المهذب في فقة الإمام الشافعي

كتاب قتال أهل البغي
مدخل
...
كتاب قتال أهل البغي
لا يجوز الخروج عن الإمام لمل روى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من نزع يده من طاعة إمامه فإنه يأتي يوم القيامة ولا حجة له ومن مات وهو مفارق للجماعة فإنه يموت ميتة جاهلية"1. وروى أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حمل علينا السلاح فليس منا" 2.
فصل: إذا خرجت على الإمام طائفة من المسلمين ورامت خلعه بتأويل أو منعت حقاً توجب عليها بتأويل وخرجت عن قبضة الإمام وامتنعت بمنعة قاتلها الإمام لقوله عز وجل: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ الله} [الحجرات: 9] ولأن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قاتل مانعي الزكاة وقاتل علي كرم الله وجهه أهل البصرة يوم الجمل وقاتل معاوية بصفين وقاتل الخوارج بالنهروان ولا يبدأ القتال حتى يسألهم ما ينقمون منه فإن ذكروا مظلمة أزالها وإن ذكروا علة يمكن إزاحتها أزاحها وإن ذكروا شبهة كشفها لقوله تعالى: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات: 9] وفيما ذكرناه إصلاح وروى عبد الله بن شداد أن علي كرم الله وجهه لما كتب معاوية وحكم وعتب عليه ثمانية آلاف ونزلوا بأرض يقال لهل حروراء فقالوا: انسلخت من قميص ألبسك الله وحكمت في دين الله ولا حكم إلا لله فقال علي: بيني وبينكم كتاب الله يقول الله تعالى في رجل
__________
1 رواه البخاري في كتاب الفتن باب 2. مسلم في كتاب الإمارة حديث 35، 56. النسائي في كتاب تحريم الدم باب 28. الدارمي في كتاب السير باب 75.
2 رواه البخاري في كتاب الفتن باب 7. مسلم في كتاب الإيمان حديث 161، 163. الترمذي في كتاب الحدود باب 26. ابن ماجه في كتاب الفتن باب 11.

(3/249)


وامرأة: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ الله بَيْنَهُمَا} [النساء: 35] وأمة محمد صلى الله عليه وسلم أعظم دما وحرمة من امرأة ورجل ونقموا أني كاتبت معاوية من علي بن أبي طالب وجاء سهيل بن عمرو ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية حين صالح قومه قريشاً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أكتب من محمد رسول الله". فقالوا لو نعلم أنك رسول الله صلى الله عليه وسلم لم نخالفك فقال أكتب فكتب: "هذا ما قاضى محمد عليه قريشاً". يقوا الله عز وجل: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو الله وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} [الأحزاب: 21] وبعث إليهم عبد الله بن عباس فواضعوا عبد الله كتاب الله تعالى ثلاثة أيام ورجع منهم أربعة آلاف فإن أبوا وعظهم وخوفهم القتال فإن أبوا قاتلهم فإن طلبوا الأنظار نظرت فإن كان يومين أو ثلاثة أنظرهم لأن ذلك مدة قريبة ولعلهم يرجعون إلى الطاعة فإن طلبوا أكثر من ذلك بحث عنه الإمام فإن كان قصدهم الاجتماع على الطاعة أمهلهم وإن كان قصدهم الاجتماع على القتال لم ينظرهم لما في الأنظار من الأضرار وإن أعطوا على الأنظار رهائن لم يقبل منهم لأنه لا يؤمن أن يكون هذا مكراً وطريقة إلى قهر أهل العدل وإن بذلوا عليه مالاً لم يقبل لما ذكرناه ولأن فيه إجزاء صغاراً على طائفة من المسلمين فلم يجز كأخذ الجزية منهم.
فصل: ولا يتبع في القتال مدبرهم ولا يذفف على جريحهم لما روى عبد الله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يا ابن أم عبد ما حكم من بغى من أمتي" فقلت الله ورسوله أعلم فقال: "لا يتبع مدبرهم ولا يجاز على جريحهم ولا يقتل أسيرهم ولا يقسم فيؤهم": عن علي كرم الله وجهه أنه قال: لا تجيزوا على جريح ولا تتبعوا مدبرا وعن أبي أمامة قال شهدت صفين فكانوا لا يجيزون على جريح ولا يطلبون موليا ولا يسلبون قتيلا ولأن قتالهم للدفع والرد إلى الطاعة دون القتل فلا يجوز فيه القصد إلى القتل من غير حاجة وإن حضر معهم من لا يقاتل ففيه وجهان: أحدهما: لا يقصد بالقتل لأن القصد من قتالهم كفهم وهذا قد كف نفسه فلم يقصدوا الثاني والثاني: يقتل لأن علياً كرم

(3/250)


الله وجهه نهاهم عن قتل محمد بن طلحة السجاد وقال إياكم وقتل صاحب البرنس فقتله رجل وأنشأ يقول:
وأشعث قوام بآيات ربه ... قليل الذي فيما ترى العين مسلم
هتكت له بالرمح جيب قميصه
... فخر صريعا لليدين وللفم
على غير شيء غير أن ليس تابعاً ... عليا ومن لا يتبع الحق يظلم
يناشدني حم والرمح شاجر ... فهلا تلاحم قبل التقدم
ولم ينكر علي كرم الله وجهه قتله ولأنه صار ردءا لهم ولا تقتل النساء والصبيان كما لا يقتلون في حرب الكفار فإن قاتلوا جاز قتلهم كما يجوز قتلهم إذا قصدوا قتله في غير القتال ويكره أن يقصد قتل ذي رحم محرم كما يكره في قتال الكفار فإن قاتله لم يكره كما لا يكره إذا قصد قتله في غير القتال.

