الوسيط في المذهب

= كتاب الْعَارِية = وَالنَّظَر فِي
أَرْكَانهَا وأحكامها وَفصل الْخُصُومَة فِيهَا فإمَّا الْأَركان فَأَرْبَعَة

(3/365)


الأول الْمُعير

وَلَا يعْتَبر فِيهِ إِلَّا كَونه مَالِكًا للمنفعة غير مَحْجُور عَلَيْهِ فِي التَّبَرُّع فَأن الْعَارِية تبرع بالمنافع فَيصح من الْمُسْتَأْجر
وللمستعير أَن يَسْتَوْفِي الْمَنَافِع بوكيله بِنَفسِهِ وَهل لَهُ ان يعير فِيهِ وَجْهَان أظهرهمَا الْمَنْع لِأَن الْإِذْن مَخْصُوص بِهِ فَهُوَ كالضيف
الثَّانِي الْمُسْتَعِير

وَلَا يعْتَبر فِيهِ إِلَّا أَن يكون أَهلا للتبرع عَلَيْهِ
الثَّالِث المعار
وَيعْتَبر فِيهِ شَرْطَانِ
أَحدهمَا أَن يكون مُنْتَفعا بِهِ مَعَ بَقَائِهِ فَلَا معنى لإعاره الْأَطْعِمَة وَفِي

(3/367)


إِعَارَة الدَّرَاهِم وَالدَّنَانِير وإجارتهما لمَنْفَعَة التزيين ثَلَاثَة أوجه
أَحدهَا نعم لِأَن غَرَض التزيين من الْمَقَاصِد وَالثَّانِي لَا لِأَنَّهُ غَرَض بعيد وَالثَّالِث يَصح الْإِعَارَة لِأَنَّهُ مبرة وَلَا يَصح الْإِجَارَة لِأَنَّهُ مُعَاوضَة فيستدعي مَنْفَعَة مُتَقَومَة
فَإِن أبطلناها فَفِي طَريقَة الْعرَاق أَنَّهَا مَضْمُونَة لِأَنَّهَا إِعَارَة فَاسِدَة وَفِي طَرِيق المراوزة أَنَّهَا غير مضمونه لِأَنَّهَا غير قَابِلَة للإعارة فَهِيَ بَاطِلَة الشَّرْط الثَّانِي أَن يكون الِانْتِفَاع مستباحا فَلَا يجوز إِعَارَة الْجَوَارِي للاستمتاع وَلَا للاستخدام إِذا كَانَ الْمُسْتَعِير غير محرم وَكَانَت الْجَارِيَة فِي مَحل الشَّهْوَة فَإِن جرى

(3/368)


فَهُوَ صَحِيح وَلكنه مَحْظُور
وَكَذَا تكره اسْتِعَارَة أحد الْأَبَوَيْنِ للْخدمَة وَكَذَا إِعَارَة العَبْد الْمُسلم من الْكَافِر وَتحرم إِعَارَة الصَّيْد من الْمحرم
الرَّابِع صِيغَة الْإِعَارَة

ولابد فِيهِ من الْإِيجَاب وَهُوَ قَوْله أعرت أَو خُذ أَو مَا يُفِيد مَعْنَاهُ وَيَكْفِي الْقبُول بِالْفِعْلِ وَلَا يشْتَرط اللَّفْظ كاستباحة الضيفان فَلَو قَالَ أعرتك حماري لتعيرني فرسك فَهُوَ أجاره فَاسِدَة غير مَضْمُونَة وَلَو قَالَ اغسل هَذَا الثَّوْب فَهُوَ اسْتِعَارَة لبدنه لأجل الْعَمَل فَإِن كَانَ الْغَاسِل مِمَّن يعْمل بِالْأُجْرَةِ فَالظَّاهِر أَنه يسْتَحق الْأُجْرَة كَمَا يسْتَحق الحمامي والحلاق والتعويل فِيهِ على الْقَرَائِن وَلِهَذَا ذكر القَاضِي فِي المعاطاة فِي البيع وَجْهَيْن لأجل الْقَرَائِن أما أَحْكَامهَا فَثَلَاثَة
الأول الضَّمَان

قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْعَارِية مَضْمُونَة مُؤَدَّاة وَقَالَ أَبُو حنيفَة

(3/369)


