المهذب في فقة الإمام الشافعي

كتاب السير
مدخل
...
كتاب السير
من أسلم في دار الحرب ولم يقدر على إظهار دينه وقدر على الهجرة وجبت عليه الهجرة لقوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [النساء: 97] روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أنا بريء من كل مسلم مع مشرك". فإن لم يقدر على الهجرة لم يجب عليه لقوله عز وجل: {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً فَأُولَئِكَ عَسَى الله أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ الله عَفُوّاً غَفُوراً} [النساء: 98- 99] وإن قدر على إظهار الدين ولم يخف الفتنة في الدين لم تجب عليه الهجرة لأنه لما أوجب على المستضعفين دل على أنه لا تجب على غيرهم ويستحب له أن يهاجر لقوله عز وجل: {لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [المائدة: 51] ولأنه إذا أقام في دار الشرك كثر سوادهم ولأنه لا يؤمن أن يميل إليهم ولأنه ربما ملك الدار فاسترق ولده.
فصل: والجهاد فرض والدليل عليه قوله عز وجل: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} [البقرة: 216] وقوله تعالى: {جَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} [التوبة: 41] وهو فرض إلى الكفاية إذا قام به من فيه كفاية سقط الفرض عن الباقين قوله عز وجل: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ الله الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلّاً وَعَدَ الله الْحُسْنَى} [النساء: 95] ولو كان فرضاً على الجميع لما فاضل بين من فعل وبين من ترك ولأنه وعد الجميع بالحسنى يدل على أنه ليس بفرض على الجميع وروى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى بني لحيان وقال: "ليخرج من كل رجلين رجل ثم قال

(3/265)


للقاعدين: " أيكم خلف الخارج في أهله وماله بخير كان له مثل أجر نصف الخارج". ولأنه لو جعل فرضاً على الأعيان لاشتغل الناس به عن العمارة وطلب المعاش فيؤدي ذلك إلى خراب الأرض وهلاك الخلق.
فصل: ويستحب الإكثار منه لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أفضل قال: "الإيمان بالله ورسوله وجهاد في سبيل الله". وروى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يا أبا سعيد من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا وجبت له الجنة" فقال: أعدها يا رسول الله ففعل ثم قال: "وأخرى يرفع الله بها للعبد مائة درجة في الجنة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض" قلت: وما هي يا رسول الله؟ قال: "الجهاد في سبيل الله الجهاد في سبيل الله " وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "والذي نفسي بيده وددت أن أقاتل في سبيل الله فأقتل ثم أحيا فأقتل ثم أحيا فأقتل" 1 كان أبو هريرة يقول ثلاثاً أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قالها ثلاثا وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم غزا سبعا وعشرين غزوة وبعث خمسا وثلاثين سرية.
فصل: وأقل مل يجزئ في كل سنة مرة لأن الجزية تجب في كل سنة مرة وهي بدل عن القتل فكذلك القتل ولأن في تعطيله في أكثر من سنة ما يطمع العدو في المسلمين فإن دعت الحاجة في السنة إلى أكثر من مرة وجب لأنه فرض على الكفاية فوجب منه ما دعت الحاجة إليه فإن دعت الحاجة الى تأخيره لضعف المسلمين أو قلة ما يحتاج إليه من قتالهم من المدة وللطمع في إسلامهم ونحو ذلك من الأعذار جاز تأخيره لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخر قتال قريش بالهدنة وأخر قتال غيرهم من القبائل بغير هدنة ولأن ما يجري من النفع بتأخيره أكثر مما يجرى من النفع بتقديمه فوجب تأخيره.
فصل: ولا يجاهد أحد عن أحد بعوض وبغير عوض لأنه إذا حضر تعين عليه الفرض في حق نفسه فلا يؤديه عن غيره كما لا يحج عن غيره وعليه فرضه.
__________
1 رواه البخاري في كتاب الإيمان باب 26. مسلم في كتاب الإمارة حديث 107. النسائي في كتاب الجهاد باب 18. الموطأ في كتاب الجهاد حديث 27.

(3/266)


فصل: ولا يجب الجهاد على المرأة لما روت عائشة رضي الله عنه قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجهاد فقال: "جهادكن الحج أو حسبكن الحج". ولأن الجهاد هو القتال وهن لا يقاتلن ولهذا رأى عمر بن أبي ربيعة امرأة مقتولة فقال:
إن من أكبر الكبائر عندي ... قتل بيضاء حرة عطبول
كتب القتل والقتال علينا ... وعلى الغانيات جر الذيول
ولا يجب على الخنثى المشكل لأنه يجوز أن بكون امرأة فلا يجب عليه بالشك ولا يجب على العبد لقوله عز وجل: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ} [التوبة: 91] والعبد لا يجد ما ينفق وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أسلم عنده رجل لا يعرفه قال: "أحر هو أم مملوك" فإن قال: أنا حر بايعه على الإسلام والجهاد وإن قال: أنا مملوك بايعه على الإسلام ولم يبايعه على الجهاد ولأنه عبادة متعلقة بقطع مسافة بعيدة فلا يجب على العبد كالحج.
فصل: ولا يجب على الصبي والمجنون لما روى علي كرم الله وجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "رفع القلم عن ثلاثة عن الصبي حتى يبلغ وعن النائم حتى يستيقظ وعن المجنون حتى يفيق". وروى عروة بن الزبير قال: رد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر نفراً من أصحابه استصغرهم منهم عبد الله بن عمر وهو يومئذ ابن أربع عشرة سنة وأسامة بن زيد والبراء بن عازب وزيد بن ثابت وزيد بن أرقم وعرابة بن أوس ورجل من بني حارثة فجعلهم حرسا للذراري والنساء ولأنه عبادة على البدن فلا يجب على الصبي والمجنون كالصوم والصلاة والحج.
فصل: ولا يجب على الأعمى لقوله عز وجل: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى

(3/267)


الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ} [النور: 61] ولا يختلف أهل التفسير أنها في سورة الفتح أنزلت في الجهاد ولأنه لا يصلح للقتال فلم يجب عليه وإن كان في بصره شيء فإن كان يدرك الشخص وما يتقيه من السلاح وجب عليه لأنه يقدر على القتال وإن لم يدرك ذلك لم يجب عليه لأنه لا يقدر على القتال ويجب على الأعور والأعشى وهو الذي يبصر بالنهار دون الليل لأنه كالبصير في القتال ولا يجب على الأعرج الذي يعجز عن الركوب والمشي للآية ولأنه لا يقدر على القتال ويجب عليه إذا قدر على الركوب والمشي لأنه يقدر على القتال ولا يجب على الأقطع والأشل لأنه يحتاج في القتال إلى يد يضرب بها ويد يتقي بها وإن قطع أكثر أصابعه لم يجب عليه لأنه لا يقدر على القتال وإن قطع الأقل وجب عليه لأنه يقدر على القتال ولا يجب على المريض الثقيل للآية ولأنه لا يقدر على القتال ويجب على من به حمى خفيفة أو صداع قليل لأنه يقدر على الفتال.
فصل: ولا يجب على الفقير الذي لا يجد ما ينفق في طريقه فاضلاً عن نفقة عياله لقوله عز وجل: {وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ} [التوبة: 91] فإن كان القتل على باب البلد أو حواليه وجب عليه لأنه لا يحتاج إلى نفقة الطريق وإن كان على مسافة تقصر فيها الصلاة ولم يقدر على مركوب يحمله لم يجب عليه قوله عز وجل: {وَلا عَلَى الَّذِينَ إذا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ} [التوبة: 92] ولأنها عبادة تتعلق بقطع مسافة بعيدة فلم تجب من غير مركوب كالحج وإن بذل له الإمام ما يحتاج اليه من مركوب وجب عليه أن يقبل ويجاهد لأن ما يعطيه الإمام حق له وإن بذل له غيره لم يلزمه قبوله لأنه اكتساب مال لتجب به العبادة فلم يجب كاكتساب المال للحج والزكاة.
فصل: ولا يجب على من عليه دين حال من أن يجاهد من غير إذن غريمه لما روى أبو قتادة رضي الله عنه أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أرأيت إن قتلت في سبيل الله كفر الله خطاياي؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أن قتلت في سبيل الله صابراً محتسباً مقبلاً غير مدبر كفر خطاياك إلا الدين كذلك قال لي جبريل" 1 ولأن فرض الدين متعين عليه فلا يجوز تركه لفرض على الكفاية يقوم عنه غيره مقامه فإن استناب من يقضيه من مال
__________
1 رواه النسائي في كتاب الجهاد باب 32. الموطأ في كتاب الجهاد حديث 31. الدارمي في كتاب الجهاد باب 20. أحمد في مسنده 2/308.

(3/268)


حاضر جاز لأن الغريم يصل إلى حقه وإن كان من مال غائب لم يجز لأنه قد يتلف فيضيع حق الغريم وإن كان الدين مؤجلاً ففيه وجهان: أحدهما: أنه يجوز أن يجاهد من غير إذن الغريم كما يجوز أن يسافر لغير الجهاد والثاني: أنه لا يجوز لأنه يتعرض للقتل طلباً للشهادة فلا يؤمن أن يقتل فيضيع دينه.
فصل: وإن كان أحد أبويه مسلماً لم يجز أن يجاهد بغير إذنه لما روى عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستأذنه في الجهاد فقال: "أحي والداك" قال: نعم فقال: "ففيهما فجاهد"1. وروى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أفضل؟ فقال: "الصلاة لميقاتها" قلت ثم ماذا؟ فقال: "بر الوالدين" قلت: ثم ماذا؟ قال: "الجهاد في سبيل الله" 2. فدل على أن بر الوالدين مقدم على الجهاد ولأن الجهاد فرض على الكفاية ينوب عنه فيه غيره وبر الوالدين فرض يتعين عليه لأنه لا ينوب عنه فيه غيره ولهذا قال رجل لابن عباس رضي الله عنه إني نذرت أن أغزو الروم وإن أبوي منعاني فقال: أطع أبويك فإن الروم ستجد من يغزوها غيرك وإن لم يكن له أبوان وله جد أو جدة لم يجز أن يجاهد من غير إذنهما لأنهما كالأبوين في البر وإن كان له أب وجد أو أم وجدة فهل يلزمه استئذان الأب مع الحد أو استئذان الجدة مع الأم فيه وجهان: أحدهما: لا يلزمه لأن الأب والأم يحجبان الجد والجدة عن الولاية والحضانة والثاني: يلزمه وهو الصحيح عندي لأن وجود الأبوين لا يسقط بر الجدين ولا ينقص شفقتهما عليه وإن كان الأبوان كافرين جاز أن يجاهد من غير إذنهما لأنهما متهمان في الدين وإن كانا مملوكين فقد قال بعض أصحابنا أنه يجاهد من غير إذنهما لأنه لا إذن لهما في أنفسهما فلم يعتبر إذنهما لغيرهما قال الشيخ الإمام: وعندي أنه لا يجوز أن يجاهد إلا بإذنهما لأن المملوك كالحر في البر والشفقة فكان كالحر في اعتبار الإذن وان أراد الولد أن يسافر في تجارة أوفي طلب علم جاز من غير إذن الأبوين لأن الغالب في سفره السلامة.
فصل: وإن أذن الغريم لغريمه أو الوالد لولده ثم رجعا أو كانا كافرين فأسلما فإن كان ذلك قبل التقاء الزحفين لم يجز الخروج إلا بالإذن وان كان بعد التقاء الزحفين ففيه
__________
1 رواه البخاري في كتاب الجهاد باب 138. مسلم في كتاب البر حديث 5. أبو داود في كتاب الجهاد باب 31. النسائي في كتاب الجهاد باب 5.
2 رواه البخاري في كتاب الأدب باب 1. أحمد في مسنده 2/32.

(3/269)


قولان: أحدهما: أنه لا يجوز أن يجاهد إلا بالإذن لأنه عذر يمنع وجوب الجهاد فإذا طرأ منع من الوجوب كالعمى والمرض والثاني: أنه يجاهد من غير إذن لأنه اجتمع حقان متعينان وتعين الجهاد سابق فقدم وإن أحاط العدو بهم تعين فرض الجهاد وجاز من غير إذن الغريم ومن غير إذن الأبوين لأن ترك الجهاد في هذه الحالة يؤدي إلى الهلاك فقدم على حق الغريم والأبوين.
فصل: ويكره الغزو من غير إذن الإمام أو الأمير من قبله لأن الغز وعلى حسب حال الحاجة والإمام والأمير أعرف بذلك ولا يحرم لأنه ليس فيه أكثر من التغرير بالنفس والتغرير بالنفس يجوز في الجهاد.
فصل: ويجب على الإمام أن يشحن ما يلي الكفار من بلاد المسلمين بجيوش يكفون من يليهم ويستعمل عليهم أمراء ثقات من أهل الإسلام مدبرين لأنه إذا لم يفعل ذلك لم يؤمن أنه إذا توجه في جهة الغز وأن يدخل العدو من جهة أخرى فيملك بلاد الإسلام وإن احتاج إلى بناء حصن أو حفر خندق فعل لأن النبي صلى الله عليه وسلم حفر الخندق وقال البراء بن عازب: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق ينقل التراب حتى وارى التراب شعره وهو يرتجز برجز عبد الله بن رواحة وهو يقول:
اللهم لولا أنت ما اهتدينا
... ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة علينا ... وثبت الأقدام إن لاقينا

(3/270)


وإذا أراد الغز وبدأ بالأهم فالأهم لقوله عز وجل: {قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ} [التوبة: 123] فاذا استوت الجهاد في الخوف اجتهد وبدأ بأهمها عنده.
فصل: وإذا أراد الخروج عرض الجيش ولا يأذن لمخذل ولا لمن يعاون الكفار بالمكاتبة لقوله عز وجل: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ} [التوبة: 47] قيل في التفسير لأوقعوا بينكم الاختلاف وقيل وشرعوا في تفريق جمعكم ولأن في حضورهم إضرارا بالمسلمين ولا نستعين بالكفار من غير حاجة الله لما روت عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى بدر فتبعه رجل من المشركين فقال له: "تؤمن بالله ورسوله قال: لا قال: فارجع فلن أستعين بمشرك" 1. فان احتاج أن يستعين بهم فإن لم يكن من يستعين به حسن الرأي في المسلمين لم نستعن به لأن ما يخاف من الضرر بحضورهم أكثر مما يرجى من المنفعة وإن كان حسن الرأي في المسلمين جاز أن نستعين بهم لأن صفوان بن أمية شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شركه حرب هوازن وسمع رجلا يقول غلبت هوازن وقتل محمد فقال بفيك الحجر لرب من قريش أحب إلي من رب من هوازن وإن احتاج إلى أن يستأجرهم جاز لأنه لا يقع الجهاد له وفي القدر الذي يستأجر به وجهان: أحدهما: لا يجوز له أن تبلغ الأجرة سهم راجل لأنه ليس من أهل فرض الجهاد فلا يبلغ حقه سهم راجل كالصبي والمرأة والثاني: وهو المذهب أنه يجوز لأنه عوض في الإجارة فجاز أن يبلغ قدر سهم الراجل كالأجرة في سائر الإجارات ويجوز أن يأذن للنساء لما روت الربيع بنت معوذ قالت: كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فنخدم القوم ونسقيهم الماء ونرد الجرحى والقتلى إلى المدينة ويجوز أن يأذن لمن اشتد
__________
1 رواه أبو داود في كتاب الجهاد باب 142. ابن ماجه في كتاب الجهاد باب 27. الدارمي في كتاب السير باب 53. أحمد في مسنده 6/68.

(3/271)


من الصبيان لأن فيهم معاونة ولا يأذن المجنون لأنه يعرضه للهلاك من غير منفعة وينبغي أن يتعاهد الخيل فلا يدخل حطبا وهو الكسير ولا فحماً وهو الكبير ولا ضرعاً وهو الصغير ولا أعجف وهو الهزيل لأنه ربما كان سببا للهزيمة ولأنه يزاحم به الغانمين في سهمهم ويأخذ البيعة على الجيش أن لا يفروا لما روى جابر رضي الله عنه قال: كنا يوم الحديبية ألف رجل وأربعمائة فبايعناه تحت الشجرة على أن لا نفر ولم نبايعه على الموت يعني النبي صلى الله عليه وسلم ويوجه الطلائع ومن يتجسس أخبار الكفار لما روى جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق: "من يأتينا بخبر القوم"؟ فقال الزبير: أنا فقال: "إن لكل نبي حوارياً وحواريي الزبير" 1. والمستحب أن يخرج يوم الخميس لما روى كعب بن مالك قال قلما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج في سفر إلا يوم الخميس ويستحب أن يعقد الرايات ويجعل تحت كل راية طائفة لما روى ابن عباس رضي الله عنه أن أبا سفيان أسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا عباس أحبسه على الوادي حتى تمر به جنود الله فيراها" قال العباس: فحبسته حيث أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم ومرت به القبائل على راياتها حتى مر به
__________
1 رواه البخاري في كتاب الجهاد باب 40، 41. مسلم في كتاب فضائل الصحابة حديث 48. ابن ماجه في كتاب المقدمة باب 11. أحمد في مسنده 1/89.

(3/272)


رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكتيبة الخضراء كتيبة فيها المهاجرون والأنصار لا يرى منهم إلا الحدق من الحديد فقال: "من هؤلاء يا عباس" قال: قلت هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المهاجرين والأنصار فقال: "ما لأحد بهؤلاء من قبل والله يا أبا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيما" والمستحب أن يدخل إلى دار الحرب بتعية الحرب لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة فجعل خالد بن الوليد على إحدى المجنبتين وجعل الزبير على الأخرى وجعل أبا عبيدة على الساقة وبطن الوادي ولأن ذلك أحوط للحرب وأبلغ في إرهاب العدو.
فصل: وإن كان العدو ممن لم تبلغهم لدعوة لم يجز قتالهم حتى يدعوهم الى الإسلام لأنه لا يلزمهم الإسلام قبل العلم والدليل عليه قوله عز وجل: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15] ولا يجوز قتالهم على ما يلزمهم وإن بلغتهم الدعوة فالأحب أن يعرض عليهم الإسلام لما روى سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الله لعلي كرم الله وجهه يوم خيبر: "إذا نزلت بساحتهم فادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم فو الله لأن يهدي لله بهداك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم" 1. وإن قاتلهم من غير أن يعرض عليهم الإسلام جاز لما روى نافع قال: أغار رسول الله صلى الله عليه وسلم على بني المصطلق وهم غارون وقيل وهم غافلون.
__________
1 رواه البخاري في كتاب الجمعة باب 29. مسلم في كتاب فضائل القرآن حديث 32، 34. أبو داود في كتاب الوتر باب 1. الترمذي في كتاب الوتر باب 1. الموطأ في كتاب السفر حديث 43.

(3/273)


فصل: فان كانوا ممن لا يجوز إقرارهم على الكفر بالجزية قاتلهم الى أن يسلموا لقوله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله الا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها" 1 وإن كانوا ممن يجوز إقرارهم على الكفر بالجزية قاتلهم الى أن يسلموا أو يبذلوا الجزية والدليل عليه قوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالله وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ الله وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] وروى بريدة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث أميراً على جيش أو سرية قال: إذا لقيت عدواً من المشركين فادعهم الى إحدى ثلاث خصال فأيتهن ما أجابوك إليها فاقبل منهم وكف عنهم وادعهم الى الدخول في الإسلام فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ثم ادعهم إلى التحول من دارهم الى دار الهجرة فان فعلوا فأخبرهم أن لهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين فإن دخلوا في الإسلام وأبوا أن يتحولوا الى دار الهجرة فأخبرهم أنهم كأعراب المؤمنين الذين يجري عليهم حكم الله تعالى ولا يكون لهم في الفيء والغنيمة شيء حتى يجاهدوا مع المؤمنين فإن فعلوا فاقبل منهم وكف عنهم وإن أبوا فادعهم الى إعطاء الجزية فإن فعلوا فاقبل منهم وكف عنهم وإن أبوا فاستعن بالله عليهم ثم قاتلهم ويستحب الاستنصار بالضعفاء لما روى أبو الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ائتوني بضعفائكم فإنما تنصرون وترزقون بضعفائكم" 2. ويستحب أن يدعوا عند التقاء الصفين لما روى أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غزا قال: "اللهم أنت عضدي وأنت ناصري وبك أقاتل". وروى أبو موسى الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا خاف أمراً قال: "اللهم إني أجعلك في نحورهم وأعوذ بك من
__________
1 رواه البخاري في كتاب الإيمان باب 17. مسلم في كتاب الإيمان حديث 34. الترمذي في كتاب الإيمان باب 1. الترمذي في كتا ب الوتر باب 1. ابن ماجه في كتاب الفتن باب 1. أحمد في مسنده 1/11، 19.
2 رواه الترمذي في كتاب الجهاد باب 24. أحمد في مسنده 5/198.