(3/251)


فصل: ولا يقتل أسيرهم لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث عبد الله بن مسعود: "ولا يقتل أسيرهم". فإن قتله ضمنه بالدية لأنه بالأسر صار محقون الدم فصار كما لو رجع إلى الطاعة وهل يضمنه بالقصاص فيه وجهان: أحدهما: يضمنه لما ذكرناه والثاني: لا يضمنه لأن أبا حنيفة رحمه الله يجيز قتله فصار ذلك شبهة في إسقاط القود فإن كان الأسير حراً بالغاً فدخل في الطاعة أطلقه وإن لم يدخل في الطاعة حبسه إلى أن تنقضي الحرب ليكف شره ثم يطلقه ويشرط عليه أن لا يعود إلى القتال وإن كان عبداً أو صبياً لم يحبسه لأنه ليس من أهل البيعة ومن أصحابنا من قال يحبسه لأن في حبسه كسرا لقلوبهم.
فصل: ولا يجوز قتالهم بالنار والرمي عن المنجنيق من غير ضرورة لأنه لا يجوز أن يقتل إلا من يقاتل والقتل بالنار أو المنجنيق يعم من يقاتل ومن لا يقاتل وإن دعت إليه الضرورة جاز كما يجوز أن يقتل من لا يقاتل إذا قصد قتله للدفع ولا يستعين في قتالهم بالكفار ولا بمن يرى قتلهم مدبرين لأن القصد كفهم وردهم إلى الطاعة دون قتلهم وهؤلاء يقصدون قتلهم فإن دعت الحاجة إلى الاستعانة بهم فإن كان يقدر على منعهم من إتباع المدبرين جاز وإن لم يقدر لم يجز.
فصل: وإن اقتتل فريقان من أهل البغي فإن قدر الإمام على قهرهما لم يعاون واحداً منهما لأن الفريقين على خطأ وإن لم يقدر على قهرهما ولم يأمن أن يجتمعا على قتاله ضم إلى نفسه أقربهما إلى الحق فإن استويا في ذلك اجتهد في رأيه في ضم أحدهما: إلى نفسه ولا يقصد بذلك معاونته على الآخر بل يقصد الاستعانة به على الآخر فإذا انهزم الآخر لم يقاتل الذي ضمه إلى نفسه حتى يدعوه إلى الطاعة لأنه حصل بالاستعانة به في أمانة.
فصل: ولا يجوز أخذ مالهم لحديث ابن مسعود وحديث أبي أمامة في صفين ولأن الإسلام عصم دمهم ومالهم وإنما أبيح قتالهم للدفع والرد إلى الطاعة وبقي حكم المال على ما كان فلم يجز أخذه كمال قطاع الطريق ولا يجوز الانتفاع بسلاحهم وكراعهم من غير إذنهم من غير ضرورة لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه" 1.
__________
1 رواه البخاري في كتاب الرقاق باب 11، مسلم في كتاب الزكاة حديث 96. الترمذي في كتاب الزكاة باب 34. أحمد في مسنده 4/10.

(3/252)


