المهذب في فقة الإمام الشافعي

كتاب الأقضية
باب ولاية القضاء وأدب القاضي
القضاء فرض على الكفاية والدليل عليه قوله عز وجل: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ} [ص: 26] وقوله عز وجل: {إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء: 58] وقوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ الله} [المائدة: 49] ولأن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بين الناس وبعث علياً كرم الله وجهه إلى اليمن للقضاء بين الناس ولأن الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم حكموا بين الناس وبعث عمر رضي الله عنه أبا موسى الأشعري إلى البصرة قاضياً وبعث عبد الله بن مسعود إلى الكوفة قاضياً ولأن الظلم في الطباع فلا بد من حاكم ينصف المظلوم من الظالم فإن لم يكن من يصلح للقضاء إلا واحد تعين عليه ويلزمه طلبه وإذا امتنع أجبر عليه لأن الكفاية لا تحصل إلا به فإن كان هناك من يصلح له غيره نظرت فإن كان خاملاً وإذا ولى القضاء انتشر علمه استحب أن يطلبه لما يحصل به من المنفعة بنشر العلم وإن كان مشهوراً فإن كانت له كفاية كره له الدخول فيه لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من استقضى فكأنما ذبح بغير سكين" 1. ولأنه يلزمه بالقضاء حفظ
__________
1 رواه الترمذي في كتاب الأحكام باب 1. أبو داود في كتاب الأقضية باب 1. ابن ماجه في كتاب الأحكام باب 1. أحمد في مسنده 2/230.

(3/376)


الأمانات وربما عجز عنه وقصر فيه فكره له الدخول فيه وإن كان فقيرا يرجوا بالقضاء كفاية من بيت المال لم يكره له الدخول فيه لأنه يكتسب كفاية بسبب مباح وإن كان جماعة يصلحون للقضاء اختار الإمام أفضلهم وأورعهم وقلده فإن اختار غيره جاز لأنه تحصل به الكفاية وإن امتنعوا من الدخول فيه أثموا لأنه حق وجب عليهم فأثموا بتركه كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهل يجوز للإمام أن يجبر واحداً منهم على الدخول فيه أم لا؟ فيه وجهان: أحدهما: أنه ليس له إجباره لأنه فرض على الكفاية فلو أجبرناه عليه تعين عليه والثاني: أن له إجباره لأنه إذا لم يجبر بقي الناس بلا قاض وضاعت الحقوق وذلك لا يجوز.
فصل: ومن تعين عليه القضاء وهو في كفاية لم يجز أن يأخذ عليه رزقاً لأنه فرض تغين عليه فلا يجوز أن يأخذ عليه مالاً من غير ضرورة فإن لم يكن له كفاية فله أن يأخذ الرزق عليه لأن القضاء لا بد منه والكفاية لا بد منها فجاز أن يأخذ عليه الرزق فإن لم يتعين عليه فإن كانت له كفاية كره أن يأخذ عليه الرزق لأنه قربة فكره أخذ الرزق عليها من غير حاجة فإن أخذ جاز لأنه لم يتعين عليه وإن لم يكن له كفاية لم يكره أن يأخذ عليه الرزق لأن أبا بكر الصديق رضي الله عنه لما ولي خرج برزمة إلى السوق فقيل ما هذا؟ فقال: أنا كاسب أهلي فأجروا له كل يوم درهمين وعن عمر رضي الله عنه أنه قال: أنزلت نفسي من هذا المال بمنزلة ولي اليتيم ومن كان غيناً فليستعفف ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف وبعث عمر رضي الله عنه إلى الكوفة عمار بن ياسر والياً وعبد الله بن مسعود قاضياً وعثمان بن حنيف ماسحاً وفرض لهم كل يوم شاة نصفها وأطرافها لعمار والنصف الآخر بين عبد الله وعثمان ولأنه لما جاز للعامل على الصدقات أن يأخذ مالاً على العمامة جاز للقاضي أن يأخذ على القضاء ويدفع إليه مع رزقه شيء للقرطاس لأنه يحتاج إليه لكتب المحاضر ويعطى لمن على بابه من الأجر لأنه يحتاج إليهم لإحضار الخصوم كما يعطى من يحتاج إليه العامل على الصدقات من العرفاء ويكون ذلك من سهم المصالح لأنه من المصالح.
فصل: ولا يجوز أن يكون القاضي كافراً ولا فاسقاً ولا عبداً ولا صغيراً ولا معتوهاً لأنه إذا لم يجز أن يكون واحد من هؤلاء شاهداً فلأن لا يجوز أن يكون قاضياً

(3/377)


أولى ولا يجوز أن يكون امرأة لقوله صلى الله عليه وسلم: "ما أفلح قوم أسندوا أمرهم إلى امرأة" 1. ولأنه لا بد للقاضي من مجالسة الرجال من الفقهاء والشهود والخصوم والمرأة ممنوعة من مجالسة الرجال لما يخاف عليهم من الإفتتان بها ولا يجوز أن يكون أعمى لأنه لا يعرف الخصوم والشهود وفي الأخرس الذي يفهم الإشارة وجهان كالوجهين في شهادته ولا يجوز أن يكون جاهلاً بطرق الأحكام لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "القضاة ثلاثة: قاضيان في النار وقاض في الجنة فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق فحكم به فهو في الجنة وأما اللذان في النار فرجل عرف الحق فجار في حكه فهو في النار ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار" 2. ولأنه إذا لم يجز أن يفتي الناس وهولا يلزمهم الحكم فلأن لا يجوز أن لا يقضي بينهم وهو يلزمهم الحكم أولى ويكره أن يكون القاضي جباراً عسوفاً وأن يكون ضعيفاً مهيناً لأن الجبار يهابه الخصم فلا يتمكن من استيفاء حجته والضعيف يطمع فيه الخصم وينشط عليه ولهذا قال بعض السلف وجدنا هذا الأمر لا يصلحه إلا شدة من غير عنف ولين من غير ضعف.
فصل: ولا يجوز ولاية القضاء إلا بتولية الإمام أو تولية من فوض إليه الإمام لأنه من المصالح العظام فلا يجوز إلا من جهة الإمام فإن تحاكم رجلان إلى من يصلح أن يكون حاكماً ليحكم بينهما جاز لأنه تحاكم عمر وأبي بن كعب إلى زيد بن ثابت تحاكم عثمان وطلحة إلى جبير بن مطعم واختلف قوله في الذي يلزم به حكمه فقال في أحد القولين لا يلزم الحكم إلا بتراضيهما بعد الحكم وهو قول المزني رحمه الله تعالى لأنا لو ألزمناهما حكمه كان ذلك عزلاً للقضاة وافتياتاً على الإمام ولأنه لما اعتبر تراضيهما في الحكم اعتبر رضاهما في لزوم الحكم والثاني: أنه يلزم بنفس الحكم لأن من جاز حكمه لزم حكمه كالقاضي الذي ولاه الإمام واختلف أصحابنا فيما يجوز فيه
__________
1 رواه أحمد في مسنده 5/50.
2 رواه أبو داود في كتاب الأقضية باب 2. ابن ماجه في كتاب الأحكام باب 3.

(3/378)


التحكيم فمنهم من قال يجوز في كل ما تحاكم فيه الخصمان كما يجوز حكم القاضي الذي ولاه الإمام ومنهم من قال: يجوز في الأموال فأما في النكاح والقصاص واللعان وحد القذف فلا يجوز فيها التحكيم لأنها حقوق بنيت على الاحتياط فلم يجز فيها التحكيم.
فصل: ويجوز أن يجعل قضاء بلد إلى اثنين وأكثر على أن يحكم كل واحد منهم في موضع ويجوز أن يجعل إلى أحدهما: القضاء في حق وإلى الآخر في حق آخر وإلى أحدهما: في زمان وإلى الآخر في زمان آخر لأنه نيابة عن الإمام فكان على حسب الاستنابة وهل يجوز أن يجعل إليهما القضاء في مكان واحد في حق واحد وزمان واحد فيه وجهان: أحدهما: أنه يجوز لأنه نيابة فجاز أن يجعل إلى اثنين كالوكالة والثاني: أنه لا يجوز لأنهما قد يختلفان في الحكم فتقف الحكومة ولا تنقطع الخصومة.
فصل: ولا يجوز أن يعقد تقلد القضاء على أن يحكم بمذهب بعينه لقوله عز وجل: {فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} والحق ما دل عليه الدليل وذلك لا يتعين في مذهب بعينه فإن قلد على هذا الشرط بطلت التولية لأنه علقها على شرط وقد بطل الشرط فبطلت التولية.
فصل: وإذا ولى القضاء على بلد كتب له العهد بما ولى لأن النبي صلى الله عليه وسلم كتب لعمرو بن حزم حين بعثه إلى اليمن وكتب أبو بكر الصديق رضي الله عنه لأنس حين بعثه إلى البحرين كتاباً وختمه بخاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم وروى حارثة بن مضرب أن عمر كتب إلى أهل الكوفة أما بعد فإني بعثت إليكم عماراً أميراً وعبد الله قاضياً ووزيراً فاسمعوا لهما وأطيعوا فقد آثرتكم بهما فإن كان البلد الذي ولاه بعيداً أشهد له على التولية

(3/379)


شاهدين ليثبت بهما التولية وإن كان قريباً بحيث يتصل به الخبر في التولية ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي إسحاق أنه يجب الإشهاد لأنه عقد فلا يثبت بالاستفاضة كالبيع والثاني: وهو قول أبي سعيد الإصطخري أنه لا يجب الإشهاد لأنه يثبت بالاستفاضة فلا يفتقر إلى الإشهاد والمستحب للقاضي أن يسأل عن أمناء البلد ومن فيه من العلماء لأنه لا بد له منهم فاستحب تقدم العلم بهم والمستحب أن يدخل البلد يوم الإثنين لأن النبي صلى الله عليه وسلم دخل المدينة يوم الإثنين والمستحب أن ينزل وسط البلد ليتساوى الناس كلهم في القرب منه ويجمع الناس ويقرأ عليهم العهد ليعلموا التولية وما فوض إليه.
فصل: فإذا أذن له من ولاء أن يستخلف فله أن يستخلف وإن نهاه عن الاستخلاف لم يجز له أن يستخلف لأنه نائب عنه فتبع أمره ونهيه وإن لم يأذن له ولم ينهه نظرت فإن كان ما تقلده يقدر أن يقضي فيه بنفسه ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي سعيد الاصطخري أنه يجوز أن يستخلف لأنه ينظر في المصالح فجاز أن ينظر بنفسه وبغيره والثاني: وهو المذهب أنه لا يجوز لأن الذي ولاه لم يرض بنظر غيره وإن كان ما ولاه لا يقدر أن يقضي فيه بنفسه لكثرته جاز أن يستخلف فيما لا يقدر عليه لأن تقليده لا يقدر عليه بنفسه أذن في الاستخلاف فيما لا يقدر عليه كما أن توكيل الوكيل فيما لا يقدر عليه بنفسه أذن له في استنابة غيره وهل له أن يستخلف فيما يقدر عليه أن يقضي فيه بنفسه فيه وجهان: أحدهما: أن له ذلك لأن ما جاز له أن يستخلف في البعض جاز أن يستخلف في الجميع كالإمام والثاني: أنه لا يجوز لأنه إنما أجيز له أن يستخلف فيما لا يقدر علي للعجز فوجب أن يكون مقصوراً على ما عجز عنه.
فصل: ولا يجوز أن يقضي ولا يولي ولا يسمع البينة ولا يكاتب قاضياً في حكم في غير عمله فإن فعل شيئاً من ذلك في غير عمله لم يعتد به لأنه لا ولاية له في غير عمله فكان حكمه فيما ذكرناه حكم الرعية.
فصل: ولا يحكم لنفسه وإن اتفقت له حكومة مع خصم تحاكما فيها إلى خليفة له لأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه تحاكم مع أبي بن كعب إلى زيد بن ثابت وتحاكم عثمان رضي الله عنه مع طلحة إلى جبير بن مطعم وتحاكم علي كرم الله وجهه مع يهودي في درع إلى شريح ولأنه لا يجوز أن يكون شاهداً لنفسه فلا يجوز أن يكون حاكماً لنفسه ولا يجوز أن يحكم لوالده وإن علا ولا لولده وإن سفل وقال أبو ثور: يجوز وهذا خطأ لأنه متهم في الحكم لهما كما يتهم في الحكم لنفسه وإن تحاكم إليه والده

(3/380)


مع ولده فحكم لأحدهما: فقد قال بعض أصحابنا: إنه يحتمل وجهين: أحدهما: أنه لا يجوز كما لا يجوز إذا حكم له مع أجنبي والثاني: أنه يجوز لأنهما استويا في التعصيب فارتفعت عنه تهمة الميل وإن أراد أن يستخلف في أعماله والده وولده جاز لأنهما يجريان مجرى نفسه ثم يجوز أن يحكم في أعماله فجاز أن يستخلفهما للحكم في أعماله وأما إذا فوض الإمام إلى رجل أن يختار قاضياً لم يجز أن يختار والده أو ولده لأنه لا يجوز أن يختار نفسه فلا يجوز أن يختار والده أو ولده.
فصل: ولا يجوز أن يرتشي على الحكم لما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لعن الله الراشي والمرتشي في الحكم". ولأنه أخذ مال على حرام فكان حراماً كمهر البغي ولا يقبل هدية ممن لم يكن له عادة أن يهدي إليه قبل الولاية لما روى أبو حميد الساعدي قال: استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من بني أسد يقال له ابن اللتبية على الصدقة فلما قدم قال هذا لكم وهذا أهدي إلي فقام صلى الله عليه وسلم على المنبر فقال: "ما بال العامل نبعثه على بعض أعمالنا فيقول هذا لكم وهذا أهدي إلي ألا جلس في بيت أبيه أو أمه فينظر أيهدى إليه أم لا والذي نفسي بيده لا يأخذ أحد منهما شيئاً إلا جاء يوم القيامة يحمله على رقبته" 1. فدل على أن ما أهدي إليه بعد الولاية لا يجوز قبوله وأما من كانت له عادة بأن يهدى إليه قبل الولاية برحم أو مودة فإنه إن كانت له في الحال حكومة لم يجز قبولها منه لأنه لا يأخذ في حال يتهم فيه وإن لم يكن له حكومة فإن كان أكثر مما كان يهدى إليه أو أرفع منه لم يجز له قبولها لأن الزيادة حدث بالولاية وإن لم يكن أكثر ولا أرفع مما كان يهد إليه جاز قبولها لخروجها عن تسبب الولاية والأولى أن لا يقبل لجواز أن يكون قد أهدي إليه لحكومة منتظرة.
فصل: ويجوز أن يحضر الولائم لأن الإجابة إلى وليمة غير العرس مستحبة وفي وليمة العرس وجهان: أحدهما: أنها فرض على الأعيان والثاني: أنها فرض على الكفاية ولا يخص في الإجابة قوماً دون قوم لأن في تخصيص بعضهم ميلاً وتركاً للعدل فإن كثرت عليه وقطعته عن الحكم ترك الحضور في حق الجميع لأن الإجابة إلى الوليمة إما أن تكون سنة أو فرضاً على الكفاية أو فرضاً على الأعيان إلا أنه لا يستضر بتركها جميع المسلمين والقضاء فرض عليه ويستضر بتركه جميع المسلمين فوجب تقديم القضاء
__________
1 رواه البخاري في كتاب الأحكام باب 24. مسلم في كتاب الإمارة حديث 26. أبو داود في كتاب الإمارة باب 11. أحمد في مسنده 5/423.

(3/381)


فصل: ويجوز أن يعود المرضى ويشهد الجنائز ويأتي مقدم الغائب لقوله صلى الله عليه وسلم: "عائد المريض في مخوف من مخارف الجنة حتى يرجع" 1. وعاد النبي صلى الله عليه وسلم سعداً وجابراً وعاد غلاماً يهودياً في جواره وعرض عليه السلام فأجاب وكان يصلي على الجنائر فإن كثرت عليه أتى من ذلك ما لا يقطعه عن الحكم والفرق بينه وبين حضور الولائم حيث قلنا إنها إذا كثرت عليه ترك الجميع أن الحضور في الولائم لحق أصحابنا فإذا حضر عند بعضهم كان ذلك للميل إلى من يحضره والحضور في هذه الأشياء لطلب الثواب لنفسه فلم يترك ما قدر عليه.
فصل: ويكره أن يباشر البيع والشراء بنفسه لما روى أبو الأسود المالكي عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما عدل وال اتجر في رعيته أبدا". وقال شريح: شرط علي غضبان ولأنه إذا باشر ذلك بنفسه لم يؤمن أن يحابى فيميل إلى من حاباه فإن احتاج إلى البيع والشراء وكل من ينوب عنه ولا يكون معروفاً به فإن عرف أنه وكيله استبدل بمن لا يعرف به حتى لا يحابى فتعود المحاباة إليه فإن لم يجد من ينوب عنه تولى بنفسه لأنه لا بد له منه فإذا وقعت لمن بايعه حكومة استخلف من يحكم بينه وبين خصمه لأنه إذا تولى الحكم بنفسه لم يؤمن أن يميل إليه.
فصل: ولا يقضي في حال الغضب ولا في حال الجوع والعطش ولا في حال الحزن والفرح ولا يقضي والنعاس يغلبه ولا يقضي والمرض يقلقه ولا يقضي وهو يدافع الأخبثين ولا يقضي وهو في حر مزعج ولا في برد مؤلم لما روى أبو بكرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا ينبغي للقاضي أن يقضي بين اثنين وهو غضبان" 2. وروى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يقضي القاضي إلا وهو شبعان
__________
1 رواه مسلم في كتاب البر الحديث 39. أحمد في مسنده 5/276.
2 رواه البخاري في كتاب الأحكام باب 13. مسلم في كتاب الأقضية حديث 16. أبو داود في كتاب الأقضية باب 9. الترمذي في كتاب الأحكام باب 7.

(3/382)


ريان". ولأن في هذه الأحوال يشتغل قلبه فلا يتوفر على الاجتهاد في الحكم وإن حكم في هذه الأحوال صح حكمه لأن الزبير ورجلاً من الأنصار اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في شراج الحرة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للزبير: "اسق زرعك ثم أرسل الماء إلى جارك" فقال الأنصاري: وأن كان ابن عمتك يا رسول الله فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى احمر وجهه ثم قال للزبير: "اسق زرعك واحبس الماء حتى يبلغ الجدر ثم أرسله إلى جارك". فحكم في حال الغضب.
فصل: والمستحب أن يجلس للحكم في موضع بارز يصل إليه كل أحد ولا يحتجب من غير عذر لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من ولي من أمر الناس شيئاً فاحتجب دون حاجتهم وفاقتهم احتجب الله دون فاقته وفقره". والمستحب أن يكون المجلس فيسحاً حتى لا يتأذى بضيقه الخصوم ولا يزاحم فيه الشيخ والعجوز وأن يكون موضعاً لا يتأذى فيه بحر أو برد أو دخان أو رائحة منتنة لأن عمر رضي الله عنه كتب إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه وإياك والقلق والضجر وهذه الأشياء تفضي إلى الشجر وتمنع الحاكم من التوفر على الاجتهاد وتمنع الخصوم من استيفاء الحجة فإن حكم مع هذه الأحوال صح الحكم كما يصح في حال الغضب ويكره أن يجلس للقضاء في المسجد لما روى معاذ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم ورفع أصواتكم وخصوماتكم وحدودكم وسل سيوفكم وشراءكم وبيعكم" 1. ولأن الخصومة يحضرها اللغط والسفه فينزه المسجد عن ذلك ولأنه قد يكون الخصم جنباً أو حائضاً فلا يمكنه المقام في المسجد للخصومة فإن جلس في المسجد لغير الحكم فحضر خصمان لم يكره أن يحكم بينهما لما روى الحسن البصري قال: دخلت المسجد فرأيت عثمان رضي الله عنه قد ألقى رداءه ونام فأتاه سقاء بقربة ومعه خصم فجلس عثمان وقضى بينهما وإن جلس في البيت لغير الكم فحضره خصمان لم يكره أن يحم بينهما لما روت أم سلمة رضي الله عنها قالت: اختصم إلى
__________
1 رواه ابن ماجه في كتاب المساجد باب 5.

