الوسيط في المذهب

= كتاب الْكَفَّارَات=

(6/45)


وخصالها ثَلَاثَة الْعتْق وَالصَّوْم وَالْإِطْعَام وَالْعِتْق لَا يدْخل فِي فديَة الْحَج وَالْإِطْعَام لَا يدْخل فِي كَفَّارَة الْقَتْل على أحد الْقَوْلَيْنِ وَكَفَّارَة الْجِمَاع وَالظِّهَار متساويتان فِي التَّرْتِيب الْعتْق ثمَّ الصّيام ثمَّ الْإِطْعَام وَكَذَا كَفَّارَة الْقَتْل إِن قُلْنَا يدخلهَا الْإِطْعَام وَكَفَّارَة الْأَيْمَان على الْخيرَة بَين الْعتْق وَالْكِسْوَة وَالْإِطْعَام فَإِن عجز فالصيام ثَلَاثَة أَيَّام وَسَيَأْتِي فِي مَوْضِعه وَالْمَقْصُود كَفَّارَة الظِّهَار ثمَّ ينْدَرج فِيهِ جمل من أَحْكَام الْكَفَّارَات

الْخصْلَة الأولى الْعتْق
وَلَا يجزىء فِي الْكَفَّارَات إِلَّا رَقَبَة مسلمة سليمَة كَامِلَة الرّقّ تعْتق بنية جازمة عتقا خَالِيا عَن شوب الْعِوَض فَهَذِهِ خَمْسَة شُرُوط فلنفصلها
الشَّرْط الأول الْإِسْلَام وَالْمُسلم كل من وَلَده مُسلم أَو مسلمة أَو أسلم أحد أَبَوَيْهِ فِي صغره أَو الْتقط فِي دَار الْإِسْلَام أَو سباه مُسلم فِي صغره وَلَيْسَ مَعَه أَبَوَاهُ أَو نطق بكلمتي الشَّهَادَة بعد الْبلُوغ فَلَو نطق وَهُوَ صبي مُمَيّز فَفِيهِ قَولَانِ وَلَو نطق مرها فَهُوَ مُسلم إِلَّا أَن يكون ذِمِّيا فَلَا يحكم بِإِسْلَامِهِ على أحد الْقَوْلَيْنِ وَفِيه مَسْأَلَتَانِ

(6/47)


إِحْدَاهمَا أَنه لَو نطق بكلمتي الشَّهَادَة فَالصَّحِيح أَنه إِسْلَام وَإِن لم يُصَرح بِالْبَرَاءَةِ عَن سَائِر الْملَل وَمِنْهُم من شَرط ذَلِك نعم لَو اقْتصر على قَوْله لَا إِلَه إِلَّا الله وَكَانَ ذَلِك على وفْق مِلَّته لَا يحكم بِإِسْلَامِهِ وَإِن كَانَ على خِلَافه كالثنوي وَالنَّصْرَانِيّ الْقَائِل بالتثليث فَمنهمْ من حكم بِإِسْلَامِهِ ثمَّ قَالَ يُطَالب بِالشَّهَادَةِ الثَّانِيَة فَإِن أَبى جعل مُرْتَدا وَمِنْهُم من لم يحكم بِإِسْلَامِهِ مَا لم يَأْتِ بكلمتي الشَّهَادَة
الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة لَو أقرّ بِصَلَاة أَو ركن من أَرْكَان الْإِسْلَام يُخَالف مِلَّته هَل يَجْعَل بِهِ مُسلما فِيهِ وَجْهَان وضابطه عِنْد من يَجعله مُسلما أَن كل مَا يكفر الْمُسلم بإنكاره فَيصير الْكَافِر بِالْإِقْرَارِ بِهِ مُسلما لِأَن التَّصْدِيق والتكذيب لَا يتَجَزَّأ ولعلنا قد استقصينا هَذِه الْأَحْكَام فِي كتاب اللَّقِيط فَلَا نعيده
وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله لَا يشْتَرط الْإِيمَان فِي رَقَبَة كَفَّارَة الظِّهَار فَإِن الْوَارِد فِي الْقُرْآن رَقَبَة مُطلقَة وَلَكِن عندنَا يحمل الْمُطلق على الْمُقَيد

(6/48)


