الوسيط في المذهب

= كتاب الدَّعْوَى والبينات=

(7/397)


ومجامع الْخُصُومَات يحويها خَمْسَة أَرْكَان الدَّعْوَى وَالْإِنْكَار وَالْيَمِين والنكول وَالْبَيِّنَة

الرُّكْن الأول الدَّعْوَى

ونقدم عَلَيْهَا مُقَدّمَة فِي بَيَان من يحْتَاج إِلَى الدَّعْوَى فَنَقُول من لَهُ حق عِنْد إِنْسَان فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَن يكون عينا أَو عُقُوبَة أَو دينا
أما الْعين فَلهُ أَن ينتزعه من يَده إِن قدر عَلَيْهِ قهرا إِذا كَانَ لَا يُؤَدِّي ذَلِك إِلَى تَحْرِيك فتْنَة
وَأما الْعقُوبَة فَلَا يسْتَقلّ باستيفائها أصلا دون القَاضِي لما فِيهِ من الْخطر
وَأما الدّين فَإِن كَانَ على معترف مماطل أَو مُنكر يُمكن رَفعه إِلَى القَاضِي فَلَا يجوز الإنفراد باستيفائه إِذْ لَا يتَعَيَّن حَقه من الدّين إِلَّا بِتَعْيِين من عَلَيْهِ أَو بِتَعْيِين القَاضِي فَإِن

(7/399)


تعذر رَفعه إِلَى القَاضِي لتعززه أَو تواريه أَو هربه فَإِذا ظفر بِجِنْس حَقه فَلهُ أَن يَأْخُذهُ ويتملكه مستبدا فَإِن ظفر بِغَيْر جنس حَقه فَفِي جَوَاز الْأَخْذ قَولَانِ
أَحدهمَا نعم لقَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام لهِنْد خذي مَا يَكْفِيك وولدك بِالْمَعْرُوفِ وَلم يفرق بَين الْجِنْس وَغَيره
وَالثَّانِي لَا لِأَنَّهُ كَيفَ يتَمَلَّك وَلَيْسَ من جنس حَقه وَكَيف يَبِيع ملك غَيره بِغَيْر
إِذْنه فَإِن قُلْنَا يَأْخُذ فَفِيهِ ثَلَاثَة أوجه
أَحدهَا وَهُوَ القَوْل الْمَشْهُور أَنه يرفع إِلَى القَاضِي حَتَّى يَبِيع بِجِنْس حَقه وَلم يذكر الْقفال غير هَذَا
وَالثَّانِي أَنه ينْفَرد بِبيعِهِ كَمَا ينْفَرد بِالتَّعْيِينِ فِي جنس حَقه فَإِن هَذِه رخصَة وَلَو كلف ذَلِك كلفه القَاضِي الْبَيِّنَة وَرُبمَا عسر عَلَيْهِ
وَالثَّالِث أَنه يتَمَلَّك مِنْهُ بِقدر حَقه وَلَا معنى للْبيع وَهَذَا بعيد فِي الْمَذْهَب وَإِن كَانَ متجها
فَإِن قُلْنَا يَبِيع فَإِن كَانَ حَقه نَقْدا بَاعَ بِالنَّقْدِ وَإِن كَانَ حِنْطَة أَو شَعِيرًا قَالَ القَاضِي يَبِيع بِالنَّقْدِ ثمَّ يَشْتَرِي بِهِ الْحِنْطَة فَإِنَّهُ كَالْوَكِيلِ الْمُطلق لَا يَبِيع بِالْعرضِ وَقَالَ غَيره وَهُوَ الْأَصَح يَبِيع بِجِنْس حَقه وَلَا معنى للتطويل
هَذَا كُله فِيمَن لَهُ بَيِّنَة فَإِن لم يكن وَعلم أَنه لَو رَفعه إِلَى القَاضِي لجحد وَحلف فَكَلَام

(7/400)


الْقفال فِي تَكْلِيفه بِالرُّجُوعِ إِلَى القَاضِي فِي البيع وَإِقَامَة الْبَيِّنَة يشْعر بِأَنَّهُ لَا يَأْخُذ شَيْئا وَإِنَّمَا لَهُ حق التَّحْلِيف فَقَط وَلَا يبعد عِنْدِي أَن يجوز لَهُ الْأَخْذ إِذا ظفر بِهِ لِأَن الْمَقْصُود إِيصَال الْحق إِلَيْهِ إِذا تعذر