(3/383)


رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان من الأنصار في مواريث متقادمة فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما في بيتي.
فصل: وإن احتاج إلى أجرياء لإحضار الخصوم اتخذ أجرياء أمناء ويوصيهم بالرفق بالخصوم ويكره أن يتخذ حاجباً لأنه لا يؤمن أن يمنع من له ظلامة أو يقدم خصماً على خصم فإن دعت الحاجة إلى ذلك اتخذ أميناً بعيداً من الطم ويوصيه بما يلزمه من تقديم من سبق من الخصوم ولا يكره للإمام أن يتخذ حاجباً لأن يرفأ كان حاجب عمر والحسن البصري كان حاجب عثمان وقنبر كان حاجب علي كرم الله وجهه ولأن الإمام ينظر في جميع المصالح فتدعوه الحاجة إلى أن يجعل لكل مصلحة وقتاً لا يدخل فيه كل أحد.
فصل: ويستحب أن يكون له حبس لأن عمر رضي الله عنه اشترى داراً بمكة بأربعة آلاف درهم وجعلها سجناً واتخذ علي كرم الله وجهه سجناً وحبس عمر رضي الله عنه الحطيئة الشاعر فقال:
ماذا تقول لأفراخ بذي مرخ ... حمر الحواصل لا ماء ولا شجر
ألقيت كاسبهم في قعر مظلمة ... فارحم عليك سلام الله يا عمر
فخلاه وحبس عمر آخر فقال:
يا عمر الفاروق طال حبسي ... ومل مني إخواتي وعرسي
في حدث لم تقترنه نفسي ... والأمر أضوأ من شعاع الشمس
ولأنه يحتاج إليه للتأديب ولاستيفاء الحق من المماطل بالدين ويستحب أن يكون له درة للتأديب لأن عمر رضي الله عنه كانت له درة يؤدب بها الناس.
فصل: وإن احتاج إلى كاتب اتخذ كاتباً لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان له كتاب منهم علي بن

(3/384)


أبي طالب وزيد بن ثابت رضي الله عنهما ومن شرطه أن يكون عارفاً بما يكاتب به القضاة من الأحكام وما يكتبه من المحاضر والسجلات لأنه إذا لم يعرف ذلك أفسد ما يكتبه بجهله وهل من شرطه أن يكون مسلماً عدلاً؟ فيه وجهان: أحدهما: أن ذلك شرط فلا يجوز أن يكون كافراً لأن أبا موسى الأشعري قدم على عمر رضي الله عنه ومعه كاتب نصراني فانتهره عمر رضي الله عنه وقال: لا تأمنوهم وقد خونهم الله ولا تدنوهم وقد أبعدهم الله ولا تعزوهم وقد أذلهم الله ولأن الكافر عدو للمسلمين فلا يؤمن أن يكتب ما بطل به حقوقهم ولا يجوز أن يكون فاسقاً لأنه لا يؤمن أن يخون والوجه الثاني أن ذلك يستحب لأن ما يكتبه لا بد أن يقف عليه القاضي ثم يمضيه فيؤمن فيه من الخيانة.
فصل: ولا يتخذ شهوداً معينين لا تقبل شهادة غيرهم لأن في ذلك تضييقاً على الناس وإضراراً بهم في حفظ حقوقهم ولأن شروط الشهادة لا تختص بالعينين فلم يجز تخصيصهم بالقبول.
فصل: ويتخذ قوماً من أصحاب المسائل ليتعرف بهم أحوال من جهلت عدالته من الشهود وينبغي أن يكونوا عدولاً برآء من الشحناء بينهم وبين الناس بعداء من العصبية في نسب أو مذهب حتى لا يحملهم ذلك على جرح عدل أو تزكية غير عدل وأن يكونوا وافري العقول ليصلوا بوفور عقولهم إلى المطلوب ولا يسترسلوا فيسألوا عدواً أو صديقاً لأن العدو يظهر القبيح ويخفي الجميل والصديق يظهر الجميل ويخفي القبيح وإن شهد عنده شاهد نظرت فإن علم عدالته قبل شهادته وإن علم فسقه لم يقبل شهادته ويعمل في العدالة والفسق بعلمه وإن جهل إسلامه لم يحكم حتى يسألة عن إسلامه ولا يعمل

(3/385)


في إسلامه بظاهر الدار كما يعمل في إسلام اللقيط بظاهر الدار لأن أعرابياً شهد عند النبي صلى الله عليه وسلم برؤية الهلال فلم يحكم بشهادته حتى سأل عن إسلامه ولأنه يتعلق بشهادته إيجاب حق على غيره فلا يعمل فيه بظاهر الدار ويرجع في إسلامه إلى قوله لأن النبي صلى الله عليه وسلم رجع إلى قول الأعرابي وإذا جهل حريته ففيه وجهان: أحدهما: وهو ظاهر النص أنها تثبت بقوله لأن الظاهر من الدار حرية أهلها كما أن الظاهر من الدار إسلام أهلها ثم يثبت الإسلام بقوله فكذلك الحرية والثاني: وهو الأظهر أنها لا تثبت بقوله والفرق بينها وبين الإسلام أنه يملك الإسلام إذا كان كافراً فقبل إقراره به ولا يملك الحرية إذا كان عبداً فلم يقبل إقراراه بها وإن جهل عدالته لم يحكم حتى ثبتت عدالته لقوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] ولا يعلم أنه مرضي قبل السؤال وروى سليمان عن حريث قال: شهد رجل عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال له عمر رضي الله عنه: إني لست أعرفك ولا يضرك أني لا أعرفك فأتني بمن يعرفك فقال رجل: أنا أعرفه يا أمير المؤمنين فقال بأي شيء تعرفه قال: بالعدالة قال: هو جارك الأدنى تعرف ليله ونهاره ومدخله ومخرجه قال: لا قال: فمعاملك بالدينار والدرهم اللذين يستدل بهما على الورع قال: لا قال: فصاحبك في السفر الذي يستدل له على مكارم الأخلاق قال: لا قال: لست تعرفه ثم قال للرجل ائتني بمن يعرفك ولأنه لا يؤمن أن يكون فاسقاً فلا يحكم بشهادته وإن أراد أن يعرف عدالته كتب اسمه ونسبه وحليته وصنعته وسوقه ومسكنه حتى لا يشتبه بغيره ويذكر من يشهد له حتى لا يكون ممن لا تقبل شهادته ولومن والد أو ولد ويذكر من يشهد عليه حتى لا يكون عدواً لا يقبل شهادته عليه ويذكر قدر ما يشهد به لأنه قد يكون ممن يقبل قوله في قليل ولا يقبل قوله في كثير ويبعث ما يكتبه مع أصحاب المسائل ويجتهد أن لا يكون أصحاب المسائل معروفين عند الشهود ولا عند الشهود حتى لا يحتالوا في تعديل أنفسهم ولا عند المسؤولين عن الشهود حتى لا يحتال لهم الأعداء في الجرح ولا الأصدقاء في التعديل ويجتهد أن لا يعلم أصحاب المسائل بعضهم ببعض فيجمعهم الهوى على التواطؤ على الجرح والتعديل قال الشافعي رحمه الله: ولا يثبت الجرح والتعديل إلا باثنين ووجهه أنه شهادة فاعتبر فيها العدد واختلف أصحابنا هل

(3/386)


يحكم القاضي في الجرح والتعديل بأصحاب المسائل أو بمن عدل أو جرح من الجيران فقال أبو إسحاق: يحكم بشهادة الجيران لأنهم يشهدون بالجرح والتعديل فعلى هذا يجوز أن يقتصر على قول الواحد من أصحاب المسائل ويجوز بلفظ الخبر ويسمى للحاكم من عدل أو جرح ثم يسمع الشهادة بالتعديل والجرح من الجيران على شرط الشهادة في العدد ولفظ الشهادة وحمل قول الشافعي رحمه الله في العدد على الجيران وقال أبو سعيد الإصطخري يحكم بشهادة أصحاب المسائل وهو ظاهر النص لأن الجيران لا يلزمهم الحضور للشهادة بما عندهم فحكم بشهادة أصحاب المسائل فعلى هذا لا يجوز أن يكون أصحاب المسائل أقل من اثنين ويجوز أن يكون من يخبرهم من الجيران واحداً إذا وقع في نفوسهم صدقه ويجب أن يشهد أصحاب المسائل عند الحاكم على شرط الشهادة في العدد ولفظ الشهادة وحمل قول الشافعي رحمه الله تعالى في العدد على أصحاب المسائل وإن بعث اثنين فعادا بالجرح حكم بالجرح وإن عادا بالتعديل حكم بالتعديل وإن عاد أحدهما: بالتعديل وعاد الآخر بالجرح لم يحكم بقول واحد منهما في جرح ولا تعديل ويبعث ثالثاً فإن عاد بالجرح كملت بينة الجرح وإن عاد بالتعديل كملت بينة التعديل وإن شهد اثنان بالجرح واثنان بالتعديل حكم بالجرح لأن شاهدي الجرح يخبران عن أمر باطن وشاهدي العدالة يخبران عن أمر ظاهر فقدم من يخبر بالباطن كما لو شهد اثنان بالإسلام وشهد آخران بالردة وإن شهد اثنان بالجرح وشهد ثلاثة بالعدالة قدمت بينة الجرح لأن بينة الجرح كملت فقدمت على بينة التعديل ولا يقبل الجرح إلا مفسراً وهو أن يذكر السبب الذي به جرح ولأن الناس يختلفون فيما يفسق به الإنسان ولعل من شهد بفسقه شهد على اعتقاده والحاكم لا يعتقد أن ذلك فسق والجرح والتعديل إلى رأي الحاكم فوجب بيانه لينظر فيه ولا يشهد بالجرح من يشهد من الجيران وأهل الخبرة إلا أن يعلم الجرح بالمشاهدة في الأفعال كالسرقة وشرب الخمر أو بالسماع في الأقوال كالشتم والقذف والكذب وإظهار ما يعتقده من البدع أو استفاض عنه ذلك بالخبر لأنه شهادة على علم فأما إذا قال بلغني أو قيل لي أنه يفعل أو يقول أو يعتقد لم يجز أن يشهد به لقوله تعال: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 86] قال الشافعي رحمه الله: ولا تقبل الشهادة بالتعديل حتى يقول هو عدل على ولي فمن أصحابنا من قال يكفي أن يقول هو عدل وهو قول أبي سعيد الإصطخري لأن قوله عدل يقتضي أنه عدل عليه وله وما ذكره الشافعي رحمه الله تعالى ذكره على سبيل الاستحباب ومنهم من قال لا يقبل حتى يقول عدل لي وعلي وهو قول

(3/387)


أبي إسحاق لأن قوله عدل لا يقتضي العدالة على الإطلاق لأنه قد يكون عدلاً في شيء دون شيء وإذا قال عدل على ولي دل على العدالة على الإطلاق.
فصل: ولا يقبل التعديل إلا ممن تقدمت معرفته وطالت خبرته بالشاهد لأن المقصود معرفة العدالة في الباطن ولا يعمل ذلك ممن لم يتقدم به معرفته ويقبل الجرح ممن تقدمت معرفته به وممن لم يتقدم معرفته لأنه لا يشهد في الجرح إلا بما شاهد أو سمع أو استفاض عنه وبذلك يعلم فسقه.
فصل: وإن شهد مجهول العدالة فقال المشهود عليه هو عدل ففيه وجهان: أحدهما: أنه يجوز للحاكم أن يحكم بشهادته لأن البحث عن العدالة لحق المشهود عليه وهو قد شهد له بالعدالة والثاني: أنه لا يحكم لأن حكمه شهادته حكم بتعديله وذلك لا يجوز بقول الواحد ولأن اعتبار العدالة في الشاهد حق لله تعالى ولهذا لو رضي المشهود عليه بشهادة الفاسق لم يجز للحاكم أن يحكم بشهادته.
فصل: وإن ثبت عدالة الشاهد ومضى على ذلك زمان ثم شهد عند الحاكم بحق نظرت فإن كان بعد زمان قريب يحكم بشهادته ولم يسألة عن عدالته وإن كان بعد زمان طويل ففيه وجهان: أحدهما: أنه يحكم بشهادته لأن الأصل بقاء العدالة والثاني: وهو قول أبي إسحاق أنه لا يحكم بشهادته حتى يعيد السؤال عن عدالته لأنه مع طول الزمان يتغير الحال.
فصل: وإن شهد عنده شهود وارتاب بهم فالمستحب أن يسألهم عن تحمل الشهادة ويفرقهم ويسأل كل واحد منهم على الانفراد عن صفة التحمل ومكانه وزمانه لما روي أن أربعة شهدوا على امرأة بالزنا عند دانيال ففرقهم وسألهم فاختلفوا فدعا عليهم فنزلت عليهم نار من السماء فأحرقتهم وإن فرقهم فاختلفوا سقطت شهادتهم وإن اتفقوا وعظهم لما روى أبو حنيفة رحمه الله قال: كنت جالساً عند محارب بن دثار وهو قاضي الكوفة فجاءه رجل فادعى على رجل حقاً فأنكره فأحضر المدعي شاهدين فشهدا له فقال المشهود عليه والذي تقوم به السموات والأرض لقد كذا علي في الشهادة وكان محارب ابن دثار متكئاً فاستوى جالساً وقال سمعت ابن عمر يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الطير لتخفق بأجنحتها وتمي بما في حواصلها من هول يوم القيامة وإن شاهد الزور

(3/388)


لا تزول قدماه حتى يتبوأ مقعده من النار". فإن صدقتما فاثبتا وإن كذبتما فغطيا على رؤوسكما وانصرفا فغطيا رؤوسهما وانصرفا.
فصل: والمستحب أن يحضر مجلسه الفقهاء ليشاورهم فيما يشكل لقوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159] قال الحسن: إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مشاورتهم لغنياً ولكن أراد الله تعالى أن يستسن بذلك الحكام ولأن النبي صلى الله عليه وسلم شاور في أسارى بدر فأشار أبو بكر بالفداء وأشر عمر رضي الله عنه بالقتل وروى عبد الرحمن ابن القاسم عن أبيه أن أبا بكر رضي الله عنه كان إذا نزل به أمر يريد فيه مشاورة أهل الرأي والفقه دعا رجالاً من المهاجرين ورجالاً من الأنصار ودعا عمر وعثمان وعلياً وعبد الرحمن بن عوف ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب وزيد بن ثابت رضي الله عنهم فمضى أبو بكر على ذلك ثم ولي عمر رضي الله عنه وكان يدعوا هؤلاء النفر فإن اتفق ولا يقلد غيره لأنه مجتهد فلا يقلد وقال أبو العباس: إن ضاق الوقت وخاف الفوت بأن يكون الحكم بين مسافرين وهم على الخروج قلد غيره وحكم كما قال في القبلة إذا خاف فوت الصلاة وقد بينا ذلك في كتاب الصلاة وإن اجتهد فأداه اجتهاده إلى حكم فحكم به ثم بان له أنه أخطأ فإن كان ذلك بدليل مقطوع به كالنص والإجماع والقياس الجلي نقض الحكم لقوله تعالى: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله} [المائدة: 49] ولما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: ردوا الجهالات إلى السنة وكتب إلى أبي موسى لا يمنعنك قضاء قضيت به ثم راجعت فيه نفسك فهديت فيه لرشدك أن تراجع الحق فإن الحق قديم لا يبطله شيء وإن الرجوع إلى الحق أولى من التمادي في الباطل ولأنه مفرط في حكمه غير معذور فيه فوجب نقضه.
فصل: وإن ولي قضاء بلد وكان القاضي قبله لا يصلح للقضاء نقض أحكامه كلها أصاب فيها أو أخطأ لأنه حكم ممن لا يجوز له القضاء فوجب نقضه كالحكم من بعض الرعية وإن كان يصلح للقضاء لم يجب عليه أن يتتبع أحكامه لأن الظاهر أنها صحيحة فإن أراد أن يتتبعها من غير متظلم فهل يجوز له ذلك أم لا فيه وجهان: أحدهما: وهو اختيار الشيخ أبي حامد الإسفرايني أنه يجوز لأن فيه احتياطاً والثاني: أنه لا يجوز لأنه

(3/389)


يشتغل بماض لا يلزمه عن مستقبل يلزمه وإن تظلم منه متظلم فإن سأل إحضاره لم يحضره حتى يسأله عما بينهما لأنه ربما قصد أن يبتذ له ليحلف من غير حق وإن قال لي عليه مال من معاملة أو غصب أو إتلاف أو رشوة أخذها منه على حكم أحضره وإن قال حكم علي بشهادة عبدين أو فاسقين ففيه وجهان: أحدهما: أنه يحضره كما يحضره إذا ادعى عليه مالاً والثاني: أنه لا يحضره حتى يقيم بينة بما يدعيه لأنه لا تتعذر إقامة البينة على الحكم فإن حضر وقال ما حكمت عليه إلا بشهادة حرين عدلين فالقول قوله لأنه أمين وهل يحلف فيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي سعيد الإصطخري أنه لا يخلف لأنه عدل والظاهر أنه صادق والثاني: أنه يحلف لأنه أمين ادعى عليه خيانة فلم يقبل قوله من غير يمين كالمودع إذا ادعى عليه خيانة وأنكرها وإن قال جار علي في الحكم نظرت فإن كان ما حكم به مما لا يسوغ فيه الاجتهاد نقضه كما ينقض على نفسه إذا حكم بما لا يسوغ فيه الاجتهاد وإن كان مما يسوغ فيه الاجتهاد كثمن الكلب وضمان ما أتلف على الذمي من الخمر لم ينقضه كما لا ينقض على نفسه ما حكم فيه مما يسوغ فيه الاجتهاد لأنها لو نقضنا ما يسوغ فيه الاجتهاد لم يستقر لأحد حق ولا ملك لأنه كلما ولى حاكم نقض ما حكم به من قبله فلا يستقر لأحد حق ولا ملك.
فصل: وإذا خرج إلى مجلس الحكم فالمستحب له أن يدعوا بدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ما روت أم سلمة رضي الله عنها قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج من بيته يقول: "اللهم أعوذ بك من أن أزل أو أزل أو أضل أو أضل أو أظلم أو أظلم أو أجهل أو يجهل علي" 1 والمستحب أن يجلس مستقبل القبلة لقوله صلى الله عليه وسلم: "خير المجالس ما استقبل به
__________
1 رواه أبو داود في كتاب الأدب باب 103. ابن ماجه في كتاب الدعاء باب 18. أحمد في مسنده 6/322.

(3/390)


القبلة" ولأنه قربة فكانت جهة القبلة فيها أولى كالأذان والمستحب أن يقعد وعليه السكينة والوقار من غير جبرية ولا استكبار لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً وهو متكئ على يساره فقال: هذه جلسة المغضوب عليهم ويترك بين يديه القمطر مختوماً ليترك فيه ما يجتمع من المحاضر والسجلات ويجلس الكاتب بقربه ليشاهد ما يكتبه فإن غلط في شيء رده عليه.
فصل: والمستحب أن يبدأ في نظرت بالمحبسين لأن الحبس عقوبة وعذاب وربما كان فيهم من تجب تخليته فاستحب البداية بهم ويكتب أسماء المحبسين وينادي في البلدان القاضي يريد النظر في أمر المحبسين في يوم كذا فليحضر من له محبوس فإذا حضر الخصوم أخرج خصم كل واحد منهم فإن وجب إطلاقه أطلقه وإن وجب حبسه أعاده إلى الحبس فإن قال المحبوس حبست على دين وأنا معسر فإن ثبت إعساره أطلق وإن لم يثبت إعساره أعيد إلى الحبس فإن ادعى صاحب الدين أن له داراً وأقام على ذلك البينة فقال المحبوس هي لزيد سئل زيد فإن أكذبه بيعت الدار وقضى الدين لأن إقراره يسقط بإكذابه وإن صدقه زيد نظرت فإن أقام زيد بينة أن الدار له حكم له بالدار ولم تبع في الدين لأن له بينة ويداً بإقرار المحبوس ولصاحب الدين بينة من غير يد فقدمت بينة زيد وإن لم يكن لزيد بينة ففيه وجهان: أحدهما: أنه يحكم بها لزيد ولا تباع في الدين لأن بينة صاحب الدين بطلت بإكذاب المحبوس وبقي إقرار المحبوس بالدار لزيد والثاني: أنه لا يحكم بها لزيد وتباع في الدين لأن بينة صاحب الدين شهدت للمحبوس بالملك وله بقضاء الدين من ثمنها فإذا أكذبها المحبوس سقطت البينة في حقه ولم تسقط في حق صاحب الدين.
فصل: ثم ينظر في أمر الأوصياء والأمناء لأنهم يتصرفون في حق من لا يملك المطالبة بماله وهم الأطفال فإذا ادعى رجل أنه وصي للميت لم يقبل قوله إلا ببينة لأن الأصل عدم الوصية فإن أقام على ذلك بينة فإن كان عدلاً قوياً أقر على الوصية وإن كان فاسقاً لم يقر على الوصية لأن الوصية ولاية والفاسق ليس من أهل الولاية وإن كان عدلاً ضعيفاً ضم إليه غيره ليتقوى به وإن أقام يبنة أن الحاكم الذي كان قبله أنقذ الوصية إليه أقره ولم يسأله عن عدالته لأن الظاهر أنه لم ينفذ الوصية إليه إلا وهو عدل فإن كان

(3/391)


وصياً في تفرقة ثلثه فإن لم يفرقه فالحكم في إقراره على الوصية على ما ذكرناه وإن كان قد فرقه فإن كان عدلاً لم يلزمه شيء وإن كان فاسقاً فإن كانت الوصية لمعينين لم يلزمه شيء لأنه دفع الموصي به إلى مستحقه وإن كانت الوصية لغير معينين ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا يغرم لأنه دفع الماس إلى مستحقه فأشبه إذا كانت الوصية لمعينين والثاني: أنه يغرم ما فرق لأنه فرق ما لم يكن له تفرقته فغرمه كما لو فرق ما جعل تفرقته إلى غيره.
فصل: ثم ينظر في اللقطة والضوال وأمر الأوقاف العامة وغيرها من المصالح ويقدم الأهم فالأهم لأنه ليس لها مستحق معين فتعين على الحاكم النظر فيها.