الشَّرْط الثَّانِي السَّلامَة من الْعُيُوب وَعَلِيهِ تنزل الرَّقَبَة الْمُطلقَة فِي الْقُرْآن ثمَّ قَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله الأقطع يجزىء والأصم والأبكم لَا يجزىء وَجعل الضَّابِط فِيهِ زَوَال جنس من الْمَنْفَعَة لِأَن الْعَيْب الْمُعْتَبر فِي الْبياعَات لَا يعْتَبر فَاعْتبر كَمَال أَجنَاس الْأَعْضَاء وَالْمَنَافِع وَالشَّافِعِيّ رَضِي الله عَنهُ اعْتبر مَا يُؤثر فِي الْعَمَل أثرا بَينا إِذْ غَرَض الْإِعْتَاق أَن يسْتَقلّ وَيسْعَى لنَفسِهِ
والزمن لَا يجزىء فِي الْعتْق ويجزىء الْأَصَم والأعور إِذْ يقدر على الْعَمَل وَالْكَسْب وَكَذَلِكَ الْأَقْرَع والأعرج والعنين والخصي والأقطع لَا يجزىء وَقطع الْإِبْهَام أَو المسبحة أَو الْوُسْطَى مَانع وَقطع الْخِنْصر أَو البنصر لَا يمْنَع وقطعهما جَمِيعًا مَانع إِن كَانَ من يَد وَاحِدَة وَمن يدين لَا يُؤثر وَقطع أُنْمُلَة لَا يُؤثر إِلَّا من الْإِبْهَام وفقد أَصَابِع الرجل لَا يُؤثر
وَالْمَجْنُون لَا يجزىء إِذا كَانَ جُنُونه مطبقا وَالْمَرِيض الَّذِي لَا يُرْجَى زَوَاله لَا

(6/49)


يجزىء فَإِن زَالَ على الندور فَهَل يتَبَيَّن إجزاؤه فِيهِ خلاف وَالَّذِي يُرْجَى زَوَاله يجزىء فَإِن مَاتَ فَهَل نتيقن أَنه لم يَقع موقعه فِيهِ خلاف وَإِن كَانَ يجن ويفيق فيجزىء إِن كَانَ أَيَّام الْإِفَاقَة أَكثر وَإِلَّا فَفِيهِ تردد والهرم الْعَاجِز لَا يجزىء وَالصَّغِير وَهُوَ ابْن يَوْم يجزىء لِأَن مصيره إِلَى الْكبر وَالظَّاهِر أَن الْجَنِين لَا يجزىء وَفِيه وَجه
وَأما الْأَخْرَس فَالْقِيَاس أَنه يجزىء وَقد اخْتلف فِيهِ نَص الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ وَمِنْهُم من قَالَ قَولَانِ وأجراهما فِي الْأَصَم الأصلخ وَمِنْهُم من قطع بِالْجَوَازِ وَحمل النَّص على الَّذِي لَا يفهم الْإِشَارَة
الشَّرْط الثَّالِث كَمَال الرّقّ فَلَا يجزىء عتق الْمُسْتَوْلدَة لِأَنَّهُ يمْتَنع بيعهَا وَلَا عتق الْمكَاتب كِتَابَة صَحِيحَة لنُقْصَان الرّقّ ولوقوع الْعتْق عَن جِهَة الْكِتَابَة بِدَلِيل استتباع الإكساب وَالْأَوْلَاد وَالْمكَاتب كِتَابَة فَاسِدَة يبتنى على العلتين إِن عللنا بِنُقْصَان الرّقّ نفذ وَإِن عللنا بالاستتباع وَقُلْنَا إِنَّه يستتبع لم ينفذ
وَلَو اشْترى عبدا بِشَرْط الْعتْق وَأعْتقهُ عَن الْكَفَّارَة فَفِيهِ تَفْصِيل ذَكرْنَاهُ فِي البيع أما عتق العَبْد الْمَرْهُون والجاني إِن نفذناه فَهُوَ يجزىء عَن الْكَفَّارَة لِأَنَّهُ يفك الرَّهْن بِخِلَاف الْكِتَابَة
فروع
الأول العَبْد الْغَائِب الَّذِي تتواصل أخباره يجزىء إِعْتَاقه والمنقطع الْخَبَر نَص

(6/50)