لا يجوز أخذ ماله محمد لم يجز الانتفاع بماله من غير إذنه ومن غير ضرورة كغيرهم وإن اضطر إليه جاز كما يجوز أكل مال غيره عند الضرورة.
فصل: وإن أتلف أحد الفريقين على الآخر نفساً أو مالاً في غير القتال وجب عليه الضمان لأن تحريم نفس كل واحد منهما وماله كتحريمهما قبل البغي فكان ضمانهما كضمانهما قبل البغي إن أتلف أهل العدل على أهل البغي نفساً أو مالاً في حال الحرب بحكم القتال لم يجب عليه الضمان لأنه مأمور بإتلافه فلا يلزمه ضمانه كما لو قتل من يقصد نفسه أو ماله من قطاع الطريق وإذا أتلف أهل البغي على أهل العدل ففيه قولان: أحدهما: يجب عليه الضمان لأنه أتلف عليه بعدوان فوجب عليه الضمان كما لو أتلف عليه في غير القتال والزنى لا يجب عليه الضمان وهو الصحيح لما روي عن الزهري أنه قال كانت الفتنة العظمى بين الناس وفيهم البدريون فأجمعوا على أن لا يقام حد على رجل ارتكب فرجاً حراماً بتأويل القرآن ولا يقتل رجل سفك دماً حراً بتأويل القرآن ولا يغرم مالا أتلفه بتأويل القرآن ولأنها طائفة ممتنعة بالحرب بتأويل فلم تضمن ما تتلف على الأخرى بحكم الحرب كأهل العدل ومن أصحابنا من قال القولان في غير القصاص فأما القصاص فلا يجب قولاً واحداً لأنه يسقط الشبهة ولهم في القتل شبهة.
فصل: وإن استعان أهل البغي بأهل الحرب في القتال وعقدوا لهم أماناً أو ذمة بشرط المعاونة لم ينعقد لأن من شرط الذمة والأمان أن لا يقتلوا المسلمين فلم ينعقد على شرط القتال فإن عاونوهم جاز لأهل العدل قتلهم مدبرين وجاز أن يذفف على جريحهم إن أسروا جاز قتلهم واسترقاقهم والمن عليهم والمفاداة لهم لأنه لا عهد لهم ولا ذمة فصاروا كما جاؤوا منفردين عن أهل البغي ولا يجوز شيء من ذلك لمن عاونهم من أهل البغي لأنهم بذلوا لهم الذمة والأمان فلزمهم الوفاء به وإن استعانوا بأهل الذمة فعاونوهم نظرت فإن قالوا كنا مكرهين أو ظننا أنه يجوز أن نعاونهم عليكم كما يجوز أن نعاونكم عليهم لم تنتقض الذمة لأن ما ادعوه محتمل فلا يجوز نقض العقد مع الشبهة وإن قاتلوا معهم عالمين من غير إكراه فإن كان قد شرط عليهم ترك المعاونة في عقد الذمة انتقض العهد لأنه زال شرط الذمة إن لم يشترط ذلك ففيه قولان: أحدهما: ينتقض كما لو انفردوا بالقتال لأهل العدل والثاني: لا ينتقض لأنهم قاتلوا تابعين لأهل البغي فإذا قلنا لا ينتقض عهدهم كانوا في القتال كأهل البغي لا يتبع مدبرهم ولا يدفف على جريحهم وإن أتلفوا نفساً أو مالاً في الحرب لزمهم الضمان قولا واحدا والفرق بينهم وبين أهل البغي أن في تضمين أهل البغي تنفيراً عن الرجوع إلى الطاعة فسقط عنهم الضمان في أحد

(3/253)


القولين ولا يخاف تنفير أهل الذمة لأنا قد أمناهم على هذا القول وإن استعانوا بمن له أمان إلى مدة فعاونوهم انتقض أمانهم فإن ادعوا أنهم كانوا مكرهين ولم تكن لهم بينة على الإكراه انتقض الأمان والفرق بينهم وبين أهل الذمة في أحد القولين أن الأمان المؤقت ينتقض بالخوف من الخيانة فانتقض بالمعاونة وعقد الذمة لا ينتقض بالخوف من الخيانة فلم ينتقض بالمعاونة.
فصل: وإن ولوا فيما استولوا عليه قاضياً نظرت فإن كان ممن يستبيح دماء أهل العدل وأموالهم لهم ينفذ حكمه لأنه من شرط القضاء العدالة والاجتهاد وهذا ليس بعدل ولا مجتهد وإن كان ممن لا يستبيح دماءهم ولا أموالهم نفذ من حكمه ما ينفذ من حكم قاضي أهل العدل ورد من حكمه ما يرد من حكم قاضي أهل العدل لأن لهم تأويلاً يسوغ فيه الاجتهاد فلم ينقض من حكمه ما يسوغ فيه الاجتهاد وإن كتب قاضيهم إلى قاضي أهل العدل استحب أن لا يقبل كتابه استهانة بهم وكسرا لقلوبهم فإن قبله جاز لأنه ينفذ حكمه فجاز الحكم بكتابه كقاضي أهل العدل.
فصل: وإن استولوا على بلد وأقاموا الحدود وأخذوا الزكاة والخراج والجزية اعتد به لأن علياً كرم الله وجهه قاتل أهل البصرة ولم يلغ ما فعلوه وأخذوه ولأن ما فعلوه وأخذوه بتأويل سائغ فوجب إمضاؤه كالحاكم إذا حكم بما يسوغ فيه الاجتهاد فإن عاد البلد إلى أهل العدل فادعى من عليه الزكاة أنه دفعها إلى أهل البغي قبل قوله وهل يحلف عليه مستحباً أو واجباً فيه وجهان: ذكرناهما في الزكاة وإن ادعى من عليه الجزية أنه دفعها إليهم لم يقبل قوله لأنها عوض فلم يقبل قوله في الدفع كالمستأجر إذا ادعى دفع الأجرة وإن ادعى من عليه الخراج أنه دفعه إليهم ففيه وجهان: أحدهما: يقبل قوله لأنه مسلم فقبل قوله في الدفع كما قلنا فيمن عليه الزكاة والثاني: لا يقبل لأن الخراج ثمن أو أجرة فلم يقبل قوله في الدفع كالثمن في البيع والأجرة في الإجارة.
فصل: وإن أظهر قوم رأي الخوارج ولم يخرجوا عن قبضة الإمام لم يتعرض لهم لأن علياً كرم الله وجهه سمع رجلاً من الخوارج يقول لا حكم إلا لله تعريضاً له في التحكيم في صفين فقال كلمة حق أريد بها باطل ثم قال لكم علينا ثلاث: لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسم الله ولا نمنعكم من الفيء ما دامت أيديكم معنا ولا نبدؤكم بقتال ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتعرض للمنافقين الذين كانوا معه في المدينة فلأن لا نتعرض لأهل البغي وهم من المسلمين أولى وحكمها في ضمان النفس والمال والحد حكم أهل العدل لأن ابن ملجم جرح عليا كرم الله وجهه فقال: أطعموه واسقوه واحبسوه

