الوسيط في المذهب

= كتاب الْوَدِيعَة=

(4/495)


وَهِي مُشْتَقَّة من قَوْلهم ودع الشئ إِذا سكن وَاسْتقر أَي أَنَّهَا مُسْتَقِرَّة عِنْد الْمُودع
وَقيل إِنَّهَا مُشْتَقَّة من قَوْلهم فلَان فِي دعة أَي فِي خفض من الْعَيْش أَي أَن الْوَدِيعَة فِي دعة غير متبلاة بِالِانْتِفَاعِ
وَالنَّظَر فِي أَرْكَان الْوَدِيعَة وأحكامها
أما الْأَركان فالمودع وَالْمُودع والوديعة والصيغة
أما الْوَدِيعَة
فَهُوَ كل مَال تثبت عَلَيْهِ الْيَد الحافظة
أما الْمُودع وَالْمُودع فَلَا يعْتَبر فيهمَا إِلَّا مَا يعْتَبر فِي الْوَكِيل وَالْمُوكل لِأَن الْإِيدَاع استنابة فِي الْحِفْظ فَلَا يَسْتَدْعِي إِلَّا التَّكْلِيف من الْجَانِبَيْنِ
فرعان

أَحدهمَا لَو أَخذ الْوَدِيعَة من صبي ضمن إِلَّا أَن يخَاف من الصَّبِي الإهلاك فَأَخذه على قصد الْحِسْبَة

(4/497)


فَفِي ضَمَانه وَجْهَان كَمَا لَو خلص طيرا من فَم جارحة ليحفظه على صَاحبه
الثَّانِي لَو أودع صَبيا فأتلفه الصَّبِي فَفِي الضَّمَان قَولَانِ
أَحدهمَا أَنه لَا يجب لِأَنَّهُ مسلط عَلَيْهِ فَصَارَ كَمَا لَو اسْتقْرض أَو ابْتَاعَ فأتلف
وَالثَّانِي أَنه يجب لِأَنَّهُ متسلط على الْحِفْظ لَا على الْإِتْلَاف
وَأما البَائِع والمقرض فقد سلطا على الْإِتْلَاف وشرطا عَلَيْهِ عوضا فقد الشَّرْط وَبَقِي التسليط
وَهَذَا الْخلاف جَار فِي تعلق الضَّمَان بِرَقَبَة العَبْد إِذا تلف بعد أَن أودع وَلَا خلاف فِي تعلق الضَّمَان بِذِمَّتِهِ فَأَما الصِّيغَة
فَهِيَ أَن يَقُول احفظ هَذَا المَال أَو استودعتك أَو مَا يُفِيد مَعْنَاهُ
وَفِي اشْتِرَاط الْقبُول لفظا مَا ذَكرْنَاهُ فِي الْوكَالَة وَهَاهُنَا أولى بِأَن يشْتَرط لِأَنَّهَا أبعد عَن مشابهة الْعُقُود

(4/498)


فَإِذا لم يشْتَرط الْقبُول لفظا فَإِذا أَخذ الْوَدِيعَة أَو وضع بَين يَدَيْهِ فرفعه كَانَ ذَلِك قبولا
وَلَو قَامَ من الْمجْلس وَلم يَأْخُذ كَانَ ذَلِك ردا للوديعة
وَلَو قَامَ الْمَالِك أَولا وخلى بَينه وَبَين الْمُودع لم تَنْعَقِد الْوَدِيعَة فَإِن التَّخْلِيَة قد تقوم مقَام الْقَبْض وَلَكِن إِذا اسْتحق الْقَبْض
فَإِن قيل الْوَدِيعَة عقد أَو إِذن مُجَرّد
قُلْنَا قد ذكر القَاضِي حُسَيْن فِيهِ خلافًا وَبنى عَلَيْهِ التَّرَدُّد فِي أَن الْمُودع إِذا عزل نَفسه هَل يَنْفَسِخ العقد وَذكر فِيهِ وَجْهَيْن
أَحدهمَا نعم لِأَنَّهُ عقد جَائِز
وَالثَّانِي لَا لِأَنَّهُ تسليط مُجَرّد فيضاهي إِبَاحَة الْأكل للضيف فَلَا معنى للْفَسْخ فِيهِ
فَإِن قُلْنَا انْفَسَخ بقيت الْوَدِيعَة أَمَانَة شَرْعِيَّة كَمَا لَو طير الرّيح ثوبا وألقاه فِي دَاره حَتَّى لَو تمكن من الرَّد على الْمَالِك وَلم يرد ضمن على أحد الْوَجْهَيْنِ