(3/274)


شرورهم". ويستحب أن يحرض الجيش على القتال لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يا معشر الأنصار هذه أوباش قريش قد جمعت لكم إذا لقيتموهم غداً فاحصدوهم حصدا". وروى سعد رضي الله عنه قال: نقل لي رسول الله صلى الله عليه وسلم كنانته يوم أحد وقال: "ارم فداك أبي وأمي". ويستحب أن يكبر عند لقاء العدو لما روى أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم غزا خيبر فلما رأى القرية قال: "الله أكبر خربت خيبر فإذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين". قالها ثلاثا ولا يرفع الصوت بالتكبير لما روى أبو موسى الأشعري قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة فأشرفوا على واد فجعل الناس يكبرون ويهللون الله أكبر الله أكبر يرفعون أصواتهم فقال: "يا أيها الناس إنكم لا تدعون أصم ولا غائباً إنما تدعون قريباً سميعاً إنه معكم".
فصل: وإذا التقى الزحفان ولم يزدد عدد الكفار على مثلي عدد المسلمين ولم يخافوا الهلاك تعين عليهم فرض الجهاد لقوله عز وجل: {الْآنَ خَفَّفَ الله عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ} [الأنفال: 66] وهذا أمر بلفظ الخبر لأنه لوكان خبراً لم يقع الخبر بخلاف المخبر فدل على أنه أمر المائة بمصابرة المائتين وأمر الألف بمصابرة الألفين ولا يجوز لمن تعين عليه أن يولي إلا متحرفا لقتال وهو أن ينتقل من مكان الى مكان أمكن للقتال أو متحيزا إلى فئة وهو أن ينضم الى قوم ليعود معهم الى قتال والدليل عليه قوله عز وجل: {يَا

(3/275)


أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ َمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ الله} [الأنفال: 15 - 16] وسواء كانت الفئة قريبة أو بعيدة والدليل عليه ما روى ابن عمر رضي الله عنه أنه كان في سرية من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم فحاص الناس حيصة عظيمة وكنت ممن حاص فلما برزنا قلت كيف نصنع وقد فررنا من الزحف وبؤنا بغضب ربنا فجلسنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم قبل صلاة الفجر فلما خرج قمنا وقلنا نحن الفرارون فقال: "لا بل أنتم العكارون" فدنونا فقبلنا يده فقال إنا فئة المسلمين وروي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: أنا فئة كل مسلم وهو بالمدينة وجيوشه في الآفاق إن ولى غير متحرف لقتال أو متحيزا إلى فئة أثم وارتكب كبيرة والدليل عليه ما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الكبائر سبع أولهن الشرك بالله وقتل النفس بغير حقها وأكل الربا وأكل مال اليتيم بدارا أن يكبروا وفرار يوم الزحف ورمي المحصنات وانقلاب الى الأعراب" 1. فإن غلب على ظنهم أنهم إن ثبتوا لمثليهم هلكوا ففيه وجهان: أحدهما: أن لهم أن يولوا لقوله عز وجل: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] والثاني: أنه ليس لهم أن يولوا وهو الصحيح لقوله عز وجل: {إذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا} [الأنفال: 45] ولأن المجاهد إنما يقاتل ليقتل أو يقتل وإن زاد عدد الكفار على مثلي عدد المسلمين فلهم أن يولوا لأنه لما أوجب الله عز وجل على المائة مصابرة المائتين دل على أنه لا يجب عليهم مصابرة ما زاد على المائتين وروى عطاء عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: من فر من اثنين فقد فر ومن فر من ثلاثة فلم يفر وإن غلب على ظنهم أنهم لا يهلكون فالأفضل أن يثبتوا حتى لا ينكسر المسلمون وان غلب على ظنهم أنهم يهلكون ففيه وجهان أحدهما: أنه يلزمهم أن
__________
1 رواه مسلم في كتاب الإيمان حديث 144. البخاري في كتاب الوصايا باب 23.

(3/276)


ينصرفوا لقوله عز وجل: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} والثاني: أنه يستحب أن ينصرفوا ولا يلزمهم لأنهم إن قتلوا فازوا بالشهادة وإن لقي رجل من المسلمين رجلين من المشركين في غير الحرب فإن طلباه ولم يطلبهما فله أن يولي عنهما لأنه غير نتأهب للقتال وإن طلبهما ولم يطلباه ففيه وجهان أحدهما: أن له أن يولي عنهما لأن فرض الجهاد في الجماعة دون الانفراد والثاني: أنه يحرم عليه أن يولي عنهما لأنه مجاهد لهما فلم يول عنهما كمل لو كان مع جماعة.
فصل: ويكره أن يقصد قتل ذي رحم محرم لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم منع أبا بكر رضي الله عنه من قتل ابنه فإن قتله لم يكره أن يقصد قتله كما لا يكره إذا قصد قتله وهو مسلم وإن سمعه يذكر الله عز وجل أو رسوله صلى الله عليه وسلم بسوء لم يكره أن يقتله لأن أبا عبيدة بن الجراح رضي الله عنه قتل أباه وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: سمعته يسبك ولم ينكر عليه.
فصل: ولا يجوز قتل نسائهم ولا صبيانهم إذا لم يقاتلوا لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل النساء والصبيان ولا يجوز قتل الخنثى المشكل لأنه يجوز أن يكون رجلا ويجوز أن يكون امرأة فلم يقتل مع الشك وان قاتلوا جاز قتلهم لما روى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بامرأة مقتولة يوم حنين فقال: "من قتل هذه؟ " فقال رجل: أنا يا رسول الله غنمتها فأردفتها خلفي فلما رأت الهزيمة فينا أهوت الى سيفي أو إلى قائم سيفي لتقتلني فقتلتها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما بال النساء". ما شأن قتل النساء ولو حرم ذلك لأنكره النبي صلى الله عليه وسلم ولأنه إذا جاز قتلهن إذا قصدن القتل وهن مسلمات فلأن يجوز قتلهن وهن كافرات أولى.
فصل: وأما الشيخ الذي لا قتال فيه فإن كان له رأي في الحرب جاز قتله لأن دريد بن الصمة كان شيخا كبيرا وكان له رأي فإنه أشار على هوازن يوم حنين ألا يخرجوا معهم بالذراري فخالفه مالك بن عوف فخرج بهم فهزموا فقال دريد في ذلك:
أمرتهم أمري بمنعرج اللوى ... فلم يستبينوا الرشد إلا ضحى الغد
وقتل ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم قتله ولأن الرأي في الحرب أبلغ من القتال لأنه هو الأصل وعنه يصدر القتال ولهذا قال المتنبي:
الرأي قبل شجاعة الشجعان
... هو أول وهي المحل الثاني
فإذا هما اجتمعا لنفس مرة ... بلغت من العلياء كل مكان

(3/277)


ولربما طعن الفتى أقرانه ... بالرأي قبل تطاعن الفرسان
وإن لم يكن له رأي ففيه وفي الراهب قولان: أحدهما: أنه يقتل لقوله عز وجل: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] ولأنه ذكر مكلف حربي فجاز قتله بالكفر كالشاب والثاني: أنه لا يقتل لما روي أن أبا بكر رضي الله عنه قال ليزيد بن أبي سفيان وعمرو بن العاص وشرحبيل بن حسنة لما بعثهم الى الشام لا تقتلوا الولدان ولا النساء ولا الشيوخ وستجدون أقواما حبسوا أنفسهم إلى الصوامع فدعوهم وما حبسوا له أنفسهم ولأنه لا نكاية له في المسلمين فلم يقتل بالكفر الأصلي كالمرأة.
فصل: ولا يقتل رسولهم لما روى أبو وائل قال: لما قتل عبد الله بن مسعود بن النواحة قال: إن هذا وابن أثال قد كانا أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم رسولين لمسيلمة فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتشهدان أني رسول الله" قالا: نشهد أن مسيلمة رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو كنت قاتلاً رسولاً لضربت أعناقكم". فجرت سنة أن لا تقتل الرسل.
فصل: فإن تترسوا بأطفالهم ونسائهم فإن كان في حال التحام الحرب جاز رميهم ويتوقى الأطفال والنساء لأنا لو تركنا رميهم جعل ذلك طريقاً إلى تعطيل الجهاد وذريعة إلى الظفر بالمسلمين وإن كان في غير حال الحرب ففيه قولان: أحدهما: أنه يجوز رميهم لأن ترك قتالهم يؤدي إلى تعطيل الجهاد والثاني: أنه لا يجوز رميهم لأنه يؤدي إلى قتل أطفالهم ونسائهم من غير ضرورة وإن تترسوا بمن معهم من أسارى المسلمين فإن كان ذلك في حال التحام الحرب جاز رميهم ويتوقى المسلم لما ذكرناه وإن كان في غير التحام الحرب لم يجوز رميهم قولا واحدا والفرق بينهم وبين أطفالهم ونسائهم أن المسلم محقون الدم لحرمة الدين فلم يجز قتله من غير ضرورة والأطفال والنساء حقن دمهم لأنهم غنيمة للمسلمين فجاز قتلهم من غير ضرورة وإن تترسوا بأهل الذمة أو بمن بيننا وبينهم أمان كان الحكم فيه كالحكم فيه إذا تترسوا بالمسلمين لأنه يحرم قتلهم كما يحرم قتل المسلمين.
فصل: وإن نصب عليهم منجنيقا أو بيتهم ليلا وفيهم النساء والأطفال جاز لما روى علي كرم الله وجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم نصب المنجنيق على أهل الطائف وإن كانت لا تخلو من النساء والأطفال وروى الصعب بن جثامة قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الذراري من

(3/278)


المشركين يبيتون فيصاب من نسائهم وذراريهم فقال: "هم منهم" ولأن الكفار لا يخلون من النساء والأطفال فلو تركنا رميهم لأجل النساء والأطفال بطل الجهاد وإن كان فيهم أسارى من المسلمين نظرت فإن خيف منهم أنهم إذا تركوا قاتلوا وظفروا بالمسلمين جاز رميهم لأن حفظ من معنا من المسلمين أولى من حفظ من معهم وإن لم يخف منهم نظرت فإن كان الأسرى قليلاً جاز رميهم لأن الظاهر أنه لا يصيبهم والأولى أن لا نرميهم لأنه ربما أصاب المسلمين وإن كانوا كثيراً لم يجز رميهم لأن الظاهر أنه يصيب المسلمين وذلك لا يجوز من غير ضرورة.
فصل: ويجوز قتل ما يقاتلون عليه من الدواب لما روي أن حنظلة بن الراهب عقر بأبي سفيان فرسه فسقط عنه فجلس على صدره فجاء ابن شعوب فقال:
لأحمين صاحبي ونفسي ... بطعنة مثل شعاع الشمس
فقتل حنظلة واستنقذ أبا سفيان ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم فعل حنظلة ولأن بقتل الفرس يتوصل إلى قتل الفارس.
فصل: وان احتيج إلى تخريب منازلهم وقطع أشجارهم ليظفروا بهم جاز ذلك وإن لم يحتج إليه نظرت فإن لم يغلب على الظن أنها تملك عليهم جاز فعله وتركه وإن غلب على الظن أنها تملك عليهم ففيه وجهان أحدهما: لا يجوز لأنها تصير غنيمة فلا يجوز إتلافها والثاني: أن الأولى أن لا يفعل فإن فعل جاز لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرق على بني النضير وقطع البويرة فأنزل الله عز وجل: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ الله وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ} .
فصل: ويجوز للمسلم أن يأمن من الكفار آحاداً لا يتعطل بأمانهم الجهاد في ناحية كالواحد والعشرة والمائة وأهل القلعة لما روي عن علي كرم الله وجهه أنه قال: ما عندي شيء إلا كتاب الله عز وجل وهذه الصحيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم أن ذمة المسلمين واحدة فمن

(3/279)


أخفر مسلما فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ويجوز للمرأة من ذلك ما يجوز للرجل لما روى ابن عباس رضي الله عنه عن أم هانئ رضي الله عنها أنها قالت: يا رسول الله يزعم ابن أمي أنه قاتل من أجرت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قد أجرت من أجرت يا أم هانئ". ويجوز ذلك للعبد لما روى عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يجير على المسلمين أدناهم" 1. وروى فضل بن يزيد الرقاشي قال: جهز عمر بن الخطاب رضي الله عنه جيشاً كنت فيه فحصرنا قرية من قرى رام هرمز فكتب عبد منا أمانا في صحيفة وشدها مع سهم ورمى بها إليهم فأخذوها وخرجوا بأمانة فكتب بذلك الى عمر رضي الله عنه فقال العبد المسلم رجل من المسلمين ذمته منهم ولا يصح ذلك من صبي ولا مجنون ولا مكره لأنه عقد فلم يصح منهم كسائر العقود فإن دخل مشرك على أمان واحد منهم فإن عرف أن أمانه لا يصح حل قتله لأنه حربي ولا أمان له وإن لم يعرف أن أمانه لا يصح فلا يحل قتله إلى أن يرجع الى مأمنه لأنه دخل على أمان ويصح الأمان بالقول وهو أن يقول أمنتك أو أجرتك أو أنت آمن أو مجار أولا بأس عليك أولا خوف عليك أولا تخف أو مترس بالفارسية وما أشبه ذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم فتح مكة: "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن" وقال لأم هانئ: "قد أجرت من أجرت" وقال أنس لعمر رضي الله عنه في قصة هرمز أن ليس لك إلا قتله من سبيل قلت له تكلم لا بأس عليك فأمسك عمر وروى زر عن عبد الله أنه قال: إن الله يعلم كل لسان فمن أتى منكم أعجميا وقال مترس فقد أمنه ويصح الأمان بالإشارة لما روى أبو سلمة قال: قال عمر رضي الله عنه: والذي نفس عمر بيده لو أن أحدكم أشار بأصبعه إلى مشرك ثم نزل إليه على ذلك ثم قتله لقتلته فإن أشار إليه الأمان ثم قال لم أرد الأمان قبل قوله لأنه أعرف بمل أراده وبعرف المشرك أنه لا أمان له ولا يتعرض له إلى أن يرجع الى مأمنه لأنه دخل على أنه آمن وإن أمن مشركاً فرد الأمان لم يصح الأمان لأنه إيجاب حق لغيره بعقد فلم يصح مع الرد كالإيجاب في البيع والهبة وإن أمن أسيراً لم يصح الأمان لأنه يبطل ما ثبت الإمام فيه من الخيار بين القتل والاسترقاق والمن والفداء وإن قال كنت أمنته قبل الأسر لم يقبل قوله لأنه لا يملك عقد الأمان في هذه الحال فلم يقبل إقراره به.
فصل: وإن أسر امرأة حرة أو صبياً حراً رق بالأسر لأن النبي صلى الله عليه وسلم قسم سبي بني
__________
1 رواه ابن ماجه في كتاب الديات باب 31. أبو داود في كتاب الديات باب 11. الدارمي في كتاب السير باب 58. أحمد في مسنده 2/365.

(3/280)


المصطلق واصطفى صفية من سبي خيبر وقسم سبي هوازن ثم استنزلته هوازن فنزل واستنزا الناس فنزلوا وإن أسر حر بالغ من أهل القتال فللإمام أن يختار ما يرى من القتل أو الاسترقاق والمن والفداء فإن رأى القتل قتل لقوله عز وجل: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قتل يوم بدر ثلاثة من المشركين من قريش مطعم بن عدي والنضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط وقتل يوم أحد أبا عزة الجمحي وقتل يوم الفتح ابن خطل وإن رأى المن عليه جاز لقوله عز وجل: {فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} ولأن النبي صلى الله عليه وسلم من على أبي عزة الجمحي ومن على ثمامة الحنفي ومن على أبي العاص ابن الربيع وإن رأى أن يفادي بمال أو بمن أسرى من المسلمين فادى به لقوله عز وجل: {فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} وروى عمران بن الحصين رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم فادى أسيراً من عقيل برجلين من أصحابه أسرتهما ثقيف وإن رأى أن يسترقه فإن كان من غير العرب نظرت فإن كان ممن له كتاب أوشبه كتاب استرقه لما روي عن ابن عباس أنه قال في قوله عز وجل: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} وذلك يوم بدر والمسلمين يومئذ قليل فلما كثروا واشتد سلطانهم أمر الله عز وجل في الأسارى فإما منا بعد وإما فداء فجعل الله سبحانه وتعالى للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين في أمر الأسارى بالخيار إن شاءوا قتلوا وإن شاءوا استعبدوهم وإن شاءوا فادوهم فإن كان من عبدة الأوثان ففيه وجهان أحدهما: وهو قول أبي سعيد الإصطخري أنه لا يجوز استرقاقهم لأنه لا يجوز إقراره على الكفر بالجزية فلم يجز الاسترقاق كالمرتد والثاني: أنه يجوز لما رويناه عن ابن عباس ولأن من جاز المن عليه في الأسر جاز استرقاقه كأهل الكتاب وإن كان من العرب ففيه قولان قال في الجديد يجوز استرقاقه والمفاداة به وهو الصحيح لأن من جاز المن عليه والمفاداة به من الأسارى جاز استرقاقه كغير الغرب وقال في القديم لا يجوز استرقاقه لما روى معاذ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم حنين لو كان استرقاق ثابتاً على العرب لكان اليوم وإنما هو أسر وفداء فإن تزوج عربي بأمة فأتت منه بولد فعلى القول الجديد الولد مملوك وعلى القديم الولد حر ولا ولاء عليه لأنه حر من الأصل.
فصل: ولا يختار الإمام في الأسير من القتل والاسترقاق والمن والفداء إلا ما فيه

(3/281)


الحظ للإسلام والمسلمين لأنه ينظر لهما فلا يفعل إلا ما فيه الحظ لهما فان بذل الأسير الجزية وطلب أن تعقد له الذمة وهو ممن يجوز أن تعقد له الذمة ففيه وجهان: أحدهما: أنه يجب قبولها كما يجب إذا بذل وهو في غير الأسر وهو ممن يجوز أن تعقد لمثله الذمة والثاني: أنه لا يجب لأنه يسقط بذلك ما ثبت من اختيار القتل والاسترقاق والمن والفداء وإن قتله مسلم قبل أن يختار الإمام ما يراه عزر القاتل لا فتياته على الإمام ولا ضمان عليه لأنه حربي لا أمان له وإن أسلم حقن دمه لقوله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله الا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالكم إلا بحقها". وهل يرق الإسلام أو يبقى الخيار فيه بين الاسترقاق والمن والفداء فيه قولان: أحدهما: أنه يرق بنفس الإسلام ويسقط الخيار في الباقي لأنه أسير لا يقتل فرق الصبي والمرأة والثاني: أنه لا يرق بل يبق الخيار في الباقي لما روى عمران بن الحصين رضي الله عنه أن الأسير العقيلي قال: يا محمد إني مسلم ثم فاداه برجلين ولأن ما ثبت الخيار فيه بين أشياء إذا سقط أحدهما: لم يسقط الخيار في الباقي ككفارة اليمين إذا عجز فيها عن العتق فعلى هذا اذا اختار الفداء لم يجز أن يفادى به إلا أن يكون له عشيرة يأمن معهم على دينه ونفسه وإن أسر شيخ لا قتال فيه ولا رأي له في الحرب فإن قلنا أنه يجوز قتله فهو كغيره في الخيار بين القتل والاسترقاق والمن والفداء وإن قلنا لا يجوز قتله فهو كغيره إذا أسلم في الأسر وقد بيناه.
فصل: وإن رأى الإمام القتل ضرب عنقه لقوله عز وجل: {فَإذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ} ولا يمثل به لما روى بريدة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميراً على جيش أو سرية قال: "اغزوا بسم الله قاتلوا من كفر بالله ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تغلوا". ويكره حمل رأس من قتل من الكفار الى بلاد المسلمين لما روى عقبة بن عامر أن شرحبيل بن حسنة وعمرو بن العاص بعثا بريداً إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه برأس بناق البطريق فقال أتحملون الجيف الى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلت يا خليفة رسول الله إنهم يفعلون بنا هكذا قال لا تحملوا منهم إلينا شيئا وإن اختار استرقاقه كان للغانمين وإن فاداه بمال كان للغانمين وإن أراد أن يسقط منهم شيئاً من المال لم يجز الا برضا الغانمين لما روى عروة بن الزبير أن مروان بن الحكم والمسور بن مخرمة أخبراه أن

(3/282)


رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءه وفد هوازن مسلمين فقال: "إن أخوانكم هؤلاء جاؤونا تائبين وإني قد رأيت أن أرد إليهم فمن أحب منكم أن يطيب ذلك فليفعل ومن أحب منكم أن يكون على حقه حتى نعطيه إياه من أول ما يفيء الله علينا فليفعل" فقال: الناس قد طيبنا لك يا رسول الله قال الزهري أخبرني سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رد ستة آلاف سبي من سبي هوازن من النساء والصبيان والرجال إلى هوازن حين أسلموا وإن أسر عبد فرأى الإمام أن يمن عليه لم يجز إلا برضا الغانمين وإن رأى قتله لشره وقوته قتله وضمن قيمته للغانمين لأنه مال لهم.
فصل: وإن دعا مشرك الى المبارزة فالمستحب أن يبرز إليه مسلم لما روي أن عتبة وشيبة ابني ريبعة والوليد بن عتبة دعوا الى المبارزة فبرز إليهم حمزة بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب وعبيدة بن الحارث ولأنه إذا لم يبرز إليه أحد ضعفت قلوب المسلمين وقويت قلوب المشركين فإن بدأ المسلم ودعا إلى المبارزة لم يكره وقال أبوعلي بن أبي هريرة يكره لأنه ربما قتل وانكسرت قلوب المسلمين والصحيح أنه لا يكره لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن المبارزة بين الصفين فقال: "لا بأس". ويستحب أن لا يبارز الأقوى في الحرب لأنه إذا بارز ضعيف لم يأمن أن يقتل فيضعف قلوب المسلمين وإن بارز ضعيف جاز ومن أصحابنا من قال: لا يجوز لأن القصد من المبارزة إظهار القوة وذلك لا يحصل من مبارزة الضعيف والصحيح هو الأول لأن التغرير بالنفس يجوز في الجهاد ولهذا يجوز للضعيف أن يجاهد كما يجوز للقوي والمستحب أن لا يبارز إلا بإذن الأمير ليكون ردءاً له إذا احتاج فإن بارز بغير إذنه جاز ومن أصحابنا من قال: لا يجوز لأنه لا يؤمن أن يتم عليه ما ينكسر به الجيش والصحيح أنه يجوز لأن التغرير بالنفس في الجهاد جائز وإن بارز مشرك مسلماً نظرت فإن بارز من غير شرط جاز لكل أحد أن يرميه لأنه حربي لا أمان له وإن شرط أن لا يقابله غير من برز إليه لم يجز رميهم وفاء بشرطه فإن ولى عنه مختاراً أو مثخناً أو ولى عنه المسلم مختاراً أو مثخناً جاز لكل أحد رميه لأنه شرط الأمان في حال القتال وقد انقضى

(3/283)


