المهذب في فقة الإمام الشافعي

كتاب الشهادات
مدخل
...
كتاب الشهادات
تحمل الشهادة وأداؤها فرض لقوله عز وجل: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إذا مَا دُعُوا} [البقرة: 282] وقوله تعالى: {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 28] قال ابن عباس رضي الله عنه: من الكبائر كتمان الشهادة، فإن قام بها من فيه كفاية سقط الفرض عن الباقين لأن المقصود بها حفظ الحقوق وذلك يحصل ببعضهم، وإن كان في موضع لا يوجد فيه غيره ممن يقع به الكفاية تعين عليه لأنه لا يحصل المقصود إلا به فتعين عليه ويجب الإشهاد على عقد النكاح وقد بيناه في النكاح، وهل يجب على الرجعة فيه قولان، وقد بيناهما في الرجعة وأما ما سوى ذلك من العقود كالبيع والإجارة وغيرهما، فالمستحب أن يشهد عليه لقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا إذا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282] ولا يجب لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم ابتاع من أعرابي فرسا فجحده، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من يشهد لي" فقال خزيمة بن ثابت الأنصاري: أنا أشهد لك، قال: "لم تشهد ولم تحضر" فقال نصدقك على أخبار السماء ولا نصدقك علا أخبار الأرض، فسماه النبي صلى الله عليه وسلم ذات الشهادتين.
فصل: ومن كانت عنده شهادة في حد الله تعالى فالمستحب أن لا يشهد به لأنه مندوب إلى ستره ومأمور بدرئه، فإن شهد به جاز لأنه شهد أبو بكرة ونافع وشبل بن معبد على المغيرة بن شعبة بالزنا عند عمر رضي الله عنه فلم ينكر عمر ولا غيره من الصحابة عليهم ذلك، ومن كانت عنده شهادة لآدمي، فإن كان صاحبها يعلم بذلك لم يشهد قبل أن يسأل لقوله عليه الصلاة والسلام: "خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين

(3/435)


يلونهم، ثم يقشوا الكذب حتى يشهد الرجل قبل أن يستشهد" 1. وإن كان صاحبها لا يعلم شهد قبل أن يسأل لما روى زيد بن خالد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خير الشهود الذي يأتي بالشهادة قبل أن يسألها" 2.
فصل: ولا يجوز لمن تعين عليه فرض الشهادة أن يأخذ عليها أجرة لأنه فرض تعين عليه فلم يجز أن يأخذ عليه أجرة كسائر الفرائض، ومن لم يتعين عليه ففيه وجهان: أحدهما: أنه يجوز له أخذ الأجرة لأنه لا يتعين عليه فجاز أن يأخذ عليه أجرة كما يجوز على كتب الوثيقة. والثاني: أنه لا يجوز لأنه تلحقه التهمة بأخذ العوض.
__________
1 رواه الترمذي في كتاب الفتن باب 7. ابن ماجه في كتاب الأحكام باب 27. أحمد في مسنده 1/18.
2 رواه مسلم في كتاب الأقضية حديث 19. أبو داود في كتاب الأقضية باب 13. الترمذي في كتاب الشهادات باب 1. ابن ماجه في كتاب الأحكام باب 28. الموطأ في كتاب الأقضية حديث 3.

(3/436)


باب من تقبل شهادته ومن لا تقبل
لا تقبل شهادة الصبي لقوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282] والصبي ليس من الرجال ولما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "رفع القلم عن ثلاثة عن الصبي حتى يبلغ وعن النائم حتى يستيقظ وعن المجنون حتى يفيق". ولأنه إذا لم يؤتمن على حفظ أمواله فلأن لا يؤتمن على حفظ حقوق غيره أولى ولا تقبل شهادة المجنون للخبر والمعنى الذي ذكرناه ولا تقبل شهادة المغفل الذي يكثر منه الغلط لأنه لا يؤمن أن يغلط في شهادته وتقبل الشهادة ممن يقل منه الغلط لأن أحداً لا ينفك من الغلط واختلف أصحابنا في شهادة الأخرس فمنهم من قال: تقبل لأن إشارته كعبارة الناطق في نكاحه وطلاقه فكذلك في الشهادة ومنهم من قال: لا تقبل لأن إشارته أقيمت مقام العبارة في موضع الضرورة وهو في النكاح والطلاق لأنها لا تستفاد إلا من جهته ولا ضرورة بنا إلى شهادته لأنها تصح من غيره بالنطق فلا تجوز بإشارته.

(3/436)


فصل: ولا تقبل شهادة العبد لأنها أمر لا يتبعض بني على التفاضل فلم يكن للعبد فيه مدخل كالميراث والرحم ولا تقبل شهادة الكافر لما روى معاذ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تجوز شهادة أهل دين على أهل دين آخر إلا المسلمين فإنهم عدول على أنفسهم وعلى غيرهم". ولأنه إذا لم تقبل شهادة من يشهد بالزور على الآدمي فلأن لا تقبل شهادة من شهد بالزور على الله تعالى أولى ولا تقبل شهادة فاسق لقوله تعالى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6] فإن ارتكب كبيرة كالغصب والسرقة والقذف وشرب الخمر فسق وردت شهادته سواء فعل ذلك مرة أو تكرر منه والدليل عليه قوله عز وجل: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4] وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا زان ولا زانية ولا ذي غمر على أخيه" 1. فورد النص في القذف والزنا وقسنا عليهم سائر الكبائر ولأن من ارتكب كبيرة ولم يبال شهد بالزور ولم يبال وإن تجنب الكبائر وارتكب الصغائر فإن كان ذلك نادراً من أفعاله لم يفسق ولم ترد شهادته وإن كان ذلك غالباً في أفعاله فسق وردت شهادته لأنه لا يمكن رد شهادته بالقليل من الصغائر لأنه لا يوجد من يمحض الطاعة ولا يخلطها بمعصية ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما منا إلا من عصى أو عم بمعصية إلا يحيى ابن زكريا". ولهذا قال الشاعر:
من لك بالمحض وليس محض ... يخبث بعض ويطيب بعض
ولا يمكن قبول الشهادة مع الكثير من الصغائر لأن من استجاز الإكثار من الصغائر
__________
1 رواه أبو داود في كتاب الأقضية باب 16. الترمذي في كتاب الشهادات باب 2. ابن ماجه في كتاب الأحكام باب 30. أحمد في مسنده 2/204.

(3/437)


استجاز أن يشهد بالزور فعلقنا الحكم على الغالب من أفعاله لأن الحكم للغائب والنادر لا حكم له ولهذا قال الله تعالى: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} [الأنبياء: 103] .
فصل: ولا تقبل شهادة من لا مروءة له كالقوال والرقاص ومن يأكل في الأسواق ويمشي مكشوف الرأس في موضع لا عادة له في كشف الرأس فيه لأن المروءة هي الإنسانية وهي مشتقة من المرء ومن ترك الإنسانية لم يؤمن أن يشهد بالزور ولأن من لا يستحيي من الناس في ترك المروءة لم يبال بما يصنع والدليل عليه ما روى أبو مسعود البدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستحي فاصنع ما شئت" 1. واختلف أصحابنا في أصحاب الصنائع الدنيئة إذا حسنت طريقتهم في الدين كالكناس والدباغ والزبال والنخال والحجام والقيم الحمام فمنهم من قال لا تقبل شهادتهم لدناءتهم ونقصان مروءتهم ومنهم من قال: تقبل شهادتهم لقوله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ الله أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] ولأن هذه صناعات مباحة وبالناس إليها حاجة فلم ترد بها الشهادة.
فصل: ويكره اللعب بالشطرنج لأنه لعب لا ينتفع به في أمر الدين ولا حاجة تدعوا إليه فكان تركه أولى ولا يحرم لأنه روي اللعب به عن ابن عباس وابن الزبير وأبي هريرة وسعيد بن المسيب رضي الله عنهم وروي عن سعيد بن جبير أنه كان يلعب به استدباراً ومن لعب به من غير عوض ولم يترك فرضاً ولا مروءة لم ترد شهادته وإن لعب به عوض نظرت فإن أخرج كل واحد منهما مالاً على أن من غلب منهما أخذ المالين فهو قمار تسقط به العدالة وترد به الشهادة لقوله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ
__________
1 رواه البخاري في كتاب الأنبياء باب 54. أبو داود في كتاب الأدب باب 6. ابن ماجه في كتاب الزهد باب 17. الموطأ في كتاب السفر حديث 46.

(3/438)


وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة: 90] والميسر القمار وإن أخرج أحدهما: مالاً على أنه إن غلب أخذ ماله وإن غلبه صاحبه أخذ المال لم يصح العقد لأنه ليس من آلات الحرب فلا يصح بذل العوض فيه ولا ترد به الشهادة لأنه ليس بقمار لأن القمار أن لا يخلوا أحد من أن يغتم أو يغرم وههنا أحدهما: يغنم ولا يغرم وإن اشتغل به عن الصلاة في وقتها مع العلم فإن لم يكثر ذلك منه لم ترد شهادته وإن كثر منه ردت شهادته لأنه من الصغائر ففرق بين قليلها وكثيرها فإن ترك فيه المروءة بأن يلعب به على طريق أو تكلم في لعبه بما يسخف من الكلام أو اشتغل بالليل والنهار ودت شهادته لترك المروءة.
فصل: ويحرم اللعب بالنرد وترد به الشهادة وقال أبو إسحاق رحمه الله: هو كالشطرنج وهذا خطأ لما روى أبو موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من لعب بالنرد فقد عصى الله ورسوله" 1. وروى بريدة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من لعب بالنرد فكأنما غمس يده في لحم الخنزير ودمه" 2. ولأن المعول فيه على ما يخرجه الكعبان فشابه الأزلام ويخالف الشطرنج فإن المعول فيه على رأيه ويحرم اللعب بالأربعة عشر لأن المعول فيها على ما يخرجه الكعبان فحرم كالنرد.
فصل: ويجوز اتخاذ الحمام لما روى عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رجلاً شكى إلى النبي صلى الله عليه وسلم الوحشة فقال: اتخذ زوجاً من حمام ولأن فيه منفعة لأنه يأخذ بيضه وفرخه ويكره اللعب به لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يسعى بحمامة فقال: شيطان يتبع شيطانة وحكمه في رد الشهادة حكم الشطرنج وقد بيناه.
فصل: ومن شرب قليلاً من النبيذ لم يفسق ولم ترد شهادته ومن أصحابنا من قال إن كان يعتقد تحريمه فسق وردت شهادته والمذهب الأول لأن استحلال الشيء أعظم من فعله بدليل أن من استحل الزنا كفر ولو فعله لم يكفر فإذا لم ترد شهادة من استحل القليل من النبيذ فلأن لا يرد شربه أولى ويجب عليه الحد وقال المزني رحمه الله: لا
__________
1 رواه أبو داود في كتاب الأدب باب 56. ابن ماجه في كتاب الأدب باب 43. الموطأ في كتاب الرؤيا حديث 6.
2 رواه مسلم في كتاب الشعر حديث 10. أبو داود في كتاب الأدب باب 56. ابن ماجه في كتاب الأدب باب 43. أحمد في مسنده 5/352.