(4/499)


أما حكم الْوَدِيعَة

فَهُوَ أَنه عقد جَائِز من الْجَانِبَيْنِ يَنْفَسِخ بالجنون وَالْإِغْمَاء وَالْمَوْت
وَمُوجب العقد التسلط على الْحِفْظ بِالْمَعْرُوفِ وَأَنه إِن تلف بِغَيْر تَقْصِيره فَلَا ضَمَان وَأَنه مهما طلب الْمَالِك وَجب التَّمْكِين من الْأَخْذ
فالنظر إِذا فِي الضَّمَان ورد الْعين
أما الضَّمَان فسببه التقصر وللتقصير ثَمَانِيَة أَسبَاب

السَّبَب الأول أَن يودع عِنْد غَيره من غير عذر

فَيضمن لِأَنَّهُ لم يرض الْمَالِك بيد غَيره
وَلَا فرق بَين أَو يودع زَوجته أَو عَبده أَو أَجْنَبِيّا إِلَّا أَن يسلم إِلَى عَبده وَزَوجته ليوصله إِلَى حرزه أَعنِي حرز الْمُودع
وَإِن أودع القَاضِي وَقَبله القَاضِي فَلَا ضَمَان لِأَنَّهُ رُبمَا يتبرم الْحِفْظ فَلَا يلْزمه المداومة عَلَيْهِ وَلَا شُبْهَة فِي أَمَانَة القَاضِي
وَإِن أبي القَاضِي أَن يَأْخُذ هَل يجوز لَهُ ذَلِك فِيهِ وَجْهَان
أَحدهمَا لَا يجوز لِأَنَّهُ نَائِب عَن كل غَائِب فلقبض عَنهُ

(4/500)


وَالثَّانِي لَا يلْزمه لِأَنَّهُ الْتزم الْحِفْظ فيكف بِهِ
وَفِي وجوب قبُول الْمَغْصُوب من الْغَاصِب وَجْهَان مرتبان وَأولى بِأَن لَا يلْزم لِأَنَّهُ فِي يَد الْغَاصِب مَضْمُون
وَفِي وجوب قبُول الدّين مِمَّن عَلَيْهِ وَجْهَان مرتبان على الْمَغْصُوب وَأولى بِأَن لَا يلْزم لِأَن الدّين غير معرض للتلف فِي ذمَّته وَلَا يثقل عَلَيْهِ حفظه هَذَا إِذا أودع غَيره بِغَيْر عذر
فَإِن حَضَره سفر فليرده على الْمَالِك فَإِن عجز فَإلَى القَاضِي فَإِن عجز فَإلَى أَمِين فَإِذا فعل شَيْئا من ذَلِك لم يضمن
وَإِن عجز عَن الْكل فَوَجْهَانِ
أَحدهمَا أَنه يُسَافر وَلَا ضَمَان للضَّرُورَة
وَالثَّانِي أَنه يضمن فَإِنَّهُ الْتزم الْحِفْظ فاليتعرض لخطر الضَّمَان أَو ليترك السّفر
السَّبَب الثَّانِي السّفر بالوديعة

وَهُوَ سَبَب للضَّمَان إِذا لم يكن عذر

(4/501)


لِأَن الْمُسَافِر وَمَاله لعلى قلت إِلَّا مَا وقى الله تَعَالَى إِلَّا إِذا أَخذه فِي السّفر فَلهُ اسْتِدَامَة السّفر
وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله يُسَافر بِهِ إِذا كَانَ الطَّرِيق آمنا
أما إِذا كَانَ بِعُذْر مثل حريق أَو نهب أَو غَارة فِي الْبَلَد فَلَا ضَمَان فِي السّفر بِهِ
وَإِن كَانَ الْعذر حَاجته إِلَى السّفر فقد ذكرنَا حكمه
فرع

لَو حَضَره الْوَفَاة فَحكمه حكم من حَضَره سفر فليودع الْحَاكِم أَو أَمينا إِن عجز عَن الْحَاكِم أَو ليوص إِلَى وَارثه وليشهد عَلَيْهِ صِيَانة عَن الْإِنْكَار
فَإِن سكت وَلم يخبر بِهِ أحدا ضمن إِلَّا إِذا مَاتَ فَجْأَة
وَلَو أوصى إِلَى فَاسق ضمن
وَإِن أوصى إِلَى عدل فَلم تُوجد الْوَدِيعَة فِي تركته فَلَا ضَمَان وَيحمل على أَنَّهَا ضَاعَت قبل مَوته
وَإِن قَالَ عِنْدِي ثوب وَله أَثوَاب ضمن لِأَنَّهُ صِيغَة بالخلط