فروع

الأول لَو تلفت الْعين الْمَأْخُوذَة قيل بَيْعه فَهِيَ من ضَمَانه وَلَيْسَ لَهُ الإنتفاع بِهِ قبل البيع وَعَلِيهِ مبادرة البيع فَلَو قصر فنقصت الْقيمَة كَانَ محسوبا عَلَيْهِ وَمَا ينقص قبل التَّقْصِير فَلَيْسَ عَلَيْهِ وَالزِّيَادَة على مِقْدَار حَقه فِي ضَمَانه لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ فِي أَخذهَا إِلَّا إِذا كَانَ

(7/401)


حَقه خمسين وَلم يظفر إِلَّا بِسيف يُسَاوِي مائَة فَفِي دُخُول الزِّيَادَة فِي ضَمَانه وَجْهَان
أَحدهمَا نعم كالأصل
وَالثَّانِي لَا يضمن لِأَنَّهُ لم يَأْخُذ بِحقِّهِ فَكَانَ مَعْذُورًا فِيهِ بل قَالَ القَاضِي لَو احْتَاجَ إِلَى نقب جِدَاره فَلَيْسَ عَلَيْهِ ضَمَان النقب إِذْ بِهِ يتَوَصَّل إِلَى حَقه
الْفَرْع الثَّانِي لَو كَانَ حَقه صحاحا فظفر بالمكسور جَازَ لَهُ أَن يَتَمَلَّكهُ ويرضى بِهِ وَلَو كَانَ بِالْعَكْسِ فَلَا يَتَمَلَّكهُ وَلَا يَبِيعهُ بالمكسر مَعَ التَّفَاضُل لِأَنَّهُ رَبًّا بل يَبِيع بِالدَّنَانِيرِ وَيَشْتَرِي بِهِ قدر حَقه وَيخرج جَوَاز أَخذه على الْقَوْلَيْنِ لِأَنَّهُ إِذا احْتَاجَ إِلَى البيع فَهُوَ كَغَيْر جنس حَقه وَمِنْهُم من قَالَ هُوَ كجنس حَقه وَلَكِن لَا بُد من البيع للضَّرُورَة
الْفَرْع الثَّالِث إِذا اسْتحق شخصان كل وَاحِد مِنْهُمَا على صَاحبه مَا لَا يحصل فِيهِ التَّقَاصّ إِلَّا بِالتَّرَاضِي فَجحد أَحدهمَا فَهَل للْآخر أَن يجْحَد حَقه فعلى وَجْهَيْن يلتفتان إِلَى الظفر بِغَيْر جنس حَقه
هَذِه هِيَ الْمُقدمَة رَجعْنَا إِلَى الرُّكْن الأول وَهِي الدَّعْوَى وَالْأَصْل فِيهَا قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْبَيِّنَة على الْمُدَّعِي واليمن على من أنكر وَفِي حَده قَولَانِ

(7/402)


أَحدهمَا أَن الْمُدَّعِي هُوَ الَّذِي يخلى وسكوته
وَالثَّانِي أَنه الَّذِي يَدعِي أمرا خفِيا على خلاف الأَصْل
وَيظْهر أثر هَذَا فِي الزَّوْجَيْنِ إِذا أسلما قبل الْمَسِيس فَقَالَ الزَّوْج أسلمنَا مَعًا فَالنِّكَاح

(7/403)