على أَنه لَا يجزىء وَنَصّ أَنه يخرج عَنهُ زَكَاة الْفطر فَقيل هُوَ ميل إِلَى الإحتياط فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ وَقيل فيهمَا قَولَانِ لِأَن الأَصْل بَقَاؤُهُ وَالْأَصْل اشْتِغَال الذِّمَّة
الثَّانِي العَبْد الْمَغْصُوب فِي يَد متغلب يجزىء إِعْتَاقه وَفِيه وَجه أَنه لَا يجزىء لِأَنَّهُ لَا يَسْتَفِيد اسْتِقْلَالا كَامِلا كالأطقع وَهُوَ أميل
الثَّالِث إِذا اشْترى قَرِيبه بنية الْكَفَّارَة لم يُجزئهُ لِأَن عتقه يسْتَحق من جِهَة الْقَرَابَة وَقَالَ الأودني إِذا اشْتَرَاهُ الْخِيَار وَأعْتقهُ عَن كَفَّارَته جَازَ
الرَّابِع إِذا أعتق نِصْفَيْنِ من عبد فِي دفعتين أَجزَأَهُ وَلَو أعتق نصفي عَبْدَيْنِ فَفِيهِ وَجْهَان
أَحدهمَا يجزىء لِأَن الأشقاص تجمع أشخاصا فِي الزَّكَاة كَذَلِك هَذَا
وَالثَّانِي لَا لِأَن الْمَقْصُود إِفَادَة الإستقلال فَلَا تحصل بالتجزئة نعم لَو ملك عَبْدَيْنِ وَعَلِيهِ كفارتان فَقَالَ أعتقهما عَن كفارتي نصف كل وَاحِد

(6/51)


مِنْهُمَا عَن كَفَّارَة فقد حُكيَ عَن نَص الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ أَنه يجزىء فَمنهمْ من قَالَ عتق العبدان عَن الكفارتين وَلَا معنى لتجزئته وإضافته
الْخَامِس إِذا ملك الْمُعسر نصف عبد فَأعتق نصفه عَن كَفَّارَته ثمَّ اشْترى النّصْف الثَّانِي وَأعْتق جَازَ لِأَنَّهُ كمل الْخَلَاص وَإِن كَانَ مُوسِرًا فَفِي كَيْفيَّة نُفُوذ الْعتْق ثَلَاثَة أَقْوَال
فَإِن فرعنا على تنجز الْعتْق نظر فَإِن وَجه الْعتْق على جملَة العَبْد وَقَالَ أعتقك عَن الْكَفَّارَة نفذ وأجزأ وَقَالَ الْقفال لَا ينْصَرف النّصْف الثَّانِي إِلَيْهَا لِأَنَّهُ عتق بتسرية الشَّرْع لَا بإعتاقه إِلَّا أَنا نقُول حصل بتسببه فَصَارَ كَمَا لَو قَالَ إِن دخلت الدَّار فَأَنت حر عَن كفارتي فَدخل العَبْد عتق وأجزأه إِن وَجه على النّصْف لم ينْصَرف النّصْف الْبَاقِي إِلَى الْكَفَّارَة وَهل يجزىء ذَلِك النّصْف يبتنى على عتق الأشقاص
وَإِن فرعنا على أَن الْعتْق يتَوَقَّف على أَدَاء الْقيمَة فَنوى عِنْد اللَّفْظ صرف النّصْف وَعند الْأَدَاء صرف النّصْف الثَّانِي جَازَ وَإِن نوى الْكل عِنْد اللَّفْظ فَفِيهِ وَجْهَان
أَحدهمَا الْجَوَاز لِأَنَّهُ السَّبَب الْمُعْتق عِنْد الْأَدَاء
وَالثَّانِي أَنه لَا بُد عِنْد الْعتْق من النِّيَّة
وَقَالَ الشَّيْخ أَبُو حَامِد يجب أَن يَنْوِي الْكل عِنْد اللَّفْظ وَلَا يعْتد بِالنِّيَّةِ عِنْد

(6/52)