(4/502)


وَلَو لم يوص فَوجدَ فِي تركته كيس مختوم مَكْتُوب عَلَيْهِ أَنه وَدِيعَة فلَان فَلَا يجب تَسْلِيمه بِمُجَرَّد ذَلِك فَلَعَلَّهُ كتبه تلبيسا أَو بِملك بعد الكتيبة وَلم يُغير الْمَكْتُوب
السَّبَب الثَّالِث نقل الْوَدِيعَة من قَرْيَة إِلَى قَرْيَة

فَإِن نقلهَا من قَرْيَة آهلة إِلَى قَرْيَة غير آهلة ضمن لِأَن قَرْيَة آهلة أحرز فِي حَقه
وَإِن كَانَ بِالْعَكْسِ وَبَينهمَا مَسَافَة تسمى سفرا ضمن لِأَنَّهُ سَافر بِهِ
وَإِن لم تكن فَإِن كَانَت قَرْيَة غير آهلة مثل الأولى أَو أحرز فَلَا ضَمَان لِأَنَّهُ زَاد خيرا
وَإِن كَانَ دونه ضمن لِأَنَّهُ نقص الأحزار فَكَانَ كَمَا لَو سَافر بِهِ
وَإِن نقلهَا من بَيت فِي دَاره إِلَى بَيت آخر وَهُوَ مثل الآخر أَو فَوْقه لم يضمن

(4/503)


وَإِن كَانَ دونه ضمن مهما كَانَ الْبَيْت الأول معينا من الْمَالِك
وَإِن قَالَ مَالك احفظ فِي هَذَا الْبَيْت وَلَا تنقل فَنقل إِلَى مَا هُوَ فَوْقه أَو مثله ضمن لمُخَالفَته صَرِيح الشَّرْط إِلَّا إِذا نقل بِعُذْر حريق أَو نهب أَو غَارة
فروع أَرْبَعَة

الأول حَيْثُ جَوَّزنَا النَّقْل إِلَى مثله فانهدم الْبَيْت الْمَنْقُول إِلَيْهِ فَتلفت الْوَدِيعَة ضمن لِأَن ذَلِك جوز بِشَرْط سَلامَة الْعَاقِبَة
وَإِنَّمَا لَا يضمن إِذا جَاءَ التّلف من نَاحيَة أُخْرَى
وَكَذَا إِذا قَالَ احفظ فِي هَذَا الْبَيْت وَلَا تدخل عَلَيْهَا أحدا فَأدْخل إنْسَانا وَتلف لَا من نَاحيَة الدَّاخِل لم يضمن وَإِن تلف من جِهَة الدَّاخِل ضمن
وَكَذَلِكَ مكتري الدَّابَّة للرُّكُوب إِذا ركبهَا فِي الإصطبل فَمَاتَتْ لم يضمن وَإِن انْهَدم عَلَيْهَا الإصطبل ضمن
الثَّانِي إِذا قَالَ احفظ فِي هَذَا الْبَيْت وَلَا تنقل وَإِن وَقعت ضَرُورَة
فَإِن نقل بِغَيْر ضَرُورَة ضمن من أَي جِهَة كَانَ التّلف لِأَنَّهُ تصرف فِي مَاله مَعَ نَهْيه عَنهُ
وَإِن وَقعت ضَرُورَة فَتَركهَا لم يضمن لِأَنَّهُ مَأْذُون فِي التضييع وَلَكِن الأولى أَن ينْقل لِأَن التضييع مَكْرُوه

(4/504)


ثمَّ إِذا نقل فَفِي الضَّمَان وَجْهَان كَمَا فِي الْمُحْتَسب مَعَ الْغَاصِب بِإِخْرَاج الْمَغْصُوب من يَده
وَوجه الضَّمَان أَنه أثبت الْيَد على مَاله بِغَيْر إِذْنه فَكَانَ الاحتساب جَائِزا بِشَرْط إيصاله إِلَيْهِ أَو ركُوب غرر الضَّمَان
الثَّالِث لَو نقل من ظرف إِلَى ظرف كصندوق أَو كيس فَإِن كَانَ الظروف للْمَالِك فتصرفه فِيهَا بِالنَّقْلِ الْمُجَرّد لَيْسَ بمضمن إِلَّا إِذا فض الْخَتْم أَو حمل القفل
هَذَا مَا دلّ عَلَيْهِ مُطلق كَلَام الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ
وَإِن كَانَ الظّرْف للْمُودع فَحكمه حكم الْبَيْت فِي النَّقْل إِلَى الأحرز أَو الْمثل أَو الأضعف
الرَّابِع لَو قَالَ لَهُ لَا تنقل فَادّعى أَنه نقل لضَرُورَة فَإِن كَانَ سَبَب الضَّرُورَة مَشْهُورا فَالْقَوْل قَوْله إِلَّا فَالْقَوْل قَول الْمَالِك فَإِن الأَصْل عدم السَّبَب وَكَونه مُخَالفا للفظ بِظَاهِرِهِ