دَائِم وَقَالَت بل على التَّعَاقُب فَالْقَوْل قَوْلهَا إِن قُلْنَا إِن الْمُدَّعِي هُوَ الَّذِي يَدعِي أمرا خفِيا فَإِن الْأَغْلَب التَّعَاقُب فِي الْإِسْلَام والتساوق خَفِي وَإِن قُلْنَا إِنَّه الَّذِي يخلى وسكوته فَهِيَ مدعية فَالْقَوْل قَول الزَّوْج لِأَنَّهُ الَّذِي لَا يخلى وسكوته وَقد قَالَ مَالك رَحمَه الله لَا تسمع الدَّعْوَى على من لَا مُعَاملَة بَينه وَبَين الْمُدعى عَلَيْهِ وَهُوَ ضَعِيف وَقَالَ الْإِصْطَخْرِي لَا تسمع دَعْوَى الخسيس على الشريف فِي تَزْوِيج ابْنَته وَلَا تسمع أَيْضا دَعْوَى فَقير على سُلْطَان أَو على أَمِير أَنه أقْرضهُ مَالا وَهُوَ ضَعِيف أَيْضا وَلَا خلاف عندنَا أَن الْمُودع إِذا ادّعى رد الْوَدِيعَة صدق بِيَمِينِهِ وَسَببه الْحَاجة فَإِن الْمُودع اعْترف بِأَنَّهُ أَمِينه فَلَزِمَهُ تَصْدِيقه وَإِذا ثَبت أَن حكم الدَّعْوَى توجه الْيَمين بهَا على الْمُدعى عَلَيْهِ فَلَا بُد من دَعْوَى صَحِيحَة وَهِي الدَّعْوَى الْمَعْلُومَة الملزمة وَيخرج على الوصفين مسَائِل
الأولى أَنه من يَدعِي على غَيره هبة أَو بيعا لم تسمع إِذْ رُبمَا تكون قبل الْقَبْض وَيكون البيع مَعَ الْخِيَار بل يَنْبَغِي أَن يَقُول ويلزمك التَّسْلِيم إِلَيّ فَيحلف الْمُدعى عَلَيْهِ أَنه لَا يلْزمه التَّسْلِيم وَكَذَلِكَ من قَامَت عَلَيْهِ الْبَيِّنَة بِملك فَلَيْسَ لَهُ أَن يحلف الْمُدَّعِي مَعَ الْبَيِّنَة إِلَّا أَن ينشىء دَعْوَى صَحِيحَة كدعوى بيع أَو إِبْرَاء وَلَو ادّعى جرح الشُّهُود فَعَلَيهِ الْبَيِّنَة وَهل لَهُ

(7/404)


تَحْلِيف الْمُدعى على نفي الْعلم بفسقهم فِيهِ وَجْهَان
أَحدهمَا لَا إِذْ لَيْسَ يَدعِي حَقًا لَازِما
وَالثَّانِي أَنه يسمع لِأَنَّهُ ينْتَفع بِهِ فِي حق لَازم كَمَا لَو قذف مَيتا وَطلب الْوَارِث الْحَد فَإِن لَهُ أَن يطْلب يَمِين الْوَارِث على نفي الْعلم بزنا الْمَقْذُوف وَكَذَا يجْرِي الْوَجْهَانِ فِيمَا لَو ادّعى على إِنْسَان إِقْرَارا بِحَق لِأَن الْحق لَا يسْتَحق بِالْإِقْرَارِ وَلَكِن ثُبُوته يُوجب الْحق ظَاهرا فَفِي التلحيف بِهِ وَجْهَان وَكَذَلِكَ إِذا قَالَ بعد قيام الْبَيِّنَة قد أقرّ لي بِهَذَا وَكَذَلِكَ إِذا توجه الْيَمين على الْمُدعى عَلَيْهِ فَقَالَ قد حلفني بِهِ مرّة وَأَرَادَ أَن يحلفهُ عَلَيْهِ فَفِي سَماع هَذِه الدعاوي وَجْهَان مأخذهما أَن مَا لَيْسَ عين الْحق وَلَكِن ينفع فِي الْحق فَهَل تسمع الدَّعْوَى بِهِ
وَلَا خلاف أَنه لَا تسمع الدَّعْوَى على الشَّاهِد وَالْقَاضِي بِالْكَذِبِ وَلَا يتَوَجَّه الْحلف وَإِن كَانَ ينفع ذَلِك لَكِن يُؤَدِّي فتح بَابه إِلَى فَاسد عَظِيم عَام
الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة لَو قَالَ الْمُدعى عَلَيْهِ وَقد قَامَت عَلَيْهِ الْبَيِّنَة أمهلوني فَإِن لي بَيِّنَة دافعة حَتَّى أحضرها قَالَ الْأَصْحَاب يُمْهل ثَلَاثَة أَيَّام وَقَالَ القَاضِي بل يَوْم وَاحِد لِأَنَّهُ يشبه أَن يكون مُتَعَنتًا

(7/405)