(3/392)


باب ما يجب على القاضي في الخصوم والشهود
إذا حضر الخصوم واحداً بعد واحد قدم الأول فالأول لأن الأول سبق إلى حق له فقدم على من بعده كما لو سبق إلى موضع مباح وإن حضروا في وقت واحد أو سبق بعضهم واشكل السابق أقرع بينهم فمن خرجت له القرعة قدم لأنه لا مزية لبعضهم على بعض فوجب القديم بالقرعة كما قلنا فيمن أراد السفر ببعض نسائه فإن ثبت السبق لأحدهم فقدم السابق غيره على نفسه جاز لأن الحق له فجاز أن يؤثر به غيره كما لو سبق إلى منزل مباح ولا يقدم السابق في أكثر من حكومة لأنا لو قدمناه في أكثر من حكومة استوعب المجلس بدعاويه وأضر بالباقين وإن حضر مسافرون ومقيمون في وقت واحد نظرت فإن كان المسافرون قليلاً وهم على الخروج قدموا لأن عليهم ضرراً في المقام ولا ضرر على المقيمين وحكى بعض أصحابنا فيه وجهاً آخر أنهم لا يقدمون إلا بإذن المقيمين لتساويهم في الحضور وظاهر النص هو الأول وإن كان المسافرون مثل المقيمين أو أكثرلم يجز تقديمهم من غير رضى المقيمين لأن في تقديمهم إضراراً بالمقيمين والضرر لا يزال بالضرر وإن تقدم إلى الحاكم اثنان فادعى أحدهما: على الآخر حقاً فقال المدعي قدم السابق بالدعوى لأن ما يدعيه كل واحد منهما محتمل وللسابق بالدعوى حق السبق فقدم.
فصل: وعلى الحاكم أن يسوي بين الخصمين في الدخول والإقبال عليهما والاستماع منهما لما روت أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من ابتلي بالقضاء

(3/392)


بين المسلمين فليعدل بينهم في لحظه ولفظه وإشارته ومقعده" وكتب عمر رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري آس بين الناس في وجهك وعدلك ومجلسك حتى لا يطمع شريف في حيفك ولا ييأس ضعيف من عدلك ولأنه إذا قدم أحدهما: على الآخر في شيء من ذلك انكسر الآخر ولا يتمكن من استيفاء حجته والمستحب أن يجلس الخصمان بين يديه لما روى عبد الله بن الزبير قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجلس الخصمان بين القاضي ولأن ذلك أمكن لخطابهما وإن كان أحدهما: مسلماً والآخر ذمياً ففيه وجهان: أحدهما: أنه يسوي بينهما في المجلس كما يسوي بينهما في الدخول والإقبال عليهما والإسماع منهما والثاني: أنه يرفع المسلم على الذمي في المجلس وأجلس علياً كرم الله وجهه فيه فقال علي كرم الله وجهه لولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تسووا بينهم في المجالس" لجلست معه بين يديك ولا يضيف أحدهما: دون الآخر لما روي أن رجلاً نزل بعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه فقال له: ألك خصم قال: نعم قال تحول عنا فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يضيفن أحد الخصمين إلا ومعه خصمه" ولأن في إضافة أحدهم إظهار الميل وترك العدل ولا يسار أحدهما: ولا يلقنه حجة لما ذكرناه ولا يأمر أحدهما: بإقرار لأن فيه إضراراً به ولا بإنكار لأن فيه إضراراً بخصمه وإن ادعى أحدهما: دعوى غير صحيحة فهل له أن يلقنه كيف يدعي فيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي سعيد الإصطخري أنه يجوز لأنه لا ضرر على الآخر في تصحيح دعواه والثاني: أنه لا يجوز لأنه ينكسر قلب الآخر ولا يتمكن من استيفاء حجته وله أن يزن عن أحدهما: ما عليه لأن في ذلك نفعاً لهما وله أن يشفع لأحدهما: لأن الإجابة إلى المشفوع إليه إن شاء

(3/393)


شفعه وإن شاء لم يشفعه وإن مال قلبه إلى أحدهما: أو أحب أن يفلح أحدهما: على خصمه ولم يظهر ذلك منه بقول ولا فعل جاز لأنه لا يمكن التسوية بينهما في المحبة والميل بالقلب ولهذا قلنا يلزمه التسوية بين النساء في القسم ولا يلزمه التسوية بينهن في المحبة والميل بالقلب.
فصل: ولا ينتهر خصماً لأن ذلك يكسره ويمنعه من استيفاء الحجة وإن ظهر من أحدهما: لدد أو سوء أدب نهاه فإن عاد زبره وإن عاد عزره ولا يزجر شاهداً ولا يتعنته لأن ذلك يمنعه من الشهادة على وجهها ويدعوه إلى ترك القيام بتحمل الشهادة وأدائها وفي ذلك تضييع للحقوق.
فصل: فإن كان بين نفسين حكومة فدعا أحدهما: صاحبه إلى مجلس الحكم وجبت عليه إجابته لقوله تعال: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إذا دُعُوا إِلَى الله وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [النور: 51] فإن لم يحضر فاستعدى عليه الحاكم وجب عليه أن يعديه لأنه إذا لم يعده أدى ذلك إلى إبطال الحقوق فإن استدعاه الحاكم فامتنع من الحضور تقدم إلى صاحب الشرطة ليحضره وإن كان بينه وبين غائب حكومة ولم يكن عليه بينة فاستعدى الحاكم عليه فإن كان الغائب في موضع فيه حاكم كتب إليه لينظر بينهما وإن لم يكن حاكم وهناك من يتوس بينهم كتب إليه لينظر بينهما وإن لم يكن من ينظر بينهما لم يحضره حتى يحقق الدعوى لأنه يجوز أن يكون ما يدعيه ليس بحق عنده كالشفعة للجار وثمن الكلب وقيمة خمر النصراني فلا يكلفه تحمل المشقة للحضور لما لا يقضي به ويخالف الحاضر في البلد حيث قلنا إنه يحضر قبل أن يحقق المدعي دعواه لأنه لا مشقة عليه في الحضور فإن حقق الدعوى على الغائب أحضره لما روي أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كتب إلى المهاجرين أمية أن ابعث إلي بقيس بن

(3/394)


مكشوح في وثاق فأحلفه خمسين يوماً على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما قتل دادويه ولأنا لولم نلزمه الحضور جعل البعد طريقاً إلى إبطال الحقوق فإن استعداه على امرأة فإن كانت برزة فهي كالجل لأنها كالرجل في الخروج للحاجات وإن كانت غير برزة لم تكلف الحضور بل توكل من يخاطب عنها وإن توجهت عليها يمين بعض إليها من يحلفها لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال يا أنيس اغد على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها فبعث من يسمع إقرارها ولم يكلفها الحضور.

(3/395)


باب صفة القضاء
إذا حضر عند القاضي خصمان وادعى أحدهما: على الآخر حقاً يصح فيه دعواه وسأل القاضي مطالبة الخصم بالخروج من دعواه طالبه وإن لم يسأله مطالبة الخصم ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا يجوز للقاضي مطالبته لأن ذلك حق للمدعي فلا يجوز استيفاؤه من غير إذنه والثاني: وهو المذهب أنه يجوز له مطالبته لأن شاهد الحال يدل على الإذن في المطالبة فإن طولب لم يخل إما أن يقرأ أو ينكر أولا يقر ولا ينكر فإن أقر لزمه الحق ولا يحكم به إلا بمطالبة المدعي لأن الحكم حق فلا يستوفيه من غير إذنه فإن طالبه بالحكم حكم له عليه وإن أنكر فإن كان المدعي لا يعلم أن له إقامة البينة قال له القاضي ألك بينة وإن كان يعمل فله أن يقول ذلك وله أن يسكت وإن لم تكن له بينة وكانت الدعوى في غير دم فله أن يحلف المدعى عليه ولا يجوز للقاضي إحلافه إلا بمطالبة المدعي لأنه حق له فلا يستوفيه من غير إذنه وإن أحلفه قبل المطالبة لم يعتد بها لأنها يمين قبل وقتها وللمدعي أن يطالب بإعادتها لأن اليمين الأولى لم تكن يمينه وإن أمسك المدعي عن إحلاف المدعى عليه ثم أراد أن يحلفه بالدعوى المتقدمة جاز لأنه لم يسقط حقه من اليمين وإنما أخرها وإن قال أبرأتك من اليمين سقط حقه منها في هذه الدعوى وله أن يستأنف الدعوى لأن حقه لم يسقط بالإبراء من اليمين فإن استأنف الدعوى فأنكر المدعى عليه فله أن يحلفه لأن هذه الدعوى غير الدعوى التي أبرأه فيها من اليمين فإن حلف سقطت الدعوى لما روى وائل بن حجر أن رجلاً من حضرموت ورجلاً من كندة أيتا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الحضرمي هذا غلبني على أرض ورثتها من أبي وقال الكندي: أرضي وفي يدي أزرعها لا حق له فيها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "شاهداك أو

(3/395)


يمينه" قال إنه لا يتورع عن شيء فقال: "ليس له إلا ذلك" فإن امتنع عن اليمين لم يسأل عن سبب امتناعه فإن ابتدأ وقال امتنعت لأنظر في الحساب أمهل ثلاثة أيام لأنها مدة قريبة ولا يمهل أكثر منها لأنها مدة كثيرة فإن لم يذكر عذراً لامتناعه جعله ناكلاً ولا يقضى عليه بالحق بنكوله لأن الحق إنما يثبت بالإقرار أو البينة والنكول ليس بإقرار ولا بينة فإن بذلك اليمين بعد النكول لم يسمع لأن بنكوله ثبت للمدعي حق وهو اليمين فلم يجز إبطاله عليه فإن لم يعلم المدعي أن اليمين صارت إليه قال له القاضي أتحلف وتستحق وإن كان يعمل فله أن يقول ذلك وله أن يسكت وإن قال أحلف ردت اليمين عليه لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم رد اليمين على صاحب الحق وروي أن المقداد استقرض من عثمان مالاً فتحاكما إلى عمر فقال المقداد هو أربعة آلاف وقال عثمان سبعة آلاف فقال المقداد لعثمان: احلف أنه سبعة آلاف فقال عمر: إنه أنصفك فلم يحلف عثمان فلما ولى المقداد قال عثمان: والله لقد أقرضته سبعة آلاف فقال عمر: لم لم تحلف فقال: خشيت أن يرافق ذلك به قدر بلاء فيقال بيمينه واختلف قول الشافعي رحمه الله تعالى في نكول المدعي عليه مع يمين المدعي فقال في أحد القولين هما بمنزلة البينة لأنه حجة من جهة المدعي وقال في القول الآخر هما بمنزلة الإقرار وهو الصحيح لأن النكول صادر من جهة المدعى عليه واليمين ترتب عليه وله فصار كإقراره فإن نكل المدعي عن اليمين سئل عن سبب نكوله والفرق بينه وبين المدعى عليه حيث لم يسأل عن سبب نكوله أن بنكول المدعى عليه وجب للمدعي حق في رد اليمين والقضاء له فلم يجز سؤال المدعى عليه وبنكول المدعي لم يجب لغيره حق فيسقط بسؤاله فإن سئل فذكر أنه امتنع من اليمين لأن له بينة يقيمها وحساباً ينظر فيه فهو على حقه من اليمين ولا يضيق عليه في المدة ويترك ما ترك المدعى عليه يتأخر حق المدعي في الحكم له وبترك المدعي لا يتأخر إلا حقه وإن قال امتنعت لأني لا أختار أن أحلف كم بنكوله فإن بذل اليمين بعد النكول لم يقبل في هذه الدعوى لأنه أسقط حقه منها فإن عاد في مجلس آخر واستأنف الدعوى وأنكر المدعى عليه وطلب يمينه حلف فإن حلف ترك وإن نكل ردت اليمين على المدعي فإذا حلف حكم له لأنها يمين في غير

(3/396)


الدعوى التي حكم فيها بنكوله فإن كان له شاهد واختار أن يحلف المدعى عليه جاز وتنتقل اليمين إلى جنبة المدعى عليه فإن أراد أن يحلف مع شاهده لم يكن له في هذا المجلس لأن اليمين انتقلت عنه إلى جنبة غيره فلم تعد إليه فإن عاد في مجلس آخر واستأنف الدعوى جاز أن يقيم الشاهد ويحلف معه لأن حكم الدعوى الأولى قد سقط وإن حلف المدعى عليه في الدعوى الأولى سقطت عنه المطالبة وإن نكل عن اليمين لم يقض عليه بنكوله وشاهد المدعي لأن للشاهد معنى تقوى به جنبة المدعي فلم يقض به مع النكول من غير يمين كاللوث في القسامة وهل ترد اليمين على المدعي ليحلف مع الشاهد فيه قولان: أحدهما: أنه لا ترد لأنها كانت في جنبته وقد أسقطت وصارت في جنبة غيره فلم تعد إليه كالمدعى عليه إذا نكل عن اليمين فردت إلى المدعي فنكل فإنها لا ترد على المدعى عليه والقول الثاني: وهو الصحيح أنها ترد لأن هذه اليمين غير الأول لأن سبب الأولى قوت جنبة المدعي بالشاهد وسبب الثانية قوة جنبته بنكول المدعى عليه واليمين الأولى لا يحكم بها إلا في المال وما يقصد به المال والثانية: يقضي بها في جميع الحقوق التي تسمع فيها الدعوى فلم يكن سقوط إحداهما موجباً لسقوط الأخرى فإن قلنا إنها لا ترد حبس المدعى عليه حتى يحلف أو يقر لأنه تعين عليه ذلك وإن قلنا إنها ترد حلف مع الشاهد واستحق.
فصل: وإن كانت الدعوى في موضع لا يمكن رد اليمين على المدعى بأن ادعى على رجل ديناً ومات المدعي ولا وارث له غير المسلمين وأنكر المدعى عليه ونكل عن اليمين ففيه وجهان ذكرهما أبو سعيد الإصطخري: أحدهما: أنه يقضي بنكوله لأنه لا يمكن رد اليمين على الحاكم لأنه لا يجوز أن يحلف عن المسلمين لأن اليمين لا تدخلها النيابة ولا يمكن ردها على المسلمين لأنهم لا يتعينون فقضى بالنكول لموضع الضرورة والثاني: وهو المذهب أنه يحبس المدعى عليه حتى يحلف أو يقر لأن الرد لا يمكن لما ذكرناه والقضاء بالنكول لا يجوز لما قدمناه لأنه إما أن يكون صادقاً في إنكاره فلا ضرر عليه في اليمين أو كاذباً فيلزمه الإقرار وإن ادعى وصي ديناً لطفل في حجره على رجل وأنكر الرجل ونكل عن اليمين وقف إلى أن يبلغ الطفل فيحلف لأنه لا يمكن

(3/397)


رد اليمين على الوصي لأن اليمين لا تدخلها النيابة ولا على الطفل في الحال لأنه لا يصح يمينه فوجب التوقف إلى أن يبلغ.
فصل: وإن كان للمدعي بينة عادلة قدمت على يمين المدعى عليه لأنها حجة لا تهمة فيها لأنها من جهة غيره واليمين حجة يتهم فيها لأنها من جهته ولا يجوز سماع البينة ولا الحكم بها إلا بمسألة المدعي لأنه حق له فلا يستوفي إلى بإذنه فإن قال المدعى عليه أحلفوه أنه يستحق ما شهدت به البينة لم يحلف لأن في ذلك طعناً في البينة العادلة وإن قال أبراني منه فحلفوه أنه لم يبرئني منه أو قضيته فحلفوه إني لم أقضه حلف لأنه ليس في ذلك قدح في البينة وما يدعيه محتمل فحلف عليه وإن كانت البينة غير عادلة قال له القاضي زدني في شهودك وإن قال المدعي لي بينة غائبة وطلب يمين المدعى عليه أحلف لأن الغائبة كالمعدومة لتعذر إقامتها فإن حلف المدعى عليه ثم حضرت البينة وطلب سماعها والحكم بها وجب سماعها والحكم بها لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال البينة العادلة أحق من اليمين الفاجرة ولأن البينة كالإقرار ثم يجب الحكم بالإقرار بعد اليمين فكذلك بالبينة وإن قال لي بينة حاضرة ولكني أريد أن أحلفه حلف لأنه قد يكون له غرض في إحلافه بأن يتورع عن اليمين فيقر وإثبات الحق بالإقرار أقوى وأسهل من إثباته بالبينة وإن قال ليس لي بينة حاضرة ولا غائبة أو قال كل بينة تشهد لي فهي كاذبة وطلب إحلافه فحلف ثم أقام البينة على الحق ففيه ثلاثة أوجه: أحدها أنها لا تسمع لأنه كذبه بقوله والثاني: أنه إن كان هو الذي استوثق بالبينة لم تسمع لأنه كذبها وإن كان غيره المستوثق بالبينة سمعت لأنه لم يعلم بالبينة فرجع قوله لا بينة لي إلى ما عنده والثالث أنها تسمع بكل حال وهو الصحيح لأنه يجوز أن يكون ما علم وإن علم فلعله نسي فرجع قوله لا بينة لي إلى ما يعتقده.
فصل: وإن قال المدعي لي بينة بالحق لم يجز له ملازمة الخصم قبل حضورها لقوله صلى الله عليه وسلم: "شاهداك أو يمينه ليس لك إلا ذلك". وإن شهد له شاهدان عدلان عند الحاكم وهولا يعلم أن له دفع البينة بالجرح قال له قد شهد عليك فلان وفلان وقد ثبتت عدالتهما عندي وقد أطردتك جرحهما وإن كان يعلم فله أن يقول وله أن يسكت فإن

(3/398)


قال المشهود عليه لي بينة بجرحهما نظر فإن لم يأت بها حكم عليه لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال في كتابه إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه واجعل لمن ادعى حقاً غائباً أمدا ينتهي إليه فإن أحضر بينته أخذت له حقه وإلا استحللت عليه القضية فإنه أنفى للشك وأجلى للعمى ولا ينظر أكثر من ثلاثة أيام لأنه كثير وفيه إضرار بالمدعي وإن قال لي بينة بالقضاء أو الإبراء أمهل ثلاثة أيام فإن لم يأت بها حلف المدعي أنه لم يقضه ولم يبرئه ثم يقضي له لما ذكرناه وله أن يلازمه إلى أن يقيم البينة بالجرح أو القضاء لأن الحق قد ثبت له في الظاهر وإن شهد له شاهدان ولم تثبت عدالتهما في الباطن فسأل المدعي أن يحبس الخصم إلى أن يسأل عن عدالة الشهود ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي إسحاق وهو ظاهر المذهب أنه يحبس لأن الظاهر العدالة وعدم الفسق والثاني: وهو قول أبي سعيد الإصطخري أنه لا يحبس لأن الأصل براءة ذمته وإن شهد له شاهد واحد وسأل أن يحبسه إلى أن يأتي بشاهد آخر ففيه قولان: أحدهما: أنه يحبس كما يحبس إذا جهل عدالة الشهود والثاني: أنه لا يحبس وهو الصحيح لأنه لم يأت بتمام البينة ويخالف إذا جهل عدالتهم لأن البينة تم عددها والظاهر عدالتها وقال أبو إسحاق: إن كان الحق مما يقضي فيه بالشاهد واليمين حبس قولاً واحداً لأن الشاهد الواحد حجة فيه لأنه يحلف معه.
فصل: وإذا علم القاضي عدالة الشاهد أو فسقه عمل بعمله في قبوله ورده وإن علم حال المحكوم فيه نظرت فإن كان ذلك في حق الآدمي ففيه قولان: أحدهما: أنه لا يجوز أن يحكم فيه بعلمه لقوله عليه الصلاة والسلام للحضرمي: "شاهداك أو يمينه ليس له إلا ذلك" ولأنه لو كان علمه كشهادة اثنين لانعقد النكاح به وحده والثاني: وهو الصحيح وهو اختيار المزني رحمه الله أنه يجوز أن يحكم بعلمه لما روى أبو سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يمنع أحدكم هيبة الناس أن يقول في حق إذا رآه أو علمه أو

(3/399)


سمعه" 1 ولأنه إذا جاز أن يحكم بما شهد به الشهود وهو من قولهم على ظن فلأن يجوز أن يحكم بما سمعه أو رآه وهو على علم أولى وإن كان ذلك في حق الله تعالى ففيه طريقان: أحدهما: وهو قول أبي العباس وأبي علي بن أبي هريرة أنها على قولين كحقوق الآدميين والثاني: وهو قول أكثر أصحابنا أنه لا يجوز أن يحكم فيه بعلمه قولاً واحداً لما روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال: لو رأيت رجلاً على حد لم أحده حتى تقوم البينة عندي ولأنه مندوب إلى ستره ودرئه والدليل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: "هلا سترته بثوبك يا هزال". فلم يجز الحكم فيه بعلمه.
فصل: وإن سكت المدعى عليه ولم يقر ولم ينكر قال له الحاكم إن أجبت وإلا جعلتك ناكلاً والمستحب أن يقول له ذلك ثلاثاً فإن لم يجب جعله ناكلاً وحلف المدعي وقضى له لأنه لا يخلوا إذا أجاب أن يقر أو ينكر فإن أقر فقد قضى عليه بما يجب على المقر وإن أنكر فقد وصل إنكاره بالنكول عن اليمين فقضينا عليه بما يجب على المنكر إذا نكل عن اليمين.
فصل: وإذا تحاكم إلى الحاكم أعجمي لا يعرف لسانة لم يقبل في الترجمة إلا عدلين لأنه إثبات قول يقف الحكم عليه فلم يقبل إلا من عدلين كالإقرار وإن كان الحق مما يثبت بالشاهد والمرأتين قبل ذلك في الترجمة وإن كان مما لا يقبل فيه إلا ذكرين لم يقبل في الترجمة إلا ذكرين فإن كان إقراراً بالزنا ففيه قولان: أحدهما: أنه يثبت بشاهدين والثاني: أنه لا يثبت إلا بأربعة.
فصل: وإن حضر رجل عند القاضي وادعى على غائب عن البلد أو على حاضر فهرب أو على حاضر في البلد استتر وتعذر إحضاره فإن لم يكن بينة لم يسمع دعواه لأن استماعها لا يفيه وإن كانت معه بينة سمع دعواه وسمعت بينته لأنا لولم نسمع جعلت الغيبة والاستتار طريقاً إلى إسقاط الحقوق التي نصب الحاكم لحفظها ولا يحكم عليه إلا أن يحلف المدعي أنه لم يبرئ من الحق لأنه يجوز أن يكون قد حدث بعد ثبوته بالبينة إقراء أو قضاء أو حوالة ولهذا لو حضر من عليه الحق وادعى البراء بشيء من ذلك
__________
1 رواه الترمذي في كتاب الفتن باب 26. ابن ماجه في كتاب الفتن باب 20. أحمد في مسنده 3/5، 19.

