الوسيط في المذهب

= كتاب التَّفْلِيس=

(4/3)


والتفليس أَن يَجْعَل من عَلَيْهِ الدّين مُفلسًا بِبيع مَاله وَمهما التمس الْغُرَمَاء الْحجر عَلَيْهِ بديونهم الْحَالة الزَّائِدَة على قدر مَاله فللقاضي الْحجر عَلَيْهِ وَبيع مَاله فِي حَقهم
فَإِن قيل فَلَو كَانَت الدُّيُون مُؤَجّلَة
قُلْنَا لَا لِأَنَّهُ لَا مُطَالبَة فِي الْحَال
وَالصَّحِيح أَن الدُّيُون المؤجلة لَا تحل بِالْحجرِ على الْمُفلس وَلَا بالجنون وَإِن كَانَت تحل بِالْمَوْتِ
فَإِن قيل فَإِن لم تكن الدُّيُون زَائِدَة على المَال
قُلْنَا فِي المساوية لِلْمَالِ وَجْهَان وَفِي المقاربة للمساواة وَهِي نَاقِصَة وَجْهَان مرتبان وَإِن لم تقَارب فَلَا حجر عَلَيْهِ بِخِلَاف الْمَيِّت فَإِن الْوَرَثَة يمْنَعُونَ من التَّرِكَة وَإِن لم يسْتَغْرق الدّين نظرا للْمَيت
فَإِن قيل فَلَو التمس بعض الْغُرَمَاء
قُلْنَا إِن زَاد دينه على قدر المَال أُجِيب وَإِن سَاوَى أَو قَارب فعلى الْخلاف

(4/5)


وَلَو التمس الْمُفلس بِنَفسِهِ دون الْغُرَمَاء فَفِي إجَابَته وَجْهَان أشبههما بِالْحَدِيثِ أَنه يُجَاب إِذْ حجر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على معَاذ بالتماسه وَأَبُو حنيفَة لم ير هَذَا الْحجر
ومعتمدنا حجره عَلَيْهِ السَّلَام على معَاذ وَقَول عمر رَضِي الله عَنهُ فِي خطبَته أَلا إِن أسيفع أسيفع جهنية رَضِي من دينه وأمانته بِأَن يُقَال سبق الْحَاج فادان معرضًا فَأصْبح وقدرين بِهِ فَمن كَانَ عَلَيْهِ دين فليأتنا غَدا فَإنَّا بايعو مَاله غَدا وقاضو دينه فَمن كَانَ لَهُ عَلَيْهِ دين

(4/6)


فليحضر
ثمَّ دين الْغُرَمَاء يَنْقَسِم إِلَى مَا يكون عَن ثمن مَبِيع وَالْمَبِيع قَائِم وَإِلَى مَا يكون عَن غَيره

(4/7)


الْقسم الأول من الْكتاب فِيمَا إِذا لم يكن من ثمن مَبِيع أَو كَانَ وَلَكِن الْمَبِيع هَالك
فالنظر فِي ثَلَاثَة أَحْكَام فِيمَا امْتنع من التَّصَرُّفَات بِالْحجرِ وَفِي بيع مَاله وَفِي حَبسه
الحكم الأول التَّصَرُّف الْمَحْجُور فِيهِ

وَهُوَ كل تصرف مُبْتَدأ يُصَادف المَال الْمَوْجُود عِنْد ضرب الْحجر
فَفِيهِ ثَلَاثَة قيود
الأول مَا يُصَادف المَال احْتَرز بِهِ عَن التَّصَرُّف فِي الْبضْع جلبا بِالنِّكَاحِ وَإِزَالَة بِالْخلْعِ
وَفِي الدَّم استيقاء بِالْقصاصِ وإسقاطا بِالْعَفو وَفِي النّسَب إِثْبَاتًا بالاستلحاق وإسقاطا بِاللّعانِ وَفِي المَال الْجَدِيد باجتلاب باحتطاب أَو احتشاش أَو اتهاب أَو قبُول وَصِيَّة أَو شِرَاء على الْمَذْهَب الْأَصَح فَكل ذَلِك لَا حجر فِيهِ
وَكَذَلِكَ لَو أقرّ بِمَا يُوجب عَلَيْهِ قصاصا أَو رشا قبل مِنْهُ ويؤاخد مِنْهُ بِالْأَرْشِ بعد فك الْحجر لَا من هَذَا المَال
وَلَو أقرّ فِي عين مَال بِأَنَّهُ مَغْصُوب أَو وَدِيعَة عِنْده ذكر الشَّافِعِي رَضِي الله

(4/8)


عَنهُ فِي الْقَدِيم قَوْلَيْنِ وَوجه الْقبُول نفي التُّهْمَة وَكَونه أَهلا للإقرار
فَقَالَ الْمُحَقِّقُونَ يجب طرد هَذَا فِي الْإِقْرَار بِالدّينِ حَتَّى يقْضى من المَال مَعَ سَائِر الْغُرَمَاء أَيْضا لنفي التُّهْمَة وَإِلَّا فَلَا فرق
أما مَا يُصَادف عين المَال كَالْعِتْقِ وَالْبيع وَالْهِبَة وَالرَّهْن وَالْكِتَابَة كل ذَلِك فَاسد وَلَا يخرج ذَلِك على عتق الرَّاهِن لِأَن هَذَا الْحجر لم ينشأ إِلَّا للْمَنْع من مثله مَقْصُودا فَإِن فِي تنفيذه تَضْييع الْحُقُوق
ثمَّ لَو فضل العَبْد الْمُعْتق أَو الْمَبِيع أَو أَبْرَأ عَن الدّين فَفِي تَنْفِيذ الْعتْق قَولَانِ وَفِي البيع قَولَانِ مرتبان وَأولى بِأَن لَا يقبل الْوَقْف
وَوجه التَّنْفِيذ أَن البيع صدر من أَهله وصادف مَحَله وَكُنَّا نظنه دافعا لحق لَا سَبِيل إِلَى دَفعه والآن تبين أَنه لم يحصل بِهِ دفع مَحْذُور
وَفَائِدَة هَذَا القَوْل أَنا مَا دمنا نجد سَبِيلا إِلَى قَضَاء الدّين من مَوضِع آخر نَفْعل فَإِن لم نجد صرفنَا إِلَيْهِ الْمَبِيع ثمَّ الْمكَاتب ثمَّ الْمُعْتق فنجعله آخرهَا وَهَذَا التَّرْتِيب مُسْتَحقّ على هَذَا القَوْل

(4/9)