الْأَدَاء
الشَّرْط الرَّابِع أَن يكون خَالِيا عَن الْعِوَض فَلَو أعتق على أَن يرد العَبْد إِلَيْهِ دِينَارا لم يَقع عَن الْكَفَّارَة وَلَو قَالَ لغيره أعتق عَبدك عَن كفارتك وَلَك ألف عَليّ فَأعتق نفذ لَا عَن الْكَفَّارَة وَهل يسْتَحق الْألف فِيهِ وَجْهَان جاريان فِي الإلتماس من غير ذكر الْكَفَّارَة
أَحدهمَا لَا لِأَن الْعتْق وَقع مِنْهُ فَكيف يسْتَحق الْعِوَض
وَالثَّانِي يسْتَحق كَمَا لَو قَالَ أعتق مستولدتك وَلَك عَليّ ألف وَكَأن الْخلاف يرجع إِلَى أَن الْفِدَاء هَل يجوز مَعَ إِمْكَان هَذَا الشِّرَاء
وَعند هَذَا جرت الْعَادة بِذكر النّظر فِي التمَاس الْعتْق وَفِيه مسَائِل
الأولى إِذا قَالَ أعتق مستولدتك وَلَك عَليّ ألف نفذ وَلزِمَ الْألف وَهُوَ افتداء ومقابلة لِلْمَالِ بِإِسْقَاط الْملك كَمَا فِي اختلاع الْأَجْنَبِيّ
وَلَو قَالَ أعتق مستولدتك عني على ألف فَقَالَ أعتقت عَنْك عتقت ولغا قَوْله عَنْك وَالظَّاهِر أَنه لَا يسْتَحق الْعِوَض لِأَنَّهُ رَضِي بِهِ بِشَرْط الْوُقُوع عَنهُ وَلم يَقع وَفِيه وَجه أَنه يسْتَحق ويلغي قَوْله عني كَمَا لَو قَالَ طلق زَوجتك عني فَإِنَّهُ يحمل على أَنه أَرَادَ طَلقهَا لأجلي فَيسْتَحق الزَّوْج الْعِوَض
وَاعْلَم أَن حكم الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ بنفوذ الْعتْق فِي الْمُسْتَوْلدَة مَعَ قَوْله أعتقت عَنْك يدل على أَنه إِذا وصف الْعتْق أَو الطَّلَاق بِوَصْف محَال يلغي الْوَصْف دون الأَصْل
الثَّانِيَة إِذا قَالَ أعتق عَبدك عني فَقَالَ أعتقت وَقع عَن المستدعي ثمَّ إِن ذكر

(6/53)


عوضا اسْتَحَقَّه وَإِن لم يذكر فَهَل يسْتَحق فِيهِ وَجْهَان
أَحدهمَا لَا يسْتَحق بل يحمل على الْهِبَة
وَالثَّانِي أَنه يسْتَحق كَمَا لَو قَالَ اقْضِ ديني فَإِنَّهُ يرجع على رَأْي وَلَكِن هَذَا التَّوْجِيه إِنَّمَا يَسْتَقِيم إِذا قَالَ أعتق عَن كفارتي فَإِنَّهُ أَدَاء حق مُسْتَحقّ
وَلَو صرح وَقَالَ أعْتقهُ عني مجَّانا فَقَالَ أعتقت نفذ وَلَا عوض وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله لَا ينفذ لِأَن الْملك لَا يحصل فِي الْهِبَة دون الْقَبْض وَلَكِن قَالَ بعض الْأَصْحَاب إِعْتَاقه تسليط تَامّ أقوى من الْإِقْبَاض وبنوا عَلَيْهِ أَنه لَو وهب ثمَّ قَالَ للمتهب أعْتقهُ عَن نَفسك فَأعتق نفذ عتقه من غير قبض
أما إِذا أطلق وَقَالَ أعتق عَبدك وَلم يقل عني أَو عَنْك فَأعتق فعلى مَاذَا ينزل فِيهِ وَجْهَان
أَحدهمَا أَنه عَن المستدعي بِقَرِينَة الإستدعاء
وَالثَّانِي أَنه كَقَوْلِه أعتق عَن نَفسك حَتَّى يخرج النّظر فِي الْعِوَض على مَا ذَكرْنَاهُ
الثَّالِثَة إِذا قَالَ إِذا جَاءَ الْغَد فَعَبْدي حر عَنْك بِأَلف فَقَالَ قبلت فَهَذَا كتعليق الْخلْع وَقد ذَكرْنَاهُ وَلَو قَالَ أعتق عَبدك عني غَدا بِأَلف فَصَبر حَتَّى جَاءَ الْغَد وَقَالَ أعتقت قَالَ صَاحب التَّقْرِيب هَا هُنَا يسْتَحق الْمُسَمّى لِأَنَّهُ لَيْسَ تَعْلِيقا وَفِيه نظر أَيْضا ذَكرْنَاهُ فِي الْخلْع وَلَو قَالَ أعْتقهُ عني على خمر أَو مَغْصُوب فَهُوَ كالخلع على الْمَغْصُوب وَيحْتَمل هَا هُنَا الْفساد فِي الْعِوَض وَإِن كَانَ الْملك

(6/54)