(4/505)


السَّبَب الرَّابِع التَّقْصِير فِي دفع المهلكات

وَفِيه مَسْأَلَتَانِ
إِحْدَاهمَا إِذا أودعهُ دَابَّة فَترك الْعلف والسقي ضمن إِلَّا إِذا كَانَ مَأْذُونا فِي تَركه فيعصي وَلَا يضمن
ثمَّ الْعلف لَا يلْزمه من مَاله بل يرفع الْأَمر إِلَى القَاضِي حَتَّى يستقرض على الْمَالِك فَإِن عجز وَأنْفق من مَاله وَأشْهد فَفِي الرُّجُوع خلاف
فَإِن قُلْنَا إِنَّه يرجع فقد نزلناه منزلَة الْحَاكِم فَلهُ أَن يَبِيع جُزْءا من الدَّابَّة إِن لم يجد طَرِيقا إِلَى النَّفَقَة سواهُ
فرع
لَو أَمر غُلَامه بالعلف والسقي وَكَانَ عَادَته ذَلِك جَازَ
وَإِن كَانَ عَادَته الْمُبَاشرَة بِنَفسِهِ فاستناب فِي الْوَدِيعَة غَيره حَتَّى ثَبت يَده عَلَيْهَا فِي السَّقْي ضمن
وَقَالَ ابْن سُرَيج لَا يضمن لِأَن يَد خادمه وَصَاحبه كَيده فِي الْعَادة
وَالْأَظْهَر أَنه إِن أخرجه بِنَفسِهِ للسقي وَالطَّرِيق آمن لم يضمن
قَالَ الْإِصْطَخْرِي يضمن لِأَنَّهُ أخرج الْوَدِيعَة من الْحِرْز من غير حَاجَة إِلَّا إِذا عجز عَن السَّقْي فِي الْمنزل
الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة الثَّوْب الَّذِي يُفْسِدهُ الدُّود من الْخَزّ وَالصُّوف وَلَو ترك صيانته

(4/506)


بالنشر والتعريض للرياح ضمن
وَإِن كَانَ لَا يَنْتَفِي الدُّود إِلَّا بِأَن يلْبسهُ ويعبق بِهِ ريح الْآدَمِيّ فَلهُ لبسه
السَّبَب الْخَامِس الِانْتِفَاع

فَإِذا لبس الثَّوْب أَو ركب الدَّابَّة ضمن إِلَّا أَن يلبس الثَّوْب لدفع الدُّود أَو ركب الدَّابَّة ليدفع الجموح عِنْد السَّقْي
وَكَذَلِكَ إِذا أَخذ الدَّرَاهِم ليصرفها إِلَى حَاجته ضمن بِالْأَخْذِ وَإِن لم يصرفهُ إِلَى حَاجته
وَقَالَ أَبُو حنيفَة لَا يضمن بِمُجَرَّد الْأَخْذ
وَنحن نزيد على هَذَا فَنَقُول لَو حل ختم الْكيس ضمن مَا فِي الْكيس لِأَنَّهُ يعد خِيَانَة على الْكيس
وَهل يضمن الْكيس فِي نَفسه فِيهِ وَجْهَان
أما إِذا حل عقدا على الْكيس من نفس الْكيس أَو من خيط وَأَعَادَهُ لم يضمن لِأَن ذَلِك لَا يعد خِيَانَة
وَلَو أخرج الدَّابَّة ليرْكبَهَا فَلم يركبهَا ضمن
وَلَو نوى إِخْرَاج الدَّابَّة وَأخذ الدَّرَاهِم فَلم يَأْخُذ وَلم يخرج لَا يضمن

(4/507)