القتال فزال الأمان وإن استنجد المشرك أصحابه في حال القتال فانجدوه أو بدأ المشركون بمعاونته فلم يمنعهم جاز لكل أحد رميه لأنه نقض الأمان وإن أعانوه فمنعهم فلم يقبلوا منه فهو على أمانه لأنه لم ينقض الأمان ولا انقضى القتال وإن لم يشترط ولكن العادة في المبارزة أن لا يقاتله غير من يبرز إليه فقد قال بعض أصحابنا أنه يستحب أن لا يرميه غيره وعندي أنه لا يجوز لغيره رميه وهو ظاهر النص لأن العادة كالشرط فإن شرط أن لا يقاتله غيره ولا يتعرض له إذا انقضى القتال حتى يرجع الى موضعه وفى له بالشرط فان ولى عنه المسلم فتبعه ليقتله جاز لكل أحد أن يرميه لأنه نقض الشرط فسقط أمانه.
فصل: وإن غرر بنفسه من له سهم في قتل كافر مقبل على الحرب فقتله استحق سلبه لما روى أبو قتادة قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين فرأيت رجلاً من المشركين علا رجلاً من المسلمين فاستدرت له حتى أتيته من ورائه فضربته على حبل عاتقه فأقبل علي فضمني ضمة وجدت منها ريح الموت ثم أدركه الموت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قتل قتيلاً له عليه بينة فله سلبه" فقصصت عليه فقال رجل صدق يا رسول الله وسلب ذلك الرجل عندي فأرضه فقال أبو بكر رضي الله عنه لاها الله إذاً لا يعمد إلى أسد من أسد الله تعالى يقاتل عن دين الله فيعطيك سلبه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صدق فأعطه إياه". فأعطاني إياه فبعث الدرع فابتعت به مخرفا في بني سلمة وإنه لأول مال تأثلته في الإسلام فإن كان ممن لا حق له في الغنيمة كالمخذل والكافر إذا حضر من غير إذن لم يستحق لأنه لا حق له في السهم الراتب فلأن لا يستحق السلب وهو غير راتب أولى فإن

(3/284)


كان ممن يرضخ له كالصبي والمرأة والكافر إذا حضر بالإذن ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا يستحق لما ذكرناه والثاني: أنه يستحق لأن له حقاً في الغنيمة فأشبه من له سهم وإن لم يغرر بنفسه في قتله بأن رماه من وراء الصف فقتله لم يستحق سلبه وإن قتله وهو غير مقبل على الحرب كالأسير والمثخن والمنهزم لم يستحق سلبه وقال أبو ثور: كل مسلم قتل مشركاً استحق سلبه لما روى أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من قتل كافرا فله سلبه" 1. ولم يفصل وهذا لا يصح لأن ابن مسعود رضي الله عنه قتل أبا جهل وكان قد أثخنه غلامان من الأنصار فلم يدفع النبي صلى الله عليه وسلم سلبه إلى ابن مسعود وإن قتله وهو مول ليكر استحق السلب لأن الحرب كر وفر وإن اشترك اثنان في القتل اشتركا في السلب لاشتراكهما في القتل وإن قطع أحدهما: يديه أو رجليه وقتله الآخر ففيه قولان: أحدهما: أن السلب للأول لأنه عطله والثاني: أن السلب للثاني لأنه هو الذي كف شره دون الأول لأن بعد قطع اليدين يمكنه أن يعدو أو يجلب وبعد قطع الرجلين يمكنه أن يقاتل إذا ركب وإن غرر من له سهم فأسر رجلاً مقبلاً على الحرب وسلمه الى الإمام حياً ففيه قولان: أحدهما: لا يستحق سلبه لأنه لم يكف شره بالقتل والثاني: أنه يستحق لأن تغريره بنفسه في أسره ومنعه من القتال أبلغ من القتل وإن من عليه الإمام أو قتله استحق الذي أسره سلبه وإن استرقه أو فاداه بمال بمال ففي رقبته وفي المال المفادي به قولان: أحدهما: أنه للذي أسره والثاني: أنه لا يكون له لأنه مال حصل بسبب تغريره فكان فيه قولان كالسلب.
فصل: والسلب ما كان يده عليه من جنة الحرب كالثياب التي يقاتل فيها والسلاح الذي يقاتل فيه والمركوب الذي يقاتل عليه فأما ما لا بد له عليه كخيمته وما في رجله من السلاح والكراع فلا يستحب سلبه لأنه ليس من السلب وأما ما في يده مما لا يقاتل به كالطوق والمنطقة والسوار والخاتم وما في وسطه من النفقة ففيه قولان: أحدهما: أنه ليس من السلب لأنه ليس من جنة الحرب والثاني: أنه من السلب لأن يده عليه فهو كجنة الحرب ولا يخمس السلب لما روى عوف بن مالك وخالد بن الوليد رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في السلب للقاتل ولم يخمس السلب.
__________
1 رواه أبو داود في كتاب الجهاد باب 136. الدارمي في كتاب السير باب 43. أحمد في مسنده 3/114.

(3/285)


فصل: وإن حاصر قلعة ونزل أهلها على حكم حاكم جاز لأن بني قريظة نزلوا على حكم سعد بن معاذ فحكم بقتل رجالهم وسبي نسائهم وذراريهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد حكمت فيهم بحكم الله تعالى من فوق سبعة أرقعة" 1. ويجب أن يكون الحاكم حراً مسلماً ذكراً بالغاً عاقلاً عدلاً عالماً لأنه ولاية حكم فشرط فيها هذه الصفات كولاية القضاء ويجوز أن يكون أعمى لأن الذي يقتضي الحكم هو الذي يشتهر من حالهم والذي يدرك بالسماع فصح من الأعمى كالشهادة فيما طريقه الاستفاضة ويكره أن يكون الحاكم حسن الرأي فيهم لميله إليهم ويجوز حكمه لأنه عدل في الدين وإن نزلوا على حكم حاكم يختاره الإمام جاز لأنه لا يختار الإمام إلا من يجوز حكمه وإن نزلوا على حكم من يختارونه لم يجز إلا أن يشترط أن يكون الحاكم على الصفات التي ذكرناها وإن نزلوا على حكم اثنين جاز لأنه تحكيم في مصلحة طريقها الرأي فجاز أن يجعل إلى اثنين كالتحكيم في اختيار الإمام وإن نزلوا على حكم مثلاً يجوز أن يكون حاكماً أو على حكم من يجوز أن يكون حاكماً فمات أو على حكم اثنين فماتا أو مات أحدهما: وجب ردهم إلى القلعة لأنهم نزلوا على أمان فلا يجوز أخذهم إلا برضاهم ولا يحكم الحاكم إلا بما فيه مصلحة المسلمين من القتل والاسترقاق والمن والفداء وإن حكم بعقد الذمة وأخذ الجزية ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا يجوز إلا برضاهم لأنه عقد معاوضة فلا يجوز من غير رضاهم والثاني: يجوز لأنهم نزلوا على حكمه وإن حكم أن من أسلم منهم استرق ومن أقام على الكفر قتل جاز وإن حكم بذلك ثم أراد أن يسترق من حكم بقتله لم يجز لأنه لم ينزل على هذا الشرط وإن حكم عليهم بالقتل ثم رأى هو أو الإمام أن يمن عليهم جاز لأن سعد بن معاذ رضي الله عنه حكم بقتل رجال بني قريظة فسأل ثابت الأنصاري رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يهب له الزبير بن باطا اليهودي ففعل فإن حكم باسترقاقهم لم يجز أن يمن عليهم إلا برضا الغانمين لأنهم صاروا مالاً لهم.
فصل: ومن أسلم من الكفار قبل الأسر عصم دمه وماله لما روى عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها". فإن كانت له منفعة بإجارة لم تملك عليه لأنها كالمال وإن كانت له زوجة جاز استرقاقها على المنصوص ومن أصحابنا من قال: لا يجوز كما
__________
1 رواه البخاري في كتاب الجهاد باب 168. مسلم في كتاب الجهاد حديث 65. أحمد في مسنده 3/22، 6/142.

(3/286)


لا يجوز أن يملك ماله ومنفعته وهذا خطأ لأن منفعة البضع ليست بمال ولا تجري مجرى المال ولهذا لا يضمن بالغصب بخلاف المال والمنفعة وإن كان له ولد صغير لم يجز استرقاقه لأن النبي صلى الله عليه وسلم حاصر بني قريظة فأسلم ابنا شعية فأحرزا بإسلامهما أموالهما وأولادهما ولأنه مسلم فلم يجز استرقاقه كالأب وإن كان حمل من حربية لم يجز استرقاقه لأنه محكوم بإسلامه فلم يسترق كالولد وهل يجوز استرقاق الحامل فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز لأنه إذا لم يسترق الحمل لم يسترق الحامل ألا ترى أنه لما لم يجز بيع الحر لم يجز بيع الحامل به والثاني: أنه يجوز لأنها حربية لا أمان لها.
فصل: وإن أسلم رجل وله ولد صغير تبعه الولد في الإسلام لقوله عز وجل: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الطور: 21] وإن أسلمت امرأة ولها ولد صغير تبعها في الإسلام لأنها أحد لأبوين فتبعها الولد في الإسلام كالأب وإن أسلم أحدهما: والولد حمل تبعه في الإسلام لأنه لا يصح إسلامه بنفسه فتبع المسلم منهما كالولد وإن أسلم أحد الأبوين دون الآخر تبع الولد المسلم منهما لأن الإسلام أعلى فكان إلحاقه بالمسلم منهما أولى وإن لم يسلم واحد منهما فالولد كافر لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أن ينصرانه أو يمجسانه" 1. فإن بلغ وهو مجنون فأسلم أحد أبويه تبعه في الإسلام لأنه لا يصح إسلامه بنفسه فتبع الأبوين في الإسلام كالطفل وإن بلغ عاقلاً ثم جن ثم أسلم أحد أبويه ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا يتبعه لأنه زال حكم الإتباع ببلوغه عاقلاً فلا يعود إليه والثاني: أنه يتبعه وهو المذهب لأنه لا يصح إسلامه بنفسه فتبع أبويه في الإسلام كالطفل.
فصل: وإن سبى المسلم صبياً فإن كان معه أحد أبويه كان كافراً لما ذكرناه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وإن سبى وحده ففيه وجهان: أحدهما: إنه باق على حكم كفره ولا يتبع السابي في الإسلام وهو ظاهر المذهب لأن يد السابي يد ملك فلا توجب إسلامه كيد المشتري والثاني: أنه يتبعه لأنه لا يصح إسلامه بنفسه ولا معه من يتبعه في كفره فجعل تابعاً للسابي لأنه كالأب في حضانته وكفالته فتبعه في الإسلام.
__________
1 رواه البخاري في كتاب الجنائز باب 79. مسلم في كتاب القدر حديث 22، 25. الترمذي في كتاب القدر باب 5. الموطأ في كتاب الجنائز حديث 53.

(3/287)


فصل: وإن وصف الإسلام صبي عاقل من أولاد الكفار لم يصح إسلامه على ظاهر المذهب لما روى علي كرم الله وجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "رفع القلم عن ثلاثة عن المجنون - المغلوب على عقله - حتى يفيق وعن النائم حتى يستيقظ وعن الصبي حتى يحتلم". ولأنه غير مكلف فلم يصح إسلامه بنفسه كالمجنون فعلى هذا يحال بينه وبين أهله من الكفار إلى أن يبلغ لأنه إذا ترك معهم خدعوه وزهدوه في الإسلام فإن بلغ ووصف الإسلام حكم بإسلامه وإن وصف الكفر هدد وضرب وطولب بالإسلام وإن أقام على الكفر رد إلى أهله من الكفار ومن أصحابنا من قال يصح إسلامه لأنه يصح صومه وصلاته فصح إسلامه كالبالغ.
فصل: وإن سبيت امرأة ومعها ولد صغير لم يجز التفريق بينهما وقد بيناه في البيع وإن سبى رجل ومعه ولد صغير ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا يجوز التفريق بينهما لأنه أحد الأبوين فلم يفرق بينه وبين الولد الصغير كالأم والثاني: أنه يجوز أن يفرق بينهما لأن الأب لا بد أن يفارقه في الحضانة لأنه لا يتولى حضانته بنفسه وإنما يتولاها غيره فلم يحرم التفريق بينهما بخلاق الأم فإنها لا تفارقه في الحضانة فإنه إذا فرق بينهما ولهت بمفارقته فحرم التفريق بينهما.
فصل: وإن سبى الزوجان أو أحدهما: انفسخ النكاح لما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال: أصبنا نساء يوم أو طاس فكرهوا أن يقعوا عليهن فأنزل الله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24] فاستحللناهن قال الشافعي رحمه الله: سبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أو طاس وبني المصطلق وقسم الفيء وأمر أن لا توطأ حامل حتى تضع ولا حائل حتى تحيض ولم يسأل عن ذات زوج ولا غيرها وإن كان الزوجان مملوكين فسبيا أو أحدهما فلا نص فيه والذي يقتضيه قياس المذهب أن لا ينفسخ النكاح لأنه لم يحدث بالسبي رق وإنما حدث انتقال الملك فلم ينفسخ النكاح كما لو انتقل الملك فيهما بالبيع ومن أصحابنا من قال ينفسخ النكاح لأنه ينفسخ النكاح كما لو انتقل الملك فيهما بالبيع ومن أصحابنا من قال ينفسخ النكاح لأنه حدث سبي يوجب الاسترقاق وإن صادف رقاً كما أن الزنى يوجب الحد وإن صادق حداً.
فصل: إذا دخل الجيش دار الحرب فأصابوا ما يؤكل من طعام أو فاكهة أو حلاوة واحتاجوا إليه جاز لهم أكله من غير ضمان لما روى ابن عمر رضي الله عنه قال: كنا نصيب من المغازي العسل والفاكهة فنأكله ولا نرفعه وسئل ابن أبي أوفى عن طعام خيبر فقال كان الرجل يأخذ منه قدر حاجته ولأن الحاجة تدعوا إلى ما يؤكل ولا يوجد من يشتري منه مع قيام الحرب فجاز لهم الأكل وهل يجوز لهم الأكل من غير حاجة فيه

(3/288)


وجهان: أحدهما: وهو قول أبي علي بن أبي هريرة فإنه لا يجوز كما لا يجوز في غير دار الحرب أكل مال الغير بغير إذنه من غير حاجة والثاني: أنه يجوز وهو ظاهر المذهب وهو قول أكثر أصحابنا لما روى عبد الله بن مغفل رضي الله عنه قال: دلي جراب من شحم يوم خيبر فأتيته فالتزمته ثم قلت لا أعطي من هذا أحداً اليوم شيئاً فالتقت فإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم يتبسم إلي ولو لم يجز أكل ما زاد على الحاجة لنهاه عن منع ما زاد على الحاجة ويخالف طعام الغير بأن ذلك لا يجوز أكله من غير ضرورة وهذا يجوز أكله من غير ضرورة قطعاً وطعام الغير يأكله بعوض وهذا يأكله بغير عوض فجاز أكله من غير حاجة ولا يجوز لأحد منهم أن يبيع شيئاً منه لأن حاجته إلى الأكل دون البيع وإن باع شيئاً منه نظرت فإن باعه من بعض الغانمين وسمله إليه صار المشتري أحق به لأنه من الغانمين وقد حصل في يده ما يجوز له أخذه للأكل فكان أحق به فإن رده إلى البائع صار البائع أحق به لما ذكرناه في المشتري وإن باعه من غير الغانمين وسلمه إليه وجب على المشتري رده إلى الغنيمة لأنه ابتاعه لمن لا يملك بيعه وليس هو من الغانمين فيمسكه لحقه فوجب رده إلى الغنيمة.
فصل: ويجوز أن يعلف منه المركوب وما يحمل عليه رحله من البهائم لأن حاجته إليه كحاجته ولا يدهن منه شعره ولا شعر البهائم لأنه لا حاجة به إليه ولا يعلف منه ما معه من الجوارح كالصقر والفهد لأنه لا حاجة به إليه وإن خرج إلى دار الإسلام ومعه بقية من الطعام ففيه قولان: أحدهما: أنه لا يلزمه ردها في المغنم لأنه مال اختص به من الغنيمة فلا يجب رده فيها كالسلب والثاني: أنه يجب ردها لأنه إنما أجيز أخذه في دار الحرب للحاجة ولا حاجة إليه في دار الإسلام ومن قال إن كان كثيراً وجب رده قولاً واحداً وإن كان قليلاً فعلى القولين والصحيح هو الأول ولا يجوز تناول ما يصاب من الأدوية من غير حاجة وإن دعت الحاجة إليه جاز تناوله ويجب ضمانه لأنه ليس من الأطعمة التي يحتاج إليها في العادة ولا يجوز له لبس ما يصاب من الثياب لما روى رويفع بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يركب دابة من فيء المسلمين حتى إذا أعجفها ردها فيه ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يلبس ثوباً من فيء المسلمين حتى إذا أخلقه رده فيه" 1. ولأنه لا يحتاج إليه في العادة فإن لبسها لزمته أجرته لأنه كالغاصب.
__________
1 رواه أبو داود في كتاب النكاح باب 44. الدارمي في كتاب السير باب 46. أحمد في مسنده 4/108، 109.

(3/289)


فصل: ويجوز ذبح ما يؤكل للأكل ومن أصحابنا من قال لا يجوز والمذهب الأول لأنه مما يؤكل في العادة فهو كسائر الطعام ولا يجوز أن يعمل من أهبها حذاء ولا سقاء ولا دلاء ولا فراء فإن اتخذ منه شيئاً من ذلك وجب رده في المغنم وإن زادت بالصنعة قيمته لم يكن له في الزيادة حق وإن نقص لزمه أرش ما نقص لأنه كالغاصب.
فصل ك وإن أصابوا كتباً فيها كفر لم يجز تركها على حالها لأن قراءتها والنظر فيها معصية وإن أصابوا كتباً والإنجيل لم يجز تركها على حالها أنه لا حرمة لها لأنها مبدلة فإن أمكن الانتفاع بما كتب عليه إذا غسل كالجلود غسل وقسم مع الغنيمة وإن لم يمكن الانتفاع به إذا غسل كالورق مزق ولا يحرق لأنه إذا حرق لم يكن له قيمة فإذا مزق كانت له قيمة فلا يجوز إتلافه على الغانمين.
فصل: وإذا أصابوا خمراً وجب إراقتها كما يجب إذا أصيبت في يد مسلم فإن أصابوا خنزيراً فقد نقل في سير الواقدي أنه يقتل إن كان به عدو فمن أصحابنا من قال إن كان فيه عدو قتل لما فيه من الضرر وإن لم يكن فيه عدو لم يقتل لأنه لا ضرر فيه ومنهم من قال: يجب قتله بكل حال لأنه يحرم الانتفاع به فوجب إتلافه كالخمر وإن أصابوا كلباً فإن كان عقوراً قتل لما فيه من الضرر وإن كان فيه منعة دفع إلى من ينتفع به من الغانمين أومن أهل الخمس وإن لم يكن فيهم من يحتاج إليه خلي لأن اقتناءه لغير حاجة محرم وقد بيناه في البيوع.
فصل: وإن أصابوا مباحاً لم يمكله الكفار كالصيد والحجر والحشيش والشجر فهو لمن أخذه كما لو وجده في دار الإسلام وإن وجد ما يمكن أن يكون للمسلمين ويمكن أن يكون للكفار كالسيف والقوس عرف سنة فإن لم يوجد صاحبه فهو غنيمة.
فصل: وإن فتحت أرض عنوة وأصيب فيها موات فإن لم يمنع الكفار عنها فهو لمن أحياه كموات دار الإسلام وإن منعوا عنها كان للغانمين لأنه يثبت لهم بالمنع عنها حق التملك فانتقل ذلك الحق إلى الغانمين كما لو تحجروا مواتاً للإحياء ثم صارت الدار للمسلمين وإن فتحت صلحاً على أن تكون الأرض لهم لم يجز للمسلمين أن يملكوا فيها مواتاً بالإحياء لأن الدار لهم فلم يملك المسلم فيها بالإحياء.
فصل: وما أصاب المسلمين من مال الكفار وخيف أن يرجع إليهم ينظر فيه فإن كان غير الحيوان أتلف حتى لا ينتفعوا به ويتقووا به على المسلمين وإن كان حيواناً لم يجز إتلافه من غير ضرورة لما روى عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن رسول

(3/290)


الله صلى الله عليه وسلم قال: "من قتل عصفوراً فما فوقها بغير حقها سأله الله تعالى عن قتلها قيل: يا رسول الله وما حقها؟ قال: أن تذبحها فتأكلها ولا تقطع رأسها فترمي بها" 1 وإن دعت إلى قتله ضرورة بأن كان الكفار لا خيل لهم وما أصابه المسلمون خيل وخيف أن يأخذوه ويقاتلونا علي جاز قتله لأنه إذا لم يقتل أخذه الكفار وقاتلوا به المسلمين.
فصل: إذا سرق بعض الغانمين نصاباً من الغنيمة فإن كان قبل إخراج الخمس لم يقطع لمعنيين أحدهما: أن له حقاً في خمسها والثاني: أن له حقاً في أربعة أخماسها وإن سرق بعد إخراج الخمس نظرت فإن سرق من الخمس لم يقطع لأن له حقاً فيه وإن سرق من أربعة أخماسها نظرت فإن سرق قدر حقه أو دونه لم يقطع لأن له في ذلك القدر شبهة وإن كان أكثر من حقه ففيه وجهان: أحدهما: أنه يقطع لأنه لا شبهة له في سرقة النصاب والثاني: أنه لا يقطع لأن حقه شائع في الجميع فلم يقطع فيه وإن كان السارق من غير الغانمين نظرت فإن كان قبل إخراج الخمس لم يقطع لأن له حقاً في خمسها وإن كان بعد أخراج الخمس فإن سرق من الخمس لم يقطع لأن فيه حقاً وإن سرق ذلك من أربعة أخماسها فإن كان في الغانمين من للسارق شبهة في ماله كالأب والابن لم يقطع لأن له شبهة فيما سرق وإن لم يكن له فيهم من له شبهة في ماله قطع لأنه لا شبهة له فيما سرق.
فصل: وإن وطئ بعض الغانمين جارية من الغنيمة لم يجب عليه الحد وقال أبو ثور: يجب وهذا خطأ لأن له فيها شبهة وهو حق التملك ويجب عليه المهر لأنه وطء يسقط فيه الحد على الموطوءة للشبهة فوجب المهر على الواطئ كالوطء في النكاح الفاسد وإن أحبلها ثبت النسب للولد وينقد الولد حراً للشبهة وهل تقسم الجارية في الغنيمة أو تقوم على الواطئ فيه طريقان: من أصحابنا من قال: إن قلنا إنه إذا ملكها صارت أم ولد قومت عليه وإن قلنا إنها لا تصير أم ولد له لم تقوم عليه وقال أبو إسحاق تقوم على القولين لأنه لا يجوز قمستها كما لا يجوز بيعها ولا يجوز تأخير القسمة لأن فيه إضراراً بالغانمين فوجب أن تقوم وإن وضعت فهل تلزمه قيمة الولد ينظر فيه فإن كان قد قومت عليه لم تلزمه لأنها تضع في ملكه وإن لم تكن قومت عليه لزمه قيمة الولد لأنها وضعته في غير ملكه.
__________
1 رواه النسائي في كتاب الضحايا باب 42. الدارمي في كتاب الأضاحي باب 16. أحمد في مسنده 3/166، 197.