يحصل للمستدعي لِأَنَّهُ ملك ضمني فَلَا تعْتَبر شُرُوطه وَينظر إِلَى صُورَة الْإِعْتَاق وَلذَلِك لم يشْتَرط الْقَبْض فِي الْإِعْتَاق مجَّانا
فَإِن قيل الْعتْق يحصل مُتَّصِلا بآخر قَوْله أعتقت فالملك كَيفَ يحصل قبله فَيكون قد حصل قبل اللَّفْظ أَو كَيفَ يحصل بعده فَيكون مُتَأَخِّرًا عَن الْعتْق أَو مَعَه فَيكون مَعَ الْعتْق وَالْكل محَال قُلْنَا ذكر فِيهِ خَمْسَة أوجه
أَحدهَا أَنا نتبين حُصُوله بعد الإلتماس وَقبل الْإِجَابَة
وَالثَّانِي أَنه يتَبَيَّن حُصُوله عِنْد الشُّرُوع فِي اللَّفْظ وهما بعيدان لِأَنَّهُ تَقْدِيم الْمُسَبّب على السَّبَب
وَالثَّالِث أَنه يحصل الْملك مَعَ آخر أَجزَاء اللَّفْظ وَالْعِتْق مُرَتبا عَلَيْهِ
وَالرَّابِع أَنه يحصل مُرَتبا على اللَّفْظ وَالْعِتْق يتَأَخَّر لَحْظَة
وَالْخَامِس وَهُوَ اخْتِيَار أبي إِسْحَاق رَحمَه الله أَن الْملك وَالْعِتْق يَتَرَتَّب
على اللَّفْظ مَعًا واستبعد ذَلِك مِنْهُ وَنسب إِلَى الْجمع بَين المتضادين وَلَعَلَّه يَعْنِي أَنه جرى سَبَب الْملك وَالْعِتْق فِي حَالَة وَاحِدَة فيندفع الْملك فِي وَقت جَرَيَان سَببه وَيكون ذَلِك فِي معنى الإنقطاع وَلِهَذَا غور ذَكرْنَاهُ من قبل
وَبِالْجُمْلَةِ فقد اخْتلفُوا فِي أَن كل حكم يَتَرَتَّب على لفظ فَيكون مَعَ آخر جُزْء من اللَّفْظ أَو مُتَأَخِّرًا مترتبا عَلَيْهِ ترَتّب الضِّدّ على زَوَال الضِّدّ وَالأَصَح أَنه مَعَ آخر جُزْء من اللَّفْظ لِأَن الْمَعْلُول يَنْبَغِي أَن يكون مَعَ الْعلَّة كَمَا ذَكرْنَاهُ
الشَّرْط الْخَامِس النِّيَّة وَلَا بُد مِنْهَا لِأَن الْكَفَّارَة فِيهَا مشابه الْعِبَادَات نعم

(6/55)


تصح من الذِّمِّيّ وَالْمُرْتَدّ إِذا قُلْنَا لَا يَزُول ملكه أَو يسْتَثْنى قدر الْكَفَّارَة عَن ملكه الزائل كَمَا نستثني قدر الدّين وَلَا تصح النِّيَّة مِنْهُمَا وَلَكِن يسْتَقلّ بمشابه الغرامات فَإِن فِيهَا شبه الغرامات أما صَوْم الْكَفَّارَة فَلَا يَصح مِنْهُمَا لِأَنَّهُ عبَادَة مَحْضَة كَالزَّكَاةِ فَلذَلِك لَا يتَصَوَّر من كَافِر
فرع لَا يشْتَرط تعْيين النِّيَّة فِي الْكَفَّارَات عندنَا خلافًا لأبي حنيفَة رَحمَه الله
فَلَو كَانَ عَلَيْهِ الْكَفَّارَات فيكفيه أَن يَنْوِي الْإِعْتَاق عَن الْكَفَّارَة لِأَن تعْيين النِّيَّة عندنَا يجب قصدا إِلَى التَّقَرُّب بِالصِّفَاتِ الْمَقْصُودَة فِي الْعِبَادَات الْمُخْتَلفَة الْمَرَاتِب ومرتبة الظّهْر تغاير مرتبَة الصُّبْح وَكَذَلِكَ صَوْم رَمَضَان يغاير صَوْم النّذر وَلَا تفَاوت فِي الْكَفَّارَات كَمَا لَا تفَاوت فِي زَكَاة أَعْيَان الْأَمْوَال فالأموال أَسبَاب الزَّكَاة والجنايات أَسبَاب الْكَفَّارَات وَهِي مُتَفَاوِتَة وَقد طردوا هَذَا فِي الْعتْق الْمُلْتَزم بِالنذرِ مَعَ

(6/56)