رَحْمَة الله أَنَّهَا غير مَضْمُونَة وَلَا خلاف أَنَّهَا مَضْمُونَة الرَّد على الْمُسْتَعِير
ثمَّ فِي كَيْفيَّة الضَّمَان ثَلَاثَة أَقْوَال أَحدهَا أَنه يضمن بأقصى قِيمَته من يَوْم الْقَبْض الى يَوْم التّلف كضمان الْمَغْصُوب وعَلى هَذَا يحدث وَكَذَا الْمُسْتَعَار فِي يَده مَضْمُونا
وَالثَّانِي أَنه يعْتَبر قِيمَته يَوْم الْقَبْض
وَالثَّالِث هُوَ الْأَصَح أَنه يعْتَبر قِيمَته يَوْم التّلف إِذْ فِي اعْتِبَار يَوْم الْقَبْض مَا يُوجب ضَمَان الْأَجْزَاء الْمُسْتَحقَّة بِالِاسْتِعْمَالِ وضمانها غير وَاجِب لِأَنَّهَا تلفت بِالْإِذْنِ وَفِيه وَجه بعيد
وَالْمُسْتَعِير من الْمُسْتَأْجر هَل يضمن فِيهِ وَجْهَان
أَحدهمَا لَا ابتناء يَده على يَد غير مَضْمُونَة
وَالثَّانِي نعم نظرا إِلَيْهِ فِي نَفسه
وَالْمُسْتَعِير من الْغَاصِب يسْتَقرّ عَلَيْهِ الضَّمَان إِذا تلف الْعين فِي يَده وَلَو طُولِبَ

(3/370)


بِالْأُجْرَةِ وَلم يكن استوفي الْمَنْفَعَة بل تلفت تَحت يَده يرجع بِهِ على الْمُعير لِأَن يَده فِي الْمَنْفَعَة لَيْسَ يَد ضَمَان وَإِن كَانَ اسْتَوْفَاهُ فَفِي الرُّجُوع قَولَانِ
أَحدهمَا نعم للغرور فَأَنَّهُ لم يرض بِضَمَان الْمَنَافِع
وَالثَّانِي لَا تَغْلِيبًا للإتلاف على الْغرُور
وحد الْمُسْتَعِير كل طَالب أَخذ المَال لغَرَض نَفسه من غير اسْتِحْقَاق فعلى هَذَا لَو جمحت دَابَّة فأركبها ر أَيْضا ليروضها لَهُ وارسل وَكيلا فِي شغل لَهُ واركبه دَابَّته وفتلفت لَا ضَمَان لَهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ آخِذا لغَرَض نَفسه وَلَو وجد من اعيا فِي الطَّرِيق فأركبه بطرِيق الْقرْبَة فَفِيهِ نظر من حَيْثُ أَن الرَّاكِب منتفع وَلَكِن الْأَظْهر أَن لَا ضَمَان لِأَن الْمَالِك هُوَ المطالب لركوبه ليقترب بِهِ الى الله تبَارك وَتَعَالَى

(3/371)


وَلَو أركب الْمَالِك مَعَ نَفسه رديفا فَتلفت الدَّابَّة تحتهما قَالَ الْأَصْحَاب على الرديف نصف الضَّمَان الأولى أَن لَا يجب لِأَن الدَّابَّة فِي الْملك مَا دَامَ هُوَ رَاكِبًا والرديف ضيف كالضيف الدَّاخِل فِي الدَّار
وَلَو أودعهُ ثوبا وَقَالَ إِن شِئْت فالبسه عِنْد الْحَاجة فَهُوَ قبل اللّبْس وَدِيعَة وَبعده عَارِية مَضْمُونَة
الحكم الثَّانِي التسلط على الِانْتِفَاع

وَهُوَ بِقدر التسليط لِأَن منتفع بالأذن فَإِن تعين جِهَة الْمَنْفَعَة فَلَا كَلَام
وَإِن تعدّدت كَمَا إِذا أعَار أَرضًا فَإِن عين زراعة الْحِنْطَة مثلا فَلهُ أَن يزرع مَا ضَرَره مثل ضَرَر الْحِنْطَة ودونه وَلَا يزرع مَا ضَرَره فَوْقه وَإِن أطلق فَالظَّاهِر فَسَاده إِذْ يتَرَدَّد بَين الْغِرَاس وَالْبناء والزراعة فَهُوَ غرر ظَاهر وَفِيه وَجه أَنه يَصح ويتسلط على الْكل وَلَو قَالَ أنتفع كَيفَ شِئْت فَوَجْهَانِ من حَيْثُ أَنه

(3/372)


فوض الى مَشِيئَته وَلَو عين الزِّرَاعَة فَالظَّاهِر الْجَوَاز وَإِن لم يعين المزروع لِأَن الْأَمر فِيهِ قريب وَلَو عين الْغِرَاس فَلهُ أَن يَبْنِي
وَكَذَلِكَ بِالْعَكْسِ لتساويهما وَقيل لَا لِأَن ضَرَر الْغِرَاس فِي بَاطِن الأَرْض وضرر الْبناء فِي ظَاهر الأَرْض فهما مُخْتَلِفَانِ فِي الْجِنْس
الحكم الثَّالِث الْجَوَاز