الْقَيْد الثَّانِي قَوْلنَا المَال الْمَوْجُود عِنْد الْحجر

احترزنا بِهِ عَمَّا تجدّد بِإِرْث أَو باحتطاب أَو وَصِيَّة أَو اتهاب أَو شِرَاء إِذا صححنا الشِّرَاء فَفِي تعدِي الْحجر إِلَيْهِ وَجْهَان فَمن قَائِل الْمَقْصُود الْحجر عَلَيْهِ فِي نَفسه
وَمن قَائِل يَقُول الْمَقْصُود الْحجر فِي المَال وَهَذَا لم يكن مَوْجُودا
ثمَّ إِذا صححنا الشِّرَاء فَهَل للْبَائِع التَّعَلُّق بِعَين الْمَبِيع وَقد أنشأ البيع فِي حَال الْحجر والإفلاس فِيهِ ثَلَاثَة أوجه
يفرق فِي الثَّالِث بَين أَن يعلم إفلاسه أَو لَا يعلم وَالظَّاهِر أَنه إِذا كَانَ جَاهِلا ثَبت الْخِيَار
فَإِن قُلْنَا لَا يثبت الْخِيَار لِأَن هَذَا الْحجر لم يضْرب لأَجله بل ضرب قبله فَفِي الثّمن وَجْهَان
أَحدهمَا يصبر وَلَا يضارب بِهِ فَإِنَّهُ دين جَدِيد وَالْمَال لَا يصرف إِلَى دين جَدِيد
وَالثَّانِي أَنه يضارب لِأَنَّهُ أَدخل فِي ملكه شَيْئا جَدِيدا بِدِينِهِ الْجَدِيد وَسَائِر الدُّيُون الجديدة من مهر نِكَاحه وضمانه وَغَيره لَا تقضى من مَاله إِلَّا مَا هُوَ من مصلحَة الْحجر كَأُجْرَة الكيال والحمال فَإِنَّهَا تقدم على سَائِر حُقُوق الْغُرَمَاء

(4/10)


الْقَيْد الثَّالِث قَوْلنَا مُبْتَدأ احترزنا بِهِ عَن مَسْأَلَتَيْنِ

إِحْدَاهمَا أَنه لَو اشْترى بِهِ شَيْئا وَوجد بِهِ عَيْبا وَكَانَت الْغِبْطَة فِي رده فَلهُ ذَلِك وَلَيْسَ للْغُرَمَاء مَنعه لِأَن سَبَب اسْتِحْقَاقه قد سبق
وَلَو تعذر الرَّد بِعَيْب حَادث اسْتحق الْأَرْش وَلَا ينفذ إبراؤه كَمَا لَا ينفذ فِي سَائِر الدُّيُون لِأَنَّهُ إبِْطَال حق الْغُرَمَاء وَلَو أمكن رده وَلكنه مَعَ الْعَيْب يُسَاوِي أَضْعَاف الثّمن فَلَيْسَ لَهُ الرَّد لِأَنَّهُ تَفْوِيت من غير غَرَض
فَلذَلِك لَيْسَ لوَلِيّ الطِّفْل فِي مثل هَذِه الصُّورَة الرَّد ثمَّ لَا يُطَالب بِالْأَرْشِ فَإِن الرَّد مُمكن فِي حَقه وَإِنَّمَا وَقع الِامْتِنَاع مَعَ الْإِمْكَان للْمصْلحَة
الثَّانِيَة إِذا اشْترى بِشَرْط الْخِيَار ثَلَاثَة أَيَّام فحجر عَلَيْهِ قبل مُضِيّ الْمدَّة
قَالَ الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ لَهُ الْفَسْخ وَالْإِجَازَة دون الْغُرَمَاء لِأَنَّهُ لَيْسَ بمستحدث
فَمن الْأَصْحَاب من وَافق هَذَا الْإِطْلَاق وَلم يشْتَرط عَلَيْهِ رِعَايَة الْغِبْطَة
وَمِنْهُم من قَالَ يفرع على أَقْوَال الْملك فَحَيْثُ كَانَ بِالْفَسْخِ أَو الْإِجَازَة مزيل

(4/11)


الْملك فَلَا يجوز إِلَّا بِشَرْط الْغِبْطَة كَمَا فِي الرَّد بِالْعَيْبِ
وَحَيْثُ يكون جالب ملك لَا مزيلا فَلَا حجر عَلَيْهِ إِذْ لَيْسَ عَلَيْهِ الِاكْتِسَاب والتحصيل وَمن أطلق علل بِأَن الْملك لم يثبت بعد فَهُوَ فِي الِابْتِدَاء بِخِلَاف الرَّد بِالْعَيْبِ
فرعان

الأول أَنه لَو كَانَ لَهُ على غَيره دين فَأنْكر فَرد الْيَمين عَلَيْهِ فنكل أَو كَانَ لَهُ شَاهد وَلم يحلف فَلَيْسَ للْغَرِيم أَن يحلف إِذْ لَا حق لَهُ على غير من عَلَيْهِ الدّين وَنَصّ الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ على الْقَوْلَيْنِ فِي نُكُول الْوَارِث أَن الْغَرِيم هَل يحلف
فَمنهمْ من خرج هَاهُنَا قولا وَوَجهه أَنه لَا يبطل حق الْغَرِيم بِالْإِبْرَاءِ فَكَذَا بِالنّكُولِ

(4/12)


وَمِنْهُم من فرق بِأَن الْوَارِث لَيْسَ يَدعِي الدّين لنَفسِهِ فَهُوَ والغريم سَوَاء فِي أَنَّهُمَا يدعيان للْمَيت وَالْمَيِّت عَاجز وَأما هَاهُنَا الْمُسْتَحق حَيّ فاليمين من غير الْمُسْتَحق مَعَ نُكُوله بعيد
وَكَذَلِكَ الْأَصَح أَن الْغَرِيم هَاهُنَا لَا يَبْتَدِئ بِالدَّعْوَى على الْإِنْسَان بِأَن للْمُفلس عَلَيْهِ حَقًا بِخِلَاف الْمَيِّت
وَقَالَ الشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد إِذا قُلْنَا يحلف لَا يبعد أَن يَدعِي ابْتِدَاء بِهِ
وَالثَّانِي لَو أَرَادَ من عَلَيْهِ الدّين سفرا مَنعه من لَهُ دين حَال وَمن لَهُ دين مُؤَجل فَلَا بل يلازمه إِن أَرَادَ مُطَالبَته عِنْد حُلُول الْأَجَل
وَفِي سفر للغزو خلاف لِأَن الْمصير إِلَى الْهَلَاك الذى هُوَ سَبَب الْحُلُول وَهُوَ بعيد وَلَو طلب صَاحب الدّين كَفِيلا أَو إشهادا لم يلْزمه وَفِي لُزُوم الْإِشْهَاد وَجه بعيد
وَفِي سَماع الدَّعْوَى بِالدّينِ الْمُؤَجل خلاف وَكَذَا بِالدّينِ الْحَال مَعَ الِاعْتِرَاف بالإفلاس وَكَذَا بِالدّينِ على العَبْد وَكَذَا دَعْوَى الْمُسْتَوْلدَة الِاسْتِيلَاد على الْمَبِيع قبل أَن تعرض على البيع

(4/13)