الْكَفَّارَة وَإِن كَانَ النّذر قربَة وَالْكَفَّارَة سَببهَا جريمة وَلَكِن لم يلْتَفت إِلَى هَذَا نعم إِذا أعتق فِي الْكَفَّارَة وَأَخْطَأ لم يُجزئهُ فَإِذا كَانَ عَلَيْهِ كَفَّارَة قتل فَنوى الظِّهَار لم يَقع عَن الْقَتْل وَقد صرفه عَنهُ وَعَلِيهِ الْإِعَادَة وَهُوَ كتعيين الْإِمَامَة فِي الْقدْوَة وَلَا تشْتَرط وَلَكِن لَو أَخطَأ فَسدتْ الْقدْوَة

(6/57)


الْخصْلَة الثَّانِيَة الصّيام

وَفِيه نظران
الأول فِيمَا يجوز الْعُدُول إِلَيْهِ وَلَا يعْتَبر عندنَا عجز مُحَقّق عَن الْإِعْتَاق بل يَكْفِي أَن يعسر ذَلِك عَلَيْهِ لغَرَض مُعْتَبر مُعْتَد بِهِ وَالَّذِي لَا يملك شَيْئا لَا يخفى أمره أما إِن ملك عبدا أَو مسكنا أَو مَالا فَفِيهِ نظر فَنَقُول إِن كَانَ زَمنا وَهُوَ مُحْتَاج إِلَى العَبْد لخدمته أَو كَانَ منصبه يَقْتَضِي أَن يخْدم وَلَا يُبَاشر الْأَعْمَال بِنَفسِهِ فَيجوز لَهُ الصَّوْم عندنَا خلافًا لأبي حنيفَة رَحمَه الله
وَإِن كَانَ عَبده نفيسا يُمكن إِبْدَاله بعبدين يلْزمه ذَلِك إِلَّا إِذا كَانَ قد ألف العَبْد وارتضاه من زمَان فَإِنَّهُ يعسر عَلَيْهِ الْإِبْدَال فَلَا يلْزمه وَفِيه وَجه أَنه يلْزمه ذَلِك وَلَا يعْتَبر الإلف
أما الْمسكن فَلَا يُبَاع إِلَّا إِذا كَانَ فضلا عَن مِقْدَار حَاجته لاتساع خطته وَأمكنهُ

(6/58)


بيع بعضه فَإِن كَانَ بَيْتا نفيسا وَأمكن إِبْدَاله بمثليه فَهُوَ كَالْعَبْدِ النفيس المألوف لِأَن الْجلاء عَن الْمسكن أَيْضا شَدِيد فَفِيهِ وَجْهَان
أما المَال إِذا ملكه زَائِدا عَن الْمسكن واللباس والأثاث الْمُحْتَاج إِلَيْهِ فَيصْرف إِلَى الْعتْق إِلَّا إِذا كَانَ رَأس مَاله أَو ضَيْعَة لَو بَاعهَا لصار مِسْكينا يحل لَهُ سهم الْمَسَاكِين فالإنتقال إِلَى حَال المسكنة أَشد من الإنتقال من دَار أَو عبد فَقِيَاس قَول الْأَصْحَاب أَنه لَا يُكَلف ذَلِك ويكاد يُخَالف هَذَا قَوْله تَعَالَى {فَمن لم يجد فَصِيَام} وَلَكِن توسع الْأَصْحَاب فِي هَذَا لِأَن صَوْم شَهْرَيْن يكَاد يكون أشق من إِعْتَاق عبد وَلَيْسَ بَينهمَا كَبِير تفَاوت وَلَيْسَ كَذَلِك زَكَاة الْفطر فَإِنَّهُ يصرف إِلَيْهِ كل مَا فضل عَن قوت الْيَوْم لِأَنَّهُ أصل وَتَركه إبِْطَال لَا إِبْدَال
أما إِذا كَانَ لَهُ مَال غَائِب فَلَا يجوز لَهُ الصَّوْم لِأَن الْكَفَّارَة على التَّرَاخِي وَيُمكن أَدَاؤُهَا عَنهُ بعد مَوته بِخِلَاف قَضَاء الصَّلَاة فَإِنَّهُ تجوز بِالتَّيَمُّمِ مَعَ توقع المَاء فِي ثَانِي الْحَال لِأَن الْمَوْت متوقع فِي كل حَال فَإِن قيل فَيعْتَبر إِعْسَاره عِنْد الْوُجُوب أَو الْأَدَاء قُلْنَا فِيهِ ثَلَاثَة أَقْوَال
أَحدهَا أَنه يعْتَبر حَالَة الْوُجُوب تَغْلِيبًا لمشابه الْعُقُوبَات فعلى هَذَا لَو كَانَ مُعسرا ثمَّ أيسر وَأعْتق جَازَ بطرِيق الأولى وَذكر صَاحب التَّقْرِيب وَجها أَنه لَا يجوز لِأَن هَذَا التَّرْتِيب بعيد وَإِلَّا فالصوم أشق وَهُوَ بعيد إِذْ الْمُعسر لَو تكلّف الْإِعْتَاق فَلَا يَنْبَغِي أَن يمْنَع نعم ذكر وَجْهَان فِي العَبْد إِذا أعتق قبل الصَّوْم وأيسر أَنه هَل يعْتق لِأَنَّهُ لم يكن أَهلا لوُجُوب الْعتْق فِي الإبتداء وَهَذَا منقدح