وللمعير الرُّجُوع مهما شَاءَ إِلَّا إِذا أعَار لدفن ميت فَيمْتَنع نبش الْقَبْر سَوَاء كَانَ الْمَيِّت جَدِيدا أَو عتيقا إِلَى أَن يندرس أثر المدفون فَعِنْدَ ذَلِك يفعل مَا يُرِيد
وَقبل الاندراس لَو كَانَ لَهُ فِيهِ أَشجَار فَلهُ السَّقْي بِشَرْط أَن لَا يظْهر الْمَيِّت وَكَذَلِكَ لَو أعَار جدارا ليضع الْجَار عَلَيْهِ جذعه فَلَا يَسْتَفِيد بِالرُّجُوعِ قبل الانهدام شَيْئا إِذْ لَا أُجْرَة لَهُ حَتَّى يُطَالب بِهِ
وَفِي هَدمه بِأَرْش النَّقْض تصرف فِي خَاص ملك الْجَار فِي الْجَانِب الثَّانِي من الْجذع فَأَما إِذا أعَار أَرضًا للْبِنَاء وَالْغِرَاس مُطلقًا فَلهُ الرُّجُوع وَلَيْسَ لَهُ لنقض ملك الْمُسْتَعِير مجَّانا لِأَنَّهُ مُحْتَرم وَضعه من غير عدوان وَلَكِن يتَخَيَّر الْمَالِك بَين الثَّلَاث خِصَال بَين أَن يبْقى بِأُجْرَة أَو يتَمَلَّك الْبناء بِقِيمَتِه أَو ينْقض ويبذل أَرْشه والخيرة فِي التَّعْيِين للْمَالِك تَرْجِيحا لجانبه فَإِنَّهُ معير وَلَا حق للْمُسْتَعِير إِلَّا أَن لَا يضيع مَالِيَّته
ثمَّ إِذا رَجَعَ وَالْبناء بعد لم يرفع جَازَ للْمَالِك الدُّخُول وَلَا يتَصَرَّف فِي الْبناء وَلَا

(3/373)


يجوز للْمُسْتَعِير الدُّخُول وتنزها
وَهل يجوز مرمة الجدران فِيهِ خلاف وَجه الْجَوَاز أَن حَقه مَضْمُون عَن التّلف وَفِي الْمَنْع من الْعِمَارَة تَضْييع وَيجوز للْمُعِير بيع الأَرْض وَعَلَيْهَا بِنَاء الْمُسْتَعِير قبل التَّمَلُّك
وَهل يجوز للْمُسْتَعِير بيع الْبناء فِيهِ وَجْهَان
وَجه الْمَنْع أَنه معرض للهدم أَن أَرَادَ الْمُعير هَذَا إِذا كَانَت الْإِعَارَة مُطلقَة أَو مُقَيّدَة بالتأبيد فَلَو قَالَ أعرت سنة فَإِذا مَضَت قلعت الْبناء مجَّانا فَلهُ ذَلِك اتبَاعا للشّرط وَلَو اقْتصر على قَوْله أعرت سنة لم يجز لَهُ النَّقْض بعده مجَّانا فَكَانَ يحْتَمل أَن يحمل على طلب الْأُجْرَة بعده كَمَا يحْتَمل الْهدم وَالْأَصْل حُرْمَة ملكه
وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله فَائِدَة التَّأْقِيت جَوَاز الْقلع مجَّانا أما إِذا أعَار للزِّرَاعَة وَرجع قبل الْإِدْرَاك فَالْمَذْهَب أَنه يجب ابقاؤه الى الْإِدْرَاك وَلَيْسَ لَهُ قلع الزَّرْع وَلَكِن لَهُ أَخذ الْأُجْرَة لِأَن هَذَا اقْربْ الطّرق بِخِلَاف الْغِرَاس فِي الْإِجَارَة

(3/374)


المؤقتة فَإِنَّهُ وَإِن صَبر بَقِيَّة الْمدَّة افْتقر إِلَى الْقلع بعْدهَا
وَفِيه وَجه للعراقيين أَنه لَا يسْتَحق الْأُجْرَة إِلَى الْإِدْرَاك وَوجه لصَاحب التَّقْرِيب أَنه يقْلع الزَّرْع كالغراس أَو لَا يقْلع الْغِرَاس كالزرع وَهُوَ من تَخْرِيجه وتصرفه فرعان
أَحدهمَا لَو بَادر الْمُسْتَعِير وَقلع الْغِرَاس هَل يلْزمه تَسْوِيَة الْحفر فِيهِ وَجْهَان
أَحدهمَا نعم ليرد مَا أَخذ كَمَا أَخذ
وَالثَّانِي لَا لِأَن الْمَأْذُون فِي الْغَرْس مَأْذُون فِي الْقلع وَقد حصل من الْمَأْذُون فِيهِ فَصَارَ كَمَا لَو تلفت الدَّابَّة المستعارة أَو تعبت بالركوب