الحكم الثَّانِي بيع مَال الْمُفلس وقسمته

وللقاضي ذَلِك بِشَرْط رِعَايَة الْغِبْطَة والمصلحة فيبيع بِثمن الْمثل وَلَا يسلم الْمَبِيع قبل قبض الثّمن ويبادر إِلَى بيع الْحَيَوَان وَلَا يطول مُدَّة الْحجر وَيبِيع بِحُضُور الْمُفلس فَهُوَ أبعد عَن التُّهْمَة وَرُبمَا يطلع الْمُفلس على زبون يَشْتَرِي بِزِيَادَة وَيجمع أَثمَان السّلع ليقسم على نِسْبَة الدُّيُون دفْعَة وَاحِدَة فَإِن لم يصبروا قسم كل مَا يحصل
وَلَا يُكَلف الْغُرَمَاء حجَّة على أَن لَا غَرِيم سواهُم اكْتِفَاء بِأَنَّهُ لَو كَانَ لظهر مَعَ استفاضة الْحجر فَلَو ظهر غَرِيم بدين قديم لم ينْقض الْقِسْمَة بل رَجَعَ على كل غَرِيم بِمَا يَقْتَضِيهِ التَّوْزِيع
وَلَو خرج مَبِيع مُسْتَحقّا رَجَعَ المُشْتَرِي بِالثّمن على الْغُرَمَاء وَتقدم بمقداره لَا بطرِيق الْمُضَاربَة فَإِن بيع مَاله من مصلحَة الْحجر وَلَا يرغب النَّاس فِيهِ مَا لم يثقوا بِضَمَان الدَّرك على الْكَمَال
ثمَّ لَا يَبِيع جَمِيع مَاله بل ينْفق عَلَيْهِ مُدَّة الْحجر وعَلى زَوجته وأقاربه وَيتْرك لَهُ عِنْد البيع نَفَقَة يَوْمه وَكَذَا لزوجته وأقاربه وَلم يلْحق بالمعسر فِي إِسْقَاط نَفَقَة الْقَرِيب عَنهُ فِي هَذَا الْيَوْم وَيتْرك لَهُ دست ثوب يَلِيق بمنصبه حَتَّى الطيلسان والخف إِن كَانَ حطه عَنهُ يخرق مروءته
وَكَذَلِكَ لَو مَاتَ قدم تكفينه وتجهيزة فَإِنَّهُ حَاجَة وقته ثمَّ يقْتَصر على ثوب وَاحِد أم لَا بدل لَهُ من ثَلَاثَة أَثوَاب فِيهِ خلاف ذَكرْنَاهُ فِي الْجَنَائِز

(4/14)


وَالْمذهب أَنه يُبَاع مَسْكَنه وخادمه وَنَصّ فِي الْكَفَّارَات على أَنه يعدل إِلَى الصَّوْم
وَإِن وجد خَادِمًا ومسكنا فَقيل يطرد الْقَوْلَيْنِ نقلا وتخريجا
وَقيل بِالْفرقِ من حَيْثُ إِن حق الله مَبْنِيّ على المساهلة وَأَن الْكَفَّارَة لَهَا بدل
وَقيل أَيْضا يُبَاع الْخَادِم دون الْمسكن ثمَّ يقْتَصر على مَا يَلِيق بِهِ فِي الْمسكن وَمَا يتْرك لَهُ إِذا كَانَ مَوْجُودا فِي يَده يشترى لَهُ إِذا لم يكن ثمَّ لَا يستكسب فِي أَدَاء الدُّيُون بإجارته خلافًا لِأَحْمَد بن حَنْبَل رَحمَه الله
وَقَالَ مَالك إِذا كَانَ مثله يُؤَاجر نَفسه كلف ذَلِك
وَفِي إِجَارَة مستولدته وَجْهَان وَكَذَا إِجَارَة مَا وقف عَلَيْهِ
فَإِن قُلْنَا يفعل ذَلِك فالحجر يَدُوم إِلَى الْوَفَاء بِتمَام الدُّيُون لِأَن ذَلِك لَا مرد لَهُ
ثمَّ إِذا اعْترف الْغُرَمَاء بِأَن لَا مَال لَهُ سوى مَا قسم فَهَل يَنْفَكّ الْحجر أم يحْتَاج إِلَى فك القَاضِي خيفة غَرِيم آخر يظْهر فِيهِ وَجْهَان
وَكَذَا الْخلاف لَو تطابقوا على رفع الْحجر عَنهُ وَمِنْه يتشعب خلاف فِي أَنه لَو لم

(4/15)


يكن لَهُ إِلَّا غَرِيم وَاحِد فَبَاعَ مَاله مِنْهُ بِالدّينِ الذى عَلَيْهِ
قَالَ صَاحب التَّلْخِيص يَصح إِذا لحق لَا يعدوهما وَفِيه رفع الْحجر بِسُقُوط الدّين
وَقَالَ أَبُو زيد لَا يَصح فَرُبمَا يكون لَهُ غَرِيم آخر
قَالَ الشَّيْخ أَبُو عَليّ لَو بَاعَ بِإِذن الْغَرِيم من أَجْنَبِي أَو بَاعه من الْغَرِيم لَا بِالدّينِ لم يَصح وفَاقا لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ رفع الْحجر
قَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ يحْتَمل أَن يُقَال يَصح إِذْ الْحق لَا يعدوهما

(4/16)


الحكم الثَّالِث حَبسه إِلَى ثُبُوت إِعْسَاره

فَإِذا قسم مَا وجد من مَاله وَبَقِي بعض الدّين أَو ادّعى على من لَا مَال لَهُ ظَاهرا واعترف فَيحْبس فَإِن ظهر للْقَاضِي عناده فِي إخفاء المَال يترقى إِلَى تعزيره بِمَا لَا يزِيد فِي كل نوبَة على الْحَد فَإِن أَقَامَ بَيِّنَة على الْإِعْسَار خلي فِي الْحَال وَأنْظر إِلَى ميسرَة
وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله لَا تسمع بَيِّنَة الْإِعْسَار إِلَّا بعد مُضِيّ أَرْبَعِينَ يَوْمًا أَو شَهْرَيْن فِي رِوَايَة ثمَّ ليشهد من يخبر بواطن أَحْوَاله فَإِنَّهُ يشْهد على النَّفْي فَإِذا قَالَ الشَّاهِد خبرت بواطن أَحْوَاله كفى ذَلِك فَإِنَّهُ عدل فَيصدق فِيهِ كَمَا فِي أصل الشَّهَادَة وَكَذَا الشَّهَادَة على أَن لَا وَارِث سوى الْحَاضِر
ثمَّ للْغَرِيم أَن يحلفهُ مَعَ الشَّاهِد فَلَعَلَّ لَهُ مَالا لَا يطلع الشَّاهِد عَلَيْهِ فَإِن قَالَ لست أطلب يَمِينه لم يحلف وَإِن سكت فَالْقَاضِي هَل يحلفهُ ثمَّ يخليه من

(4/17)


