل بمعنى آخر فلم يسقط ما وجب ويخالف إذا جنى على العين فذهب الضوء ثم عاد لأنا نتيقن أن الضوء لم يذهب.
فصل: وإن كان لرجل كفان من ذراع فإن كان ليبطش بواحد منهما لم يجب فيهما قود ولا دية لأن منافعهما قد بطلت فصارا كاليد الشلاء ويجب فيهما حكومة لأن فيهما جمالاً وإن كان أحدهما: يبطش دون الآخر فالذي يبطش به هو الأصل فيجب فيه القود أو الدية والآخر خلقة زائدة ويجب فيها الحكومة وإن كان أحدهما: أكثر بطشاً كان الأصلي هو أكثرهما بطشاً سواء كان الباطش على مستوى الذراع أو منحرفاً عنه لأن الله تعالى جعل البطش في الأصلي فوجب أن يرجع في الاستدلال عليه إليه كما يرجع في الخنثى إلى قوله وإن استويا في البطش فإن كان أحدهما: على مستوى الذراع والآخر منحرفاً عن مستوى الذراع فالأصلي هو الذي على مستوى الذراع فيجب فيه القود أو الدية ويجب في الآخر الحكومة فإن استويا في ذلك فإن كان أحدهما: تام الأصابع والآخر ناقص الأصابع فالأصلي هو التام الأصابع فيجب فيه القود أو الدية والآخر خلقة زائدة ويجب فيها الحكومة وإن استويا في تمام الأصابع إلا أن في أحدهما: زيادة أصبع لم ترجح الزيادة ولأنه قد يكون الأصبع الزائدة في غير اليد الأصلية فإذا استويا في الدلائل فهما يد واحدة فإن قطعهما قاطع وجب عليه القود أو الدية ووجب عليه للزيادة

(3/229)


حكومة فإن قطع إحداهما لم يجب القود لعدم المماثلة وعليه نصف دية يد وزيادة حكومة لأنها نصف يد زائدة وإن قطع أصبعاً من إحداهما فعليه نصف دية أصبع وزيادة حكومة لأنها نصف أصبع زائدة وإن قطع أنملة أصبع من إحداهما وجب عليه نصف دية أنملة وزيادة حكومة لأنها نصف أنملة زائدة.
فصل: ويجب في الأليتين الدية لأن فيهم جمالاً كاملاً ومنفعة كاملة فوجب فيهما الدية كاليدين ويجب في إحدهما: نصف الدية لأن ما وجبت الدية في اثنين منه وجب نصفها في أحدهما: كاليدين وإن قطع بعضها وجب فيه من الدية بقدره وإن جهل قدره وجبت فيه الحكومة.
فصل: وإن كسر صلبه انتظر فإن جبر وعاد إلى حالته لزمته حكومة الكسر وإن احدودب لزمه حكومة للشين الذي حصل به وإن ضعف مشيه أو احتاج إلى عصا لزمته حكومة لنقصان مشيه وإن عجز عن المشي وجبت عليه الدية لما روى الزهري عن سعيد ابن المسيب أنه قال: مضت السنة أن في الصلب الدية وفي اللسان الدية وفي الذكر الدية وفي الأثنيين الدية ولأنه أبطل عليه منفعة مقصودة فوجبت عليه الدية وإن كسر صلبه وعجز عن الوطء وجبت عليه الدية لأنه أبطل عليه منفعة مقصودة وإن ذهب مشيه وجماعه ففيه وجهان: أحدهما: لا تلزمه إلا دية واحدة لأنهما منفعتا عضو واحد والثاني: يلزمه ديتان وهو ظاهر النص لأنه يجب في كل واحد منهما الدية عند الانفراد فوجبت فيهما ديتان عند الاجتماع كما لو قطع أذنيه فذهب سمعه أو قطع أنفه فذهب شمه.
فصل: ويجب في الذكر الدية لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب مع عمرو بن حزم إلى اليمن وفي الذكر الدية ويجب ذلك في ذكر الشيخ والطفل والخصي والعنين لأن العضو في نفسه سليم ولا تجب في ذكر أشل لأنه بطلب منفعته فلم تكمل ديته ويجب فيه الحكومة لأنه أتلف عليه جماله وإن جنى على ذكره فشل وجبت ديته لأن المقصود بالعضو هو المنفعة فوجب في إتلاف منفعته ما وجب في إتلافه وإن قطع الحشفة وجبت الدية لأن منفعة الذكر تكمل بالحشفة كما تكمل منفعة الكف بالأصابع فكملت الدية بقطعها وإن قطع الحشفة وجاء آخر فقطع الباقي وجبت فيه حكومة كما لو قطع الأصابع وجاء آخر وقطع الكف وإن قطع بعض الحشفة وجب عليه من الدية بقسطها وهل

(3/230)


تتقسط على الحشفة وحدها أو على جميع الذكر فيه قولان: أحدهما: تقسط على الحشفة لأن الدية تكمل بقطعها فقسطت عليها كدية الأصابع والثاني: يقسط على الجميع لأن الذكر هو الجميع فقسطت الدية على الجميع.
فصل: ويجب في الأثنيين الدية لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن مع عمرو بن حزم وفي الأنثيين الدية ويجب في أحدهما: نصف الدية لأن ما وجب في اثنين منه الدية وجبت في أحدهما: نصفها كاليد.
فصل: وما اشترك فيه الرجل والمرأة من الجروح والأعضاء ففيه قولان: قال في القديم تساوي المرأة الرجل إلى ثلث الدية فإذا زادت على ذلك كانت المرأة على النصف من الرجل لما روى نافع عن ابن عمر أنه قال: تستوي دية الرجل والمرأة إلى ثلث الدية ويختلفان فيما سوى ذلك وقال في الجديد هي على النصف من الرجل في جميع الأروش وهو الصحيح لأنهما شخصان مختلفان في الدية النفس فاختلفا في أروش الجنايات كالمسام والكافر ولأنه جناية يجب فيها أرش مقدر فكانت المرأة على النصف من الرجل في أرشها كقطع اليد والرجل وقول ابن عمر يعارضه قول علي كرم الله وجهه في جراحات الرجال والنساء سواء على النصف فيما قل أو كثر.
فصل: ويجب في ثديي المرأة الدية لأن فيهما جمالاً ومنفعة فوجب فيهما الدية كاليدين والرجلين ويجب في إحداهما نصف الدية لما ذكرناه في الأثنيين وإن جنى عليهما فشلتا وجبت عليه الدية لأن المقصود بالعضو هو المنفعة فكان إتلاف منفعته كإتلافه وإن كانتا ناهدين فاسترسلتا وجبت الحكومة لأنه نقص جمالهما وإن كان لها لبن فجنى عليهما فانقطع لبنها وجبت عليه الحكومة لأنه قطع اللبن بجنايته وإن جنى عليهما قبل أن ينزل لها لبن فولدت ولم ينزل لها لبن سئل أهل الخبرة فإن قالوا لا ينقطع إلا بالجناية وجبت الحكومة وإن قالوا قد ينقطع من غير جناية لم تجب الحكومة لجواز أن يكون انقطاعه لغير الجناية فلا تجب الحكومة بالشك وتجب الدية في حلمتيهما وهو رأس الثدي لأن منفعة الثديين بالحلمتين لأن الصبي بها يمص اللبن وبذهابهما تتعطل منفعة الثديين فوجب فيهما ما يجب في الثديين كما يجب في الأصابع ما يجب في الكف وأما حلمتا الرجل فقد قال في موضع يجب فيه حكومة وقال في موضع قد قيل إن فيهما الدية فمن أصحابنا من قال فيه قولان: أحدهما: تجب فيهما الدية لأن ما وجبت فيه الدية من المرأة وجبت فيه الدية من الرجل كاليدين والثاني: وهو الصحيح أنه يجب فيهما الحكومة لأنه إتلاف جمال من غير منفعة فوجبت فيه الحكومة ومنهم من قال

