المهذب في فقة الإمام الشافعي

كتاب الحدود
باب حد الزنا
الزنا حرام وهو من الكبائر العظام والدليل عليه قوله عز وجل: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} [الإسراء: 32] وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ الله إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ الله إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً} [الفرقان: 68] وروى عبد الله قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم أي الذنب أعظم عند الله عز وجل قال: "أن تجعل لله نداً وهو خلقك" قلت إن ذلك لعظيم قال: قلت: ثم أي قال: "أن تقتل ولدك مخافة أن يأكل معك" قال: قلت: ثم أي قال: "أن تزاني حليلة جارك" 1.
فصل: إذا وطئ رجل من أهل دار الإسلام امرأة محرمة عليه من غير عقد ولا شبهة عقد وغير ملك ولا شبهة ملك وهو عاقل بالغ مختار عالم بالتحريم وجب عليه الحد فإن كان محصناً وجب عليه الرجم لما روى ابن عباس رضي الله عنه قال: قال عمر لقد خشيت أن يطول بالناس زمان حتى يقول قائلهم ما نجد الرجم في كتاب الله فيضلون ويتركون فريضة أنزلها الله ألا إن الرجم إذا أحصن الرجل وقامت البينة أو كان الحمل أو الإعتراف وقد قرأتها الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة وقد رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا ولا يجلد المحصن مع الرجم لما روى أبو هريرة وزيد بن خالد الجهني رضي
__________
1 رواه البخاري في كتاب الأدب باب 20. مسلم في كتاب الإيمان حديث 141. أبو داود في كتاب الطلاق باب 50. النسائي في كتاب الإيمان باب 6.

(3/334)


الله عنهما قالا: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام إليه رجل فقال: إن ابني كان عسيفاً على هذا فزنى بامرأته فقال صلى الله عليه وسلم: "على ابنك جلد مائة وتغريب عام واغد يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها". فغدا عليها فاعترفت فرجمها ولو وجب الجلد مع الرجم لأمر به
فصل: والمحصن الذي يرجم هو أن يكون بالغاً عاقلاً حراً وطئ في نكاح صحيح فإن كان صبياً أو مجنوناً لم يرجم لأنهما ليسا من أهل الحد وإن كان مملوكاً لم يرجم وقال أبو ثور: إذا أحصن بالزوجية رجم لأنه حد لا يتبعض فاستوى فيه الحر والعبد كالقطع في السرقة وهذا خطأ لقوله عز وجل: {فَإذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] فأوجب مع الإحصان خمسين جلدة وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحد" 1. ولأن الرجم أعلى من جلد مائة فإذا لم يجب على المملوك جلد مائة فلأن لا يجب الرجم أولى ويخالف القطع في السرقة فإنه ليس في السرقة حد غير القطع فلو أسقطناه القطع سقط الحد وفي ذلك فساد وليس كذلك في الزنا فإن فيه حداً غير الرجم فإذا أسقطناه لم يسقط الحد وأما من لم يطأ في النكاح الصحيح فليس بمحصن وإذا زنى لم يرجم لما روى مسروق عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة" 2. ولا خلاف أن المراد بالثيب الذي وطئ في نكاح صحيح واختلف أصحابنا هل يكون من شرطه أن يكون الوطء بعد كماله بالبلوغ والعقل والحرية أم لا؟ فمنهم من قال ليس من شرطه أن يكون الوطء بعد الكمال فلو وطئ وهو صغير
__________
1 رواه البخاري في كتاب العتق باب 17. مسلم في كتاب الحدود حديث 32. الترمذي في كتاب الحدود باب 8. ابن ماجه في كتاب الحدود حديث 14. الموطأ في كتاب الحدود حديث 14.
2 رواه مسلم في كتاب القسامة حديث 25، 26. أبو داود في كتاب الحدود باب1. الترمذي في كتاب الديات باب 10. ابن ماجه في كتاب الحدود باب 1. أحمد في مسنده 1/382.

(3/335)


أو مجنون أو مملوك ثم كمل فزنى رجم لأنه وطء أبيح للزوج الأول فثبت به الإحصان كما لو وطئ بعد الكمال ولأن النكاح يجوز أن يكون قبل الكمال فكذلك الوطء ومنهم من قال: من شرطه أن يكون الوطء بعد الكمال فإن وطئ في حال الصغر أو الجنون أو الرق ثم كمل وزنى لم يرجم وهو ظاهر النص والدليل عليه ما روى عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلاً البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب بالثيب جلد مائة والرجم" 1. فلو جاز أن يحصن الوطء في حال النقصان لما علق الرجم بالزنا ولأن الإحصان كمال فشرط أن يكون وطؤه في حال الكمال فعلى هذا إذا وطئ في نكاح صحيح فإن كانا حرين بالغين عاقلين صارا محصنين وإذا كانا مملوكين أو صغيرين أو مجنونين لم يصيرا محصنين وإن كان أحدهما: حراً بالغاً عاقلاً والآخر مملوكاً أو صغيراً أو مجنوناً ففيه قولان: أحدهما: أن الكامل منهما محصن والناقص منهما غير محصن وهو الصحيح لأنه لما جاز أن يجب بالوطء الواحد الرجم على أحدهما: دون الآخر جاز أن يصير أحدهما: بالوطء الواحد محصناً دون الآخر والقول الثاني: أنه لا يصير واحد منهما محصناً لأنه وطء لا يصير به أحدهما: محصناً فلم يصر الآخر به محصناً كوطء الشبهة ولا يشترط في إحصان الرجم أن يكون مسلماً لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بيهوديين زنيا فأمر برجمهما.
فصل: وإن كان غير محصن نظرت فإن كان حراً جلد مائة جلدة وغرب سنة لقوله عز وجل: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] وروى عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلاً البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب بالثيب جلد مائة والرجم". وإن كان مملوكاً جلد خمسين عبداً كان أو أمة لقوله عز وجل: {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] فجعل ما على الأمة نصف ما على الحرة لنقصانها بالرق والدليل عليه أنها لو أعتقت كمل حدها والعبد كالأمة في الرق فوجب عليه نصف ما على الحر وهل يغرب العبد بعد الجلد؟ فيه قولان: أحدهما: أنه لا يغرب لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها
__________
1 رواه مسلم في كتاب الحدود حديث 12، 13. أبو داود في كتاب الحدود باب 23. الترمذي في كتاب الحدود باب 8. ابن ماجه في كتاب الحدود باب 7.

(3/336)


الحد". ولم يذكر النفي ولأن القصد بالتغريب تعذيبه بالإخراج عن الأهل والمملوك لا أهل له والقول الثاني: أنه يغرب وهو الصحيح لقوله عز وجل: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} ولأنه حد يتبعض فوجب على العبد كالجلد فإن قلنا إنه يغرب ففي قدره قولان: أحدهما: أنه يغرب سنة لأنها مدة مقدرة بالشرع فاستوى فيها الحر والعبد كمدة العنين والثاني: أنه يغرب نصف سنة للآية ولأنه حد يتبعض فكان العبد فيه على النصف من الحر كالجلد.
فصل: وإن زنى وهو بكر فلم يحد حتى أحصن وزنى ففيه وجهان: أحدهما: أنه يرجم ويدخل فيها الجلد والتغريب لأنهما حدان يجبان بالزنا فتداخلا كما لو وجب حدان وهو بكر والثاني: أنه لا يدخل فيه لأنهما حدان مختلفان فلم يدخل أحدهما: في الآخر كحد السرقة والشرب فعلى هذا يجلد ثم يرجم ولا يغرب لأن التغريب يحصل بالرجم.
فصل: والوطء الذي يجب به الحد أن يغيب الحشفة في الفرج فإن أحكام الوطء تتعلق بذلك ولا تتعلق بما دونه وما يجب بالوطء في الفرج من الحد يجب بالوطء في الدبر لأنه فرج مقصود فتعلق الحد بالإيلاج فيه كالقبل ولأنه إذا وجب بالوطء في القبل وهو مما يستباح فلأن يجب بالوطء في الدبر وهو مما لا يستباح أولى.
فصل: ولا يجب على الصبي والمجنون حد الزنا لقوله صلى الله عليه وسلم: "رفع القلم عن ثلاثة عن الصبي حتى يبلغ وعن النائم حتى يستيقظ وعن المجنون حتى يفيق". ولأنه إذا سقط عنه التكليف في العبادات والمآثم في المعاصي فلأن يسقط الحد ومبناه على الدرء والإسقاط أولى وفي السكران قولان وقد بيناهما في الطلاق.
فصل: ولا يجب على المرأة إذا أكرهت على التمكين من الزنا لقوله صلى الله عليه وسلم: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه". ولأنها مسلوبة الإختيار فلم يجب عليها الحد كالنائمة وهل يجب على الرجل إذا أكره على الزنا فيه وجهان ك أحدهما: وهو المذهب أنه لا يجب عليه لما ذكرناه في المرأة والثاني: أنه يجب لأن الوطء لا يكون إلا بالانتشار الحاث عن الشهوة والاختيار.
فصل: ولا يجب على من لا يعلم تحريم الزنا لما روى سعيد بن المسيب قال: ذكر الزنا بالشام فقال رجل: زنيت البارحة فقالوا ما تقول قال: ما علمت أن الله عز وجل حرمه فكتب يعني عمر إن كان يعلم أن الله حرمه فخذوه وإن لم يكن قد علم فأعلموه فإن عاد فارجموه وروي أن جارية سوداء رفعت إلى عمر رضي الله عنه وقيل إنها زنت فخفقها بالدرة خفقات وقال: أي لكاع زنيت؟ فقالت: من غوش بدرهمين تخبر

(3/337)


بصاحبها الذي زنى بها ومهرها الذي أعطاها فقال عمر رضي الله عنه ما ترون وعنده علي وعثمان عبد الرحمن بن عوف فقال علي رضي الله عنه أرى أن ترجمها وقال عبد الرحمن أرى مثل ما رأى أخوك فقال لعثمان ما تقول: قال أراها تستهل بالذي صنعت لا ترى به بأساً وإنما حد الله على من علم أمر الله عز وجل فقال صدقت فإن زنى رجل بامرأة وادعى أنه لم يعلم بتحريمه فإن كان نشأ فيما بين المسلمين لم يقبل قوله لأنا نعلم كذبه وإن كان قريب العهد بالإسلام أو نشأ في بادية بعيدة أو كان مجنوناً فأفاق وزنى قبل أن يعلم الأحكام قبل قوله لأنه يحتمل ما يدعيه فلم يجب الحد وإن وطئ المرتهن الجارية المرهونة بإذن الراهن وادعى أنه جهل تحريمه ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا يقبل دعواه إلا أن يكون قريب العهد بالإسلام أو نشأ في موضع بعيد من المسلمين كما لا يقبل دعوى الجهل إذا وطئها من غير إذن الراهن والثاني: أنه يقبل قوله لأن معرفة ذلك تحتاج إلى فقه.
فصل: وإن وجد امرأة في فراشه فظنها أمته أو زوجته فوطئها لم يلزمه الحد لأنه يحتمل ما يدعيه من الشبهة.
فصل: وإن كان أحد الشريكين في الوطء صغيراً والآخر بالغاً أو أحدهما: مستيقظاً والآخر نائماً أو أحدهما: مختاراً والآخر مستكرهاً أو أحدهما: مسلماً والآخر مستأمناً وجب الحد على من هو من أهل الحد ولم يجب على الآخر لأن أحدهما: انفرد بما يوجب الحد وانفرد الآخر بما يسقط الحد فوجب الحد على أحدهما: وسقط عن الآخر وإن كان أحدهما: محصناً والآخر غير محصن وجب على المحصن الرجم وعلى غير المحصن الجلد والتغريب لأن أحدهما: انفرد بسبب الرجم والآخر انفرد بسبب الجلد والتغريب وإن أقر أحدهما: بالزنا وأنكر الآخر وجب على المقر الحد لما روى سهل بن الساعدي أن رجلا أقر أنه زنى بامرأة فبعث النبي صلى الله عليه وسلم إليها فجحدت فحد الرجل وروى أبو هريرة رضي الله عنه وزيد بن خالد الجهني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "على ابنك جلد مائة وتغريب عام واغد يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها". فأوجب الحد على الرجل وعلق الرجم على اعتراف المرأة.

(3/338)


فصل: وإن استأجر امرأة ليزني بها فزنى بها أو تزوج ذات رحم فوطئها وهو يعتقد تحريمها وجب عليه الحد لأنه لا تأثير للعقد في إباحة وطئها فكان وجوده كعدمه وإن ملك ذات رحم محرم ووطئها ففيه قولان: أحدهما: أنه يجب عليه الحد لأن ملكه لا يبيح وطأها بحال فلم يسقط الحد والثاني: أنه لا يجب عليه الحد وهو الصحيح لأنه وطء في ملك فلم يجب به الحد كوطء أمته الحائض ولأنه وطئ جارية مشتركة بينه وبين غيره لم يجب عليه الحد وقال أبو ثور: إن علم بتحريمها وجب عليه الحد لأن ملك البعض لا يبيح الوطء فلم يسقط الحد كملك ذات رحم محرم وهذا خطأ لأنه اجتمع في الوطء ما يوجب الحد وما يسقط فغلب الإسقاط لأن مبنى الحد على الدرء والإسقاط وإن وطئ جارية ابنه لم يجب عليه الحد لأن له فيها شبهة ويلحقه نسب ولدها فلم يلزمه الحد بوطئها.
فصل: واللواط محرم لقوله عز وجل: {وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 80] فسماه فاحشة وقد قال عز وجل: {وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأنعام: 151] ولأن الله عز وجل عذب بها قوم لوط بما لم يعذب به أحداً فدل على تحريمه ومن فعل ذلك وهو ممن يجب عليه حد الزنا وجب عليه الحد وفي حده قولان: أحدهما: وهو المشهور من مذهبه أنه يجب فيه ما يجب في الزنا فإن كان غير محصن وجب الجلد والتغريب وإن كان محصناً وجب عليه الرجم لما روى أبو موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أتى الرجل الرجل فهما زانيان وإذا أتت المرأة المرأة فهما زانيتان". ولأنه حد يجب بالوطء فاختلف فيه البكر والثيب كحد الزنا والقول الثاني أنه يجب قتل الفاعل والمفعول به لما روى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به" 1. ولأن تحريمه أغلظ فكان حده أغلظ وكيف يقتل فيه وجهان: أحدهما: أنه يقتل بالسيف لأنه أطلق القتل في الخبر في الخبر فينصرف إطلاقه إلى القتل بالسيف والثاني: أنه يرجم لأنه قتل يجب بالوطء فكان بالرجم كقتل الزنا.
فصل: ومن حرمت مباشرته في الفرج بحكم الزنا أو اللواط حرمت مباشرته فيما
__________
1 رواه الترمذي في كتاب الحدود باب 24. ابن ماجه في كتاب الحدود باب 12.