الْحَبْس أَو يخليه دون التَّحْلِيف فِيهِ وَجْهَان
فَمن قَالَ يحلفهُ جعل ذَلِك من أدب الْقَضَاء وَأما إِذا عجز عَن إِقَامَة بَيِّنَة الْإِعْسَار فَإِن عهد لَهُ من قبل يسَار فَلَا يُغْنِيه إِلَّا الْبَيِّنَة وَإِن لم يعْهَد قطّ مُوسِرًا فَثَلَاثَة أوجه
أَحدهَا القَوْل قَوْله إِذْ الأَصْل الْفقر واليسار طَارِئ
وَالثَّانِي لَا إِذْ الْغَالِب على الْحر الْقُدْرَة
وَالثَّالِث أَن الدّين إِن لزمَه بِاخْتِيَارِهِ فَالظَّاهِر أَنه لم يلْتَزم إِلَّا مَعَ الْقُدْرَة وَإِلَّا فَالْقَوْل قَوْله
التَّفْرِيع إِن قُلْنَا القَوْل قَوْله فَيقبل يَمِينه على البدار وَكَانَ يحْتَمل هَاهُنَا توقف كَمَا قَالَ أَبُو حنيفَة فِي الشُّهُود
وَإِن قُلْنَا لَا يقبل فَلَو كَانَ غَرِيبا فتخليد الْحَبْس عَلَيْهِ إِضْرَار فللقاضي أَن يُوكل بِهِ شَاهِدين يستخبران عَن منشئه ومولده ومنقلبه وَيحصل لَهما غَلَبَة ظن فِي إِعْسَاره بِقَرِينَة حَاله فيشهدان على الْإِعْسَار

(4/18)


فرع فِي حبس الْوَالِدين فِي دين الْوَلَد وَجْهَان
أَحدهمَا الْمَنْع لِأَنَّهُ تَعْذِيب وعقوبة وَالْولد لَا يسْتَحق عُقُوبَة على وَالِديهِ وَهَذَا ضَعِيف لِأَن الْمَقْصُود مِنْهُ الإرهاق إِلَى قَضَاء الْحق وَمنعه يُؤَدِّي إِلَى أَن يعْتَرف الْوَالِد بِالدّينِ وَيمْتَنع عَن الْأَدَاء مَعَ الْيَسَار ويعجز عَن اسْتِيفَائه
فَإِن قيل يلازم إِلَى أَن يُؤَدِّي
قُلْنَا إِن لم يمْنَع عَن تردده فِي حاجاته مَعَ الْمُلَازمَة فَهُوَ تَعْذِيب للملازم وَلَا يجدي شَيْئا وَإِن منع من التَّرَدُّد إِلَى أَن يقْضِي الدّين فَلَا معنى للحبس إِلَّا هَذَا والسجان هُوَ الملازم

(4/19)


الْقسم الثَّانِي من الْكتاب فِيمَا إِذا كَانَت الدُّيُون لَازِمَة من أَثمَان السّلع وَهِي قَائِمَة

فَللْبَائِع الرُّجُوع فِي عين مَتَاعه لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من مَاتَ أَو أفلس فَصَاحب الْمَتَاع أَحَق بمتاعه إِذا وجده بِعَيْنِه
وَقَالَ أَبُو حنيفَة لَا يثبت الرُّجُوع
وَضبط الْمَذْهَب أَن يقدر اسْتِيفَاء كَمَال الْعِوَض الْحَال الْمُسْتَحق فِي مُعَاوضَة مَحْضَة سَابِقَة على الْحجر بِسَبَب إفلاس الْمُسْتَحق عَلَيْهِ يثبت الرُّجُوع على الْفَوْر إِلَى عين المعوض إِذا كَانَ قَائِما بِحَالهِ

(4/20)


والضبط مُقَيّد بقيود لَا بُد من بَيَانهَا
الْقَيْد الأول التَّعَذُّر وَهُوَ مُؤثر فَإِنَّهُ لَو قدر على اسْتِيفَاء كَمَال الثّمن بعد الإفلاس لتجدد مَال أَو لكَون المَال مُسَاوِيا للديون فَلَا رُجُوع لَهُ
وَلَو قَالَ الْغُرَمَاء خُذ تَمام الثّمن بعد الإفلاس فَنحْن نقدمك بِهِ ثَبت الرُّجُوع لِأَنَّهُ رُبمَا لَا يتقلد مِنْهُم ويحذر ظُهُور غَرِيم آخر لَا يرضى بِهِ فالتعذر حَاصِل
أما الْحَال فقد احترزنا بِهِ عَن الْمُؤَجل فَلَا رُجُوع بِهِ إِذْ الرُّجُوع يَنْبَنِي على تعذر الثّمن والتعذر يَنْبَنِي على توجه الطّلب وَلم يتَوَجَّه الطّلب
وَمِنْهُم من قَالَ يثبت الْفَسْخ وَلَكِن يُقرر الْمَبِيع وَتوقف إِلَى أَن يحل الْأَجَل فَيسلم إِلَيْهِ وَلَا يفْتَقر إِلَى اسْتِئْنَاف حجر بِسَبَبِهِ
وَفِيه وَجه آخر أَن الدّين يحل بالفلس كَمَا يحل بِالْمَوْتِ وَالْجُنُون فَهُوَ كالديون الْحَالة وَهُوَ بعيد
ثمَّ إِذا قُلْنَا لَا فسخ فَلَو صرف الْمَبِيع إِلَى حُقُوق الْغُرَمَاء فَلَا كَلَام وَإِن حل الْأَجَل قبل أَن يتَّفق الصّرْف إِلَيْهِم فَفِي ثُبُوت خِيَار الْفَسْخ الْآن وَجْهَان وَالأَصَح ثُبُوته كَمَا لَو حل قبل الْحجر

(4/21)


وَفِي الْفَسْخ بعد الْحجر إِذا حل الدّين قبل الْحجر وَجه ضَعِيف أَنه لَا يثبت من حَيْثُ إِن البيع لم يقتض حبس الْمَبِيع إِذا كَانَ الثّمن مُؤَجّلا فِي العقد
أما قَوْلنَا الْمُسْتَحق فِي مُعَاوضَة مَحْضَة احترزنا بِهِ عَن النِّكَاح وَالْخلْع وَالصُّلْح عَن الدَّم فَإِن تعذر الْعِوَض فِيهِ لَا يُوجب الْفَسْخ وجوبنا بِهِ الْإِجَارَة وَالسّلم
فَإِذا تعذر الْمُسلم فِيهِ بإفلاس الْمُسلم إِلَيْهِ رَجَعَ الْمُسلم إِلَى رَأس المَال إِن كَانَ بَاقِيا بِعَيْنِه وَإِلَّا ضَارب بِقِيمَة الْمُسلم فِيهِ فَمَا يسلم لَهُ بِالْقِسْمَةِ يَشْتَرِي بِهِ جنس حَقه وَيسلم إِلَيْهِ إِذْ الِاعْتِيَاض غير مُمكن عَنهُ
فَلَو سلم إِلَيْهِ مائَة دِرْهَم فَصَارَ يُوجد الْمُسلم فِيهِ بِكَمَالِهِ بِعشْرَة لانخفاض الأسعار فعلى وَجه يشترى لَهُ بِالْعشرَةِ كَمَال حَقه وَالْبَاقِي يسْتَردّ
وعَلى وَجه لَا يسلم لَهُ كَمَال حَقه كَمَا لم يسلم للباقين فَيقدر كَأَن الْقيمَة كَانَت كَذَلِك فِي حَال الْقِسْمَة فَمَا يفضل مِنْهُ يرد إِلَى البَاقِينَ وَهُوَ الْقيَاس
وَفِي الْإِجَارَة إِذا أفلس الْمُكْتَرِي بِالْأُجْرَةِ فمصادفة الْمكْرِي عين الدَّار أَو الدَّابَّة المكراة كمصادفته عين ملكه فَيفْسخ العقد فِيهِ لِأَن مَحل الْمَنْفَعَة قَائِم مقَام الْمَنْفَعَة