بِخِلَاف الْمُلْتَقط فَإِنَّهُ يضمن بِالنِّيَّةِ لِأَن سَبَب أَمَانَته نِيَّته فتغيرت الْأَمَانَة بِتَغَيُّر النِّيَّة وَهَاهُنَا سَبَب الْأَمَانَة إِثْبَات الْمَالِك يَده فَلَا تَتَغَيَّر إِلَّا بعد وَأَن فِي عين المَال
وَقَالَ ابْن سُرَيج يضمن كالملتقط
وَمن الْأَصْحَاب من قَالَ لَو نوى أَن لَا يرد على الْمَالِك ضمن بِمُجَرَّد النِّيَّة لِأَنَّهُ صَار بِهِ ممسكا على نَفسه
فرعان

أَحدهمَا لَو ضمن الدِّرْهَم بِالْأَخْذِ فَرده إِلَى الْكيس
فَإِن لم يخْتَلط فَالضَّمَان مَقْصُود عَلَيْهِ وَإِن اخْتَلَط فَوَجْهَانِ
أَحدهمَا أَنه يضمن لِأَنَّهُ خلط بالمضمون فَهُوَ كَمَا لَو خلط درهما لنَفسِهِ بِهِ فَإِنَّهُ يضمن الْكل
وَالثَّانِي لَا يضمن لِأَنَّهُ خلط ملكه بِملكه بِخِلَاف مَا إِذا خلط بِهِ ملك نَفسه فَإِنَّهُ تعذر بِهِ تَسْلِيم ملك الْمَالِك
الثَّانِي إِذا أتلف بعض الْوَدِيعَة لم يضمن الْبَاقِي إِذا كَانَ الْمُتْلف مُنْفَصِلا كَمَا لَو أتلف أحد الثَّوْبَيْنِ

(4/508)


وَإِن كَانَ مُتَّصِلا كَمَا لَو قطع ذِرَاعا من الثَّوْب أَو طرفا من الدَّابَّة فَإِن كَانَ عَامِدًا ضمن لِأَنَّهُ خِيَانَة على الْكل
وَإِن كَانَ خطأ ضمن المفوت وَفِي الْبَاقِي وَجْهَان أظهرهمَا أَنه لَا يضمن لِأَنَّهُ لَا يعد خائنا فِي السَّهْو
السَّبَب السَّادِس التَّقْصِير بكيفية الْحِفْظ
وَفِيه ثَلَاث صور
الأولى إِذا سلم إِلَيْهِ صندوقا وَقَالَ لَا ترقد عَلَيْهِ فرقد
قَالَ الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ فقد زَاده خيرا فَلَا يضمن
وَقَالَ مَالك رَحمَه الله يضمن لِأَنَّهُ أغرى اللص بِهِ
وَمَا ذكره مُتَّجه إِذا أَخذ السَّارِق من جنب الصندوق فِي الصَّحرَاء فَإِن هَذَا من قبيل الْمُخَالفَة الْجَائِزَة بِشَرْط سَلامَة الْعَاقِبَة
الثَّانِيَة سلم إِلَيْهِ دَرَاهِم وَقَالَ اربطه فِي كمك فَأَمْسكهَا فِي يَده

(4/509)


فَإِن أَخذه غَاصِب فَلَا ضَمَان لِأَن الْيَد أحرز فِي هَذِه الْحَالة
وَإِن استرخى بنوم أَو نِسْيَان ضمن لِأَن الرَّبْط أحرز هَاهُنَا
وَلَو ربط فِي كمه قَالَ الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ إِن جعل الْخَيط الرابط خَارج الْكمّ ضمن لِأَنَّهُ أغرى للطرار بِهِ وَإِن جعله دَاخل الْكمّ لم يضمن
فَقَالَ الْمُحَقِّقُونَ هَذَا إِنَّمَا يَسْتَقِيم إِذا ضَاعَ من جِهَة الطرار فَإِن ضَاعَ بالاسترسال فَيَنْبَغِي أَن يكون الحكم بِالْعَكْسِ من هَذَا
الثَّالِثَة أودعهُ خَاتمًا
قَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله إِن جعله فِي خِنْصره ضمن لِأَنَّهُ مُسْتَعْمل وَفِي إِصْبَع آخر لَا يضمن لِأَنَّهُ إِحْرَاز
وَمَا ذكره غير بعيد عَن الْقيَاس إِلَّا إِذا كَانَ تضيق الْحلقَة عَن غير الْخِنْصر فالحفظ فِيهِ مَحْمُول على قصد الْإِحْرَاز
السَّبَب السَّابِع التضييع
وَله صور
الأولى أَن يلقيه فِي مضيعة فَيضمن

(4/510)