(3/339)


دون الفرج بشهوة والدليل عليه قوله عز وجل: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون: 5 - 6] ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يخلون أحدكم بامرأة ليست له بمحرم فإن ثالثهما الشيطان". فإذا حرمت الخلوة بها فلأن تحرم المباشرة أولى لانها أدعى إلى الحرام فإن فعل ذلك لم يجب عليه الحد لما روى ابن مسعود رضي الله عنه أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني أخذت امرأة في البستان وأصبت منها كل شيء غير أني لم أنكحها فاعمل بي ما شئت فقرأ عليه {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114] ويعزر عليه لأنه معصية ليس فيها حد ولا كفارة فشرع فيها التعزير.
فصل: ويحرم إتيان المرأة المرأة لما روى أبو موسى الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أتت المرأة المرأة فهما زانيتان". ويجب فيه التعزير دون الحد لأنها مباشرة من غير إيلاج فوجب بها التعزير دون الحد كمباشرة الرجل المرأة فيما دون الفرج.
فصل: ويحرم إتيان البهيمة لقوله عز وجل: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} فإن أتى البهيمة وهو ممن يجب عليه حد الزنا ففيه ثلاثة أقوال: أحدها أنه يجب عليه القتل لما روى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أتى بهيمة فاقتلوه واقتلوها معه". وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من وقع على بهيمة فاقتلوه واقتلوها معه" 1. وكيف يقتل على الوجهين في اللواط والقول الثاني: أنه كالزنا فإن غير محصن جلد وغرب وإن كان محصناً رجم لأنه حد يجب بالوطء فاختلف فيه البكر والثيب كحد الزنا والقول الثالث أنه يجب فيه التعزير لأن الحد يجب للردع عما يشتهي وتميل إليه النفس ولهذا وجب في شرب الخمر ولم يجب في شرب البول وفرج البهيمة لا يشتهى فلم يجب فيه الحد وأما البهيمة فقد اختلف أصحابنا فيها فمنهم من قال يجب قتلها لحديث ابن عباس وأبي هريرة ولأنها ربما أتت بولد مشوه الخلق ولأنها إذا بقيت كثر تعيير الفاعل بها ومنهم من قال: لا يجب قتلها لأن البهيمة لا تذبح لغير مأكلة وحديث ابن عباس يرويه عمرو بن عمرو وهو ضعيف وحديث أبي هريرة يرويه علي بن مسهر وقال أحمد رحمه الله إن كان روى هذا الحديث غير علي وإلا فليس بشيء ومنهم من قال: إن كانت البهيمة
__________
1 رواه الترمذي في كتاب الحدود باب 23، 24. أبو داود في كتاب الحدود باب 108. ابن ماجه في كتاب الحدود باب 13. أحمد في مسنده 1/217.

(3/340)


مما تؤكل ذبحت وإن كانت مما لا تؤكل لم تذبح لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذبح الحيوان لغير مأكلة فإن قلنا إنه يجب قتلها وهي ما يؤكل ففي أكلها وجهان: أحدهما: أنه يحرم لأن ما أمر بقتله لم يؤكل كالسبع والثاني: أنه يحل أكلها لأنه حيوان مأكول ذبحه وهو من أهل الذكاة وإن كانت البهيمة لغيره وجب عليه ضمانها إن كانت مما لا تؤكل وضمان ما نقص بالذبح إذا قلنا أنها تؤكل لأنه هو السبب في إتلافها وذبحها.
فصل: وإن وطئ امرأة ميتة وهو من أهل الحد ففيه وجهان: أحدهما: أنه يجب عليه الحد لأنه إيلاج في فرج محرم ولا شبهة له فيه فأشبه إذا كانت حية والثني أنه لا يجب لأنه لا يقصد فلا يجب فيه الحد.
فصل: ويحرم الاستمناء لقوله عز وجل: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} ولأنها مباشرة تفضي إلى قطع النسل فحرم كاللواط فإن فعل عزر ولم يحد لأنها مباشرة محرمة من غير إيلاج فأشبهت مباشرة الأجنبية فيما دون الفرج. وبالله التوفيق.

(3/341)


باب إقامة الحدود
لا يقيم الحدود على الأحرار إلا الإمام أومن فوض لأنه لم يقم حد على حر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بإذنه ولا في أيام الخلفاء إلا بإذنهم ولأنه حق لله تعالى يفتقر إلى الإجتهاد ولا يؤمن في استيفائه الحيف فلم يجز بغير إذن الإمام ولا يلزم الإمام أن يحضر إقامة الحد ولا أن يبتدئ بالرجم لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر برجم جماعة ولم ينقل أنه حضر بنفسه ولا أنه رماهم بنفسه فإن ثبت الحد على عبد بإقراره ومولاه حر مكلف عدل فله أن يجلده في الزنا والقذف والشرب لما روى علي كرم الله وجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم" 1. وقال عبد الرحمن بن أبي ليلى: أدركت بقايا الأنصار وهم يضربون الوليدة من ولائدهم في مجالسهم إذا زنت وهل له أن يغربه فيه وجهان: أحدهما: أنه لا يغرب إلا الإمام لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا زنت أمة أحدكم فتبين زناها فليجلدها الحد ولا يثرب عليها ثم إذا زنت
__________
1 رواه أبو داود في كتاب الحدود باب 33. أحمد في مسنده 1/145.

(3/341)


فليجلدها الحد ولا يثرب عليها ثم إذا زنت الثالثة فتبين زناها فليبعها ولو بحبل من شعر" 1. فأمر بالجلد دون النفي والثاني: وهو المذهب أن له من يغرب لحديث علي كرم الله وجهه ولأن ابن عمر جلد أمة له زنت ونفاها إلى فدك ولأن من ملك الجلد ملك النفي كالإمام وإن ثبت عليه الحد بالبينة ففيه وجهان: أحدهما: أنه يجوز أن يقيم عليه الحد وهو المذهب لأنا قد جعلناه في حقه كالإمام وكذلك في إقامة الحد عليه بالبينة والثاني: أنه لا يجوز لأنه يحتاج إلى تزكية الشهود وذلك إلى الحاكم فعلى هذا إذا ثبت عند الحاكم بالبينة جاز للسيد أن يقيم الحد من غير إذنه وهل له أن يقطعه في السرقة؟ فيه وجهان: أحدهما: أحدهما: أنه لا يملك لأنه لا يملك من جنس القطع ويملك من الجلد وهو التعزير والثاني: أنه يملك وهو المنصوص في البويطي لحديث علي كرم الله وجهه لأن ابن عمر قطع عبداً له سرق وقطعت عائشة رضي الله عنها أمة لها سرقت ولأنه حد فملك السيد إقامته على مملوكه كالجلد وله أن يقتله بالردة على قول من ملك إقامة الحد على العبد وعلى قول من منع من القطع يجب أن لا يجوز له القتل والصحيح أن له أن يقتله لأن حفصة رضي الله عنها قتلت أمة لها سحرتها والقتل بالسحر لا يكون إلا في كفر ولأنه حد فملك المولى إقامته على المملوك كسائر الحدود وإن كان المولى فاسقاً ففيه وجهان: أحدهما: أنه يملك إقامة الحد لأنه ولاية تثبت بالملك فلم يمنع الفسق منها كتزويج الأمة والثاني: أنه لا يملكه لأنه ولاية في إقامة الحد فمنع الفسق منها كولاية الحاكم وإن كانت امرأة فالمذهب أنه يجوز لها إقامة الحد لأن الشافعي بأن فاطمة رضي الله عنها جلدت أمة لها زنت وقال أبوعلي بن أبي هريرة لا يجوز لها لأنها ولاية على الغير فلا تملكها المرأة كولاية التزويج فعلى هذا فيمن يقيم وجهان: أحدهما: أنه يقيمه وليها في النكاح قياساً على تزويج أمتها والثاني: أنه يقيمه عليها الإمام لأن الأصل في إقامة الحد هو الإمام فإذا سقطت ولاية المولى ثبت الأصل وإن كان للمولى مكاتب ففيه وجهان ذكرناهما في الكتابة.
فصل: المستحب أن يحضر إقامة الحد جماعة لقوله عز وجل: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 2] والمستحب أن يكونوا أربعة لأن الحد يثبت بشهادتهم فإن كان الحد هو الجلد وكان صحيحاً قوياً والزمان معتدل أقام الحد ولا يجوز تأخيره فإن القرض لا يجوز تأخيره من غير عذر ولا يجرد ولا يمد لما روي عن عبد الله بن
__________
1 رواه البخاري في كتاب البيوع باب 66. في كتاب الحدود حديث 30. أبو داود في كتاب الحدود باب 32. الترمذي في كتاب الحدود باب 13.

(3/342)


مسعود أنه قال: ليس في الأمة مد ولا تجريد ولا غل ولا صفد ويفرق الضرب على الأعضاء ويتوقى الوجه المواضع المخوفة لما روى هنيدة بن خالد الكندي أنه شهد علياً كرم الله وجهه أقام على رجل حداً وقال للجلاد: اضربه وأعط كل عضو منه حقه واتق وجهه ومذاكيره وعن عمر أنه أتى بجارية قد فجرت فقال اذهبا بها واضرباها ولا تخرقا لها جلداً ولأن القصد الردع دون القتل وإن كان الحر شديداً أو البرد شديداً أو كان مريضاً مرضاً يرجى برؤه أو كان مقطوعاً أو أقيم عليه حد آخر ترك إلى أن يعتدل الزمان ويبرأ من المرض أو القطع ويسكن ألم الحد لأنه إذا أقيم عليه الحد في هذه الأحوال أعان على قتله وإن كان نضو الخلق لا يطيق الضرب أو مريضاً لا يرجى برؤه جمع مائة شمراخ فضرب به دفعة واحدة لما روى سهل بن حنيف أنه أخبره بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من الأنصار أنه اشتكى رجل منهم حتى أضنى فدخلت عليه جارية لبعضهم فوقع عليها فلما دخل عليه رجال من قومه يعودونه ذكر لهم ذلك وقال استفتوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا ما رأينا بأحد من الضر مثل الذي هو به لو حملناه إليك يا رسول الله لتفسخت عظامه ما هو إلا جلد على عظم فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأخذوا مائة شمراخ فيضربوه بها ضربة واحدة ولأنه لا يمكن ضربه بالسوط لأنه يتلف به ولا يمكن تركه لأنه يؤدي إلى تعطيل الحد قال الشافعي رحمه الله: ولأنه إذا كانت الصلاة تختلف باختلاف حاله فالحد بذلك أولى وإن وجب الحد على امرأة حامل لم يقم عليها الحد حتى تضع وقد بيناه في القصاص.
فصل: وإن أقيم الحد في الحال التي لا تجوز فيها اقامته فهلك منه لم يضمن لان الحق قتله وإن أقيم في الحال التي لا تجوز إقامته فان كانت حاملاً فتلف منه الجنين وجب الضمان لأنه مضمون فلا يسقط ضمانه بجناية غيره وإن تلف المحدود فقد قال: إذا أقيم الحد في شدة حر أو برد فهلك لا ضمان عليه وقال في الأم: إذا ختن في شدة حر أو برد فتلف وجبت على عاقلته الدية فمن أصحابنا: من نقل جواب كل واحدة من

(3/343)


المسألتين إلى الأخرى وجعلهما على قولين: أحدهما: لا يجب لأنه مفرط ومنهم من قال لا يجب الضمان في الحد لأنه منصوص عليه ويجب في الختان لأنه ثبت بالاجتهاد وإن قلنا إنه يضمن ففي القدر الذي يضمن وجهان: أحدهما: أنه يضمن جميع الدية لانه مفرط والثاني: انه يضمن نصف الدية لأنه مات من واجب ومحظور فسقط النصف ووجب النصف.
فصل: وإن وجب التغريب نفي إلى مسافة يقصر فيها الصلاة لأن ما دون ذلك في حكم الموضع الذي كان فيه من المنع من القصر والفطر والمسح على الخف ثلاثة أيام فإن رجع قبل انقضاء المدة رد إلى الموضع الذي نفي إليه فإن انقضت المدة فهو بالخيار بين الإقامة وبين العودة إلى موضعه وإن رأى الإمام أن ينفيه الى أبعد من المسافة التي يقصر فيها الصلاة كان له ذلك لأن عمر رضي الله عنه غرب إلى الشام وغرب عثمان رضي الله عنه الى مصر وإن رأى أن يزيد على سنة لم يجز لأن السنة منصوص عليها والمسافة مجتهد فيها وحكي عن أبي علي بن أبي هريرة أنه قال: يغرب الى حيث ينطلق عليه اسم الغربة وإن كان دون ما تقصر إليه الصلاة لأن القصد تعذيبه بالغربة وذلك يحصل بدون ما تقصر إليه الصلاة ولا تغرب المرأة إلا في صحبة ذي رحم محرم أو امرأة ثقة في صحبة مأمونة وإن لم تجد ذا رحم محرم ولا امرأة ثقة يتطوع بالخروج معها استؤجر من يخرج معها ومن أين يستأجر فيه وجهان من أصحابنا من قال: يستأجر من مالها لأنه حق عليها فكانت مؤنته عليها وإن لم يكن لها مال استؤجرت من بيت المال ومن أصحابنا من قال: يستأجر من بيت المال لأنه حق لله عز وجل فكانت مؤنته من بيت المال فإن لم يكن في بيت المال ما يستأجر به استؤجر من مالها.
فصل: وإن كان الحد رجماً وكان صحيحاً والزمان معتدل رجم لأن الحد لا يجوز تأخيره من غير عذر وإن كان مريضاً مرضاً يرجى زواله أو الزمان مسرف الحر أو البرد ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا يؤجل رجمه لان القصد قتله فلا يمنع الحر والبرد والمرض منه والثاني: أنه يؤخر لأنه ربما رجع في خلال الرجم وقد أثر في جسمه الرجم فيعين الحر والبرد والمرض على قتله وإن كان امرأة حاملاً لم ترجم حتى تضع لأنه يتلف الجنين.
فصل: فان كان المرجوم رجلاً لم يحفر له لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحفر لماعز ولأنه ليس بعورة وإن كان امرأة حفر لها لما روى بريدة قال: جاءت امرأة من غامد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعترفت بالزنا فأمر فحفر لها حفرة الى صدرها ثم أمر برجمها لأن ذلك أستر لها.