وَلَو قَالَ أبرأني عَن الْحق فحلفوه سمع فَيحلف الْمُدَّعِي أَولا ثمَّ يسْتَوْفى وَقَالَ القَاضِي بل يسْتَوْفى أَولا ثمَّ يحلف لِأَن هَذِه خُصُومَة جَدِيدَة وَهُوَ بعيد نعم لَو قَالَ لي بَيِّنَة على بَيْعه مني أَو على الْإِبْرَاء فَيجوز أَن يُقَال هَذَا يحْتَاج إِلَى مهلة فَلَا يُمْهل أما التَّحْلِيف فِي الْحَال فَيمكن فَكيف يُؤَخر وَلَو قَالَ أبرأني عَن الدَّعْوَى فَهَذَا لَا يسمع إِذْ لَا معنى للإبراء عَن الدَّعْوَى إِلَّا الصُّلْح على الْإِنْكَار وَهُوَ فَاسد وَقَالَ الْإِصْطَخْرِي يسمع
الثَّالِثَة فِي الدَّعْوَى الْمُطلقَة وَفِي البيع وَالنِّكَاح نُصُوص مُخْتَلفَة وحاصلها فِي البيع قَولَانِ وَفِي النِّكَاح ثَلَاثَة أَقْوَال
أَحدهَا أَنه لَا بُد من التَّفْصِيل بِذكر الْوَلِيّ وَالشَّاهِد ورضاها وَلَا خلاف أَنه لَا يشْتَرط انْتِفَاء الْمَوَانِع المفسدات من الرِّدَّة وَالْعدة وَالرّضَاع
وَالثَّانِي أَنه يَكْفِي دَعْوَى النِّكَاح وَلَا خلاف أَن من ادّعى دينا أَو عينا لَا يلْزمه ذكر

(7/406)


الْجِهَة وَالتَّفْصِيل
وَالثَّالِث أَنه إِن ادّعى النِّكَاح فَلَا بُد من التَّفْصِيل وَإِن قَالَ هِيَ زَوْجَتي فَلَا يحْتَاج إِلَيْهِ وَلَا خلاف أَن الْقصاص لَا بُد من تَفْصِيل الدَّعْوَى فِيهِ لِأَن أَمر الْعقُوبَة مخطر

التَّفْرِيع
إِن قُلْنَا يجب التَّفْسِير فيذكر فِي البيع أَهْلِيَّة الْعَاقِد وَرضَاهُ وَالثمن وَإِن قُلْنَا لَا يشْتَرط فَهَل يجب التَّقْيِيد بِالصِّحَّةِ فِيهِ وَجْهَان وَالأَصَح أَنه يشْتَرط لِأَنَّهُ لفظ جَامع وَيجب الْقطع باشتراطه فِي النِّكَاح وَحَيْثُ يشْتَرط تَفْصِيل الدَّعْوَى فَكَذَلِك الشَّهَادَة لِأَنَّهَا تَصْدِيق الدَّعْوَى فتبنى عَلَيْهَا وَالْأَظْهَر أَنه لَا يتشرط التَّفْصِيل فِي إِقْرَار الْمَرْأَة بِالنِّكَاحِ
الرَّابِعَة دَعْوَى الزَّوْجِيَّة من الْمَرْأَة إِنَّمَا تسمع إِذا ذكرت النَّفَقَة أَو الْمهْر فَإِن ذكرت مُجَرّد الزَّوْجِيَّة فَفِي سماعهَا وَجْهَان
أَحدهمَا لَا إِذْ الزَّوْجِيَّة حق عَلَيْهَا فَكَأَنَّهَا تَدعِي أَنَّهَا رقيقَة فَلَيْسَتْ دَعْوَى ملزمة
وَالثَّانِي أَنه تسمع إِذْ الزَّوْجِيَّة تتَعَلَّق بهَا حُقُوقهَا إِذا ثبتَتْ
فَإِن قُلْنَا تسمع فَهَل تبطل بِمُجَرَّد إِنْكَار الزَّوْج فِيهِ وَجْهَان مأخذهما أَن الْإِنْكَار هَل هُوَ طَلَاق ويتبين أَثَره فِي أَنه لَو قَالَ غَلطت فِي الْإِنْكَار هَل تسلم الزَّوْجَة إِلَيْهِ فِيهِ خلاف وَقَالَ الْقفال تسلم إِلَيْهِ كَمَا لَو ادَّعَت انْقِضَاء الْعدة قبل الرّجْعَة ثمَّ قَالَت غَلطت إِذْ لَا خلاف أَنه تسمع وَإِن

(7/407)