(3/291)


فصل: ومن قتل في دار الحرب قتلاً يوجب القصاص أو أتى بمعصية توجب الحد وجب عليه ما يجب في دار الإسلام لأنه لا تختلف الدارن في تحريم الفعل فلم تختلفا فيما يجب به من العقوبة.
فصل: وإن تجسس رجل من المسلمين للكفار لم يقتل لما روي عن علي كرم الله وجهه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد وقال: "انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن فيها ظعينة معها كتاب فخذوه منها" فانطلقنا حتى أتينا الروضة فإذا بالظعينة فقلنا: أخرجي الكتاب فأخرجته من عقاصها فأتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا فيه من حاطب ابن أبي بلتعة رضي الله عنه إلى أناس بمكة يخبرهم ببعش أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا حاطب ما هذا" قال: يا رسول الله لا تعجل علي إنما كنت امرأ ملصقاً فأحببت أن أتخذ عندهم يداً يحمون بها قرابتي ولم أفعل ذلك ارتداداً عن ديني ولا أرضى الكفر بعد الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما إنه قد صدق" فقال عمر: دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق فقال: "إنه قد شهد بدراً" فقال سفيان بن عيينة فأنزل الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة: 1] وقرأ سفيان إلى قوله: {فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} .

(3/292)


فصل: إذا أخذ المشركون مال المسلمين بالقهر لم يملكوه وإذا استرجع منهم وجب رده إلى صاحبه لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه". وروى عمران بن الحصين رضي الله عنه قال: أغار المشركون على سرح رسول الله صلى الله عليه وسلم فذهبوا به وذهبوا بالعضباء واسروا امرأة من المسلمين فركبتها وجعلت لله عليها إن نجاها الله لتنحرنها فقدمت المدينة وأخبرت بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "بئس ما جزيتها لا وفاء لنذر في معصية الله عز وجل ولا فيما لا يملكه ابن آدم" 1. فإن لم يعمل به حتى قسم دفع إلى من وقع في مهمه العوض من خمس الخمس ورد إلى صاحبه لأنه يضق نقض القمسة.
فصل: وإن أسر مسلماً وأطلقوه من غير شرط فله أن يغتالهم في النفس والمال لأنهم كفار لا أمان لهم وإن أطلقوه على أنه في أمان ولم يستأمنوه ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي علي ابن أبي هريرة أنه لا أمان لهم لأنهم لم يستأمنوه والثاني: وهو ظاهر المذهب أنهم في أمانه لأنهم جعلوه في أمان فوجب أن يكونوا منه في أمان وإن كان محبوساً فأطلقوه واستحلفوه أنه لا يرجع إلى دار الإسلام لم يلزمه حكم اليمين ولا كفارة عليه إذا حلف لأن ظاهره الإكراه فإن ابتدأ وحلف أنه إن أطلق لم يخرج إلى دار الإسلام ففيه وجهان: أحدهما: أنه يمين إكراه فإن خرج لم تلزمه كفارة لأنه لم يقدر
__________
1 رواه مسلم في كتاب النذر حديث 8. أبو داود في كتاب الأيمان باب 21. النسائي في كتاب الأيمان باب 31. الدارمي في كتاب السير باب 62.

(3/293)


على الخروج إلا باليمين فأشبه إذا حلفوه على ذلك والثاني: أنه يمين اختيار فإن خرج لزمته الكفارة لأنه بدأ بها من غير إكراه وإن أطلق ليخرج إلى دار الإسلام وشرط عليه أن يعود إليهم أو يحمل مالاً لم يلزمه العود لأن مقامه في دار الحرب لا يجوز ولا يلزمه بالشرط ما ضمن من المال لأنه ضمان من مال بغير حق والمستحب أن يحمل لهم ما ضمن ليكون ذلك طريقاً إلى إطلاق الأسرى.

(3/294)


باب الأنفال
يجوز لأمير الجيش أن ينفل لمن فعل فعلاً يفضي الى الظفر بالعدو كالتجسيس والدلالة على طريق أو قلعة أو التقدم بالدخول الى دار الحرب أو الرجوع إليها بعد خروج الجيش منها لما روى عبادة ابن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينفل في البدأة الربع وفي القفول الثلث وتقدير النفل الى رأي أمير الجيش لأنه بذل لمصلحة الحرب فكان تقديره الى رأي الأمير ويكون ذلك على قدر العمل لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل في البدأة الربع وفي القفول الثلث لان التغرير في القفول أعظم لأنه يدخل إلى دار الحرب والعدو منه على حذر وفي البدأة يدخل والعدو منه على غير حذر ويجوز شرط النفل من بيت مال المسلمين ويجوز شرطه من المال الذي يؤخذ من المشركين فإن جعل في بيت مال المسلمين كان ذلك من خمس الخمس لما روى سعيد بن المسيب قال: كان

(3/294)


الناس يعطون النفل من الخمس ولأنه مال يصرف في مصلحة فكان من خمس الخمس ولا يجوز أن يكون مجهولاً لأنه عوض في عقد لا تدعوا الحاجة فيه الى الجهل به فلم يجز أن يكون مجهولاً لأنه عوض في عقد لا تدعوا الحاجة فيه الى الجهل به فلم يجز أن يكون مجهولاً كالجهل في رد الآبق وإن كان النفل من مال الكفار جاز أن يكون مجهولاً لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل في البدأة الربع وفي القفول الثلث وذلك جزء من غنيمة مجهولة.
فصل: وإن قال الأمير من دلني على القلعة الفلانية فله منها جارية فدله عليها رجل نظرت فإن لم تفتح القلعة لم يجب الدليل شيء ومن أصحابنا من قال: يرضخ له لدلالته والمذهب الأول لأنه لما جعل له الجارية من القلعة صار تقديره من دلني على القلعة وفتحت كانت له منها جارية لانه لا يقدر على تسليم الجارية إلا بالفتح فلم يستحق من غير الفتح شيئا وإن فتحت عنوة ولم تكن فيها جارية لم يستحق شيئاً لأنه شرط معدوم وإن كانت فيها جارية سلمت إليه ولا حق فيها للغانمين ولا لأهل الخمس لأنه استحقها بسبب سابق للفتح وإن أسلمت الجارية قبل القدرة عليها لم يستحقها لأن إسلامها يمنع من استرقاقها ويجب له قيمتها لأن النبي صلى الله عليه وسلم صالح أهل مكة على أن يرد إليهم من جاء من المسلمات فمنعه الله عز وجل من ردهن وأمره أن يرد مهورهن وإن أسلمت بعد القدرة عليها فإن كان الدليل مسلما سلمت إليه وإن كان كافراً فإن قلنا إن الكافر يملك العبد المسلم بالشراء استحقها ثم أجبر على إزالة الملك عنها وإن قلنا إنه لا يملك دفع إليه قيمتها وإن أسلم الدليل بعد ذلك لم يستحقها لأنه أسلم بعدما انتقل حقه إلى قيمتها وإن فتحت والجارية قد ماتت ففيه قولان: أحدهما: أن له قيمتها لأنه تعذر تسليمها فوجب قيمته كما لو أسلمت والثاني: أنه لا يجب له قيمتها لأنه غير مقدور عليها فلم يجب قيمتها كما لولم تكن فيها جارية وفتحت صلحاً نظرت فإن لم تدخل الجارية في الصلح كان الحكم فيها كالحكم إذا فتحت عنوة فإن دخلت في الصلح ففيه وجهان أحدهما: وهو قول أبي إسحاق إن الجارية للدليل وشرطها في الصلح لا يصح كما لو زوجت امرأة من رجل ثم زوجت من آخر والثاني: أن شرطها في الصلح صحيح لأن الدليل لو عفا عنها أمضينا الصلح فيها ولو كان فاسداً لم يمض إلا بعقد مجدد فعلى هذا إن رضي الدليل بغيرها من جواري القلعة أو رضي بقيمتها أمضينا الصلح، وإن لم

(3/295)


يرض ورضي أهل القلعة بتسليمها فكذلك وإن امتنع أهل القلعة من دفع الجارية وامتنع الدليل من الانتقال الى البدل ردوا إلى القلعة وقد زال الصلح لأنه اجتمع أمران متنافيان وتعذر الجمع بينهما وحق الدليل سابق ففسخ الصلح ولصاحب القلعة أن يحصن القلعة كما كانت من غير زيادة وإن فتحت بعد ذلك عنوة كانت الجارية للدليل وإن لم تفتح لم يكن له شيء.
فصل: إذا قال الأمير قبل الحرب من أخذ شيئا فهوله فقد أومأ فيه الى قولين: أحدهما: أن الشرط صحيح لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم بدر: من أخذ شيئا فهوله والثاني: وهو الصحيح أنه لا يصح الشرط لأنه جزء من الغنيمة شرطه لمن لا يستحقها من غير شرط فلا يستحقه بالشرط كما لو شرطه لغير الغانمين والخبر ورد في غنائم بدر وكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم يضعها حيث شاء.

(3/296)


باب قسم الغنيمة
والغنيمة ما أخذ من الكفار بإيجاف الخيل والركاب فإن كان فيها سلب للقاتل أو مال لمسلم سلم إليه لأنه استحقه قبل الاغتنام ثم يدفع منها أجرة النقال والحافظ لأنه لمصلحة الغنيمة فقدم ثم يقسم الباقي على خمسة أخماس خمس لأهل الخمس ثم يقسم أربعة أخماسها بين الغانمين لقوله عز وجل {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الأنفال: 41] فأضاف الغنيمة إلى الغانمين ثم جعل الخمس لأهل الخمس فدل على أن الباقي للغانمين والمستحب أن يقسم ذلك في دار الحرب ويكره تأخيرها الى دار الإسلام من غير عذر لأن النبي صلى الله عليه وسلم قسم غنائم بدر بشعب من شعاب الصفراء قريب من بدر وقسم غنائم بني المصطلق على مياههم وقسم غنائم حنين بأو طاس وهو واد من أودية حنين فإن كان الجيش رجالة سوى بينهم وإن كانوا فرساناً سوى بينهم وإن كان بعضهم فرساناً وبعضهم رجالة جعل للراجل سهماً وللفارس ثلاثة أسهم لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسهم للرجل ولفرسه ثلاثة أسهم للرجل سهم وللفرس سهمان ولا يفضل من قاتل على من لم يقاتل لأن من لم يقاتل كالمقاتل في إرهاب العدو ولأنه أرصد نفسه للقتال ولا يسهم لمركوب غير الخيل لأنه لا يلحق بالخيل في التأثير في الحرب من الكر والفر،

(3/296)


فلم يلحق بها في السهم ويسهم للفرس العتيق وهو الذي أبواه عربيان وللبرذون وهو الذي أبواه عجميان وللمقرف وهو الذي أمه عربية وأبوه عجمي وللهجين وهو الذي أبوه عربي وأمه عجمية لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة" 1 ولأنه حيوان يسهم له فلم يختلف سهمه باختلاف أبويه كالرجل وإن حضر بفرس حطم أو صرع أو أعجف فقد قال في الأم: قيل لا يسهم له وقيل يسهم له فمن أصحابنا من قال فيه قولان: أحدهما: أنه لا يسهم له لأنه لا يغني غناء الخيل فلم يسهم له كالبغل والثاني: يسهم له لأن ضعفه لا يسقط سهمه كضعف الرجل وقال أبو إسحاق إن أمكن القتال عليه أسهم له وإن لم يمكن القتال عليه لم يسهم له لأن الفرس يراد للقتال عليه وهذا أقيس والأول أشبه بالنص ولا يسهم للرجل لأكثر من فرس لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن الزبير حضر يوم حنين بأفراس فلم يسهم له النبي صلى الله عليه وسلم إلا لفرس واحد ولأنه لا يقاتل إلا على فرس واحد فلا يسهم لأكثر منه وإن حضر بفرس والقتال في الماء أو على حصن استحق سهمه لأنه أرهب بفرسه فاستحق سهمه كما لو حضر به القتال ولم يقاتل ولأنه قد يحتاج إليه إذا خرجوا من الماء والحصن.
فصل: فإن غصب فرسا وحضر به الحرب استحق للفرس سهمين لأنه حصل به الإرهاب وفي مستحقه وجهان: أحدهما: أنه له والثاني: أنه لصاحب الفرس بناء على القولين في ربح الدراهم المغصوبة: أحدهما: أنه للغاصب والثاني: أنه للمغصوب منه وإن استعار فرساً أو استأجره للقتال فحضر به الحرب استحق به السهم لأنه ملك القتال عليه وإن حضر دار الحرب بفرس وانقضت الحرب ولا فرس معه بأن نفق أو باعه أو أجره أو أعاره أو غصب منه لم يسهم له وإن دخل دار الحرب راجلاً ثم ملك فرساً أو استعاره وحضر به الحرب استحق السهم لأن استحقاق المقاتل بالحضور فكذلك
__________
1 رواه البخاري في كتاب الجهاد باب 43. مسلم في كتاب الزكاة حديث 25. أبو داود في كتاب الجهاد باب 41. الترمذي في كتاب الجهاد باب 19.

(3/297)


الاستحقاق بالفرس وإن حضر بفرس وعار الفرس إلى أن انقضت الحرب لم يسهم له ومن أصحابنا من قال: يسهم له لأنه خرج من يده بغير اختياره والمذهب الأول لأن خروجه من يده يسقط السهم وإن كان بغير اختياره كما يسقط سهم الراجل إذا ضل عن الوقعة وإن كان بغير اختياره.
فصل: ومن حضر الحرب ومرض فإن كان مريضاً يقدر معه على القتال كالسعال ونفور الطحال والحمى الخفيفة أسهم له لأنه من أهل القتال ولأن الإنسان لا يخلو من مثله فلا يسقط سهمه لأجله وإن كان لا يقدر على القتال لم يسهم له لأنه ليس من أهل القتال فلم يسهم له كالمجنون والطفل.
فصل: ولا حق في الغنيمة لمخذل ولا لمن يرجف بالمسلمين ولا لكافر حضر بغير إذن لأنه لا مصلحة للمسلمين في حضورهم ويرضخ للصبي والمرأة والعبد والمشرك إذا حضر بالإذن ولم يقسم لهم لما روى عمير قال: غزوت مع النبي صلى الله عليه وسلم وأنا عبد مملوك فلما فتح الله على نبيه خيبر قلت يا رسول الله سهمي فلم يضرب لي بسهم وأعطاني سيفا فتقلدته وكنت أخط بنعله في الأرض وأمر لي من خرثي المتاع وروى يزيد بن هرمز أن نجدة كتب الى ابن عباس يسأله هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو بالنساء وهل كان يضرب لهن سهم؟ فكتب إليه ابن عباس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزوا بالنساء فيداوين الجرحى ويحذين من الغنيمة وأما سهم فلم يضرب لهن بسهم.
فصل: وتقدير الرضخ إلى اجتهاد أمير الجيش ولا يبلغ به سهم راجل لأنه تابع لمن له سهم فنقص عنه كالحكومة لا يبلغ بها أرش العضو ومن أين يرضخ لهم فيه ثلاثة أوجه: أحدها أنه يرضخ لهم من أصل الغنيمة لأنهم أعوان المجاهدين فجعل حقهم من

(3/298)


أصل الغنيمة كالنقال والحافظ والثاني: أنه من أربعة أخماس الغنيمة لأنهم من المجاهدين فكان حقهم من أربعة أخماس الغنيمة والثالث أنه من خمس الخمس لأنهم من أهل المصالح فكان حقهم من سهم الصالح.
فصل: وإن حضر أجير في أجارة مقدرة بالزمان ففيه ثلاثة أقوال: أحدها أنه يرضخ له مع الأجرة لأن منفعته مستحقة لغيره فرضخ له كالعبد والثاني: أنه يسهم له مع الأجرة لأن الأجرة تجب بالتمكين والسهم بالحضور وقد وجد الجميع والثالث أنه يخير بين السهم والأجرة فإن اختار الأجرة رضخ له مع الأجرة وإن اختار السهم أسهم له وسقطت الأجرة لأن المنفعة واحدة لا يستحق بها حقان واختلف قوله في تجار الجيش فقال في أحد القولين: يسهم لهم لأنهم شهدوا الوقعة والثاني: أنه لا يسهم لهم لأنهم لم يحضروا للقتال واختلف أصحابنا في موضع القولين فمنهم من قال القولان إذا حضروا ولم يقاتلوا وأما إذا حضروا فقاتلوا فإنه يسهم لهم قولا واحدا ومنهم من قال القولان إذا قاتلوا فأما إذا لم يقاتلوا فإنه لا يسهم لهم قولاً واحدا.
فصل: وإذا لحق بالجيش مدد أو افلت أسير ولحق بهم نظرت فإن كان قبل انقضاء الحرب وحيازة الغنيمة أسهم لهم لقول عمر رضي الله عنه الغنيمة لمن شهد الوقعة وإن كان بعد انقضاء الحرب وحيازة الغنيمة لم يسهم لأنهم حضروا بعدما صارت الغنيمة للغانمين وإن كان بعد انقضاء الحرب وقبل حيازة الغنيمة ففيه قولان: أحدهما: أنه لا يسهم لهم لأنهم لم يشهدوا الوقعة والثاني: أنه يسهم لهم لأنهم حضروا قبل أن يملك الغانمون.
فصل: وإن خرج أمير في جيش وأنفذ سرية من الجيش إلى الجهة التي يقصدها أو إلى غيرها فغنمت السرية شاركهم الجيش وإن غنم الجيش شاركتهم السرية لأن النبي صلى الله عليه وسلم حين هزم هوازن بحنين أسرى قبل أوطاس سرية وغنمت فقسم غنائمهم بين الجميع وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المسلمون يد على من سواهم يسعى بذمتهم أدناهم ويرد عليهم أقصاهم وترد سراياهم على قاعدهم" 1. ولأن الجميع جيش واحد فلم يختص بعضهم بالغنيمة وإن أنفذ سريتين إلى جهة واحدة من
__________
1 رواه أبو داود في كتاب الجهاد باب 147. النسائي في كتاب القسامة باب 9. ابن ماجه في كتاب الديات باب 31. أحمد في مسنده 1/122.

(3/299)


طريق أو طريقين اشترك الجيش والسريتان فيما يغنم كل واحد منهم لأن الجميع جيش واحد وإن أنفذ سريتين إلى جهتين شارك السريتان الجيش فيما يغنمه وشارك الجيش السريتين فيما يغنمان وهل تشارك كل واحدة من السريتين السرية الأخرى فيما تغنمه فيه وجهان: أحدهما: أنها لا تشارك لأن الجيش أصل السريتين وليست إحدى السريتين أصلا للأخرى والثاني: وهو الصحيح أنها تشارك لأنهما من جيش واحد وإن أنفذ الأمير سرية من الجيش وأقام هو مع الجيش فغنمت السرية لم يشاركها الجيش المقيم مع الأمير لأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث السرايا من المدينة فلم يشاركهم أهل المدينة فيما غنموا ولأن الغنيمة للمجاهدين والجيش مقيم مع الأمير ما جاهدوا فلم يشارك السرية فيما غنمت. والله أعلم.

(3/300)


باب قسم الخمس
ويقسم الخمس على خمس أسهم: سهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وسهم لذوي القربى وسهم لليتامى وسهم للمساكين وسهم لابن السبيل والدليل عليه قوله عز وجل: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الأنفال: 41] فأما سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه يصرف في مصالح المسلمين والدليل عليه ما روى جبير بن مطعم رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين صدر من خيبر تناول بيده نبذة من الأرض أو وبرة من بعيره وقال: "والذي نفسي بيده ما لي مما أفاء الله إلا الخمس والخمس مردود عليكم". فجعله لجميع المسلمين ولا يمكن صرفه إلى جميع المسلمين إلا بأن يصرف في مصالحهم وأهم المصالح سد الثغور لأنه يحفظ به الإسلام والمسلمين ثم الأهم فالأهم.

(3/300)


فصل: وأما سهم ذوي القربى فهو لمن ينتسب إلى هاشم والمطلب ابني عبد مناف لما روى جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: لما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذوي القربى بين بني هاشم وبني المطلب جئت أنا وعثمان فقلنا يا رسول الله هؤلاء بنو هاشم لا ننكر فضلهم لمكانك الذي وضعك الله فيهم أرأيت إخواننا من بني المطلب أعطيتهم وتركتنا وإنما نحن وإياهم منك بمنزلة واحدة قال: "إنهم لم يفارقوني في جاهلية ولا إسلام وإنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد" ثم شبك بين أصابعه ويسوي فيه بين الأغنياء والفقراء لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى منه العباس وكان موسراً يقول عامة بني عبد المطلب ولأنه حق يستحق بالقرابة بالشرع فاستوى فيه الغني والفقير كالميراث ويشترك فيه الرجال والنساء لما روى عبد الله بن الزبير رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أسهم لأم الزبير في ذوي القربي ولأنه حق يستحق بالقرابة بالشرع فاستوى فيه الذكر والأنثى كالميراث ويجعل للذكر مثل حظ الأنثيين وقال المزني وأبو ثور يسوي بين الذكر والأنثى لأنه مال يستحق باسم القرابة فلا يفضل الذكر فيه على الأنثى كالمال المستحق بالوصية للقرابة وهذا خطأ لأنه مال خطأ لأنه مال يستحق بقرابة الأب بالشرع ففضل الذكر فيه على الأنثى كميراث ولد الأب ويدفع ذلك إلى القاصي منهم والداني وقال أبو إسحاق يدفع ما في كل إقليم إلى من فيه منهم لأنه يشق نقله من إقليم إلى إقليم والمذهب الأول لقوله عز وجل: {وَلِذِي الْقُرْبَى} [الأنفال: 41] ولم يخص ولأنه حق مستحق بالقرابة فاستوى فيه القاصي والداني كالميراث.
فصل: وأما سهم اليتامى فهو لكل صغير فقير لا أب له فأما من له أب فلا حق له فيه لأن اليتيم هو الذي لا أب له وليس لبالغ فيه حق لأنه لا يسمى بعد البلوغ يتيماً والدليل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يتم بعد الحلم" 1 وليس للغني فيه حق ومن أصحابنا من قال للغني فيه حق لأن اليتيم هو الذي لا أب له غنياً كان أو فقيراً والمذهب الأول لأن غناه بالمال أكثر من غناه بالأب فإذا لم يكن لمن له أب فيه حق فلأن لا يكون لمن له مال أولى.
فصل: وأما سهم المساكين فهو لكل محتاج من الفقراء والمساكين لأنه إذا أفرد المساكين تناول الفريقين.
فصل: وأما سهم ابن السبيل فهو لكل مسافر أو مريد السفر في غير معصية وهو محتاج على ما ذكرناه في الزكاة.
__________
1 رواه أبو داود في كتاب الوصايا باب 9.