(3/231)


يجب فيه الحكومة قولاً واحداً وقوله قد قيل إن فيهما الدية حكاية عن غيره.
فصل: ويجب في اسكتي المرأة وهما الشفران المحيطان بالفرج الدية لأن فيهما جمالاً ومنفعة في المباشرة ويجب في أحدهما: نصف الدية لأن كل ما وجب في اثنين منه الدية وجب في أحدهما: نصفها كاليدين.
فصل: قال الشافعي رحمه الله: إذا وطئ امرأة فأفضاها وجبت عليه الدية واختلف أصحابنا في الإفضاء فقال بعضهم هو أن يزيل الحاجز الذي بين الفرج وثقبة البول وهو قول الشيخ أبي حامد الإسفرايني رحمة الله عليه وقال بعضهم هو أن يزيل الحاجز الذي بين الفرج والدبر وهو قول أبي علي ابن أبي هريرة وشيخنا أبي الطيب الطبري لأن الدية لا تجب إلا بإتلاف منفعة كاملة ولا يحصل ذلك إلا بإزالة الحاجز بين السبيلين فأما إزالة الحاجز بين الفرج وثقبة البول فلا تتلف بها المنفعة وإنما تنقص بها المنفعة فلا يجوز أن يجب بها دية كاملة وإن أفضاها واسترسل البول وجب مع دية الإفضاء حكومة للنقص الحاصل باسترسال البول وإن أفضاها والتأم الجرح وجبت الحكومة دون الدية وإن أجاف جائفة والتأمت لم يسقط أرشها والفرق بينهما أن أرش الجائفة وجب باسمها فلم يسقط بالإلتئام ودية الإفضاء وجبت بإزالة الحاجز وقد عاد الحاجز فلم تجب الدية.
فصل: ولا يجب في إتلاف الشعور غير الحكومة لأنه إتلاف جمال من غير المنفعة فلم تجب فيه غير الحكومة كإتلاف العين القائمة واليد الشلاء.
فصل: ويجب في تعويج الرقبة وتصغير الوجه الحكومة لأنه إذهاب جمال من غير منفعة فوجبت فيه الحكومة فإن كسر الترقوة أو كسر ضلعاً فقد قال في موضع آخر يجب فيه جمل وقال في موضع تجب فيه الحكومة واختلف فيه أصحابنا فقال أبو إسحاق وأبو علي ابن أبي هريرة تجب فيه الحكومة قولاً واحداً والذي قال فيه جمل أراد على سبيل الحكومة لأن تقدير الأرش لا يجوز إلا بنص أو قياس على أصل وليس في هذا نص ولا له أصل يقاس عليه وقال المزني وغيره هو على قولين وهو الصحيح أحدهما: أنه يجب

(3/232)


فيه جمل لما روى أسلم مولى عمر رضي الله عنه أنه قضى في الترقوة بجمل وفي الضلع بجمل وقول الصحابي في قوله القديم حجة تقدم على القياس والقول الثاني: وهو الصحيح أنه يجب فيه الحكومة لأنه كسر عظم في غير الرأس والوجه فلم يجب فيه أرش مقدر ككسر عظم الساق وما روي عن عمر يحتمل أنه قضى به على سبيل الحكومة ولأن قول الصحابي ليس بحجة في قوله الجديد.
فصل: وإن لطم رجلاً أو لكمه أو ضربه بمثقل فإن لم يحصل به أثر لم يلزمه أرش لأنه لم يحصل به نقص في جمال ولا منفعة فلم يلزمه أرش وإن حصل به شين بأن اسود أو اخضر وجبت فيه الحكومة لما حصل به من الشين فإن قضى في بالحكومة ثم زال الشين سقطت الحكومة كما لو جنى على عين فابيضت ثم زال البياض وإن فزع إنسان فأحدث في الثياب لم يلزمه ضمان مال لأن المال إنما يجب في الجناية إذا أحدثت نقصاً في جمال أو منفعة ولم يوجد شيء من ذلك.
فصل: إذا جنى على حر جناية ليس فيها أرش مقدر نظرت فإن كان حصل بها نقص في منفعة أو جمال وجبت فيها حكومة وهو أن يقوم المجني عليه قبل الجناية ثم يقوم بعد اندمال الجناية فإن نقص العشر من قيمته وجب العشر من ديته وإن نقص الخمس من قيمته وجب الخمس من ديته لأنه ليس في أرشه نص فوجب التقدير بالاجتهاد ولا طريق إلى معرفة قدر النقصان من جهة الاجتهاد إلا بالتقويم وهذا كما قلنا في المحرم إذا قتل صيداً وليس في جزائه نص أنه يرجع إلى ذوي عدل في معرفة مثله إن كان له مثل من النعم أو إلى قيمته إذا لم يكن له مثل ويجب القدر الذي نقص من قيمته من الدية لأن النفس مضمونة بالدية فوجب القدر الناقص منها كما يقوم المبيع عند الرجوع بأرش العيب ثم يؤخذ القدر الناقص من الثمن حيث كان المبيع مضموناً بالثمن وقال أصحابنا يعتبر نقص الجناية من دية العضو المجني عليه لا من دية النفس فإن كان الذي نقص هو العشر والجناية على اليد وجب عشر دية وإن كانت على أصبع وجب عشر دية الأصبع وإن كانت على الرأس فيما دون الموضحة وجب عشر أرش الموضحة وإن كانت على الجسد فيما دون الجائفة وجب عشر أرش الجائفة لأنا لو اعتبرناه من دية النفس لم نأمن أن تزيد الحكومة في عضو على دية العضو والمذهب

(3/233)