ويلتحق بِهِ مَا لَو دلّ سَارِقا عَلَيْهِ أَو دلّ من يصادر الْمَالِك عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يضمن لِأَنَّهُ خَالف الْحِفْظ الْمُلْتَزم بِخِلَاف من لَا يَد لَهُ على المَال فَإِنَّهُ إِذا دلّ لم يضمن لِأَنَّهُ لم يلْتَزم الْحِفْظ وَلم يتَصَرَّف فِي المَال
الثَّانِيَة إِذا ضيع بِالنِّسْيَانِ
فقد سُئِلَ الخضري عَن زَوْجَة سلمت خلخالا إِلَى زَوجهَا ليسلمه إِلَى صائغ فتسلم وَنسي الصَّائِغ
فَقَالَ إِن لم يشْهد يضمن بالتقصير فِي الْإِشْهَاد وَإِن أشهد فَلَا يضمن وَإِن مَاتَ الشُّهُود أَو نسوه
وَهَذَا مصير إِلَى أَن النسْيَان لَيْسَ بتقصير وَهُوَ غير بعيد وَمن أَصْحَابنَا من قَالَ يضمن بِالنِّسْيَانِ فَإِن حق الْمُودع التحفظ وَالنِّسْيَان لَا يُؤثر فِي دفع الضَّمَان
الثَّالِثَة إِذا أكرهه ظَالِم على التَّسْلِيم فقرار الضَّمَان على الظَّالِم وَفِي توجه الْمُطَالبَة على الْمُكْره وَجْهَان جاريان فِي الْمُكْره على إِتْلَاف مَال الْغَيْر هَذَا إِذا لم يقدر على دفع الظَّالِم
فَإِن قدر على دَفعه بإخفاء الْوَدِيعَة فَلم يفعل ضمن

(4/511)


فَإِن حلفه الظَّالِم فليحلف وليكفر وَلَا بَأْس بِأَن يحلف كَاذِبًا إِذا كَانَ مَقْصُوده حفظ حق الْغَيْر وَقد جوز الشَّرْع كلمة الرِّدَّة لحفظ النَّفس
وَلَو حلف بِالطَّلَاق فَإِن حلف طلقت زَوجته لِأَنَّهُ قدر على الْخَلَاص بِتَسْلِيم الْوَدِيعَة وَإِن سلم الْوَدِيعَة ضمن لِأَنَّهُ قدر على أَن لَا يسلم بِالْحلف
وَهُوَ كَمَا لَو خير بَين أَن يُطلق إِحْدَى زوجتيه لَا على التَّعْيِين إِكْرَاها فعين إِحْدَاهمَا للطَّلَاق وَقع الطَّلَاق
السَّبَب الثَّامِن للضَّمَان الْجُحُود

وجحود الْوَدِيعَة مَعَ غير الْمَالِك لَيْسَ بمضمن إِذْ عَادَة الْوَدِيعَة الْإخْفَاء وَأما مَعَ الْمَالِك فَبعد الْمُطَالبَة بِالرَّدِّ مضمن
وَإِن لم يُطَالب وَلَكِن قَالَ لي عنْدك شئ فَسكت لم يضمن وَإِن أنكر فَوَجْهَانِ
أَحدهمَا لَا لِأَن الْجُحُود بعد الطّلب
وَالثَّانِي أَنه يضمن لِأَنَّهُ جحود إِذا وَقع بعد السُّؤَال
فرع

إِذا جحد فَالْقَوْل قَوْله مَعَ يَمِينه

(4/512)


فَإِن أَقَامَ الْمُودع بَيِّنَة على الْإِيدَاع فَادّعى الرَّد أَو التّلف قبل الْجُحُود نظر إِلَى صبغة جحوده
فَإِن قَالَ لَيْسَ لَك عِنْدِي شئ فَقَوله مَقْبُول فِي الرَّد والتلف لِأَنَّهُ لَا مناقضة بَين كلاميه
وَإِن أنكر أصل الْوَدِيعَة فَقَوله فِي الرَّد والتلف لَا يقبل
فَلَو أَقَامَ عَلَيْهِ بَيِّنَة فَفِيهِ وَجْهَان
أَحدهمَا لَا يُمكن لِأَن الْبَيِّنَة تنبني على الدَّعْوَى ودعواه بَاطِلَة بِمَا سبق من قَوْله المناقض لَهَا
وَالثَّانِي أَنه يقبل لِأَنَّهُ كَاذِب فِي أحد قوليه لَا محَالة وَالْبَيِّنَة تبين أَن الْكَذِب فِي الأول لَا فِي الثَّانِي
هَذَا مَا أردنَا أَن نذكرهُ من أَسبَاب الضَّمَان وَمهما جرى سَبَب الضَّمَان فَعَاد أَمينا وَترك الْخِيَانَة لم يبرأ عَن الضَّمَان عندنَا خلافًا لأبي حنيفَة
فَلَو اسْتَأْنف الْمَالِك إيداعه فَالظَّاهِر أَنه يَزُول الضَّمَان
وَفِيه وَجه أَنه لَا يَزُول إِلَّا بِإِزَالَة يَده كضمان يَد البَائِع