كَانَ لَهَا حَظّ فِي النِّكَاح وَهُوَ جَار فِي كل من أنكر لنَفسِهِ حَقًا ثمَّ عَاد وادعاه
الْخَامِسَة إِن رَأينَا عبدا فِي يَد إِنْسَان وَادّعى أَنه حر الأَصْل فَالْقَوْل قَوْله مَعَ يَمِينه لِأَن الأَصْل عدم الرّقّ وَكَونه فِي يَده وتصرفه لَا يُوجب تَصْدِيقه لِأَن الْحُرِّيَّة تدفع الْيَد نعم يجوز للْمُشْتَرِي أَن يعْتَمد الْيَد فِي الشِّرَاء مَعَ سكُوت العَبْد أما مَعَ تصريحه بالإنكار فَلَا وَقَالَ الشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد لَا يجوز مَعَ السُّكُوت بل يَنْبَغِي أَن نَسْأَلهُ حَتَّى يقر ثمَّ يَشْتَرِي
وَإِن ادّعى الْإِعْتَاق فَالْقَوْل قَول السَّيِّد أما الصَّغِير الْمُمَيز إِذا ادّعى الْحُرِّيَّة هَل تسمع دَعْوَاهُ فِيهِ وَجْهَان يلْتَفت على صِحَة إِسْلَامه ووصيته وَقد قَالَ الشَّافِعِي إِن الصَّغِير الَّذِي لَا يتَكَلَّم كَالثَّوْبِ مَعْنَاهُ أَنه لَا يزَال فِي يَده إِذا قَالَ هُوَ عَبدِي ويشترى مِنْهُ بقوله فَإِن أسقطنا دَعْوَى الْمُمَيز فَبلغ وَعَاد فَفِي الْقبُول وَجْهَان
أقيسهما أَنه تقبل
وَالثَّانِي لَا إِذْ حكمنَا عِنْد دَعْوَاهُ بِالْملكِ بِنَاء على الْيَد وَالتَّصَرُّف وَسُقُوط الدَّعْوَى
السَّادِسَة الدَّعْوَى بِالدّينِ الْمُؤَجل فِيهِ ثَلَاثَة أوجه

(7/408)


أَحدهَا أَنه لَا تسمع إِذْ لَيست ملزمة فِي الْحَال
وَالثَّانِي تسمع إِذْ تثبت أصل الْحق للُزُوم فِي الإستقبال
وَالثَّالِث أَنه إِن كَانَت لَهُ بَيِّنَة فَتسمع للتسجيل وَإِلَّا فَلَا
أما دَعْوَى الإستيلاد وَالتَّدْبِير وَتَعْلِيق الْعتْق بِصفة فَتقبل على الصَّحِيح وَمِنْهُم من خرج ذَلِك على الدّين الْمُؤَجل
السَّابِعَة لَو ادّعى شَيْئا وَلم يذكر مَا هُوَ فالدعوى فَاسِدَة إِذْ طلب الْمَجْهُول غير مُمكن وَلَو دفع ثوبا يُسَاوِي خَمْسَة إِلَى دلال ليبيع بِعشْرَة فَجحد وَلم يدر الْمَالِك أَنه بَاعَ أَو أتلف فَقَالَ أَدعِي عَلَيْهِ ثوبا إِن بَاعه فلي عَلَيْهِ عشرَة وَإِن كَانَ بَاقِيا فلي عَلَيْهِ عين الثَّوْب وَإِن كَانَ تَالِفا فلي عَلَيْهِ خَمْسَة قَالَ القَاضِي اصْطلحَ الْقُضَاة على قبُول هَذِه الدَّعْوَى المرددة للْحَاجة وَمن الْأَصْحَاب من قَالَ يَنْبَغِي أَن يَدعِي هَذَا فِي دعاوي مُفْردَة ثمَّ إِذا عين

(7/409)


وَاحِدًا رَآهُ أقرب فنكل فَهَل لَهُ أَن يسْتَدلّ بِنُكُولِهِ وَيحلف كَمَا يسْتَدلّ بِخَط أَبِيه ويستفيد بِهِ ظنا فِيهِ وَجْهَان وَكَذَا فِي الْمُودع إِذا نكل عَن يَمِين التّلف فَهَل يحل الْحلف اسْتِدْلَالا بِنُكُولِهِ فِيهِ خلاف

(7/410)