الأول وعليه التفريغ لأنه لما وجب تقويم النفس وجب أن يعتبر النقص من دية النفس ولأن اعتبار النقص من دية العضو يؤدي إلى أن يتقارب الجنايتان ويتباعد الأرشان بأن تكون الحكومة في السمحاق فتوجب فيه عشر أرش الموضحة فيتباعد ما بينها وبين أرش الموضحة مع قربها منها فإن كانت الجناية على أصبع فبلغت الحكومة فيها أرش الأصبع أو على الرأس فبلغت الحكومة فيها أرش الموضحة نقص الحاكم من أرش الأصبع ومن أرش الموضحة شيئا على قدر ما يؤدي إليه الاجتهاد لأنه لا يجوز أن يكون فيما دون الأصبع الموضحة ما يجب فيها وإن كانت الجناية في الكف فبلغت الحكومة أرش الأصابع نقص شيئا من أرش الأصابع لأن الكف تابع للأصابع في الجمال والمنفعة فلا يجوز أن يجب فيه ما يجب في الأصابع.
فصل: وإن لم يحصل بالجناية نقص في جمال ولا منفعة بأن قطع أصبعاً زائدة أو قلع سناً زائدة أو أتلف لحية امرأة واندمل الموضع من غير نقص ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي العباس بن سريج أنه لا شيء عليه لأنه جناية لم يحصل بها نقص فلم يجب بها أرش كما لو لطم وجهه فلم يؤثر والثاني: وهو قول أبي إسحاق أنه يجب فيه الحكومة لأنه إتلاف جزء من مضمون فلا يجوز أن يعري من أرش فعلى هذا إن كان قد قطع أصبعاً زائدة قوم المجني عليه قبل الجناية ثم يقوم في أقرب أحواله إلى الاندمال ثم يجب ما بينهما من الدية لأنه لما سقط اعتبار قيمته بعد الاندمال قوم في أقرب الأحوال إليه وهذا كما قلنا في ولد المغرور بها لما تعذر تقويمه حال العلوق قوم في أقرب حال يمكن فيه التقويم بعد العلوق وهو عند الوضع فإن قوم ولم ينقص قوم قبيل الجناية ثم يقوم والدم جار لأنه لا بد أن تنقص قيمته لما يخاف عليه فيجب بقدر ما بينهما من الدية وإن قلع سناً زائدة ولم تنقص قيمته قوم وليس له خلف الزائدة سن أصلية ثم يقوم وليس له سن أصلية ولا زائدة ويجب بقدر ما بينهما من الدية وإن أتلف لحية امرأة قوم لو كان رجلاً وله لحية ثم يقوم ولا لحية له ويجب بقدر ما بينهما من الدية.
فصل: وإن جنى على رجل جناية لها أرش مقدر ثم قتله قبل الاندمال دخل أرش الجناية في دية النفس وقال أبو سعيد الإصطخري لا يدخل لأن الجناية انقطعت سرايتها بالقتل فلم يسقط ضمانها كما لو اندملت ثم قتله والمذهب الأول لأنه مات بفعله قبل استقرار الأرش فدخل في ديته كما لو مات من سراية الجناية ويخالف إذا اندملت فإن هناك استقر الأرش فلم تسقط.
فصل: ويجب في قتل العبد قيمته بالغة ما بلغت لأنه مال مضمون بالإتلاف لحق

(3/234)


الآدمي بغير جنسه فضمنه بقيمته بالغة ما بلغت كسائر الأموال وما ضمن مما دون النفس من الجزء بالدية كالأنف واللسان والذكر والأنثيين والعينين واليدين والرجلين ضمن من العبد بقيمته وما ضمن من الحر بجزء من الدية كاليد والأصبع والأنملة والموضحة والجائفة ضمن من العبد بمثله من القيمة لأنهما متساويان في ضمان الجناية بالقصاص والكفارة فتساويا في اعتبار ما دون النفس ببدل النفس كالرجل والمرأة والمسلم والكافر.
فصل: وإن قطع يد عبد ثم أعتق ثم مات من سراية القطع وجبت عليه دية حر لأن الجناية استقرت في حال الحرية ويجب للسيد من ذلك أقل الأمرين من أرش الجناية وهو نصف القيمة أو كمال الدية فإن كان نصف القيمة أقل لم يستحق أكثر منه لأنه هو الذي وجب في ملكه والزيادة حصلت في حال لا حق له فيها وإن كانت الدية أقل لم يستحق أكبر منها لأن ما نقص من نصف القيمة بسبب من جهته وهو العتق.
فصل: وإن فقأ عيني عبد أو قطع يديه وقيمته ألفا دينار ثم أعتق ومات بعد اندمال الجناية وجب على الجاني أرش الجناية وهو قيمة العبد سواء كان الاندمال قبل العتق أو بعده لأن الجرح إذا اندمل استقر حكمه ويكون ذلك لمولاه لأنه أرش جناية كانت في ملكه وإن لم يندمل وسرى إلى نفسه وجب على الجانب دية حر وقال المزني يجب الأرش وهو ألفا دينار لأن السيد ملك هذا القدر بالجناية فلا ينقص وهذا خطأ لأن الاعتبار في الأرش بحال الاستقرار ولهذا لو قطع يدي رجل ورجليه وجب عليه ديتان فإذا سرت الجناية إلى النفس وجب دية اعتباراً بحال الاستقرار وفي حال الاستقرار هو حر فوجبت فيه الدية ودليل قول المزني يبطل بمن قطع يدي رجل ورجلين ثم مات فإنه وجبت ديتان ثم نقصت بالموت.
فصل: وإن قطع حر يد عبد فأعتق ثم قطع حر آخر يده الأخرى ومات لم يجب على الأول قصاص لعدم التكافؤ في حال الجناية وعليه نصف الدية لأن المجني عليه حر في وقت استقرار الجناية وأما الثاني ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي الطيب بن سلمة أنه يجب عليه القصاص في الطرف ولا يجب في النفس لأن الروح خرجت من سراية قطعين: وأحدهما: يوجب القود والآخر لا يوجب فسقط كحرين قتلاً من نصفه حر ونصفه عبد والثاني: وهو المذهب أنه يجب عليه القصاص في الطرف والنفس لأنهما متكافئان في حال الجناية وقد خرجت الروح عن عمد محض مضمون وإنما سقط القود عن أحدهما: لمعنى في نفسه فلم يسقط عن الآخر كما لو اشترك حر وعبد في قتل عبد ويخالف الحرين اذا قتلا من نصفه حر ونصفه عبد لأن كل واحد منهما غير مكافئ له حال

(3/235)


الجناية فان عفى على مال كان عليه نصف الديه لأنهما شريكان في القتل وللمولى الأقل من نصف قيمته يوم الجناية الأولى أو نصف الدية فإن كان نصف القيمة أقل أو مثله كان له ذلك وإن كان أكثر فله نصف الدية لأن الحرية نقصت ما زاد عليه والفرق بينه وبين المسألة قبلها أن الجناية هناك من واحد وجميع الدية عليه فقوبل بين أرش الجناية وبين الدية والجناية ههنا من اثنين والدية عليهما والثاني: جنى عليه في حال الحرية فقوبل بين أرش الجناية وبين النصف المأخوذ من الجاني على ملكه وكان الفاضل لورثته.
فصل: وإن قطع حر يد عبد ثم أعتق ثم قطع يده الأخرى نظرت فإن اندمل الجرحان لم يجب في اليد الأولى قصاص لأنه جنى عليه وهو غير مكافئ له ويجب فيها نصف ديته ويكون للمولى ويجب في اليد الأخرى القصاص لأنه قطعها وهو مكافئ له وإن عفى على المال وجب عليه نصف الدية وإن مات من الجراحتين قبل الاندمال وجب القصاص في اليد الأخرى التي قطعت بعد عتقه ولم يجب القصاص في النفس لأنه مات من جنايتين إحداهما توجب القصاص والأخرى لا توجب فإن اقتص منه في اليد وجب عليه نصف الدية لأنه مات بجنايته وقد استوفى منه ما يقابل نصف الدية ويكون للمولى أقل الأمرين من نصف القيمة وقت الجناية أو نصف الدية وإن عفى عن القصاص على مال وجب كمال الدية ويكون للمولى أقل الأمرين من نصف القيمة وقت الجناية أو نصف الدية ولورثته الباقي لأن الجناية الثانية في حال الحرية.
فصل: وإن قطع حر يد عبد فأعتق ثم قطع آخر يده الأخرى ثم قطع ثالث رجله ومات لم يجب على الأول القصاص في النفس ولا في الطرف لعدم التكافؤ ويجب عليه ثلث الدية ويجب على الآخرين القصاص في الطرف وفي النفس على المذهب فإن عفى عنهما كان عليهما ثلثا الدية وفيما يستحق المولى قولان: أحدهما: أقل الأمرين من أرش الجناية أو ما يجب على هذا الجاني في ملكه وهو ثلث الدية لأن الواجب بالجناية هو الأرش فإذا أعتق انقلب وصار ثلث الدية فيجب أن يكون له أقل الأمرين فإن كان الأرش أقل لم يكن له أكثر منه لأنه هو الذي وجب بالجناية في ملكه وما زاد بالسراية في حال الحرية لا حق له فيه وإن كان ثلث الدية أقل لم يكن له أكثر منه لأنه هو الذي يجب على الجاني في ملكه ونقص الأرش بسبب من جهته وهو العتق فلم يستحق أكثر منه والقول الثاني يجب له أقل الأمرين من ثلث الدية أو ثلث القيمة لأن الجاني على ملكه هو الأول والآخر لا حق له في جنايتهما فيجب أن يكون له أقل الأمرين من ثلث