(4/22)


وَفِيه وَجه أَن الْمَنْفَعَة لَيْسَ عينا حَتَّى يُقَال وجد عين مَتَاعه وَهُوَ ضَعِيف
ثمَّ إِن كَانَ مكتري الدَّابَّة فِي أثْنَاء الطَّرِيق حَيْثُ أفلس فَلَا يضيعه بل يَنْقُلهُ إِلَى مأمن بِأُجْرَة الْمثل وَيقدم بهَا على الْغُرَمَاء وَلَا يلْزمه النَّقْل إِلَى مقْصده
وَكَذَلِكَ لَو كَانَ أَرضًا فزرعها فَلَيْسَ لَهُ قلع زرعه بل يبْقى الزَّرْع بِأُجْرَة الْمثل وَيقدم بهَا على الْغُرَمَاء لِأَن فِيهِ مصلحَة مَال الْغُرَمَاء وَهُوَ الزَّرْع وَلَيْسَ هُوَ كَمَا لَو بَاعَ الأَرْض وَرجع فِيهَا بعد زراعة المُشْتَرِي فَإِنَّهُ يلْزمه تبقية الزَّرْع بِغَيْر أُجْرَة لِأَن الْمَنْفَعَة غير مَقْصُودَة فِي البيع بِخِلَاف الْإِجَارَة
وَفِيه أَيْضا وَجه مَنْقُول عَن ابْن سُرَيج أَنه يُطَالب بِالْأُجْرَةِ كَمَا لَو بَقِي الْغِرَاس وَالْبناء
أما إِذا أفلس الْمكْرِي وَالْإِجَارَة وَارِدَة على عين الدَّابَّة أَو الدَّار فالمكري يَسْتَوْفِي الْمَنْفَعَة فَإِن حَقه تعلق بِالْعينِ فيتقدم بِهِ وَلَا يتراخى عَن الْمُرْتَهن ثمَّ يُبَاع فِي حق الْغُرَمَاء فِي الْحَال إِذا قُلْنَا الْإِجَارَة لَا تمنع البيع وَإِن قُلْنَا تمنع فيؤخر بَيْعه كَمَا يُؤَخر بيع الْمَرْهُون
وَأما إِذا أورد الْإِجَارَة فِي الدَّوَابّ على الذِّمَّة فَلَيْسَ لَهُ إِلَّا الرُّجُوع إِلَى الْأُجْرَة إِن قَامَ بِعَينهَا أَو الْمُضَاربَة بِقِيمَة الْمَنْفَعَة فَإِن كَانَت الْمَنْفَعَة لَا تتجزأ كالقصارة فِي ثوب وَاحِد وكالحمل إِلَى بلد يُؤَدِّي تقطيعه إِلَى أَن يبْقى فِي الطَّرِيق

(4/23)


ضائعا فَلهُ الْفَسْخ بِهَذَا الْعذر ليضارب بِالْأُجْرَةِ
أما قَوْلنَا سَابِقَة على الْحجر احترزنا بِهِ عَمَّا يجْرِي سَبَب لُزُومه بعد الْحجر كَمَا إِذا بَاعَ من الْمُفلس الْمَحْجُور عَلَيْهِ فِي أَنه هَل يتَعَلَّق بِعَين مَتَاعه وَقد ذكرنَا ذَلِك
وَكَذَلِكَ لَو أفلس الْمكْرِي وَالدَّار فِي يَد الْمُكْتَرِي فانهدمت ثَبت لَهُ الرُّجُوع إِلَى الْأُجْرَة وَهل يزاحم بِهِ الْغُرَمَاء فِيهِ وَجْهَان
مِنْهُم من قَالَ لَا فَإِنَّهُ دين جَدِيد
وَمِنْهُم من قَالَ بلَى لِأَنَّهُ سَببه سَابق وَهُوَ الْإِجَارَة
وَكَذَلِكَ لَو بَاعَ جَارِيَة بِعَبْد فَتلفت الْجَارِيَة فِي يَد الْمُفلس الْمَحْجُور فَرد بَائِعهَا العَبْد بِعَيْب فَلهُ طلب قيمَة الْجَارِيَة قطعا لِأَنَّهُ أَدخل فِي مقابلتها عبدا فِي يَد الْغُرَمَاء وَلَكِن هَل يتَقَدَّم بِالْقيمَةِ أم يضارب بهَا ذكر القَاضِي وَجْهَيْن وَالأَصَح الْمُضَاربَة
أما قَوْلنَا بِسَبَب إفلاس الْمُسْتَحق عَلَيْهِ احترزنا بِهِ عَن الِامْتِنَاع مَعَ الْقُدْرَة فَذَاك لَا يثبت الرُّجُوع لِأَن السُّلْطَان قَادر على اسْتِيفَائه فَلَيْسَ التَّعَذُّر محققا
وَفِيه وَجه آخر أَنه يثبت وَلَو كَانَ بِانْقِطَاع جنس الثّمن فَإِن جَوَّزنَا الِاعْتِيَاض عَنهُ فَلَا تعذر وَإِن منعنَا فَيثبت الرُّجُوع لِأَنَّهُ تعذر مُحَقّق فَكَانَ فِي معنى الإفلاس وَهُوَ كانقطاع الْمُسلم فِيهِ فَإِنَّهُ يثبت الرُّجُوع إِلَى رَأس المَال

(4/24)