(3/344)


فصل: وإن هرب المرجوم من الرجم فإن كان الحد ثبت بالبينة اتبع ورجم لأنه لا سبيل الى تركه وإن ثبت بالإقرار لم يتبع لما روى أبو سعيد الخدري قال: جاء ماعز الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إن الأخر زنى وذكر إلى أن قال اذهبوا بهذا فارجموه فأتينا به مكاناً قليل الحجارة فلما رمينا اشتد من بين أيدينا يسعى فتبعناه فأتى بناحرة كثيرة الحجارة فقام ونصب نفسه فرميناه حتى قتلناه ثم اجتمعنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرناه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سبحان الله فهلا خليتم عنه حين سعى من بين أيديكم". وإن وقف وأقام الإقرار رجم وإن رجع عن الإقرار لم يرجم لأن رجوعه مقبول. وبالله التوفيق.

(3/345)


باب حد القذف
القذف محرم والدليل عليه ما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اجتنبوا السبع الموبقات قالوا يا رسول الله وما هن قال: الشرك بالله عز وجل والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات".
فصل: إذا قذف بالغ عاقل مختار مسلم أو كافر التزم حقوق المسلمين من مرتد أو ذمي أو معاهد محصناً ليس بولد له بوطء يوجب الحد وجب عليه الحد فإن كان حراً جلد ثمانين جلدة لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] وإن كان مملوكاً جلد أربعين لما روى يحيى بن سعيد الانصاري قال: ضرب أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم مملوكاً افترى على حر ثمانين جلدة فبلغ ذلك عبد الله بن عامر بن ربيعة فقال: ادركت الناس من زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى اليوم فما رأيت أحداً ضرب المملوك المفتري على الحر ثمانين

(3/345)


قبل أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم وروى خلاس أن علياً كرم الله وجهه قال في عبد قذف حراً نصف الحد ولأنه حد يتبعض فكان المملوك على النصف من الحر كحد الزنا.
فصل: وإن قذف غير محصن لم يجب عليه الحد لقوله عز وجل: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} فدل على أنه إذا قذف غير محصن لم يجلد والمحصن الذي يجب الحد بقذفه من الرجال والنساء من اجتمع فيه البلوغ والعقل والإسلام والحرية والعفة عن الزنا فإن قذف صغيراً أو مجنوناً لم يجب به عليه الحد لأن ما يرمي به الصغير والمجنون لو تحقق لم يجب به الحد فلم يجب الحد على القاذف كما لو قذف بالغاً عاقلاً بما دون الوطء وإن قذف كافراً لم يجب عليه الحد لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أشرك بالله فليس بمحصن". وإن قذف مملوكاً لم يجب عليه الحد لأن نقص الرق يمنع كمال الحد فيمنع وجوب الحد على قاذفه وإن قذف زانياً لم يجب عليه الحد لقوله عز وجل: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} فأسقط الحد عنه إذا ثبت أنه زنى فدل أنه إذا قذفه وهو زان لم يجب عليه الحد وإن قذف من وطئ في غير ملك وطئاً محرماً لا يجب به الحد كمن وطئ امرأة ظنها زوجته أو وطئ في نكاح مختلف في صحته ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا يجب عليه الحد لأنه وطء محرم لم يصادف ملكاً فسقط به الإحصان كالزنا والثاني: أنه وطء لا يجب به الحد فلم يسقط به الإحصان كما لو وطئ زوجته وهي حائض.
فصل: وان قذف الوالد ولده أو قذف الجد ولد ولده لم يجب عليه الحد وقال أبو ثور: يجب عليه الحد لعموم الآية والمذهب الأول لأنه عقوبة تجب لحق الآدمي فلم تجب للولد على الوالد كالقصاص وإن قذف زوجته فماتت وله منها ولد سقط الحد لأنه لما لم يثبت له عليه الحد بقذفه لم يثبت له عليه بالإرث عن أمه وإن كان لها ابن آخر من غيره وجب له لأن حد القذف يثبت لكل واحد من الورثة على الانفراد.
فصل: وإن رفع القاذف إلى الحاكم وجب عليه السؤال عن إحصان المقذوف لأنه شرط في الحكم فيجب السؤال عنه كعدالة الشهود ومن أصحابنا من قال: لا يجب لأن البلوغ والعقل معلوم بالنظر غليه والظاهر الحرية والإسلام والعفة وإن قال القاذف: أمهلني لأقيم البينة على الزنا أمهل ثلاثة أيام لأنه قريب لقوله تعالى: {وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ} [هود: 64] ثم قال: {تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ} [هود: 65] .

(3/346)


فصل: وإن قذف محصنا ثم زنى المقذوف أو وطئ وطئاً زال به الإحصان سقط الحد عن القاذف وقال المزني وأبو ثور: لا يسقط لأنه معنى طرأ بعد وجوب الحد فلا يسقط ما وجب من الحد كردة المقذوف وثيوبة الزاني وحريته وهذا خطأ لان ما ظهر من الزنا يوقع شبهة في حال القذف ولهذا روي أن رجلاً زنى بامرأة في زمان أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه فقال: والله ما زنيت إلا هذه المرة فقال له عمر كذبت إن الله لا يفضح عبده في أول مرة والحد يسقط بالشبهة وأما ردة المقذوف ففيها وجهان: أحدهما: أنها تسقط الحد والثاني: أنها لا تسقط لأن الردة تدين والعادة فيها الإظهار وليس كذلك الزنا فإنه يكتم فإذا ظهر دل على تقدم أمثاله وأما ثيوبة الزاني وحريته فإنها لا تورث شبهة في بكارته ورقه في حال الزنا.
فصل: ولا يجب الحد إلا بصريح القذف أو بالكناية مع النية فالصريح مثل ان يقول زنيت أويا زاني والكناية كقوله يا فاجر أويا خبيث أويا حلال بن الحلال فإن نوى به القذف وجب به الحد لأن ما لا تعتبر فيه الشهادة كانت الكناية فيه مع النية بمنزلة الصريح كالطلاق والعتاق وإن لم ينوبه القذف لم يجب به الحد سواء كان ذلك في حال الخصومة او غيرها لأنه يحتمل القذف وغيره فلم يجعل قذفاً من غير نية كالكناية في الطلاق والعتاق.
فصل: وإن قال لطت أو لاط بك فلان باختيارك فهو قذف لأنه قذفه بوطء يوجب الحد فأشبه بالزنا وإن قال يا لوطي وأراد به أنه على دين قوم لوط لم يجب الحد لأنه يحتمل ذلك وإن أراد أنه يعمل عمل قوم لوط وجب الحد وإن قال لامرأته يا زانية فقالت بك زنيت لم يكن قولها قذفاً له من غير نية لأنه يجوز أن تكون زانية ولا يكون هو زانياً بأن وطئها وهو يظن أنها زوجته وهي تعلم أنه أجنبي ولأنه يجوز أن تكون قد قصدت نفي الزنا كما يقول الرجل لغيره سرقت فيقول معك سرقت ويريد أني لم أسرق كما لم تسرق ويجوز أن يكون معناه ما وطئني غيرك فإن كان ذلك زنا فقد زنيت وإن قال لها يا زانية فقالت أنت أزنى مني لم يكن قولها قذفاً له من غير نية لأنه يجوز أن يكون معناه ما وطئني غيرك فإن كان ذلك زنا فأنت أزنى مني لأن المغلب في الجماع فعل الرجل وإن قال لغيره أنت أزنى من فلان أو أنت أزنى الناس لم يكن قذفاً من غير نية لأن لفظة أفعل لا تستعمل إلا في امر يشتركان فيه ثم ينفرد أحدهما: فيه بمزية وما ثبت أن فلاناً زان ولا أن الناس زناة فيكون هو أزنى منهم وإن قال فلان زان وأنت أزنى منه أو أنت أزنى زناة الناس فهو قذف لأنه أثبت زنا غيره ثم جعله أزنى منه.

(3/347)


فصل: وإن قال لامرأته يا زاني فهو قذف لأنه صرح بإضافة الزنا إليها وأسقط الهاء للترخيم كقولهم في مالك يا مال وفي حارث يا حار وإن قال لرجل يا زانية فهو قذف لأنه صرح بإضافة الزنا إليه وزاد الهاء للمبالغة كقولهم علامة ونسابة وشتامة ونوامة فإن قال: زنأت في الجبل فليس بقذف من غير نية لأن الزنء هو الصعود في الجبل والدليل عليه قول الشاعر:
وارق إلى الخيرات زنئا في الجبل
وإن قال زنأت ولم يذكر الجبل ففيه وجهان: احدهما: أنه قذف لأنه لم يقرن به ما يدل على الصعود والثاني: وهو قول أبي الطيب ابن سلمة رحمه الله أنه إن كان من أهل اللغة فليس بقذف وإن كان من العامة فهو قذف لأن العامة لا يفرقون بين زنيت وزنأت.
فصل: وإن قال زنى فرجك او دبرك أو ذكرك فهو قذف لأن الزنا يقع بذلك وإن قال زنت عينك او يدك أو رجلك فقد اختلف أصحابنا فيه فمنهم من قال: هو قذف وهو ظاهر ما نقله المزني رحمه الله لأنه أضاف الزنا الى عضو منه فأشبه إذا أضاف إلى الفرج ومنهم من قال: ليس بقذف من غير نية وخطأ المزني في النقل لأن الزنا لا يوجد من هذه الأعضاء حقيقة ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "العينان تزنيان واليدان تزنيان والرجلان تزنيان ويصدق ذلك كله الفرج أو يكذبه" 1. فإن قال زنى بدنك ففيه وجهان: أحدهما: أنه ليس بقذف من غير نية لان الزنا بجميع البدن يكون بالمباشرة فلم يكن صريحاً في القذف والثاني: أنه قذف لأنه أضاف إلى جميع البدن والفرج داخل فيه وإن قال لا ترد يد لامس لم يكن قاذفاً لما روى أن رجلاً من بني فزارة قال للنبي صلى الله عليه وسلم: "إن امرأتي لا ترد يد لامس ولم يجعله النبي صلى الله عليه وسلم قاذفاً. وإن قال زنى بك فلان وهو صبي لا يجامع مثله لم يكن قاذفاً لأنه لا يوجد منه الوطء الذي يجب به الحد عليه وإن كان صبياً يجامع مثله فهو قذف لانه يوجد منه الوطء الذي يجب به الحد عليها وإن قال لامرأته زنيت بفلانة أوزنت بك فلانة لم يجب به الحد لان ما رماها به لا يوجب الحد.
فصل: وإن اتت امرأته بولد فقال ليس مني لم يكن قاذفاً من غير نية لجواز أن يكون معناه ليس مني خلقاً أو خلقا أومن زوج غيري أومن وطء شبهة او مستعار وإن نفى نسب ولده باللعان فقال رجل لهذا الولد لست بابن فلان لم يكن قذفاً لأنه صادق في الظاهر أنه ليس منه لأنه منفي عنه قال الشافعي رحمه الله: إذا اقر بنسب ولد فقال له
__________
1 رواه أحمد في مسنده 2/343، 344.