(3/236)


الدية أو ثلث القيمة فإن كان ثلث القيمة أقل لم يكن له أكثر منه لأنه لما كان عبداً كان له هذا القدر وما زاد وجب في حال الحرية فلم يكن له فيها حق وإن كان ثلث الدية أقل لم يكن له أكثر منه لأن ثلث القيمة نقص وعاد إلى ثلث الدية بفعله فلم يستحق أكثر منه.
فصل: إذا ضرب بطن مملوكة حامل بمملوك فألقت جنيناً ميتاً وجب فيه عشر قيمة الأم لأن جنين آدمية سقط ميتاً بجنايته فضمن بعشر بدل الأم كجنين الحرة واختلف أصحابنا في الوقت الذي يعتبر فيه قيمة الأم فقال المزني وأبو سعيد الإصطخري: تعتبر قيمتها يوم الإسقاط لأنه حال استقرار الجناية والاعتبار في قدر الضمان بحال استقرار الجناية والدليل عليه أنه لو قطع يد نصراني ثم أسلم ومات وجب فيه دية مسلم وقال أبو إسحاق تعتبر قيمتها يوم الجناية وهو المنصوص لأن المجني عليه لم يتغير حاله فكان أولى الأحوال باعتبار قيمتها يوم الجناية لأنه حال الوجوب ولهذا لو قطع يد عبد ومات على الرق وجبت قيمته يوم الجناية لأنه حال الوجوب وإن ضرب بطن أمة ثم أعتقت وألقت جنيناً ميتاً وجب فيه دية جنين حر لأن الضمان يعتبر بحال استقرار الجناية والجنين حر عند استقرار الجناية فضمن بالدية.

(3/237)


باب العاقلة وما تحمله من الديات
إذا قتل الحر حراً عمد خطأ وله عاقلة وجب جميع الدية على عاقتله لما روى المغيرة بن شعبة قال: ضربت امرأة ضرة لها بعمود فسطاط فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بديتها على عصبة القاتلة وإن قتله خطأ وجبت الدية على عاقلته لأنه إذا تحمل عن القاتل في عمد الخطأ تخفيفاً عنه مع قصده إلى الجناية فلأن يحمل عن قاتل الخطأ ولم يقصد الجناية أولى ولأن الخطأ وعمد الخطأ يكثر فلو أوجبنا ديتهما في مال الجاني أجحفنا به وإن قطع أطرافه خطأ أو عمد خطأ ففيه قولان قال في القديم: لا تحمل العاقلة ديتهما لأنه لا يضمن بالكفارة ولا تثبت فيه القسامة فلم تحمل العاقلة بدله كالمال وقال في الجديد: تحمل العاقلة ديتها لأن ما ضمن بالقصاص والدية وخففت الدية فيه بالخطأ حملت العاقلة بدله كالنفس فعلى هذا تحمل ما قل منه وكثر كما تحمل ما قل وكثر من

(3/237)


دية النفس وإن قتل عمداً أو جنى على طرفه عمداً لم تحمل العاقلة ديته لأن الخبر ورد في الحمل عن القاتل في عمد الخطأ تخفيفاً عنه لأنه لم يقصد القتل والعامد قصد القتل فلم يلحق به في التخفيف وإن وجب له القصاص في الطرف فاقتص بحديدية مسمومة فمات فعليه نصف الدية وهل تحمل العاقلة ذلك أم لا؟ فيه وجهان: أحدهما: تحمله لأنها حكمنا بأنه ليس بعمد محض والثاني: لا تحمله لأنه قصد القتل بغير حق فلم تحمل العاقلة عنه وإن وكل من يقتص له في النفس ثم عفا وقتل الوكيل ولم يعلم بالعفو وقلنا إن العفو يصح ووجبت الدية على الوكيل فهل تحملها العاقلة فيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي إسحاق أنه لا تحملها العاقلة وهو صحيح لأنه تعمد القتل فلم تحمل العاقلة عنه كما لو قتله بعد العلم بالعفو والثاني: وهو قول أبي علي بن أي هريرة أنه تحمله العاقلة لأنه لم يقصد الجناية.
فصل: وإن قتل عبداً خطأ أو عمد خطأ ففيه قيمته قولان: أحدهما: أنها تحملها العاقلة لأنه يجب القصاص والكفارة بقتله فحملت العاقلة بدله كالحر والثاني: أنه لا تحمله العاقلة لأنه مال فلم تحمل العاقلة بدله كسائر الأموال.
فصل: ومن قتل نفسه خطأ لم تجب الدية بقتله ولا تحمل العاقلة ديته لما روي أن عوف بن مالك الأشجعي ضرب مشركاً بالسيف فرجع السيف عليه فقتله فأمتنع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصلاة عليه وقالوا قد أبطل جهاده فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بل مات مجاهداً". ولو وجبت الدية على عاقلته لبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك.
فصل: وما يجب بخطأ الإمام من الدية بالقتل ففيه قولان: أحدهما: يجب على عاقلته لما روي أن عمر رضي الله عنه قال لعلي رضي الله عنه في جنين المرأة التي بعث إليها عزمت عليك أن لا تبرح حتى تقسمها على قومك والثاني: يجب في بيت المال لأن الخطأ يكثر منه في أحكامه واجتهاده فلو أوجبنا ما يجب بخطئه على عاقلته أجحفنا بهم فإذا قلنا أنه يجب على عاقلته وجبت الكفارة في ماله كغير الإمام وإذا قلنا إنها تجب في بيت المال ففي الكفارة وجهان: أحدهما: أنها تجب في ماله لأنها لا تتحمل والثاني: أنها تجب في بيت المال لأنه يكثر خطؤه فلو أوجبنا في ماله أجحفنا به.
فصل: وما يجب بجناية العمد يجب حالاً لأنه بدل متلف لا تتحمله العاقلة بحال فوجب حالاً كغرامة المتلفات وما يجب بجناية الخطأ وشبه العمد من الدية يجب مؤجلاً فإن كانت دية كاملة وجبت في ثلاث سنين لأنه روي ذلك عن عمر وابن عباس رضي الله عنهما ويجب في كل سنة ثلثها فإن كان دية نفس كان ابتداء الأجل من وقت