(3/375)


الثَّانِي إِذا حمل السَّيْل ونواة لأنسان إِلَى ملك غَيره فأنبتت شَجَرَة فَهَل لمَالِك الأَرْض قلعهَا مجَّانا فِيهِ وَجْهَان لتعارض الْحُرْمَة فِي الْجَانِبَيْنِ وَالْأولَى تَرْجِيح مَالك الأَرْض وتسليطه على الْقلع

(3/376)


وَأما فصل الْخُصُومَة
فلهَا ثَلَاث صور
الأولى إِذا قَالَ رَاكب الدَّابَّة لمَالِكهَا أغرتنيها فَقَالَ الْمَالِك بل أجرتكها قَالَ الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ القَوْل قَول الرَّاكِب وَلَو قَالَ ذَلِك زارع الأَرْض لماكلها قَالَ القَوْل قَول الْمَالِك نَص عَلَيْهِ فِي الْمُزَارعَة فأختلف الْأَصْحَاب على طَرِيقين أَحدهمَا قَولَانِ لتقابل الاصلين إِذْ يُمكن أَن يُقَال الأَصْل وجوب الضَّمَان فِي الْمَنْفَعَة وَعدم مَا يُسْقِطهَا أَو الأَصْل عِنْد طريان الْأذن عدم الضَّمَان
وَمِنْهُم من قرر التَّعْيِين وَفرق بِأَن الْعَارِية فِي الدَّوَابّ لَيْسَ بِبَعِيد وَفِي الأَرْض بعيد وَهَذَا التَّرْجِيح فِي مَظَنَّة تعَارض الاصلين لَا بَأْس بِهِ
التَّفْرِيع الأول
إِن قُلْنَا القَوْل قَول الماك فَيحلف على نفي الْإِعَارَة وَلَا يتَعَرَّض لإِثْبَات الْإِجَازَة والمسمى فَإِنَّهُ مُدع فيهمَا ثمَّ إِذا حلف أَخذ أقل الْأَمريْنِ من الْمُسَمّى أَو أُجْرَة الْمثل

(3/377)


وَقَالَ القَاضِي والعراقيون إِنَّه يتَعَرَّض للإجارة فَيحلف أَنه مَا أعَار وَلكنه أجر لينتظم الْكَلَام لَا ليثبت الْإِجَارَة وَذكر الْعِرَاقِيُّونَ قولا آخر أَن فَائِدَته إِثْبَات الْمُسَمّى إِظْهَارًا لفائدته وَهُوَ بعيد
أما إِذا نكل الْمَالِك قَالَ الْعِرَاقِيُّونَ لَا يرد على الرَّاكِب لِأَنَّهُ لَا يَدعِي لنَفسِهِ حَقًا فيبني عَلَيْهِ الْقَضَاء بِالنّكُولِ قَالَ القَاضِي ترد وَفَائِدَته دفع الْغَرِيم وَهُوَ أقرب من الْقَضَاء بِالنّكُولِ
فَإِن قيل فَلَو تنَازعا قبل مُضِيّ مده تتقدم الْمَنْفَعَة فِيهَا قُلْنَا القَوْل قَول الرَّاكِب فِي نفي مَا يدعى عَلَيْهِ من الْإِجَارَة للمستقبل الصُّورَة الثانيه أَن يَقُول الْمَالِك بل غصبتنيها
قَالَ الْمُزنِيّ القَوْل قَول الركب إِذْ الأَصْل عدم الْغَضَب إحسانا للظن بِالنَّاسِ ثمَّ خالفا أَكثر الْأَصْحَاب وَقَالُوا الأَصْل عدم الْأذن وَبَقَاء حق الْمَالِك فِي الْمَنْفَعَة
وَقيل المذهبان قَولَانِ للشَّافِعِيّ وَالْأولَى القَوْل الْمُخَالف للمزني

(3/378)


الثَّالِثَة
أَن يَقُول الرَّاكِب أكريتنيها وغرضه إِسْقَاط الضَّمَان عِنْد التّلف وَاسْتِحْقَاق الْإِمْسَاك فَقَالَ الْمَالِك أعرتكبها فَالْقَوْل قَول الْمَالِك فَإِنَّهُ يَدعِي عَلَيْهِ إِجَارَة وَالْأَصْل عدمهَا ثمَّ يَسْتَفِيد بِالْحلف اسْتِحْقَاق الْقيمَة عِنْد التّلف وَجَوَاز الرُّجُوع عِنْد الْقيام

(3/379)