(3/348)


رجل لست بابن فلان فهو قذف وقال في الزوج إذا قال للولد الذي أقر به لست بابني أنه ليس بقذف واختلف أصحابنا فيه فمنهم من قال إن أراد القذف فهو قذف في المسألتين وإن لم يرد القذف فليس بقذف في المسألتين وحمل جوابه في المسألتين على هذين الحالين ومن أصحابنا من نقل جوابه في كل واحدة منهما إلى الأخرى وجعلها على قولين: أحدهما: أنه ليس بقذف فيها لجواز أن يكون معناه لست بابن فلان او لست بابني خلقاً او خلقاً والثاني: أنه قذف لأن الظاهر منه النفي والقذف ومن أصحابنا من قال: ليس بقذف من الزوج وهو قذف من الأجنبي لأن الأب يحتاج إلى تأديب ولده فيقول: لست بابني مبالغة في تأديبه والاجنبي غير محتاج إلى تأديبه فجعل قذفا منه.
فصل: وإن قال لعربي يا نبطي فإن أراد نبطي اللسان أو نبطي الدار لم يكن قذفاً وإن أراد نفي نسبه من العرب ففيه وجهان: أحدهما: أنه ليس بقذف لأن الله تعالى علق الحد على الزنا فقال: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 4] وشهادة الأربعة يحتاج إليها في إثبات الزنا والثاني: أنه يجب به الحد لما روى الأشعث بن قيس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا أوتى برجل يقول إن كنانة ليست من قريش إلا جلدته". وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: لا حد إلا في اثنين قذف محصنة ونفي رجل من أبيه.
فصل: ومن لا يجب عليه الحد لعدم إحصان المقذوف أو للتعريض بالقذف من غير نية عزر لأنه آذى من لا يجوز أذاه وإن قال لامرأته استكرهت على الزنا ففيه وجهان: أحدهما: أنه يعزر لأنه يلحقها بذلك عار عند الناس والثاني: أنه لا يعزر لأنه لا عار عليها في الشريعة بما فعل بها مستكرهة.
فصل: وما يجب بالقذف من الحد أو التعزير بالأذى فهو حق للمقذوف يستوفي إذا طالب به ويسقط إذا عفى عنه والدليل عليه ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أيعجز أحدكم أن يكون كأبي ضمضم كان يقول تصدقت بعرضي". والتصدق بالعرض لا يكون إلا بالعفو عما يجب له ولأنه لا خلاف أنه لا يستوفي إلا بمطالبته فكان له العفو كالقصاص وإن قال لغيره اقذفني فقذفه ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا حد عليه لأنه حق له فسقط بإذنه

(3/349)


كالقصاص والثاني: أنه يجب عليه الحد لأن العار يلحق بالعشيرة فلا يملك إلا بإذن فيه وإذا أسقط الإذن وجب الحد ومن وجب له الحد أو التعزير لم يجز أن يستوفي إلا بحضرة السلطان لأنه يحتاج الى الاجتهاد ويدخله التخفيف فلو فرض الى المقذوف لم يؤمن أن يحيف للتشفي.
فصل: وإن مات من له الحد أو التعزير وهو ممن يورث انتقل ذلك إلى الوارث وفيمن يرثه ثلاثة أوجه: أحدها أنه يرثه جميع الورثة لأنه موروث فكان لجميع الورثة كالمال والثاني: أنه لجميع الورثة إلا لمن يرث بالزوجية لأن الحد يجب لدفع العار ولا يلحق الزوج عار بعد الموت لأنه لا تبقى زوجية والثالث أنه يرثه العصبات دون غيرهم لأنه حق ثبت لدفع العار فاختص به العصبات كولاية النكاح وإن كان له وارثان فعفى احدهما: ثبت للآخر جميع الحد لأنه جعل للردع ولا يحصل الردع إلا بما جعله الله عز وجل للردع وإن لم يكن له وارث فهو للمسلمين ويستوفيه السلطان.
فصل: وإن جن من له الحد او التعزير لم يكن لوليه أن يطالبه باستيفائه لأنه حق يجب للتشفي ودرك الغيظ فأخر الى الإفاقة كالقصاص وإن قذف مملوكاً كانت المطالبة بالتعزير للمملوك دون السيد لأنه ليس بمال ولا له بدل هو مال فلم يكن للسيد فيه حق كفسخ النكاح إذا عتت الأمة تحت عبد وغن مات المملوك ففي التعزير ثلاثة أوجه: أحدها أنه يسقط لأنه لا يستحق عنه بالإرث فلا يستحق المولى لانه لو ملك بحق الملك لملك في حياة والثاني: أنه للمولى لأنه حق ثبت للمملوك فكان المولى احق به بعد الموت كمال المكاتب والثالث أنه ينتقل الى عصباته لانه حق ثبت لنفي العار فكان عصباته احق به.
فصل: وإن قذف جماعة نظرت فإن كانوا جماعة فلا يجوز أن يكونوا كلهم زناة كأهل بغداد لم يجب الحد لأن الحد يجب لنفي العار ولا عار على المقذوف لأنا نقطع

(3/350)


بكذبه ويعزر للكذب وإن كانت جماعة يجوز أن يكونوا كلهم زناة نظرت فإن كان قد قذف كل واحد منهم على الانفراد وجب لكل واحد منهم حد وإن قذفهم بكلمة واحدة ففيه قولان: قال في القديم: يجب حد واحد لأن كلمة نقذف واحدة فوجب حد واحد كما لو قذف امرأة واحدة وقال: في الجديد: يجب لكل واحد منهم حد وهو الصحيح لأنه ألحق العار بقذف كل واحد منهم فلزمه لكل واحد منهم حد كما لو أفرد كل واحد منهم بالقذف فإن قذف زوجته برجل ولم يلاعن ففيه طريقان من أصحابنا من قال: هي على قولين كما لو قذف رجلين أو امرأتين ومنهم من قال: يجب حد واحد قولاً واحداً لأن القذف ههنا بزنا واحد والقذف هناك بزناءين فإن وجب عليه حد لاثنين فإن وجب لأحدهما: قبل الآخر وتشاحا قدم السابق منهما لأن حقه أسبق وإن وجب عليه لهما في حالة واحدة بأن قذفهما معاً وتشاحا أقرع بينهما لأنه لا مزية لأحدهما: على الآخر فقدم بالقرعة وإن قال لزوجته: يا زانية بنت الزانية وهما محصنتان لزمه حدان ومن حضر منهما وطلبت بحدها حد لها وإن حضرتا وطالبتا بحدهما ففيه وجهان: أحدهما: أنه يبدأ بحد البنت لأنه بدأ بقذفها والثاني: هو المذهب أنه يبدأ بحد الأم لأن حدها مجمع عليه وحد البنت مختلف فيه لأن عند أبي حنيفة لا يجب على الزوج بقذف زوجته حد ولأن حد الأم آكد لأنه لا يسقط إلا بالبينة وحد البنت يسقط بالبينة وباللعان فقدم آكدهما.
فصل: وإن وجل حدان على حر لاثنين فحد لأحدهما: لم يحد للآخر حتى يبرأ ظهره من الأول لأن الموالاة بينهما تؤدي إلى التلف وإن كان الحدان على عبد ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا يجوز الموالاة بينهما كما لوكانا على حر والثاني: أنه يجوز لأن الحدين على العبد كالحد الواحد.
فصل: وإن قذف أجنبيا بالزنا فحد ثم قذفه ثانياً بذلك الزنا عزر للأذى ولم يحد لأن أبا بكرة شهد على المغيرة بالزنا فجلده عمر رضي الله عنه ثم أعاد القذف وأراد أن يجلده فقال له علي كرم الله وجهه: إن كنت تريد أن تجلده فارجم صاحبك فترك عمر رضي الله عنه جلده ولأنه قد حصل التكذيب بالحد وإن قذفه بزنا ثم قذفه بزنا آخر قبل أن يقام عليه الحد ففيه قولان: أحدهما: أنه يجب عليه حدان لأنه من حقوق الآدميين فلم تتداخل كالديون والثاني: يلزمه حد واحد وهو الصحيح لأنهما حدان من جنس واحد لمستحق واحد فتداخلا كما لو زنى ثم زنى وإن قذف زوجته ولاعنها ثم قذفها بزنا أضافة إلى ما قبل اللعان ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا يجب عليه الحد لأن اللعان في حق الزوج كالبينة ولو أقام عليها البينة ثم قذفها لم يلزمه الحد فكذلك إذا لاعنها والثاني: أنه

(3/351)


يجب عليه الحد لأن اللعان إنما يسقط إحصانها في الحالة التي يوجد فيها وما بعدها وما يسقط فيما تقدم فوجب الحد بما رماها به وإن قذف زوجته وتلاعنا ثم قذفها أجنبي وجب الحد لأن اللعان يسقط الإحصان في حق الزوج لأنه بينة يختص بها فأما في حق الأجنبي فهي باقية على إحصانها فوجب عليه الحد بقذفها وإن قذفها الزوج ولاعنها ولم تلاعن فحدت ثم قذفها الاجنبي بذلك الزنا ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا حد عليه لأنه قذفها بزنا حدت فيه فلم يجب كما لو أقيم عليها الحد بالبينة والثاني: أنه يجب لأن اللعان يختص به الزوج فزال به الإحصان في حقه وبقي في حق الأجنبي.
فصل: إذا سمع السلطان رجلاً يقول زنى رجل لم يقم عليه الحد لأن المستحق مجهول ولا يطالبه بتعيينه لقوله عز وجل: {لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101] ولأن الحد يدرأ بالشبهة ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: "ألا سترته بثوبك يا هزال" وإن قال سمعت رجلاً يقول إن فلاناً زنى لم يحد لأنه ليس بقاذف وإنما هو حاك ولا يسأله عن القاذف لأن الحد يدرأ بالشبهة وإن قال زنى فلان فهل يلزم السلطان أن يسأل المقذوف فيه وجهان: أحدهما: أنه يلزمه لأنه قد ثبت له حق لا يعلم به فلزم الإمام إعلامه كما لوثبت له عنده مال لا يعلم به فعلى هذا إن سأل المقذوف فأكذبه وطالب بالحد حد وإن صدقه حد المقذوف لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يا أنيس اغد على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها". والوجه الثاني أنه لا يلزم الإمام إعلامه لقوله صلى الله عليه وسلم: "ادرؤوا الحد بالشبهات".
فصل: إذا قذف محصناً وقال قذفته وأنا ذاهب العقل فإن لم يعلم له حال جنون فالقول قول المقذوف مع يمينه أنه لا يعلم أنه مجنون لأن الأصل عدم الجنون وإن علم له حال جنون ففيه قولان بناء على القولين في المقذوف إذا قده ثم اختلفا في حياته: أحدهما: أن القول قول المقذوف لأن الأصل الصحة والثاني: أن القول قول القاذف لأنه يحتمل ما يدعيه والأصل حمى الظهر ولأن الحد يسقط بالشبهة والدليل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: "ادرءوا الحدود بالشبهات وادرءوا الحدود ما استطعت ولأن يخطئ الإمام في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة" 1.
فصل: وإن عرض بالقذف أنه أراد قذفه وأنكر القاذف فالقول قوله لأن ما يدعيه محتمل والاصل براءة ذمته.
__________
1 رواه الترمذي في كتاب الحدود باب 2.

(3/352)


فصل: وإن قال لمحصنة زنيت في الوقت الذي كنت نصرانية أو أمة فإن عرف أنها كانت نصرانية أو أمة لم يجب الحد لأنه أضاف القذف إلى حال هي فيها غير محصنة وإن قال لها زنيت ثم قال أردت في الوقت الذي كنت فيه نصرانية أو أمة وقالت المقذوفة بل أردت قذفي في هذا الحال وجب الحد لأن الظاهر أنه أراد قذفها في الحال فإن قذف امرأة وادعى أنها مشركة أو أمة وادعت أنها أسلمت أو أعتقت فالقول قول القاذف لأن الأصل بقاء الشرك والرق وإن قذف امرأة وأقر أنها كانت مسلمة وادعى أنها ارتدت وأنكرت المرأة ذلك فالقول قولها لأن الأصل بقاؤها على الإسلام وإن قذف مجهولة وادعى أنها أمة أو نصرانية وأنكرت المرأة ففيه طريقتان ذكرناهما في الجنايات.
فصل: وإن ادعت المرأة على زوجها أنه قذفها وأنكر فشهد شاهدان أنه قذفها جاز أن يلاعن لأن إنكاره للقذف لا يكذب ما يلاعن عليه من الزنا لأنه يقول إنما أنكرت القذف وهو الرمي بالكذب وما كذبت عليها لأني صادق أنها زنت فجاز أن يلاعن كما لو ادعى على رجل أنه أودعه مالاً فقال المدعى عليه مالك عندي شيء فشهد شاهدان أنه أودعه فإن له أن يحلف لأن إنكاره لا يمنع الإيداع لأنه قد يودعه ثم يتلف فلا يلزمه شيء.

(3/353)


باب حد السرقة
ومن سرق وهو بالغ عاقل مختار التزم حكم الإسلام نصاباً من المال الذي يقصد إلى سرقته من حرز مثله لا شبهة له فيه وجب عليه القطع والدليل قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] ولأن السارق يأخذ المال على وجه لا يمكن الاحتراز منه ولولم يجب القطع عليه لأدى ذلك إلى هلاك الناس بسرقة أموالهم ولا يجب القطع على المنتهب ولا على المختلس لما روى جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس على المنتهب قطع ولا على المختلس قطع ومن انتهب نهنة مشهورة فليس منا" 1. ولأن المنتهب والمختلس يأخذان المال على وجه يمكن انتزاعه منه
__________
1 رواه أبو داود في كتاب الحدود باب 14. الترمذي في كتاب النكاح باب 29. النسائي في كتاب النكاح باب 60. ابن ماجه في كتاب الفتن باب 3.

(3/353)


بالاستعانة بالناس وبالسلطان فلم يحتج في ردعه إلى القطع ولا يجب على من جحد امانة أو عارية لأنه يمكن أخذ المال منه بالحكم فلم يحتج إلى القطع.
فصل: ولا يجب على صبي ولا مجنون لقوله صلى الله عليه وسلم: "رفع القلم عن ثلاثة عن الصبي حتى يبلغ وعن النائم حتى يستيقظ وعن المجنون حتى يفيق". وروى ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بجارية قد سرقت فوجدها لم تحض فلم يقطعها وهل يجب على السكران فيه قولان ذكرناهما في الطلاق ولا يجب على مكره لقوله صلى الله عليه وسلم: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه". ولأن ما أوجب عقوبة الله عز وجل على المختار لم يوجب على المكره ككلمة الكفر ولا تجب على الحربي لأنه لم يلتزم حكم الإسلام وهل يجب على المستأمن فيه قولان ذكرناهما في السير.
فصل: ولا يجب فيما دون النصاب والنصاب ربع دينار أو ما قيمته ربع دينار لما روت عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعداً فإن سرق غير الذهب قوم بالذهب لأن النبي صلى الله عليه وسلم قدر النصاب بالذهب فوجب أن يقوم غيره به وإن سرق ربع مثقال من الجلاص وقيمته دون ربع دينار ففيه قولان: أحدهما: وهو قول أبي سعيد الإصطخري وأبي علي بن أبي هريرة أنه لا يقطع لأن النبي صلى الله عليه وسلم نص على ربع دينار وهذا قيمته دون ربع دينار والثاني: وهو قول عامة أصحابنا أنه يقطع لأن الخلاص يقع عليه اسم الدينار وإن لم يصرف لأنه يقال دينار خلاص كما يقال دينار قراضة وإن نقب اثنان حرزاً وسرقا نصابين قطعا لأن كل واحد منهما سرق نصاباً وإن أخرج أحدهما: نصابين ولم يخرج الآخر شيئاً قطع الذي أخرج دون الآخر لأنه هو الذي انفرد بالسرقة فإن اشتركا في سرقة نصاب لم يقطع واحد منهما وقال أبو ثور يجب القطع عليهما كما لو اشترك رجلان في القتل وجب القصاص عليهما وهذا خطأ لأن كل واحد منهما لم يسرق نصاباً ويخالف القصاص فإنا لولم نوجب على الشريكين جعل الاشتراك جعل الاشتراك طريقاً إلى إسقاط القصاص وليس كذلك السرقة فإنا إذا لم نوجب القطع على الشريكين في سرقة النصاب لم يصر الاشتراك طريقاً إلى إسقاط القطع لأنهما لا يقصدان إلى سرقة نصاب واحد لقلة ما يصيب كل واحد منهما فإذا اشتركا في نصابين أوجبنا القطع وإذا نقب حرزاً وسرق منه ثمن دينار ثم عاد وسرق ثمناً آخر ففيه ثلاثة أوجه: أحدها وهو قول أبي العباس أنه يجب القطع لأنه سرق نصاباً من حرز مثله فوجب