(3/238)


القتل لأنه حق المؤجل فاعتبر الأجل من حين وجود السبب كالدين المؤجل وإن كان دية الطرف فإن لم تسر واعتبرت المدة من وقت الجناية لأنه وقت الوجوب وإن سرت إلى عضو آخر اعتبرت المدة من وقت الاندمال لأن الجناية لم تقف فاعتبرت المدة من وقت الاستقرار وإن كان الواجب أقل من دية نظرت فإن كان ثلث الدية أو دونه لم تجب إلا في سنة لأنه لا يجب على العاقلة شيء في أقل من سنة فإن كان أكثر من الثلث ولم يزد على الثلثين وجب في السنة الأولى الثلث ووجب الباقي في السنة الثانية وإن كان أكثر من الثلثين ولم يزد على الدية وجب في السنة الأولى الثلث وفي الثانية الثلث والثالثة الباقي وإن وجب بجنايته ديتان فإن كانتا لاثنتين بأن قتل اثنين وجب في كل سنة لكل واحد منهما ثلث الدية لأنهما يجبان لمستحقين فلا ينقص حق كل واحد منهما في كل سنة من الثلث فإن كانتا لواحد بأن قطع اليدين والرجلين من رجل وجب الكل في ست سنين في كل سنة ثلث دية لأنها جناية على واحد فلا يجب له على العاقلة في كل سنة أكثر من ثلث دية وإن وجب بجناية الخطأ أو عمد الخطأ دية ناقصة كدية الجنين والمرأة ودية أهل الذمة ففيه وجهان: أحدهما: أنه يجب في ثلاث سنين في كل سنة ثلثها لأنها دية نفس فوجب في كل سنة ثلثها كالدية الكاملة والثاني: أنه كأرش الطرف إذا نقص عن الدية لأنه دون الدية الكاملة فعلى هذا إن كان ثلث دية وهو كدية اليهودي والنصراني أو أقل من الثلث وهو دية المجوسي ودية الجنين وجب الكل في سنة واحدة وإن كان أكثر من الثلث وهو دية المرأة وجب في السنة الأولى ثلث دية كاملة ويجب ما زاد في السنة الثانية كما قولنا في الطرف وإن كان قيمة عبد وقولنا أنها على العاقلة ففيه وجهان: أحدهما: أنها تقسم في ثلاث سنين وأن زاد حصة كل سنة على ثلث الدية لأنها دية نفس والثانية: تؤدى في كل سنة ثلث دية الحر.
فصل: والعاقلة هم العصبات الذين يرثون بالنسب أو الولاء غير الأب والجد والابن وابن الابن والدليل عليه ما روى المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في المرأة بديتها على عصبة العاقلة وأما الأب والجد والابن وابن الابن فلا يعقلون لما روى جابر رضي الله عنه أن امرأتين من هذيل قتلت إحداهما الأخرى ولكل واحدة منهما زوج وولد فجعل النبي صلى الله عليه وسلم دية المقتولة على عاقلة القاتلة وبرأ زوجها وولدها وإذا ثبت هذا في الولد ثبت في الأب لتساويهما في العصبة ولأن الدية جعلت على العاقلة إبقاء على القاتل حتى لا يكثر عليه فيجحف به فلو جعلناه على الأب والابن أجحفنا به لأن مالهما كماله ولهذا لا نقبل شهادته لهما كما لا تقبل لنفسه ويستغنى عن المسألة بمالهما

(3/239)


كما يستغنى بمال نفسه وإن كان في بني عمها ابن لها لم يحمل معهم لما ذكرناه وإن لم يكن له عصبة نظرت فإن كان مسلماً حملت عنه من بيت المال لأن مال بيت المال للمسلمين وهم يرثونه كما ترث العصبات وإن كان ذمياً لم يحمل عنه في بيت المال لأن مال بيت المال للمسلمين وهم لا يرثونه وإنما ينقل ماله إلى بيت المال فيئاً واختلف قوله في المولى من أسفل فقال في أحد القولين: لا يعقل عنه وهو الصحيح لأنه لا يرثه فلم يعقله وقال في الآخر: يعقله لأنه يعقله المولى فعقل عنه المولى كالأخوين فعلى هذا يقدم على بيت المال لأنه من خواص العاقلة فقدم على بيت المال كالمولى من أعلى وإن لم يكن له عاقلة ولا بيت مال فهل يجب على القاتل فيه وجهان بناء على أن الدية هل تجب على القاتل تتحمل عنه العاقلة أو تجب على العاقلة ابتداء وفيه قولان: أحدهما: تجب على القاتل ثم تنتقل إلى العاقلة لأنه هو الجاني فوجبت الدية عليه فعلى هذا تجب الدية في ماله والقول الثاني تجب على العاقلة ابتداء لأنه لا يطالب غيرهم فعلى هذا لا تجب عليه وقال أبوعلي الطبري: إذا قلنا إنها تجب على القاتل عند عدم بيت المال حمل الأب والابن ويبدأ بهما قبل القاتل لأنا لم نحمل عليهما إبقاء على القاتل وإذا حمل على القاتل كانا بالحمل أولى قال الشيخ الإمام حرس الله مدته: ويحتمل عندي أنه لا يجب عليهما لأنا إنما أوجبنا على القاتل على هذا القول لأنه وجب عليه في الأصل فإذا لم يجد من يتحمل بقي الوجوب في محله والأب والابن لم يجب عليهما في الأصل ولا حملا مع العاقل فلم يجب الحمل عليهما.
فصل: ولا يعقل مسلم عن كافر ولا كافر عن مسلم ولا ذمي عن حربي ولا حربي عن ذمي لأنه لا يرث بعضهم من بعض فإن رمى نصراني سهماً إلى الصيد ثم أسلم ثم أصاب السهم إنساناً وقتله وجبت الدية في ماله لأنه لا يمكن إيجابها على عاقلته من النصارى لأنه وجد القتل وهو مسلم ولا يمكن إيجابها على عاقلته من المسلمين لأنه رمى وهو نصراني فإن قطع نصراني يد رجل ثم أسلم ومات المقطوع عقلت عنه عصباته من النصارى دون المسلمين لأن الجناية وجدت منه وهو نصراني ولهذا يجب بها القصاص ولا يسقط عنه بالإسلام وإن رمى مسلم سهماً إلى صيد ثم ارتد ثم أصاب السهم إنساناً فقتله وجبت الدية في ذمته لأنه لا يمكن إيجابها على عاقلته من المسلمين لأنه وجد القتل وهو مرتد ولا يمكن إيجابها على الكفار لأنه ليس له منهم عاقلة يرثونه فوجبت في ذمته وإن جرح مسلم إنساناً ثم ارتد الجارح وبقي في الردة زمناً يسري في مثله الجرح ثم أسلم ومات المجروح وجبت الدية وعلى من تجب فيه قولان: أحدهما:

(3/240)