أما قَوْلنَا إِنَّه يثبت الرُّجُوع على الْفَوْر احترزنا فِيهِ عَن التَّأْخِير وَفِيه وَجْهَان
أَحدهمَا أَنه يبطل بِهِ كالرد بِالْعَيْبِ فَإِنَّهُ لدفع ضرار
وَالثَّانِي أَنه على التَّرَاخِي لِأَنَّهُ نتيجة توجه الطّلب بِالثّمن فَمَا دَامَ الطّلب قَائِما كَانَ الرُّجُوع ثَابتا كمطالبة الْمَرْأَة فِي الْإِيلَاء بِالطَّلَاق
أما قَوْلنَا إِذا كَانَ قَائِما احترزنا بِهِ عَن الْهَالِك وَالْخَارِج عَن ملكه فَإِن تعذر الرُّجُوع فِيهِ فَلَا يبْقى إِلَّا الْمُضَاربَة بِالثّمن لِأَنَّهُ لَا فَائِدَة فِي الْفَسْخ إِذْ لَو أمكن تَقْدِيمه بِالْقيمَةِ لقدم بِالثّمن وَإِذا لم يكن بُد من الْمُضَاربَة فالثمن أولى مَا يضارب بِهِ
وَفِيه وَجه آخر أَنه إِذا كَانَت الْقيمَة زَائِدَة على الثّمن فَلهُ الْفَسْخ ليضارب بهَا أما إِذا زَالَ الْملك ثمَّ عَاد فَهُوَ مَبْنِيّ على الْقَوْلَيْنِ فِي أَنه كَالَّذي لم يزل أَو كَالَّذي لم يعد
وَإِذا تعلق بِالْمَبِيعِ حق لَازم كَالرَّهْنِ وَالْكِتَابَة فَهُوَ كفوات الْعين وَلَكِن لَو كَانَ فَزَالَ فَلَا أثر لما مضى فَهُوَ فِي الْحَال وَاجِد عين مَاله
أما قَوْلنَا بِحَالهِ احترزنا بِهِ عَن تغير الْمَبِيع وَهُوَ منقسم إِلَى التَّغَيُّر بِالنُّقْصَانِ وَإِلَى التَّغَيُّر بِالزِّيَادَةِ
أما النُّقْصَان فينقسم إِلَى نُقْصَان صفة ونقصان عين

(4/25)


أما نُقْصَان الصّفة إِن حصل بِآفَة سَمَاوِيَّة فالبائع إِمَّا أَن يقنع بِعَيْبِهِ أَو يضارب مَعَ الْغُرَمَاء بِالثّمن كَمَا لَو تعيب الْمَبِيع فِي يَد البَائِع قبل الْقَبْض
وَإِن تعيب بِجِنَايَة أَجْنَبِي فَيرجع إِلَى الْبَاقِي فيضارب بِقسْطِهِ من الثّمن وَلَا يُطَالب بِالْأَرْشِ إِذْ رُبمَا يكون الأَرْض مثل الْقيمَة بِأَن يكون الْجَانِي قد قطع يَدَيْهِ فغرم كَمَال قِيمَته وَذَلِكَ يعْتَبر فِي حق المُشْتَرِي دون البَائِع
وَإِن كَانَ بِجِنَايَة المُشْتَرِي فطريقان مِنْهُم من قَالَ جِنَايَته كجناية الْأَجْنَبِيّ
وَمِنْهُم من قَالَ بل كالآفة السماوية
أما النُّقْصَان بِفَوَات الْبَعْض كَمَا لَو تلف أحد الْعَبْدَيْنِ وقيمتهما على التَّسَاوِي فالنص أَنه يرجع إِلَى الْبَاقِي ويضارب بِثمن التَّالِف
وَقيل إِنَّه إِن أَرَادَ الرُّجُوع فليأخذ الْبَاقِي بِكُل الثّمن احْتِرَازًا عَن تَفْرِيق الصَّفْقَة
وَلَو بَاعَ عَبْدَيْنِ بِمِائَة وَقبض خمسين وَتلف أحد الْعَبْدَيْنِ وقيمتهما على التَّسَاوِي

(4/26)


فالنص أَنه يرجع إِلَى الْبَاقِي ويحصر الْمَقْبُوض فِي التَّالِف
وَفِيه قَول مخرج أَنا نشيع فَنَقُول يرجع إِلَى نصف العَبْد الْبَاقِي ويضارب بِنصْف ثمن التَّالِف وَمَا قبض موزع عَلَيْهِمَا جَمِيعًا
فرع

اشْترى بِعشْرَة دَرَاهِم عشرَة أَرْطَال زيتا وأغلاه حَتَّى عَاد إِلَى ثَمَانِيَة أَرْطَال وَرجعت الْقيمَة إِلَى سَبْعَة دَرَاهِم فَهُوَ نُقْصَان صفة لزوَال الثّقل أَو نُقْصَان عين لفَوَات بعض الْمَعْقُود عَلَيْهِ فِيهِ وَجْهَان
أما التَّغَيُّر بِالزِّيَادَةِ فَالزِّيَادَة تَنْقَسِم إِلَى مَا حصلت من عينه وَإِلَى مَا اتَّصل بِهِ من خَارج
أما الْحَاصِل من عينه فَمَا هُوَ مُتَّصِل من كل وَجه كالسمن وَكبر الشَّجَرَة فَلَا حكم لَهَا وَيسلم ذَلِك مجَّانا للْبَائِع وَلَا أثر للزِّيَادَة الْمُتَّصِلَة إِلَّا فِي الصَدَاق
والمنفصلة من كل وَجه كَالْوَلَدِ الْمُنْفَصِل وَالثَّمَرَة الْمُنْفَصِلَة لَا أثر لَهَا أَيْضا بل تسلم للْمُشْتَرِي وَيرجع البَائِع إِلَى الأَصْل
وَفِي الْبذر إِذا زرعه المُشْتَرِي حَتَّى نبت وَالْبيض إِذا تفرخ فِي يَده والعصير إِذا

(4/27)


انْقَلب خمرًا ثمَّ انْقَلب خلا خلاف أَنه يَجْعَل كزيادة عَيْنِيَّة كَمَا فِي الْغَصْب أم يَجْعَل مَوْجُودا متجددا وَيُقَال الْمَبِيع قد عدم وَهَذَا غَيره
أما الزِّيَادَة الْمُتَّصِلَة من وَجه دون وَجه فَهُوَ الْحمل فَإِن كَانَ مجتنا عِنْد البيع وَالرُّجُوع الْتحق بالسمن وَإِن كَانَ مجتنا حَالَة الْبيعَة مُنْفَصِلا حَالَة الرُّجُوع فَقَوْلَانِ
أَحدهمَا أَنه يسلم للْمُشْتَرِي لِأَنَّهَا زِيَادَة حدثت بالانفصال وَلَا حكم لوُجُوده قبله
وَالثَّانِي أَن الْحمل كَانَ مَوْجُودا وَإِنَّمَا الِانْفِصَال نمو وَتغَير حَال وَإِن كَانَ حَائِلا عِنْد البيع وحاملا عِنْد الرُّجُوع فَالظَّاهِر أَن الْحمل يتبع فِي الرُّجُوع كَمَا فِي البيع
وَفِيه وَجه أَنه يبْقى على ملك المُشْتَرِي لِأَنَّهُ زِيَادَة حَادِثَة على ملكه وَالثَّمَرَة مَا دَامَت غير مؤبرة فَهِيَ كالحمل المجتن وَلَكِن الثَّمَرَة أولى بِأَن يعْطى لَهَا حكم الِاسْتِقْلَال
فروع أَرْبَعَة