(3/439)


يجب كما لا ترد شهادته وهذا خطأ لأن الحد للردع والنبيذ كالخمر في الحاجة إلى الردع لأنه يشتهى كما يشتهى الخمر ورد الشهادة لارتكاب كبيرة لأنه إذا أقدم على كبيرة أقدم على شهادة الزور وشرب النبيذ ليس بكبيرة لأنه مختلف في تحريمه وليس من أقدم على مختلف فيه أقدم على شهادة الزور وهي من الكبائر.
فصل: ويكره الغناء وسماعه من غير آلة مطربة لما روى ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل". ولا يحرم لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بجارية لحسان بن ثابت وهي تقول:
هل علي ويحكما ... إن لهوت من حرج
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا حرج إن شاء الله". وروت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: كان عندي جاريتان تغنيان فدخل أبو بكر رضي الله عنه فقال مزمار الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دعهما فإنها أيام عيد" 1. فإن غنى لنفسه أو سمع غناء جاريته ولم يكثر منه لم ترد شهادته لأن عمر رضي الله عنه كان إذا دهل في داره يرنم بالبيت والبيتين واستؤذن عليه لعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وهو يترنم فقال أسمعتني يا عبد الرحمن قال نعم قال: إنا إذا خلونا في منازلنا نقول كما يقول
__________
1 رواه مسلم في كتاب العيدين حديث 16. ابن ماجه في كتاب النكاح باب 21.

(3/440)


الناس وروي عن أبي الدرداء رضي الله عنه وهو من زهاد الصحابة وفقهائها أنه قال: إني لأجم قلبي شيئاً من الباطل لأستعين به على الحق فأما إذا أكثر من الغناء أو اتخذه صنعة يغشاه الناس للسماع أو يدعى إلى المواضع ليغني ردت شهادته لأنه سفه وترك للمروءة وإن اتخذ جارية ليجمع الناس لسماعها ردت شهادته لأنه سفه وترك مروءة ودناءة.
فصل: ويحرم استعمال الآلات التي تطرب من غير غناء كالعود والطنبور والمعزفة والطبل والمزمار والدليل عليه قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ الله} قال ابن عباس: إنها الملاهي وروى عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله حرم على أمتي الخمر والميسر والمزر والكوبة والقنين" 1. فالكوبة
__________
1 رواه أحمد في مسنده 2/165، 167.

(3/441)


الطبل والقنين البربط وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "تمسخ أمة من أمتي بشربهم الخمر وضربهم بالكوبة والمعازف" 1. ولأنها تطرب وتدعوا إلى الصد عن ذكر الله تعالى وعن الصلاة وإلى إتلاف المال فحرم كالخمر ويجوز ضرب الدف في العرس والختان دون غيرهما لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أعلنوا النكاح واضربوا عليه بالدف" 2. ويكره القضيب الذي يزيد الغناء طرباً ولا يطرب إذا انفرد لأنه تابع للغناء فكان حكمه حمك الغناء وأما رد الشهادة فما حكمنا بتحريمه من ذلك فهو من الصغائر فلا ترد الشهادة بما قل منه وترد بما كثر منه كما قلنا في الصغائر وما حكمنا بكراهيته وإباحته فهو كالشطرنج في رد الشهادة وقد بيناه.
فصل: وأما الحداء فهو مباح لما روى ابن مسعود رضي الله عنه قال: كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة نام بالوادي حاديان وروت عائشة رضي الله عنها قالت: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر وكان عبد الله بن رواحة جيد الحداء وكان مع الرجال وكان أنجشة مع النساء فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن رواحة "حرك بالقوم". فاندفع يرتجز فتبعه أنجشة فأعنقت الإبل في السير فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا أنجشة رويدك رفقاً بالقوارير" 3. ويجوز
__________
1 رواه أبو ماجه في كتاب الأشربة باب 5، 7. أحمد في مسنده 1/274.
2 رواه الترمذي في كتاب النكاح باب 6. ابن ماجه في كتاب النكاح باب 20. أحمد في مسنده 4/5.
3 رواه البخاري في كتاب الأدب باب 90، 95. مسلم في كتاب الفضائل حديث 70. الدارمي في كتاب الاستئذان باب 65. أحمد في مسنده 3/107

(3/442)


استماع نشيد الأعرابي لما روى عمرو بن الشريد عن أبيه قال: أردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم وراءه ثم قال: "أمعك شيء من شعر أمية بن أبي الصلت" فقلت: نعم فأنشدته بيتاً فقال: "هيه". فأنشدته بيتاً آخر فقال هيه فأنشدته إلى أن بلغ مائة بيت.
فصل: ويستحب تحسين الصوت بالقرآن لما روى الشافعي رحمه الله بإسناده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما أذن الله لشيء كإذنه لنبي حسن الترنم بالقرآن" 1. وروي حسن الصوت بالقرآن وروى البراء بن عازب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "حسنوا القرآن بأصواتكم" 2 وقال عليه الصلاة والسلام: "ليس منا من لم يتغن بالقرآن" 3. وحمله
__________
1 رواه البخاري في كتاب فضائل القرآن باب 19. مسلم في كتاب المسافرين حديث 232، 234. الترمذي في كتاب ثواب القرآن باب 17. النسائي في كتاب الافتتاح باب 83.
2 رواه الدارمي في كتاب فضائل القرآن باب 34.
3 رواه البخاري في كتاب التوحيد باب 44. أبو داود في كتاب الوتر باب 20. الدارمي في كتاب فضائل القرآن باب 34.

(3/443)


الشافعي على تحسين الصوت وقال: لو كان المراد به الاستغناء بالقرآن لقال من لم يتغان بالقرآن وأما القراءة بالألحان فقد قال في موضع: أكرهه وقال في موضع آخر لا أكرهه وليست على قولين وإنما هي على اختلاف حالين فالذي قال أكرهه أراد إذا جاوز الحد في التطويل وإدغام بعضه في بعض والذي قال لا أكرهه إذا لم يجاوز الحد.
فصل: ويجوز قول الشعر لأنه كان للنبي صلى الله عليه وسلم شعراء منهم حسان بن ثابت وكعب ابن مالك وعبد الله بن رواحة ولأنه وفد عليه الشعراء ومدحوه وجاءه كعب بن زهير وأنشده:
بانت سعاد فقلبي اليوم متنبول ... متيم عندها لم يفد مكبول
فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم بردة كانت عليه فابتاعها منه معاوية بعشرة آلاف درهم وهي التي مع الخلفاء إلى اليوم وحكمه حكم الكلام في حظره وإباحته وكراهيته واستحبابه ورد الشهادة به والدليل عليه ما روى عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الشعر بمنزلة الكلام حسنه كحسن الكلام وقبيحه كقبيح الكلام".
فصل: ومن شهد بالزور فسق وردت شهادته لأنها من الكبائر والدليل عليه ما روى خريم بن فاتك قال صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح ولما انصرف قام قائماً ثم قال: "عدلت شهادة الزور بالإشراك بالله" 1. ثلاث مرات ثم تلا قوله عز وجل: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [النحل: 30] وروى محارب بن دثار عن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "شاهد الزور لا يزول قدماه حتى يتبوأ مقعده من النار" 2. ويثبت أنه شاهد زور من ثلاثة أوجه: أحدها أن يقر أنه شاهد زور والثاني: أن تقوم البينة أنه شاهد زور والثالث: أن يشهد بما يقطع بكذبه بأن شهد على رجل أنه
__________
1 رواه الترمذي في كتاب الشهادات باب 3. أبو داود في كتاب الأقضية باب 15. ابن ماجه في كتاب الأحكام باب 32. أحمد في مسنده 4/178.
2 رواه ابن ماجه في كتاب الأحكام باب 32.

(3/444)


قتل أو زنى في وقت معين في موضع معين والمشهود عليه في ذلك الوقت كان في بلد آخر وأما إذا شهد بشيء أخطأ فيه فلم يكن شاهد زور لأنه لم يفسد الكذب وإن شهد لرجل بشيء وشهد به آخر أنه لغيره لم يكن شاهد زور لأنه ليس تكذيب أحدهما: بأولى من تكذيب الآخر فلم يقدح ذلك في عدالته وإذا ثبت أنه شاهد زور ورأى الإمام تعزيره بالضرب أو الحبس أو الزجر فعل وإن رأى أن يشهر أمره في سوقه ومصلاه وقبيلته وينادي عليه أنه شاهد زور فاعرفوه فعل لما روى بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اذكروا الفاسق بما فيه ليحذره الناس". ولأن في ذلك زجراً له ولغيره عن فعل مثله وحكى عن أبي علي بن أبي هريرة أنه قال: إن كان من أهل الصيانة لم يناد عليه لقوله عليه الصلاة والسلام: "أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهن". وهذا غير صحيح لأن بشهادة الزور يخرج عن أن يكون من أهل الصيانة.
فصل: ولا تقبل شهادة جار إلى نفسه نفعاً ولا دافع عن نسه ضرراً لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقبل شهادة خصم ولا ظنين ولا ذي إحنة" 1. والظنين المتهم والجار إلى نفسه نفعاً والدافع عنها ضرراً متهمان فإن شهد المولى لمكاتبه بمال لم تقبل شهادته لأن يثبت لنفسه حقاً لأن مال المكاتب يتعلق به حق المولى وإن شهد الوصي لليتيم والوكيل للموكل فيما فوض النظر فيه إليه لم تقبل لأنهما يثبتان لأنفسها حق المطالبة والتصرف وإن وكله في شيء ثم عزله لم يشهد فيما كان النظر فيه إليه فإن كان قد خاصم فيه لم تقبل شهادته وإن لم يكن قد خاصم فيه ففيه وجهان: أحدهما: أنه تقبل لأنه لا يحلقه تهمة والثاني: أنه لا تقبل لأنه بعقد الوكالة يملك الخصومة فيه وإن شهد الغريم لمن له عليه دين وهو محجور عليه بالفلس لم تقبل
__________
1 رواه الترمذي في كتاب الشهادات باب 2.

(3/445)


شهادته لأنه يتعلق حقه بما يثبت له بشهادته وإن شهد لمن له عليه دين وهو موسر قبلت شهادته لأنه لا يتعين حقه فيما شهد به وإن شهد له وهو معسر قبل الحجر ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا يقبل لأنه يثبت له حق المطالبة والثاني: أنه يقبل لأنه لا يتعلق بما يشهد به له حق.
فصل: وإن شهد رجلان على رجل أنه جرح أخاهما وهما وارثاه قبل الاندمال لم تقبل لأنه يسري إلى نفسه فيجب الدم به لهما وإن شهدا له بمال وهو مريض ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي إسحاق أنه لا تقبل لأنهما متهمان لأنه قد يموت فيكون المال لهما فلم تقبل كما لو شهدا بالجراحة والثاني: وهو قول أبي الطيب ابن سلمة أنه تقبل لأن الحق يثبت للمريض ثم ينتقل بالموت إليهما وفي الجناية إذا وجبت الدية وجبت لهما لأنهما تجب بموته فلم تقبل وإن شهدا له بالجراحة وهناك ابن قبلت شهادتهما لأنهما غير متهمين وإن مات الابن وصار الأخوان وارثين نظرت فإن مات الابن بعد الحكم بشهادتهما لم تسقط الشهادة لأنه حكم بها وإن مات قبل الحكم بشهادتهما سقطت الشهادة كما لو فسقا قبل الحكم وإن شهد المولى على غريم مكاتبه والوصي على غريم الصبي أو الوكيل على غريم الموكل بالإبراء من الدين أو بفسق شهود الدين لم تقبل الشهادة لأنه دفع بالشهادة عن نفسه ضرراً وهو حق المطالبة وإن شهد شاهدان من عاقلة القاتل بفسق شهود القتل فإن كانا موسرين لم تقبل شهادتهما لأنهما يدفعان بهذه الشهادة عن أنفسهما ضرراً وهو الدية وإن كانا فقيرين فقد قال الشافعي رضي الله عنه: ردت شهادتهما وقال في موضع آخر إذا كانا من أباعد العصبات بحيث لا يصل العقل إليهما حتى يموت من قبلهما قبلت شهادتهما فمن أصحابنا من نقل جواب إحداهما إلى الأخرى وجعلهما على قولين: أحدهما: أنه تقبل لأنهما في الحال لا يحملان العقل والثاني: أنه لا تقبل لأنه قد يموت القريب قبل الحول ويوسر الفقير فيصيران من العاقلة ومنهم من حملهما على ظاهرهما فقال تقبل شهادة الأباعد ولا تقبل شهادة القريب الفقير لأن القريب معدود في العاقلة واليسار يعتبر عند الحول وربما يصير موسراً عند الحول والبعيد غير معدود في العاقلة وإنما يصير من العاقلة إذا مات الأقرب.
فصل: ولا تقبل شهادة الوالدين للأولاد وإن سفلوا ولا شهادة الأولاد للوالدين وإن علوا وقال المزني رحمه الله وأبو ثور: تقبل ووجهه قوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] فعم ولم يخص ولأنهم كغيرهم في العدالة فكانوا كغيرهم في الشهادة وهذا خطأ لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا

(3/446)


تقبل شهادة خصم ولا ظنين ولا ذي إحنة". والظنين المتهم وهذا متهم لأنه يميل إليه ميل الطبع ولأن الوالد بضعة من الوالد ولهذا قال عليه السلام: "يا عائشة إن فاطمة بضعة مني يريبني ما يريبها" 1. ولأن نفسه كنفسه وماله كماله ولهذا قال عليه السلام لأبي معشر الدارمي: "أنت ومالك لأبيك" 2. وقال صلى الله عليه وسلم: "إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه وإن ولده من كسبه" 3. ولهذا يعتق عليه إذا ملكه ويستحق عليه النفقة إذا احتاج والأية نخصها بما ذكرناه والاستدلال بأنهم كغيرهم في العدالة يبطل بنفسه فإنه كغيره في العدالة ثم لا تقبل شهادته لنفسه وتقبل شهادة أحدهما: على الآخر في جميع الحقوق ومن أصحابنا من قال لا تقبل شهادة الولد على الوالد في إيجاب القصاص وحد القذف لأنه لا يلزمه القصاص بقتله ولا حد القذف بقذفه فلا يلزمه ذلك بقوله والمذهب الأول لأنه لا يلزمه القصاص بقتله ولا حد القذف بقذفه فلا يلزمه ذلك بقوله والمذهب الأول لأنه إنما ردت شهادته له للتهمة ولا تهمة في شهادته عليه ومن عد الوالدين والأولاد من الأقارب كالأخ والعم وغيرهما تقبل شهادة بعضهم لبعض لأنه لم يجعل نفس أحدهما: كنفس الآخر في العتق ولا ماله كماله في النفقة وإن شهد شاهدان على رجل أنه قذف ضرة أمهما ففيه قولان: قال في القديم: لا تقبل لأنهما يجران إلى أمهما نفعاً لأنه يجب عليه بقذفها الحد فيحتاج أن يلاعن وتقع الفرقة بينه وبين ضرة أمها وقال في الجديد: تقبل وهو الصحيح لأن حق أمهما لا يزيد بمفارقة الضرة وإن شهد أنه طلق ضرة أمهما ففيه قولان: أحدهما: أنه تقبل والثاني: أنه لا تقبل وتعليلهما ما ذكرناه.
فصل: وتقبل شهادة أحد الزوجين للآخر لأن النكاح سبب لا يعتق به أحدهما: على الآخر بالملك فلم يمنع من شهادة أحدهما: للآخر كقرابة ابن العم ولا تقبل شهادة الزوج على الزوجة في الزنا لأن شهادته دعوى خيانة في حقه فلم تقبل كشهادة المودع على المودع بالخيانة في الوديعة ولأنه خصم لها فيما يشهد به فلم تقبل كما لو شهد عليها أنه جنت عليه.
__________
1 رواه البخاري في كتاب النكاح باب 109. أبو داود في كتاب النكاح باب 12. الترمذي في كتاب المناقب باب 60. أحمد في مسنده 4/328.
2 رواه ابن ماجه في كتاب التجارات باب 64. أحمد في مسنده 2/179، 204.
3 رواه النسائي في كتاب البيوع باب 1. ابن ماجه في كتاب التجارات باب 1. الدارمي في كتاب البيوع باب 6. أحمد في مسنده 6/31.

(3/447)


فصل: ولا تقبل شهادة العدو على عدوه لقوله عليه الصلاة والسلام: "لا تقبل شهادة خصم ولا ظنين ولا ذي إحنة". وذو الإحنة هو العدو ولأنه متهم في شهادته بسبب منهي عنه فلم تقبل شهادته.
فصل: ومن جمع في الشهادة بين أمرين فردت شهادته في أحدهما: نظرت فإن ردت للعداوة بينه وبين المشهود عليه مثل أن يشهد على رجل أنه قذفه وأجنبياً ردت شهادته في حقه وفي حق الأجنبي لأن هذه الشهادة تضمنت الإجبار عن عداوة بينهما وشهادة العدو على عدوه لا تقبل فإن ردت شهادته في أحدهما: لتهمة غير العداوة بأن شهد على رجل أنه اقترض من أبيه ومن أجنبي مالاً ردت شهادته في حق أبيه وهل ترد في حق الأجنبي؟ فيه قولان: أحدهما: أنها ترد كما لو شهد أنه قذفه وأجنبياً والثاني: أنها لا ترد لأنها ردت في حق أبيه للتهمة ولا تهمة في حق الأجنبي فقبلت.
فصل: ومن ردت شهادته بمعصية فتاب قبلت شهادته لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} [النور: 4] التوبة توبتان توبة في الباطن وتوبة في الظاهر فأما التوبة في الباطن فهي ما بينه وبين الله عز وجل فينظر في المعصية فإن لم يتعلق بها مظلمة لآدمي ولا حد لله تعالى كالاستمتاع بالأجنبية فيما دون الفرج فالتوبة منها أن يقلع عنها ويندم على ما فعل ويعزم على أن لا يعود إلى مثلها والدليل عليه قوله تعالى: {وَالَّذِينَ إذا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا الله فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا الله وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران: 135] وإن تعلق بها حق آدمي فالتوبة منها أن يقلع عنها ويندم على ما فعل ويعزم على أن لا يعود إلى مثلها وأن يبرأ من حق الآدمي إما أن يؤديه أو يسأله حتى يبرئه منه لما روى إبراهيم النخعي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأى رجلاً يصلي مع النساء فضربه بالدرة فقال الرجل: والله لئن كنت أحسنت فقد ظلمتني وإن كنت أسأت فما علمتني،

(3/448)


فقال عمر اقتص قال لا أقتص قال فاعف قال لا أعفوا فافترقا على ذلك ثم لقيه عمر من الغد فتغير لون عمر فقال له الرجل: يا أمير المؤمنين أرى ما كان مني قد أسرع فيك قال: أجل قال: فاشهد إني قد عفوت عنك وإن لم يقدر على صاحب الحق نوى أنه إن قدر أوفاه حقه وإن تعلق بالمعصية حد لله تعالى كحد الزنا والشرب فإن لم يظهر ذلك فالأولى أن يستره على نفسه لقوله عليه السلام: "من أتى من هذه القاذورات شيئاً فليستتر بستر الله تعالى فإن من أبدى لنا صفحته أقمنا عليه حد الله" 1. وإن أظهره لم يأثم لأن ماعزاً والغامدية اعترفا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بالزنا فرجمهما ولم ينكر عليهما وأما التوبة في الظاهر وهي التي تعود بها العدالة والولاية وقبول الشهادة فينظر في المعصية فإن كانت فعلاً كالزنا والسرقة لم يحكم بصحة التوبة حتى يصلح عمله مدة لقوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا} وقدر أصحابنا المدة بسنة لأنه لا تظهر صحة التوبة في مدة قريبة فكانت أولى المدد بالتقدير سنة لأنه تمر فيها الفصول الأربعة التي تهيج فيها الطبائع وتغير فيها الأحوال وإن كانت المعصية بالقول فإن كانت ردة فالتوبة منها أن يظهر الشهادتين وإن كانت قذفا فقد قال الشافعي رحمه الله: التوبة منه إكذابه نفسه واختلف أصحابنا فيه فقال أبو سعيد الإصطخري رحمه الله: هو أن يقول كذبت فيما قلت ولا أعود إلى مثله ووجهه ما روي عن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "توبة القاذف إكذابه نفسه" وقال أبو إسحاق وأبو علي بن أبي هريرة هو أن يقول: قذفي له كان باطلاً ولا يقول إني كنت كاذباً لجواز أن يكون صادقاً فيصير بتكذيبه نفسه عاصياً كما كان بقذفه عاصياً ولا تصح التوبة منه إلا بإصلاح العمل على ما ذكرناه في الزنا والسرقة فأما إذا شهد عليه بالزنا ولم يتم العدد فإن قلنا إنه لا يجب عليه الحد فهو على عدالته ولا يحتاج إلى التوبة وإن قلنا إنه يجب عليه الحد وجبت التوبة وهو أن يقول ندمت على ما فعلت ولا أعود إلى ما أتهم به فإذا قال هذا عادت عدالته ولا يشترط فيه إصلاح العمل لأن عمر رضي الله عنه قال لأبي بكرة: تب أقبل شهادتك وإن لم يتب لم تقبل شهادته ويقبل خبره لأن أبا بكرة ردت شهادته وقبلت أخباره وإن
__________
1 رواه مالك في الموطأ في كتاب الحدود حديث 12.

(3/449)


كانت معصية بشهادة زور فالتوبة منها أن يقول كذبت فيما قلت ولا أعود إلى مثله ويشترط في صحة توبته إصلاح العمل على ما ذكرناه.
فصل: وإن شهد صبي أو عبد أو كافر لم تقبل شهادته فإن بلغ الصبي أو أعتق العبد أو أسلم الكافر وأعاد تلك الشهادة قبلت وإن شهد فاسق فردت شهادته ثم تاب وأعاد تلك الشهادة لم تقبل وقال المزني وأبو ثور رحمهما الله تقبل كما تقبل من الصبي إذا بلغ والعبد إذا أعتق والكافر إذا أسلم وهذا خطأ لأن هؤلاء لا عار عليهم فيرد شهادتهم فلا يحلقهم تهمة في إعادة الشهادة بعد الكمال والفاسق عليه عار في رد شهادته فلا يؤمن أن يظهر التوبة لإزالة العار فلا تنفك شهادته من التهمة وإن شهد المولى لمكاتبه بمال فردت شهادته ثم أدى المكاتب مال الكتابة وعتق وأعاد المولى الشهادة له بالمال فقد قال أبو العباس فيه وجهان: أحدهما: أنه تقبل لأن شهادته لم ترد بمعرة وإنما ردت لأنه ينسب لنفسه حقاً بشهادته وقد زال هذا المعنى بالعتق والثاني: أنها لا تقبل وهو الصحيح لأنه ردت شهادته للتهمة فلم تقبل إذا أعادها كالفاسق إذا ردت شهادته ثم تاب وأعاد الشهادة وإن شهد رجل على رجل أنه قذفه وزوجته فردت شهادته ثم عفا عن قذفه وحسنت الحال بينهما ثم أعاد الشهادة للزوجة لم تقبل شهادته لأنها شهادة ردت للتهمة فلم تقبل وإن زالت التهمة كالفاسق إذا ردت شهادته ثم تاب وأعاد الشهادة وإن شهد لرجل أخوان له بجراحة لم تندمل وهما وارثان له فردت شهادتهما ثم اندملت الجراحة فأعاد الشهادة ففيه وجهان: أحدهما: أنه تقبل لأنها ردت للتهمة وقد زالت التهمة والثاني: وهو قول أبي إسحاق وظاهر المذهب أنها لا تقبل لأنها شهادة ردت للتهمة فلم تقبل كالفاسق إذا ردت شهادته ثم تاب وأعاد.