(3/301)


فصل: ولا يدفع شيء من الخمس إلى كافر لأنه عطية من الله تعالى فلم يكن للكافر فيها حق كالزكاة ولأنه مال مستحق على الكافر بكفره فلم يجز أن يستحقه الكافر. وبالله التوفيق.

(3/302)


باب قسم الفيء
الفيء هو المال الذي يؤخذ من الكفار من غير قتال وهو ضربان: أحدهما: ما انجلوا عنه خوفاً من المسلمين أو بذلوه للكف عنهم فهذا يخمس ويصرف خمسه إلى من يصرف إليه خمس الغنيمة والدليل عليه قوله عز وجل: {مَا أَفَاءَ الله عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الحشر: 7] والثاني: ما أخذ من غير خوف كالجزية وعشور تجاراتهم ومال من مات منهم في دار الإسلام ولا وارث له ففي تخميسه قولان: قال في القديم: لا يخمس لأنه مال أخذ من غير خوف فلم يخمس كالمال المأخوذ بالبيع والشراء وقال في الجديد: يخمس وهو الصحيح للآية ولأنه مال مأخوذ من الكفار بحق الكفر لا يختص به بعض المسلمين فوجب تخميسه كالمال الذي انجلوا عنه وأما أربعة أخماسه فقد كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته والدليل عليه قوله عز وجل: {مَا أَفَاءَ الله عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الحشر: 47] ولا ينتقل ما ملكه إلى ورثته لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقتسم ورثتي ديناراً ولا درهماً ما تركته بعد نفقة نسائي ومؤنة عاملي فإنه صدقه" 1 وروى مالك بن أوس بن الحدثان رضي الله عنه عن عمر رضي الله عنه أنه قال لعثمان وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف أنشدكم بالله أيها الرهط هل سمعتم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنا لا نورث ما تركنا صدقة إن الأنبياء لا تورث" 2 فقال القوم بلى قد سمعناه ثم أقبل على علي وعباس فقال: أنشدكما بالله هل سمعتما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما تركناه صدقة إن الأنبياء لا تورث" فقالا: نعم أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود. واختلف قول الشافعي رضي الله عنه فيما يحصل من مال
__________
1 رواه البخاري في كتاب الكلام حديث 28. أحمد في مسنده 2/642.
2 رواه البخاري في كتاب الخمس باب 1. مسلم في كتاب الجهاد حديث 49، 52. الترمذي في كتاب السير باب 44. الموطأ في كتاب الكلام حديث 27.

(3/302)


الفيء بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال في أحد القولين: يصرف في المصالح لأنه مال راتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم فصرف بعد موته في المصالح كخمس الخمس فعلى هذا يبدأ بالأهم وهو سد الثغور وأرزاق المقاتلة ثم الأهم فالأهم وقال في القول الثاني هو للمقاتلة لأن ذلك كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم لما كان فيه من حفظ الإسلام والمسلمين ولما كان له في قلوب الكفار من الرعب وقد صار ذلك بعد موته في المقاتلة فوجب أن يصرف إليهم.
فصل: وينبغي للإمام أن يضع ديواناً يثبت فيه أسماء المقاتلة وقدر أرزاقهم لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: قدمت على عمر رضي الله عنه من عند أبي موسى الأشعري بثمانمائة ألف درهم فلما صلى الصبح اجتمع إليه نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم: قد جاء للناس مال لم يأتهم مثله منذ كان الإسلام أشيروا علي بمن أبدأ منهم فقالوا: بك يا أمير المؤمنين إنك ولي ذلك قال: لا ولكن أبدأ برسول الله صلى الله عليه وسلم ثم الأقرب فالأقرب إليه فوضع الديوان على ذلك ويستحب أن يجعل على كل طائفة عريفاً لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل عام خيبر على كل عشرة عريفاً ولأن في ذلك مصلحة وهو أن يقوم التعريف بأمورهم ويجمعهم في وقت العطاء وفي وقت الغزو ويجعل العطاء في كل عام مرة أو مرتين ولا يجعل في كل شهر ولا في كل أسبوع لأن ذلك يشغلهم عن الجهاد.
فصل: ويستحب أن يبدأ بقريش لقوله صلى الله عليه وسلم: "قدموا قريشاً ولا تتقدموها" ولأن النبي صلى الله عليه وسلم منهم فإنه محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر ابن كنانة واختلف الناس في قريش فمنهم من قال: كل من ينتسب إلى فهر بن مالك فهو من قريش ومنهم من قال: كل من ينتسب إلى النضر بن كنانة فهو من قريش ويقدم من قريش بني هاشم لأنهم أقرب قبائل قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويضم إليهم بنو المطلب لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد". وشبك بين أصابعه وعن عمر رضي الله عنه أنه قال: حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيهم فإذا كان السن في الهاشمي قدمه على المطلبي وإذا كان في المطلبي قدمه على الهاشمي ثم يعطي بني عبد شمس وبني نوفل وبني عبد مناف ويقدم بني عبد شمس على بني نوفل لأن عبد شمس أقرب إليه لأنه أخو هاشم من أبيه وأمه ونوفل أخوف من أبيه وأنشد آدم بن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز:

(3/303)


يا أمين الله إني قائل ... قول ذي بر ودين وحسب
عبد شمس لا تهنها إنما ... عبد شمس عم عبد المطلب
عبد شمس كان يتلو هاشماً ... وهما بعد الأم والأب
ثم يعطي بني عبد العزى وبني عبد الدار ويقدم عبد العزى على عبد الدار لأن فيهم أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن خديجة بنت خويلد منهم ولأن فيهم من حلف المطيبين وحلف الفضول وهما حلفان كانا من قوم من قريش اجتمعوا فيهما على نصر المظلوم ومنع الظالم وروت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "شهدت حلف الفضول ولو دعيت إليه لأجبت". وعلى هذا يعطي الأقرب فالأقرب حتى تنقضي قريش فإن استوى اثنان في القرب قدم أسنهما لما رويناه من حديث عمر في بني هاشم وبني المطلب فإن استويا في السن قدم أقدمهما هجرة وسابقة فإذا انقضت قريش قدم الأنصاري على سائر العرب لما لهم من السابقة والآثار الحميدة في الإسلام ثم يقسم على سائر العرب ثم يعطي العجم ولا يقدم بعضهم على بعض إلا بالسن والسابقة دون النسب.
فصل: ويقسم بينهم على قدر كفايتهم لأنهم كفوا المسلمين أمر الجهاد فوجب أن يكفوا أمر النفقة ويتعاهد الإمام في وقت العطاء عدد عيالهم لأنه قد يزيد وينقص ويتعرف الأسعار وما يحتاجون إليه من الطعام والكسوة لأنه قد يغلو ويرخص ليكون عطيتهم على قدر حاجتهم ولا يفضل من سبق إلى الإسلام أو إلى الهجرة على غيره لأن الاستحقاق بالجهاد قد تساووا في الجهاد فلم يفضل بعضهم على بعض كالغانمين في الغنيمة.
فصل: ولا يعطي من الفيء صبي ولا مجنون ولا عبد ولا امرأة ولا ضعيف لا يقدر على القتال لأن الفيء للمجاهدين وليس هؤلاء من أهل الجهاد وإن مرض مجاهد فإن كان مرضاً يرجى زواله أعطي لأن الناس لا يخلون من عارض مرض وإن كان مرضاً لا يرجى زواله سقط حقه من الفيء لأنه خرج عن أن يكون من المجاهدين وإن مات المجاهد وله ولد صغير أو زوجة ففيه قولان: أحدهما: أنه لا يعطي ولده ولا زوجته من الفيء شيئاً لأن ما كان يصل إليهما على سبيل التبع لمن يعولهما وقد زال الأصل وانقطع التبع والثاني: أنه يعطى الولد إلى أن يبلغ وتعطى الزوجة إلى أن تتزوج ولأن في ذلك مصلحة فإن المجاهد إذا علم أنه يعطى عياله بعد موته توفر على الجهاد وإذا علم أنه لا

(3/304)


يعطى اشتغل بالكسب لعياله وتعطل الجهاد فإذا قلنا بهذا فبلغ الولد فإن كان لا يصلح للقتال كالأعمى والزمن أعطي الكفاية كما كان يعطى قبل البلوغ وإن كان يصلح للقتال وأراد الجهاد فرض له وإن لم يرد الجهاد لم يكن له في الفيء حق لأنه صار من أهل الكسب وإن تزوجت الزوجة سقط حقها من الفيء لأنها استغنت بالزوج وإن دخل وقت العطاء فمات المجاهد انتقل حقه إلى ورثته لأنه مات بعد الاستحقاق فانتقل حقه إلى الوارث.
فصل: وإن كان في الفيء أراض كان خمسها لأهل الخمس فأما أربعة أخماسها فقد قال الشافعي رحمه الله تكون وقفاً فمن أصحابنا من قال هذا على القول الذي يقول إنه للمصالح فإن المصلحة في الأراضي أن تكون وقفاً لأنها تبقى فتصرف غلتها في المصالح وأما إذا قلنا إنها للمقاتلة فإنه يجب قسمتها بين أهل الفيء لأنها صارت لهم فوجبت قمستها بينهم كأربعة أخماس الغنيمة ومن أصحابنا من قال تكون وقفاً على القولين فإن قلنا إنها للمصالح صرفت غلتها في المصالح وإن قلنا إنها للمقاتلة صرفت غلتها في مصالحهم لأن الاجتهاد في مال الفيء إلى الإمام ولهذا يجوز أن يفضل بعضهم على بعض ويخالف الغنيمة فإنه ليس للإمام فيها الاجتهاد ولهذا لا يجوز أن يفضل بعض الغانمين على بعض. وبالله التوفيق.

(3/305)


باب الجزية
لا يجوز أخذ الجزية ممن لا كتاب له ولا شبهة كتاب كعبدة الأوثان لقوله عز

(3/305)


وجل: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالله وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ الله وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] تخص أهل الكتاب بالجزية فدل على أنهم لا تؤخذ من غيرهم ويجوز أخذها من أهل الكتابين وهم اليهود والنصارى للآية ويجوز أخذها ممن بدل منهم دينه لأنه وإن لم تكن لهم حرمة بأنفسهم فلهم حرمة بآبائهم ويجوز أخذها من المجوس لما روى عبد الرحمن ابن عوف أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب". وروى أيضاً عبد الرحمن بن عوف أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر واختلف قول الشافعي رحمه الله هل كان لهم كتاب أم لا؟ فقال فيه قولان: أحدهما: أنه لم يكن لهم كتاب والدليل عليه قوله عز وجل: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ} [الأنفال: 155 - 156] والثاني: أنه كان لهم كتاب والدليل عليه ما روي عن علي كرم الله وجه أنه قال كان لهم علم يعلمونه وكتاب يدرسونه وإن ملكهم سكر فوقع على ابنته أو أخته فاطلع عليه بعض أهل مملكته فجاءوا يقيمون عليه الحد فامتنع فرفع الكتاب من بين أظهرهم وذهب العلم من صدورهم.
فصل: وإن دخل وثني في دين أهل الكتاب نظرت فإن دخل قبل التبديل أخذت منه الجزية وعقدت له الذمة لأنه دخل في دين حق وإن دخل بعد التبديل نظرت فإن دخل في دين من بدل لم تؤخذ منه الجزية لم تعقد له الذمة لأنه دخل في دين باطل وإن دخل في دين من لم يبدل فإن كان ذلك قبل النسخ بشريعة بعده أخذت منه الجزية لأنه دخل في حق وإن كان بعد النسخ بشريعة بعده لم تؤخذ منه الجزية وقال المزني رحمه الله تؤخذ منه ووجهه أنه دخل في دين يقر عليه أهله وهذا خطأ لأنه دخل في دين باطل فلم تؤخذ منه الجزية كالمسلم إذا ارتد وإن دخل في دينهم ولم يعلم أنه دخل في دين من بدل أوفي دين من لم يبدل كنصارى العرب وهم بهراء وتنوخ وتغلب أخذت منهم الجزية لأن عمر رضي الله عنه أخذ منهم الجزية باسم الصدقة ولأنه أشكل أمره

(3/306)


فحقن دمه بالجزية احتياطاً للدم وأما من تمسك بالكتب التي أنزلت على شيث وإبراهيم وداود ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي إسحاق أنهم يقرون ببذل الجزية لأنهم أهل كتاب فأقروا ببذل الجزية كاليهود والنصارى والثاني: لا يقرون لأن هذه الصحف كالأحكام التي تنزل بها الوحي وأما السامرة والصابئون ففيهم وجهان: أحدهما: أنه تؤخذ منهم الجزية والثاني: لا تؤخذ وقد بيناهما في كتاب النكاح وأما من كان أحد أبويه وثنياً والآخر كتابياً فعلى ما ذكرناه في النكاح وإن دخل وثني في دين أهل الكتاب وله ابن صغير فجاء الإسلام وبلغ الابن واختار المقام على الدين الذي انتقل إليه أبوه أخذت منه الجزية لأنه تبعه في الدين فأخذت منه الجزية وإن غزا المسلمون قوماً من الكفار لا يعرفون دينهم فادعوا أنهم من أهل الكتاب أخذت منهم الجزية لأنه لا يمكن معرفة دينهم إلا من جهتهم فقبل قولهم وإن أسلم منهم اثنان وعدلا وشهدا أنهم من غير أهل الكتاب نبذ إليهم عهدهم لأنه بان بطلان دعواهم.
فصل: وأقل الجزية دينار لما روى معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن وأمرني أن آخذ من كل حالم ديناراً أو عدله معافرياً وإن التزم أكثر من دينار عقدت له الذمة أخذ بأدائه لأنه عوض في عقد منع الشرع فيه من النقصان عن دينار وبقي الأمر فيما زاد على ما يقع عليه التراضي كما لو وكل وكيلاً في بيع سلعة وقال لا تبع بما دون ينار فإن امتنع قوم من أداء الجزية باسم الجزية وقالوا نؤدي باسم الصدقة ورأى الإمام أن يأخذ باسم الصدقة جاز لأن نصارى العرب قالوا لعمر رضي الله عنه لا نؤدي ما تؤدي العجم ولكن خذ منا باسم الصدقة كما تأخذ من العرب فأبى عمر رضي الله عنه وقال: لا أقركم إلا بالجزية فقالوا خذ منا ضعف ما تأخذ من المسلمين فأبى عليهم فأرادوا اللحاق بدار الحرب فقال زرعة بن النعمان أو النعمان بن زرعة لعمر إن بنى تغلب عرب وفيهم قوة فخذ منهم ما قد بذلوا ولا تدعهم أن يلحقوا بعدوك فصالحهم على أن يضعف عليهم الصدقة وإن كان ما يؤخذ منهم باسم الصدقة لا يبلغ الدينار وجب إتمام الدينار لأن الجزية لا تكون أقل من دينار وإن أضعف عليهم الصدقة فبلغت دينارين فقالوا أسقط عنا ديناراً وخذ منا ديناراً باسم الجزية وجب أخذ الدينار لأن الزيادة وجبت لتغيير الاسم فإذا رضوا بالاسم وجب إسقاط الزيادة.
فصل: والمستحب أن يجعل الجزية على ثلاث طبقات فيجعل على الفقير المعتمل ديناراً وعلى المتوسط دينارين وعلى الغني أربعة دنانير لأن عمر رضي الله عنه بعث عثمان بن حنيف إلى الكوفة فوضع عليهم ثمانية وأربعين وأربعة وعشرين واثني عشر ولأن بذلك يخرج من الخلاف لأن أبا حنيفة لا يجيز إلا كذلك.

(3/307)


فصل: ويجوز أن يضرب الجزية على مواشيهم وعلى ما يخرج من الأرض من ثمر أو زرع فإن كان لا يبلغ ما يضرب على الماشية وما يخرج من الأرض ديناراً لم يجز لأن الجزية لا تجوز أن تنقص عن دينار وإن شرط أنه إن نقص عن دينار تمم الدينار جاز لأنه يتحقق حصول الدينار وإن غلب على الظن أنه يبلغ الدينار ولم يشترط أنه لو نقص الدينار تمم الدينار ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا يجوز لأنه قد ينقص عن الدينار والثاني: أنه يجوز لأن الغالب في الثمار أنها لا تختلف وإن ضرب الجزية على ما يخرج من الأرض فبلغ الأرض من مسلم صح البيع لأنه مال له وينتقل ما ضرب عليها إلى الرقبة لأنه لا يمكن أخذ ما ضرب عليها من المسلم لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا ينبغي لمسلم أن يؤدي الخراج". ولأنه جزية فلا يجوز أخذها من المسلم ولا يجوز إقرار الكافر على الكفر من غير جزية فانتقل إلى الرقبة.
فصل: وتجب الجزية في آخر الحول لأن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن أن يؤخذ من كل حالم في كل سنة دينار وروى أبو مجلز أن عثمان بن حنيف وضع على الرؤوس على كل رجل أربعة وعشرين في كل سنة فإن مات أو أسلم بعد الحول لم يسقط ما وجب لأنه عوض عن الحقن والمساكنة وقد استوفى ذلك فاستقر عليه العوض كالأجرة بعد استيفاء المنفعة فإن مات أو أسلم في أثناء الحول ففيه قولان: أحدهما: أنه لا يلزمه شيء لأنه مال يتعلق وجوبه بالحول فسقط بموته في أثناء الحول كالزكاة والثاني: وهو الصحيح أنه يلزمه من الجزية بحصة ما مضى لأنها تجب عوضاً عن الحقن والمساكنة وقد استوفى البعض فوجب عليه بحصته كما لو استأجر عيناً مدة واستوفى المنفعة في بعضها ثم هلكت العين.
فصل: ويجوز أن يشترط عليها في الجزية ضيافة من يمر بهم من المسلمين لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم صالح أكيدر دومة من نصارى أيلة على ثلاثمائة دينار وكانوا ثلاثمائة رجل وأن يضيفوا من يمر بهم من المسلمين وروى عبد الرحمن بن غنم قال: كتبت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه حين صالح نصارى أهل الشام بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب لعبد الله بن عمر بن الخطاب أمير المؤمنين ومن نصارى مدينة كدى إنكم لما قدمتم علينا سألناكم الأمان لأنفسنا وذرارينا وأموالنا وشرطنا لكم أن ننزل من يمر بنا من المسلمين ثلاثة أيام نطعمهم ولا يشترط ذلك عليهم إلا برضاهم لأنه ليس من الجزية ويشترط عليهم الضيافة بعد الدينار لحديث أكيدر دومة لأنه إذا جعل الضيافة من الدينار لم

(3/308)


يؤمن أن لا يحصل من بعد الضيافة مقدرا الدينار ولا تشترط الضيافة إلا على غني أو متوسط وأما الفقير فلا تشترط عليه وإن وجبت عليه الجزية لأن الضيافة تتكرر فلا يمكنه القيام بها ويجب أن تكون أيام الضيافة من السنة معلومة وعدد من يضاف من الفرسان والرجالة وقدر الطعام والأدم العلوفة معلوماً ولأنه من الجزية فلم يجز مع الجهل بها ولا يكلفون إلا من طعامهم وإدامهم لما روى أسلم أن أهل الجزية من أهل الشام أتوا عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقالوا: إن المسلمين إذا مروا بنا كلفونا ذبح الغنم والدجاج في ضيافتهم فقال: أطعموهم مما تأكلون ولا تزيدوهم على ذلك ويقسط ذلك على قدر جزيتهم ولا تزاد أيام الضيافة على ثلاثة أيام لما روي أن الني صلى الله عليه وسلم قال: "الضيافة ثلاثة أيام". وعليهم أن يسكنوهم في فضول مساكنهم وكنائسهم لما روى عبد الرحمن بن غنم في الكتاب الذي كتب على نصارى الشام وشرطنا أن لا نمنع كنائسنا أن ينزلها أحد من المسلمين من ليل ونهار وأن توسع أبوابها للمارة وأبناء السبيل فإن كثروا وضاق المكان قدم من سبق فإذا جاءوا في وقت واحد أقرع بينهم لتساويهم وإن لم تسعهم هذه المواضع نزلوا في فضول بيوت الفقراء من غير ضيافة.
فصل: ولا تؤخذ الجزية من صبي لحديث معاذ قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن آخذ من كل حالم ديناراً أو عدله معافرياً ولأن الجزية تجب لحقن الدم والصبي محقون الدم وإن بلغ صبي من أولاد أهل الذمة فهو في أمان لأنه كان في الأمان فلا يخرج منه من غير عناد فإن اختار أن يكون في الذمة ففيه وجهان: أحدهما: أنه يستأنف له عقد الذمة لأن العقد الأول كان للأب دونه فعلى هذا جزيته على ما يقع عليه التراضي والثاني: لا يحتاج إلى استئناف عقد لأنه تبع الأب في الأمان فتبعه في الذمة فعلى هذا يلزمه جزية أبيه وجده من الأب ولا يلزمه جزية جده من الأم لأنه لا جزية على الأم فلا يلزمه جزية أبيها.
فصل: ولا تؤخذ الجزية من مجنون لأنه محقون الدم فلا تؤخذ منه الجزية كالصبي وإن كان يجن يوماً ويفيق يوماً لفق أيام الإفاقة فإذا بلغ قدر سنة أخذت منه الجزية لأنه ليس تغليب أحد الأمرين بأولى من الآخر فوجب التلفيق وإن كان عاقلاً في أول الحول ثم جن في أثنائه وأطبق الجنون ففي جزية ما مضى من أول الحول قولان كما قلنا فيمن مات أو أسلم في أثناء الحول.