تجب على عاقلته لأن الجناية في حال الإسلام وخروح الروح في حال الإسلام والعاقلة تحمل ما يجب بالجنايتين في حال الإسلام فوجبت ديته عليها والقول الثاني: أنه يجب على العاقلة نصف الدية ويجب في مال الجاني النصف لأنه وجد سراية في حال الإسلام وسراية في حال الردة فحملت ما سرى في حال الإسلام ولم تحمل ما سرى في الردة.
فصل: ولا يعقل صبي ولا معتوه ولا امرأة لأن حمل الدية على سبيل النصرة بدلاً عما كان في الجاهلية من النصرة بالسيف ولا نصرة في الصبي والمعتوه والمرأة ويعقل المريض والشيخ الكبير إذا لم يبلغ المريض حد الزمانة والشيخ حد الهرم لأنهما من أهل النصرة بالتدبير وقد قاتل عمار في محفة وأما إذا بلغ الشيخ حد الهرم والمريض حد الزمانة ففيه وجهان بناء على القولين في قتلهما في الأسر فإن قلنا إنهما يقتلان في الأسر عقلا وإن قلنا لا يقتلان في الأسر لم يعقلا.
فصل: ولا يعقل فقير لأن حمل الدية على العاقل مواساة الفقير ليس من أهل المواساة ولهذا لا تجب عليه الزكاة ولا نفقة الأقارب ولأن العاقلة تتحمل لدفع الضرر عن القاتل والضرر لا يزال بالضرر ويجب على المتوسط ربع دينار لأن المواساة لا تحصل بأقل قليل ولا يمكن إيجاد الكثير لأن فيه إضراراً بالعاقلة فقدر أقل ما يؤخذ بربع دينار لأنه ليس في حد التافه والدليل عليه أنه تقطع فيه يد السارق وقد قالت عائشة رضي الله عنها: يد السارق لم تكن تقطع في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشيء التافه ويجب على الغني نصف دينار لأنه لا يجوز أن يكون ما يؤخذ من الغني والمتوسط واحداً فقدر بنصف دينار لأنه أقل قدر يؤخذ من الغني في الزكاة التي قصد فيها المواساة فيقدر ما يؤخذ من الغني في الدية بذلك لأن في معناه ويجب هذا القدر في كل سنة لأنه حق يتعلق بالحال على سبيل المواساة فتكرر بتكرر الحول كالزكاة ومن أصحابنا من قال يجب ذلك القدر في الثلاث سنين لأنا لو أوجدنا هذا القدر في كل سنة أجحف به ويعتبر حاله في الفقر والغنى والتوسط عند حلول النجم لأنه حق مال يتعلق بالحلول على سبيل المواساة فاعتبر فيه حاله عند حلول الحول كالزكاة إذا مات قبل حلول الحول لم تجب كما لا تجب الزكاة إذا مات قبل الحول وإن مات بعد الحول لم يسقط ما وجب كما لا يسقط ما وجب من الزكاة قبل الموت.
فصل: وإذا أراد الحاكم قسمة على العاقلة قدم الأقرب فالأقرب من العصبات على ترتيبهم في الميراث لأنه حق يتعلق بالتعصيب فقدم فيه الأقرب فالأقرب كالميراث،

(3/241)


وإن كان فيهم من يدلي بالأبوين وفيهم من يدلي بالأب ففيه قولان: أحدهما: أنهما سواء لتساويهما في قرابة الأب لأن الأم لا مدخل لها في النصرة وحمل الدية فلا يقدم بها والثاني: يقدم من يدلي بالأبوين على من يدلي بالأب لأنه حق يستحق بالتعصيب فقدم من يدلي بالأبوين على من يدلي بالأب كالميراث فإن أمكن أن يقسم ما يجب على الأقربين منهم لم يحمل على من بعدهم وإن لم يمكن أن يقسم على الأقربين لقلة عددهم قسم ما فضل على من بعدهم على الترتيب فإن كان القاتل من بني هاشم قسم عليهم فإن عجزوا دخل معهم بنو عبد مناف فإن عجزوا دخل معهم بنو قصي ثم كذلك حتى تستوعب قريش ولا يدخل معهم غير قريش لأن غيرهم لا ينسب إليهم وإن غاب الأقربون في النسب وحضر الأبعدون ففيه قولان: أحدهما: يقدم الأقربون في النسب لأنه حق يستحق بالتعصيب فقدم فيه الأقربون في النسب كالميراث والثاني: يقدم الأقربون في الحضور على الأقربين في النسب لأن تحمل العاقلة على سبيل النصرة والحاضرون أحق بالنصرة من الغيب فعلى هذا إن كان القاتل بمكة وبعض العاقلة بالمدينة وبعضهم بالشام قدم من بالمدينة على من بالشام لأنهم أقرب إلى القاتل وإن استوت جماعة في النسب وبعضهم حضور وبعضهم غيب ففيه قولان: أحدهما: يقدم الحضور لأنهم أقرب إلى النصرة والثاني: يسوي بين الجميع كما يسوي في الميراث وإن كثرت العاقلة وقل المال المستحق بالجناية بحيث إذا قسم عليهم خص المتوسط دون ربع دينار والغني دون نصف دينار ففيه قولان: أحدهما: أن الحاكم يقسمه على من يرى منهم لأن في تقسيط القليل على الجميع مشقة والثاني: هو الصحيح أنه يقس على الجميع لأنه حق يستحق بالتعصيب فقسم قليله وكثيره بين الجميع كالميراث.
فصل: وإن جنى عبد على حر أو عبد جناية توجب المال تعلق المال برقبته لأنه لا يجوز إيجابه على المولى لأنه لم يوجد منه جناية ولا يجوز تأخيره إلى أن يعتق لأنه يؤدي إلى إهدار الدماء فتعلق برقبته والمولى بالخيار بين أن يبيعه ويقضي حق الجناية من ثمنه وبين أن يفديه ولا يجب عليه تسليم العبد إلى المجني عليه لأنه ليس من جنس حقه وإن اختار بيعه فباعه فإن كان الثمن بقدر مال الجناية صرفه فيه وإن كان أكثر قضى ما عليه والباقي للمولى وإن كان أقل لم يلزم المولى ما بقي لأن حق المجني عليه لا يتعلق بأكثر من الرقبة فإن اختار أن يفديه ففيه قولان: أحدهما: يلزمه أن يفديه بأقل الأمرين من أرش الجناية أو قيمة العبد لأنه لا يلزمه ما زاد على واحد منهما والقول الثاني: يلزمه أرش الجناية بالغاً أو يسلمه للبيع لأنه قد يرغب فيه راغب فيشتريه بأكثر من

(3/242)


قيمته فإذا امتنع من البيع لزمه الأرش بالغاً ما بلغ وإن قتل عشرة أعبد لرجل عبد الآخر عمداً فاقتص مولى المقتول من خمسة وعفا عن خمسة على المال تعلق برقبتهم نصف القيمة في رقبة كل واحد منهم عشرها لأنه قتل خمسة بنصف عبده وعفا عن خمسة على المال وبقي له النصف.