الأول إِذا كَانَ الْوَلَد مُنْفَصِلا فَفِي رُجُوعه فِي الْأُم دون الْوَلَد تَفْرِيق بَينهمَا فَفِيهِ وَجْهَان
أَحدهمَا أَنه مُخَيّر بَين الْمُضَاربَة بِالثّمن أَو أَن يبْذل قيمَة الْوَلَد ليرْجع فِي عين الْأُم فَإِن لم يبْذل فَهُوَ كالفاقد عين مَاله إِذْ تعلق بِهِ حق لَازم للْوَلَد لَيْسَ يُمكنهُ قطعه عَنهُ

(4/28)


وَالثَّانِي أَنه لَا يَجْعَل بِهِ فاقدا بل تبَاع الْأُم وَالْولد ويخصص بِقِيمَة الْأُم
الثَّانِي إِذا قَالَ البَائِع رجعت فِي الْأَشْجَار الْمَبِيعَة قبل التَّأْبِير فَرجع الثِّمَار إِلَيّ وَكذبه الْمُفلس فَالْقَوْل قَوْله إِذْ الأَصْل اسْتِمْرَار ملك الْمُفلس فَإِن صدقه الْغُرَمَاء لم يقبل قَوْلهم على الْمُفلس وللمفلس أَن يَأْخُذ الثِّمَار ويجبرهم على الْقبُول من جِهَة دينه
فَإِن أَبَوا وَزَعَمُوا أَنه حرَام لم يمكنوا مِنْهُ بل عَلَيْهِم الْقبُول أَو الْإِبْرَاء ثمَّ إِن قبلوا فَللْبَائِع الِاسْتِرْدَاد مِنْهُم مُؤَاخذَة لَهُم بقَوْلهمْ وَكَذَا السَّيِّد إِذا حمل إِلَيْهِ العَبْد النُّجُوم فِي الْكِتَابَة فَقَالَ هُوَ مَغْصُوب لِأَن قَوْله لَا يقبل على الْمكَاتب
فَلَو قَالُوا أَخذنَا حقوقنا فَلهُ الْإِجْبَار ليعجل فك الْحجر عَن نَفسه فَلهُ فِيهِ غَرَض
فَإِن قَالُوا فككنا الْحجر وَقُلْنَا إِنَّه يَنْفَكّ بفكهم فينبني على أَن مُسْتَحقّ الدّين هَل يجْبر على الْقبُول
وَلَو صدقه الْبَعْض وَكذبه الْبَعْض فتصرف الثَّمَرَة إِلَى من صدق الْمُفلس كَيْلا يُؤَدِّي إِلَى الضَّرَر فَإِن هَذَا مُمكن
فَلَو كَانَ للمصدق ألف وَقد أَخذ الثَّمَرَة بِخَمْسِمِائَة وللمكذب أَيْضا ألف وَقد بَقِي من المَال خَمْسمِائَة فَالصَّحِيح أَنه يقسم بَينهمَا أَثلَاثًا
وَفِيه وَجه أَن الْمُصدق يَقُول مَا أَخَذته فَهُوَ حرَام بزعمك عَليّ فألفي بَاقٍ كَمَاله بزعمك فأساويك وَهُوَ ضَعِيف
الثَّالِث إِذا بَقِي الثِّمَار للْمُشْتَرِي فَلَيْسَ للْبَائِع مَنعه من الْإِبْقَاء إِلَى أَوَان الْجذاذ فَكَذَا لَا يقْلع زرعه فَلَو قَالَ الْمُفلس أقلعه لأقضي ديني بِمَا يَشْتَرِي بِهِ وأفك الْحجر عَن نَفسِي فَلهُ ذَلِك لِأَنَّهُ غَرَض صَحِيح وَإِن كَانَ الْحجر لَا يَنْفَكّ فَهُوَ مَمْنُوع لِأَنَّهُ إِضَاعَة مَال من غير فَائِدَة

(4/29)


الرَّابِع أَنه إِذا كَانَ الرُّجُوع يَقْتَضِي عود الثِّمَار إِلَيْهِ وَلَكِن كَانَت الثِّمَار قد تلفت فَيرجع بِحِصَّة الثِّمَار من الثّمن مُضَارَبَة وَيرجع فِي عين الشَّجَرَة وتعرف حِصَّته بالتوزيع على الْقيمَة وَيعْتَبر فِي الثَّمَرَة أقل الْقيمَة فِي يَوْم العقد إِلَى الْقَبْض تقليلا للْوَاجِب عَلَيْهِ فَإِنَّهُ إِن كَانَ يَوْم العقد أقل فَلم يدْخل مَا تنَاوله العقد فِي ضَمَانه وَإِن كَانَ أَكثر فَهُوَ زِيَادَة على ملكه
وَفِي الشَّجَرَة وَجْهَان أَحدهمَا أَنه يعْتَبر أَكثر الْقِيمَتَيْنِ من العقد إِلَى الْقَبْض لِأَن فِيهِ أَيْضا تقليل الْوَاجِب على المُشْتَرِي وَعَلِيهِ مَا سبق
وَالثَّانِي ذكره القَاضِي أَنه يعْتَبر الْأَقَل لِأَنَّهُ إِن كَانَ قيمَة يَوْم العقد أقل فَمَا زَاد بعده عَاد إِلَيْهِ بِعُود الشَّجَرَة فَهِيَ زِيَادَة مُتَّصِلَة تسلم لَهُ مجَّانا فَلَا يحْتَسب عَلَيْهِ وللزيادة الْمُتَّصِلَة مَرَاتِب إِن تلفت لَا يطْلب البَائِع قيمتهَا وَإِن بقيت فَازَ بهَا البَائِع مجَّانا وَلَا يُطَالب بِقِيمَتِه وَإِن كَانَ بِتَقْدِير قِيمَته تخْتَلف قيمَة غَيره فَهَل يحْتَسب عَلَيْهِ فِيهِ هَذَا الْخلاف
أما الزِّيَادَة الْمُتَّصِلَة بِالْمَبِيعِ من خَارج فَثَلَاثَة أَقسَام عين مَحْض وَأثر مَحْض وَمَا هُوَ عين من وَجه وَوصف من وَجه

(4/30)