(3/309)


فصل: ولا تؤخذ الجزية من امرأة لما روى أسلم أن عمر رضي الله عنه كتب إلى أمراء الجزية أن لا تضربوا الجزية على النساء ولا تضربوا إلى على من جرت عليه الموسى ولأنها محقونة الدم فلا تؤخذ منها الجزية كالصبي ولا تؤخذ من الخنثى المشكل لجواز أن يكون امرأة وإن طلبت امرأة من دار الحرب أن تعقد لها الذمة وتقيم في دار الإسلام من غير جزية جاز لأنه لا جزية عليها ولكن يشترط عليها أن تجري عليها أحكام الإسلام وإن نزل المسلمون على حصن فيه نساء بلا رجال فطلبن عقد الذمة بالجزية ففيه قولان: أحدهما: أنه لا يعقد لهن لأن دماءهن محقونة فعلى هذا يقيمون حتى يفتحوا الحصن ويستبقوهن والثاني: أنه يجوز أن يعقد لهن الذمة وتجري عليهن أحكام المسلمين كما قلنا في الحربية إذا طلبت عقد الذمة فعلى هذا لا يجوز سبيهن وما بذلن من الجزية كالهدية وإن دفعن أخذ منهن وإن امتنعن لم يخرجن من الذمة.
فصل: ولا يؤخذ من العبد ولا من السيد بسببه لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال لا جزية على مملوك لأنه لا يقتل بالكفر فلم تؤخذ منه الجزية كالصبي والمرأة ولا تؤخذ ممن نصفه حر ونصفه عبد لأنه محقون الدم فلم تؤخذ منه الجزية كالعبد ومن أصحابنا من قال فيه وجه آخر أنه يؤخذ منه بقدر ما فيه من الجزية لأنه يملك المال بقدر ما فيه من الحرية وإن أعتق العبد نظرت فإن كان المعتق مسلماً عقدت له الذمة بما يقع عليه التراضي من الجزية وإن كان ذمياً ففيه وجهان: أحدهما: أنه يستأنف له عقد الذمة بما يقع عليه التراضي من الجزية لأن عقد المولى كان له دون العبد والثاني: يلزمه جزية المولى لأنه تبعه في الأمان فلزمه جزيته.
فصل: وفي الراهب والشيخ الفاني قولان بناء على القولين في قتلهما فإن قلنا يجوز قتلهما أخذت منهما الجزية ليحقن بها دمهما وإن قلنا إنه لا يجوز قتلهما لم تؤخذ منهما لأن دمهما محقون فلم تؤخذ منهما الجزية كالصبي والمرأة وفي الفقير الذي لا كسب له قولان: أحدهما: أنه لا تجب عليه الجزية لأن عمر رضي الله عنه جعل أهل الجزية طبقات وجعل أدناهم الفقير المعتمل فدل على أنها لا تجب على غير المعتمل ولأنه إذا لم يجب خراج الأرض في أرض لا نبات لها لم يجب خراج الرقاب في رقبة لا

(3/310)


كسب لها فعلى هذا يكون مع الأغنياء في عقد الذمة فإذا أيسر استؤنف الحول والثاني: أنها تجب عليه لأنها تجب على سبيل العوض فاستوى فيه المعتمل وغير المعتمل كالثمن والأجرة ولأن المعتمل وغير المعتمل يستويان في القتل بالكفر فاستويا في الجزية فعلى هذا ينظر إلى الميسرة فإذا أيسر طولب بجزية ما مضى ومن أصحابنا من قال لا ينظر لأنه يقدر على حقن الدم بالإسلام فلم ينظر كما لا ينظر من وجبت عليه كفارة ولا يجد رقبة وهو يقدر على الصوم فعلى هذا يقول له إن توصلت إلى أداء الجزية خليناك وإن لم تفعل نبذنا إليك العهد.
فصل: ويثبت الإمام عدد أهل الذمة أسماءهم ويحليهم بالصفات التي لا تتغير بالأيام فيقول طويل أو قصير أو ربعة أو أبيض أو أسود أو أسمر أو أشقر أو أدعج العينين أو مقرون الحاجبين أو أقنى الأنف ويكتب ما يؤخذ من كل واحد منهم ويجعل على كل طائفة عريفاً ليجمعهم عند أخذ الجزية ويكتب من يدخل معهم في الجزية بالبلوغ ومن يخرج منهم بالموت والإسلام وتؤخذ منهم الجارية برفق كما تؤخذ سائر الديون ولا يؤذيهم في أخذها بقول ولا فعل لأنه عوض في عقد فلم يؤذهم في أخذه بقول ولا فعل كأجرة الدار ومن قبض منه جزيته كتبت له براءة لتكون حجة له إذا احتاج إليها.
فصل: وإن مات الإمام أو عزل وولى غيره ولم يعرف مقدار ما عليهم من الجزية رجع إليهم في ذلك لأنه لا تمكن معرفته مع تعذر البنية إلا من جهتهم ويحلفهم استظهاراً ولا يجب لأن ما يدعونه لا يخالف الظاهر فإن قال بعضهم هو دينار وقال بعضهم هو ديناران أخذ من كل واحد منهم ما أقر به لأن إقرارهم مقبول ولا تقبل شهادة بعضهم على بعض لأن شهادتهم لا تقبل وإن ثبت بعد ذلك بإقرار أو بينة أن الجزية كانت أكثر استوفى منهم فإن قالوا كنا ندفع دينارين ديناراً عن الجزية وديناراً هدية فالقول قولهم مع يمينهم واليمين واجبة لأن دعواهم تخالف الظاهر وإن غاب منهم رجل سنين ثم قدم وهو مسلم وادعى أنه أسلم في أول ما غاب ففيه قولان: أحدهما: أنه لا يقبل قوله

(3/311)


ويطالب بجزية ما مضى من غيبته في حال الكفر لأن الأصل بقاؤه على الكفر والثاني: أنه يقبل لأن الأصل براءة الذمة من الجزية.

(3/312)


باب عقد الذمة
لا يصح عقد الذمة إلا من الإمام أو ممن فوض إليه الإمام لأنه من المصالح العظام فكان إلى الإمام ومن طلب عقد الذمة وهو ممن يجوز إقراره على الكفر بالجزية وجب العقد له لقوله عز وجل: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالله وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ الله وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ} [التوبة: 29] ثم قال: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] فدل على أنهم إذا أعطوا الجزية وجب الكف عنهم وروى بريدة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا بعث أميراً على جيش قال: إذا لقيت عدواً من المشركين فادعهم إلى الدخول في الإسلام فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم وإن أبوا فادعهم الى إعطاء الجزية فإن فعلوا فاقبل منهم وكف عنهم ولا يجوز عقد الذمة إلا بشرطين بذل الجزية والتزام أحكام المسلمين في حقوق الآدميين في العقود والمعاملات وغرامات المتلفات فإن عقد على غير هذين الشرطين لم يصح العقد والدليل عليه قوله عز وجل: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالله وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ الله وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] والصغار هو أن تجري عليهم أحكام المسلمين ولا فرق بين الخيابرة وغيرهم في الجزية والذي يدعيه الخيابرة أن معهم كتاباً من علي بن أبي طالب كرم الله وجهه بالبراءة من الجزية لا أصل له ولم يذكره أحد من علماء الإسلام وأخبار أهل الذمة لا تقبل وشهادتهم لا تسمع.
فصل: وإن كان أهل الذمة في دار الإسلام أخذوا بلبس الغيار وشد الزنار والغيار أن يكون فيما يظهر من ثيابهم ثوب يخالف لونه لون ثيابهم كالأزرق والأصفر ونحوهما والزنار أن يشدوا في أوساطهم خيطاً غليظاً فوق الثياب وإن لبسوا القلانس جعلوا فيها خرقاً ليتميزوا عن قلانس المسلمين لما روى عبد الرحمن بن غنم في الكتاب الذي كتبه لعمر حين صالح نصارى الشام فشرط أن لا نتشبه بهم في شيء من لباسهم من قلنسوة ولا عمامة ولا نعلين ولا فرق شعر وأن نشد الزنانير في أوساطنا ولأن الله عز وجل أعز الإسلام وأهله وندب إلى أعزاز أهله وأذل الشرك وأهله ونذب إلى إذلال أهله،

(3/312)


والدليل عليه ما روى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يعبد الله ولا يشرك به شيء وجعل الصغار والذل على من خالف أمري". فوجب أن يتميزوا عن المسلمين لنستعمل مع كل واحد منهم ما ندبنا إليه وإن شرط عليهم الجمع بين الغيار والزنار أخذوا بهما وإن شرط أحدهما: أخذوا به لأن التمييز يحصل بأحدهما: ويجعل في أعناقهما خاتم ليتميزوا به عن المسلمين في الحمام وفي الأحوال التي يتجردون فيها عن الثياب ويكون ذلك من حديد أو رصاص أو نحوهما ولا يكون من ذهب أو فضة لأن في ذلك إعظاماً لهم وإن كان لهم شعر أمروا بجز النواصي ومنعوا من إرساله كما تصنع الأشراف والأخيار من المسلمين لما روى عبد الرحمن بن غنم في كتاب عمر على نصارى الشام وشرطنا أن نجز مقادم رؤوسنا ولا يمنعون من لبس العمائم والطيلسان لأن التمييز يحصل بالغيار والزنار وهل يمنعون من لبس الديباج؟ فيه وجهان: أحدهما: أنهم يمنعون لما فيه من التجبر والتفخيم والتعظيم والثاني: أنهم لا يمنعون كما لا يمنعون من لبس المرتفع من القطن والكتان وتؤخذ نساؤهم بالغيار والزنار لما روى أن عمر كتب إلى أهل الآفاق أن مروا نساء أهل الأديان أن يعقدن زنانيرهن وتكون زنانيرهن تحت الإزار لأنه إذا كان فوق الإزار انكشفت رؤوسهن واتصفت أبدانهن ويجعلن في أعناقهن خاتم حديد ليتميزن به عن المسلمات في الحمام كما قلنا في الرجال وإن لبسن الخفاف جعلن الخفين من لونين ليتميزن عن النساء المسلمات ويمنعون من ركوب الخيل لما روي في حديث عبد الرحمن بن غنم شرطنا أن لا نتشبه بالمسلمين في مراكبهم وإن ركبوا الحمير والبغال ركبوها على الأكف دون السروج ولا يتقلدون السيوف ولا يحملون السلاح لما روى عبد الرحمن بن غنم في كتاب عمر ولا نركب بالسروج ولا نتقلد بالسيوف ولا نتخذ شيئاً من السلاح ولا نحمله ويركبون عرضاً من جانب واحد لما روى ابن عمر أن عمر كان يكتب إلى عماله يأمرهم أن يجعل أهل الكتاب المناطق في أوساطهم وأن يركبوا الدواب عرضاً على شق.
فصل: ولا يبدؤون بالسلام ويلجئون إلى أضيق الطرق لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا لقيتم المشركين في طريق فلا تبدؤوهم بالسلام واضطروهم إلى أضيقها" 1. ولا يصدرون في المجالس لما روى عبد الرحمن بن غنم في
__________
1 رواه أحمد في مسنده 2/263، 346.

(3/313)


كتاب عمر وأن نوقر المسلمين ونقوم لهم من مجالسنا إذا أرادوا الجلوس ولأن في تصديرهم في المجالس إعزازاً لهم وتسوية بينهم وبين المسلمين في الإكرام فلم يجز ذلك.
فصل: ويمنعون من إحداث بناء بعلو بناء جيرانهم من المسلمين لقوله صلى الله عليه وسلم: "الإسلام يعلو ولا يعلى" 1. وهل يمنعون مساراتهم في البناء؟ فيه وجهان: أحدهما: أنهم لا يمنعون لأنه يؤمن أن يشرف المشرك على المسلم والثاني: أنهم يمنعون لأن القصد أن يعلو الإسلام ولا يحصل ذلك مع المساواة وإن ملكوا داراً عالية أقروا عليها وإن كانت أعلى من دور جيرانهم لأنه ملكها على هذه الصفة وهل يمنعون من الاستعلاء في غير محلة المسلمين؟ فيه وجهان: أحدهما: أنهم لا يمنعون لأنه يؤمن مع العبد أن يعلوا على المسلمين والثاني: أنهم يمنعون في جميع البلاد لأنهم يتطاولون على المسلمين.
فصل: ويمنعون من إظهار الخمر والخنزير وضرب النواقيس والجهر بالتوراة والإنجيل وإظهار الصليب وإظهار أعيادهم ورفع الصوت على موتاهم لما روى عبد الرحمن بن غنم في كتاب عمر رضي الله عنه على نصارى الشام شرطنا أن لا نبيع الخمور ولا نظهر صلباننا ولا كتبنا في شيء من طرق المسلمين ولا أسواقهم ولا نضرب نواقيسنا إلا ضرباً خفياً ولا نرفع أصواتنا بالقراءة في كنائسنا في شيء من حضرة المسلمين ولا نخرج شعانيننا ولا باعوثنا ولا نرفع أصواتنا على موتانا.
فصل: ويمنعون من إحداث الكنائس والبيع والصوامع في بلاد المسلمين لما روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: أيما مصر مصرته العرب فليس للعجم أن يبنوا فيه كنيسة وروى عبد الرحمن بن غنم في كتاب عمر على نصارى الشام إنكم لما قدمتم علينا شرطنا لم على أنفسنا أن لا يحدث في مدائننا ولا فيما حولها ديراً ولا قلاية ولا
__________
1 رواه البخاري في كتاب الجنائز باب 79.

(3/314)


كنيسة ولا صومعة راهب وهل يجوز إقرارهم على ما كان منها قبل الفتح ينظر فيه فإن كان في بلد فتح صلحاً واستثنى فيه الكنائس والبيع جاز إقرارهما لأنه إذا جاز أن يصالحوا على أن لنا النصف ولهم النصف جاز أن يصالحوا على أن لنا البلد إلا الكنائس والبيع وإن كان في بلد فتح عنوة أو فتح صلحاً ولم تستثن الكنائس والبيع ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا يجوز كما لا يجوز إقرار ما أحدثوا بعد الفتح والثاني: أنه يجوز لأنه لما جاز إقرارهم على ما كانوا عليه من الكفر جاز إقرارهم على ما يبنى للكفر وما جاز تركه من ذلك في دار الإسلام إذا انهدم فهل يجوز إعادته؟ فيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي سعيد الإصطخري وأبي علي بن أبي هريرة أنه لا يجوز لما روى كثير بن مرة قال سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تبنى الكنيسة في دار الإسلام ولا يجدد ما خرب منها". وروى عبد الرحمن بن غنم في كتاب عمر بن الخطاب على نصارى الشام ولا يجدد ما خرب منها ولأنه بناء كنيسة في دار الإسلام فمنع منه كما لو بناها في موضع آخر والثاني: أنه يجوز لأنه لما جاز تشييد ما تشعب منها جاز إعادة ما انهدم وإن عقدت الذمة في بلد لهم ينفردون به لم يمنعوا من إحداث الكنائس والبيع والصوامع ولا من إعادة ما خرب منها ولا يمنعون من إظهار الخمر والخنزير والصليب وضرب الناقوس والجهر بالتوراة والإنجيل وإظهار ما لهم من الأعياد ولا يؤخذون بلبس الغيار وشد الزنانير لأنهم في دار لهم فلم يمنعوا من إظهار دينهم فيه.
فصل: ويجب على الإمام الذب عنهم ومنع من يقصدهم من المسلمين والكفار واستنقاذ من أسر منهم واسترجاع ما أخذ من أموالهم سواء كانوا مع المسلمين أو كانوا منفردين عنهم في بلد لهم لأنهم بذلوا الجزية لحفظهم وحفظ أموالهم فإن لم يدفع حتى مضى حول لم تجب الجزية عليهم لأن الجزية للحفظ وذلك لم يوجد فيه يجب ما في مقابلته كما لا تجب الأجرة إذا لم يوجد التمكين من المنفعة وإن أخذ منهم خمر أو خنزير لم يجب استرجاعه لأنه يحرم فلا يجوز اقتناؤه في الشرع فلم تجب المطالبة به.
فصل: وإن عقدت الذمة بشرط أن يمنع عنهم أهل الحرب نظرت فإن كانوا مع المسلمين أوفي موضع إذا قصدهم أهل الحرب كان طريقهم على المسلمين لم يصح العقد لأنه عقد على تمكين الكفار من المسلمين فلم يصح وإن كانوا منفردين عن

(3/315)


المسلمين في موضع ليس لأهل الحرب طريق على المسلمين صح العقد لأنه ليس فيه تمكين الكفار من المسلمين وهل يكره هذا الشرط؟ قال الشافعي رضي الله عنه في موضع يكره وقال في موضع لا يكره وليست المسألة على قولين وإنما هي على اختلاف حالين فالموضع الذي قال يكره إذا طلب الإمام الشرط لأن فيه إظهار ضعف المسلمين والموضع الذي قال لا يكره إذا طلب أهل الذمة الشرط لأنه ليس فيه إظهار ضعف المسلمين وإن أغار أهل الحرب على أهل الذمة وأخذوا أموالهم ثم ظفر الإمام بهم واسترجع ما أخذوه من أهل الذمة وجب على الإمام رجه عليهم وإن أتلفوا أموالهم أو قتلوا منهم لم يضمنوا لأنهم لم يلتزموا أحكام المسلمين وإن أغار من بيننا وبينهم هدنة على أهل الذمة وأخذوا أموالهم وظهر بها الإمام واسترجع ما أخذوه وجب رده على أهل الذمة وإن أتلفوا أموالهم وقتلوا منهم وجب عليهم الضمان لأنهم التزموا بالهدنة حقوق الآدميين وإن نقضوا العهد وامتنعوا في ناحية ثم أغاروا على أهل الذمة وأتلفوا عليهم أموالهم وقتلوا منهم ففيه قولان: أحدهما: أنه يجب عليهم الضمان والثاني: لا يجب كالقولين فيما يتلف أهل الرد إذا امتنعوا وأتلفوا على المسلمين أموالهم أو قتلوا منهم.
فصل: وإن تحاكم مشركان إلى حاكم المسلمين نظرت فإن كانا معاهدين فهو بالخيار بين أن يحكم بينهما وبين أن لا يحكم لقوله عز وجل: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أو اعْرِضْ عَنْهُمْ} [المائدة: 42] ولا يختلف أهل العلم أن هذه الآية نزلت فيمن وادعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من يهود المدينة قبل فرض الجزية وإن حكم بينهما لم يلزمهما حكمه وإن دعا الحاكم أحدهما: ليحكم بينهما لم يلزمه الحضور وإن كانا ذميين نظرت فإن كان على دين واحد ففيه قولان: أحدهما: أنه بالخيار بين أن يحكم بينهما وبين أن لا يحكم لأنهما كافران فلا يلزمه الحكم بينهما كالمعاهدين وإن حكم بينهما لم يلزمهما حكمه وإن دعا أحدهما: ليحكم بينهما لم يلزمه الحضور والقول الثاني أنه يلزمه الحكم بينهما وهو اختيار المزني لقوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ الله} [المائدة: 48] ولأنه يلزمه دفع ما قصد كل واحد منهما بغير حق فلزمه الحكم بينهما كالمسلمين وإن حكم بينهما لزمهما حكمه وإن دعا أحدهما: ليحكم بينهما لزمه الحضور وإن كانا على دينين كاليهودي والنصراني ففيه طريقان: أحدهما: أنه على القولين كالقسم قبله لأنهما كافران قصارا كما لوكانا على دين واحد والثاني: قول أبي علي بن أبي هريرة أنه يجب الحكم بينهما قولاً واحداً لأنهما إذا كانا على دين واحد فلم يحكم بينهما تحاكما إلى

(3/316)


رئيسهما فيحكم بينهما وإذا كانا على دينين لم يرض كل واحد منهما برئيس الآخر فيضيع الحق واختلف أصحابنا في موضع القولين فمنهم من قال القولان في حقوق الآدميين وفي حقوق الله تعالى ومنهم من قال القولان في حقوق الآدميين وأما حقوق الله تعالى فإنه يجب الحكم بينهما قولاً واحداً لأن الحقوق الآدميين من يطالب بها ويتوصل إلى استيفائها فلا تضيع بترك الحكم بينهما وليس لحقوق الله تعالى من يطالب بها فإذا لم يحكم بينهما ضاعت ومنهم من قال القولان في حقوق الله تعالى فأما في حقوق الآدميين فإنه يجب الحكم بينهما قولاً واحداً لأنه إذا لم يحكم بينهما في حقوق الآدميين ضاع حقه واستضر ولا يوجد ذلك في حقوق الله تعالى فإن تحاكم إليه ذمي ومعاهد ففيه قولان كالذميين وإن تحاكم إليه مسلم وذمي أو مسلم ومعاهد لزمه الحكم بينهما قولاً واحداً لأنه يلزمه دفع كل واحد منهما عن ظلم الآخر فلزمه الحكم بينهما ولا يحكم بينهما إلا بحكم الإسلام لقوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ الله} [المائدة: 48] ولقوله تعالى: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} [المائدة: 42] وإن تحاكم إليه رجل وامرأة في نكاح فإن كانا على نكاح لو أسلما عليه لم يجز إقرارهما عليه كنكاح ذوات المحارم حكم بإبطاله وإن كانا على نكاح لو أسلما عليه جاز إقرارهما عليه حكم بصحته لأن أنكحة الكفار محكوم بصحتها والدليل عليه قوله تعالى {وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ} فأضاف إلى فرعون زوجته وقوله تعالى: {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} [المسد: 5] فأضاف إلى أبي لهب زوجته ولأنه أسلم خلق كثير على أنكحة في الكفر فأقروا على أنكحتهم فإن طلقها أو آلى منها وظاهر منها حكم في الجميع بحكم الإسلام.
فصل: وإن تزوجها على مهر فاسد وسلم إليها بحكم حاكمهم ثم ترافعا إلينا ففيه قولان: أحدهما: يقرون عليه لأنه مهر مقبوض فأقرا عليه كما لو أقبضهما من غير حكم والثاني: أنه يجب لها مهر المثل لأنها قبضت على إكراه بغير حق فصار كما لولم تقبض.
فصل: ومن أتى من أهل الذمة محرماً يوجب عقوبة نظرت فإن كان ذلك محرماً في دينه كالقتل والزنا والسرقة والقذف وجب عليه ما يجب على المسلم والدليل عليه ما روى أنس رضي الله عنه أن يهوياً قتل جارية على أوضاح لها بحجر فقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم بين حجرين وروى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بيهوديين قد فجرا بعد إحصانهما فأمر بهما فرجما ولأنه محرم في دينه وقد التزم حكم الإسلام بعقد الذمة فوجب عليه ما يجب على المسلم وإن كان يعتقد إباحته كشرب الخمر لم يجب عليه الحد لأنه لا يعتقد تحريمه فلم يحب عليه عقوبة كالكفر فإن تظاهر به عزر لأنه إظهار منكر في دار الإسلام فعزر عليه.