الرُّكْن الثَّانِي جَوَاب الْمُدعى عَلَيْهِ

وَهُوَ إِنْكَار أَو سكُوت أَو إِقْرَار أما السُّكُوت فَهُوَ قريب من الْإِنْكَار وَأما الْإِقْرَار فَلَا يخفى حكمه وَقد ذكرنَا إِقْرَار الْمَرْأَة بِالنِّكَاحِ فِي كتاب النِّكَاح وَنَذْكُر الْآن مسَائِل
الأولى لَو قَالَ لي من هَذَا الْكَلَام مخرج فَلَيْسَ بِإِقْرَار خلافًا لِابْنِ أبي ليلى فَلَعَلَّ مخرجه الْإِنْكَار وَلَو قَالَ لفُلَان عَليّ أَكثر مِمَّا لَك فَيحْتَمل الإستهزاء وَلَيْسَ بِإِقْرَار وَلَو قَالَ الشُّهُود عدُول فَلَيْسَ بِإِقْرَار إِذْ الْعدْل قد يغلط
الثَّانِيَة لَو قَالَ لي عَلَيْك عشرَة فَقَالَ لَا تلزمني الْعشْرَة فَيلْزمهُ أَن يَقُول وَلَا شَيْء مِنْهَا ويكلفه القَاضِي ذَلِك فِي الْإِنْكَار وَالْيَمِين لِأَن مدعي الْعشْرَة مُدع لجَمِيع أَجْزَائِهَا وَقَالَ القَاضِي لَا يكلفه ذَلِك فِي الْإِنْكَار وَإِنَّمَا يكلفه فِي الْيَمين ثمَّ إِن اقْتصر فِي الْيَمين على نفي الْعشْرَة وأصر عَلَيْهِ فَهُوَ ناكل عَمَّا دون الْعشْرَة بِأَقَلّ الْقَلِيل فللمدعي أَن يحلف على مَا دون الْعشْرَة إِذْ لم يسند الْعشْرَة إِلَى قبُول عقد فَإِن الْمَرْأَة إِذا ادَّعَت أَنه نَكَحَهَا بِخَمْسِينَ وَأقر بِالنِّكَاحِ وَأنكر الْخمسين وَنكل فَلَيْسَ لَهَا الْحلف على مَا دون الْخمسين لِأَنَّهُ يُنَاقض دَعْوَى الْخمسين
الثَّالِثَة لَو قَالَ مزقت ثوبي فلي عَلَيْك الْأَرْش فيكفيه أَن يَقُول لَا يلْزَمنِي الْأَرْش وَلَيْسَ عَلَيْهِ الْجَواب عَن التمزيق فَلَعَلَّهُ جرى بِحَيْثُ لَا يُوجب الْأَرْش وَلَو أقرّ بِهِ لطولب

(7/411)


بِالْبَيِّنَةِ وَكَذَلِكَ من ادعِي عَلَيْهِ دين وَكَانَ قد أَدَّاهُ فيكفيه أَن يَقُول لَا يلْزَمنِي التَّسْلِيم وَكَذَا إِذا ادّعى عينا لِأَنَّهُ رُبمَا كَانَ عِنْده رهنا أَو إِجَارَة فكيفه أَن يَقُول لَا يلْزَمنِي التَّسْلِيم
فَلَو أَقَامَ الْمُدَّعِي بَيِّنَة على الْملك قَالَ القَاضِي يجب التَّسْلِيم وَهَذَا مُشكل من حَيْثُ إِن لَهُ أَن يَقُول صدق الشُّهُود فِي الْملك وَلَا يلْزَمنِي التَّسْلِيم وَهَذَا يلْتَفت على أَنه لَو صرح بِأَنَّهُ فِي يَدي بِإِجَارَة فَالْقَوْل قَول صَاحب الْيَد أَو قَول الْمَالِك وَفِيه خلاف فَإِن قُلْنَا القَوْل قَول الْمَالِك فَيلْزمهُ أَن يُقيم بَيِّنَة على رهن أَو إِجَارَة إِن كَانَ يَدعِيهِ وَقَالَ الفوراني طَرِيقه أَن يَقُول فِي الْجَواب إِن كنت تَدعِي مُطلقًا فَلَا يلْزَمنِي التَّسْلِيم وَإِن كنت تَدعِي جِهَة رهن فاذكره حَتَّى أُجِيب وَكَذَا يَقُول إِن ادعيت الدّين الَّذِي لي بِهِ مَال مَرْهُون فحتى أُجِيب وَقَالَ القَاضِي لَا يسمع هَذَا الْجَواب المردد وَلَكِن لَهُ أَن يُنكر الدّين إِن أنكر هُوَ الرَّهْن وَهَذَا بِنَاء على مَسْأَلَة الظفر بِغَيْر جنس الْحق
الرَّابِعَة إِن ادّعى ملكا فِي يَد رجل فَقَالَ الْمُدعى عَلَيْهِ لَيْسَ لي وَلَا لَك فَلهُ ثَلَاثَة أَحْوَال
الأولى أَن يضيف إِلَى ثَالِث حَاضر فنحضره فَإِن صدقه انصرفت الدَّعْوَى إِلَيْهِ وللمدعي أَن يحلف الأول إِن قُلْنَا إِنَّه لَو أقرّ لَهُ غرم لَهُ بحيلولته بِالْإِقْرَارِ للثَّالِث وَإِن قُلْنَا لَا