(3/400)


سمعت دعواه وحلف عليه المدعي فإذا تعذر حضوره وجب على الحاكم أن يحتاط له ويحلف عليه المدعي وإن ادعى على حاضر في البلد يمكن إحضاره ففيه وجهان: أحدهما: أنه تسمع الدعوى والبينة ويقضى بها بعد ما يحلف المدعي لأنه غائب عن مجلس الحكم فجاز القضاء عليه كالغائب عن البلد المستتر في البلد والثاني: أنه لا يجوز سماع البينة عليه ولا الحكم وهو المذهب لأنه يمكن سؤاله فيه يجوز القضاء عليه قبل السؤال كالحاضر في مجلس الحكم وإن ادعى على ميت سمعت البينة وقضى عليه فإن كان له واره كان إحلاف المدعي إليه وإن لم يكن له وارث فعلى الحاكم أن يحلفه ثم يقضي له وإن كان على صبي سمعت البينة وقضى عليه بعدما يحلف المدعي لأنه تعذر الرجوع إلى جوابه فقضى عليه مع يمين المدعي كالغائب والمستتر وإن حكم على الغائب ثم قدم أو على الصبي ثم بلغ كان على حجته في المدح في البينة والمعارضة بينة يقيمها على لا قضاء أو الإبراء.
فصل: ويجوز للقاضي أن يكتب إلى القاضي فيما ثبت عنده ليحكم به ويجوز أن يكتب إليه فيما حكم به لينفذه لما روى الضحاك ابن قيس قال كتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها ولأن الحاجة تدعوا إلى كتاب القاضي إلى القاضي فيما ثبت عنده ليحكم به وفيما حكم به لينفذه فإن كان الكتاب فيما حكم به جاز قبول ذلك في المسافة القريبة والبعيدة لأن ما حكم به يلزم كل أحد إمضاؤه وإن كان فيما ثبت عنده لم يجز قبوله إذا كان بينهما مسافة لا تقصر فيها الصلاة ن لأن القاضي الكاتب فيما حمل شهود الكتاب كشاهد الأصل والشهود الذين يشهدون بما في الكتاب كشهود الفرع وشاهد الفرع لا يقبل مع قرب شاهد الأصل.
فصل: ولا يقبل الكتاب إلا أن يشهد به شاهدان وقال أبو ثور يقبل من غير شهادة لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكتب ويعمل بكتبه من غير شهادة وقال أبو سعيد الإصطخري: إذا عرف المكتوب إليه خط القاضي الكاتب وختمه جاز قبوله وهذا خطأ لأن الخط يشبه الخط والختم يشبه الختم فلا يؤمن أن يزور على الخط والختم وإذا أراد إنفاذ الكتاب أحضر شاهدين ويقرأ الكتاب عليهما أو يقرأ غيره وهو يسمعه والمستحب أن ينظر الشاهدان في الكتاب حتى لا يحذف منه شيء وإن لم ينظرا جاز لأنهما يؤديان ما سمعا وإذا وصلا إلى القاضي المكتوب إليه قرآ الكتاب عليه وقالا تشهدان هذا الكتاب

(3/401)


كتاب فلان إليك وسمعناه وأشهدنا أنه كتب إليك بما فيه وإن لم يقرآ الكتاب ولكنهما سلماه إليه وقالا نشهد أنه كتب إليك بهذا لم يجز لأنه ربما زور الكتاب عليهما وإن انكسر ختم الكتاب لم يضر لأن المعول على ما فيه وإن محى بعضه فإن كانا يحفظان ما فيه أو معهما نسخة أخرى شهدا وإن لم يحفظاه ولا معهما نسخة أخرى لم يشهدا لأنهما لا يعلمان ما امحى منه.
فصل: وإن مات القاضي الكاتب أو عزل جاز للمكتوب إليه قبول الكتاب والعمل به لأنه إن كان الكتاب بما حكم به وجب على كل من بلغه أن ينفذه في كل حال وإن كان الكتاب بما ثبت عنده فالكاتب كشاهد الأصل وشهود الكتاب كشاهد الفرع وموت شاهد الأصل لا يمنع من قبول شهادة شهود الفرع إن فسق الكاتب ثم وصل كتابه فإن كان ذلك فيما حكم به لم يؤثر فسقه لأن الحكم لا يبطل بالفسق الحارث بعده وإن كان فيما ثبت عنده لم يجز الحكم به لأنه كشاهد الأصل وشاهد الأصل إذا فسق قبل الحكم لم يحكم بشهادة شاهد الفرع وإن مات القاضي المكتوب إليه أو عزل أوولي غيره قبل الكتاب لأن المعول على ما حفظه شهود الكتاب وتحملوه ومن تحمل شهادة وجب على كل قاض أن يحكم بشهادته.
فصل: فإن وصل الكتاب إلى المكتوب إليه فحضر الخصم وقال لست فلان ابن فلان فالقول قوله مع يمينه لأن الأصل أنه لا مطالبة عليه فإن أقام المدعي بينة أنه فلان ابن فلان فقال أنا فلان بن فلان إلا أني غير المحكوم عليه لم يقبل قوله إلا أن يقيم البينة أن له من يشاركه في جميع ما وصف به لأن الأصل عدم من يشاركه فلم يقبل قوله من غير بينة وإن أقام بينة أن له من يشاركه في جميع ما وصف به توقف عن الحكم حتى يعرف من المحكوم عليه منهما وإذا حكم المكتوب إليه على المدعى عليه بالحق فقال المحكوم عليه اكتب إلى الحاكم الكاتب إنك حكمت علي حتى لا يدعي علي ثانياً ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي سعيد الإصطخري رحمه الله أنه يلزمه لأنه لا يأمن أن يدعي ثانياً ويقيم عليه البينة فيقضي عليه ثانياً والثاني: أنه لا يلزمه لأن الحاكم إنما يكتب ما حكم به أوثبت عنده والكاتب هو الذي حكم أوثبت عنده دون المكتوب إليه.

(3/402)


فصل: إذا ثبت عند القاضي حق بالإقرار فسأله المقر له أن يشهد على نفسه بما ثبت عنده من الإقرار لزمه ذلك لأنه لا يؤمن أن ينكر المقر فلزمه الإشهاد ليكون حجة له إذا أنكر وإن ثبت عنده الحق بيمين المدعي غير الإشهاد وإن ثبت عنده الحق بالبينة فسأله المدعي الإشهاد ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا يجب لأن له بالحق بينة فلم يلزم القاضي تجديد بينة أخرى والثاني: أنه يلزمه لأن في إشهاده على نفسه تعديلاً لبينته وإثباتاً لحقه وإلزاماً لخصمه فإن ادعى عليه حقاً فأنكره وحلف عليه وسأله الحالف أن يشهد على براءته لزمه ليكون حجة له في سقوط الدعوى حتى لا يطالبه بالحق مرة أخرى وإن سأله أن يكتب له محضراً في هذه المسائل كلها وهو أن يكتب ما جرى وما ثبت به الحق فإن لم يكن عنده قرطاس من بيت المال ولم يأته المحكوم له بقرطاس لم يلزمه أن يكتب لأن عليه أن يكتب وليس عليه أن يغرم وإن كان عنده قرطاس من بيت المال أو أتاه صاحب الحق بقرطاس فهل يلزمه أن يكتب المحضر فيه وجهان: أحدهما: أنه يلزمه لأنه وثيقة بالحق فلزمه كالإشهاد على نفسه والثاني: أنه لا يلزمه لأن الحق يثبت باليمين أو بالبينة دون المحضر وإن سأله أن يسجل له وهو أن يذكر ما يكتبه في المحضر ويشهد على إنفاذه ويسجل له فهل يلزم ذلك أم لا على ما ذكرناه في كتب المحضر وما يكتب من المحاضر والسجلات يكتب في نسختين إحداهما تسلم إلى المحكوم له والأخرى تكون في ديوان الحكم فإن حضر عند القاضي رجلان لا يعرفهما وحكم بينهما ثم سأل المحكوم له كتب محضر أو سجل كتب حضر إلي رجلان قال أحدهما: أنا فلان بن فلان وقال الآخر: أنا فلان بن فلان ويحليهما ويذكر ما جرى بينهما ويشهد على ذلك.
فصل: وإن اجتمعت عنده محاضر وسجلات كتب على كل محضر اسم المتداعيين ويضم ما اجتمع منها في كل شهر أوفي كل سنة على قدر قلتها وكثرتها وضم بعضها إلى بعض ويكتب عليها محاضر شهر كذا وكذا من سنة كذا ليسهل عليه طلبته إذا احتاج إليه وإن حضر رجلان عند القاضي فادعى أحدهما: أن له في ديوان الحكم حجة على خصمه فوجدها فإن كان حكماً حكم به غيره لم يشمل به إلا أن يشهد به شاهدان أن هذا حكم به فلان القاضي ولا يرجع في ذلك إلى الخط والختم فإنه يحتمل التزوير في الخط والختم وإن كان حكماً حكم هو به فإن كان ذاكراً للحكم به عالماً به عمل به وألزم الخصم حكمه وإن كان غير ذاكر لم يعمل به لأنه يجوز أن يكون قد زور على

(3/403)


خطه وختمه وإن شهد اثنان عليه أنه حكم به لم يرجع إلى شهادتهما لأنه يشك في فعله فلا يرجع فيه إلى قول غيره ما لو شك في فرض من فروض صلاته فإن شهد الشاهدان على حكمه عند حاكم آخر أنفذ ما شهدا به فإن شهد شاهدان أن الأول توقف في شهادتهما لم يجز للثاني أن ينفذ الحكم الذي شهدا به لأن الشهود فرع للحاكم الأول فإذا توقف الأصل لم يجز الحكم بشهادة الفرع كما لو شهد شاهدان على شهادة شاهد الأصل ثم شهد شاهدان أن شاهد الأصل توقف في الشهادة.
فصل: إذا اتضح الحكم للقاضي بين الخصمين فالمستحب أن يأمرهما بالصلح فإن لم يفعلا لم يجز تردادهما لأن الحكم لازم فلا يجوز تأخيره من غير رضا من له الحكم.
فصل: إذا قال القاضي حكمت لفلان بكذا قبل قوله لأنه يملك الحكم فقبل الإقرار به كالزوج لما ملك الطلاق قبل إقراره به وإن عزل ثم قال حكمت لفلان بكذا لم يقبل إقراره لأنه لا يملك الحكم فلم يملك الإقرار به وهل يكون شاهداً في ذلك فيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي سعيد الإصطخري أنه يكون شاهداً لأنه ليس فيه أكثر من أنه يشهد على فعل نفسه وذلك لا يوجب رد شهادته كما لو قالت امرأة أرضعت هذا الصبي والثاني: وهو المذهب أنه لا يكون شاهداً لأن شهادته بالحكم تثبت لنفسه العدالة لأن الحكم لا يكون إلا من عدل فتلحقه التهمة في هذه الهادة فلم تقبل وخالف المرضعة لأن شهادتها بالرضاع لا تثبت عدالة لنفسها لأن الرضاع يصح من غير عدل ولأن المغلب في الرضاع فعل المرتضع ولهذا يصح به دونها والمغلب في الحكم فعل الحاكم فيكون شهادته على فعله فلم يقبل. وبالله التوفيق.

(3/404)


باب القسمة
تجوز قسمة الأموال المشتركة لقوله عز وجل: {وَإذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً} [النساء: 8] ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قسم غنائم بدر بشعب يقال له الصفراء وقسم غنائم خيبر على ثمانية عشر بينهم وقسم غنائم حنين بأوطاس وقيل بالجعرانة ولأن الشرطاء حاجة إلى القسمة ليتمكن كل واحد منهم من التصرف في ماله على الكمال ويتخلص من كثرة الأيدي وسوء المشاركة.
فصل: ويجوز لهم أن يتقاسموا بأنفسهم ويجوز أن ينصبوا من يقسم بينهم ويجوز أن يرفعوا إلى الحاكم لينصب من أنفسهم بينهم ويجب أن يكون القاسم عالماً بالقسمة

(3/404)


ليوصل كل واحد منهم إلى حقه كما يجب إن كان الحاكم عالماً ليحكم بينهم بالحق فإن كان القاسم من جهة الحاكم لم يجز أن يكون فاسقاً ولا عبداً لأنه نصيبه لألزام الحكم فلم يجز أن يكون فاسقاً ولا عبداً كالحاكم فإن لم يكن فيها تقويم جاز قاسم واحد وإن كان فيها تقويم لم يجز أقل من اثنين لأن التقويم لا يثبت إلا باثنين وإن كان فيها خرص ففيه قولان: أحدهما: أنه يجوز أن يكون الخارص واحداً والثاني: أنه يجب أن يكون الخرص اثنين.
فصل: فإن كان القاسم نصبه الحاكم كانت أجرته من سهم المصالح لما روي أن علياً رضي الله عنه أعطى القاسم من بيت المال ولأنه من المصالح فكانت أجرته من سهم المصالح فإن لم يكن في بيت المال شيء وجبت على الشركاء على قدر أملاكهم لأنه مؤنة تجب لمال مشترك فكانت على قدر الملك كنفقة العبيد والبهائم المشتركة وإن كان القاسم نصبه الشركاء جاز أن يكون فاسقاً وعبداً لأنه وكيل لهم وتجب أجرته عليهم على ما شرطوا لأنه أجير لهم.
فصل: وإن كان في القسمة رد فهو بيع لأن صاحب الرد بذل المال في مقابلة ما حصل له من حق شريكه عوضاً وإن لم يكن فيها رد ففيه قولان: أحدهما: أنها بيع لأن كل جزء من المال مشترك بينهما فإذا أخذ نصف الجميع فقد باع حقه بما حصل له من حق صاحبه والقول الثاني أنها فرز النصيبين وتمييز الحقين لأنها لو كانت بيعاً لم يجز تعليقه على ما تخرجه القرعة ولأنها لو كانت بيعاً لافتقرت إلى لفظ التمليك ولثبتت فيها الشفعة ولما تقدر بقدر حقه كسائر البيوع فإن قلنا إنها بيع لم يجز فيما لا يجوز بيع بعضه ببعض كالرطب والعسل الذي انعقدت أجزاؤه بالنار وإن قلنا إنها فرز النصيبين جاز وإن قسم الحبوب والأدهان فإن قلنا إنها بيع لم يجز أن يتفرقا من غير قبض ولم يجز قسمتها إلا بالكيل كما لا يجوز في البيع وإن قلنا إنها فرز النصيبين لم يحرم التفرق فيها قبل التقابض ويجوز قسمتها بالكيل والوزن وإن كانت بينهما ثمرة على شجرة فإن قلنا إن القسمة بيع لم تجز قسمتها خرصاً كما لا يجوز بيع بعضها ببعض خرصاً وإن قلنا إنها تمييز الحقين فإن كانت ثمرة غير الكرم والنخل لم تجز قسمتها لأنها لا يصح فيها الخرص وإن كانت ثمرة النخل والكرم جاز لأنه يجوز خرصها للفقراء في الزكاة فجاز للشركاء.

(3/405)


فصل: وإن وقف على قوم نصف أرض وأراد أهل الوقف أن يقاسموا صاحب الطلق فإن قلنا إن القسمة بيع لم يصح وإن قلنا إنها تمييز الحقين نظرت فإن لم يكن فيها رد صحت وإن كان فيها رد فإن كان من أهل الوقف جاز لأنهم يتنازعون الطلق وإن كان من أصحاب الطلق لم يجز لأنهم يتنازعون الوقف.
فصل: وإن طلب أحد الشريكين القسمة وامتنع الآخر نظرت فإن لم يكن على واحد منهم ضرر في القسمة كالحبوب والأدهان والثياب الغليظة وما تساوت أجزاؤه من الأرض والدور أجبر الممتنع لأن الطالب يريد أن ينتفع بماله على الكمال وأن يتخلص من سوء المشاركة من غير إضرار بأخذ فوجبت إجابته إلى ما طلب وإن كان عليهما ضرر كالجواهر والثياب المرتفعة التي تنقص قيمتها بالقطع والرحى الواحدة والبشر والحمام الصغير لم يجبر الممتنع لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا إضرار" 1. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن إضاعة المال ولأنه إتلاف مال وسفه يستحق بها الحجر فلم يجبر عليه وإن كان على أحدهما: ضرر دون الآخر نظرت فإن كان الضرر على الممتنع أجبر عليها وقال أبو ثور رحمه الله: لا يجبر لأنها قسمة فيها ضرر فلم يجبر عليها كما لو دخل الضرر عليهما وهذا خطأ لأنه يطلب حقاً له فيه منفعة فوجبت الإجابة إليه وإن كان على المطلوب منه ضرر كما لو كان له دين على رجل لا يملك إلا ما يقضي به دينه وإن كان الضرر على الطالب دون الآخر ففيه وجهان: أحدهما: أنه يجبر لأنه قسمة لا ضرر فيها على أحدهما: فأجبر الممتنع كما لو كان الضرر على الممتنع دون الطالب والثاني: أنه لا يجبر وهو الصحيح لأنه يطلب مالا يستضر به فلم يجبر الممتنع ويخالف إذا لم يكن على الطالب ضرر لأنه يطلب ما ينتفع به وهذا يطلب ما يستضر به وذلك سفه فلم يجبر الممتنع.
فصل: وإن كان بينهما دور أو أراض مختلفة في بعضها نخل وفي بعضها شجر،
__________
1 رواه ابن ماجه في كتاب الأحكام باب 17. الموطأ في كتاب الأقضية حديث 31. أحمد في مسنده 5/327.