(3/317)


فصل: إذا امتنع الذمي من التزام الجزية أو امتنع من التزام أحكام المسلمين اتنقض عهده لأن عقد الذمة لا ينعقد إلا بهما فلم يبق دونهما وإن قاتل المسلمين انتقض عهده سواء شرط عليه تركه في العقد أولم يشرط لأن مقتضى عقد الذمة الأمان من الجانبين والقتال ينافي الأمان فانتقض به العهد وإن فعل ما سوى ذلك نظرت فإن كان مما فيه إضرار بالمسلمين فقد ذكر الشافعي رحمه الله تعال ستة أشياء وهو أن يزني بمسلمة أو يصيبها باسم النكاح أو يفتن مسلماً عن دينه أو يقطع عليه الطريق أو يؤوي عيناً لهم أو يدل على عوراتهم وأضاف إليهم أصحابنا أن يقتل مسلماً فإن لم يشرط الكف عن ذلك في العقد لم ينتقض عهده لبقاء ما يقتضي العقد من التزام أداء الجزية والتزام أحكام المسلمين والكف عن قتالهم وإن شرط عليهم الكف عن ذلك في العقد ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا ينتقض به العقد لأنه لا ينتقض به العهد ومن غير شرط فلا ينتقض به مع الشرط كإظهار الخمر والخنزير وترك الغيار والثاني: أنه ينتقض به العهد لما روي أن نصرانياً استكره امرأة مسلمة على الزنا فرفع إلى أبي عبيدة ابن الجراح فقال ما على هذا صالحناكم وضرب عنقه ولأن عقوبة هذه الأفعال تستوفي عليه من غير شرط فوجب أن يكون لشرطها تأثير ولا تأثير إلا ما ذكرنا من نقض العهد فإن ذكر الله عز وجل أو كناية أو ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أو دينه بما لا ينبغي فقد اختلف أصحابنا فيه فقال أبو إسحاق في حكمه حكم الثلاثة الأولى وهي الامتناع من التزام الجزية والتزام أحكام المسلمين والاجتماع على قتالهم وقال عامة أصحابنا حكمه حكم ما فيه ضرر بالمسلمين وهي الأشياء السبعة إن لم يشترط في العقد الكف عنه لم ينقض العهد وإن شرط الكف عنه فعلى الوجهين لأن في ذلك إضراراً بالمسلمين لما يدخل عليهم من العار فألحق بما ذكرناه مما فيه إضرار بالمسلمين ومن أصحابنا من قال من سب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجب قتله لما روي أن رجلاً قال لعبد الله بن عمر سمعت راهباً يشتم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لو سمعته لقتلته إنا لم نعطه الأمان على هذا وإن أظهر من منكر دينهم ما لا ضرر فيه على المسلمين كالخمر والخنزير وضرب الناقوس والجهر بالتوراة والإنجيل وترك الغيار لم ينتقض العهد شرط أولم يشرط واختلف أصحابنا في تعليله فمنهم من قال: لا ينتقض العهد لأنه إظهار ما لا ضرر فيه على المسلمين ومنهم من قال ينتقض لأنه إظهار ما يتدينون به وإذا فعل ما ينتقض به العهد ففيه قولان: أحدهما: أنه يرد إلى مأمنه لأنه حصل في دار الإسلام بأمان فلم يجز قتله قبل الرد إلى مأمنه كما لو دخل دار الإسلام بأمان صبي والثاني: وهو الصحيح أنه لا يجب رده إلى مأمنه كالأسير ويخالف من دخل

(3/318)


بأمان الصبي لأن ذلك غير مفرط لأنه اعتقد صحة عقد الأمان فرد إلى مأمنه وهذا مفرط لأنه نقض العهد فلم يرد إلى مأمنه فعلى هذا يختار الإمام ما يراه من القتل والاسترقاق والمن والفداء كما قلنا في الأسر.
فصل: ولا يمكن مشرك من الإقامة في الحجاز قال الشافعي رحمه الله هي مكة والمدينة واليمامة ومخاليفها قال الأصمعي سمي حجازاً لأنه حاجز بين تهامة ونجد والدليل عليه ما روى ابن عباس رضي الله عنه قال: اشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه فقال: "أخرجوا المشركين من جزيرة العرب". وأراد الحجاز والدليل عليه ما روى أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه قال: آخر ما تكلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم أخرجوا اليهود من الحجاز وأهل نجران من جزيرة العرب وروى ابن عمر أن عمر رضي الله عنه أجلى اليهود والنصارى من الحجاز ويم ينقل أن أحداً من الخلفاء أجلى من كان باليمن من أهل الذمة وإن كانت من جزيرة العرب فإن جزيرة العرب في قول الأصمعي من أقصى عدن إلى ريف العراق في الطول ومن جدة وما والاها من ساحل البحر إلى أطرار الشام في العرض وفي قول أبي عبيدة ما بين حفر أبي موسى الأشعري إلى أقصى اليمن في الطول وما بين النهرين إلى المساواة في العرض قال يعقوب: حفر أبي موسى على منازل من البصرة من طريق مكة على خمسة أو ستة منازل وأما نجران فليست من الحجاز ولكن صالحهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لا يأكلوا الربا فأكلوه ونقضوا العهد فأمر بإجلائهم فأجلاهم عمر ويجوز تمكينهم من دخول الحجاز لغير الإقامة لأن عمر رضي الله عنه أذن لمن دخل منهم تاجراً في مقام ثلاثة أيام ولا يمكنون من الدخول بغير إذن الإمام لأن دخولهم إنما أجيز لحاجة المسلمين فوقف على رأي الإمام فإن استأذن في الدخول فإن كان للمسلمين فيه منفعة بدخوله لحمل ميرة أو أداء رسالة أو عقد ذمة أو عقد هدنة أذن فيه لأن فيه مصلحة للمسلمين فإن كان في تجارة لا يحتاج إليها المسلمون لم يؤذن له إلا بشرط أن يأخذ من تجارتهم شيئاً لأن عمر رضي الله عنه أمر أن تؤخذ من أنباط الشام من حمل القطنية من الحبوب العشر ومن حمل الزيت والقمح نصف العشر ليكون أكثر للحمل وتقدير ذلك إلى رأي الإمام لأن أخذه باجتهاده فكان تقديره إلى رأيه فإن دخل للتجارة فله أن يقيم ثلاثة أيام ولا يقيم أكثر منها لحديث عمر رضي الله عنه، ولأنه

(3/319)


لا يصير مقيماً بالثلاثة ويصير مقيماً بما زاد وإن أقام في موضع ثلاثة أيام ثم انتقل إلى موضع آخر وأقام ثلاثة أيام ثم كذلك ينتقل من موضع إلى موضع ويقيم في كل موضع ثلاثة أيام جاز لأنه لم يصر مقيماً في موضع ولا يمنع من ركوب بحر الحجاز لأنه ليس بموضع للإقامة ويمنع من المقام في سواحله والجزائر المكونة فيه لأنه من بلاد الحجاز وإن دخل لتجارة فمرض فيه ولم يمكنه الخروج أقام حتى يبرأ لأنه موضع ضرورة وإن مات فيه وأمكن نقله من غير تغير لم يدفن فيه لأن الدفن إقامة على التأبيد وإن خيف عليه التغير في النقل عنه لبعد المسافة دفن فيه لأنه موضع ضرورة.
فصل: ولا يمكن مشرك من دخول الحرم لقوله عز وجل: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة: 28] والمسجد الحرام عبارة عن الحرم والدليل عليه قوله عز وجل: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} [الإسراء: 1] وأراد به مكة لأنه أسرى به من منزل خديجة وروى عطاء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يدخل مشرك المسجد الحرام" فإن جاء رسولاً خرج إليه من يسمع رسالته وإن جاء لحمل مبرة خرج إليه من يشتري منه وإن جاء ليسلم خرج إليه من يسمع كلامه وإن دخل ومرض فيه لم يترك فيه وإن مات لم يدفن فيه وإن دفن فيه نبش وأخرج منه للآية ولأنه إذا لم يجز دخوله في حياته فلأن لا يجوز دفن جيفته فيه أولى وإن تقطع ترك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر بنقل من مات فيه منهم ودفن قبل الفتح وإن دخل بغير إذن فإن كان عالماً بتحريمه عزر وإن كان جاهلاً أعلم فإن عاد عزر وإن أذن له في الدخول بمال لم يجز فإن فعل استحق عليه المسمى لأنه حصل له المعوض ولا يستحق عوض المثل وإن كان فاسداً لأنه لا أجرة لمثله والحرم من طريق المدينة على ثلاثة أميال ومن طريق العراق على تسعة أميال ومن طريق الجعرانة على تسعة أميال ومن طريق الطائف على عرفة على سبعة أميال ومن طريق جدة على عشرة أميال.
فصل: وأما دخول ما سوى المسجد الحرام من المساجد فإنه يمنع منه من غير إذن لما روى عياض الأشعري أن أبا موسى وفد إلى عمر ومعه نصراني فأعجب عمر خطه فقال: قل لكاتبك هذا يقرأ لنا كتاباً فقال أنه لا يدخل المسجد فقال لم؟ أجنب هو؟ قال لا هو نصراني قال: فانتهره عمر فإن دخل من غير إذن عزر لما روت أم غراب قالت:

(3/320)


رأيت علياً كرم الله وجهه على المنبر وبصر بمجوسي فنزل فضربه وأخرجه من باب كندة فإن استأذن في الدخول فإن كان لنوم أو أكل لم يأذن له لأنه يرى ابتذاله تديناً فلا يحميه من أقذاره وإن كان لسماع قرآن أو علم فإن كان ممن يرجى إسلامه أذن له لقوله عز وجل: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ الله} [التوبة: 6] لأنه ربما كان سبباً لإسلامه وقد روي أن عمر رضي الله عنه سمع أخته تقرأ طه فأسلم وإن كان جنباً ففيه وجهان: أحدهما: أنه يمنع من المقام فيه لأنه إذا منع المسلم إذا كان جنباً فلأن يمنع المشرك أولى والثاني: أنه لا يمنع لأن المسلم يعتقد تعظيمه فمنع والمشرك لا يعتقد تعظيمه فلم يمنع وإن وفد قوم من الكفار ولم يكن للإمام موضع ينزلهم فيه جاز أن ينزلهم في المسجد لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أنزل سبي بني قريظة والنضير في مسجد المدينة وربط ثمامة بن أثال في المسجد.
فصل: ولا يمكن حربي من دخول دار الإسلام من غير حاجة لأنه لا يؤمن كيده ولعله يدخل للتجسيس أو شارء سلاح فإن استأذن في الدخول لأداء رسالة أو عقد ذمة أو خدنة أو حمل ميرة وللمسلمين إليها حاجة جاز الإذن له من غير عوض لأن في ذلك مصلحة للمسلمين وإذا انقضت حاجته لم يمكن من المقام فإن دخل من غير ذمة ولا أما فللإمام أن يختار ما يراه من القتل والاسترقاق والمن والفداء والدليل عليه ما روى ابن عباس في فتح مكة ومجيء أبي سفيان مع العباس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عمر دخل وقال يا رسول الله هذا أبو سفيان قد أمكن الله منه من غير عقد ولا عهد فدعني أضرب عنقه فقال العباس: يا رسول الله إني قد أجرته ولأنه حربي لا أمان له فكان حكمه ما ذكرناه كالأسير وإن دخل وادعى أنه دخل لرسالة قبل قوله لأنه يتعذر إقامة البينة على الرسالة وإن ادعى أنه دخل بأمان مسلم ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا يقبل قوله لأنه لا يتعذر إقامة البينة على الأمان والثاني: أنه يقبل قوله وهو ظاهر المذهب لأن الظاهر أنه لا يدخل من غير أمان وإن أراد الدخول لتجارة ولا حاجة للمسلمين إليها لم يؤذن له إلا بمال يؤخذ من تجارته لأن عمر رضي الله عنه أخذ العشر من أهل الحرب ويستحب أن لا ينقص عن ذلك اقتداء بعمر رضي الله عنه فإن نقص باجتهاده جاز لأن أخذه باجتهاده فكان تقديره إليه ولا يؤخذ ما يشترط على الذمي في دخول الحجاز في السنة إلا مرة كما لا

(3/321)


تؤخذ الجزية منا في السنة إلا مرة وما يؤخذ من الحربي في دخول دار الإسلام فيه وجهان: أحدهما: أنه يؤخذ منه في كل سنة مرة كأهل الذمة في الحجاز والثاني: أنه يؤخذ منه في كل مرة يدخل لأن الذمي تحت يد الإمام ولا يفوت ما شرط عليه بالتأخير والحربي يرجع إلى دار الحرب فإذا لم يؤخذ منه فات ما شرط عليه وإن شرط أن يؤخذ من تجارته أخذ منه باع أولم يبع وإن شرط أن يؤخذ من ثمن تجارته فكسد المتاع ولم يبع لم يؤخذ منه لأنه لم يحصل الثمن وإن دخل الذمي الحجاز أو الحربي دار الإسلام ولم يشرط عليه في دخوله مال لم يؤخذ منه شيء ومن أصحابنا من قال: يؤخذ من تجارة الذمي نصف العشر ومن تجارة الحربي العشر لأنه قد تقرر هذا في الشرع بفعل عمر رضي الله عنه فحمل مطلق العقد عليه والمذهب الأول لأنه أمان من غير شرط المال فلم يستحق به مال كالهدنة.

(3/322)


باب الهدنة
لا يجوز عقد الهدنة لإقليم أو صقع عظيم إلا للإمام أولمن فوض إليه الإمام لأنه لو جعل ذلك إلى كل واحد لم يؤمن أن يهادن الرجل أهل إقليم والمصلحة في قتالهم فيعظم الضرر فلم يجز إلا للإمام أو للنائب عنه فإن كان الإمام مستظهراً نظرت فإن لم يكن في الهدنة مصلحة لم يجز عقدها لقوله عز وجل: {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَالله مَعَكُمْ} [محمد: 35] وإن كان فيها مصلحة بأن يرجوا إسلامهم أو بذل الجزية أو معاونتهم على قتال غيرهم جاز أن يهادن أربعة أشهر لقوله عز وجل: {بَرَاءَةٌ مِنَ الله وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} [التوبة: 1 - 2] ولا يجوز أن يهادنهم سنة فما زاد لأنها مدة يجب فيها الجزية فلا يجوز إقرارهم فيها من غير جزية وهل يجوز فيما زاد على أربعة أشهر وما دون سنة فيه

(3/322)


قولان: أحدهما: أنه لا يجوز لأن الله تعالى بقتال أهل الكتاب إلى أن يعطوا الجزية لقوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالله وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ الله وَرَسُولُهُ} [التوبة: 29] وأمر بقتال عبدة الأوثان إلى أن يؤمنوا لقوله عز وجل: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] ثم أذن في الهدنة في أربعة أشهر وبقي ما زاد على ظاهر الآيتين والقول الثاني أنه يجوز لأنها مدة تقصر عن مدة الجزية فجاز فيها عقد الهدنة كأربعة أشهر وإن كان الإمام غير مستظهر بأن كان في المسلمين ضعف وقلة وفي المشركين قوة وكثرة أو كان الإمام مستظهراً لكن العدو على بعد ويحتاج في قصدهم إلى مؤنة مجحفة جاز عقد الهدنة إلى مدة تدعوا إليها الحاجة وأكثرها عشر سنين لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم هادن قريشاً في الحديبية عشر سنين ولا يجوز فيما زاد على ذلك لأن الأصل وجوب الجهاد إلا فيما وردت فيه الرخصة وهو عشر سنين وبقي ما زاد على الأصل وإن عقد على أكثر من عشر سنين بطل فيما زاد على العشر وفي العشر قولان بناء على تفريق الصفقة في البيع وإن دعت الحاجة إلى خمس سنين لم تجز الزيادة عليها فإن عقد على ما زاد على الخمس سنين بطل العقد فيما زاد وفي الخمس قولان: فإن عقد الهدنة مطلقاً من غير مدة لم يصح لأن إطلاقه يقتضي التأبيد وذلك لا يجوز وإن هادن على أن له أن ينقض إذا شاء جاز لأن النبي صلى الله عليه وسلم وادع يهود خيبر وقال: "أقركم ما أقركم الله". وإن قال غير النبي صلى الله عليه وسلم هادنتكم إلى أن يشاء الله تعالى أو أقررتكم ما أقركم الله تعالى لم يجز لأنه لا طرق له إلى معرفة ما عند الله تعالى ويخالف الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه كان يعلم ما عند الله تعالى بالوحي وإن هادنهم ما شاء فلان وهو رجل مسلم أمين عالم له رأي جاز فإن شاء فلان أن ينقض نقض وإن قال هادنتكم ما شيئم لم يصح لأنه جعل الكفار محكمين على المسلمين وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الإسلام يعلو ولا يعلى". ويجوز عقد الهدنة على مال يؤخذ منهم لأن في ذلك مصلحة للمسلمين ولا يجوز بمال يؤدي إليهم من غير ضرورة لأن في ذلك إلحاق صغار بالإسلام فلم يجز من غير ضرورة فإن دعت إلى ذلك ضرورة بأن أحاط الكفار بالمسلمين وخافوا الاصطلام أو أسروا رجلاً من المسلمين وخيف تعذيبه جاز بذل المال لاستنقاذه منهم لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن الحرث بن عمر والغطفاني رئيس غطفان قال للنبي صلى الله عليه وسلم إن جعلت لي شطر ثمار المدينة وإلا ملأتها عليك خيلاً ورجلاً فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "حتى أشاور السعديين". يعني سعد بن معاذ وسعد بن عبادة وأسعد بن زرارة فقالوا: إن كان هذا

(3/323)


بأمر من السماء فتسليم لأمر الله عز وجل وإن كان برأيك فرأينا تبع لرأيك وإن لم يكن بأمر من السماء ولا برأيك فوالله ما كنا نعطيهم في الجاهلية تمرة إلا شراء أو قراء وكيف وقد أعزنا الله بك فلم يعطهم شيئا فلولم يجز عند الضرورة لما رجع إلى الأنصار ليدفعوه إن رأوا ذلك ولأن ما يخاف من الاصطلام وتعذيب الأسير أعظم في الضرورة من بذل المال فجاز دفع أعظم الضررين بأخفهما وهل يجب بذل المال؟ فيه وجهان بناء على الوجهين في وجوب الدفع عن نفسه وقد بيناه في الصول فإذا بذل لهم على ذلك مال لم يملكوه لأنه مال مأخوذ بغير حق فلم يملكوه كالمأخوذ بالقهر.
فصل: ولا يجوز عقد الهدنة على رد من جاء من المسلمات لأن النبي صلى الله عليه وسلم عقد الصلح الحديبية فجاءت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط مسلمة فجاء أخوها فطالباها فأنزل الله عز وجل: {فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى منع من الصلح في النساء" ولأنه لا يؤمن أن تزوج بمشرك فيصيبها ولا يؤمن أن تفتن في دينها لنقصان عقلها ولا يجوز عقدها على رد من لا عشيرة له من الرجال تمنع عنه لأنه لا يأمن على نفسه في إظهار دينه فيما بينهم ويجوز عقدها على رد من له عشيرة تمنع عنه لأنه يأمن على نفسه في إظهار دينه ولا يجوز عقدها مطلقاً على رد من جاء من الرجال مسلما لأنه يدخل فيه من يجوز رده ومن لا يجوز.
فصل: وإن عقدت الهدنة على ما لا يجوز مما ذكرناه أو عقدت الذمة على ما لا يجوز من النقصان عن دينار في الجزية أو المقام في الحجاز أو الدخول إلى الحرم أو بناء كنيسة في دار الإسلام أوترك الغيار أو إظهار الخمر والخنزير في دار الإسلام وجب نقضه لقوله صلى الله عليه وسلم: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد" 1. ولما روي عن عمر رضي الله عنه أنه خطب الناس وقال: ردوا الجهالات إلى السنة ولأنه عقد على محرم فلم يجز الإقرار عليه كالبيع بشرط باطل أو عوض محرم.
فصل: وإن عقدت الهدنة على ما يجوز إلى مدة وجب الوفاء بها إلى أن تنقضي المدة ما أقاموا على العهد لقوله عز وجل: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} ولقوله تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ
__________
1 رواه البخاري في كتاب الاعتصام باب 20. مسلم في كتاب الأقضية حديث 17. أبو داود في كتاب السنة باب 5. ابن ماجه في كتاب المقدمة باب 2. أحمد في مسنده 2/146.