(3/243)


باب اختلاف الجاني وولي الدم
إذا قتل رجلاً ثم ادعى أن المقتول كان عبداً وقال الولي بل حراً فالمنصوص أن القول قول الولي مع يمينه وقال فيمن قذف امرأة ثم ادعى أنها أمة أن القول قول القاذف فمن أصحابنا من نقل جوابه في كل واحدة من المسألتين إلى الأخرى وجعلهما على قولين: أحدهما: أن القول قول الجاني والقاذف لأن ما يدعيان محتمل لأن الدار تجمع الأحرار والعبيد والأصل فيه حمى للظهر وحقن الدم والثاني: أن القول قول ولي المجني عليه والمقذوف لأن الظاهر من الدار الحرية ولهذا لو وجد في الدار لقيط حكم بحريته ومن أصحابنا من قال القول في الجناية قول الولي والقول في القذف قول القاذف والفرق بينهما أنا إذا جعلنا القول قول القاذف أسقطنا حد القذف وأوجبنا التعزير فيحصل به الردع وإذا جعلنا القول قول الجاني سقط القصاص ولم يبق ما يقع به الردع.
فصل: إذا وجب له القصاص في موضحة فاقتص في أكثر من حقه أو وجب له القصاص في أصبع فاقتص في أصبعين وادعى أن أخطأ في ذلك وادعى المستقاد منه أنه تعمد فالقول قول المقتص مع يمينه لأنه أعرف بفعله وقصده وما يدعيه يجوز الخطأ في مثله فقبل قوله فيه وإن قال المقتص منه أن هذه زيادة حصلت باضطرابه وأنكره المستقاد منه ففيه وجهان: أحدهما: أن القول قول المقتص لأن ما يدعيه كل واحد منهما محتمل والأصل براءة الذمة والثاني: أن القول قول المستقاد منه لأنه الأصل عدم الاضطراب.
فصل: إذا اشترك ثلاثة في جرح رجل ومات المجروح ثم ادعى أحدهم أن جراحته اندملت وأنكر الآخران وصدق الوالي المدعي نظرت فإن أراد القصاص قبل تصديقه ولم يجب على المدعي إلا ضمان الجراحة لأنه لا ضرر على الآخرين لأن القصاص يجب عليهما في الحالين وإن أراد أن يأخذ الدية لم يقبل تصديقه لأنه يدخل الضرر على الآخرين لأنه إذا حصل القتل من الثلاثة وجب على كل واحد منهم ثلث الدية وإذا حصل من جراحهما وجب على كل واحد منهما نصف الدية والأصل براءة ذمتهما مما زاد على الثلث.
فصل: إذا قد رجلاً ملفوفاً في كساء ثم ادعى أنه قده وهو ميت وقال الوالي بل كان

(3/243)


حياً ففيه قولان: أحدهما: أن القول قول الجاني لأن ما يدعيه محتمل والأصل براءة ذمته والثاني: أن القول قول الوالي لأن الأصل حياته وكونه مضموناً فصار كما لو قتل مسلماً وادعى أنه كان مرتداً.
فصل: وإن جنى على عضو ثم اختلفا في سلامته فادعى الجاني أنه جنى عليه وهو أشل وادعى المجني عليه أنه جنى عليه وهو سليم فقد اختلف أصحابنا فيه فمنهم من قال فيه قولان: أحدهما: أن القول قول الجاني لأن ما يدعيه كل واحد منهما محتمل والأصل براءة ذمته والثاني: أن القول قول المجني عليه لأن الأصل سلامة العضو ومنهم من قال القول في الأعضاء الظاهرة قول الجاني وفي الأعضاء الباطنة القول قول المجني عليه لأنه يتعذر عليه إقامة البينة على السلامة في الأعضاء الظاهرة فكان القول قول الجاني ويتعذر عليه إقامة البينة على الأعضاء الباطنة والأصل السلامة فكان القول قول المجني عليه ولهذا لم علق طلاق امرأته على ولادتها فقالت ولدت لم يقبل قولها لأنه يمكن إقامة البينة على الولادة ولو علق طلاقها على حيضها فقالت حضت قبل قولها لأنه يتعذر إقامة البينة على حيضها فإن اتفقا على سلامة العضو الظاهر وادعى الجاني أنه طرأ عليه الشلل وأنكر المجني عليه ففيه قولان: أحدهما: أن القول قول الجاني لأنه يتعذر إقامة البينة على سلامته والثاني: أن القول قول المجني عليه لأنه قد ثبتت سلامته فلا يزال عنه حتى يثبت الشلل.
فصل: إذا أوضح رأس رجل موضحتين بينهما حاجز ثم زال الحاجز فقال الجاني تأكل ما بينهما بسراية فعلي فلا يلزمني مني إلا أرش موضحة وقال المجني عليه أنا خرقت ما بينهما فعليك أرش موضحتين فالقول قول المجني عليه لأن ما يدعيه كل واحد منهما محتمل والأصل بقاء الموضحتين ووجوب الأرشين وإن أوضح رأسه فقال الجاني أوضحته موضحة واحدة وقال المجني عليه أو ضحتني موضحتين وأنا خرقت ما بينهما فالقول قول الجاني لأن ما يدعيه كل واحد منهما محتمل والأصل براءة الذمة.
فصل: وإن قطع رجل يدي رجل ورجليه ومات واختلف الجاني والولي فقال الجاني مات من سراية الجنايتين فعلي دية واحدة وقال الولي بل اندملت الجنايتين ثم مات فعليك ديتان فإن كان قد مضى زمان يمكن فيه اندمال الجراحتين فالقول قول الولي لأن الأصل وجوب الديتين وإن لم يمض زمن يمكن فيه الاندمال فالقول قول الجاني لأن ما يدعيه الولي غير محتمل وإن اختلفا في المدة فقال الولي مضت مدة يمكن فيها الاندمال وقال الجاني لم يمض فالقول قول الجاني لأن الأصل عدم المدة.

(3/244)


فصل: وإن قطع يد رجل ومات فقال الولي مات من سراية قطعك فعليك الدية وقال الجاني اندملت جنايتي ومات بسبب آخر فعلي نصف الدية نظرت فإن لم تمض مدة يمكن فيها الاندمال فالقول قول الولي لأن الظاهر أنه مات من سراية الجناية ويحلف على ذلك لجواز أن يكون قتله آخر أو شرب سماً فمات منه وإن مضت مدة يمكن فيها الاندمال ثم مات فإن كان مع الولي بينة أنه لم يزل متألماً ضمناً إلى أن مات فالقول قوله مع يمينه لأن الظاهر أنه مات من الجناية وإن لم يكن معه بينة على ذلك فالقول قول الجاني لأن ما يدعيه كل واحد منهما ممكن والأصل براءة ذمة الجاني مما زاد على نصف الدية.
فصل: وإن قطع يد رجل ومات ثم اختلف الولي والجاني فقال الجاني شرب سماً أو جنى عليه آخر بعد جنايتي فلا يجب علي إلا نصف الدية وقال الولي مات من سراية جنايتك فعليك الدية فليس فيها نص ويحتمل أن يكون القول قول الولي لأن الأصل حصول جنايته وعدم غيرها ويحتمل أن يكون القول قول الجاني لأنه يحتمل ما يدعيه والأصل براءة ذمته.
فصل: وإن جنى عليه جناية ذهب بها ضوء العين وقال أهل الخبرة يرجى عود البصر فمات واختلف الولي والجاني فقال الجاني عاد الضوء ثم مات وقال الولي لم يعد فالقول قول الولي مع يمينه لأن الأصل ذهاب الضوء وعدم العود وإن جنى على عينه فذهب الضوء ثم جاء آخر فقلع العين واختلف الجانيان فقال الأول عاد الضوء ثم قلعت أنت فعليك الدية وقال الثاني قلعت ولم يعد الضوء فعلي حكومة وعليك الدية فالقول قول الثاني لأن الأصل عدم العود فإن صدق المجني عليه الأول قبل قوله في براءة الأول لأنه يسقط عنه حقاً له ولا يقبل قوله على الثاني لأنه يوجب عليه حقاً له والأصل عدمه.
فصل: إذا جنى على رجل جناية فادعى المجني عليه أنه ذهب سمعه وأنكر الجاني امتحن في أوقات غفلاته بالصياح مرة بعد مرة فإن ظهر منه إمارات السماع فالقول قول الجاني لأن الظاهر يشهد له ولا يقبل قوله من غير يمين لأنه يحتمل أن يكون ما ظهر من أمارة السماع اتفاقاً وإن لم يظهر منه أمارة السماع فالقول قول المجني عليه لأن الظاهر معه ولا يقبل قوله في ذلك من غير يمين لجواز ما ظهر من عدم السماع لجودة تحفظه وإن ادعى نقصان السمع فالقول قوله مع يمينه لأنه يتعذر إقامة البينة عليه ولا يعرف ذلك إلا من جهته وما يدعيه محتمل فقبل قوله مع يمينه كما يقبل قول المرأة في الحيض وإن ادعى ذهاب السمع من إحدى الأذنين سد التي لم يذهب السمع منها ثم