(3/406)


أو بعضها يسقى بالسيح وبعضها يسقي بالناضح وطلب أحدهما: أن يقسم بينهما أعياناً بالقيمة وطلب الآخر قسمة كل عين قسم كل عين لأن كل واحد منهما له حق في الجميع فجاز له أن يطالب بحقه في الجميع وإن كان بينهما عضائد متلاصقة وأراد أحدهما: أن يقسم أعياناً وطلب الآخر أن يقسم كل واحد منهما على الإنفراد ففيه وجهان: أحدهما: أنها تقسم أعياناً كالدار الواحدة إذا كان فيها بيوت والثاني: أنه يقسم كل واحدة منهما لأن كل واحدة على الإنفراد فقسم كل واحد منهما كالدور المتفرقة.
فصل: فإن كان بينهما دار وطلب أحدهما: أن تقسم فيجعل العلو لأحدهما: والسفل للآخر وامتنع الآخر لم يجبر الممتنع لأن العلو تابع للعرصة في القسمة ولهذا لو كان بينهما عرصة وطلب أحدهما: القسمة وجبت القسمة ولو كان بينهما غرفة فطلب أحدهما: القسمة لم يجب ولا يجوز أن يجعل التابع في القسمة متبوعاً
فصل: وإن كان بين ملكهما عرصة حائط فأراد أن تقسم طولاً فيجعل لكل واحد منهما نصف الطول في كمال العرض واتفقا عليه جاز وإن طلب أحدهما: ذلك وامتنع الآخر أجبر عليها لأنه لا ضرر فيها وإن أرادا قسمتها عرضاً في كمال الطول واتفقا عليه جاز وإن طلب أحدهما: وامتنع الآخر ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا يجبر لأنه لا تدخله القرعة لأنه إذا أقرع بينهما ربما صار بهما مال كل واحد منهما إلى ناحية ملك الآخر ولا ينتفع به وكل قسمة لا تدخلها القرعة لا يجبر عليها كالقسمة التي فيها رد والثاني: وهو الصحيح أنه لا يجبر عليها لأنه ملك مشترك يمكن كل واحد من الشريكين أن ينتفع بحصته إذا قسم فأجبر على القسمة كما لو أرادا أن يقسماها طولاً فإن كان بينهما حائط فأراد قسمته نظرت فإن أراد قسمته طولاً في كمال العرض واتفقا عليه جاز وإن أراد ذلك واحد وامتنع الآخر ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا يجبر لأنه لا بد من قطع الحائط وفي ذلك إتلاف والثاني: أنه يجبر وهو الصحيح لأنه تمكن قسمته على وجه ينتفعان به فأجبرا عليها كالعرصة فإن أرادا قسمته عرضاً في كمال الطول واتفقا عليها جاز وإن طلب أحدهما: وامتنع الآخر لم يجبر لأن ذلك إتلاف وإفساد.
فصل: وإن كان بينهما أرض مختلفة الأجزاء بعضها عامر وبعضها خراب أو بعضها قوي وبعضها ضعيف أو بعضها شجر أو بناء وبعضها بياض أو بعضها يسقي بالسيح

(3/407)


وبعضها بالناضح نظرت فإن أمكن التسوية بين الشريكين في جيده ورديئه بأن يكون الجيد في مقدمها والرديء في مؤخرها فإذا قسمت بينهما نصفين صار إلى كل واحد منهما من الجيد والرديء مثل ما صار إلى الآخر من الجيد والرديء فطلب أحدهما: هذه القسمة أجبر الآخر عليها لأنها كالأرض المتساوية الأجزاء في إمكان التسوية بينهما فيها وإن لم تمكن التسوية بينهما في الجيد والرديء بأن كانت العمارة أو الشجر أو البناء في أحد النصفين دون الآخر نظرت فإذا أمكن أن يقسم قسمة تعديل بالقيمة بأن تكون الأرض ثلاثين جريباً وتكون عشرة أجربة من جيدها بقيمة عشرين جريباً من رديئها فدعا إلى ذلك أحد الشريكين وامتنع الآخر ففيه قولان: أحدهما: أنه لا يجبر الممتنع جيدها بقيمة عشرين جريباً من رديئها فدعا إلى ذلك أحد الشريكين وامتنع الآخر ففيه قولان: أحدهما: أنه لا يجبر الممتنع لتعذر التساوي في الزرع وتوقف القسمة إلى أن يتراضيا والقول الثاني: أنه يجبر لوجود التساوي بالتعديل فعلى هذا في أجرة القسام وجهان: أحدهما: أنه يجب على كل واحد منهما نصف الأجرة لأنهما يتسايان في أصل الملك والثاني: أنه يجب على صاحب العشرة ثلث الأجرة وعلى صاحب العشرين ثلثاها لتفاضلهما في المأخوذ بالقسمة وإن أمكن قسمته بالتعديل وقسمة الرد فدعا أحدهما: إلى قسمة التعديل ودعا الأخ إلى قسمة الرد فإن قلنا إن قسمة التعديل يجبر عليها فالقول قول من دعا إليها لأن ذلك مستحق وإن قلنا لا يجبر وقف إلى أن يتراضيا على إحداهما.
فصل: وإن كانت بينهما أرض مزروعة وطلب أحدهما قسمة الأرض دون الزرع وجبت القسمة لأن الزرع لا يمنع القسمة في الأرض فلم يمنع وجوبها كالقماش في الدار وإن طلب أحدهما قسمة الأرض والزرع لم يجبر لأن الزرع لا يمكن تعديله فإن تراضيا على ذلك فإن كان بذراً لم يجز قسمته لأنه مجهول وإن كان مما لا ربا فيه كالقصل والقطن جاز لأنه معلوم مشاهد وإن كان قد انعقد فيه الحب لم يجز لأنا إن قلنا إن القسمة بيع لم يجز لأنه بيع أرض وطعام بأرض وطعام ولأنه قسمة مجهول ومعلوم وإن قلنا إن القسمة فرز النصيبين لم يجز لأنه قسمة مجهول ومعلوم.
فصل: وإن كان بينهما عبيد أو ماشية أو أخشاب أو ثياب فطلب أحدهما قسمتها أعياناً وامتنع الآخر فإن كانت متفاضلة لم يجبر الممتنع وإن كانت متماثلة ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي العباس وأبي إسحاق وأبي سعيد الإصطخري أنه يجبر الممتنع وهو

(3/408)


ظاهر المذهب لأنها متماثلة والثاني: وهو قول أبي علي بن خيران وأبي علي بن أبي هريرة أنه لا يجبر الممتنع لأنها أعيان مختلفة فلم يجبر على قسمتها أعياناً كالدور المتفرقة.
فصل: وإن كان بينهما منافع فأرادا قسمتها مهايأة وهو أن تكون العين في يد أحدهما: مدة ثم في يد الآخر مثل تلك المدة جاز لأن المنافع كالأعيان فجاز قسمتها كالأعيان وإن طلب أحدهما: وامتنع الآخر لم يجبر الممتنع ومن أصحابنا من حكى فيه وجهاً آخر أنه يجبر كما يجبر على قسمة الأعيان والصحيح أنه لا يجبر لأن حق كل واحد منهما تعجل فلا يجبر على تأخيره بالمهايأة ويخالف الأعيان فإنه لا يتأخر بالقسمة حق كل واحد فإذا عقدا على مدة اختص كل واحد منهما بمنفعة تلك المدة وإن كان يحتاج إلى النفقة كالعبد والبهيمة كانت نفقته على من يستوفي منفعته وإن كسب العبد كسباً معتاداً في مدة أحدهما: كان لمن هو في مدته وهل تدخل فيها الأكساب النادرة كاللقطة والركاز والهبة والوصية فيه قولان: أحدهما: أنها تدخل فيها لأنه كسب فأشبه المعتاد والثاني: أنها لا تدخل فيها لأن المهايأة بيع لأنه يبيع حقه من الكسب في أحد اليومين بحقه في اليوم الآخر والبيع لا يدخل فيه إلا ما يقدر على تسليمه في العادة والنادر لا يقدر على تسليمه في العادة فلم يدخل فيه فعلى هذا يكون بينهما.
فصل: وينبغي للقاسم أن يحصي عدد أهل السهام ويعدل السهام بالأجزاء أو بالقيمة أو بالرد فإن تساوى عددهم وسهامهم كثلاثة بينهم أرض أثلاثاً فله أن يكتب الأسماء ويخرج على السهام وله أن يكتب السهام ويخرج على الأسماء فإن كتب الأسماء كتبها في ثلاث رقاع في كل رقعة اسم واحد من الشركاء ثم يأمر من لم يحضر كتب الرقاع والبندقة أن يخرج رقعة على السهم الأول فمن خرج اسمه أخذه ثم يخرج على السهم الثاني فمن خرج اسمه أخذه وتعين السهم الثالث للشريك الثالث فإن كتب السهام كتب في ثلاث رقاع في رقعة السهم الأول وفي رقعة السهم الثاني وفي رقعة السهم الثالث ثم يأمر بإخراج رقعة على اسم أحد الشركاء أي سهم خرج أخذه ثم يأمر بإخراج رقعة على اسم آخر فأي سهم خرج أخذه الثاني ثم يتعين السهم الباقي للشريك الثالث وإن اختلفت سهامهم فإن كان لواحد السدس وللآخر الثلث وللثالث النصف قسمها على أقل السهام وهو السدس فيجعلها

(3/409)


أسداساً وإن اختلفت سهامهم فإن كان لواحد السدس وللآخر الثلث وللثالث النصف قسمها على أقل السهام وهو السدس فيجعلها أسداساً ويكتب الأسماء ويخرج على السهام فيأمر أن يخرج على السهم الأول فإن خرج اسم صاحب السدس أخذه ثم يخرج على السهم الثاني فإن خرج اسم صاحب الثلث أخذ الثاني والذي يليه لأن له سهمين وتعين الباقي لصاحب النصف وإن خرجت الرقعة الأولى على اسم صاحب النصف أخذ السهم الأول واللذين يليانه وهو الثاني والثالث ثم يخرج على السهم الرابع فإن خرج اسم صاحب الثلث أخذه والسهم الذي يليه وهو الخامس وتعين السهم السادس لصاحب السدس وإنما قلنا إنه يأخذ مع الذي يليه لينتفع بما يأخذه ولا يستضر به ولا يخرج في هذا القسم السهام على الأسماء لأنا لو فعلنا ذلك ربما خرج السهم الرابع لصاحب النصف فيقول آخذه وسهمين قبله ويقول الآخران بل نأخذه وسهمين بعده فيؤدي إلى الخلاف والخصومة.
فصل: وإذا ترافع الشريكان إلى الحاكم وسألاه أن ينصب من يقسم بينهما فقسم قسمة إجبار لم يعتبر تراضي الشركاء لأنه لما لم يعتبر التراضي في ابتداء القسمة لم يعتبر بعد خروج القرعة فإن نصب الشريكان قاسماً فقسم بينهما فالمنصوص أنه يعتبر التراضي في ابتداء القسمة وبعد خروج القرعة وقال في رجلين حكما رجلاً ليحكم بينهما ففيه قولان: أحدهما: أنه يلزم الحكم ولا يعتبر رضاهما والثاني: أنه لا يلزم الحكم إلا برضاهما والقاسم ههنا بمنزلة هذا الحاكم لأنه نصبه الشريكان فيكون على قولين: أحدهما: وهو المنصوص أنه يعتبر الرضى بعد خروج القرعة لأنه لما اعتبر الرضى في الإبتداء اعتبر بعد خروج القرعة والثاني: أنه لا يعتبر لأن القاسم مجتهد في تعديل السهام والإقراع فلم يعتبر الرضى بعد حكمه كالحاكم وإن كان في القسمة رد وخرجت القرعة لم تلزم إلا بالتراضي وقال أبو سعيد الإصطخري: تلزم من غير تراض كقسمة الإجبار وهذا خطأ لأن في قسمته الإجبار لا يعتبر الرضى في الإبتداء وههنا يعتبر فاعتبر بعد القرعة.
فصل: إذا تقاسما أرضاً ثم ادعى أحدهما: غلطاً فإن كان في قسمة إجبار لم يقبل قوله من غير بينة لأن القاسم كالحاكم فلم تقبل دعوى الغلط عليه من غير بينة كالحاكم فإن أقام البينة على الغلط نقضت القسمة وإن كان في قسمة اختيار نظرت فإن تقاسما بأنفسهما من غير قاسم لم يقبل قوله لأنه رضي بأخذ حقه ناقصاً وإن أقام بينة لم تقبل لجواز أن يكون قد رضي دون حقه ناقصاً وإن قسم بينهما قاسم نصباه فإن قلنا إنه يفتقر إلى التراضي بعد خروج القرعة لم تقبل دعواه لأنه رضي بأخذ الحق ناقصاً وإن قلنا إنه لا يفتقر إلى التراضي بعد خروج القرعة فهو كقسمة الإجبار فلا يقبل قوله إلا

(3/410)


ببينة فإن كان في القسمة رد لم يقبل قوله على المذهب وعلى قول أبي سعيد الإصطخري هو كقسمة الإجبار فلم يقبل قوله إلا ببينة.
فصل: وإن تنازع الشريكان بعد القسمة في بيت في دار اقتسماها فادعى كل واحد منهما أنه في سهمه ولم يكن له بينة تحالفا ونقضت القسمة كما قلنا في المتبايعين وإن وجد أحدهما: بما صار إليه عيناً فله الفسخ كما قلنا في البيع.
فصل: إذا اقتسما أرضاً ثم استحق مما صار لأحدهما: شيء بعينه نظرت فإن استحق مثله من نصيب الآخر أمضيت القسمة وإن لم يستحق من حصة الآخر مثله بطلت القسمة لأن لمن استحق جزء مشاع بطلت القسمة في المستحق وهل تبطل في الباقي فيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي علي بن أبي هريرة إنه يبني على تفريق الصفقة فإن قلنا إن الصفقة لا تفرق بطلت القسمة في الجميع وإن قلنا إنها تفرق صحت في الباقي والثاني: وهو قول أبي إسحاق أن القسمة تبطل في الباقي قولاً واحداً لأن القصد من القسمة تمييز الحقين ولم يحصل ذلك لأن المستحق صار شريكاً لكل واحد منهما فبطلت القسمة.
فصل: وإذا قسم الوارثان التركة ثم ظهر دين على الميت فإنه يبني على بيع التركة قبل قضاء الدين وفيه وجهان ذكرناهما في التفليس فإن قلنا إن القسمة تمييز الحقين لم تنقض القسمة وإن قلنا إنها بيع ففي نقضها وجهان. والله أعلم.

(3/411)


باب الدعوى والبينات
لا تصح دعوى مجهول في غير الوصية لأن القصد بالحكم فصل الحكومة والتزام الحق ولا يمكن ذلك في المجهول فإن كان المدعي ديناً ذكر الجنس والنوع والصفة وإن ذكر قيمتها كان أحوط وإن كانت العين تالفة فإن كان لها مثل ذكر صفتها وإن ذكر القيمة كان أحوط وإن لم يكن لها مثل ذكر قيمتها وإن كان المدعى سيفاً محلى أو لجاماً محلى فإن كان بفضة قومه بالذهب وإن كان بالذهب قومه بالفضة وإن محلى بالذهب والفضة قومه بما شاء منهما وإن كان المدعى مالاً عن وصية جاز أن يدعي مجهولاً لأن بالوصية يملك المجهول ولا يلزم في دعوى المال ذكر السبب الذي

(3/411)


ملك به لأن أسبابه كثيرة فيشق معرفة سبب كل درهم فيه وإن كان المدعى قتلاً لزمه ذكر صفته وأنه عمد أو خطأ وأنه انفرد به أو شاركه فيه غيره ويذكر صفة العمد لأن القتل لا يمكن تلافيه فإذا لم يبين لم تؤمن أن يقتص فيما لا يجب فيه القصاص وإن كان المدعى نكاحاً فقد قال الشافعي رحمه الله لا يسمع حتى يقول نكحتها بولي وشاهدين ورضاها فمن أصحابنا من قال: لا يشترط لأنه دعوى ملك فلا يشترط فيه ذكر السبب كدعوى المال وما قال الشافعي رحمه الله ذكره على سبيل الاستحباب كما قال في امتحان الشهود إذا ارتاب بهم ومنهم من قال: إن ذلك شرط لأنه مبني على الاحتياط وتتعلق العقوبة بجنسه فشرط في دعواه ذكر الصفة كدعوى القتل ومنهم من قال إن كان يدعي ابتداء النكاح لزمه ذكره لأنه شرط في الابتداء وإن كان يدعي استدامة النكاح لم يشترط لأنه ليس بشرط في الاستدامة وإن ادعت امرأة على رجل نكاحاً فإن كان مع النكاح حق تدعيه من مهر أو نفقة سمعت دعواها وإن لم تدع حقاً سواه ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا تسمع دعواها لأن النكاح حق للزوج على المرأة فإذا ادعت المرأة كان ذلك إقراراً والإقرار لا يقبل مع إنكار المقر له كما لو أقرت له بدار والثاني: أنه تسمع لأن النكاح يتضمن حقوقاً لها فصح دعواها فيه وإن كان المدعى بيعاً أو إجارة ففيه ثلاثة أوجه: أحدها أنه لا يفتقر إلى ذكر شروطه ن لأن المقصود به المال فلم يفتقر إلى ذكر شروطه كدعوى المال والثاني: أنه يفتقر لأنه لا يقصد به غير المال وإن كان في جارية افتقر لأنه يملك به الوطء فأشبه النكاح وما لزم ذكره في الدعوى ولم يذكره سأله الحاكم عنه ليذكره فتصير الدعوى معلومة فيمكن الحكم بها.
فصل: وإن ادعى عليه مالاً مضافاً إلى سببه فإن ادعى عليه ألفاً اقترضه أو أتلف عليه فقال: ما أقرضني أو ما أتلفت عليه صح الجواب لأنه أجاب عما ادعى عليه وإن لم يتعرض لما ادعى عليه بل قال لا يستحق علي شيئاً صح الجواب ولا يكلف إنكار ما ادعى عليه من القرض أو الإتلاف لأنه يجوز أن يكون قد أقرضه أو أتلف عليه ثم قضاه أو أبرأه منه فإن أنكره كان كاذباً في إنكاره وإن أقر به لم يقبل قوله أنه قضاه أو أبرأه منه فيستضر به وإن أنكر الاستحقاق كان صادقاً ولم يكن عليه ضرر.
فصل: وإن ادعى على رجل ديناً في ذمته فأنكره ولم تكن بينة فالقول قوله مع يمينه لما روى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لو أن الناس أعطوا بدعواهم لادعى

(3/412)


ناس من الناس دماء ناس وأموالهم لكن اليمين على المدعى عليه" 1 ولأن الأصل براءة ذمته فجعل القول قوله وإن ادعى عيناً في يده فأنكره ولا بينة فالقول قوله مع يمينه لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في قصة الحضرمي والكندي: "شاهداك أو يمينه". ولأن الظاهر من اليد الملك فقبل قوله وإن تداعيا عيناً في يدهما ولا بينة حلفا وجعل المدعى بينهما نصفين لما روى أبو موسى الأشعري رضي الله عنه أن رجلين تداعيا دابة ليس لأحدهما: بينة فجعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما ولأن يد كل واحد منهما على نصفها فكان القول فيه قوله كما لو كانت العين في يد أحدهما.
فصل: وإن تداعيا عيناً ولأحدهما: بينة وهي في يدهما أوفي يد أحدهما: أوفي غيرهما حكم لمن له البينة لقوله صلى الله عليه وسلم: "شاهداك أو يمينه". فبدأ بالحكم بالشهادة ولأن البينة حجة صريحة في إثبات الملك لا تهمة فيها واليد تحتمل الملك وغيره والذي يقويها هو اليمين وهو متهم فيها فقدمت البينة عليها وإن كان لكل واحد منهما بينة نظرت فإن كانت العين في يد أحدهما: قضى لمن له اليد من غير يمين ومن أصحابنا من قال: لا يقضى لصاحب اليد من غير يمين والمنصوص أنه يقضى له من غير يمين لأن معه بينة معها ترجيح وهو اليد ومع الآخر بينة لا ترجيح معها والحجتان إذا تعارضتا ومع إحداهما ترجيح قضى بالتي معها الترجيح كالخبرين إذا تعارضا ومع أحدهما: قياس وإن كانت العين في يد أحدهما: فأقام الآخر بينة فقضى له وسلمت العين إليه ثم قام صاحب اليد بينة أنها له نقض الحكم وردت العين إليه لأنا حكمنا للآخر ظناً منا أنه لا بينة له فإذا أتى بالبينة بان أنه كانت له يد وبينة فقدمت على بينة الآخر.
فصل: وإن كان لكل واحد منهما بينة والعين في يدهما أوفي يد غيرهما أولا يد لأحدهما: عليها تعارضت البينتان وفيهما قولان: أحدهما: أنهما يسقطان وهو الصحيح لأنهما حجتان تعارضتا ولا مزية لإحداهما على الأخرى فسقطتا كالنصين في الحادثة فعلى هذا يكون الحكم فيه كما لو تداعيا ولا بينة لواحد منهما والثاني: أنهما يستعملان
__________
1 رواه البخاري في كتاب تفسير سورة آل عمران باب 3. مسلم في كتاب الأقضية حديث 1. النسائي في كتاب القضاة باب 36. ابن ماجه في كتاب الأحكام باب 7. أحمد في مسنده 1/343.