(3/254)


فإن عشت فأنا ولي دمي أعفو إن شئت وإن شئت استقدت وإن مت فاقتلوه ولا تمثلوا به فإن قتل فهل يتحتم قتله فيه وجهان: أحدهما: يتحتم لأنه قتل بشهر السلاح فانحتم قتله كقاطع الطريق والثاني: لا يتحتم وهو الصحيح لقول علي كرم الله وجهه أعفوا إن شئت وإن شئت استقدت وإن سبوا الإمام أو غيره من أهل العدل عزروا لأنه محرم ليس فيه حد ولا كفارة فوجب فيه التعزيز وإن عرضوا بالسب ففيه وجهان: أحدهما: يعزرون لأنهم إذا لم يعزروا على التعريض وصرحوا وخرقوا الهيبة والثاني: لا يعزرون لما روى أبو يحيى قال: صلى بنا علي رضي الله عنه صلاة الفجر فناداه رجل من الخوارج {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر: 65] فأجابه علي رضوان الله عليه وهو في الصلاة {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ} [الزمر: 65] ولم يعزره.
فصل: وإن خرجت على الإمام طائفة لا منعة لها أو أظهرت رأي الخوارج كان حكمهم في ضمان النفس والمال والحدود حكم أهل العدل لأنه لا يخاف نفورهم لقلتهم وقدرة الإمام عليهم فكان حكمهم فيما ذكرناه حكم الجماعة كما لو كانوا في قبضته.
فصل: وإن خرجت طائفة من المسلمين عن طاعة الإمام بغير تأويل واستولت على البلاد ومنعت ما عليها وأخذت ما لا يجوز أخذه قصدهم الإمام وطالبهم بما منعوا ورد ما أخذوا وغرمهم ما أتلفوه بغير حق وأقام عليهم حدود ما ارتكبوا لأنه لا تأويل لهم فكلن حكمهم ما ذكرناه كقطاع الطريق.

(3/255)


باب قتل المرتد
تصح الردة من كل بالغ عاقل مختار فأما الصبي والمجنون فلا تصح ردتهما لقوله صلى الله عليه وسلم: "رفع القلم عن ثلاثة عن الصبي حتى يبلغ وعن النائم حتى يستيقظ وعن المجنون

(3/255)


حتى يفيق". وأما السكران ففيه طريقان: من أصحابنا من قال: تصح ردته قولاً واحداً ومنهم من قال فيه قولان وقد بينا ذلك في الطلاق فأما المكره فلا تصح ردته لقوله تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ} [النحل: 16] وإن تلفظ بكلمة الكفر وهو أسير لم يحكم بردته لأنه مكره وإن تلفظ بها في دار الحرب في غير الأسر حكم بردته لأن كونه في دار الحرب لا يدل على الإكراه وإن أكل لحم الخنزير أو شرب الخمر لم يحكم بردته لأنه قد يأكل ويشرب من غير اعتقاد ومن أكره على كلمة الكفر فالأفضل أن لا يأتي بها لما روى أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله عز وجل وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن توقد نار فيقذف فيها" 1. وروى حباب بن الأرت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن كان الرجل ممن كان قبلكم ليحفر له في الأرض فيجعل فيها فيجاء بمنشار فتوضع على رأسه ويشق باثنتين فلا يمنعه ذلك عن دينه ويمشط بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم وعصب ما يصده ذلك عن دينه" 2. ومن أصحابنا من قال: إن كان ممن يرجو النكاية في العدو أو القيام بأحكام الشرع فالأفضل له أن يدفع القتل عن نفسه ويتلفظ بكلمة الكفر لما في لقائه من صلاح المسلمين وإن كان لا يرجوا ذلك اختار القتل.
فصل: إذا ارتد الرجل وجب قتله لما روى أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث رجل كفر بعد إسلامه أو زنى بعد إحصانه أو قتل نفساً بغير نفس" 3. فإن ارتدت امرأة وجب قتلها،
__________
1 رواه البخاري في كتاب الإيمان باب 9. مسلم في كتاب الإيمان حديث 66. الترمذي في كتاب الإيمان باب 10. النسائي في كتاب الإيمان باب 3.
2 رواه البخاري في كتاب المناقب باب 25. مسلم في كتاب البر حديث 53. أبو داود في كتاب الجهاد باب 97. أحمد في مسنده 5/109.
3 رواه البخاري في كتاب الديات باب 6. مسلم في كتاب القسامة حديث 25، 26. أبو داود في كتاب الحدود باب 1. الترمذي في كتاب الحدود باب 15.