(3/324)


كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ الله يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 3 - 4] ولقوله عز وجل: {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ} [التوبة: 7] وروى سليمان ابن عامر قال كان بين معاوية وبين الروم هدنة فسار معاوية في أرضهم كأنهم يريد أن يغير عليهم فقال له عمرو ابن عبسة سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من كان بينه وبين قوم عهد فلا يحل عقده ولا يشدها حتى يمضي أمدها أو ينبذ إليهم على سواء". قال: فانصرف معاوية ذلك العام ولأن الهدنة عقدت لمصلحة المسلمين فإذا لم يف لهم عند قدرتنا عليهم لم يفوا لنا عند قدرتهم علينا فيؤدي ذلك إلى الإضرار بالمسلمين وإن مات الإمام الذي عقد الهدنة ولي غيره لزمه إمضاؤه لما روي أن نصارى نجران أتوا علياً كرم الله وجهه وقالوا: إن الكتاب كان بيديك والشفاعة إليك وإن عمر أجلانا من أرضنا فردنا إليها فقال علي: إن عمر كان رشيداً في أمره وإني لا أغير أمراً فعله عمر رضي الله عنه.
فصل: ويجب على الإمام منع من يقصدهم من المسلمين ومن معهم من أهل الذمة لأن الهدنة عقدت على الكف عنهم ولا يجب عليه منع من قصدهم من أهل الحرب ولا منع بعضهم من بعض لأن الهدنة لم تعقد على حفظهم وإنما عقدت على تركهم بخلاف أهل الذمة فإن أهل الذمة عقدت على حفظهم فوجب منع كل من يقصدهم ويجب على المسلمين ومن معهم من أهل الذمة ضمان أنفسهم وأموالهم والتعزير بقذفهم لأن الهدنة تقتضي الكف عن أنفسهم وأموالهم وأعراضهم فوجب ضمان ما يجب في ذلك.
فصل: إذا جاءت منعم حرة بالغة عاقلة مسلمة مهاجرة إلى بلد فيه الإمام أو نائب عنه ولها زوج مقيم على الشرك وقد دخل بها وسلم إليها مهراً حلالاً فجاء زوجها في طلبها فهل يجب رد ما سلم إليها من المهر؟ فيه قولان: أحدهما: يجب لقوله تعالى عز وجل: {فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا} [الممتحنة: 10] ولأن البضع مقوم حيل بينه وبين مالكه فوجب رد بدله كما لو أخذ منهم مالاً وتعذر رده والقول الثاني وهو الصحيح وهو اختيار المزني أنه لا يجب لأن البضع ليس بمال والأمان لا يدخل فيه إلا المال ولهذا لو أمن مشركاً لم تدخل امرأته في الأمان ولأنه لو ضمن البضع الحيلولة لضمن بمهر المثل كما يضمن المال عند تعذر الرد

(3/325)


بالمثل بقيمته ولا خلاف أنه لا يضمن البضع بمهر المثل فلم يضمن بالمسمى وأما الآية فإنها نزلت في صلح رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية قبل تحريم رد النساء وقد منع الله تعالى من ذلك بقوله تعالى: {فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} فسقط ضمان المهر فإن قلنا لا يجب رد المهر فلا تفريع وإن قلنا إنه يجب وعليه التفريع وجب ذلك في خمس الخمس لأنه مال يجب على سبيل المصلحة فوجب في خمس الخمس وإن لم يكن قد دفع إليها المهر لم يجب له المهر لقوله تعالى: {وآتوهم ما أنفقوا} [الممتحنة: 10] وهذا لم ينفق وإن دفع إليها مهراً حراماً كالخمر والخنزير لم يجب له شيء لأنه لا قيمة لما دفع إليها فصار كما لولم يدفع إليها شيئاً فإن دفع إليها بعض مهرها لم يجب له أكثر منه لأن الوجوب يتعلق بالمدفوع فلم يجب إلا ما دفع وإن جاءت إلى بلد ليس فيها إمام ولا نائب عنه لم يجب رد المهر لأنه يجب في سهم المصالح وذلك إلى الإمام أو النائب عنه فلم يطالب به غيره.
فصل: وإن جاءت مسلمة عاقلة ثم جنت وجب رد المهر لأن الحيلولة حصلت بالإسلام وإن جاءت مجنونة ووصفت الإسلام ولم يعلم هل وصفته في حال عقلها أوفي حال جنونها لم ترد إليه لجواز أن يكون وصفته في حال عقلها فإذا ردت إليهم خدعوها وزهدوها في الإسلام فلم يجز ردها احتياطاً للإسلام وإن أفاقت ووصفت الكفر وقالت: إنها لم تزل كافرة ردت إلى زوجها وإن وصفت الإسلام لم ترد فإذا جاء الزوج في طلبها دفع إليها مهرها لأنه حيل بينهما بالإسلام وإن طلب مهرها قبل الإفاقة لم يدفع إليه لأن المهر يجب بالحيلولة وذلك لا يتحقق قبل الإفاقة لجواز أن تفيق وتصف الكفر فترد إليه فلم يجب مع الشك.
فصل: فإن جاءت صبية ووصفت الإسلام لم ترد إليهم وإن لم يحكم بإسلامها لأنا نرجوا إسلامها فإذا ردت إليهم خدعوها وزهدوها في الإسلام فإن بلغت ووصفت الكفر قرعت فإن أقامت على الكفر ردت إلى زوجها فإن وصفت الإسلام دفع إلى زوجها المهر لأنه تحقق المنع بالإسلام فإن جاء يطالب مهرها قبل البلوغ ففيه وجهان: أحدهما: أنه يدفع إليه مهرها لأنها منعت منه بوصف الإسلام فهي كالبالغة والثاني: أنه لا يدفع لأن الحيلولة لا تتحقق قبل البلوغ لجواز أن تبلغ وتصف الكفر فترد إليه فلم يجب المهر كما قلنا في المجنونة.

(3/326)


فصل: وإن جاءت مسلمة ثم ارتدت لم ترد إليهم لأنه يجب قتلها وإن جاء زوجها يطلب مهرها فإن كان بعد القتل لم يجب دفع المهر لأن الحيلولة حصلت بالقتل وإن كان قبل القتل ففيه وجهان: أحدهما: أنه يجب لأن المنع وجب بحكم الإسلام والثاني: لا يجب لأن المنع وجب لإقامة الحد لا بالإسلام.
فصل: وإن جاءت مسلمة ثم جاء زوجها ومات أحدهما: فإن كان الموت بعد المطالبة بها وجب المهر لأن الحيلولة حصلت بالإسلام وإن كان قبل المطالبة لم يجب لأن الحيلولة حصلت بالموت.
فصل: فإن أسلمت ثم طلقها زوجها فإن كان الطلاق بائناً فهو كالموت وقد بيناه وإن كان رجعياً لم يجب دفع المهر لأنه تركها برضاه وإن راجعها ثم طالب بها وجب دفع المهر لأنه حيل بينهما بالإسلام وإن جاءت مسلمة ثم أسلم الزوج فإن أسلم قبل انقضاء العدة لم يجب المهر لاجتماعهما على النكاح وإن أسلم بعد انقضاء العدة فإن كان قد طالب بها قبل انقضاء العدة وجب المهر لأنه وجب قبل البينونة وإن طالب بعد انقضاء العدة لم يجب لأن الحيلولة حصلت بالبينونة باختلاف الدين.
فصل: وإن هاجرت منهم أمة وجاءت إلى بلد فيه الإمام نظرت فإن فارقتهم وهي مشركة ثم أسلمت صارت حرة لأنا يبنا أن الهدنة لا توجب أمان بعضهم من بعض فملكت نفسها بالقهر فإن جاء مولاها في طلبها لم ترد عليه لأنها أجنبية منه لا حق له في رقبتها ولأنها مسلمة فلا يجوز ردها إلى مشرك وإن طلب قيمتها فقد ذكر الشيخ أبو حامد الإسفرايني رحمه الله فيها قولين كالحرة إذا هاجرت وجاء زوج يطلب مهرها والصحيح أنه لا تجب قيمتها قولاً واحداً وهو قول شيخنا القاضي أبي الطيب الطبري رحمه الله لأن الحيلولة حصلت بالقهر قبل الإسلام وإن أسلمت وهي عندهم ثم هاجرت لم تصر حرة لأنهم في أمان منا وأموالهم محظورة علينا فلم يزل الملك فيها بالهجرة فإن جاء مولاها في طلبها لم ترد لأنها مسلمة فلم يجز ردها إلى مشرك وإن طلب قيمتها وجب دفعها إليه كما لو غصب منها مال وتلف وإن كانت الأمة مزوجة من حر فجاء زوجها في طلبها لم ترد إليه وإن طلب مهرها فعلى القولين في الحرة وإن كانت مزوجة من عبد فعلى القولين أيضاً إلا أنه لا يجب دفع المهر إلا أن يحضر الزوج فيطالب بها لأن البضع له فلا يملك المولى المطالبة به ويحضر المولى ويطالب بالمهر لأن المهر له فلا يملك الزوج المطالبة به.

(3/327)


فصل: وإن هاجر منهم رجل مسلم فإن كان له عشيرة تمنع عنه جاز له العود إليهم والأفضل أن لا يعود وقد بينا ذلك في أول السير فإن عقد الهدنة على رده واختار العود لم يمنع لأن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لأبي جندل وأبي بصير في العود وإن اختار المقام في دار الإسلام لم يمنع لأنه لا يجوز إجبار المسلم على الانتقال إلى دار الشرك وإن جاء من يطلبه قلنا للمطالب إن قدرت على رده لم نمنعك منه وإن لم تقدر لم نعنك عليه ونقول للمطلوب في السر إن رجعت إليهم ثم قدرت أن تهرب منهم وترجع إلى دار الإسلام كان أفضل لأن النبي صلى الله عليه وسلم رد أبا بصير فهرب منهم وأتى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: قد وفيت لهم ونجاني الله منهم.
فصل: ومن أتلف منهم على مسلم مالاً وجب عليه ضمانه وإن قتله وجب عليه القصاص وإن فدفه وجب عليه الحد لأن الهدنة تقتضي أمان المسلمين في النفس والمال والعرض فلزمهم ما يجب في ذلك ومن شرب منهم الخمر أوزنى لم يجب عليه الحد لأنه حق الله تعالى ولم يلتزم بالهدنة حقوق الله تعالى فإن سرق مالاً لمسلم ففيه قولان: أحدهما: أنه لا يجب عليه القطع لأنه حد خالص لله تعالى فلم يجب عليه كحد الشرب والزنا والثاني: أنه يجب عليه لأنه حد يجب لصيانة حق الآدمي فوجب عليه كحد القذف.
فصل: إذا نقض أهل الهدنة عهدهم بقتال أو مظاهرة عدو أو قتل مسلم أو أخذ مال انتقضت الهدنة لقوله عز وجل: {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ} فدل على أنهم إذا لم يستقيموا لنا لم نستقم لهم لقوله عز وجل: {إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ} [التوبة: 4] فدل على أنهم إن ظاهروا عليكم أحداً لم تتم إليهم عهدهم ولأن الهدنة تقتضي الكف عنا فانتقضت بتركة ولا يفتقر نقضها إلى حكم الإمام بنقضها لأن الحكم إنما يحتاج إليه في أمر محتمل وما تظاهروا به لا يحتمل غير نقض العهد وإن نقض بعضهم وسكت الباقون ولم ينكروا ما فعل الناقض انتقضت الهدنة في حق الجميع والدليل عليه أن ناقة صالح عليه السلام عقرها القدار العيزار بن سالف وأمسك عنها القوم فأخذهم الله تعالى جميعهم به فقال الله عز وجل: {فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا} [الشمس: 14] ولأن النبي صلى الله عليه وسلم وادع بني قريظة وأعان بعضهم أبا سفيان بن حرب على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخندق وقيل: إن الذي أعان منهم حيي بن أخطب وأخوه

(3/328)


وآخر معهم فنقض النبي صلى الله عليه وسلم عهدهم وغزاهم وقتل رجالهم وسبى ذراريهم ولأن النبي صلى الله عليه وسلم هادن قريشا بالحديبية وكان بنو بكر حلفاء قريش وخزاعة حلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فحاربت بنو بكر خزاعة وأعان نفر من قريش بني بكر على خزاعة وأمسك سائر قريش فجعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك نقضاً لعهدهم وسار إليهم حتى فتح مكة ولأنه لما كان عقد بعضهم الهدنة أماناً لمن عق ولمن أمسك وجب أن يكون نقض بعضهم نقضاً لمن نقض ولمن أمسك وإن نقض بعضهم العهد وأنكر الباقون أو اعتزلوهم أو راسلوا إلى الإمام بذلك انتقض عهد من نقض وصار حرباً لنا بنقضه ولم ينتقض عهد من لم يرض لأنه لم ينقض العهد ولا رضي مع من نقض فإن كان من لم ينقض مختلطاً بمن نقض أمر من لم ينقض بتسليم من نقض إن قدروا أو بالتميز عنهم فإن لم يفعلوا أحد هذين مع القدرة عليه انتقضت هدنتهم لأنهم صاروا مظاهرين لأهل الحرب وإن لم يقدروا على ذلك كان حكمهم حكم من أسره الكفار من المسلمين وقد بيناه في أول السير وإن أسر الإمام قوماً منهم وادعوا أنهم ممن لم ينقض العهد وأشكل عليه حالهم قبل قولهم لأنه لا يتوصل إلى معرفة ذلك إلا من جهتهم.
فصل: وإن ظهر منهم من يخاف معه الخيانة جاز للإمام أن ينبذ إليهم عهدهم لقوله عز وجل: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ الله لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} [الأنفال: 58] ولا تنتقض الهدنة إلا أن يحكم الإمام بنقضها لقولها عز وجل: {فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} ولأن نقضها لخوف الخيانة وذلك يفتقر إلى نظر واجتهاد فافتقر إلى الحاكم وإن خاف من أهل الذمة خيانة لم ينبذ عليهم والفرق بينهم وبين عقد أهل الهدنة أن النظر في عقد الذمة وجب لهم ولهذا إذا طلبوا عقد الذمة وجب العقد لهم فلم ينقض لخوف الخيانة والنظر في عقد الهدنة لنا ولهذا لو طلبوا الهدنة كان النظر فيها إلى الإمام وإن رأى عقدها عقد وإن لم ير عقدها لم يعقد فكان النظر إليه في نقضها عند الخوف ولأن أهل الذمة في قبضته فإذا ظهرت منهم خيانة أمكن استدراكها وأهل الهدنة خارجون عن قبضته فإذا ظهرت خيانتهم لم يمكن استدراكها فجاز نقضها بالخوف وإن لم يظهر منهم ما يخاف معهم الخيانة لم يجز نقضها لأن الله تعالى أمر بنبذ العهد عند الخوف فدل على أنه لا يجوز مع عدم الخوف ولأن نقض الهدنة من غير سبب يبطل مقصود الهدنة ويمنع الكفار من الدخول فيها والسكون إليها وإذا نقض الهدنة عند خوف الخيانة

(3/329)


ولم يكن عليهم حق ردهم إلى مأمنهم لأنهم دخلوا على أمان فوجب ردهم إلى المأمن وإن كان عليهم حق استوفاه منهم ثم ردهم إلى مأمنهم.
فصل: إذا دخل الحربي دار الإسلام بأمان في تجارة أو رسالة ثبت له الأمان في نفسه وماله ويكون حكمه في ضمان النفس والمال وما يجب عليه من الضمان والحدود حكم المهادن لأنه مثله في الأمان فكان مثله فيما ذكرناه وإن عقد الأمان ثم عاد إلى دار الحرب في تجارة أو رسالة فهو على الأمان في النفس والمال كالذمي إذا خرج إلى دار الحرب في تجارة أو رسالة وإن رجع إلى دار الحرب بنية المقام وترك ماله في دار الإسلام انتقض الأمان في نفسه ولم ينتقض في ماله فإن قتل أو مات انتقل المال إلى وارثه وهل يغنم أم لا؟ فيه قولان: قال في سير الواقدي ونقله المزني أنه يغنم ماله وينتقل إلى بيت المال فيئاً وقال في المكاتب يرد إلى ورثته فذهب أكثر أصحابنا إلى أنها على قولين: أحدهما: أنه يرد إلى ورثته وهو اختيار المزني والدليل عليه أن المال لوارثه ومن ورث مالاً ورثه بحقوقه وهذا الأمان من حقوق المال فوجب أن يورث والقول الثاني أنه يغنم وينتقل إلى بيت المال فيئاً ووجهه أنه لما مات انتقل ماله إلى وارثه وهو كافر لا أمان له في نفسه ولا في ماله فكان غنيمة وقال أبوعلي بن خيران: المسألة على اختلاف حالين فالذي قال يغنم إذا عقد الأمان مطلقاً ولم يشرط لوارثه والذي قال لا يغنم إذا عقد الأمان لنفسه ولوارثه وليس للشافعي رحمه الله ما يدل على هذه الطريقة وأما إذا مات في دار الإسلام فقد قال في سير الواقدي أنه يرد إلى ورثته واختلف أصحابنا فيه فيمنهم من قال هو أيضا على قولين كالتي قبلها والشافعي نص على أحد القولين ومنهم من قال يرد إلى وارثه قولاً واحداً والفرق بين المسألتين أنه إذا مات في دار الإسلام مات على أمانه فكان ماله على الأمان وإذا مات في دار الحرب فقد مات بعد زواله أمانه فبطل في أحد القولين أمان ماله فإن استرق زال ملكه عن المال بالاسترقاق وهل يغنم؟ فيه قولان: أحدهما: يغنم فيئاً لبيت المال والقول الثاني أنه موقوف لأنه لا يمكن نقله إلى الوارث لأنه حي ولا إلى مسترقه لأنه مال له أمان فإن عتق دفع المال إليه بملكه القديم وإن مات عبداً ففي ماله قولان حكاهما أبوعلي بن أبي هريرة: أحدهما: أنه يغنم فيئاً ولا يكون موروثاً لأن العبد لا يورث والثاني: أنه لوارثه لأنه ملكه في حريته.
فصل: فإن اقترض حربي من حربي مالاً ثم دخل إلينا بأمان أو أسلم فقد قال أبو العباس عليه رد البدل على المقرض لأنه أخذه على سبيل المعاوضة فلزمه البدل كما لو

(3/330)


تزوج حربية ثم أسلم قال: ويحتمل أنه لا يلزمه البدل فإن الشافعي رحمه الله قال في النكاح: إذا تزوج حربي حربية ودخل بها وماتت ثم أسلم الزوج أو دخل إلينا بأمان فجاء وارثها يطلب ميراثه من صداقها أنه لا شيء له لأنه مال فائت في حال الكفر قال: والأول أصح ويكون تأويل المسألة أن الحربي تزوجها على غير مهر فإن دخل مسلم دار الحرب بأمان فسرق منهم مالاً أو اقترض منهم مالاً وعاد إلى دار الإسلام ثم جاء صاحب المال إلى دار الإسلام بأمان وجب على المسلم رد ما سرق أو اقترض لأن الأمان يوجب ضمان المال في الجانبين فوجب رده.

(3/331)


باب خراج السواد
سواد العراق ما بين عبادان إلى الموصل طولاً ومن القادسية إلى حلوان عرضاً قال الساجي: هو اثنان وثلاثون ألف ألف جريب وقال أبو عبيد: هو ستة وثلاثون ألف ألف جريب وفتحها عمر رضي الله عنه وقسمها بين الغانمين ثم سألهم أن يردوا ففعلوا والدليل عليه ما روى قيس بن أبي حازم البجلي قال: كنا ربع الناس في القادسية فأعطانا عمر رضي الله عنه ربع السواد وأخذناها ثلاث سنين ثم وفد جرير بن عبد الله البجلي إلى عمر رضي الله عنه بعد ذلك فقال أما والله لولا أني قاسم مسؤول لكنتم على ما قسم لكم وأرى أن تردوا على المسلمين ففعلوا ولا تدخل في ذلك البصرة وإن كانت داخلة في حد السواد لأنها كانت أرضاً سبخة فأحياها عمرو بن العاص الثقفي وعتبة بن غزوان بعد الفتح إلا مواضع من شرقي دخلتها تسميها أهل البصرة الفرات ومن غربي دخلتها نهر يعرف بنهر المرة واختلف أصحابنا فيما فعل عمر رضي الله عنه فيما قتح من أرض السواد فقال أبو العباس وأبو إسحاق: باعها من أهلها وما يؤخذ من الخراج ثمن والدليل عليه أن من لدن عمر إلى يومنا هذا تباع وتبتاع من غير إنكار وقال أبو سعيد الإصطخري وقفها عمر رضي الله عنه على المسلمين فلا يجوز بيعها ولا شراؤها ولا

(3/331)


هبتها ولا رهنها وإنما تنقل من يد إلى يد وما يؤخذ من الخراج فهو أجرة وعليه نص في سير الواقدي والدليل عليه ما روى بكير بن عام عن عامر قال: اشترى عقبة بن فرقد أرضاً من أرض الخراج فأتى عمر فأخبره فقال: ممن اشتريتها قال: من أهلها قال: فهؤلاء أهلها المسلمون أبعتموه شيئاً قالوا: لا قال: فاذهب فاطلب مالك فإذا قلنا إنه وقف فهل تدخل المنازل في الوقف فيه وجهان: أحدهما: أن الجميع وقف والثاني: أنه لا يدخل في الوقف غير المزارع لأنا لو قلنا إن المنازل دخلت في الوقف أدى إلى خرابها وأما الثمار فهل يجوز لمن هي في يده الانتفاع بها فيه وجهان: أحدهما: أنه لا يجوز وعلى الإمام أن يأخذها ويبيعها ويصرف ثمنها في مصالح المسلمين والدليل عليه ما روى الساجي في كتابه عن أبي الوليد الطيالسي أنه قال: أدركت الناس بالبصرة ويحمل إليهم الثمر من الفرات فيؤتى به ويطرح على حافة الشط ويلقى عليه الحشيش ولا يطير ولا يشتري منه إلا أعرابي أومن يشتريه فينبذه وما كان الناس يقدمون على شرائه والوجه الثاني أنه يجوز لمن في يده الأرض الانتفاع بثمرتها لأن الحاجة تدعوا إليه فجاز كما تجوز المساقاة والمضاربة على جزء مجهول.
فصل: ويؤخذ الخراج من كل جريب شعير درهمان ومن كل جريب حنطة أربعة دراهم ومن كل جريب شجر وقصب وهو الرطبة ستة دراهم واختلف أصحابنا في خراج النخل والكرم فمنهم من قال: يؤخذ من كل جريب نخل عشرة دراهم ومن كل جريب كرم ثمانية دراهم لما روى مجاهد عن الشعبي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعث عثمان بن حنيف فجعل على جريب الشعير درهمين وعلى جريب الحنطة أربعة دراهم وعلى جريب الشجر والقضب ستة دراهم وعلى جريب الكرم ثمانية دراهم وعلى جريب النخل عشرة دراهم وعلى جريب الزيتون اثني عشر ومنهم من قال: يجب على جريب الكرم عشرة وعلى جريب الزيتون اثنا عشر ومنهم من قال: يجب على جريب الكرم عشرة وعلى جريب النخل ثمانية لما روى أبوقتادة عن لاحق بن حميد يعني أيا مجلز قال: بعث عمر بن الخطاب رضي الله عنه عثمان بن حنيف وفرض على جريب الكرم عشرة وعلى جريب النخل ثمانية وعلى جريب البر أربعة وعلى جريب

(3/332)


الشعير درهمين وعلى جريب القضب ستة وكتب بذلك إلى عمر رضي الله عنه فأجازه ورضي به وروى عباد بن كثير عن قحزم قال جبى عمر رضي الله عنه العراق مائة ألف ألف وسبعة وثلاثين ألف ألف وجباها عمر بن عبد العزيز مائة ألف وأربعة وعشرون ألف ألف وجباها الحجاج ثمانية عشر ألف ألف وما يؤخذ من ذلك يصرف في مصالح المسلمين الأهم فالأهم لأنه للمسلمين فصرف في مصالحهم. والله أعلم.

(3/333)