(3/413)


وفي كيفية الاستعمال ثلاثة أقوال أحدها: أنه يوقف الأمر إلى أن ينكشف أو يصطلحا لأن إحداهما صادقة والأخرى كاذبة ويرجى معرفة الصادقة فوجب التوقف كالمرأة إذا زوجها وليان أحدهما: بعد الآخر ونسي السابق منهما والثاني: أنه يقسم بينهما لأن البينة حجة كاليد ولو استويا في اليد قسم بينهما فكذلك إذا استويا في البينة والثالث: أنه يقرع بينهما فمن خرجت له القرعة حكم له لأنه لا مزية لإحداهما على الأخرى فوجب التقديم بالقرعة كالزوجتين إذا أراد الزوج السفر بإحداهما.
فصل: وإن كانت بينة أحدهما: شاهدين وبينة الآخر أربعة وأكثر فهما متعارضتان وفيهما القولان لأن الاثنين مقدران بالشرع فكان حكمهما وحكم ما زاد سواء وإن كانت إحدى البينتين أعدل من الأخرى فهما متعارضتان وفيهما القولان ولأنهما متساويتان في إثبات الحق وإن كانت بينة أحدهما: شاهدين وبينة الآخر شاهداً وامرأتين فهما متعارضتان وفيهما القولان لأنهما يتساويان في إثبات المال والقول الثاني أنه يقضى لمن له الشاهدان لأن بينته مجمع عليها وبينة الآخر مختلف فيها.
فصل: وإن كانت العين في يد غيرهما فشهد بينة أحدهما: بأنه ملكه من سنة وشهدت بينة الآخر أنه ملكه من سنتين ففيه قولان: قال في البويطي: هما سواء لأن القصد إثبات الملك في الحال وعما متساويتان في إثبات الملك في الحال والقول الثاني أن التي شهدت بالملك المتقدم أولى وهو اختيار المزني هو الصحيح لأنها انفردت بإثبات الملك في زمان لا تعارضها فيه البينة الأخرى وأما إذا كان الشيء في يد أحدهما: فإن كان في يد من شهد له بالملك المتقدم حكم له وإن كان في يد الآخر فقد اختلف أصحابنا فيه فقال أبو العباس رحمه الله يبنى على القولين في المسألة قبلها إن قلنا إنهما يتساويان حكم لصاحب اليد وإن قلنا إن التي شهدت بالملك المتقدم تقدم قدمت ههنا أيضاً لأن الترجيح من جهة البينة أولى من الترجيح باليد ومن أصحابنا من قال: يحكم به لمن هو في يده قولاً واحداً لأن اليد الموجودة أولى من الشهادة بالملك المتقدم وأما إذا تداعيا دابة وأقام أحدهما: بينة أنها ملكه نتجت في ملكه وأقام الآخر أنها دابته ولم يذكر المتقدم وفيها قولان لأن الشهادة بالنتاج كشهادته بالملك المتقدم وقال أبو إسحاق يحكم لمن شهدت له البينة بالنتاج قولاً واحداً لأن بينة النتاج تنفي أن يكون الملك لغيره والبينة بالملك المتقدم لا تنفي أن يكون الملك قبل ذلك لغير المشهود له.

(3/414)


فصل: إذا ادعى رجل داراً في يد رجل وأقام بينة أن هذه الدار كانت في يده أوفي ملكه أمس فقد نقل المزني والربيع أنه لا يحكم بهذه الشهادة وحكى البويطي أنه يحكم بها فقال أبو العباس فيها قولان: أحدهما: أنه يحكم بذلك لأنه قد ثبت بالبينة أن الدار كانت له والظاهر بقاء الملك والقول الثاني أنه لا يحكم بها وهو الصحيح لأنه ادعى ملك الدار في الحال وشهدت له البينة بما لم يدعه فلم يحكم بها كما لو ادعى داراً فشهدت له البينة بدار أخرى وقال أبو إسحاق: لا يحكم بها قولاً واحداً وما ذكره البويطي من تخريجه.
فصل: وإن ادعى رجل على رجل داراً في يده وأقر بها لغيره نظرت فإن صدقه المقر له حكم له لأنه مصدق فيما في يده وقد صدقه المقر له فحكم له وتنتقل الخصومة إلى المقر له فإن طلب المدعي يمين المقر أنه لا يعلم أنها له ففيه قولان بناء على من أقر بشيء في يده لغيره ثم أقر به لآخر وفيه قولان: أحدهما: يلزمه أن يغرم للثاني والثاني: لا يلزمه فإن قلنا يلزمه أن يغرم حلف لأنه ربما خاف أن يحلف فيقر للثاني فيغرم له وإن قلنا لا يلزمه لم يحلف لأنه إن خاف من اليمين فأقر للثاني لم يلزمه شيء فلا فائدة في تحليفه وإن كذبه المقر له ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي العباس أنه يأخذها الحاكم ويحفظها إلى أن يجد صاحبها لأن الذي في يده لا يدعيها والمقر له أسقط إقراره بالتكذيب وليس للمدعي بينة فلم يبق إلا أن يحفظها الحاكم كالمال الضال
والثاني: وهو قول أبي إسحاق أنه يسلم إلى الدعي لأنه ليس ههنا من يدعيه غيره وهذا خطأ لأنه حكم بمجرد الدعوى وإن أقر بها لغائب ولا بينة وقف الأمر إلى أن يقدم الغائب لأن الذي في يده لا يدعيها ولا بينة تقضي بها فوجب التوقف فإن طلب المدعي يمين المدعى عليه أنه لا يعلم أنها له فعلى ما ذكرناه من القولين وإن كان للمدعي بينة قضي له وهل يحتاج إلى أن يحلف مع البينة؟ فيه وجهان: أحدهما: أنه يحتاج أن يحلف مع البينة لأنا حكمنا بإقرار المدعى عليه أنها ملك للغائب ولا يجوز القضاء بالبينة على الغائب من غير يمين والثاني: وهو قول أبي إسحاق أنه لا يحتاج أن يحلف لأنه قضاء على الحاضر وهو المدعى عليه وإن كان مع المدعى عليه بينة أنها للغائب فالمنصوص أنه يحكم ببينة المدعي وتسلم إليه ولا يحكم ببينة المدعى عليه وإن كان معها يد لأن بينة صاحب اليد إنما يقضي بها إذا أقامها صاحب الملك أو وكيل له والمدعى عليه ليس بمالك ولا هو وكيل للمالك فلم يحكم بنينته وحكى أبو إسحاق رحمه الله عن بعض أصحابنا أنه قال: إن كان المقر للغائب يدعي أن الدار في يده وديعة أو عارية لم تسمع

(3/415)


بينته وإن كان يدعي أنها في يده بإجارة سمعت بينته وقضى بها لأنه يدعي لنفسه حقاً فسمعت بينته فيصح الملك للغائب ويستوفي بها حقه من المنفعة وهذا خطأ لأنه إذا لم تسمع البينة في إثبات الملك وهو الأصل فلأن لا تسمع لإثبات الإجارة وهي فرع على الملك أولى وإن أقر بها لمجهول فقد قال أبو العباس فيه وجهان: وأحدهما: أنه يقال له إقرارك لمجهول لا يصح فإما أن تقر بها لمعروف أو تدعيها لنفسك أو نجعلك ناكلاً ويحلف المدعي ويقضي له والثاني: أن يقال له إما أن تقربها لمعروف أو نجعلك ناكلاً ولا يقبل دعواه لنفسه لأنه بإقراره لغيره نفي أن يكون الملك له فلم تقبل دعواه بعد.
فصل: إذا ادعى جارية وشهدت البينة أنها ابنة أمته لم يحكم له بها لأنها قد تكون ابنة أمته ولا تكون له بأن تلدها في ملك غيره ثم يملك الأمة دونها فتكون ابنة أمته ولا تكون له وإن شهدت البينة أنها ابنة أمته ولدتها في ملكه فقد قال الشافعي رحمه الله: حكمت بذلك وذكر في الشهادة بالملك المتقدم قولين فنقل أبو العباس جواب تلك المسألة إلى هذه وجعلها على قولين وقال سائر أصحابنا: يحكم بها ههنا قولاً واحداً وهناك على قولين والفرق بينهما أن الشهادة هناك بأصل الملك فلم تقبل حتى يثبت في الحال والشهادة ههنا بتمام الملك وأنه حدث في ملكه فلم يفتقر إلى إثبات الملك في الحال وإن ادعى غزلاً أو طيراً أو آجراً وأقام البينة أن الغزل من قطنه والطير من بيضه والآجر من طينه قضي له لأن الجميع عين ماله وإنما تغيرت صفته.
فصل: إذا ادعى رجل أن هذه الدار ملكه من سنتين وأقام على ذلك بينة وادعى آخر أنه ابتاعها منذ سنتين وأقام على ذلك بينة قضى ببينة الابتياع لأن بينة الملك شهدت بالملك على الأصل وبينة الابتياع شهدت بأمر حادث خفي على بينة الملك فقدمت على بينة الملك كما تقدم بينة الجرح على بينة التعديل.
فصل: وإن كان في يد رجل دار وادعى رجل أنه ابتاعها من زيد وهو يملكها وأقام على ذلك بينة حكم له لأنه ابتاعها من مالكها وإن شهدت له البينة أنه ابتاعها منه ولم تذكر الملك ولا التسليم لم يحكم بهذه الاشهادة ولم تؤخذ الدار ممن هي في يده لأنه قد يبيع الإنسان ما يملكه وما لا يملكه فلا تزال يد صاحب اليد.
فصل: وإن كان في يد رجل دار فادعاها رجل وأقام البينة أنها له أجرها ممن هي في يده وأقام الذي في يده الدار بينة أنها له قدمت بينة الخارج الذي لا يد له لأن الدار المستأجرة في مالك المؤجر وبيده وليس للمستأجر إلا الانتفاع فتصير كما لو كانت في يده

(3/416)


وادعى رجل أنها له غصبه عليها الذي هي في يده وأقام البينة فإنه يحكم بها للمغصوب منه.
فصل: وإن تداعى رجلان داراً في يد ثالث فشهد لأحدهما: شاهدان أن الذي في يده الدار غصبه عليها وشهد للآخر شاهدان أنه أقر له بها قضى للمغصوب منه لأنه ثبت بالبينة أنه غاصب وإقرار الغاصب لا يقبل فحكم بها للمغصوب منه.
فصل: إذا ادعى رجل أنه ابتاع داراً من فلان ونقده الثمن وأقام على ذلك بينة وادعى آخر أنه ابتاعها منه ونقده الثمن وأقام على ذلك بينة وتاريخ أحدهما: في رمضان وتاريخ الآخر في شوال قضى لمن ابتاعها في رمضان لأنه ابتاعها وهي في ملكه والذي ابتاعها في شوال ابتاعها بعد ما زال ملكه عنها وإن كان تاريخهما واحداً أو كان تاريخهما مطلقاً أو تاريخ أحدهما: مطلقاً وتاريخ الآخر مؤرخاً فإن كانت الدار في يد أحدهما: قضى له لأن معه بينة ويداً وإن كانت في يد البائع تعارضت البينتان وفيهما قولان: أحدهما: أنهما يسقطان والثاني: أنهما يستعملان فإن قلنا أنهما يسقطان رجع إلى البائع فإن أنكرهما حلف لكل واحد منهما يميناً عل الانفراد وقضى له وإن أقر لأحدهما: سلمت إليه وهل يحلف للآخر فيه قولان وإن أقر لهما جعلت لهما نصفين وهل يحلف كل واحد منهما للآخر على النصف الآخر على القولين وإن قلنا أنهما يستعملان نظرت فإن صدق البائع أحدهما: ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي العباس أنها تجعل لمن صدقه البائع لأن الدار في يده فإذا أقر لأحدهما: فقد نقل يده إلي فتصير له يد وبينة وقال أكثر أصحابنا: لا يرجح بإقرار البائع وهو الصحيح لأن البينتين اتفقتا على إزالة ملك البائع وإسقاط يده فعلى هذا يقرع بينهما في أحد الأقوال ويقسم بينهما في الثاني فيجعل لكل واحد منهما نصف الدار بنصف الثمن الذي ادعى أنه ابتاع به ولا يجيء القول بالوقف لأن العقود لا توقف.
فصل: وإن ادعى رجل أنه ابتاع هذه الدار من زيد وهو يملكها ونقده الثمن وأقام عليه بينة وادعى آخر أنه ابتاعها من عمرو وهو يملكها ونقده الثمن وأقام عليه بينة فإن كانت في يد أجنبي أوفي يد أحد البائعين وقلنا على المذهب الصحيح أنه لا ترجح البينة بقول البائع تعارضت البينتان وفيهما قولان: أحدهما: أنهما يسقطان والثاني: أنهما يستعملان فإن قلنا أنهما يسقطان رجع إلى من هو في يده فإن ادعاه لنفسه فالقول قوله ويحلف لكل واحد منهما وإن أقر لأحدهما: سلم إليه وهل يحلف للآخر فيه قولان وإن أقر لهما جعل لكل واحد منهما نصفه وهل يحلف للآخر على النصف الآخر على

(3/417)


القولين وإن قلنا إنهما يستعملان أقرع بينهما في أحد الأقوال ويقسم بينهما في القول الثاني فيجعل لكل واحد منهما النصف بنصف الثمن الذي ادعى أنه ابتاعه ولا يجيء الوقف لأن العقود لا توقف.
فصل: وإن كان في يد رجل دار فادعى زيد أنه باعها منه بألف وأقام عليه بينة وادعى عمرو أنه باعها منه بألف وأقام عليه بينة فإن كانت البينتان بتاريخ واحد تعارضتا وفيهما قولان: أحدهما: إنهما يسقطان والثاني: أنهما يستعملان فإذا قلنا أنهما يسقطان رجع إلى قول من هي في يده فإن ادعاها لنفسه وأنكر الشراء حلف لكل واحد منهما وحكم له وإن أقر لأحدهما: لزمه الثمن لمن أقر له وحلف للآخر قولاً واحداً لأنه لو أقر له بعد إقراره للأول لزمه له الألف لأنه يقر له بحق في ذمته فلزمه أن يحلف قولاً واحداً وإن قلنا إنهما يستعملان أقرع بينهما في أحد الأقوال ويقسم في القول الثاني ولا يجيء الوقف لأن العقود لا توقف وإن كانتا بتاريخين مختلفين بأن شهدت بينة أحدهما: بعقد في رمضان وبينة أحدهما: في شوال لزمه الثمنان لأنه يمكن الجمع بينهما بأن يكون قد اشتراه في رمضان من أحدهما: ثم باعه واشتراه من الآخر في شوال وإن كانت البينتان مطلقتين ففيه وجهان: أحدهما: أنه يلزمه الثمنان لأنه يمكن استعمالهما بأن يكون قد اشتراه في وقتين مختلفين والثاني: أنهما يتعارضان فيكون على القولين لأنه يحتمل أن يكونا في وقتين فيلزمه الثمنان ويحتمل أن يكونا في وقت واحد والأصل براءة الذمة.
فصل: وإن ادعى رجل ملك عبد فأقام عليه بينة وادعى آخر أنه باعه أو وقفه أو أعتقه وأقام عليه بينة قدم البيع والوقف والعتق لأن بينة الملك شهدت بالأصل وبينة البيع والوقف والعتق شهدت بأمر حادث خفي على بينة الملك فقدمت على بينة الملك وإن كان في يد رجل عبد فادعى رجل أنه ابتاعه وأقام عليه بينة وادعى العبد أن مولاه أعتقه وأقام عليه بينة فإن عرف السابق منهما بالتاريخ قضى بأسبق التصرفين لأن السابق منهما يمنع صحة الثاني فقدم عليه وإن لم يعرف السابق منهما تعارضتا وفيهما قولان: أحدهما: أنهما يسقطان ويرجع إلى من في يده العبد وإن كان كذبهما حلف لكل واحد منهما يميناً على الانفراد وإن صدق أحدهما: قضى لمن صدقه والقول الثاني أنهما يستعملان فيقرع بينهما في أحد الأقوال فمن خرجت له القرعة قضى له ويقسم في القول الثاني: فيعتق نصفه ويحكم للمبتاع بنصف الثمن ولا يجيء القول بالوقف لأن العقود لا توقف.
فصل: قال في الأم: إذا قال لعبده إن قتلت فأنت حر فأقام العبد بينة أنه قتل وأقام الورثة بينة أنه مات ففيه قولان: أحدهما: أنه تتعارض البينتان ويسقطان ويرق العبد

(3/418)


لأن بينة القتل تثبت القتل وتنفي الموت وبينة الموت تثبت الموت وتنفي القتل فتسقطان ويبقى العبد على الرق والثاني: أنه تقدم بينة القتل ويعتق العبد لأن بينة الورثة تشهد بالموت وبينة العبد تشهد بالقتل لأن المقتول ميت ومعها زيادة صفة وهي القتل فقدمت وإن كان له عبدان سالم وغانم فقال لغانم: إن مت في رمضان فأنت حر وإن قال لسالم: إن مت في شوال فأنت حر ثم مات فأقام غانم بينة أنه مات في رمضان وأقام سالم بينة بالموت في شوال ففيه قولان: أحدهما: أنه تتعارض البينتان ويسقطان ويرق العبدان لأن الموت في رمضان ينفي الموت في شوال والموت في شوال ينفي الموت في رمضان فيسقطان وبقي العبدان على الرق والقول الثاني أنه تقدم بينة الموت في رمضان لأنه يجوز أن يكون قد علمت البينة بالموت في رمضان وخفي ذلك على البينة الأخرى إلى شوال فقدمت بينة رمضان لما معها من زيادة العلم وإن قال لغانم إن مت من مرضي فأنت حر وقال لسالم: إن برئت من مرضي فأنت حر ثم مات فأقام غانم بينة بالموت من مرضه وأقام سالم بينة بأنه بريء من المرض ثم مات تعارضت البينتان وسقطتا ورق العبدان لأن بينة أحدهما: أثبتت الموت من مرضه ونفت البرء منه والأخرى أثبتت البرء من مرضه ونفت موته منه فتعذر الجمع بينهما فتعارضتا وسقطتا وبقي العبدان على الرق.
فصل: وإن اختلف المتبايعان في قدر الثمن أو اختلف المتكاريان في قدر الأجرة أوفي مدة الإجارة فإن لم يكن بينة فالحكم في التحالف والفسخ على ما ذكرناه في الفسخ في البيع وإن كان لأحدهما: بينة قضي له وإن كان لكل واحد منهما يبنة نظرت فإن كانتا مؤرختين بتاريخين مختلفين قضى بالأول منهما لأن العقد الأول يمنع صحة العقد الثاني وإن كانتا مطلقتين أو مؤرختين تاريخاً واحداً أو إحداهما مطلقة والأخرى مؤرخة فهما متعارضتان وفيهما قولان: أحدهما: أنهما يستعملان فيقرع بينهما فمن خرجت له القرعة قضي له ولا يجيء القول بالوقف لأن العقود لا توقف ولا يجيء القول بالقسمة لأنهما يتنازعان في عقد والعقد لا يمكن قسمته وخرج أبو العباس قولاً آخر أنه إذا كان الاختلاف في قدر المدة أوفي قدر الأجرة قضي بالبينة التي توجب الزيادة كما لو شهدت بينة أن لفلان عليه ألفاً وشهدت بينة أن له عليه ألفين وهذا خطأ لأن الشهادة بالألف لا تنفي الزيادة عليه فلم يكن بينها وبين بينة الأخرى تعارض وههنا أحد البينتين ينفي ما شهدت به البينة الأخرى لأنه إذا عقد بأحد العوضين لم يجز أن يعقد بالعوض الآخر فتعارضتا.