(3/256)


لما روى جابر رضي الله عنه أن امرأة يقال لهل أم رومان ارتدت عن الإسلام فبلغ أمرها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأمر أن تستتاب فإن تابت وإلا قتلت وهل يجب أن يستتاب أو يستحب فبه قولان أحدهما: لا يجب لأنه لو قتل قبل الاستتابة لم يضمنه القاتل ولو وجبت الاستتابة لضمنه والثاني: أنها تجب لما روي أنه لمل ورد على عمر رضي الله عنه فتح تستر فسألهم هل كان من مغربة خبر؟ قالوا: نعم رجل ارتد عن الإسلام ولحق بالمشركين فأخذناه وقتلناه قال: فهلا أدخلتموه بيتا وأغلقتم عليه بابا وأطعمتموه كل يوم رغيفا واستتبتموه ثلاثا فإن تاب وإلا قتلتموه اللهم إني لم أشهد ولم آمر ولم أرض إذ بلغني ولو لم تجب الاستتابة لما تبرأ من فعلهم فإن قلنا أنه تجب الاستتابة أو تستحب ففي مدتها وجهان: أحدهما: أنها ثلاثة أيام لحديث عمر رضي الله عنه ولأن الردة لا تكون إلا عن شبهة وقد لا يزول ذلك بالاستتابة في الحال فإن تاب وإلا قتل لحديث أم رومان ولأنه استتابة من الكفر فلم تتقدر بثلاث كاستتابة الحربي وإن كان سكراناً فقد قال الشافعي رحمه الله تؤخر الاستتابة ومن أصحابنا من قال تصح الاستتابة والتأخير مستحب لأنه تصح ردته فصحت استتابته ومنهم من قال لا تصح استتابته ويجب التأخير لأن ردته لا تكون إلا عن شبهة ولا يمكن بيان الشبهة ولا إزالتها مع السكر إن ارتد ثم جن لم يقتل حتى يفيق ويعرض عليه الإسلام لأن القتل يجب بالردة والإصرار عليها والمجنون لا يوصف بأنه مصر على الردة.
فصل: وإذا تاب المرتد قبلت توبته سواء كانت ردته إلى كفر ظاهر به أهله أو إلى كفر يستتر به أهله كالتعطيل والزندقة لما روى أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله" 1. فإذا
__________
1 رواه البخاري في كتاب الإيمان باب 27، 28. مسلم في كتاب الإيمان حديث 32، 36. أبو داود في كتاب الجهاد باب 95. الترمذي في كتاب تفسير سورة 88.

(3/257)


شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله واستقبلوا قبلتنا وصلوا صلاتنا وأكلوا ذبيحتنا فقد حرمت علينا دماءهم وأموالهم إلا بحقها ولهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كف عن المنافقين لما أظهروا من الإسلام مع ما كانوا يبطنون من خلافه فوجب أن يكف عن المعطل والزنديق لمل يظهرونه من الإسلام فإن كان المرتد ممن لا تأويل له في كفره فأتى بالشهادتين حكم بإسلامه لحديث أنس رضي الله عنه فإن صلى في دار الحرب حكم بإسلامه وإن صلى في دار الإسلام لم يحكم باسلامه لأنه يحتمل أن تكون صلاته في دار الإسلام للمراآة والتقية وفي دار الحرب لا يحتمل ذلك فدل على إسلامه وإن كان ممن يزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث الى العرب وحدها أو ممن يقول إن محمدا نبي يبعث وهو غير الذي بعث لم يصح إسلامه حتى يتبرأ مع الشهادتين من كل دين خلاف الإسلام لأنه إذا اقتصر على الشهادتين احتمل أن يكون أراد ما يعتقده وإن ارتد بجحود فرض أو استباحة محرم لم يصح إسلامه حتى يرجع عما اعتقده ويعيد الشهادتين لأنه كذب الله وكذب رسوله بما اعتقده في خبره فلا يصح إسلامه حتى يأتي بالشهادتين وإن ارتد ثم أسلم ثم ارتد ثم أسلم وتكرر منه ذلك قبل إسلامه ويعزر على تهاونه بالدين وقال أبو إسحاق: لا يقبل إسلامه إذا تكررت ردته وهذا خطأ لقوله عز وجل: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] ولأنه أتى بالشهادتين بعد الردة فحكم بإسلامه كما لو ارتد مرة ثم أسلم.
فصل: وإن ارتد ثم أقام على الردة فإن كان حراً كان قتله إلى الإمام لأنه قتل يجب لحق الله تعالى فكان إلى الإمام كقتل الزاني فإن قتله غيره بغير إذنه عزر لأنه أفتات على الإمام فإن كان عبداً ففيه وجهان: أحدهما: أنه يجوز للمولى قتله لأنه عقوبة تجب لحق الله تعالى فجاز للمولى إقامتها كحد الزنى والثاني: لا يجوز للمولى قتله لأنه حق الله عز وجل لا يتصل بحق المولى فلم يكن للمولى فيه حق بخلاف حد الزنا فإنه يتصل بحقه في إصلاح ملكه.