(3/354)


عليه القطع كما لو سرقه في دفعة واحدة والثاني: وهو قول أبي إسحاق أنه لا يجب القطع لأنه سرق تمام النصاب من حرز مهتوك والثالث وهو قول أبي علي بن خيران أنه إن عاد وسرق الثمن الثاني بعد ما اشتهر هتك الحرز لم يقطع لأنه سرق من حرز اشتهر خرابه وإن سرق قبل أن يشتهر خرابه قطع لأنه سرق من قبل ظهور خرابه.
فصل: ولا يجب القطع فيما سرق من غير حرز لما روى عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن رجلاً من مزينة قال: يا رسول الله كيف ترى في حريسة الجبل قال ليس في شيء من الماشية قطع إلا ما أواه المراح وليس في الثمر المعلق قطع إلا ما أواه الجرين فما اخذ من الجرين فبلغ ثمن المجن ففيه القطع فأسقط القطع في الماشية غلا ما أواه المراح وفي الثمر المعلق إلا ما أواه الجرين فدل على أن الحرز شرط في إيجاب القطع ويرجع في الحرز إلى ما يعرفه الناس حرزاً فما عرفوه حرزاً قطع بالسرقة منه وما لا يعرفونه حرزاً لم يقطع بالسرقة منه لأن الشرع دل على اعتبار الحرز وليس له حد من جهة الشرع فوجب الرجوع فيه إلى العرف كالقبض والتفرق في البيع وإحياء الموات فإن سرق مالاً مثمناً كالذهب والفضة والخز من البيوت أو الخانات الحريزة والدور المنيعة في العمران ودونها اغلاق وجب القطع لأن ذلك حرز مثله وإن لم يكن دونها أغلاق فإن كان في الموضع حافظ مستيقظ وجب القطع لأنه محرز به وإن

(3/355)


لم يكن حافظ أو كان فيه حافظ نائم لم يجب القطع لأنه غير محرز فإن سرق من بيوت في غير العمران كالرباطات التي في البرية والجواسق التي في البساتين فإن لم يكن فيها حافظ لم تقطع مغلقاً كان الباب أو مفتوحاً لأن المال لا يحرز فيه من غير حافظ وإن كان فيها حافظ فإن كان مستيقظاً قطع السارق مغلقاً كان الباب أو مفتوحاً لأنه محرز به وإن كان نائماً فإن كان مغلقاً قطع لأنه محرز وإن كان مفتوحاً لم يقطع لأنه غير محرز وإن سرق متاع الصيادلة والبقالين من الدكاكين في الأسواق ودونها أغلاق أو درابات وعليها قفل أو سرق أواني الخزف ودونها شرايح القصب فإن كان الأمن ظاهراً قطع السارق لأن ذلك حرز مثله وإن قل الأمن فإن كان في السوق حارس قطع لأنه محرز به وإن لم يكن حارس لم يقطع لأنه غير محرز وإن سرق باب دار أو دكان قطع لأن حرزه بالنصب وإن سرق حلقة الباب وهي مسمرة فيه قطع لأنها حرزة بالتسمير في الباب وإن سرق آجر الحائط قطع لأنه محرز بالتشريج في البناء وإن سرق الطعام أو الدقيق في غرائر شد بعضها إلى بعض في موضع البيع قطع على المنصوص فمن أصحابنا من قال: إن كان في موضع مأمون في وقت الأمن فيه ظاهر ولم يمكن أخذ شيء منه إلا بحل رباطه أو فتق طرفه قطع لأن العادة تركها في موضع البيع ومن أصحابنا من قال: لا يقطع إلا أن يكون في بيت دونه باب مغلق والذي نص عليه الشافعي رحمه الله في غير المغلق وإن سرق حطباً شد بعضه إلى بعض بحيث لا يمكن أن يسل منه شيء إلا بحل رباطه قطع لأنه محرز بالشد وإن كان متفرقاً لم يقطع لأنه غير محرز ومن أصحابنا من قال: لا يقطع إلا أن يكون في بيت دنه باب مغلق مجتمعاً كان أو متفرقاً وإن سرق أجزاعاً ثقالاً مطروحة على أبواب المساكن قطع لأن العادة فيها تركها على الأبواب.
فصل: وإن نبش قبراً وسرق منه الكفن فإن كان في برية لم يقطع لأنه ليس بحرز للكفن وإنما يدفن في البرية للضرورة وإن كان في مقبرة تلي العمران قطع لما روى البراء بن عازب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من حرق حرقناه ومن غرق غرقناه ومن نبش قطعناه". ولأن القبر حرز للكفن وإن كان الكفن أكثر من خمسة أثواب فسرق ما زاد على

(3/356)


الخمسة لم يقطع لأن ما زاد على الخمسة ليس بمشروع في الكفن فلم يجعل القبر حرزاً له كالكيس المدفون معه وإن أكل السبع الميت وبقي الكفن ففيه وجهان: أحدهما: أنه ملك للورثة يقسم عليهم وهو قول أبي علي بن أبي هريرة وأبي علي الطبري لأن ذلك المال ينتقل اليهم بالإرث وإنما اختص الميت بالكفن للحاجة وقد زالت الحاجة فرجع إليهم والثاني: أنه لبيت المال لأنهم لم يورثوه عند الموت فلم يرثوه بعده.
فصل: وإن نام رجل على ثوب فسرقه سارق قطع لما روى صفوان بن أمية أنه قدم المدينة فنام في المسجد متوسداً رداءه فجاءه سارق فأخذ الرداء من تحت رأسه فأخذ صفوان السارق فجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع يده فقال صفوان إني لم أرد هذا هو عليه صدقة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فهلا قبل أن تأتيني به". ولأنه محرز به وإن زحف عنه في النوم فسرق لم يقطع لأنه زال الحرز فيه وإن ضرب فسطاطاً وترك فيه مالاً فسرق وهو فيه أو على بابه نائم أو مستيقظ قطع لأن عادة الناس إحراز المتاع في الخيم على هذه الصفة وإن لم يكن صاحبه معه لم يقطع السارق لأنه لا يترك الفسطاط بلا حافظ.
فصل: وإن كان ماله بين يديه وهو ينظر إليه فتغفله رجل وسرق ماله قطع لأنه سرق من حرزه وإن نام أو اشتغل عنه أو جعله خلغه بحيث يناله اليد فسرق لم يقطع لأنه سرقه من غير حرز وإن علق الثياب في الحمام ولم يأمر الحمامي بحفظها فسرقت لم يضمن الحمامي لأنه لا يلزمه حفظها ولا يقطع السارق لأنه سرق من غير حرز لأن الحمام مستطرق وإن أمر الحمامي بحفظها فسرقت فإن كان الحمامي مراعياً له لم يضمن لأنه لم يفرط ويقطع السارق لأنه سرق من حرز وإن نام الحمامي أو تشاغل عن الثياب فسرقت ضمن الحمامي لأنه فرط في الحفظ ولم يقطع السارق لأنه سرق من غير حرز.
فصل: فإن سرق ماشية من الرعي نظرت فإن كان الراعي ينظر إليها ويبلغها صوته إذا زجرها قطع السارق لأنها في حرز وإن سرق والراعي نائم أو سرق منها ما غاب عن عينه بحائل لم يقطع لأن الحرز بالحفظ وما لا يراه غير محفوظ وإن سرق مالاً يبلغها صوته لم يقطع لأنها تجتمع وتفترق بصوته وإذا لم يبلغها صوته لم تكن في حفظه فلم يجب القطع بسرقته وإن سرق ماشية سائرة أو جمالاً مقطرة فإن كان خلفها سائق ينظر

(3/357)


إليها جميعها ويبلغها صوته إذا زجرها قطع لأنها محرزة به وإن سرق ما غاب عن عينه أو ما لم يبلغه صوته لبعده لم يقطع لما ذكرناه في الراعية وإن كان مع الجمال قائد إذا التفت نظر إلى جميعها وبلغها صوته إذا زجرها وأكثر الإلتفات إليها قطع لأنها محرزة بالقائد وإن سرق مالاً ينظر إليه إذا التفت أولا يبلغه صوته أولم يكثر الإلتفات إليها لم يقطع لأنه سرق من غير حرز وإن كانت الجمال باركة فإن كان صاحبها ينظر إليها قطع السارق لأنها محرزة بحفظه وإن سرق وصاحبها نائم فإن كانت غير معقلة لم يقطع لأنها غير محرزة وإن كانت معقلة قطع لأن عادة الجمال إذا نام أن يعقلها وإن كان على الجمال أحمال كان حرزها كحرز الجمال لأن العادة ترك الأحمال على الجمال.
فصل: ولا يجب القطع إلا بأن يخرج المال من الحرز بفعله فإن دخل الحرز ورمى المال إلى خارج الحرز أو نقب الحرز وأدخل يده أو محجنا معه فأخرج المال قطع وإن دخل الحرز وأخذ المال ودفعه إلى آخر خارج الحرز قطع لأنه هو الذي أخرجه فإن أخرجه ولم يأخذه منه الآخر فرده إلى الحرز لم يسقط القطع لأنه وجب القطع بالإخراج فلم يسقط بالرد وإن بط جيبه أو كمه فوقع منه المال أو نقب حرزاً فيه طعام فانثال قطع لأنه خرج بفعله وإن كان في الحرز ماء جار فترك فيه المال حتى خرج إلى خارج الحرز قطع لأنه خرج بسبب فعله وإن تركه في ماء راكد فحركه حتى خرج المال قطع لما ذكرناه وإن حركه غيره لم يقطع لأنه لم يخرج بفعله وإن تفجر الماء ففيه وجهان: أحدهما: أنه يقطع لأنه سبب لخروجه والثاني: أنه لا يقطع لأن خروجه بالانفجار الحادث من غير فعله وإن وضع المال في النقب في وقت هبوب الريح فأطارته الريح إلى خارج الحرز قطع كما لو تركه في ماء جار وإن وضعه ولا ريح ثم هبت ريح فأخرجته ففيه وجهان كما قلنا فيما لو تركه في ماء راكد فتفجر الماء فخرج به فإن وضع المال على حمار ثم قاده أو ساقه حتى خرج من الحرز قطع لأنه خرج بسبب فعله وإن خرج الجمار من غير سوق ولا قود ففيه وجهان: أحدهما: أنه يقطع لأن عادة البهائم إذا أثقلها الحمل أن تسير والثاني: أنه لا يقطع لأنه سار باختياره وإن ثقب الحرز وأمر صغيراً لا يميز بإخراج المال من الحرز فأخرجه قطع لأن الصغير كالآلة وإن دخل الحرز وأخذ جوهرة فابتلعها وخرج ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا يقطع لأنه استهلكها في الحرز ولهذا يجب عليه قيمتها فلم يقطع كما لو اخذ طعاماً فأكله والثاني: أنه يقطع لأنه أخرجه من الحرز في وعاء فأشبه إذا جعلها في جيبه ثم خرج وإن أخذ طيباً فتطيب به ثم خرج فإن لم يمكن أن يجتمع منه قدر النصاب لم يقطع لأنه استهلكه في الحرز

(3/358)


فصار كما لو كان طعاماً فأكله وإن أمكن أن يجتمع منه النصاب ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا يقطع لأن استعمال الطيب إتلاف له فصار كالطعام إذا أكله في الحرز والثاني: أنه يقطع لأن عينه باقية ولهذا يجوز لصاحبه أن يطالبه برده.
فصل: ولا يجب القطع حتى ينفصل المال عن جميع الحرز فإن سرق جذعاً أو عمامة فأخذ قبل أن ينفصل الجميع من الحرز لم يقطع لأنه لا ينفرد بعضه عن بعض ولهذا لو كان في طرف منه نجاسة لم تصح صلاته فيه فإذا لم يجب القطع فيما بقي من الحرز لم يجب فيما خرج منه وإن ثقب رجلان حرزاً فأخذ أحدهما: المال ووضعه على باب الثقب وأخذه الآخر ففيه قولان: أحدهما: أنه يجب عليهما القطع لأنا لولم نوجب القطع عليهما صار هذا طريقاً إلى إسقاط القطع والثاني: أنه لا يقطع واحد منهما وهو الصحيح لأن كل واحد منهما لم يخرج المال من كمال الحرز وإن نقب أحدهما: الحرز ودخل الآخر وأخرج المال ففيه طريقان: من أصحابنا من قال فيه قولان كالمسألة قبلها ومنهم من قال لا يجب القطع قولاً واحداً لأن أحدهما: نقب ولم يخرج المال والآخر أخرج المال من غير حرزه.
فصل: وإن فتح مراحاً فيه غنم فحلب من ألبانها قدر النصاب وأخرجه قطع لأن الغنم مع اللبن في حرز واحد فصار كما لو سرق نصاباً من حرزين في بيت واحد.
فصل: فإن دخل السارق إلى دار فيها سكان ينفرد كل واحد منهم ببيت مقفل فيه مال ففتح بيتاً وأخرج المال إلى صحن الدار قطع لأنه أخرج المال من حرزه وإن كانت الدار لواحد وفيها بيت فيه مال فأخرج السارق المال من البيت إلى الصحن فإن كان باب البيت مفتوحاً وباب الدار مغلقاً لم يقطع لأن ما في البيت محرز بباب الدار وإن كان باب الدار مفتوحاً وباب البيت مغلقاً قطع لأن المال محرز بالبيت دون الدار وإن كان باب الدار مفتوحاً وباب البيت مفتوحاً لم يقطع لأن المال غير محرز وإن كان باب البيت مغلقاً وباب الدار مغلقاً ففيه وجهان: أحدهما: أنه يقطع لأن البيت حرز لما فيه فقط كما لوكان باب الدار مفتوحاً والثاني: أنه لا يقطع لأن البيت المغلق في دار مغلقة حرز في حرز فلم يقطع بالإخراج من أحدهما: كما لو كان في بيت مقفل في صندوق مقفل فأخرج المال من الصندوق ولم يخرجه من البيت.
فصل: وإن سرق الضيف من مال المضيف نظرت فإن سرقه من مال لم يحرزه عنه لم يقطع لما روى أبو الزبير عن جابر قال: أضاف رجل رجلاً فأنزله في مشربة له