(7/412)


يغرم وَإِن أقرّ فَلَا معنى لتحليفه
أما إِذا أحضرناه فَقَالَ لَيْسَ هُوَ لي فَفِيمَا يفعل بِالْمَالِ ثَلَاثَة أوجه
أضعفها أَنه يسلم إِلَى الْمُدَّعِي إِذْ لَا طَالب لَهُ سواهُ
وَالثَّانِي أَنه يَأْخُذهُ القَاضِي ويتوقف إِلَى ظُهُور حجَّة ويحفظه
وَالثَّالِث هُوَ أَن يتْرك فِي يَد صَاحب الْيَد فَإِنَّهُ أقرّ للثَّالِث وَبَطل إِقْرَاره برده فَصَارَ كَأَنَّهُ لم يقر
ثمَّ الْمقر لَهُ لَو رَجَعَ بعد ذَلِك وَقَالَ غَلطت هَل يقبل فِيهِ وَجْهَان وَإِن رَجَعَ الْمقر وَقَالَ بل كَانَت لي وغلطت فَفِي رُجُوعه وَجْهَان مرتبان وَأولى بِأَن لَا يقبل لِأَنَّهُ نفى الْملك عَن نَفسه وَهَذَا إِذا لم تزل يَده فَإِن أزلناه فَلَا أثر لرجوعه
الْحَالة الثَّانِيَة إِذا أضَاف الدَّار إِلَى غَائِب قَالَ الْعِرَاقِيُّونَ انصرفت الْخُصُومَة إِلَى الْغَائِب فَلَيْسَ لَهُ أَن يحلفهُ إِلَّا لأجل الْغرم على قَوْلنَا يغرم بالحيلولة إِن أقرّ للثَّانِي وَقَالَ الشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد والفوراني بل يحلف لننزع الْملك من يَده بِالْيَمِينِ والمردودة إِذْ لَو فتح هَذَا الْبَاب صَار ذَرِيعَة بعد انْقِطَاع سلطنته وَيجْرِي هَذَا الْخلاف فِي كل من نفى عَن نَفسه شَيْئا

(7/413)