(3/258)


فصل: إذا ارتد وله مال ففيه ثلاثة أقوال: أحدهما: لا يزول ملكه عن ماله وهو اختيار المزني رحمه الله لأنه لم يوجد أكثر من سبب يبيح الدم وهذا لا يوجب زوال الملك عن ماله كما لو قتل أو زنى والقول الثاني: أنه يزول ملكه عن ماله وهو الصحيح لما روى طارق بن شهاب أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال لوفد بزاخة وغطفان: نغنم ما أصبنا منكم وتردون إلينا ما أصبتم منا ولأنه عصم بالإسلام دمه وماله ثم ملك المسلمين دمه بالردة فوجب أن يملكوا ماله بالردة والقول الثالث: أنه مراعي فإن أسلم حكمنا بأنه لم يزل ملكه وإن قتل أو مات على الردة حكمنا بأنه زال ملكه لأن ماله معتبر بدمه ثم استباحة دمه موقوفة على توبته فوجب أن يكون زوال ملكه عن المال موقوفا وعلى هذا في ابتداء ملكه بالاصطياد والابتياع وغيرهما الأقوال الثلاثة: أحدهما: يملك والثاني: لا يملك والثالث: أنه مراعى فإن قلنا أن ملكه قد زال بالردة صار المال فيئا للمسلمين وأخذ إلى بيت المال وإن قلنا أنه لا يزول أو مرعى حجر عليه ومنع من التصرف فيه لأنه تعلق به حق المسلمين وهو متهم في إضاعته فحفظ كما يحفظ مال السفيه وأما تصرفه في المال فإنه إن كان بعد الحجر لم يصح لأنه حجر ثبت بالحاكم فمنع صحة التصرف فيه كالحجر على السفيه وإن كان قبل الحجر ففيه ثلاثة أقوال بناء على الأقوال في بقاء ملكه أحدها أنه يصح والثاني: أنه لا يصح والثالث: أنه موقوف.
فصل: وإن ارتد وعليه دين قضى من ماله لأنه ليس بأكثر من موته ولو مات قضيت ديونه فكذلك إذا ارتد.
فصل: ولا يجوز استرقاقه لأنه لا يجوز إقراره على الكفر فإن ارتد وله ولد أو حمل كان محكوماً بإسلامه فإذا بلغ ووصف الكفر قتل وقال أبو العباس: فيه قول آخر أنه لا يقتل لأن الشافعي رحمه الله قال: ولو بلغ فقتله قاتل قبل أن يصف الإسلام لم يجب عليه القود والمذهب الأول لأنه محكوم بإسلامه إنما أسقط الشافعي رحمه الله القود بعد البلوغ للشبهة وهو أنه بلغ ولم يصف الإسلام ولهذا لو قتل قبل البلوغ وجب القود وإن ولد له ولد بعد الردة من ذمية فهو كافر لأنه ولد بين كافرين وهل يجوز استقراره؟ فيه قولان: أحدهما: لا يجوز لأنه لا يسترق أبواه فلم يسترق والثاني: لأنه كافر ولد بين كافرين فجاز استرقاقه كولد الحربيين فإن قلنا لا يجوز استرقاقه استتيب بعد البلوغ فإن تاب وإلا قتل وإن قلنا يجوز استرقاقه فوقع في الأسر فللإمام أن يمن عليه وله أن يفادي به وله أن يسترقه كولد الحربيين غير أنه إذا استرقه لم يجز إقراره على الكفر لأنه دخل في الكفر بعد نزول القرآن.

(3/259)


فصل: وإن ارتدت طائفة وامتنعت بمنعة وجب على الإمام قتالها لأن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قاتل المرتدة ويتبع في الحرب مدبرهم ويذفف على جريحهم لأنه إذل وجب ذلك في قتال أهل الحرب فلأن يجب ذلك في قتال المرتدة وكفرهم أغلظ أولى وإن أخذ منهم أسير استتيب فإن تاب وإلا قتل لأنه لا يجوز إقراره على الكفر.
فصل: ومن أتلف منهم نفساً أو مالاً على مسلم فإن كان ذلك في غير القتال وجب عليه ضمانه لأنه التزم ذلك بالإقرار بالإسلام فلم يسقط عنه بالجحود كما لا يسقط عنه ما التزمه بالإقرار عند الحاكم بالحجود فإن أتلف ذلك في حال القتال ففيه طريقان: أحدهما: وهو قول الشيخ أبي حامد الإسفرايني وغيره من البغداديين أنه على قولين كما قلنا في أهل البغي والثاني: وهو قول القاضي أبي حامد المروروذي وغيره من البصريين أنه يجب عليه الضمان قولاً واحداً لأنه لا ينفذ قضاء قاضيهم فكان حكمهم في الضمان حكم قاطع الطريق ولأول وهو الصحيح أنه على قولين أصحهما أنه لا يجب الضمان لما روى طارق بن شهاب قال: جاء وفد بزاخة وغطفان إلى أبي بكر يسألونه الصلح فقال: تدون قتلانا وقتلاكم في النار فقال عمر: إن قتلانا قتلوا على أملا الله ليس لهم ديات فتفرق الناس على رأي عمر رضي الله عنه.
فصل: وللسحر حقيقة وله تأثير في إيلام الجسم وإتلافه وقال أبو جعفر الإستراباذي من أصحابنا من قال لا حقيقة ولا تأثير له والمذهب الأول لقوله تعالى: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} [الفلق: 4] والنفاثات السواحر ولو لم يكن للسحر حقيقة لما أمر بالاستعاذة من شره وروت عائشة رضي الله عنها قالت: سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أنه ليخيل إليه أنه قد فعل الشيء وما فعله ويحرم فعله لما روى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس منا من سحر أو سحر له وليس منا من تكهن أو تكهن له وليس منل من تطير أو تطير له". ويحرم تعلمه لقوله تعالى: {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ

(3/260)


النَّاسَ السِّحْرَ} [البقرة: 102] فذمهم على تعليمه ولأن تعلمه يدعوا إلى فعله وفعله محرم فحرم ما يدعوا إليه فإن علم أم تعلم واعتقد تحريمه لم يكفر لأنه إذا لم يكفر بتعلم الكفر فلأن لا يكفر بتعلم السحر أولى وإن اعتقد إباحته مع العلم بتحريمه فقد كفر لأنه كذب الله تعالى في خبره ويقتل كما يقتل المرتد.

(3/261)


باب صول الفحل
من قصده رجل في نفسه أو ماله أو أهله بغير حق فله أن يدفعه لما روى سعيد بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من قاتل دون أهله أو ماله فقتل فهو شهيد" 1. وهل يجب عليه الدفع ينظر فيه فإن كان في المال لم يجب لأن المال يجوز إباحته وإن كان في أهله وجب عليه الدفع لأنه لا يجوز إباحته وإن كان في النفس ففيه وجهان: أحدهما: أنه يجب عليه الدفع لقوله عز وجل: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] والثاني: أنه لا يجب لأن عثمان رضي الله عنه لم يدفع عن نفسه ولأنه ينال به الشهادة إذا قتل فجاز له ترك الدفع لذلك.
فصل: وإذا أمكنه الدفع بالصياح والاستغاثة لم يدفع باليد وإن كان في موضع لا يلحقه الغوث دفعه باليد فإذا لم يندفع دفعه بالعصا فإن لم يندفع بالعصا دفعه بالسلاح فإن لم يندفع إلا بإتلاف عضو دفعه بإتلاف العضو فإن لم يندفع إلا بالقتل دفعه بالقتل وإن عض يده ولم يمكنه تخليصها إلا بفك لحييه وإن لم يندفع إلا بأن
__________
1 رواه أبو داود في كتاب السنة باب 29. الترمذي في كتاب الديات باب 21. النسائي في كتاب التحريم باب 23، 24.

(3/261)


يبعج جوفه بعج جوفه ولا يجب عليه في شيء من ذلك ضمان لما روى عمران بن الحصين قال: قاتل يعلى بن أمية رجلاً فعض أحدهما: يد صاحبه فانتزع يده من فيه فنزع ثتيته فاختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يعض أحدكم أخاه كما يعض الفحل لا دية له". ولأن فعله ألجأه إلى الإتلاف فلم يضمنه كما لو رمى حجراً فرجع الحجر عليه فأتلفه وإن قدر على دفعه بالعصا فقطع عضواً أو قدر على دفعه بالقطع فقتله وجب عليه الضمان لأنه جناية لغير حق فأشبه إذا جنى عليه من غير دفع وإن قصده ثم انصرف عنه لم يتعرض له وإن ضربه فعطله لم يجز أن يضربه مرة أخرى لأن القصد كف أذاه فإن قصده فقطع يده فولى عنه فقطع يده الأخرى وهو مول لم يضمن الأولى لأنه قطع بحق ويضمن الثانية لأنه قطع بغير حق وإن مات منهما لم يجب عليه القصاص في النفس لأنه مات من مباح ومحظور ولولي المقتول الخيار في أن يقتص من اليد الثانية وبين أن يأخذ نصف دية النفس.
فصل: وإن وجد رجلا يزني بامرأته ولم يمكنه المنع إلا بالقتل فقتله لم يجب عليه شيء فيما بينه وبين الله عز وجل لأنه قتله بحق فإن ادعى أنه قتله لذلك وأنكر الولي ولم يكن بينة لم يقبل قوله فإذا حلف الولي حكم عليه بالقود لما روى أبو هريرة أن سعد بن عبادة قال يا رسول الله أرأيت لو وجدت مع امرأتي رجلاً أمهله حتى آتي بأربعة شهداء قال: "نعم" فدل على أنه لا يقبل قوله من غير بينة وروى سعيد بن المسيب قال: أرسل معاوية أبا موسى إلى علي كرم الله وجهه يسأله عن رجل وجد على امرأته رجلاً فقتله فقال علي كرم الله وجهه لتخبرني لم تسأل عن هذا فقال إن معاوية كتب إلي فقال علي أنا أبو الحسن إن جاء بأربعة شهداء يشهدون على الزنا وإلا أعطى برمته يقول يقتل.
فصل: وإن صالت عليه بهيمة فلم تندفع إلا بالقتل فقتلها لم يضمن لأنه إتلاف بدفع جائز فلم يضمن كما لو قصده آدم فقتله للدفع.
فصل: فإن أطلع رجل أجنبي في بيته على أهله فله أن يفقأ عينه لما روى سهل بن سعد قال: أطلع رجل من جحر في حجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع النبي صلى الله عليه وسلم مدرا يحك به