(6/59)


القَوْل الثَّانِي أَنه يعْتَبر حَالَة الْأَدَاء تَشْبِيها بالعبادات إِذْ يعْتَبر فِي الْقعُود فِي الصَّلَاة وَفِي التَّيَمُّم حَالَة الْأَدَاء وَهَذَا مَذْهَب أبي حنيفَة رَحمَه الله
وعَلى هَذَا لَو شرع فِي الصَّوْم ثمَّ أيسر لَا يقطع عَلَيْهِ لِأَنَّهُ إِذا شرع فِي الْبَدَل فقد اسْتَقر الْأَمر كالمتيمم إِذا وجد المَاء بعد الشُّرُوع فِي الصَّلَاة وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله والمزني لَا مبالاة بِالشُّرُوعِ بل يسْتَقرّ الْأَمر بالفراغ لِأَن وزان الشُّرُوع فِي الصَّوْم الشُّرُوع فِي التَّيَمُّم دون الصَّلَاة وَعِنْدَهُمَا تنْتَقض الصَّلَاة بِرُؤْيَة المَاء
وَمن اصحابنا من وَافق الْمُزنِيّ هَا هُنَا فعلى هَذَا القَوْل نقُول الْوَاجِب الصَّوْم بِشَرْط أَن يسْتَمر الْإِعْسَار إِلَى الْفَرَاغ

(6/60)


القَوْل الثَّالِث أَنه يعْتَبر أغْلظ الْحَالَتَيْنِ فَإِذا أيسر عِنْد الْأَدَاء أَو عِنْد الْوُجُوب لزم الْعتْق احْتِيَاطًا وعَلى هَذَا لَو كَانَ مُعسرا فِي الطَّرفَيْنِ وتخلل الْيَسَار لم يُؤثر فَكَأَن مَا اقْتَضَاهُ حَالَة الْوُجُوب لَا يُغَيِّرهُ إِلَّا حَالَة الْأَدَاء
وَأما العَبْد فمعسر وكفارته بِالصَّوْمِ وَأما الْإِطْعَام وَالْعِتْق فيبنى على أَنه هَل يملك بالتمليك وَالْعِتْق أولى بِأَن يمْتَنع عَلَيْهِ وَالصَّحِيح أَنه لَا يملك بالتمليك
ثمَّ إِن العَبْد لَا يَصُوم إِلَّا بِإِذن السَّيِّد إِلَّا إِذا حلف وَحنث بِإِذْنِهِ فَإِن حلف بِإِذْنِهِ وَحنث بِغَيْر إِذْنه لم يصم وَإِن حلف بِغَيْر إِذْنه وَحنث بِإِذْنِهِ فَوَجْهَانِ وَإِنَّمَا يعْتَبر إِذْنه لِأَن حق السَّيِّد على الْفَوْر وَالصَّوْم على التَّرَاخِي بِخِلَاف شهر رَمَضَان وَأما من نصفه حر وَنصفه عبد فَهُوَ كالأحرار فِي الْكَفَّارَة وكالعبيد فِي الْجُمُعَة وَالشَّهَادَة وَالْولَايَة وَصدقَة فطره تتوزع على الرّقّ وَالْحريَّة
النّظر الثَّانِي فِي حكم الصَّوْم
وَفِيه مسَائِل
إِحْدَاهَا أَنه يجب عَلَيْهِ تبييت النِّيَّة وَلَا يجب تعْيين جِهَة الْكَفَّارَة نعم يَنْوِي صَوْم الْكَفَّارَة وَهل يَنْوِي التَّتَابُع فِيهِ وَجْهَان فَإِن قُلْنَا يَنْوِي يَكْفِيهِ ذَلِك فِي اللَّيْلَة الأولى أَو يجددها كل لَيْلَة فِيهِ وَجْهَان وَإِذا مَاتَ لم يصم

(6/61)