(3/245)


يمتحن بالصياح في أوقات غفلاته فإن ظهر منه أمارة السمع فالقول قول الجاني مع يمينه وإن لم يظهر منه أمارة السماع فالقول قول المجني عليه مع يمينه لما ذكرناه.
فصل: وإن ادعى المجني عليه ذهاب شمه وأنكر الجاني امتحن في أوقات غفلته بالروائح الطيبة والروائح المنتنة فإن كان لا يرتاح إلى الروائح الطيبة ولا تظهر منه كراهية الروائح النتنة فالقول قوله لأن الظاهر معه ويحلف عليه لجواز أن يكون قد تصنع لذلك وإن ارتاح إلى الروائح الطيبة ظهرت منه الكراهية للروائح المنتنة فالقول قول الجاني لأن الظاهر يشهد له ويحلف على ذلك لجواز أن يكون ما ظهر من المجني عليه من الارتياح والتكره اتفاقا وإن حلف المجني عليه على ذهاب شمه ثم غطى أنفه عند رائحة منتنة فادعى الجاني أنه غطاه ببقاء شمه وادعى المجني عليه أنه غطاه لحاجة أو لعادة فالقول قول المجني عليه لأنه يحتمل ما يدعيه.
فصل: وإن كسر صلب رجل فادعى المجني عليه أنه ذهب جماعة فالقول قوله مع يمينه لأن ما يدعيه محتمل ولا يعرف ذلك إلا من جهته فقبل قوله مع يمينه كالمرأة في دعوى الحيض.
فصل: وإن اصطدمت سفينتان فتلفتا وادعى صاحب السفينة على القيم أنه فرط في ضبطها وأنكر القيم ذلك فالقول قوله مع يمينه لأن الأصل عدم التفريط وبراءة الذمة.
فصل: إذا ضرب بطن امرأة فألقت جنيناً ميتاً ثم اختلفا فقال الضارب ما أسقطت من ضربي وقالت المرأة أسقطت من ضربك نظرت فإن كان الإسقاط عقيب الضربة فالقول قولها لأن الظاهر معها وإن كان الإسقاط بعد مدة نظرت فإن بقيت المرأة متألمة إلى أن أسقطت فالقول قولها لأن الظاهر معها وإن لم تكن متألمة فالقول قوله لأنه يحتمل ما يدعيه كل واحد منهما والأصل براءة الذمة وإن اختلفا في التألم فالقول قول الجاني لأن الأصل عدم التألم وإن ضربها فأسقطت جنيناً حياً ومات واختلفا فقالت المرأة مات من ضربك وقال الضارب مات بسبب آخر فإن مات عقب الإسقاط فالقول قولها لأن الظاهر معها وأنه مات من الجناية وإن مات بعد مدة ولم تقم البينة أنه بقي متألماً إلى أن مات فالقول قول الضارب مع يمينه لأنه يحتمل ما يدعيه والأصل براءة الذمة وإن أقامت بينة أنه بقي متألماً إلى أن مات فالقول قولها مع اليمين لأن الظاهر أنه مات من جنايته.
فصل: وإن اختلفا فقالت المرأة استهل ثم مات وأنكر الضارب فالقول قوله لأن الأصل عدم الاستهلال وإن ألقت جنيناً حياً ومات ثم اختلفا فقال الضارب كان أنثى

(3/246)


وقالت المرأة أنه كان ذكراً فالقول قول الضارب لأن الأصل براءة الذمة مما زاد على دية الأنثى.
فصل: وإن ادعى رجل على رجل قتلاً تجب فيها الدية على العاقل صدقه المدعى عليه وأنكرت العاقلة وجبت الدية على الجاني بإقراره ولا تجب على العاقلة من غير بينة لما روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: لا تحمل العاقلة عمداً ولا عبداً ولا صلحاً ولا اعترافاً ولأنا لو قبلنا إقراره على العاقلة لم يؤمن إن لم يواطىء في كل وقت من يقوله بقتل الخطأ فيودي إلى الإضرار بالعاقلة وإن ضرب بطن امرأة فألقت جنيناً فقال الجاني كان ميتاً وقالت المرأة كان حياً فالقول قول الجاني لأنه يحتمل ما يدعيه لك واحد منهما والأصل براءة الذمة وإن صدق الجاني المرأة وأنكرت العاقلة وجب على العاقلة قدر الغرة لأنها لم تعترف بأكثر منها ووجبت الزيادة في ذمة الجاني لأن قوله مقبول على نفسه دون العاقلة.
فصل: إذا سلم من عليه الدية الإبل في قتل العمد ثم اختلفا فقال الولي لم يكن فيها خلفات وقال من عليه الدية كانت فيها خلفات فإن لم يرجع في حال الدفع إلى أهل الخبرة فالقول قول الولي لأن الأصل عدم الحمل فإن رجع في الدفع إلى قول أهل الخبرة ففيه وجهان: أحدهما: أن القول قول الولي لما ذكرناه والثاني: أن القول قول من عليه الدية لأن حكمنا بأنها خلفات بقول أهل الخبرة فلم يقبل فيه قول الولي.

(3/247)


باب كفارة القتل
من قتل من يحرم عليه قتله من مسلم أو كافر له أمان خطأ وهو من أهل الضمان وجبت عليه الكفارة لقوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] وقوله تبارك وتعالى: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] فإن قتله عمداً أو شبه عمد وجبت عليه الكفارة لأنها إذا وجبت في قتل الخطأ مع عدم المأثم فلأن تجب في العمد وشبه العمد وقد تغلظ بالإثم أولى وإن توصل إلى قتله بسبب يضمن فيه النفس كحفر بئر وشهادة الزور والإكراه وجبت عليه الكفارة لأن السبب كالمباشرة في إيجاب الضمان فكان كالمباشرة في إيجاب الكفارة فإن ضرب بطن امرأة فألقت جنيناً ميتاً وجبت عليه الكفارة لأنه آدمي محقون الدم لحرمته فضمن بالكفارة كغيره وإن قتل نفسه أو قتل عبده وجبت عليه الكفارة لأن الكفارة تجب لحق الله تعالى،

(3/248)