(3/450)


باب عدد الشهود
لا يقبل في الشهادة على الزنا أقل من أربعة أنفس ذكور لقوله تعالى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ الله لَهُنَّ سَبِيلاً} [النساء: 15] الآية وروي أن سعد ابن عبادة قال يا رسول الله أرأيت إن وجدت مع امرأتي رجلاً أمهله حتى آتي بأربعة شهداء قال: "نعم" وشهد على المغيرة بن شعبة ثلاثة أبو بكرة ونافع وشبل بن معبد وقال زياد: رأيت استاً ونفساً يعلو ورجلان كأنهما أذنا حمار لا أدري ما وراء ذلك فجلد عمر

(3/450)


رضي الله عنه الثلاثة ولم يجلد المغيرة ولا يقبل في اللواط إلا أربعة لأنه كالزنا في الحد فكان كالزنا في الشهادة فأما إتيان البهيمة فإنا إن قلنا إنه يجب فيه الحد فهو كالزنا في الشهادة لأنه كالزنا في الحد فكان كالزنا في الشهادة وإن قلنا إنه يجب فيه التعزير ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي علي بن خيران واختيار المزني رحمه الله أنه يثبت بشاهدين لأنه لا يلحق بالزنا في الحد فلم يحلق به في الشهادة والثاني: وهو الصحيح أنه لا يثبت إلا بأربعة لأنه فرج حيوان يجب بالإيلاج فيه العقوبة فاعتبر في الشهادة عليه أربعة كالزنا ونقصانه عن الزنا في العقوبة لا يوجب نقصانه عنه في الشهادة كزنا الأمة ينقص عن زنا الحرة في الحد ولا ينقص عنه في الشهادة واختلف قوله في الإقرار بالزنا فقال في أحد القولين: يثبت بشاهدين لأنه إقرار فثبت بشاهدين كالإقرار في غيره والثاني: أنه لا يثبت إلا بأربعة لأنه سبب يثبت به فعل الزنا فاعتبر فيه أربعة كالشهادة على القتل وإن كان المقر أعجمياً ففي الترجمة وجهان: أحدهما: أنه يثبت باثنين كالترجمة في غيره والثاني: أنه كالإقرار فيكون على قولين كالإقرار.
فصل: وإن شهد ثلاثة بالزنا ففيه قولان: أحدهما: أنهم قذفوه ويحدون وهو أشهر القولين لأن عمر رضي الله عنه جلد الثلاثة الذين شهدوا على المغيرة وروى ابن الوصي أن ثلاثة شهدوا على رجل بالزنا وقال الرابع: رأيتهما في ثوب واحد فإن كان هذا زنا فهو ذلك فجلد علي بن أبي طالب رضي الله عنه الثلاثة وعزر الرجل والمرأة ولأنا لولم نوجب الحد جعل القذف بلفظ الشهادة طريقاً إلى القذف والقول الثاني أنهم لا يحدون لأن الشهادة على الزنا أمر جائز فلا يوجب الحد كسائر الجائزات ولأن إيجاب الحد عليهم يؤدي إلى أن لا يشهد أحد بالزنا خوفاً من أن يقف الرابع عن الشهادة فيحدون فتبطل الشهادة على الزنا وإن شهد أربعة على امرأة بالزنا وأحدهم الزوج ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي إسحاق وظاهر النص أنه يحد الزوج قولاً واحداً لأنه لا تجوز شهادته عليها بالزنا فجعل قاذفاً وفي الثلاثة قولان والثاني: وهو قول أبي علي بن أبي هريرة أن الزوج كالثلاثة لأنه أتى بلفظ الشهادة فيكون على القولين.
فصل: فإن شهد أربعة على رجل بالزنا فرد الحاكم شهادة أحدهم فإن كان بسبب ظاهر بأن كان عبداً أو كافراً أو متظاهرا بالفسق كان كما لولم يتم العدد لأن وجوده

(3/451)


كعدمه وإن كان بسبب خفي كالفسق الباطن ففيه وجهان: أحدهما: أن حكمه حكم ما لو قص بالعدد لأن عدم العدالة كعدم العدد والثاني: أنهم لا يحدون قولاً واحداً لأنه إذا كان الرد بسبب في الباطن لم يكن من جهتهم تفريط في الشهادة لأنهم معذورون فلم يجدوا وإذا كان بسبب ظاهر كانوا مفرطين فوجب عليهم الحد وإن شهد أربعة بالزنا ورجع واحد منهم قبل أن يحكم بشهادتهم لزم الراجع حد القذف لأنه اعترف بالقذف ومن أصحابنا من قال في حده قولان لأنه أضاف الزنا إليه بلفظ الشهادة وليس بشيء وأما الثلاثة فالمنصوص أنه لا حد عليهم قولاً واحداً لأنه ليس من جهتهم تفريط لأنهم شهدوا والعدد تام ورجوع من رجعوا كلهم قالوا تعدمنا الشهادة وجب عليهم الحد ومن أصحابنا من قال فيه قولان وليس بشيء وإن شهد أربعة على امرأة بالزنا وشهد أربعة نسوة أنها بكر لم يجب عليها الحد لأنه يحتمل أن تكون البكارة أصلية لم تزل ويحتمل أن تكون عائدة لأن البكارة تعود إذا لم يبالغ في الجماع فلا يجب الحد مع الاحتمال ولا يجب الحد على الشهود لأنا إذا درأنا الحد عنها لجواز أن تكون البكارة أصلية وهم كاذبون وجب أن ندرأ الحد عنهم لجواز أن تكون البكارة عائدة وهم صادقون.
فصل: ويثبت المال وما يصد به كالبيع والإجارة والهبة والوصية والرهن والضمان بشاهد وامرأتين لقوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} فنص على ذلك في السلم وقسنا عليه المال وكل ما يقصد به المال.
فصل: وما ليس بمال ولا المقصود منه المال ويطلع عليه الرجال كالنكاح والرجعة والطلاق والعتاق والوكالة والوصية إليه وقتل العمد والحدود سوى حد الزنا لا يثبت إلا بشاهدين ذكرين لقوله عز وجل في الرجعة: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] وعن الزهري أنه قال: جرت السنة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والخليفتين من بعده أن لا تقبل شهادة للنساء في الحدود فدل النص على الرجعة والنكاح والحدود وقسنا عليها كل ما لا يقصد به المال ويطلع عليه الرجال وإن اتفق الزوجان على النكاح واختلفا في الصداق ثبت الصداق بالشاهد والمرأتين لأنه إثبات مال وإن ادعت المرأة الخلع وأنكر الزوج لم يثبت إلا بشهادة رجلين وإن ادعى الزوج الخلع وأنكرت المرأة ثبت بشهادة رجلين أو رجل وامرأتين لأن بينة المرأة لإثبات الطلاق وبينة الرجل لإثبات المال وإن شهد رجل وامرأتان بالسرقة ثبت المال دون القطع وإن شهد رجل وامرأتان بقتل العمد لم يثبت القصاص ولا الدية والفرق بين القتل والسرقة أن قتل العمل في أحد القولين

(3/452)


يوجب القصاص والدية بدل عنه تجب العفو عن القصاص لم يثبت بدله وفي القول الثاني يوجب أحد البدلين لا بعينه وإنما يتعين بالاختيار فلو أوجبنا الدية دون القصاص أوجبنا معيناً وهذا خلاف موجب القتل وليس كذلك السرقة فإنها توجب القطع والمال على سبيل الجمع وليس أحدهما: بدلاً عن الآخر فجاز أن يوجب أحدهما: دون الآخر.
فصل: ولا يقبل في موضحة العمد إلا شاهدان ذكران لأنا جناية توجب القصاص وفي الهاشمة والمنقلة قولان: أحدهما: أنه لا يثبت إلا بشاهدين ذكرين لأنها جناية تتضمن القصاص والثاني: أنها تثبت بالشاهد والمرأتين لأن الهاشمة والمنقلة لا قصاص فيهما وإنما القصاص في ضمنهما فثبت بالشاهد والمرأتين فعلى هذا يجب أرش الهاشمة والمنقلة ولا يثبت القصاص في الموضحة وإن اختلف السيد والمكاتب في قدر المال أوصفته أو أدائه قضي فيه بالشاهد والمرأتين لأن الشهادة على المال وإن أفضى إلى العتق الذي لا يثبت بشهادة الرجل والمرأتين كما تثبت الولادة بشهادة النساء وإن أفضى إلى النسب الذي لا يثبت بشهادتهن.
فصل: وإن كان في يد رجل جارية لها ولد فادعى رجل أنها أم ولده وولدها منه وأقام على ذلك شاهداً وامرأتين قضى له بالجارية لأنها مملوكة فقضي فيها بشاهد وامرأتين وإذا مات عتقت بإقراره وهل يثبت نسب الولد وحريته؟ فيه قولان: أحدهما: أنه لا يثبت لأن النسب والحرية لا تثبت بشاهد وامرأتين فيكون الوالد باقياً على ملك المدعى عليه والقول الثاني أنه يثبت لأن الولد نماء الجارية وقد حكم له بالجارية فحكم له بالولد فعلى هذا يحكم بنسب الولد وحريته لأنه أقر بذلك وإن ادعى رجل أن العبد الذي في يد فلان كان له وأنه أعتقه وشهد له شاهد وامرأتان فقد اختلف أصحابنا فيه فمنهم من قال فيه قولان: أحدهما: أنه لا يحكم بهذه البينة لأنها تشهد له بملك متقدم فلم يحكم بها كما لو ادعى على رجل عبداً وشهد له شاهد وامرأتان أنه كان له والثاني: أنه يحكم بها لأنه ادعى ملكاً متقدماً وشهدت له البينة فيما ادعاه ومن أصحابنا من قال يحكم بها قولاً واحداً والفرق بينه وبين المسألة قبلها أن هناك لا يدعي ملك الولد وهو يقر أنه حر الأصل فلم يحكم ببينته في أحد القولين وههنا ادعى ملك العبد وأنه أعتقه فحكم ببنته.
فصل: ويقبل فيما لا يطلع عليه الرجال من الولادة والرضاع والعيوب التي تحت

(3/453)


الثياب شهادة النساء مفردات لأن الرجال لا يطلعون عليها في العادة فلولم تقبل فيها شهادة النساء منفردات بطلب عند التجاحد ولا يثبت شيء من ذلك إلا بعدد لأنها شهادة فاعتبر فيها العدد ولا يقبل أقل من أربع نسوة لأن أقل الشهادات رجلان وشهادة امرأتين بشهادة رجل والدليل عليه قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282] فأقام المرأتين مقام الرجل وروى عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب على ذي لب منكن" قالت امرأة يا رسول الله ما ناقصات العقل والدين قال: "أما ناقصات العقل فشهادة امرأتين كشاهدة رجل فهذا نقصان العقل والدين قال: أما نقصان العقل فشهادة امرأتين كشهادة رجل فهذا نقصان العقل وأما نقصان الدين فإن إحداكن تمكث الليالي لا تصلي وتفطر في شهر رمضان فهذا من نقصان الدين" 1. فقبل فيها شهادة الرجلين وشهادة الرجل والمرأتين لأنه إذا أجيز شهادة النساء منفردات لتعذر الرجال فلأن تقبل شهادة الرجال والرجال والنساء أولى وتقبل في الرضاع شهادة المرضعة لما روى عقبة بن الحارث أنه تزوج أم يحيى بنت أبي إهاب فجاءت امرأة سوداء فقالت: قد أرضعتكما فجاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت له ذلك فقال: كيف وقد زعمت أنها أرضعتكما فنهاه عنها ولأنها لا تجر بهذه الشهادة نفعاً إلى نفسها ولا تدفع عنها ضرراً ولا تقبل شهادة المرأة على ولادتها لأنا تثبت لنفسها بذلك حقاً وهو النفقة وتقبل شهادة النساء منفردات على استهلال الولد وإنه بقي متألماً إلى أن مات وقال الربيع رحمه الله فيه قول آخر أنه لا يقبل إلا شهادة رجلين والصحيح هو الأول لأن الغالب أنه لا يحضرها الرجال.
فصل: وما يثبت بالشاهد والمرأتين يثبت بالشاهد واليمين لما روى عمرو بن دينار عن ابن عباس رضي الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بيمين وشاهد قال عمرو: ذلك في الأموال واختلف أصحابنا في الوقف فقال أبو إسحاق وعامة أصحابنا يبنى على القولين فإن قلنا إن الملك للموقوف عليه قضي فيه بالشاهد واليمين لأنه نقل ملك فقضى فيه بالشاهد واليمين كالبيع إن قلنا إنه ينتقل إلى الله عز وجل لم يقض فيه بالشاهد واليمين لأنه إزالة ملك إلى غير الآدمي فلم يقض فيه بالشاهد واليمين كالعتق وقال أبو العباس رحمه الله يقضي فيه بالشاهد واليمين على القولين جميعاً لأن القصد بالوقف تمليك المنفعة فقضي فيه بالشاهد واليمين كالإجارة.
__________
1 رواه مسلم في كتاب الإيمان حديث 132. أبو داود في كتاب السنة باب 15. ابن ماجه في كتاب الفتن باب 19. أحمد في مسنده 2/67.