(3/262)


رأسه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لو علمت أنك تنظر لطعنت به عينك إنما جعل الاستئذان من أجل البصر". وهل له أن يصيبه قبل أن ينهاه بالكلام فيه وجهان: أحدهما: وهو قول القاضي أبي حامد المروروذي والشيخ أبي حامد الإسفرايني أنه يجوز للخبر والثاني: أنه لا يجوز كما لا تجوز إصابة من يقصد نفسه بالقتل إذا اندفع بالقول ولا يجوز أن يصيبه إلا بشيء خفيف لأن المستحق بهذه الجناية فقء العين وذلك يحصل بسبب خفيف فلم تجز الزيادة عليه وإن فقأ عينه فمات منه لم يضمن لأنه سراية من مباح فلم يضمن كسرية القصاص فإن رماه بشيء يقتل فمات منه ضمنه لأنه قتله بغير حق وإن رماه فلم يرجع استغاث عليه فإن لم يكن من يغيثه فمن المستحب أن يخوفه بالله تعالى فإن لم يقبل فله أن يصيبه بما يدفعه فإن أتى على نفسه لم يضمن لأنه تلف بدفع جائز فإن اطلع أعمى لم يجز له رميه لأته لا ينظر إلى محرم وإن اطلع ذو رحم محرم لأهله لم يجز رميه لأنه غير ممنوع النظر وإن كانت زوجته متجردة فقصد النظر إليها جاز له رميه لأنه محرم عليه النظر إلى ما دون السرة وفوق الركبة منها كما يحرم على الأجنبي وإن اطلع عليه من باب مفتوح أو كوة واسعة فإن نظر وهو على اجتيازه لم يجز رميه لأنه المفرط صاحب الدار بفتح الباب وتوسعة الكوة وإن وقف وأطال النظر ففيه وجهان: أحدهما: أنه يجوز له رميه لأنه مفرط في الإطلاع فأشبه إذا اطلع من ثقب والثاني: أنه لا يجوز له رميه وهو قول القاضي أبي القاسم العمري لأن صاحب الدار مفرط في فتح الباب وتوسعة الكوة.
فصل: وإذا دخل رجل داره بغير إذنه أمره بالخروج فإن لم يقبل فله أن يدفعه بما يدفع به من قصد ماله أو نفسه فإن قتله فادعى أنه قتله للدفع عن داره وأنكر الولي لم يقبل قول القاتل من غير بينة لأن القتل متحقق وما يدعيه خلاف الظاهر فإن أقام بينة أنه دخل داره مقبلاً عليه بسلاح شاهر لم يضمن لأن الظاهر أنه قصد قتله وإن أقام الولي بينة أنه دخل داره بسلاح غير شاهر ضمنه بالقود أو بالدية لأن القتل متحقق وليس ههنا ما يدفعه.
فصل: إذا أفسدت ماشيته زرعا لغيره ولم بكن معها فإن كان ذلك بالنهار لم يضمن وإن كان بالليل ضمن لما روى حزام ابن سعد بن محيصة أن ناقة البراء بن عازب دخلت حائط قوم فأفسدت زرعاً فقضى النبي صلى الله عليه وسلم أن على أهل الأموال حفظ أموالهم

(3/263)


بالنهار وعلى أهل المواشي ما أصابت مواشيهم بالليل وإن كانت له هرة تأكل الطيور فأكلت طيراً لغيره أوله كلب عقور فأتلف إنساناً وجب عليه الضمان لأنه مفرط في ترك حفظه.
فصل: وإن مرت بهيمة له بجوهرة لآخر فابتلعتها نظرت فإن كان معها ضمن الجوهرة لأن فعلها منسوب إليه وقال أبوعلي بن أبي هريرة إن كانت شاة لم يضمن وإن كان بعيراً ضمن لأن العادة في البعير أنه يضبط وفي الشاة أن ترسل وهذا فاسد لأنه يبطل بإفساد الزرع لأنه لا فرق فيه بين الجميع فإن لم يكن معها ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي علي بن أبي هريرة فإنه إن كان ذلك نهارا لم يضمن وإن كان ليلا ضمن كالزرع والثاني: وهو قول القاضي أبي الحسن الماوردي البصري أنه يضمنها ليلا ونهارا والفرق بينه وبين الزرع أن رعي الزرع مألوف صاحبه فلزم صاحبه حفظه منها وابتلاع الجوهرة غير مألوف فلم يلزم صاحبها حفظه منها فغلى هذا إن طلب صاحب الجوهرة ذبح البهيمة لأجل الجوهرة لم تذبح يغرم قيمة الجوهرة فإن دفع القيمة ثم ماتت البهيمة ثم أخرجت الجوهرة من جوفها وجب ردها إلى صاحبها لأنها عين ماله واسترجعت القيمة فإن نقصت قيمة الجوهرة بالابتلاع ضمن صاحب البهيمة ما نقص وإن كانت البهيمة مأكولة ففي ذبحها وجهان بناء على القولين فيمن غصب خيطاً وخاط به جرح حيوان مأكول.

(3/264)