(3/359)


فوجد متاعاً له قد اختانه فيه فأتى به أبا بكر رضي الله عنه فقال: خل عنه فليس بسارق وإنما هي أمانة اختانها ولأنه غير محرز عنه فلم يقطع فيه وإن سرقه من بيت مقفل قطع لما روى محمد بن حاطب أو الحارث أن رجلاً قدم المدينة فكان يكثر الصلاة في المسجد وهو أقطع اليد والرجل فقال له أبو بكر رضي الله عنه: ما ليلك بليل سارق فلبثوا ما شاء الله ففقدوا حليا لهم فجعل الرجل يدعوا على من سرق أهل هذا البيت الصالح فمر رجل بصائغ فرأى عنده حلياً فقال: ما أشبه هذه الحلي بحلي آل أبي بكر فقال للصائغ: ممن اشتريته فقال: من ضيف أبي بكر فأخذ فأقر فجعل أبو بكر رضي الله عنه يبكي فقالوا: ما يبكيك من رجل سرق فقال أبكي لغرته بالله تعالى فأمر به فقطعت يده ولأن البيت المغلق حرز لما فيه فقطع بالسرقة منه.
فصل: ولا يجب القطع بسرقة ما ليس بمال كالكلب والخنزير والخمر والسرجين سواء سرقه من مسلم أومن ذمي لأن القطع جعل لصيانة الأموال وهذه ليست الأشياء ليست بمال فإن سرق إناء يساوي نصاباً فيه خمر ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا يقطع لأن ما فيه تجب إراقته ولا يجوز إقراره فيه والثاني: أنه يقطع لأن سقوط القطع فيما فيه لا يوجب سقوط القطع فيه كما لو سرق إناء فيه بول.
فصل: وإن سرق صنماً أو بربطاً أو مزماراً فإن كان إذا فصل لم يصلح لغير معصية لم يقع لأنه لا قيمة لما فيه من التأليف وإن كان إذا فصل يصلح لمنفعة مباحة ففيه ثلاثة أوجه: أحدها أنه يقطع لأنه مال يقوم على متلفه والثاني: أنه لا يقطع لأنه آلة معصية فلم يقطع بسرقته كالخمر والثالث وهو قول أبي علي بن أبي هريرة رحمه الله أنه إن أخرجه مفصلاً قطع لزوال المعصية وإن أخرجه غير مفصل لم يقطع لبقاء المعصية وإن سرق أواني الذهب والفضة قطع لأنها تتخذ للزينة لا للمعصية.
فصل: وإن سرق حراً صغيراً لم يقطع لأنه ليس بمال وإن سرقه وعليه حلي بقدر النصاب ففيه وجهان: أحدهما: أنه يقطع لأنه قصد سرقة ما عليه من المال والثاني: أنه لا يقطع لأن يده ثابتة على ما عليه ولهذا لو وجد لقيط ومعه مال كان المال له فلم يقطع كما لو سرق جملاً وعليه صاحبه وإن سرق أم ولد نائمة ففيه وجهان: أحدهما: أنه يقطع لأنها تضمن باليد فقطع بسرقتها كسائر الأموال والثاني: أنه لا يقطع لأن معنى المال فيها

(3/360)


ناقص لأنه لا يمكن نقل الملك فيها وإن سرق عيناً موقوفة على غيره ففيه وجهان كالوجهين في أم الولد وإن سرق من غلة وقف على غيره قطع لأنه مال يباع ويبتاع وإن سرق الماء ففيه وجهان: أحدهما: أنه يقطع لأنه يباع ويبتاع والثاني: أنه لا يقطع لأنه لا يقصد إلى سرقته لكثرته.
فصل: ولا يقطع فيما له فيه شبهة لقوله صلى الله عليه وسلم: "ادرءوا الحدود بالشبهات". فإن سرق مسلم من مال بيت المال لم يقطع لما روي أن عاملاً لعمر رضي الله عنه كتب إليه يسأله عمن سرق من مال بيت المال قال: لا تقطعه فما من أحد إلا وله فيه حق وروى الشعبي أن رجلاً سرق من بيت المال فبلغ علياً كرم الله وجهه فقال إن له فيه سهماً ولم يقطعه وإن سرق ذمي من بيت المال قطع لأنه لا حق له فيه وإن كفن ميت بثوب من بيت المال فسرقه سارق قطع لأن بالتكفين به انقطع عنه حق سائر المسلمين وإن سرق من غلة وقف على المسلمين لم يقطع لأن له فيه حقاً وإن سرق فقير من غلة وقف على الفقراء لم يقطع لأن له فيه حقاً وإن سرق منها غني قطع لأنه لا حق له فيها.
فصل: وإن سرق رتاج الكعبة أو باب المسجد أو تأزيره قطع لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قطع سارقاً سرق قبطية من منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأنه مال محرز بحرز مثله لا شبهة له فيه وإن سرق مسلم من قناديل المسجد أومن حصره لم يقطع لأنه جعل ذلك لمنفعة المسلمين وللسارق فيها حق وإن سرقه ذمي قطع لأنه لا حق له فيها.
فصل: ومن سرق من ولده أو ولد ولده وإن سفل أومن أبيه أوجده وإن علا لم يقطع وقال أبو ثور: يقطع لقوله عز وجل: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] فعم ولم يخص وهذا خطأ لقوله صلى الله عليه وسلم: "ادرءوا الحدود بالشبهات". وللأب شبهة في مال الابن وللابن شبهة في مال الأب لأنه جعل ماله كماله في استحقاق النفقة ورد الشهادة فيه والآية تخصها بما ذكرناه ومن سرق ممن سواهما من الأقارب قطع لأنه لا شبهة له في ماله ولا يقطع العبد بسرقة مال مولاه وقال أبو ثور: يقطع لعموم الآية وهذا خطأ لما روى السائب بن يزيد أنه حضر عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقد جاءه عبد الله بن عمرو الحضرمي فقال: إن غلامي هذا سرق فاقطع يده فقال عمر ما سرق فقال مرآة امرأتي فقال له أرسله خادمكم أخذ متاعكم ولكن لو سرق من غيركم قطع ولأن يده كيد المولى بدليل أنه لوكان بيده مال فادعاه رجل كان القول فيه قول المولى فيصير كما لو نقل ماله من زاوية داره إلى زاوية أخرى ولأن له في ماله

(3/361)


شبهة في استحقاق النفقة فلم يقطع كالأب والابن وإن سرق من غيره قطع لقول عمر رضي الله عنه ولأنه لا شبهة له في مال غيره وإن سرق أحد الزوجين من الآخر ما هو محرز عنه ففيه ثلاثة أقوال: أحدها أنه يقطع لأن النكاح عقد على المنفعة فلا يسقط القطع بالسرقة كالإجارة والثاني: أنه لا يقطع لأن الزوجة تستحق النفقة على الزوج والزوج يملك أن يحجر عليها ويمنعها من التصرف على قول بعض الفقهاء فصار ذلك شبهة والثالث أنه يقطع الزوج بسرقة مال الزوجة ولا تقطع الزوجة بسرقة مال الزوج لأن للزوجة حقاً في مال الزوج بالنفقة وليس للزوج حق في مالها ومن لا يقطع من الزوجين بسرقة مال الآخر لا يقطع عبده بسرقة ماله لقول عمر رضي الله عنه في سرقة غلام الحضرمي الذي سرق مرآة امرأته أرسله فلا قطع عليه خادمكم أخد متاعكم ولأن يد عبده كيده فكانت سرقته من ماله كسرقته.
فصل: وإن كان له على رجل دين فسرق من ماله فإن كان جاحداً له أو مماطلاً له لم يقطع لأن له أن يتوصل إلى أخذه بدينه وإن كان مقراً ملياً قطع لأنه لا شبهة له في سرقته وإن غصب مالاً فأحرزه في بيت فنقب المغصوب منه البيت وسرق مع ماله نصاباً من مال الغاصب ففيه ثلاثة أوجه: أحدها أنه لا يقطع لأنه هتك حرزاً كان له هتكه لأخذ ماله والثاني: أنه يقطع لأنه لما سرق مال الغاصب علم أنه قصد سرقة مال الغاصب والثالث أنه إن كان ما سرقه متميزاً عن ماله قطع لأنه لا شبهة له في سرقته وإن كان مختلطاً بماله لم يقطع لأنه لا يتميز ما يجب فيه القطع مما لا يجب فيه فلم يقطع وإن سرق الطعام عام المجاعة نظرت إن كان الطعام موجوداً قطع لأنه غير محتاج إلى سرقته وإن كان معدوماً لم يقطع لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: لا قطع في عام المجاعة أو السنة ولأن له أن يأخذه فلم يقطع فيه.
فصل: وإن نقب المؤجر الدار المستأجرة وسرق منها مالاً للمستأجر قطع لأنه لا شبهة له في ماله ولا في هتك حرزه وإن نقب المعير الدار المستعارة وسرق منها مالاً للمستعير ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا يقطع لأن له أن يرجع في العارية فجعل النقب رجوعاً والثاني: وهو المنصوص أنه يقطع لأنه أحرز ماله بحرز بحق فأشبه إذا نقب المؤجر الدار المستأجرة وسرق مال المستأجر وإن غصب رجل مالاً أو سرقه وأحرزه

(3/362)


فجاء سارق فسرقه ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا يقطع لأنه حرز لم يرضه مالكه والثاني: أنه يقطع لأنه سرق ما لا شبهة له فيه من حرز مثله.
فصل: وإن وهب المسروق منه العين المسروقة من السارق بعد ما رفع إلى السلطان لم يسقط القطع لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر في سارق رداء صفوان أن تقطع يده فقال صفوان: إني لم أرد هذا هو عليه صدقة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فهلا قبل أن تأتيني به". ولأن ما حدث بعد وجوب الحد ولم يوجب شبهة في الوجوب فلم يؤثر في الحد كما لو زنى وهو عبد فصار حراً قبل أن يحد أو زنى وهو بكر فصار ثيباً قبل أن يحد وإن سرق عيناً قيمتها ربع دينار فنقصت قيمتها قبل أن يقطع لم يسقط القطع لما ذكرناه وإن ثبتت السرقة بالبينة فأقر المسروق منه بالملك للسارق أو قال كنت أبحته له سقط القطع لأنه يحتمل أن يكون صادقاً في إقراره وذلك شبهة فلم يجب معها الحد وإن ثبتت السرقة بالبينة فادعى السارق أن المسروق ماله وهبه منه أو أباحه له وأنكر المسروق منه ولم يكن للسارق بينة لم يقبل دعواه في حق المسروق منه لأنه خلاف الظاهر بل يجب تسليم المال إليه وأما القطع فالمنصوص أنه لا يجب لأنه يجوز أن يكون صادقاً وذلك شبهة فمنعت وجوب الحد وذكر أبو إسحاق وجهاً آخر أنه يقطع لأنا لو أسقطنا القطع بدعواه أفضى إلى أن لا يقطع سارق وهذا خطأ لأنه يبطل به إذا ثبت عليه الزنى بامرأة وادعى زوجيتها فإنه يسقط الحد وإن أفضى ذلك إلى إسقاط حد الزنا وإن ثبتت السرقة بالبينة والمسروق منه غائب فالمنصوص في السرقة أنه لا يقطع حتى يحضر فيدعي وقال فيمن قامت البينة عليه أنه زنى بأمة ومولاها غائب أنه يحد ولا ينتظر حضور المولى فاختلف أصحابنا فيه على ثلاثة مذاهب: أحدها وهو قول أبي العباس بن سريج رحمه الله أنه لا يقام عليه الحد في المسألتين حتى يحضر وما روي في حد الزنى سهو من الناقل ووجهه أنه يجوز أن يكون عند الغائب شبهة تسقط الحد بأن يقول المسروق منه كنت أبحته له ويقول مولى الأمة كنت وقفتها عليه والحد يدرأ بالشبهة فلا يقام عليه قبل الحضور والثاني: وهو قول أبي إسحاق أنه ينقل جواب كل واحدة منهما إلى الأخرى فيكون في المسألتين قولان: أحدهما: أنه لا يحد لجواز أن يكون عند الغائب شبهة والثاني: أن يحد لأنه وجب الحد في الظاهر فلا يؤخر والثالث وهو قول أبي الطيب بن سلمة وأبي حفص بن الوكيل أنه يحد الزاني ولا يقطع السارق على ما نص عليه لأن حد الزنا لا تمنع الإباحة من وجوبه والقطع في السرقة تمنع الإباحة من وجوبه وإن ثبتت السرقة والزنا بالإقرار فهو كما لو ثبتت بالبينة فيكون على ما تقدم من المذاهب ومن أصحابنا

(3/363)