(3/454)


باب تحمل الشهادة وأدائها
لا يجوز تحمل الشهادة وأداؤها إلا عن علم والدليل عليه قوله تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء: 36] وقوله تعالى: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 86] فأمر الله تعالى أن يشهد عن علم وقوله عز وجل: {سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلونَ} [الزخرف: 19] وهذا الوعيد يوجب التحفظ في الشهادة وأن لا يشهد إلا عن علم وروى طاوس عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشهادة فقال: "هل ترى الشمس"؟ قال: نعم قال: "فعلى مثلها فاشهد أودع". وإن كانت الشهادة على فعل كالجناية والغصب والزنا والسرقة والرضاع والولادة وغيرها بما يدرك بالعين لم تجز الشهادة به إلا عن مشاهدة لأنها لا تعلم إلا بها وإن كانت الشهادة على عورة ووقع بصره عليها من غير قصد جاز أن يشهد بما شاهد وإن أراد أن يقصد النظر ليشهد فالمنصوص أنه يجوز وهو قول أبي إسحاق المروزي لأن أبا بكر ونافعاً وشبل بن معبد شهدوا على المغيرة بالزنا عند عمر رضي الله عنه فلم ينكر عمر ولا غيره نظرهم وقال أبو سعيد الإصطخري: لا يجوز أن يقصد النظر لأنه في الزنا مندوب إلى الستر وفي الولادة والرضاع تقبل شهادة النساء فلا حاجة بالرجال إلى النظر للشهادة ومن أصحابنا من قال يجوز في الزنا دون غيره لأن الزاني هتك حرمة الله تعالى بالزنا فجاز أن تهتك حركته بالنظر إلى عورته وفي غير الزنا لم يوجد من المشهود عليه هتك حركته ومنهم من قال يجوز في غير الزنا ولا يجوز في الزنا لأن حد الزنا يبنى على الدرء والإسقاط فلا يجوز أن يتوصل إلى إثباته بالنظر وغيره لم يبن على الدرء والإسقاط فجاز أن يتوصل إلى إثباته بالنظر.
فصل: وإن كانت الشهادة على قول كالبيع والنكاح والطلاق والإقرار لم يجز التحمل فيها إلا بسماع القول ومشاهدة القائل لأنه لا يحصل العلم بذلك إلا بالسماع والمشاهدة وإن كانت الشهادة على ما لا يعلم إلا بالخبر وهو ثلاثة النسب والملك والموت جاز أن يشه فيه بالاستفاضة فإن استفاض في الناس أن فلاناً ابن فلان وأن فلاناً هاشمي أو أموي جاز أن يشهد به لأن سبب النسب لا يدرك بالمشاهدة وإن استفاض في الناس أن هذه الدار وهذا العبد لفلان جاز أن يشهد به لأن أسباب الملك لا

(3/455)


تضبط فجاز أن يشهد فيه بالاستفاضة وإن استفاض أن فلاناً مات جاز أن يشهد به لأن أسباب الموت كثيرة منها خفية ومنها ظاهرة ويتعذر الوقوف عليها وفي عدد الاستفاضة وجهان: أحدهما: وهو قول الشيخ أبي حامد الإسفرايني رحمه الله أن أقله أن يسمع من اثنين عدلين لأن ذلك بينة والثاني: وهو قول أقضى القضاة أبي الحسن الماوردي رحمه الله أنه لا يثبت إلا بعدد يقع العلم بخبرهم لأن ما دون ذلك من أخبار الآحاد فلا يقع العلم من جهتهم فإن سمع إنساناً يقر بنسب أب أو ابن فإن صدقه المقر له جاز له أن يشهد به لأنه شهادة على إقرار وإن كذبه لم يجز أن يشهد به لأنه لم يثبت النسب وإن سكت فله أن يشهد به لأن السكوت في النسب رضى بدليل أنه إذا بشر بولد فسكت عن نفسه لحقه نسبه ومن أصحابنا من قال لا يشهد حتى يتكرر الإقرار به مع السكوت وإن رأى شيئاً في يد إنسان مدة يسيرة جاز أن يشهد له باليد ولا يشهد له بالملك وإن رآه في يده مدة طويلة يتصرف فيه جاز أن يشهد له باليد وهل يجوز أن يشهد له بالملك فيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي سعيد الإصطخري رحمه الله أنه يجوز لأن اليد والتصرف يدلان على الملك والثاني: وهو قول أبي إسحاق رحمه الله أنه لا يجوز أن يشهد له بالملك لأنه قد تكون اليد والتصرف عن ملك وقد تكون عن إجارة أو وكالة أو غصب فلا يجوز أن يشهد له بالملك مع الاحتمال واختلف أصحابنا في النكاح والعتق والوقف والولاء فقال أبو سعيد الإصطخري رحمه الله يجوز أن يشهد فيها بالاستفاضة لأنه يعرف بالاستفاضة أن عائشة رضي الله عنها زوجة النبي صلى الله عليه وسلم وأن نافعاً مولى ابن عمر رضي الله عنه كما يعرف أن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال أبو إسحاق رحمه الله: لا يجوز لأنه عقد فلا يجوز أن يشهد فيه بالاستفاضة كالبيع.
فصل: ويجوز أن يكون الأعمى شاهداً فيما يثبت بالاستفاضة لأن طريق العلم به السماع والأعمى كالبصير في السماع ويجوز أن يكون شاهداً في الترجمة لأنه يفسر ما سمعه يحضره الحاكم وسماعه كسماع البصير ولا يجوز أن يكون شاهداً على الأفعال كالقتل والغصب والزنا لأن طريق العلم بها البصر ولا يجوز أن يكون شاهداً على الأقوال كالبيع والإقرار والنكاح والطلاق إذا كان المشهود عليه خارجاً عن يده وحكي عن المزني رحمه الله أنه قال يجوز أن يكون شاهداً فيها إذا عرف الصوت ووجهه أنه إذا جاز أن يروي الحديث إذا عرف المحدث بالصوت ويستمتع بالزوجة إذا عرفها بالصوت جاز أن يشهد إذا عرف المشهود عليه بالصوت وهذا خطأ لأن من شرط الشهادة العلم وبالصوت لا يحصل له العلم بالمتكلم لأن الصوت يشبه الصوت ويخالف رواية الحديث

(3/456)


والاستمتاع بالزوجة لأن ذلك يجوز بالظن وهو خبر الواحد وأما إذا جاء رجل وترك فمه على أذنه وطلق أو أعتق أو أقر ويد الأعمر على رأس الرجل فضبطه إلى أن حضر عند الحاكم فشهد علي بما سمعه منه قبلت شهادته لأنه شهد عن علم وإن تحمل الشهادة على فعل أو قول وهو يبصر ثم عمر نظرت فإن كان لا يعرف المشهود عليه إلا بالعين وهو خارج عن يده لم تقبل شهادته عليه لأنه لا علم له بمن يشهد عليه وإن تحمل الشهادة ويده في يده وهو بصير ثم عمي ولم تفارق يده يده حتى حضر إلى الحاكم وشهد عليه قبلت شهادته لأنه يشهد عليه عن علم وإن تحمل الشهادة على رجل يعرفه بالاسم والنسب وهو بصير ثم عمر قبلت شهادته لأنه يشهد على من يعلمه.
فصل: ومن شهد بالنكاح ذكر شروطه لأن الناس يختلفون في شروطه فوجب ذكرها في الشهادة وإن رهن رجل عبداً عند رجل بألف ثم زاده ألفاً آخر وجعل العين رهناً بهما وأشهد الشهود على نفسه أن العين رهن بألفين وعلم الشهود حال الرهن في الباطن فإن كانوا يعقدون أنه لا يجوز إلحاق الزيادة بالدين في الرهن لم يجز أن يشهدوا إلا بما جرى الأمر عليه في الباطن وإن كانوا يعتقدون أنه يجوز إلحاق الزيادة بالدين في الرهن ففيه وجهان: أحدهما: يجوز أن يشهدوا بأن العين رهن بألفين لأنهم يعتقدون أنهم صادقون في ذلك والثاني: أنه لا يجوز أن يشهدوا إلا بذكر ما جرى الأمر عليه في الباطن لأن الاعتبار في الحكم باجتهاد الحاكم دون الشهود.
فصل: ومن شهد بالرضاع وصف الرضاع وأنه ارتضع الصبي من ثديها أومن لبن حلب منها خمس رضعات متفرقات في حولين لاختلاف الناس في شروط الرضاع فإن شهد أنه ابنها من الرضاع لم تقبل لأن الناس يختلفون فيما يصير به ابناً من الرضاع وإن رأى امرأة أخذت صبياً تحت ثيابها وأرضعته لم يجز أن يشهد بالرضاع لأنه يجوز أن يكون قد أعدت شيئاً فيه لبن من غيرها على هيئة الثدي فرأى الصبي يمص فظة ثدياً
فصل: ومن شهد بالجناية ذكر صفاتها فإن قال ضربه بالسيف فمات أو قال ضربه بالسيف فوجدته ميتاً لم يثبت القتل بشهادته لجواز أن يكون مات من غير ضربه وإن قال ضربه بالسيف فمات منه أو ضربه لقتله ثبت القتل بشهادته وإن قال ضربه بالسيف فأنهر دمه فمات مكانه ثبت القتل لشهادته على المنصوص لأنه إذا أنهر دمه فمات علم أنه مات من ضربه فإن قال ضربه فاتضح أو قال ضربه بالسيف فوجدته موضحا لم تثبت الموضحة بشهادته

(3/457)