(4/513)


النّظر الثَّانِي فِي رد الْعين إِذا كَانَت بَاقِيَة

وَهُوَ وَاجِب مهما طلب الْمَالِك فَإِن أخر بِغَيْر عذر ضمن
وَإِن كَانَ فِي جنح اللَّيْل وَتعذر عَلَيْهِ الْوُصُول إِلَيْهِ لم يضمن
وَإِن كَانَ فِي جماع أَو على طَعَام لم يعْص بِالتَّأْخِيرِ فِي هَذَا الْقدر وَلكنه جَائِز بِشَرْط سَلامَة الْعَاقِبَة فَإِن تلف بِهَذَا التَّأْخِير ضمن
وَإِن عين وَكيلا ليرد عَلَيْهِ لزمَه الرَّد مهما طَالبه
فَإِن تمكن وَلم يُطَالِبهُ الْوَكِيل فَفِي الضَّمَان كَنَظِيرِهِ فِي الثَّوْب إِذا طيره الرّيح فِي دَاره
وَحَقِيقَة الْوَجْهَيْنِ أَن الْأَمَانَة الشَّرْعِيَّة تتمادى إِلَى التَّمَكُّن من الرَّد أَو إِلَى الْمُطَالبَة بِالرَّدِّ وَبعد أَن أمره بِالرَّدِّ على الْوَكِيل فقد عَزله وَصَارَت أَمَانَة شَرْعِيَّة
فرعان

أَحدهمَا لَو طَالبه بِالرَّدِّ فَادّعى التّلف فَالْقَوْل قَوْله مَعَ يَمِينه إِلَّا أَن يدعى التّلف بحريق أَو نهب أَو غَارة فَإِنَّهُ لَا يصدق مَا لم يستفض أَو لم تقم عَلَيْهِ الْبَيِّنَة لِأَن

(4/514)


إِقَامَة البنية عَلَيْهِ سهل
وَلَو أطلق دَعْوَى التّلف وطالبه الْمَالِك بتفصيل السَّبَب فَلَا يلْزمه الْبَيَان وَلَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا يَمِين على التّلف
فَأَما إِذا ادّعى الرَّد نظر فَإِن ادّعى الرَّد على من ائتمنه فَالْقَوْل قَوْله مَعَ يَمِينه فَإِنَّهُ اعْترف بأمانته فَلَزِمَهُ قبُول يَمِينه
وَإِن ادّعى الرَّد على غير من ائتمنه كَمَا إِذا ادّعى الرَّد على وَارِث الْمَالِك بعد أَن مَاتَ الْمَالِك أَو ادّعى وَارِث الْمُودع الرَّد على الْمَالِك أَو ادّعى المتلقط أَو من طير الرّيح ثوبا فِي دَاره ردا على الْمَالِك فَهَؤُلَاءِ لَا يصدقون إِلَّا بِبَيِّنَة
وَكَذَلِكَ إِذا ادّعى الرَّد على وَكيل الْمَالِك وَأنكر الْوَكِيل فَالْقَوْل قَول الْوَكِيل وَلَا يجب على الْمَالِك تَصْدِيق الموجع لِأَن الْخُصُومَة أَولا مَعَ الْوَكِيل
وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله يلْزمه تَصْدِيقه لِأَن وَكيله بِمَنْزِلَتِهِ
وَإِن اعْترف بِالتَّسْلِيمِ وَلَكِن نسب الْمُودع إِلَى التَّقْصِير بترك الْإِشْهَاد أَو أنكر وَكيله فَهَل يتَضَمَّن بِهَذَا التَّقْصِير فِيهِ وَجْهَان
أَحدهمَا نعم كَمَا إِذا وَكله بِقَضَاء دين فَلم يشْهد
وَالثَّانِي لَا لِأَن الْوَدِيعَة عَادَتهَا الْإخْفَاء وَلَا ينفع الْإِشْهَاد مَعَ الْوَكِيل فَإِنَّهُ إِن كَانَ يستجيز الْخِيَانَة فيدعي التّلف أَو الرَّد وَيكون مُصدقا بِيَمِينِهِ بِخِلَاف مُسْتَحقّ