عَنهُ وليه على الصَّحِيح
الثَّانِيَة يَصُوم شَهْرَيْن بِالْأَهِلَّةِ فَإِن ابْتَدَأَ فِي أثْنَاء شهر صَامَ الشَّهْر الثَّانِي بالهلال وكمل الشَّهْر الأول ثَلَاثِينَ من الشَّهْر الثَّالِث خلافًا لأبي حنيفَة رَحمَه الله
الثَّالِثَة لَا بُد من التَّتَابُع فِي كَفَّارَة الظِّهَار والوقاع وَالْقَتْل فَلَو أفسد الْيَوْم الْأَخير أَو نسي النِّيَّة فِيهِ وَجب اسْتِئْنَاف الْكل وَهل يفْسد مَا مضى أَو يَنْقَلِب نفلا فِيهِ وَفِي نَظَائِره قَولَانِ
أما إِذا وطىء الْمظَاهر لَيْلًا لم يفْسد تتابعه وَلكنه يَعْصِي إِذْ التَّتَابُع قَائِم والتقديم على الْوَطْء قد فَاتَ وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله يسْتَأْنف

(6/62)


الرَّابِعَة الْحيض لَا يقطع التَّتَابُع وَالْمَرَض الَّذِي يُبِيح مثله الْإِفْطَار فِيهِ قَولَانِ مشهوران
أَحدهمَا أَنه لَا يقطع التَّتَابُع لِأَنَّهُ لَا يزِيد وصف التَّتَابُع على وصف شهر رَمَضَان
وَالثَّانِي أَنه يقطع لِأَن تدارك التَّتَابُع هَا هُنَا مُمكن بِخِلَاف وصف رَمَضَان
وَفِي السّفر قَولَانِ مرتبان وَأولى بِأَن يقطع لِأَنَّهُ مَنُوط بالإختيار وَلَو قيل إِنَّه لَا يقطع على بعد فَلَا يبعد أَن يجزىء فِيمَا إِذا نسي النِّيَّة وَلَا قَائِل بِهِ لِأَنَّهُ مقصر بِالنِّسْيَانِ وَلذَلِك يلْزمه الْإِمْسَاك دون الْحَائِض وَالْمُسَافر إِذا زَالَ عُذْرهمَا

فرع
لَو أَرَادَت الْحَائِض أَن تفطر ثمَّ بعد الطُّهْر تسْتَأْنف شَهْرَيْن فَفِيهِ إحباط لوصف الْفَرْضِيَّة من الصَّوْم السَّابِق فَهَذَا فِيهِ احْتِمَال وَالْأَظْهَر جَوَازه لِأَنَّهُ على التَّرَاخِي وَمَا مضى لَا يفْسد وَكَانَت الْفَرْضِيَّة مَوْقُوفَة على الْفَرَاغ

(6/63)


الْخصْلَة الثَّالِثَة الْإِطْعَام

ويعدل إِلَيْهِ الْعَاجِز عَن الصَّوْم بالهرم وَالْمَرَض الَّذِي يَدُوم شَهْرَيْن وَلَيْسَ توقع الصِّحَّة بعده كتوقع رُجُوع المَال الْغَائِب بعد شَهْرَيْن لِأَن من لَهُ مَال غَائِب يُسمى واجدا وَهَذَا يُسمى عَاجِزا فِي الْحَال وَفِي انْتِقَال الْمُسَافِر إِلَى الْإِطْعَام تردد
وَأما الشبق المفرط فَالظَّاهِر أَنه لَا يرخص فِي الْعُدُول إِلَى الْإِطْعَام وَهُوَ الْقيَاس وَفِيه وَجه يسْتَند إِلَى حَدِيث الْأَعرَابِي وَقد ذكرنَا إشكاله فِي الصَّوْم
وَالنَّظَر بعد هَذَا فِي قدر الْمخْرج وجنسه والمخرج إِلَيْهِ والإخراج
أما جنس الْمخْرج فَهُوَ كَزَكَاة الْفطر وَأما قدره فستون مدا
وَأما الْمخْرج إِلَيْهِ فالمسكين الَّذِي يجوز صرف الزَّكَاة إِلَيْهِ وَلَا يجوز عندنَا أَن يصرف إِلَى مِسْكين وَاحِد سِتِّينَ مدا فِي سِتِّينَ يَوْمًا خلافًا لأبي حنيفَة

(6/64)


رَحمَه الله فَلَا بُد من رِعَايَة عدد الْمَسَاكِين لظَاهِر الْآيَة وَأما الْإِخْرَاج فَهُوَ التَّمْلِيك والتسليط التَّام فَلَا يَكْفِي التغدية والتعشية بِتَقْدِيم التَّمْر إِلَى الْمَسَاكِين

(6/65)