لأنه أضاف الموضحة إليه وإن قال ضربه فسال دمه لم تثبت الدامية بالشهادة لجواز أن يكون سيلان الدم من غير الضرب وإن قال ضربه فتسال دمه ومات قبلت شهادته في الدامية لأنه أضافها إليه ولا تقبل في الموت لأنه يحتمل أن يكون الموت من غيره وإن قال ضربه بالسيف فأوضحه فوجدت في رأسه موضحتيه لم يجز القصاص لأنا لا نعلم على أي الموضحتين شهد ويجب أرش موضحة لأن الجهل بعينها ليس بجهل لأنه قد أوضحه.
فصل: وإن شهد بالنا ذكر الزاني ومن زنى به لأنه قد يراه على بهيمة فيعتقد أن ذلك زنا والحاكم لا يعتقد أن ذلك زنا أو يراه على زوجته أو جارية ابنه فيظن أنه زنى ويذكر صفة الزنا فإن لم يذكر أنه أولج أو رأى ذكره في فرجها لك يحكم له لأن زياداً لما شهد على المغيرة عند عمر رضي الله عنه ولم يذكر ذلك لم يقم الحد على المغيرة فإن لم يذكر الشهود ذلك سألهم الإمام عنه فإن شهد ثلاثة بالزنا ووصفوا الزنا وشهد الرابع ولم يذكر الزنا لم يجب الحد على المشهور عليه لأن البينة لم تكمل ولم يحد الرابع عليه لأنه لم يشهد بالزنا وهل يجب الحد على الثلاثة فيه قولان وإن شهد أربعة بالزنا وفسر ثلاثة منهم الزنا وفسر الرابع بما ليس بزنا لم يحد المشهود عليه لأنه لم تكمل البينة ويجب الحد على الرابع قولاً واحداً لأنه قذفه بالزنا ثم ذكر ما ليس بزنا وهل يحد الثلاثة على القولين فإن شهد أربعة بالزنا ومات واحد منهم قبل أن يفسر وفسر الباقون بالزنا لم يجب الحد على المشهود عليه لجواز أن يكون ما شهد به الرابع ليس بزنا ولا يجب على الشهود الباقين الحد لجواز أن يكون ما شهد به الرابع زنا فلا يجب الحد مع الاحتيال.
فصل: ومن شهد بالسرقة ذكر السارق والمسروق منه والحرز والنصاب وصفة السرقة لأن الحم يختلف باختلافها فوجب ذكرها ومن شهد بالردة بين ما سمع منه لاختلاف الناس فيما يصير به مرتداً فلم يجز الحكم قبل البيان كما لا يحكم بالشهادة على جرح الشهود قبل بيان الجرح وهل يجوز للحاكم أن يعرض للشهود بالتوقف في الشهادة في حدود الله تعالى فيه وجهان: أحدهما: أنه لا يجوز لأنه فيه قدحاً في الشهود والثاني: أنه يجوز لأن عمر رضي الله عنه عرض لزياد في شهادته على المغيرة فروي أنه قال أرجوا أن لا يفضح الله تعالى علي يديك أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأنه يجوز أن يعرض للمقر بالتوقف فجاز أن يعرض للشاهد.

(3/458)


باب الشهادة على الشهادة
وتجوز الشهادة على الشهادة في حقوق الآدميين وفيما لا يسقط بالشبهة من حقوق الله تعالى لأن الحاجة تدعوا إلى ذلك عند تعذر شهادة الأصل بالموت والمرض والغيبة وفي حدود الله تعالى وهو حد الزنا وحد السرقة وقطع الطريق وشرب الخمر قولان: أحدهما: أنه يجوز لأنه حق يثبت بالشهادة فجاز أن يثبت بالشهادة على الشهادة كحقوق الآدميين والثاني: أنه لا يجوز لأن الشهادة على الشهادة تراد لتأكيد الوثيقة ليتوصل بها إلى إثبات الحق وحدود الله تعالى مبنية على الدواء والإسقاط فلم يجز تأكيدها وتوثيقها بالشهادة على الشهادة وما يثبت الشهادة على الشهادة يثبت بكتاب القاضي إلى القاضي وما لا يثبت بالشهادة على الشهادة لا يثبت بكتاب القاضي إلى القاضي لأن الكتاب لا يثبت إلا بتحمل الشهادة من جهة القاضي الكتاتب فكان حكمه حكم الشهادة على الشهادة.
فصل: ولا يجوز الحكم بالشهادة على الشهادة إلا عند تعذر حضور شهود الأصل بالموت أو المرض أو الغيبة لأن شهادة الأصل أقوى لأنها تثبت نفس الحق والشهادة على الشهادة لا تثبت نفس الحق فلم تقبل مع القدرة على شهود الأصل والغيبة التي يجوز بها الحكم بالشهادة على الشهادة أن يكون شاهد الأصل من موضع الحكم على مسافة إذا حضر لم يقدر أن يرجع بالليل إلى منزله فإنه تلحقه المشقة في ذلك وأما إذا كان في موضع إذا حضر أمكنه أن يرع إلى بيته بالليل لم يجز الحكم بشهادة شهود الفرع لأنه يقدر على شهادة شهود الأصل من غير مشقة.
فصل: ولا يقبل في الشهادة على الشهادة وكتاب القاضي إلى القاضي شهادة النساء لأنه ليس بمال ولا المقصود منه المال وهو مما يطلع عليه الرجال فلم يقبل فيه شهادة النساء كالنكاح.
فصل: ولا يقبل إلا من عدد لأنه شهادة فاعتبر فيها العدد كسائر الشهادات وإن كان شهود الأصل اثنين فشهد على أحدهما: شاهدان وعلى الآخر شاهدان جاز لأنه يثبت قول كل واحد منهما بشاهدين وإن شهد واحد على شهادة أحدهما: وشهد الآخر على شهادة الثاني لم يجز لأنه إثبات قول اثنين فجاز بشاهدين كالشهادة على إقرار نفسين والثاني: أنه لا يجوز وهو اختيار المزني رحمه الله تعالى لأنهما قاما في التحمل مقام شاهد واحد في حق واحد فإذا شهدا فيه على الشاهد الآخر صارا كالشاهد إذا شهد بالحق مرتين وإذا كان شهود الأصل رجلاً وامرأتين قبل في أحد القولين شهادة اثنين على شهادة كل واحد منهم ولا يقبل في الآخر إلا ستة يشهد كل اثنين على شهادة واحد منهم،

(3/459)


وإن كان شهود الأصل أربع نسوة وهو في الولادة والرضاع قبل في أحد القولين شهادة رجلين على كل واحدة منهن ولا يقبل في الآخر إلا شهادة ثمانية يشهد كل اثنين على شهادة واحدة منهن وإن كان شهود الأصل أربعة من الرجال وهو في الزنا وقلنا إنه تقبل الشهادة على الشهادة في الحدود فإن قلنا يقبل شاهدان على شاهدي الأصل في غير الزنا ففي حد الزنا قولان: أحدهما: أنه يكفي شاهدان في إثبات شهادة الأربعة كما يكفي شاهدان في إثبات شهادة اثنين والثاني: أنه يحتاج إلى أربعة لأن فيما يثبت باثنين تحتاج شهادة كل واحد منهما إلى العدد الذي يثبت به أصل الحق وهو اثنان وأصل الحق ههنا لا يثبت إلى بأربعة فلم تثبت شهادتهم إلا بأربعة إن قلنا إنه لا يقبل فيما يثبت بشاهدين إلى الأربعة ففي حد الزنا قولان: أحدهما: أنه يحتاج إلى ثمانية ليثبت بشهاد كل شاهدين شهادة واحد والثاني: أنه يحتاج إلى ستة عشر لأن ما يثبت بشاهدين لا يثبت كل شاهد إلا بما يثبت به أصل الحق وأصل الحق لا يثبت إلا بأربعة فلا تثبت شهادة كل واحد منهم إلا بأربعة فيصير الجميع ستة عشر.
فصل: ولا تقبل الشهادة على الشهادة حتى يسمى شاهد الفرع شاهد الأصل بما يعرف به لأن عدالته شرط فإذا لم تعرف لمتعلم عدالته فإن سماهم شهود الفرع وعدلوهم حكم بشهادتهم لأنهم غير متهمين في تعديلهم وإن قالوا نشهد على شهادة عدلين ولم يسموا لم يحكم بشهادتهم لأنه يجوز أن يكونوا عدولاً عندهم غير عدول عند الحاكم.
فصل: ولا يصح تحمل الشهادة على الشهادة إلا من ثلاثة أوجه: أحدها أن يسمع رجلاً يقول أشهد أن لفلان على فلان كذل مضافاً إلى سبب يوجب المال من ثمن مبيع أو مهر لأنه لا يحتمل مع ذكر السبب إلا الوجوب والثاني: أن يسمعه يشهد عند الحاكم على رجل بحق لأنه لا يشهد عند الحاكم إلا بما يلزم الحكم به والثالث أن يسترعيه رجل بأن يقول أشهد أن لفلان على فلان كذا فاشهدوا على شهادتي بذلك لأنه لا يسترعيه إلا على واجب لأن الاسترعاء وثيقة والوثيقة لا تكون على واجب وأما إذا سمع رجلاً في دكانه أو طريقه يقول أشهد أن لفلان على فلان ألف درهم ولم يقل فاشهد على شاهدتي لم يحكم به لأنه يحتمل أنه أراد أن له عليه ألفاً من وعد وعده بها فلم يجز تحمل الشهادة عليه مع الاحتمال وإن سمع رجلاً يقول لفلان على ألف درهم فهل يجوز أن يشهد عليه

(3/460)


بذلك؟ فيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي إسحاق أنه لا يجوز أن يشهد عليه كما لا يجوز أن يتحمل الشهادة عليه والثاني: وهو المنصوص أنه يجوز أن يشهد عليه والفرق بينه وبين التحمل أن المقر يوجب الحق على نفسه فجاز من غير استرعاء والشاهد يوجب الحق على غيره فاعتبر فيه الاسترعاء ولأن الشهادة آكد لأنه يعتبر فيها العدالة ولا يعتبر ذلك ف الإقرار.
فصل: وإذا أراد شاهد الفرع أن يؤدي الشهادة أداها على الصفة التي تحملها فإن سمعه يشهد بحق مضاف إلى سبب يوجب الحق ذكره وإن سمعه يشهد عند الحاكم ذكره وإن أشهده شاهد الأصل على شهادته أو استرعاه قال أشهد أن فلاناً يشهد أن لفلان على فلان كذا وأشهدني على شهادته.
فصل: وإن رجع شهود الأصل قبل الحكم بشهادة الفرع بطلت شهادة الفلاع لأنه بطل الأصل فبطل الفرع وإن شهد شهود الفرع ثم حضر شهود الأصل قبل الحكم لم يحكم بشهادتهم لأنه قدر على الأصل فلا يجوز الحكم بالبدل. والله أعلم.