(3/419)


فصل: إذا ادعى رجلان داراً في رجل وعزيا الدعوى إلى سبب يقتضي اشتراكهما كالإرث عن ميت والابتياع في صفقة فأقر المدعى عليه بنصفها لأحدهما: شاركه الآخر لأن دعواهما تقتضي اشتراكهما في كل جزء منهما ولهذا لو كان طعاماً فهلك بعضه كان هالكاً منهما وكان الباقي بينهما فإذا جحد النصف وأقر بالنصف جعل المجحود بينهما والمقر به بينهما وإن ادعيا ولم يعزيا إلى سبب فأقر لأحدهما: بنصفها لم يشاركه الآخر لأن دعواه لا تقتضي الاشتراك في كل جزء منه.
فصل: وإن ادعى رجلان داراً في يد ثالث لكل واحد منهما نصفها وأقر الذي هي في يده بجميعها لأحدهما: نظرت فإن كان قد سمع من المقر له الإقرار للمدعي الآخر بنصفها لزمه تسليم النصف إليه لأنه أقر بذلك فإذا صار إليه لزمه حكم إقراره كرجل أقر لرجل بعين ثم صارت العين في يده وإن لم يسمع منه إقرار فادعى جميعها حكم له بالجميع لأنه يجوز أن يكون لجميع له ودعواه للنصف صحيح لأن من له الجميع فله النصف ويجوز أن يكون قد خص النصف بالدعوى لأن على النصف بينة أو يعلم أنه مقر له بالنصف وتنتقل الخصومة إليه مع المدعي الآخر في النصف وإن قال الذي في يده الدار نصفها لي والنصف الآخر لا أعلم لمن هو ففيه ثلاثة أوجه: أحدها أنه يترك النصف في يده لأنه أقر لمن لا يدعيه فبطل الإقرار وبقي على ملكه والثاني: أن الحاكم ينتزعه منه ويكون عنده لأن الذي في يده لا يدعيه والمقر له لا يدعيه فأخذه الحاكم للحفظ كالمال الضال والثالث أنه يدفع إلى المدعي الآخر لأنه يدعيه وليس له مستحق آخر وهذا خطأ لأنه حكم بمجرد الدعوى.
فصل: إذا مات رجل وخلف ابناً مسلماً وابناً نصرانياً وادعى كل واحد منهما أنه مات أبوه على دينه وأنه يرثه وأقام على ما يدعيه بينة فإن عرف أنه كان نصرانياً نظرت فإن كانت البينتان غير مؤرختين حكم ببينة الإسلام لأن من شهد بالنصرانية شهد بالأصل والذي شهد بالإسلام شهد بأمر حادث خفي على من شهد بالنصرانية فقدمت شهادته كما تقدم بينة الجرح على بينة التعديل فإن شهدت إحداهما بأنه مات وآخر كلامه الإسلام وشهدت الأخرى بأنه مات وآخر كلامه النصرانية فهما متعارضتان وفيهما قولان: أحدهما: أنهما يسقطان فيكون كما لو مات ولا بينة فيكون القول قول النصراني لأن الظاهر معه والثاني: أنهما يستعملان فإن قلنا بالقرعة أقرع بينهما فمن خرجت له

(3/420)


القرعة ورث وإن قلنا بالوقف وقف وإن قلنا بالقسمة ففيه وجهان: أحدهما: أنه يقسم كما يقسم في غير الميراث والثاني: وهو قول أبي إسحاق أنه لا يقسم لأنه إذا قسم بينهما تيقن الخطأ في توريثهما وفي غير الميراث يجوز أن يكون المال مشتركاً بينهما فقسم وإن لم يعرف أصل دينه تعارضت البينتان سواء كانتا مطلقتين أو مؤرختين وفيها قولان: أحدهما: أنهما تسقطان فإن كان المال في يد غيرهما فالقول قول من في يده المال وإن كان في يديهما كان بينهما وإن قلنا أنهما يستعملان فإن قلنا يقرع أقرع بينهما وإن قلنا يوقف وقف إلى أن ينكشف وإن قلنا يقسم قسم وقال أبو إسحاق لا يقسم لأنه يتيقن الخطأ في توريثهما والمنصوص أنه يقسم وما قاله أبو إسحاق خطأ لأنه يجوز أن يموت وهو نصراني فورثه ابناه وهما نصرانيان: ثم أسلم أحدهما: وادعى أن أباه مات مسلماً ليأخذ الجميع ويغسل الميت ويصلي عليه في المسائل كلها ويدفن في مقابر المسلمين وينوي بالصلاة عليه وإن كان مسلماً كما قلنا في موتى المسلمين إذا اختلطوا بموتى الكفار.
فصل: وإن مات رجل وخلف ابنين واتفق الابنان أن أباهما مات مسلماً وأن أحد الابنين أسلم قبل موت الأب واختلفا في الآخر فقال: أسلمت أنا أيضاً قبل موت أبي فالميراث بيننا وأنكر الآخر فالقول قول المتفق على إسلامه لأن الأصل بقاؤه على الكفر ولو اتفقا على إسلامهما واختلفا في وقت موت الأب فقال أحدهما: مات أبي قبل إسلامك فالميراث لي وقال الآخر: بل مات بعد إسلامي أيضاً فالقول قول الثاني لأن الأصل حياة الأب وإن مات رجل وخلف أبوين كافرين وابنين مسلمين فقال الأبوان مات كافراً وقال الابنان: مات مسلماً فقد قال أبو العباس يحتمل قولين: أحدهما: أن القول قول الأبوين لأنه إذا ثبت أنهما كافران كان الولد محكوماً بكفره إلى أن يعلم الإسلام والثاني: أن الميراث بوقف إلى أن يصطلحوا أو ينكشف الأمر لأن الولد إنما يتبع الأبوين في الكفر قبل البلوغ فأما بعد البلوغ فله حكم نفسه ويحتمل أنه كان مسلماً ويحتمل أنه كان كافراً فوقف الأمر إلى أن ينكشف.
فصل: وإن مات رجل وله ابن حاضر وابن غائب وله دار في يد رجل فادعى الحاضر أن أباه مات وأن الدار بينه وبين أخيه وأقام بينة من أهل الخبرة بأنه مات وأنه لا وارث له سواهما انتزعت الدار ممن هي في يده ويسلم إلى الحاضر نصفها وحفظ النصف للغائب وإن كان له دين في الذمة قبض الحاضر نصفه وفي نصيب الغائب وجهان: أحدهما: أنه يأخذه الحاكم ويحفظ عليه كالعين والثاني: أنه لا يأخذه لأن كونه

(3/421)


في الذمة أحفظ له لا يطالب الحاضر فيما يدفع إليه بضمين لأن في ذلك قدحاً في البينة وإن لم تكن البينة من أهل الخبرة الباطنة أو كانت من أهل الخبرة إلا أنها لم تشهد بأنها لا تعرف له وارثاً سواه لم يدفع إليه شيء حتى يبعث الحاكم إلى البلاد التي كان يسافر إليها فيسأل هل له وارث آخر؟ فإذا سأل ولم يعرف له وارث غيره دفع إليه قال الشافعي رحمه الله: يأخذ منه ضميناً وقال في الأم: وأحب أن يأخذ منه ضميناً فمن أصحابنا من قال فيه قولان: أحدهما: أنه يجب أخذ الضمين لأنه ربما ظهر وارث آخر والثاني: أنه يستحب ولا يجب لأن الظاهر أنه لا وارث له غيره ومنهم من قال: إن كان الوارث ممن يحجب كالأخ والعم وجب وإن كان ممن لا يحجب كالابن استحب لأن من لا يحجب يتيقن أنه وارث ويشك فيمن يزاحمه فلم يترك اليقين بالشك ومن يحجب يشك في إرثه وحمل القولين على هذين الحالين ومنهم من قال إن كان الوارث غير مأمون وجب لأنه لا يؤمن أن يضيع حق من يظهر وإن كان مأموناً لم يجب لأنه لا يضيع حق من يظهر وحمل القولين على هذين الحالين وإن كان الوارث ممن له فرض لا ينقص كالزوجين فإن شهد الشهود أنه لا وارث له سواه وهم من أهل الخبرة دفع إليه أكمل الفرضين ولا يؤخذ منه ضمين وإن لم يشهدوا أنه لا وارث له سواه أو شهدوا بذلك ولم يكونوا من أهل الخبر دفع إليه أنقص الفرضين فإن كان زوجاً دفع إليه ربع المال عائلاً وإن كان زوجة دفع إليها ربع الثمن عائلاً ويوقف الباقي فإن لم يظهر وارث آخر دفع إليه الباقي.
فصل وإن ماتت امرأة وابنها فقال زوجها: ماتت فورثها الابن ثم مات الابن فورثته وقال أخوها: بل مات الابن أولاً فورثته الأم ثم ماتت فورثتها لم يورث ميت من ميت بل يجعل مال الابن للزوج ومال المرأة للزوج والأخ لأنه لا يرث إلا من تيقن حياته عند موت مورثه وههنا لا تعرف حياة واحد من الميتين عند موت مورثه فلم يورث أحدهما: من الآخر كالغرقى.
فصل: وإن مات رجل وله دار وخلف ابناً وزوجة فادعى الابن أنه تركها ميراثاً وادعت الزوجة أنه أصدقها الدار وأقام كل واحد منهما بينة قدمت بينة الزوجة على بينة الإرث لأن بينة الإرث تشهد بظاهر الملك المتقدم وبينة الصداق تشهد بأمر حادث على الملك خفي على بينة الإرث.
فصل: وإن تداعى رجلان حائطاً بين داريهما فإن كان مبنياً على تربيع إحداهما مساوياً لها في السم والحد ولم يكن بناؤه مخالفاً لبناء الدار الأخرى ولم تكن بينة لأحدهما: فالقول قول من بنى على تربيع داره لأن الظاهر أنه بني لداره وإن كان لأحدهما

(3/422)


أزج فالقول قوله لأن الظاهر أنه بني للأزج وإن كان مطلقاً وهو الذي لم يقصد به سوى السترة ولم تكن بينة حلفا وجعل بينهما لأنه متصل بالملكين اتصالاً واحداً وإن كان لأحدهما: عليه جذوح ولم يقدم على الآخر بذلك لأنهما لو تنازعا فيه قبل وضع الجدوع كان بينهما ووضع الجدوع يجوز أن يكون بإذن من الجار أو بقضاء حاكم يرى وضع الجدوع على حائط الجار بغير رضاه يلزم ما تيقناه بأمر محتمل كما لو مات رجل عن دار ثم وجد الدار في يد أجنبي.
فصل: وإن تداعى صاحب السفل وصاحب العلو السقف ولا بينة حلف كل واحد منهما وجعل بينهما لأنه حاجز توسط ملكيهما فكان بينهما كالحائط بين الدارين فإن تنازعا في الدرجة فإن كان تحتها مسكن فهي بينهما لأنهما متساويان في الانتفاع بها وإن كان تحتها موضع جب ففيه وجهان: أحدهما: أنهما يحلفان ويجعل بينهما لأنهما يرتفقان بها والثاني: أنه يحلف صاحب العلو ويقضي له لأن المقصود بها منفعة صاحب العلو وإن تداعيا سلماً منصوباً حلف صاحب العلو وقضي له لأنه يختص بالانتفاع به في الصعود وإن تداعيا صحن الدار نظرت فإن كانت الدرجة في الدهليز ففيه وجهان: أحدهما: أنها بينهما لأن لكل واحد منهما يداً ولهذا لو تنازعا في أصل الدار كانت بينهما والثاني: أنه لصاحب السفل لأنها في يده ولهذا يجوز أن تمنع صاحب العلو من الاستطراق فيها.
فصل: وإن تداعى رجلان مسناة بين نهر أحدهما: وأرض الآخر حلفا وجعل بينهما لأن فيها منفعة لصاحب النهر لأنها تجمع الماء في النهر ولصاحب الأرض منها منفعة لأنها تمنع الماء من أرضه.
فصل: وإن تداعى رجلان دابة وأحدهما: راكبها والآخر آخذ بلجامها حلف الراكب

(3/423)


وقضى له وقال أبو إسحاق رحمه الله هي بينهما لأن كل واحد منهما لو انفرد لكانت له والصحيح هو الأول لأن الراكب هو المنفرد بالتصرف فقضي له وإن تداعيا عمامة وفي يد أحدهما: منها ذراع وفي يد الآخر الباقي حلفا وجعلت بينهما لأن يد كل واحد منهما ثابتة على العمامة وإن تداعيا عبداً ولأحدهما: عليه ثياب حلف وجعل بينهما ولا يقدم صاحب الثياب لأن منفعة الثياب تعود إلى العبد لا إلى صاحب الثياب.
فصل: وإن كان في يد رجل عبد بالغ عاقل فادعى أنه عبده فإن صدقه حكم له بالملك وإن كذبه فالقول قوله مع يمينه لأن الظاهر الحرية وإن كان طفلاً لا يميز فالقول قول المدعي لأنه لا يعبر عن نفسه وهو في يده فهو كالبهيمة وإن بلغ هذا الطفل فقال لست بمملوك له لم يقبل قوله لأنا حكمنا له بالملك فلا يسقط بإنكاره وإن جاء رجل فادعى أنه ابنه لم يثبت نسبه بمجرد دعواه لأن فيه إضراراً بصاحب الملك لأنه ربما يعتقه فيثبت له عليه الولاء وإذا ثبت نسب لمن يدعي النسب سقط حق ولائه وإن كان مراهقاً وادعى أنه مملوكه مع إنكاره كالبالغ والثاني: أنه يحكم له بالملك وهو الصحيح لأنه لا حكم لقوله.
فصل: وإن تداعى الزوجان متاع البيت الذي يسكنانه ولا بينة حلفا وجعل الجميع بينهما نصفين لأنه في يدهما فجعل بينهما كما لو تداعيا الدار التي يسكنان فيها وإن تداعى المكري والمكتري المتاع الذي في الدار المكراة فالقول قول المكتري لأن يده ثابتة على ما في الدار وإن تداعيا سلماً غير مسمر فهو للمكتري لأنها متصلة بالدار فصارت كأجزائها وإن كانت غير مسمرة فقد قال الشافعي رحمه الله بأنهما يتحالفان وتجعل بينهما لأن الرفوف قد تترك في العادة وقد تنقل عنها فيجوز أن تكون للمكتري ويجوز أن تكون للمكري فجعل بينهما.
فصل: ومن وجب له حق على رجل وهو غير ممتنع من دفعه لم يجز لصاحب الحق أن يأخذ من ماله حقه بغير إذنه لأن الخيار فيما يقضي به الدين إلى من عليه الدين ولا يجوز أن يأخذ إلا ما يعطيه وإن أخذ بغير إذنه لزمه رده فإن تلف ضمنه لأنه أخذ مال غيره بغير حق وإن كان ممتنعاً من أدائه فإن لم يقدر على أخذه بالحاكم، فله

(3/424)


أن يأخذ من ماله لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا إضرار" وفي منعه من أخذ ماله في هذا الحال إضرار به وإن كان يقدر على أخذه بالحاكم بأن تكون له عليه بينة ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا يجوز أن يأخذه لأنه يقدر على أخذه بالحاكم فلم يجز أن يأخذه بنفسه والثاني: وهو المذهب أنه يجوز لأن هنداً قالت يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح وأنه لا يعطيني ما يكفيني وولدي إلا ما آخذه سراً فقال عليه السلام: "وخذي ما يكفيك وولدك بالمعروف". فأذن لها في الأخذ مع القدرة على الأخذ بالحاكم ولأن عليه في المحاكمة مشقة فجاز له أخذه فإن كان الذي قدر عليه من جنس حقه أخذ قدر حقه وإن كان من غير جنسه أخذه ولا يجوز أن يتملكه لأنه من غير جنس ماله فلا يجوز أن يتملكه ولكن يبيعه ويصرف ثمنه في حقه وفي كيفية البيع وجهان: أحدهما: أنه يواطئ رجلاً ليقر له بحق وأنه ممتنع من أدائه فيبيع الحاكم المال عليه والثاني: وهو المذهب أنه يبيع المال بنفسه لأنه يتعذر عليه أن يثبت الحق عند الحاكم وأنه ممتنع من بيعه فملك بيعه بنفسه فإن تلفت العين قبل البيع ففيه وجهان: أحدهما: أنها تتلف من ضمان من عليه الحق ولا يسقط دينه لأنها محبوسة لاستيفاء حقه منها فكان هلاكها من ضمان المالك كالرهن والوجه الثاني أنها تتلف من ضمان صاحب الحق لأنه أخذها بغير إذن المالك فتلفت من ضمانه بخلاف الرهن فإنه أخذه بإذن المالك فتلف من ضمانه.

(3/425)


باب اليمين في الدعاوي
إذا ادعى رجل على رجل حقاً فأنكره ولم يكن للمدعي بينة فإن كان ذلك في غير الدم تحلف المدعى عليه فإن نكل عن اليمين ردت اليمين على المدعي وقد بينا ذلك في باب الدعاوي وإن كانت الدعوى في دم ولم يكن للمدعي بينة فإن كان في قتل لا يوجب القصاص نظرت فإن كان هناك لوث حلف المدعي خمسين يميناً وقضى له بالدية والدليل عليه ما روى سهل بن أبي جثمة أن عبد الله ومحيصة خرجا إلى خيبر من جهد أصابهما فأتى محيصة وذكر أن عبد الله طرح في فقير أوعين ماء فأتى يهوداً، فقال

(3/425)


أنتم والله قتلتموه قالوا: والله ما قتلناه فأقبل هو وأخوه حويصة وعبد الرحمن أخو المقتول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذهب محيصة يتكلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الكبر الكبر" فتكلم حويصة ثم تكلم محيصة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إما أن يدوا صاحبكم وإما أن يأذنوا بحرب من الله ورسوله". فكتب إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك فكتبوا إنا والله ما قتلناه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحويصة ومحيصة وعبد الرحمن: "أتحلفون خمسين وتستحقون دم صاحبكم" فقالوا: لا قال: "أيحلف لكم يهود" قالوا: لا ليسوا بمسلمين فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم من عنده فبعث إليهم بمائة ناقة قال سهل: لقد ركضتني منها ناقة حمراء ولأن باللوث تقوى جنبة المدعي ويغلب على الظن صدقه فسمعت يمينه كالمدعي إذا شهد له عدل وحلف معه وإن كانت الدعوى في قتل يوجب القود ففيه قولان: قال في القديم يجب القود بأيمان المدعي لأنها حجة يثبت بها قتل العمد فوجب بها القود كالبينة وقال في الجديد: لا يجب لقوله صلى الله عليه وسلم: "إما أن يدوا صاحبكم أو يأذنوا بحرب من الله ورسوله" فذكر الدية ولم يذكر القصاص ولأنه حجة لا يثبت بها النكاح فلا يثبت بها القصاص كالشاهد واليمين فإن قلنا بقوله القديم وكانت الدعوى على جماعة وجب القود عليهم وقال أبو إسحاق رحمه الله: لا يقتل إلا واحد يختاره والقسامة على هذا القول كالبينة في إيجاب القود فإذا قتل بها الواحد قتل بها الجماعة.
فصل: وإن كان المدعي جماعة ففيه قولان: أحدهما: أنه يحلف كل واحد منهم خمسين يميناً لأن ما حلف به الواحد إذا انفرد حلف به كل واحد من الجماعة كاليمين الواحدة في سائر الدعاوي والقول الثاني أنه يقسط عليهم الخمسون يميناً على قدر مواريثهم لأنه لما قسط عليهم ما يجب بأيمانهم من الدية على قدر مواريثهم وجب أن تقسط الأيمان أيضاً على قدر مواريثهم وإن دخلها كسر جبر الكسر لأن اليمين الواحدة لا تتبعض فكملت فإن نكل المدعي عن اليمين ردت اليمين على المدعى عليه فيحلف خمسين يميناً لقوله عليه الصلاة والسلام: "يبرئكم يهود متهم بخمسين يمينا". ولأن

(3/426)


التغليظ بالعدد لحرمة النفس وذلك يوجد في يمين المدعي والمدعى عليه وإن كان المدعى عليه جماعة ففيه قولان: أحدهما: أنه يحلف كل واحد منهم خمسين يميناً والثاني: أن الخمسين تقسط على عددهم والصحيح من القولين ههنا أن يحلف كل واحد منهم خمسين يميناً والصحيح من القولين في المدعين أنهم يحلفون خمسين يميناً والفرق بينهما أن كل واحد من المدعى عليه ينفي عن نفسه ما ينفيه لو انفرد وليس كذلك المدعون فإن كان واحد منهم لا يثبت لنفسه ما يثبته إذا انفرد.
فصل: فأما إذا لم يكن لوث ولا شاهد فالقول قول المدعى عليه مع يمينه لقوله صلى الله عليه وسلم: "لو أن الناس أعطوا بدعواهم لادعى ناس من الناس دماء ناس وأموالهم ولكن اليمين على المدعي عليه". ولأن اليمين إنما جعلت في جنبة المدعي عند اللوث لقوة جنبته باللوث فإذا عدم اللوث حصلت القوة في جنبة المدعى عليه لأن الأصل براءة ذمته وعدم القتد فعادت اليمين إليه وهل تغلظ بالعدد فيه قولان: أحدهما: أنها لا تغلظ بل يحلف يميناً واحدة وهو اختيار المزني لأنها يمين توجهت على المدعى عليه ابتداء فلم تغلظ بالعدد كما في سائر الدعاوي والثاني: أنها تغلظ فيحلف خمسين يميناً وهو الصحيح لأن التغليظ بالعدد لحرمة الدم وذلك موجود مع عدم اللوث فإن قلنا إنها يمين واحدة فإن كان المدعى عليه جماعة حلف كل واحد منهم يميناً واحدة فإن نكلوا ردت اليمين على المدعي فإن كان واحداً حلف يميناً واحدة وإن كانوا جماعة حلف كل واحد منهم يميناً واحدة وإن قلنا يغلظ بالعدد وكان المدعى عليه واحداً حلف خمسين يميناً وإن كانوا جماعة فعلى القولين: أحدهما: أنه يحلف كل واحد خمسين يميناً والثاني: أنه يقسط على عدد رؤوسهم فإن نكلوا ردت اليمين على المدعي فإن كان واحداً حلف خمسين يميناً وإن كانوا جماعة فعلى القولين: أحدهما: أنه يحلف كل واحد منهم خمسين يميناً والثاني: أنه يقسط عليهم خمسون يميناً على قدر مواريثهم من الدية وإذا نكل المدعى عليه فحلف المدعي وقضي له فإن كان في قتل يوجب المال قضي له بالدية وإن كان في قتل يوجب القصاص وجب القصاص قولاً واحداً لأن يمين المدعي مع نكول المدعى عليه كالبينة في أحد القولين وكالإقرار في القول الآخر والقصاص يجب بكل واحد منهما.
فصل: وإن ادعى القتل على اثنين وعلى أحدهما: لوث دون الآخر حلف المدعي على صاحب اللوث لوجود اللوث وحلف الذي لا لوث عليه لعدم اللوث وإن ادعى القتل على جماعة لا يصح اشتراكهم على القتل لم تسمع دعواه لأنها دعوى محال، وإن

(3/427)