من قال فيه وجه آخر أنه يقطع السارق ويحد الزاني في الإقرار وجهاً واحداً والصحيح أنه كالبينة وإذا قلنا أنه ينتظر قدوم الغائب ففيه وجهان: أحدهما: أنه يحبس لأنه قد وجب الحد وبقي الاستيفاء فحبس كما يحبس من عليه القصاص إلى أن يبلغ الصبي ويقدم الغائب والثاني: أنه إن كان السفر قريباً حبس إلى أن يقدم الغائب وإن كان السفر بعيداً لم يحبس لأن في حبسه إضراراً به والحق لله عز وجل فلم يحبس لأجله.
فصل: وإذا ثبت الحد عند السلطان لم يجز العفو عنه ولا تجوز الشفاعة فيه لما روت عائشة رضي الله عنها قالت: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بسارق قد سرق فأمر به فقطع فقيل يا رسول الله ما كنا نراك تبلغ به هذا قال: لو كانت فاطمة بنت محمد لأقمت عليها الحد وروى عروة قال: شفع الزبير في سارق فقيل حتى يأتي السلطان قال: إذا بلغ السلطان فلعن الله الشافع والمشفع كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأن الحد لله فلا يجوز فيه العفو والشفاعة.
فصل: وإذا وجب القطع قطعت يده اليمنى فإن سرق ثانياً قطعت رجله اليسرى فإن سرق ثالثاً قطعت يده اليسرى فإن سرق رابعاً قطعت رجله اليمنى لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في السارق: "وإن سرق فاقطعوا يده ثم إن سرق فاقطعوا رجله ثم إن سرق فاقطعوا يده ثم إن سرق فاقطعوا رجله" 1. وإن سرق خامساً لم يقتل لأن النبي صلى الله عليه وسلم بين في حديث أبي هريرة ما يجب عليه في أربع مرات فلو وجب في الخامسة قتل لبين ويعزر لأنه معصية ليس فيها حد ولا كفارة فعزر فيها.
فصل: وتقطع اليد من مفصل الكف لما روي عن أبي بكر رضي الله عنهما أنهما قالا: إذا سرق فاقطعوا يمينه من الكوع ولأن البطش بالكف وما زاد من الذراع تابع ولهذا تجب الدية فيه ويجب فيما زاد الحكومة وتقطع الرجل من مفصل القدم وقال أبو ثور: تقطع الرجل من شطر القدم لما روى الشعبي قال: كان علي كرم الله وجهه يقطع الرجل من شطر القدم ويترك له عقباً ويقول أدع له ما يعتمد عليه والمذهب ما ذكرناه والدليل عليه ما روي عن عمر رضي الله عنه أنه كان يقطع القدم من مفصلها ولأن البطش بالقدم ويجب فيها الدية فوجب قطعه.
فصل: وإن سرق ولا يمين له قطعت الرجل اليسرى فإن كانت له يمين عند السرقة فذهبت بآكلة أو جناية سقط الحد ولم ينتقل الحد إلى الرجل والفرق بين
__________
1 رواه النسائي في كتاب السارق باب 14.

(3/364)


المسألتين أنه سرق ولا يمين له تعلق الحد بالعضو الذي يقطع بعدها وإذا سرق وله يمين تعلق القطع بها فإذا ذهبت زال ما تعلق به القطع فسقط وإن سرق وله يد ناقصة الأصابع قطعت لأن اسم اليد يقع عليها وإن لم يبق غير الرحة ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا يقطع وينتقل الحد إلى الرجل لأنه قد ذهبت المنفعة المقصودة بها ولهذا لا يضمن بأرش مقدر فصار كما لولم يبق منها شيء والثاني: أنه يقطع ما بقي لأنه بقي جزء من العضو الذي تعلق به القطع فوجب قطعه كما لو بقيت أنملة إن سرق وله يد شلاء فإن قال أهل الخبرة إنها إذا قطعت انسدت عروقها قطعت وإن قالوا لا تنسد عروقها لم تقطع لأن قطعها يؤدي إلى أن يهلك.
فصل: وإذا قطع فالسنة أن يعلق العضو في عنقه ساعة لما روى فضالة بن عبيد قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم بسارق فأمر به فقطعت يده ثم أمر فعلقت في رقبته ولأن في ذلك ردعاً للناس ويحسم موضع القطع لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بسارق فقال: "اذهبوا به فاقطعوه ثم احسموه ثم ائتوني" فقطع فأتى به فقال: "تب إلى الله تعالى" فقال تبت إلى الله تعالى فقال: "تاب الله عليك" والحسم هو أن يغلي الزيت غلياً جيداً ثم يغمس فيه موضع القطع لتنحسم العروق وينقطع الدم فإن ترك الحسم جاز لأنها مداواة فجاز تركها وأما ثمن الزيت وأجرة القاطع فهو في بيت المال لأنه من المصالح فإن قال أنا أقطع بنفسي ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا يمكن كما في القصاص والثاني: أنه يمكن لأن الحق لله تعالى والقصد به التنكيل وذلك قد يحصل بفعله بخلاف القصاص فإنه يجب للآدمي للتشفي فكان الاستيفاء إليه.
فصل: وإن وجب عليه قطع يمينه فأخرج يساره فاعتقد أنها يمينه أو اعتقد أن قطعها يجزئ عن اليمين فقطعها القاطع ففيه وجهان: أحدهما: وهو المنصوص أنه يجزئه عن اليمين لأن الحق لله تعالى ومبناه على المساهلة فقامت اليسار فيه مقام اليمين والثاني: أنه لا يجزئه لأنه قطع غير العضو الذي تعلق به القطع فعلى هذا إن كان القاطع تعمد قطع اليسار وجب عليه القصاص في يساره وإن قطعها وهو يعتقد أنها يمينه أو قطعها وهو يعتقد أن قطعها يجزئه عن اليمين وجب عليه نصف الدية.
فصل: إذا تلف المسروق في يد السارق ضمن بدله وقطع ولا يمنع أحدهما: الآخر لأن الضمان يجب لحف الآدمي والقطع يجب لله تعالى فلا يمنع أحدهما: الآخر كالدية والكفارة.

(3/365)


باب حد قاطع الطريق
من شهر السلاح وأخاف السبيل في مصر أوبرية وجب على الإمام طلبه لأنه إذا ترك قويت شوكته وكثر الفساد به في قتل النفوس وأخذ الأموال فإن وقع قبل أن يأخذ المال ويقتل النفس عزر وحبس على حسب ما يراه السلطان لأنه تعرض للدخول في معصية عظيمة فعزر كالمتعرض للسرقة بالنقب والمتعرض للزنا بالقبلة وإن أخذ نصاباً محرزاً بحرز مثله ممن يقطع بسرقة ماله وجب عليه قطع يده اليمنى ورجله اليسرى لما روى الشافعي عن ابن عباس أنه قال في قطاع الطريق إذا قتلوا وأخذوا المال قتلوا وصلبوا وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال قتلوا ولم يصلبوا وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف ونفيهم إذا هربوا أن يطلبوا حتى يؤخذوا وتقام عليهم الحدود لأنه ساوى السارق في أخذ النصاب على وجه لا يمكن الاحتراز منه فساواه في قطع اليد وزاد عليه بإخافة السبيل بشهر السلاح فغلظ بقطع الرجل فإن لم يكن له اليد اليمنى ولا الرجل اليسرى انتقل القطع إلى اليد اليسرى والرجل اليمنى لأن ما يبدأ به معدوم فتعلق الحد بما بعده وإن أخذ دون النصاب لم يقطع وخرج أبوعلي بن خيران قولاً آخر أنه لا يعتبر النصاب كما لا يعتبر التكافؤ في القتل في المحاربة في أحد القولين وهذا خطأ لأنه قطع يجب بأخذ المال فشرط فيه النصاب كالقطع في السرقة فإن أخذ المال من غير حرز بأن انفرد عن القافلة أو أخذ من جمال مقطرة ترك القائد تعاهدها لم يقطع لأنه قطع يتعلق بأخذ المال فشرط فيه الحرز كقطع السرقة.
فصل: وإن قتل ولم يأخذ المال انحتم قتله ولم يجز لولي الدم العفو عنه لما روى ابن عباس رضي الله عنه قال: نزل جبريل عليه السلام بالحد فيهم أن من قتل ولم يأخذ المال قتل والحد لا يكون إلا حتماً ولأن ما أوجب عقوبة في غير المحاربة تغلظت العقوبة فيه بالمحاربة كأخذ المال يغلظ بقطع الرجل وإن جرح جراحة توجب القود فهل يتحتم القوم فيه قولان: أحدهما: أنه يتحتم لأن ما أوجب القود في غير المحاربة انحتم القود فيه في المحاربة كالقتل والثاني: أنه لا يتحتم لأنه تغليظ لا يتبعض في النفس فلم يجب فيما دون النفس كالكفارة.

(3/366)


فصل: وإن قتل وأخذ المال قتل وصلب ومن أصحابنا من قال: يصلب حياً ويمنع الطعام والشراب حتى يموت وحكى أبو العباس ابن القاص في التخليص عن الشافعي رضي الله عنه أنه قال يصلب ثلاثاً قبل القتل ولا يعرف هذا للشافعي والدليل على أنه يصلب بعد القتل قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا قتلتم فأحسنوا القتلة" 1. وإن كان الزمان بارداً أو معتدلاً صلب بعد القتل ثلاثاً وإن كان الحر شديداً وخيف عليه التغير قبل الثلاث حنط وغسل وكفن وصلي عليه وقال أبوعلي بن أبي هريرة رحمه الله: يصلب إلى أن يسيل صديده وهذا خطأ لأن في ذلك تعطيل أحكام الموتى من الغسل والتكفين والصلاة والدفن وإن مات فهل يصلب فيه وجهان: أحدهما: وهو قول الشيخ أبي حامد الإسفرايني رحمه الله أنه لا يصلب لأن الصلب تابع للقتل وصفة له وقد سقط القتل فسقط الصلب والثاني: وهو قول شيخنا القاضي أبي الطيب الطبري رحمه الله أنه يصلب لأنهما حقان فإذا تعذر أحدهما: لم يسقط الآخر.
فصل: وإن وجب عليه الحد ولم يقع في يد الإمام طلب إلى أن يقع فيقام عليه الحد لقوله عز وجل: {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} [المائدة: 33] وقد روينا عن ابن عباس أنه قال: ونفيهم إذا هربوا أن يطلبوا حتى وجدوا فتقام عليهم الحدود.
فصل: ولا يجب ما ذكرناه من الحد إلا على من باشر القتل أو أخذ المال فأما من حضر ردءاً لهم أوعينا فلا يلزمه الحد لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث كفر بعد إيمان وزنا بعد إحصان أو قتل نفس بغير حق" 2. ويعزر لأنه أعان على معصية فعزر وإن قتل بعضهم وأخذ بعضهم المال وجب على من قتل القتل وعلى من أخذ المال القطع لأن كل واحد منهم انفرد بسبب حد فاختص بحده.
فصل: إذا قطع قاطع الطريق اليد اليسرى من رجل وأخذ المال قدم قطع القصاص سواء تقدم على أخذ المال أو تأخر لأن حق الآدمي آكد فإذا اندمل موضع القصاص قطع
__________
1 رواه مسلم في كتاب الصيد حديث 57. أبو داود في كتاب الأضاحي باب 11.الترمذي في كتاب الديات باب 14. النسائي في كتاب الضحايا باب 22. ابن ماجه في كتاب الذبائح باب 3.
2 رواه البخاري في كتاب الديات باب 6. مسلم في كتاب القسامة حديث 25، 26. أبو داود في كتاب الحدود باب 1. الترمذي في كتاب الحدود باب 15. النسائي في كتاب التحريم باب 5، 11.

(3/367)


اليد اليمنى والرجل اليسرى لأخذ المال ولا يوالي بينهما لأنهما عقوبتان مختلفتان فلا تجوز الموالاة بينهما وإن قطع اليد اليمنى والرجل اليسرى وأخذ المال وقلنا إن القصاص يتحتم نظرت فإن تقدم أخذ المال سقط القطع الواج بسببه لأنه يجب تقديم القصاص عليه لتأكد حق الآدمي وإذا قطع للآدمي زال ما تعلق الوجوب به لأخذ المال فسقط وإن تقدمت الجناية لم يسقط الحد لأخذ المال فتقطع يده اليسرى ورجله اليمنى لأنه استحق بالجناية فيصير كمن أخذ المال وليس له يد يمنى ولا رجل يسرى فتعلق باليد اليسرى والرجل اليمنى.
فصل: وإن تاب قاطع الطريق بعد القدرة عليه لم يسقط عنه شيء مما وجب عليه من حد المحاربة لقوله عز وجل: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ الله غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 34] فشرط في العفو عنهم أن تكون التوبة قبل القدرة عليهم فدل على أنهم إذا تابوا بعد القدرة لم يسقط عنهم وإن تاب قبل القدرة عليه سقط عنه ما يختص بالمحاربة وهو انحتام القتل والصلب وقطع الرجل للآية وهل يسقط قطع اليد فيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي علي بن أبي هريرة إنه يسقط لأنه قطع عضو وجب بأخذ المال في المحاربة فسقط بالتوبة قبل القدرة كقطع الرجل والثاني: وهو قول أبي إسحاق أنه لا يسقط لأنه قطع يد لأخذ المال فلم يسقط بالتوبة قبل القدرة كقطع السرقة.
فصل: فأما الحد الذي لا يختص بالمحاربة ينظر فيه فإن كان للآدمي وهو حد القذف لم يسقط بالتوبة لأنه حق للآدمي فلم يسقط بالتوبة كالقصاص وإن كان لله عز وجل وهو حد الزنا واللواط والسرقة وشرب الخمر ففيه قولان: أحدهما: أنه لا يسقط بالتوبة لأنه حد لا يختص بالمحاربة فلم يسقط بالتوبة كحد القذف والثاني: أنه يسقط وهو الصحيح والدليل علي قوله عز وجل في الزنا: {فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ الله كَانَ تَوَّاباً رَحِيماً} [النساء: 16] وقوله تعالى في السرقة: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ الله يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ الله غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 39] وقوله صلى الله عليه وسلم: "التوبة تجب

(3/368)


ما قبلها" 1. ولأنه حد خالص لله تعالى فسقط بالتوبة كحد قاطع الطريق فإن قلنا إنها تسقط نظرت فإن كانت وجبت في غير المحاربة لم تسقط بالتوبة حتى يقترن بها الإصلاح في زمان يوثق بتوبته لقوله تعالى: {فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا} ولقوله تعالى: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ الله يَتُوبُ عَلَيْهِ} فعلق العفو بالتوبة والإصلاح ولأنه قد يظهر التوبة للتقية فلا يعلم صحتها حتى يقترن بها الإصلاح في زمان يوثق فيه بتوبته وإن وجبت عليه الحدود في المحاربة سقطت بإظهار التوبة والدخول في الطاعة لأنه خارج من يد الإمام ممتنع عليه فإذا أظهر التوبة لم تحمل توبته على التقية.
__________
1 رواه أحمد في مسنده 4/199، 204. بلفظ "الإسلام" بدل "التوبة".