(3/461)


باب اختلاف الشهود في الشهادة
إذا ادعى رجل على رجل ألفين وشهد له شاهد أنه أقر له بألف وشهد آخر أنه أقر بألفين ثبت له ألف بشهادتهما لأنهما اتفقا على إثباتها وله أن يحلف مع شاهد الألفين ويثبت له الألف الأخرى لأنه شهد له بها شاهد وإن ادعى ألفاً فشهد له شاهد بألف وشهد آخر بألفين ففي وجهان: أحدهما: أنه يحلف مع الذي شهد له بالألف ويقضي له وتسقط شهادة من شهد له بالألفين لأنه صار مكذباً له فسقطت شهادته له في الجميع والثاني: أنه يثبت له الألف بشهادتهما ويحلف ويستحق الألف الأخرى ولا يصير مكذباً بالشهادة لأنه يجوز أن يكون له حق ويدعي بعضه ويجوز أنه لم يعلم أن له من يشهد له بالألفين.
فصل: وإن شهد شاهد على رجل أنه زنى بامرأة في زاوية من بيت وشهد آخر أنه زنى بها في زاوية ثانية وشهد آخر أنه زنى بها في زاوية ثالثة وشهد آخر أنه زنى بها في زانية رابعة لم يجب الحد على المشهود عليه لأنه لم تكمل البينة على فعل واحد وهل يجب حد القذف على الشهود على القولين وإن شهد اثنان أنه زنى بها وهي مطاوعة وشهد اثنان أنه زنى بها وهي مكرهة لم يجب الحد عليها لأنه لم تكمل بينة الحد في ناها وأما الرجل فالمذهب أنه لا يجب عليه الحد وخرج أبو العباس وجهاً آخر أنه

(3/461)


يجب عليه الحد لأنهم اتفقوا على أنه زنى وهذا خطأ لأن زناه بها وهي مطاوعة غير زناه بها وهي مكرهة فصار كما لو شهد اثنان أنه زنى بها في زاوية وشهد آخران أنه زنى بها في زاوية أخرى.
فصل: وإن شهد شاهد أنه قذف رجلاً بالعربية وشهد آخر أنه قذفه بالعجمية أو شهد أحدهما: أنه قذفه يوم الخميس وشهد آخر أنه قذفه يوم الجمعة لم يجب الحد لأنه لم تكمل البينة على قذف واحد وإن شهد أحدهما: أنه أقر بالعربية أنه قذفه وشهد آخر أنه أقر بالعجمية أنه قذفه أو شهد أحدهما: أنه أقر بالقذف يوم الخميس وشهد الآخر أنه أقر بالقذف يوم الجمعة وجب الحد لأن المقربة واحد وإن اختلفت العبارة فيه.
فصل: وإن شهد شاهد أنه سرق من رجل كبشاً أبيض غدوة وشهد آخر أنه سرق ذلك الكبش بعينه عشية لم يجب الحد لأنه لم تكمل بينة الحد على سرقة واحدة وللمسروق منه أن يحلف ويقضي له بالغرم لأن الغرم يثبت بشاهد ويمين فإن شهد شاهدان أنه سرق كبشاً أبيض غدوة وشهد آخران أنه سرق منه ذلك الكبش بعينه عشية تعارضت البينتان ولم يحكم بواحدة منهما وتخالف المسألة قبلها فإن كل واحد من الشاهدين ليس بينة والتعارض لا يكون في غير بينة وههنا كل واحد منهما بينة فتعارضتا وسقطتا وإن شهد شاهد أنه سرق منه كبشاً غدوة وشهد آخر أنه سرق منه كبشاً عشية ولم يعينا الكبش لم يجب الحد لأنه لم تكمل بينة الحد وله أن يحلف مع أيهما شاء ويحكم له فإن ادعى الكبشين حف مع كل واحد منهما يميناً وحكم له بهما لأنه لا تعارض بينها وإن شهد شاهدان أنه سرق كبشاً غدوة وشهد آخران أنه سرق منه كبشاً عشية وجب القطع والغرم فيهما لأنه كملت بينة الحد والغرم وإن شهد شاهد أنه سرق ثوباً وقيمته ثمن دينار وشهد آخر أنه سرق ذلك الثوب وقيمته ربع دينار لم يجب القطع لأنه لم تكمل بينة الحد ووجب له الثمن لأنه اتفق عليه الشاهدان وله أن يحلف على الثمن الآخر ويحكم له لأنه انفرد به شاهد فقضى به مع اليمين وإن أتلف عليه ثوباً فشهد شاهدان أن قيمته عشرة وشهد آخران أن قيمته عشرون قضي بالعشرة لأن البينتين اتفقتا على العشرة وتعارضتا في الزيادة لأن إحداهما تثبتها والأخرى تنفيها فسقطت.
فصل: وإن شهد شاهدان على رجلين أنهما قتلا فلاناً وشهد المشهود عليهما على الشاهدين أنهما قتلاه فإن صدق الولي الأولين حكم بشهادتهما ويقتل الآخران لأن

(3/462)


الأولين غير متهمين فيما شهدا به والآخران متهمان لأنهما يدفعان عن أنفسهما القتل وإن كذب الولي الأولين وصدق الآخرين بطلت شهادة الجميع لأن الأولين كذبهما الولي والآخران يدفعان عن أنفسهما القتل.
فصل: وإن ادعى رجل على رجل أنه قتل مورثه عمداً فقال المدعى عليه قتلته خطأ فأقام المدعي ساهدين فشهد أحدهما: أنه أقر بقتله عمداً وشهد الآخر عن إقراره بالقتل خطأ فالقول قول المدعى عليه مع يمينه لأن صفة القتل لا تثبت بشاهد واحد فإذا حلف ثبتت دية الخطأ فإن نكل حلف المدعي أنه قتله عمدا ويجب القصاص أودية مغلظة.
فصل: وإن قتل رجل عمداً وله ابنان أو أخوان فشهد أحدهما: على أخيه أن عفا عن القود والمال سقط القود عن القاتل عدلاً كان أو فاسقاً لأن شهادته على أخيه تضمنت الإقرار بسقوط القود فأما الدية فإن نصيب الشاهد يثبت لأنه ما عفا عنه وأما نصيب المشهود عليه فإنه إن كان الشاهد ممن لا تقبل شهادته حلف المشهود عليه أنه ما عفا ويستحق نصف الدية وإن كان ممن تقبل شهادته حلف القاتل معه ويسقط عنه حقه من الدية لأن ما طريقه المال يثبت بالشاهد واليمين وفي كيفية اليمين وجهان أحدهما: أنه يحلف أنه قد عفا عن المال والثاني: أنه يحلف أنه قد عفا عن القود والمال وهو ظاهر النص لأنه قد يعفو عن الدية ولا يسقط حقه منها وهو إذا قلنا إن قتل العمد لا يوجب غير القود فإذا عفا عن الدية كان ذلك كلا عفو فوجب أن يحلف أنه ما عفا عن القود والدية.
فصل: وإن شهد شاهد أنه قال وكلتك وشهد آخر أنه قال أديت لك أو أنت جريي لم تثبت الوكالة لأن شهادتهما لم تتفق على قول واحد وإن شهد أحدهما: أنه قال وكلتك وشهد الآخر أنه أذن له في التصرف أو أنه سلطه على التصرف ثبتت الوكالة لأن أحدهما: ذكر اللفظ والآخر ذكر المعنى ولم يخالفه الآخر إلى في اللفظ.
فصل: وإن شهد شاهدان على رجل أنه أعتق في مرضه عبده سالماً وقيمته ثلث ماله وشهد آخر أنه أعتق غانماً وقيمته ثلث ماله فإن علم السابق منهما عتق ورق الآخر ولإن لم يعلم ذلك ففيه قولان: أحدهما: أنه يقرع بينهما لأنه لا يمكن الجمع بينهما لأن الثلث لا يحتملهما وليس أحدهما: بأولى من الآخر فأقرع بينهما كما لو أعتق عبدين وعجز الثلث عنهما والقول الثاني أنه يعتق من كل واحد منهما النصف لأن السابق حر والثاني: عبد فإذا أقرع بينهما لم يؤمن أن يخرج سهم الرق على السابق وهو حر فيسترق وسهم العتق على الثاني فيعتق وهو عبد فوجب أن يعتق من كل واحد منهما النصف لتساويهما كما لو أوصى لرجل بثلث ماله ولآخر بالثلث ولم يجز الورثة ما زاد على الثلث

(3/463)


فإن الثلث يقسم عليهما وإن شهد شاهداً على رجل أنه أوصى لرجل بثلث ماله وشهد آخران أنه رجع عن الوصية وأوصى لآخر بالثلث بطلت الوصية الأولى وصحت الوصية للثاني وإن ادعى رجل على رجلين أنهما رهنا عبداً لهما عنده بدين له عليهما فصدقه كل واحد منهما في حق شريكه وكذبه في حق نفسه ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا تقبل شهادتهما لأن يدعي أن كل واحد منهما كاذب والثاني: تقبل شهادتهما ويحلف مع كل واحد منهما ويصير العبد رهناً عنده لأنه يجوز أن يكون قد نسي فلا يكون كذبه معلوماً.

(3/464)


باب الرجوع عن الشهادة
إذا شهد الشهود بحث ثم رجعوا عن الشهادة لم يخل إما أن يكون قبل الحكم أو بعد الحكم وقبل الاستيفاء أو بعد الحكم وبعد الاستيفاء فإن كان قبل الحكم لم يحكم بشهادتهم وحكي عن أبي ثور أنه قال يحكم وهذا خطأ لأنه يحتمل أن يكونوا صادقين في الشهادة كاذبين في الرجوع ويجوز أن يكونوا صادقين في الرجوع كاذبين في الشهادة ولم يحكم مع الشك كما لو جهل عدالة الشهود فإن رجعوا بعد لا حكم وقبل الاستيفاء فإن كان في حد أو قصاص لم يجز الاستيفاء لأن هذا الحقوق تسقط بالشبهة والرجوع شبهة ظاهرة فلم يجز الاستيفاء بالشبهة معها وإن كان مالاً أو عقداً فالمنصوص أنه يجوز الاستيفاء ومن أصحابنا من قال: لا يجوز لأن الحكم غير مستقر قبل الاستيفاء وهذا خطأ لأن الحكم نفذ والشبهة لا تؤثر فيه فجاز الاستيفاء وإن رجعوا بعد الحكم والاستيفاء لم ينقض الحكم ولا يجب على المشهود له رد ما أخذه لأنه يجوز أن يكونوا صادقين ويجوز أن يكونوا كاذبين وقد اقترن بأخذ الجائزين الحكم والاستيفاء فلا ينقض برجوع محتمل.
فصل: وإن شهدوا بما يوجب القتل ثم رجعوا نظرت فإن قالوا: تعمدنا ليقتل بشهادتنا وجب علهم القود لما روى الشعبي أن رجلين شهدا عند علي رضي الله عنه على رجل أنه سرق فقطعه ثم أتياه برجل آخر فقالا: إنا أخطأنا بالأول وهذا السارق فأبطل شهادتهما على الآخر وضمنهما دية يد الأول وقال: لو أعلم أنكما تعمدتما لقطعتكما ولأنهما ألجآه إلى قتله بغير حق فلزمهما القود كما لو أكرهاه على قتله وإن قالوا: تعمدنا الشهادة ولم تعمل أنه يقتل وهم يجهلون قتله وجبت عليهم دية مغلظة لما فيه من العمد ومؤجله لما فيه من الخطأ فإن قالوا: أخطأنا وجبت دية مخففة لأنه خطأ ولا تحمله العاقلة لأنها وجبت باعترافهم فإن اتفقوا أن بعضهم تعمد وبعضهم أخطأ وجب على المخطئ قسطه من الدية المخففة وعلى المتعمد قسطه من الدية المغلظة ولا يجب

(3/464)