(4/515)


الدّين فَإِنَّهُ لَا حِيلَة لَهُ مَعَ الْإِشْهَاد
وَالْخلاف فِي وجوب الْإِشْهَاد جَار فِي الْوَصِيّ إِذا رد المَال على الْيَتِيم بعد بُلُوغه
فَإِن قُلْنَا يجب الْإِشْهَاد فتنازعا فِي جَرَيَانه فَالْأَصْل عَدمه وَالْقَوْل قَول الْمَالِك فِي عَدمه
فَإِن قيل فَلَو أودع الْمُودع عِنْد إِنْسَان آخر لإذن الْمَالِك عِنْد سَفَره فَهَل يصدق الْمُودع الثَّانِي فِي دَعْوَى الرَّد
قُلْنَا ينظر فَإِن عينه الْمَالِك صدق فِي دَعْوَى الرَّد على الْمَالِك لِأَنَّهُ مُودع من جِهَته
وَإِن لم يُعينهُ وَلَكِن قَالَ أودع أَمينا فعينه الْمُودع الأول فَلَا يصدق إِلَّا فِي دَعْوَى الرَّد على الْمُودع الأول فَأَما على الْمَالِك فَلَا
الثَّانِي إِذا ادّعى رجلَانِ وَدِيعَة عِنْد إِنْسَان فَقَالَ هُوَ لأحدكما وَقد نسيت عينه
فَإِن اعترفا لَهُ بِعَدَمِ الْعلم فَلَا خُصُومَة لَهما مَعَه وَفِي الْوَدِيعَة قَولَانِ
أَحدهمَا أَنه تنقل إِلَى يَد أَمِين وَتوقف إِلَى أَن تفصل الْخُصُومَة بطريقها لِأَن هَذَا الْأمين انْعَزل بمطالبتها بِالرَّدِّ
وَالثَّانِي أَنه يتْرك فِي يَده فَإِنَّهُ أَمِين حَاضر فَلَا معنى لاستئناف أَمِين آخر

(4/516)


ثمَّ هَذَا المَال يَجْعَل كَأَنَّهُ فِي يدهما وَقد تنازعاه أَو يَجْعَل كَمَال فِي يَد ثَالِث تداعاه أجنبيان فِيهِ وَجْهَان قَالَ القَاضِي حُسَيْن يَجْعَل الشئ فِي يدهما لِأَن الْحق لَا يعدوهما بِاتِّفَاق الْجَمِيع
وَقَالَ الْمحَامِلِي لَا يَجْعَل فِي يدهما فَإِنَّهُ لم يثبت لأَحَدهمَا يَد
أما إِذا ادّعَيَا الْعلم على الْمُودع فيكفيه أَن يحلف لَهما يَمِينا وَاحِدَة على النَّفْي
وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله يحلف لكل وَاحِد مِنْهُمَا يَمِينا
فَإِذا حلفناه فَإِن حلف عَاد الْأَمر كَمَا كَانَ فِي الصُّورَة الأولى
فَإِن نكل حلفا يَمِين الرَّد فَإِذا حلفا ضمن الْمُودع الْقيمَة وَجعلت الْقيمَة أَيْضا فِي يدهما فَيحصل كل وَاحِد مِنْهُمَا على نصف الْوَدِيعَة وَنصف الْقيمَة
فَإِن سلم الْعين لأَحَدهمَا دون الآخر بِبَيِّنَة أَو يَمِين مَرْدُودَة رد من سلم الْعين لَهُ نصف الْقيمَة الَّتِى فِي يَده إِلَى الْمُودع إِذْ وصل إِلَيْهِ الْمُبدل

(4/517)


وَأما الآخر فَلَا يرد النّصْف الذى فِي يَده لِأَنَّهُ اسْتحقَّهَا بِيَمِين مَرْدُودَة من جِهَة الْمُودع وَمَا رَجَعَ إِلَيْهِ مبدله
هَذَا كُله تَفْرِيع من الْأَصْحَاب على أَن الْمُودع لَا يضمن بِالنِّسْيَانِ وَقد ذكرنَا وَجها فِي تَضْمِينه فعلى هَذَا يضمن بِمُجَرَّد النسْيَان وَلَا يحْتَاج إِلَى النّكُول وَالْيَمِين وَالله أعلم

(4/518)