أما الْعين الْمَحْض هُوَ أَن يَبْنِي فِي الأَرْض أَو يغْرس فِيهَا فَفِيهِ ثَلَاثَة أَقْوَال أَحدهَا أَن الْمُتَغَيّر بِهِ كالمفقود إِذْ يُؤَدِّي رُجُوعه إِلَى الْإِضْرَار بالمشتري
وَالثَّانِي أَنه وَاجِد عين مَاله وَلَكِن لَا يرجع فِيهِ بل يُبَاع ويفوز بِقِيمَة الأَرْض دون الْبناء وَالْغِرَاس
وَالأَصَح هُوَ الثَّالِث أَنه يرجع فِي عين الأَرْض وَيتَخَيَّر فِي الْغِرَاس بَين أَن يتَمَلَّك بِبَدَل أَو ينْقض وَيغرم الْأَرْش أَو يبقي بِأُجْرَة ورأيه فِي التَّعْيِين مُتبع
هَذَا إِذا كَانَت الزِّيَادَة قَابِلَة للتمييز فَإِن لم تقبل كَمَا لَو خلط مكيلة زَيْت بمكيلة من عِنْده فَإِن كَانَ مَا عِنْده أردأ أَو من جنسه فالبائع يرجع إِلَى مكيله وَيقسم بَينهمَا فَإِن نقص وَصفه فَهُوَ عيب حصل بِفعل المُشْتَرِي
وَإِن كَانَ مَا عِنْده أَجود فَقَوْلَانِ أَحدهمَا الرُّجُوع كالصورة الأولى
وَالثَّانِي هُوَ فَاقِد لِأَن فِي رُجُوعه إِضْرَارًا بالمشتري أَو تناقضا فِي كَيْفيَّة الرُّجُوع
وَمن الْأَصْحَاب من طرد قولا فِي منع الرُّجُوع فِي الْخَلْط بِالْجِنْسِ وَهُوَ خلاف النَّص

(4/31)


فَإِن قُلْنَا يرجع فَقَوْلَانِ
أَحدهمَا أَنه يُبَاع الْجَمِيع ويوزع عَلَيْهِمَا على نِسْبَة قيمَة ملكيهما
وَالثَّانِي أَنه يقسم الزَّيْت بِنَفسِهِ على نِسْبَة الْقيمَة حَتَّى أَنه لَو كَانَ مكيلة البَائِع تَسَاوِي درهما ومكيلة المُشْتَرِي تَسَاوِي دِرْهَمَيْنِ فَلِلْمُشْتَرِي مكيلة وَثلث وَللْبَائِع ثلثا مكيلة وَهَذَا فِيهِ مَحْظُور من بَاب الرِّبَا وَفِي البيع اعْتِرَاف بِالْعَجزِ عَن الرُّجُوع عَن الْعين
وطرد ابْن سُرَيج الْقَوْلَيْنِ فِي تَفْصِيل الرُّجُوع فِي الْخَلْط بالأردأ
وَكَانَ الشَّافِعِي رَضِي الله عَن يمِيل إِلَى صِيَانة جَانب المُشْتَرِي وَلَا يُبَالِي بِنُقْصَان فِي جَانب البَائِع وَابْن سُرَيج يُسَوِّي بَينهمَا
وَإِن خلط الزَّيْت بالشيرج فَالصَّحِيح أَنه فَاقِد عين ملكه لِأَنَّهُ انْقَلب الْجِنْس بِهِ
الْقسم الثَّانِي مَا هُوَ وصف من وَجه وَعين من وَجه كَمَا لَو صبغ الثَّوْب بصبغ من عِنْده فَإِن لم يزدْ فِي قيمَة الثَّوْب فَإِن البَائِع يرجع بِالثَّوْبِ وَإِن زَادَت الْقيمَة فَهُوَ شريك بِالْقدرِ الذى زَاد فَإِن كَانَ قيمَة الصَّبْغ درهما وَقِيمَة الثَّوْب عشرَة فَصَارَ بالصبغ يُسَاوِي خَمْسَة عشر فَلِلْمُشْتَرِي مِنْهُ قدر دِرْهَم وَللْبَائِع مِنْهُ قدر عشرَة وَالْأَرْبَعَة حصلت بالصنعة على الثَّوْب لَا على الصَّبْغ لِأَن الصَّبْغ تبع

(4/32)


فينبني على أَن الصَّنْعَة يسْلك بهَا مَسْلَك الْأَثر أم الْعين كَمَا سَيَأْتِي
الْقسم الثَّالِث الْأَثر الْمَحْض كَمَا لَو طحن الْحِنْطَة وراض الدَّابَّة وَقصر الثَّوْب وَعلم العَبْد حِرْفَة فَفِيهِ قَولَانِ
أَحدهمَا أَن لَهُ حكم الْعين كَمَا فِي الصَّبْغ وَقد سبق حكمه
وَالثَّانِي أَنه أثر لَا قيمَة لَهُ كَمَا إِذا صدر من الْغَاصِب فِي الْمَغْصُوب بِخِلَاف الصَّبْغ فَإِنَّهُ عين وَالْفرق ظَاهر من حَيْثُ إِن عمل المُشْتَرِي مُحْتَرم وَقد حصل وَصفا يسْتَأْجر عَلَيْهِ ببذل المَال فَكَانَ مُتَقَوّما وَفعل الْغَاصِب عدوان لَا يتقوم بِخِلَاف صبغه
فعلى هَذَا نجْعَل القصارة كالصبغ ويوزع الثّمن عِنْد بيع الثَّوْب عَلَيْهِمَا بِاعْتِبَار قيمتهمَا وَإِن تضاعفت الْقيمَة فيضاعف حق كل وَاحِد مِنْهُمَا وَإِن ارْتَفع قيمَة الثَّوْب دون القصارة كَانَ الزَّائِد حق البَائِع دون المُشْتَرِي
فرع لَو اسْتَأْجر أَجِيرا للقصارة وأفلس قبل أَدَاء الْأُجْرَة وَالثَّوْب بَاقٍ فَإِن قُلْنَا إِن القصارة أثر فَلَيْسَ للْأَجِير إِلَّا الْمُضَاربَة وَإِن قُلْنَا إِنَّه عين فَلهُ حق حبس الثَّوْب
فَإِن كَانَ قيمَة الثَّوْب عشرَة وَقِيمَة القصارة خَمْسَة وَالْأُجْرَة دِرْهَم فَيخْتَص البَائِع بِعشْرَة والأجير بدرهم وَيصرف أَرْبَعَة إِلَى سَائِر الْغُرَمَاء

(4/33)


وَلَو كَانَت الْأُجْرَة خَمْسَة وَقِيمَة القصارة درهما فَإِن البَائِع يخْتَص بِعشْرَة وَصرف الدِّرْهَم الزَّائِد إِلَى الْأَجِير وَله الْمُضَاربَة بالأربعة الْبَاقِيَة هَكَذَا نَص الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ وَلم يحكم بِأَن الْأَجِير وجد عين مَتَاعه وَهُوَ القصارة فَيفْسخ ويقنع بهَا زَادَت الْقيمَة أَو نقصت
وَمن الْأَصْحَاب من قضى بذلك طردا لقياس تَنْزِيله منزلَة الْعين من كل وَجه وَهُوَ خلاف النَّص فَإِنَّهُ لَا يُمكن إِلْحَاقه بِالْعينِ من كل وَجه وَلَكِن لم ير الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ تَعْطِيل حق المُشْتَرِي ولمحصله أَيْضا حق حبس ووثيقة فِيهِ وَهُوَ الْأَجِير فَأَما أَن نجْعَل عين سلْعَة حَتَّى يفْسخ العقد فِيهَا فَهُوَ بعيد

(4/34)