عليه القود لمشاركة المخطئ وإن اختلفوا فقال بعضهم: تعمدنا كلنا وقال بعضهم: أخطأنا كلنا وجب على المقر بعمد الجميع القود وعلى المقر بخطأ الجميع قسطه من الدية المخففة وإن كانوا أربعة شهدوا بالرجم فقال اثنان منهم: تعمدنا وأخطأ هذان وقال الآخران تعمدنا وأخطأ الأولان ففيه قولان: أحدهما: أنه يجب القود على الجميع لأن كل واحد منهما أقر بالعمد وأضاف الخطأ إلى من أقر بالعمد فصاروا كما لو أقر جميعهم بالعمد والقول الثاني وهو الصحيح أنه لا يؤخذ كل واحد منهم إلا بإقراره وكل واحد منهم مقر بعمد شاركه فيه مخطئ فلا يجب عليه القود بإقراره وكل واحد منهم مقر بعمد شاركه فيه مخطئ فلا يجب عليه القود بإقرار غيره بالعمد وإن قال اثنان تعمدنا كلنا وقال الآخران: تعمدنا وأخطأ الأولان فعلى الأولين القود وفي الآخرين القولان: أحدهما: يجب عليهما القود والثاني: وهو الصحيح أنه يجب عليهما قسطهما من الدية المغلظة وقد مضى توجيههما وإن قال بعضهم تعمدت ولا أعلم حال الباقين فإن قال الباقون: تعمدنا وجب القود على الجميع وإن قالوا: أخطأنا سقط القود عن الجميع.
فصل: فإن رجع بعضهم نظرت فإن لم يزد عددهم على عدد البينة بأن شهد أربعة على رجل بالزنا فرجم ثم رجع واحد منهم وقال أخطأت ضمن ربع الدية وإن رجع اثنان ضمنا نصف الدية وإن زاد عددهم على عدد البينة بأن شهد خمسة على رجل بالزنا فرجم ورجع واحد منهم لم يجب القود على الراجع لبقاء وجوب القتل على المشهور عليه وهل يجب عليه من الدية شيء؟ فيه وجهان: أحدهما: وهو الصحيح أنه لا يجب لبقاء وجوب القتل والثاني: أنه يجب عليه خمس الدية لأن الرجم حصل بشهادتهم فقسمت الدية على عددهم فإن رجع اثنان وقالا تعمدنا كلنا وجب عليهما القود وإن قالا أخطأنا كلنا ففي الدية وجهان: أحدهما: أنهما يضمنان الخمس من الدية اعتباراً بعددهم والثاني: يضمنان ربع الدية لأنه بقي ثلاثة أرباع البينة.
فصل: وإن شهد أربعة بالزنا على رجل وشهد اثنان بالإحصان فرجم ثم رجعوا كلهم عن الشهادة فهل يجب على شهود الإحصان ضمان فيه ثلاثة أوجه: أحدها أنه لا يجب لأنهم لم يشهدوا بما يوجب القتل والثاني: أنه يجب على الجميع لأن الرجم لم يستوف إلا بهم والثالث أنهما إن شهدا بالإحصان قبل ثبوت الزنا لم يضمنا لأنهما لم يثبتا إلا صفة وإن شهدا بعد ثبوت الزنا ضمنا لأن الرجم لم يستوف إلا بهما وفي قدر ما يضمنان من الدية وجهان: أحدهما: أنهما يضمنان نصف الدية لأنه رجم بنوعين من

(3/465)


البينة الإحصان والزنا فقسمت الدية عليهما والثاني: أنه يجب عليهما ثلث الدية لأنه رجم بشهادة ستة فوجب على الاثنين ثلث الدية وإن شهد أربعة بالزنا وشهد اثنان منهم بالإحصان قبلت شهادتهما لأنهما لا يجران بهذه الشهادة إلى أنفسهما نفعاً ولا يدفعان عنهما ضرراً فإن شهدوا فرجم المشهود عليه ثم رجعوا عن الشهادة فإن قلنا لا يجب الضمان على شهود الإحصان وجبت الدية عليهم أرباعاً على كل واحد منهم ربعها وإن قلنا إنه يجب الضمان على شهود الإحصان ففي هذه المسألة وجهان: أحدهما: أنه لا يجب لأجل الشهادة بالإحصان شيء بل يجب على من شهد بالإحصان نصف الدية كأربعة أنفس جنى اثنان جنايتين وجنى اثنان أربعة جنايات والوجه الثاني أنه يجب الضمان لأجل الشهادة بالإحصان فإن قلنا يجب على شاهدي الإحصان نصف الدية وعلى شهود الزنا النصف وجب ههنا على الشاهدين بشهادتهما باللإحصان نصف الدية وقسم النصف بينهم نصفين على شاهدي الإحصان النصف وعلى الآخرين النصف فيصير على شاهدي الإحصان ثلاثة أرباع الدية وعلى الآخرين ربعها وإذا قلنا إنه يجب على شاهدي الإحصان ثلث الدية وجب ههنا عليهما الثلث بشهادتهما بالإحصان ويبقى الثلثان بينهم النصف على من شهد بالإحصان والنصف على الآخرين فيصير على من شهد بالإحصان ثلثا الدية وعلى من انفرد بشهادة الزنا ثلثها.
فصل: وإن شهد على رجل أربعة بالزنا وشهد اثنان بتزكيتهم فرجم ثم بان أن الشهود كانوا عبيدا أوكفارا وجب الضمان على المزكيين لأن المرجوم قتل بغير حق ولا شيء على شهود الزنا لأنهم يقولون إنا شهدنا بالحق ولولي الدم أن يطالب من شاء من الإمام أو المزكيين لأن الإمام رجم المزكيين ألجآ فإن طالب الإمام رجع على المزكيين لأنه رجمه بشهادتهما وإن طالب المزكيين لم يرجعا على الإمام لأنه كالآلة لهما.
فصل: وإن شهد شاهدان على رجل أنه أعتق عبده ثم رجعا عن الشهادة وجب عليهما قيمة العبد لأنهما ألفاه عليه فلزمهما ضمانه كما لو قتلاه وإن شهدا على رجل أنه طلق امرأته ثم رجعا عن الشهادة فإن كان بعد الدخول وجب عليهما مهر المثل لأنهما أتلفا عليه مقوماً فلزمهما ضمانه كما لو أتلفا عليه ماله وإن كان قبل الدخول ففيه طريقان ذكرناهما في الرضاع.

(3/466)


فصل: وإن شهدا عليه بمال وحكم عليه ثم رجعا عن الشهادة فالمنصوص أنه لا يرجع على المشهود وقال فيمن في يده دار فأقر أنه غصبها من فلان ثم أقر أنه غصبها من آخر أنها تسلم إلى الأموال بإقراره السابق وهل يجب عليه أن يغرم قيمتها للثاني فيه قولان ورجوع الشهود كرجوع المقر فمن أصحابنا من قال: هو على قولين وهو قول أبي العباس: أحدهما: أنه يرجع على المشهود بالغرم لأنهم حالوا بينه وبين ماله بعدوان وهو الشهادة فلزمهم الضمان والثاني: أنه لا يرجع عليهم لأن العين لا تضمن إلا باليد أو بالإتلاف ولم يوجد من الشهود واحد منهما ومن أصحابنا من قال: لا يرجع على الشهود قولاً واحداً والفرق بينهما وبين الغاصب أن الغاصب ثبتت يده على المال بعدوان والشهود لم تثبت أيديهم على المال والصحيح أن المسألة على قولين والصحيح من القولين أنه يجب عليهم الضمان فإن شهد رجل وامرأتان بالمال ثم رجعوا وجب على الرجل النصف وعلى كل امرأة الربع لأن كل امرأتين كالرجل وإن شهد ثلاثة رجال ثم رجعوا وجب على كل واحد منهم الثلث فإن رجع واحد وبقي اثنان ففيه وجهان: أحدهما: أنه يلزمه ضمان الثلث لأن المال يثبت بشهادة الجميع والثاني: وهو المذهب أنه لا شيء عليه لأنه بقيت بينة يثبت بها المال فإن رجع آخر وجب عليه وعلى الأول ضمان النصف لأنه انحل نصف البينة وإن شهد رجل وعشر نسوة ثم رجعوا عن الشهادة وجب على الرجل ضمان السدس وعلى كل امرأة ضمان نصف السدس وقال أبو العباس: يجب على الرجل ضمان النصف والصحيح هو الأول لأن الرجل في المال بمنزلة امرأتين وكل امرأتين بمنزلة رجل فصاروا كستة رجال شهدوا ثم رجعوا فيكون حصة الرجل السدس وحصة كل امرأتين السدس وإن رجع ثماني نسوة لم يجب على الصحيح من المذهب عليهن شيء لأنه بقيت بينة ثبت بها الحق فإن رجعت أخرى وجب عليها وعلى الثماني ضمان الربع وإن رجعت أخرى وجب عليها وعلى التسع النصف.
فصل: وإن شهد شاهد بحق ثم مات أو جن أو أغمي عليه قبل الحكم لم تبطل شهادته لأن ما حدث لا يوقع شبهة في الشهادة فلم يمنع الحكم لها وإن شهد ثم فسق قبل الحكم لم يجز الحكم بشهادته لأن الفسق يوقع شكاً في عدالته عند الشهادة فمنع الحكم بها وإن شهد على رجل ثم صار عدواً له بأن قذفه المشهود عليه لم تبطل شهادته لأن هذه عداوة حدثت بعد الشهادة فلم تمنع من الحكم بها وإن شهد وحكم الحاكم بشهادته ثم فسق فإن كان في مال أو عقد لم يؤثر على الحكم لأنه يجوز أن يكون

(3/467)


حادثاً ويجوز أن يكون موجوداً عند الشهادة فلا ينقض حكم نفذ بأمر محتمل وإن كان في حد أو قصاص لم يجز الاستيفاء لأن ذلك يوقع شبهة في الشهادة والحد والقصاص مما يسقطان بالشبهة فلم يجز استيفاؤه مع الشبهة.
فصل: وإن حكم بشهادة شاهد ثم بان أنه عبد أو كافر نقض الحكم لأنه تيقن الخطأ في حكمه فوجب نقضه كما لوحكم بالاجتهاد ثم وجد النص بخلافه وإن حكم بشهادة شاهد ثم قامت البينة أنه فاسق فإن لم تسند الفسق إلى حال الحكم لم ينقض الحكم لجواز أن يكون الفسق حدث بعد الحكم فلم ينقض الحكم مع الاحتمال وإن قامت البينة أنه كان فاسقاً عند الحكم فقد اختلف أصحابنا فيه فقال أبو إسحاق رحمه الله: ينقض الحكم قولاً واحداً لأنه إذا نقض بشهادة العبد ولا نص في رد شهادته ولا إجماع فلأن ينقض بشهادة الفاسق وقد ثبت رد شهادته بالنص والإجماع أولى وقال أبو العباس رحمه الله: فيه قولان: أحدهما: أنه ينقض لما ذكرناه والثاني: أنه لا ينقض لأن فسقه ثبت بالبينة من جهة الظاهر فلا ينقض حكم نفذ في الظاهر والصحيح هو الأول لأن هذا يبطل به إذا حكم بالاجتهاد فيه ثم وجد النص بخلافه فإن النص ثبت من جهة لا ظاهر وهو خبر الواحد ثم ينقض به الحكم.
فصل: وإذا نقض الحكم نظرت فإن كان المحكوم به قطعاً أو قتلاً وجب على الحاكم ضمانه لأنه لا يمكن إيجابه على الشهود وهم يقولون شهدنا بالحق ولا يمكن إيجابه على المشهود له لأنه يقول استوفيت حقي فوجب على الحاكم الذي حكم بالإتلاف ولم يبحث عن الشهادة وفي الموضع الذي يضمن قولان: أحدهما: في بيت المال والثاني: على عاقلته وقد بيناه في الديات وإن كان المحكوم به مالاً فإن كان باقياً في يد المحكوم له وجب عليه رد وإن كان تالفاً وجب عليه ضمانه لأنه حصل في يده بغير حق ويخالف ضمان القطع والقتل حيث لم يوجب على المحكوم له لأن الجناية لا تضمن إلا أن تكون محرمة ويحرم الحاكم خرج عن أن يكون محرماً فوجب على الحاكم دونه.
فصل: ومن حكم له الحاكم بمال أو بضع أو غيرهما بيمين فاجرة أو شهادة زور لم يحل له ما حكم له به لما روت أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنكم تختصمون إلي وإنما أنا بشر ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له بما أسمع وأظنه صادقاً فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فإنما أقطع له قطعة من النار

(3/468)


فليأخذها أو ليدعها" 1. ولأنه يقطع بتحريم ما حكم له به فلم يحل له بحكمه كما لوحكم له بما يخالف النص والإجماع.
__________
1 رواه البخاري في كتاب الشهادات باب 27. مسلم في كتاب الأقضية حديث 4. أبو داود في كتاب الأقضية باب 7. الترمذي في كتاب الأحكام باب 11. ابن ماجه في كتاب الأحكام باب 5. الموطأ في كتاب الأقضية باب 1.

(3/469)