(3/369)


باب حد الخمر
كل شراب أسكر كثيره حرم قليله وكثيره والدليل عليه قوله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة:

(3/369)


90] واسم الخمر يقع على كل مسكر والدليل عليه ما روى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كل مسكر خمر وكل خمر حرام" 1. وروى النعمان بن بشير رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن من التمر لخمراً وإن من البر لخمراً وإن من الشعير لخمراً وإن من العسل خمراً" 2. وروى سعد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أنهاكم عن قليل ما أسكر كثيره" 3. وروت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أسكر الفرق منه فملء الكف منه حرام" 4.
فصل: ومن شرب مسكراً وهو مسلم بالغ عاقل مختار وجب عليه الحد فإن كان حراً جلد لما روى أبو ساسان قال: لما شهد على الوليد بن عقبة قال عثمان لعلي عليه السلام دونك ابن عمك فاجلده قال: قم يا حسن فاجلده قال: فيم أنت وذاك ول هذا غيري قال: ولكنك ضعفت وعجزت ووهنت فقال: قم يا عبد الله بن
__________
1 رواه مسلم في كتاب الأشربة حديث 73. أبو داود في كتاب الأشربة باب 5. الترمذي في كتاب الأشربة باب 1. ابن ماجه في كتاب الأشربة باب 9.
2 رواه أبو داود في كتاب الأشربة باب 4.
3 رواه أبو داود في كتاب الأشربة باب 5. الدارمي في كتاب الأشربة باب 8. أحمد في مسنده 2/91، 167.
4 رواه أحمد في مسنده 6/71، 72.

(3/370)


جعفر فاجلده فجلده وعلي كرم الله وجهه يعد ذلك فعد أربعين وقال جلد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخمر أربعين وأبو بكر أربعين وعمر ثمانين وكل سنة وإن كان عبداً جلد عشرين لأنه حد يتبعض فكان العبد فيه على النصف من الحر كحد الزنا فإن رأى الإمام أن يبلغ بحد الحر ثمانين وبحد العبد أربعين جاز لما روى أبو وبرة الكلبي قال: أرسلني خالد بن الوليد إلى عمر رضي الله عنه فأتيته ومعه عثمان وعبد الرحمن بن عوف وعلي وطلحة والزبير رضي الله عنهم فقلت: إن خالد بن الوليد رضي الله عنه يقرأ عليك السلام ويقول: إن الناس قد انهمكوا في الخمر وتحاقروا العقوبة فيه قال عمر: هم هؤلاء عندك فسلهم فقال علي كرم الله وجهه: تراه إذا سكر هذى وإذا هذ افترى وعلى المفتري ثمانون فقال عمر بلغ صاحبك ما قال فجلد خالد ثمانين وإذا أتى بالرجل الضعيف الذي كانت منه الزلة جلده أربعين فإن جلده أربعين ومات لم يضمن لأن الحق قتله وإن جلده ثمانين ومات ضمن نصف الدية لأن نصفه حد ونصفه تعزير وسقط النصف بالحد ووجب النصف بالتعزير وإن جلد إحدى وأربعين فمات ففيه قولان: أحدهما: أنه يضمن نصف ديته لأنه مات من مضمون وغير مضمون فضمن نصف ديته كما لو جرحه واحد جراحة وجرح نفسه جراحات والثاني: أنه يضمن جزءاً من أحد وأربعين جزءاً من الدية ووجب النصف بالتعزير وإن جلد إحدى وأربعين فمات ففيه قولان: أحدهما: أنه يضمن نصف ديته لأنه مات من مضمون وغير مضمون فضمن نصف ديته كما لو جرحه واحد جراحة وجرح نفسه جراحات والثاني: أنه يضمن جزءاً من أحد وأربعين جزءاً من الدية لأن الأسواط متماثلة فقسطت الدية على عددها وتخالف الجراحات فإنها لا تتماثل وقد يموت من جراحة ولا يموت من جراحات ولا يجوز أن يموت من سوط ويعيش من أسواط وإن أمر الإمام الجلاد أن يضرب في الخمر ثمانين فجلده إحدى وثمانين ومات المضروب فإن قلنا إن الدية تقسط على عدد الضرب سقط منها أربعون جزءاً لأجل الحد ووجب على الإمام أربعون جزءاً لأجل العزير ووجب على الجلاد جزء وإن قلنا أنه يقسط على عدد الجناية ففيه وجهان: أحدهما: يسقط نصفها لأجل الحد ويبقى النصف على الإمام نصفه وعلى الجلاد نصفه لأن الضرب نوعان مضمون وغير مضمون فسقط النصف بما ليس بمضمون ووجب النصف بما هو مضمون والثاني: أنه تقسط الدية أثلاثاً فسقط ثلثها بالحد وثلثها على الإمام وثلثها على الجلاد لأن الحد ثلاثة أنواع فجعل لكل نوع الثلث.

(3/371)


فصل: ويضرب في حد الخمر بالأيدي والنعال وأطراف الثياب على ظاهر النص لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى برجل قد شرب الخمر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اضربوه" قال فمنا الضارب بيده ومنا الضارب بنعله ومنا الضارب بثوبه فلما انصرف قال بعض الناس أخزال الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقولوا هكذا ولا يعينوا عليه الشيطان ولكن قولوا رحمك الله" 1. ولأنه لما كان أخف من غيره في العدد وجب أن يكون أخف من غيره في الصفة وقال أبو العباس وأبو إسحاق يضرب بالسوط ووجهه ما روي أن علياً رضي الله عنه لما أقام الحد على الوليد بن عقبة قال لعبد الله بن جعفر أقم عليه الحد قال: فأخذ السوط فجعله حتى انتهى إلى أربعين سوطاً فقال له: أمسك وإن قلنا إنه يضرب بغير السوط فضرب بالسوط أربعين سوطاً فمات ضمن لأنه تعدى بالضرب بالسوط وكم يضمن فيه وجهان: أحدهما: أنه يضمن بقدر ما زاد ألمه تعدى بالضرب بالسوط وكم يضمن فيه وجهان: أحدهما: أنه يضمن بقدر ما زاد ألمه على ألم النعال والثاني: أنه يضمن جميع الدية لأنه عدل من جنس إلى غيره فأشبه إذا ضربه بما يجرح فمات منه.
فصل: والسوط الذي يضرب به سوط بين سوطين ولا يمد ولا يجرد ولا يشد يده لما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: ليس في هذه الأمة مد ولا تجريد ولا غل ولا صفد.
فصل: ولا يقام الحد في المسجد لما روى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن إقامة الحد في المسجد ولأنه لا يؤمن أن يشق الجلد بالضرب فيسيل منه الدم أو يحدث من شدة الضرب فيتنجس المسجد وإن أقيم الحد في المسجد سقط التمرض لأن النهي لمعنى يرجع إلى المسجد لا إلى الحد فلم يمنع صحته كالصلاة في الأرض المغصوبة.
فصل: إذا زنى دفعات حد للجميع حداً واحداً وكذلك إن سرق دفعات أو شرب الخمر دفعات حد للجميع حداً واحداً لأن سببها واحد فتداخلت وإن اجتمعت عليه
__________
1 رواه البخاري في كتاب الحدود باب 4، 5. أبو داود في كتاب الحدود باب 35. أحمد في مسنده 2/300.

(3/372)


حدود بأسباب بأن زنى وسرق وشرب الخمر وقذف لم تتداخل لأنها حدود وجبت بأسباب فلم تتداخل وإن اجتمع عليه الجلد في حد الزنا والقطع في السرقة أوفي قطع الطريق قدم حد الزنا أو تأخر لأنه أخف من القطع فإذا تقدم أمكن استيفاء القطع بعده وإذا قدم القطع لم يؤمن أن يموت منه فيبطل حد الزنا وإن اجتمع عليه مع ذلك حد الشرب أوحد القذف قدم حد الشرب وحد القذف على تحد الزنا لأنهما أخف منه وأمكن للاستيفاء وإن اجتمع حد الشرب وحد القذف ففيه وجهان: أحدهما: أنه يقدم حد القذف لأنه للآدمي والثاني: أنه يقدم حد الشرب وهو الصحيح لأنه أخف من حد القذف فإذا أقيم عليه حد لم يقم عليه حد آخر حتى يبرأ من الأول لأنه إذا توالى عليه حدان لم يؤمن أن يتلف وإن اجتمع عليه حد السرقة والقطع في قطع الطريق قطعت يمينه للسرقة وقطع الطريق ثم تقطع رجله لقطع الطريق وهل تجوز الموالاة بينهما؟ فيه وجهان: أحدهما: أنه تجوز لأن قطع الرجل مع قطع اليد حد واحد فجاز الموالاة بينهما والثاني: أنه لا يجوز قطع الرجل حتى تندمل اليد لأن قطع الرجل لقطع الطريق وقطع اليد للسرقة وهما سببان مختلفان فلا يوالي بين حديهما والأول أصح لأن اليد تقطع لقطع الطريق أيضاً فأشبه إذا قطع الطريق ولم يسرق وإن كان مع هذه الحدود قتل فإن كان في غير المحاربة أقيمت الحدود على ما ذكرناه من الترتيب والتفريق بينهما فإذا فرغ من الحدود قتل وإن كان القتل في المحاربة ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي إسحاق أنه يوالي بين الجميع والفرق بينه وبين القتل في غير المحاربة أن القتل في غير المحاربة غير متحتم وربما عفى عنه فتسلم نفسه والقتل في المحاربة متحتم فلا معنى لترك الموالاة والوجه الثاني أنه لا يوالي بينهما لأنه لا يؤمن إذا والى بين الحدين أن يموت في الثاني فيسقط ما بقي من الحدود.

(3/373)


باب التعزير
من أتى معصية لا حد فيها ولا كفارة كمباشرة الأجنبية فما دون الفرج وسرقة ما دون النصاب أو السرقة من غير حرز أو القذف بغير الزنا أو الجناية التي لا قصاص فيها وما أشبه ذلك من المعاصي عزر على حسب ما يراه السلطان لما روى عبد الملك بن عمير قال: سأل علي كرم الله وجهه عن قول الرجل للرجل يا فاسق يا خبيث قال: هن فواحش فيهن التعزير وليس فيهن حد وروي عن ابن عباس أنه لما خرج من البصرة

(3/373)


استخلف أبا الأسود الديلي فأتى بلص نقب حرزاً على قوم فوجدوه في النقب فقال: مسكين أراد أن يسرق فأعجلتموه فضربه خمسة وعشرين سوطاً وخلى عنه ولا يبلغ بالتعزير أدنى الحدود فإن كان على حر لم يبلغ به أربعين وإن كان على عبد لم يبلغ به عشرين لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من بلغ بما ليس بحد حداً فهو من المعتدين". وروي عن عمر رضي الله عنه أنه كتب إلى أبي موسى لا تبلغ بنكال أكثر من عشرين سوطاً وروي عنه ثلاثين سوطاً وروي عنه ما بين الثلاثين إلى الأربعين سوطاً ولأن هذه العاصي دون ما يجب فيه الحد فلا تحلق بما يجب فيه الحد من العقوبة وإن رأى السلطان ترك التعزير جاز تركه إذا لم يتعلق به حق آدمي لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا في الحدود" 1. وروى عبد الله بن الزبير أن رجلاً خاصم الزبير عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في شراج الحرة الذي يسقون به النخل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للزبير: "اسق أرضك الماء ثم أرسل الماء إلى جارك". فغضب الأنصاري فقال يا رسول الله وأن كان ابن عمتك فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا زبير اسق أرضك الماء ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر". فقال الزبير: فوالله إني لأحسب هذه الأية نزلت في ذلك {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} ولولم يجز ترك التعزير لعزره رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما قال.
فصل: وإن عزر الإمام رجلاً فمات وجب ضمانه لما روى عمرو بن سعيد عن علي كرم الله وجهه أنه قال: ما من رجل أقمت عليه حداً فمات فأجد في نفسي أنه لا دية له
__________
1 رواه أبو داود في كتاب الحدود باب 5. أحمد في مسنده 6/181.

(3/374)


إلا شارب الخمر فإنه لو مات وديته لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسنه ولا يجوز أن يكون المراد به إذا مات من الحد فإن النبي صلى الله عليه وسلم حد في الخمر فثبت أنه أراد من الزيادة على الأربعين ولأنه ضرب جعل إلى اجتهاده فإذا أدى إلى التلف ضمن كضرب الزوج زوجته.
فصل: وإن كان على رأس بالغ عاقل سلعة لم يجز قطعها بغير إذنه فإن قطعها قاطع بإذنه فمات لم يضمن لأنه قطع إذنه وإن قطعها بغير إذنه فمات وجب عليه القصاص لأنه تعدى بالقطع وإن كان على رأس صبي أو مجنون لم يجز قطعها لأنه جرح لا يؤمن معه الهلاك فإن قطعت فمات منه نظرت فإن كان القاطع لا ولاية له عليه وجب عليه القود لأنها جناية يعدي بها وإن كان أباً أوجدا وجبت عليه الدية وإن كان ولياً غيرهما ففيه قولان: أحدهما: أنه يجب عليه القود لأنه قطع منه ما لا يجوز قطعه والثاني: أنه لا يجب القود لأنه لم يقصد القتل وإنما قصد المصلحة فعلى هذا يجب عليه دية مغلظة لأنها عمد خطأ. وبالله التوفيق.

(3/375)