ادعى القتل على ثلاثة وهناك لوث فحضر منهم واحد وغاب اثنان وأنكر الحاضر حلف المدعي خمسين يميناً فإن حضر الثاني وأنكر ففيه وجهان: أحدهما: أنه يحلف عليه خمسين يميناً لأنهما لو حضرا ذكر كل واحد منهما في يمينه فإذا انفرد وجب أن يكرر ذكره والوجه الثاني أنه يحلف خمساً وعشرين يميناً لأنهما لو حضرا حلف عليهما خمسين يميناً فإذا انفرد وجب أن يحلف عليه نصف الخمسين فإن حضر الثالث وأنكر ففيه وجهان: أحدهما: أنه يحلف عليه خمسين يميناً والثاني: أنه يحلف عليه ثلث خمسين يميناً ويجبر الكسر فيحلف سبع عشرة يميناً وإن قال قتله هذا عمداً ولا أعلم كيف قتله الآخران أقسم على الحاضر وقف الأمر إلى أن يحضر الآخران فإن حضرا وأقرا بالعمد ففي القود قولان وإن أقرا بالخطأ وجب على الأول ثلث الدية مغلظة وعلى كل واحد من الآخرين ثلث الدية مخففة وإن أنكر القتل ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا يحلف لأنه لا يعلم ما يحلف عليه ولا يعلم الحاكم ما يحكم به والثاني: وهو قول أبي إسحاق أنه يحلف لأن جهله بصفة القتل ليس بجهل بأصل القتل فإذا حلف حبسا حتى يصفا القتل وإن قال قتله هذا ونفر لا أعلم عددهم فإن قلنا إنه لا يجب القود لم يقسم على الحاضر لأنه لا يعلم ما يخصه وإن قلنا إنه يجب القود ففيه وجهان: أحدهما: أنه يقسم لأن الجماعة تقتل بالواحد فلم يضر الجهل بعددهم والثاني: وهو قول أبي إسحاق أنه لا يقسم لأنه ربما عفا عن القود على الدية ولا يعلم ما يخصه منها
فصل: واللوث الذي يثبت لأجله اليمين في جنبة المدعي هو أن يوجد معنى يغلب معه على الظن صدق المدعي فإن وجد القتيل في محلة أعدائه لا يخالطهم غيرهم كان ذلك لوثاً فيحلف المدعي لأن قتيل الأنصار وجد في خيبر وأهلها أعداء للأنصار فجعل النبي صلى الله عليه وسلم اليمين على المدعين فصار هذا أصلاً لكل من يغلب معه على الظن صدق المدعي فيجعل القول قول المدعي مع يمينه وإن كان يخالطهم غيرهم لم يكن لوثاً لجواز أن يكون قتله غيرهم وإن تفرقت جماعة عن قتيل في دار أو بستان وادعى الولي أنهم قتلوه فهو لوث فيحلف المدعي أنهم قتلوه لأن الظاهر أنهم قتلوه وإن وجد قتيل في زحمة فهو لوث فإن ادعى الولي أنهم قتلوه حلف وقضى له وإن وجد قتيل في أرض وهناك رجل معه سيف مخضب بالدم وليس هناك غيره فهو لوث فإن ادعى الولي عليه القتل حلف عليه لأن الظاهر أنه قتله فإن كان هناك غيره من سبع أو رجل مول لم يثبت اللوث على صاحب السيف لأنه يجوز أن يكون قتله السبع أو الرجل المولي وإن

(3/428)


تقابلت طائفتان فوجد قتيل من إحدى الطائفتين فهو لوث على الطائفة الأخرى فإن ادعى الولي أنهم قتلوه حلف وقضى له بالدية لأن الظاهر أنه لم تقتله طائفة وإن شهد جماعة من النساء أو العبيد على رجل بالقتل نظرت فإن جاءوا دفعة واحدة وسمع بعضهم كلام البعض لم يكن ذلك لوثا لأنه يجوز أن يكونوا قد تواطئوا على الشهادة وإن جاءوا متفرقين واتفقت أقوالهم ثبت اللوث ويحلف الولي معهم وإن شهد صبيان أو فساق أو كفار على ترجل بالقتل وجاءوا دفعة واحدة وشهدوا لم يكن ذلك لوثاً لأنه جوز أن يكونوا قد تواطئوا على الشهادة فإن جاءوا متفرقين وتوافقت أقوالهم ففيه وجهان: أحدهما: أن ذلك لوث لأن اتفاقهم على شيء واحد من غير تواطؤ يدل على صدقهم والثاني: أنه ليس بلوث لأنه لا حكم لخبرهم فلو أثبتنا بقلوهم لوثاً لجعلنا لخبرهم حكماً وإن قال المجروح قتلني فلان ثم مات لم يكن قوله لوثاً لأنه دعوى ولا يعلم به صدقه فلا يجعل لوثاً فإن شهد عدل على رجل بالقتل فإن كانت الدعوى في قبل يوجب المال حلف المدعي يميناً وقضى له بالدية لأن المال يثبت بالشاهد واليمين وإن كانت في قتل يوجب القصاص حلف خمسين يميناً ويجب القصاص في قوله القديم والدية في قوله الجديد.
فصل: وإن شهد واحد أنه قتله فلان بالسيف وشهد آخر أنه قتله بالعصا لم يثبت القتل بشهادتهما لأنه لم تتفق شهادتهما على قتل واحد وهل يكون ذلك لوثاً يوجب القسامة في جانب المدعي؟ قال في موضع يوجب القسامة وقال في موضع لا يوجب القسامة واختلف أصحابنا في ذلك فقال أبو إسحاق: هو لوث يوجب القسامة قولاً واحداً لأنهما اتفقا على إثبات القتل وإنما اختفا في صفته وجعل القول الآخر غلطاً من الناقل وقال أبو الطيب بن سلمة وابن الوكيل: إن ذلك ليس بلوث ولا يوجب القسامة قولاً واحداً لأن كل واحد منهما يكذب الآخر فلا يغلب على الظن صدق ما يدعيه والقول الآخر غلظ من الناقل ومنهم من قال في المسألة قولان: أحدهما: أنه لوث يوجب القسامة والثاني: ليس بلوث ووجههما ما ذكرناه وإن شهد واحد أنه قتله فلان وشهد آخر أنه أقر بقتله لم يثبت القتل بشهادتهما لأن أحدهما: شهد بالقتل والآخر شهد بالإقرار وثبت اللوث على المشهود عليه وتخالف المسألة قبلها فإن هناك كل واحد منهما يكذب الآخر وههنا كل واحد منهما غير مكذب للآخر بل كل واحد منهما يقوب الآخر فيحلف المدعي مع من شاء منهما فإن كان القتل خطأ حلف يميناً واحدة وثبتت الدية فإن حلف مع من شهد بالقتل وجبت الدية على العاقلة لأنها تثبت بالبينة وإن حلف مع من شهد بالإقرار وجبت الدية في ماله لأنها تثبت بالإقرار وإن كان القتل

(3/429)


موجباً للقصاص حلف المدعي خمسين يميناً ووجب له القصاص في أحد القولين والدية في الآخر وإن ادعى على رجل أنه قتل وليه ولم يقل عمداً ولا خطأ وشهد له بما ادعاه شاهد لم يكن ذلك لوثاً لأنه لو حلف مع شاهده لم يمكن الحكم بيمينه لأنه لا يعلم صفة القتل حتى يستوفي موجبه فسقطت الشهادة وبطل اللوث.
فصل: وإن شهد شاهدان أن فلاناً قتله أحد هذين الرجلين ولم يعينا ثبت اللوث فيحلف الولي على من يدعي القتل عليه لأنه قد ثبت أن المقتول قتله أحدهما: فصار كما لو وجد بينهما مقتول فإن شهد شاهد على رجل أنه قتل أحد هذين الرجلين لم يثبت اللوث لأن اللوث ما يغلب معه على الظن صدق ما يدعيه المدعي ولا يعلم أن الشاهد لمن شهد من الوليين فلا يغلب على الظن صدق واحد من الوليين فلم يثبت في حقه لوث وإن ادعى أحد الوارثين قتل مورثه على رجل في موضع اللوث وكذبه الآخر سقط حق المكذب من القسامة وهل يسقط اللوث في حق المدعي فيه قولان: أحدهما: أنه لا يسقط فيحلف ويستحق نصف الدية وهو اختيار المزني لأن القسامة مع اللوث كاليمين مع الشاهد ثم تكذيب أحد الوارثين لا يمنع الآخر من أن يحلف مع الشهادة فكذلك تكذيب أحد الوارثين لا يمنع الآخر من أن يقسم مع اللوث والقول الثاني: أنه يسقط لأن اللوث يدل على صدق المعي من جهة الظن وتكذيب المكر يدل على كذب المدعي من جهة الظن فتعارضا وسقطا وبقي القتل بغير لوث فيحلف المدعى عليه على ما ذكرناه وإن قال أحد الابنين قتل أبي زيد ورجل آخر لا أعرفه وقال الآخر قتله عمرو ورجل آخر لا أعرفه أقسم كل واحد على من عينه ويستحق عليه ربع الدية لأن كل واحد منهما غير مكذب للآخر لجواز أن يكون الآخر هو الذي ادعى عليه أخوه فإن رجعا وقال كل واحد منهما علمت أن الآخر هو الذي ادعى عليه أخي أقسم كل واحد منهما على الذي ادعى عليه أخوه ويستحق عليه ربع الدية وإن قال كل واحد منهما علمت أن الآخر غير الذي اادعى عليه أخي صار كل واحد منهما مكذباً للآخر فإن قلنا إن تكذيب أحدهما: لا يسقط اللوث أقسم كل واحد منهما على الذي عينه ثانياً واستحق عليه ربع الدية وإن قلنا إن التكذيب يسقط اللوث بثلث القسامة فإن أخذ شيئاً رده ويكون القول قول المدعى عليه مع يمينه وإن ادعى القتل على رجل عليه لوث فجاء آخر وقال أنا قتلته ولم يقتله هذا لم يسقط حق المدعي من القسامة بإقراره وإقراره على نفسه لا يقبل لأن صاحب الدم لا يدعيه وهل للمدعي أن يرجع ويطالب المقر بالدية؟ فيه قولان: أحدهما: أنه ليس له مطالبته لأن دعواه

(3/430)


على الأول إبراء لكل من سواه والثاني: أن له أن يطالب لأن دعواه على الأول باللوث من جهة الظن والإقرار يقين فجاز أن يترك الظن ويرجع إلى اليقين وإن ادعى على رجل قتل العمد فقيل له صف العمد ففسره بشبه العمد فقد نقل المزني أنه لا يقسم وروى الربيع أنه يقسم فمن أصحابنا من قال فيه قولان: أحدهما: أنه لا يقسم لأن بقوله قتله عمداً أبرأ العاقلة وبتفسيره أبرأ القاتل والقول الثاني: أنه يقسم وتجب الدية على العاقلة لأن المعول على التفسير وقد فسر بشبه العمد ومنهم من قال: يقسم قولاً واحداً لما بينا وقوله لا يقسم معناه لا يقسم على ما ادعاه.
فصل: وإن كانت الدعوى في الجناية على الطرف ولم تكن شهادة فالقول قول المدعى عليه مع يمينه لأن اللوث قضى به في النفس بحرمة النفس فلا يقضي به في الطرف كالكفارة وهل تغلظ اليمين فيه بالعدد؟ فيه قولان: أحدهما: لا تغلظ لأنه يسقط فيه حكم اللوث فسقط فيه حكم التغليظ بالعدد والثاني: أنه تغلظ بالعدد لأنه يجب فيه القصاص والدية المغلظة فوجب فيه تغليظ اليمين فإن قلنا لا نغلظ حلف المدعى عليه يميناً واحدة وإن قلنا تغلظ فإن كان في جناية توجب دية كاملة كاليدين غلظ بخمسين يميناً وإن كان فيما لا توجب دية كاملة كاليد الواحدة ففي قدر التغليظ قولان: أحدهما: أنه يغلظ بخمسين يميناً لأن التغليظ لحرمة الدم وذلك موجود في اليد الواحدة والثاني: أنه تغلظ بحصته من الدية لأن ديته دون النفس فلم تغلظ بما تغلظ به في النفس.
فصل: فإن كانت الدعوى في قتل عبد وهناك لوث ففيه طريقان: أحدهما: أنه يبني ذلك على أن العاقلة هل تحمل قيمته بالجناية؟ فإن قلنا تحمل العاقلة قيمته ثبتت فيه القسامة للسيد وإن قلنا لا تحمل لم تثبت القسامة والثاني: وهو قول أبي العباس أن للسيد القسامة قولاً واحداً لأن القسامة لحرمة النفس فاستوى فيه الحر والعبد كالكفارة فإن قلنا إن السيد يقسم أقسم المكاتب في قتل عبده فإن لم يقسم حتى عجز عن أداء الكتابة أقسم المولى وإن قتل عبد وهناك لوث ووصى مولاه بقيمته لأم ولده ولم يقسم السيد حتى مات ولم تقسم الورثة فهل تقسم أم الولد فيه قولان: أحدهما: تقسم والثاني: لا تقسم كما قلنا في غرماء الميت إذا كان له دين وله شاهد ولم تحلف الورثة أن الغرماء يقسمون في أحد القولين ولا يقسمون في الآخر وقد بينا ذلك في التفليس.
فصل: وإن قتل مسلم وهناك لوث فلم يقسم وليه حتى ارتد المدعي لم يقسم لأنه إذا أقدم على الردة وهي من أكبر الكبائر لم يؤمن أن يقدم على اليمين الكاذبة فإن أقسم صحت القسامة وقال المزني رحمه الله لا تصح لأنه كافر فلا يصح يمينه بالله وهذا خطأ لأن القصد بالقسامة اكتساب المال والمرتد من أهل الاكتساب فإذا أقسم وجب

(3/431)


القصاص لوارثه أو الدية فإن رجع إلى الإسلام كان له وإن مات على الردة كان ذلك لبيت المال فيئا وقال أبوعلي بن خيران وأبو حفص بن الوكيل: يبني وجوب الدية بقسامته على حكم ملكه فإن قلنا إن ملكه لا يزول بالردة أو قلنا أنه موقوف فعاد إلى الإسلام ثبتت الدية وإن قلنا إن ملكه يزول بالردة أو قلنا أنه موقوف فلم يسلم حتى مات لم تثبت الدية وهذا غلط لأن اكتسابه للمال يصح على الأقوال كلها وهذا اكتساب.
فصل: ومن توجهت عليه يمين في م غلظ عليه في اليمين لما روي أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه مر بقوم يحلفون بين الركن والمقام فقال أعلى دم؟ قيل لا قال: أفعلى عظيم من المال؟ قيل: لا قال: لقد خشيت أن يبهأ الناس بهذا المقام وإن كانت اليمين في نكاح أو طلاق أوحد قذف أو غيرها مما ليس بمال ولا المقصود منه المال غلظ لأنه ليس بمال ولا المقصود منه المال فغلظ اليمين فيه كالدم وإن كانت اليمين في مال أو ما يقصد به المال فإن كان يبلغ عشرين مثقالاً غلظ وإن لم يبلغ ذلك لم يغلظ لأن عبد الرحمن بن عوف فرق بين المال العظيم وبين ما دونه فإن كانت اليمين في دعوى عتق فإن كان السيد هو الذي يحلف فإن كات قيمة العبد تبلغ عشرين مثقالاً غلظ اليمين وإن لم تبلغ عشرين مثقالاً لم يغلظ لأن المولى يحلف لإثبات المال ففرق بين القليل والكثير كأروش الجنايات فإن كان الذي يحلف هو العبد غلظ قلت قيمته أو كثرت لأنه يحلف إثبات العتق والعتق ليس بمال ولا المقصود منه المال فلم تعتبر قيمته كدعوى القصاص ولا فرق بين أن يكون في طرف قليل الأرش أوفي طرف كثير الأرش.
فصل: والتغليظ قد يكون بالزمان وبالمكان وفي اللفظ فأما التغليظ بالمكان ففيه قولان: أحدهما: أنه يستحب والثاني: أنه واجب وأما التغليظ بالزمان فقد ذكر الشيخ أبو حامد الإسفرايني رحمه الله أنه يستحب وقد بينا ذلك في اللعان وقال أكثر أصحابنا إن التغليظ بالزمان كالتغليظ بالمكان وفيه قولان وأما التغليظ باللفظ فهو مستحب وهو أن يقول والله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم الذي يعلم من السر ما يعلم من العلانية لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أحلف رجلاً فقال: "قل والله الذي لا إله إلا هو". لأن القصد باليمين الزجر عن الكذب وهذه الألفاظ أبلغ في الزجر وأمنع من الإقدام على الكذب وإن اقتصر على قوله والله أجزأه لأن النبي صلى الله عليه وسلم اقتصر في إحلاف ركانة على قوله والله وإن اقتصر على صفة من صفات الذات كقوله: وعزة الله أجرأه لأنها بمنزلة قوله والله في الحنث في اليمين وإيجاب الكفارة وإن حلف بالمصحف وما فيه من القرآن

(3/432)


فقد حكى الشافعي رحمه الله عن مطرف أن ابن الزبير كان يحلف على المصحف قال: ورأيت مطرفاً بصنعاء يحلف على المصحف قال الشافعي وهو حسن ولأن القرآن من صفات الذات ولهذا يجب بالحنث فيه الكفارة وإن كان الحالف يهودياً أحلفه الله الذي أنزل التوراة على موسى ونجاه من الغرق وإن كان نصرانياً أحلفه بالله الذي أنزل الإنجيل على عيسى وإن كان مجوسياً أو وثنياً أحلفه بالله الذي خلقه وصوره.
فصل: ولا يصح اليمين في الدعوى إلا أن يستحلفه القاضي لأن ركانة بن عبد يزيد قال لرسول الله: يا رسول الله إني طلقت امرأتي سهيبة البتة والله ما أردت إلا واحدة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والله ما أردت إلا واحدة". قال ركانة: والله ما أردت إلا واحدة ولأن الاعتبار بنية الحاكم فإذا حلف من غير استحلافه نوى ما لا يحنث به فيجعل ذلك طريقاً إلى إبطال الحقوق وإن وصل بيمينه استثناء أو شرطاً أو وصله بكلام لم يفهمه أعاد عليه اليمين من أولها وإن كان الحالف أخرس ولا يفهم إشارته وقف الأمر إلى أن يفهم إشارته فإن طلب المدعي أن يرد اليمين عليه لم يرد اليمين عليه لأن رد اليمين يتعلق بنكول المدعى عليه ولا يوجد النكول فإن كان الذي عليه اليمين حلف بالطلاق أنه لا يحلف بيمين مغلظة فإن كان التغليظ غير مستحق لم يلزمه أن يحلف يميناً مغلظة وإن امتنع من التغليظ لم يجعل ناكلاً.
فصل: وإن حلف على فعل نفسه في نفي أو إثبات حلف على القطع لأن علمه يحيط بحاله فيما فعل وفيما لم يفعل وإن حلف على فعل غيره فإن كان في إثبات حلف على القطع لأن له طريقاً إلى العلم بما فعل غيره وإن كان على نفي حلف على نفي العلم فيقول والله لا أعلم أن أبي أخذ منك مالاً ولا أعلم أن أبي أبرأك من دينه لأنه لا طريق له إلى القطع بالنفي فلم يكف اليمين عليه.
فصل: وإن ادعى عليه دين من بيع أو قرض فأجاب بأنه لا يستحق عليه شيء ولم يتعرض للبيع والقرض لم يحلف إلا على ما أجاب ولا يكلف أن يحلف على نفي البيع والقرض لأنه يجوز أن يكون قد استقرض منه أو ابتاع ثم قضاه أو أبرأه منه فإذا حلف على نفي البيع والقرض حلف كاذباً وإن أجاب بأنه ما باعني ولا أقرضني ففي الإحلاف وجهان: أحدهما: أنه يحلف أنه لا يستحق عليه شيء ولا يكلف أن يحلف على نفي البيع والقرض لما ذكرناه من التعليل والثاني: أنه يحلف على نفي البيع

(3/433)


والقرض لأنه نفى ذلك في الجواب فلزمه أن يحلف على النفي فإن ادعى رجل على رجل ألف درهم فأنكر حلف أنه لا يستحق عليه ما يدعيه ولا شيئاً منه فإن حلف أنه لا يستحق عليه الألف لم يجزه لأن يمينه على نفي الألف لا يمنع وجوب بعضها.
فصل: وإن كان لجماعة على رجل حق فوكلوا رجلاً في استحلافه لم يجز أن يحلف لهم يميناً واحدة لأن لكل واحد منهم عليه يميناً فلم تتداخل فإن رضوا بأن يحلف لهم يميناً واحدة ففيه وجهان: أحدهما: أنه يجوز كما يجوز أن يثبت ببينة واحدة حقوق الجماعة والثاني: وهو المذهب أنه لا يجوز لأن القصد من اليمين الزجر وما يحصل من الزجر بالتفريق لا يحصل بالجمع فلم يجز وإن رضوا كما لو رضيت المرأة أن يقتصر الزوج في اللعان على شهادة واحدة.

(3/434)