وَرجع مهما لم يقر بِهِ لغيره أَو أقرّ وَلَكِن رد إِقْرَاره بالتكذيب
فَإِن قُلْنَا إِنَّه يقبل رُجُوعه فللمدعي أَن يحلفهُ فعساه يرجع ويقر لَهُ
وَإِن قُلْنَا لَا يَصح رُجُوعه فَلَا معنى لتحليفه إِلَى إِسْقَاط الدَّعْوَى بِالْإِضَافَة إِلَى غَائِب لَا يُرْجَى رُجُوعه نعم الْغَائِب إِذا رَجَعَ فالدار مَرْدُودَة إِلَيْهِ وعَلى الْمُدَّعِي اسْتِئْنَاف الْخُصُومَة مَعَه
فَإِن كَانَ للْمُدَّعِي بَيِّنَة سلمت الدَّار إِلَيْهِ مَعَ الْيَمين لِأَنَّهُ قَضَاء على الْغَائِب عِنْد الْعِرَاقِيّين وَعند الشَّيْخ أبي مُحَمَّد هُوَ قَضَاء على الْحَاضِر فَلَا يحْتَاج إِلَى الْيَمين
أما إِذا كَانَ لصَاحب الْيَد بَيِّنَة على أَنه للْغَائِب فَفِيهِ ثَلَاثَة أوجه
أَحدهَا أَنه لَا تسمع إِلَّا أَن يثبت وكَالَة نَفسه
وَالثَّانِي أَن الْبَيِّنَة تسمع لَا لإِثْبَات الْملك للْغَائِب وَلَكِن ليقطع التَّحْلِيف وَالْخُصُومَة عَنهُ
وَالثَّالِث اخْتَارَهُ القَاضِي أَنه إِذا ادّعى لنَفسِهِ علقَة من وَدِيعَة أَو عَارِية سَمِعت وَإِلَّا فَلَا
ثمَّ إِن سَمِعت الْبَيِّنَة لثُبُوت الْوكَالَة وَكَانَ للْمُدَّعِي بَيِّنَة قدم بَيِّنَة الْوَكِيل لأجل الْيَد وَإِن سمعنَا دون الْوكَالَة فَبَيِّنَة الْمُدَّعِي أولى فَإِنَّهُ لم تسمع إِلَّا لصرف الْيَمين عَنهُ وَلذَلِك يجب على الْغَائِب إِعَادَة الْبَيِّنَة وَلَا يُغْنِيه مَا أَقَامَهُ صَاحب الْيَد
لَكِن إِذا رَجَعَ الْغَائِب جَعَلْنَاهُ صَاحب الْيَد حَتَّى إِن كَانَت لَهُ بَيِّنَة قدمت على بَيِّنَة الْمُدَّعِي وَيكْتب فِي سجل الْمُدَّعِي أَن الْغَائِب على حجَّته وعَلى يَده مهما عَاد

(7/414)


فرعان

أَحدهمَا من قَالَ لَا تسمع الْبَيِّنَة دون الْوكَالَة فَلَو ادّعى لنَفسِهِ رهنا أَو إِجَارَة فَفِي سَماع الْبَيِّنَة وَجْهَان فَإِن قُلْنَا تسمع فَفِي التَّقْدِيم على بَيِّنَة الْمُدَّعِي وَجْهَان وَالْأَظْهَر أَنه لَا تقدم لِأَنَّهُ إِنَّمَا أثبت إِجَارَته وَرَهنه بعد ثُبُوت ملك الْغَائِب فَإِذن لَا تُؤثر بَينته إِلَّا فِي صرف الْحلف عَنهُ
الثَّانِي إِذا ثَبت ملك الْغَائِب بِبَيِّنَتِهِ بعد رُجُوعه لَكِن بعد إِقْرَار صَاحب الْيَد للْمُدَّعِي فَلَيْسَ للْمُدَّعِي تَحْلِيف الْمقر ليغرمه فَإِن الْحَيْلُولَة وَقعت بِالْبَيِّنَةِ وَكَذَلِكَ لَو أقرّ للْغَائِب أَيْضا بعد الْإِقْرَار للْمُدَّعِي لَا يغرم للْمُدَّعِي إِذْ رُجُوعه إِلَى الْغَائِب بِالْبَيِّنَةِ لَا بِإِقْرَارِهِ
الْحَالة الثَّالِثَة أَن يَقُول لَيْسَ لي وَلَيْسَ يضيفه إِلَى معِين أَو قَالَ هُوَ لرجل لَا أُسَمِّيهِ فَالْمَذْهَب أَن الْخُصُومَة لَا تَنْصَرِف عَنهُ بِهَذَا الْإِقْرَار فَيحلف وَإِن نكل حلف الْمُدَّعِي وَأخذ وَمِنْهُم من قَالَ يَأْخُذ القَاضِي عَنهُ وَيكون مَوْقُوفا إِلَى أَن تظهر حجَّة وَيبقى تَحْلِيف الْمُدَّعِي صَاحب الْيَد لأجل التغريم
أما إِذا أضَاف إِلَى صبي أَو مَجْنُون انصرفت الْخُصُومَة إِلَى وليهما وَلَكِن لَا حَاجَة لتحليف الْمولى وَلَا لتحليف الصَّبِي لَكِن يُؤَخر إِلَى بُلُوغه إِلَّا أَن يكون للْمُدَّعِي بَيِّنَة فَيحكم بهَا وَكَذَلِكَ لَو قَالَ هَذَا وقف على وَلَدي أَو على الْفُقَرَاء انصرفت عَنهُ الْخُصُومَة وَلَا يبْقى إِلَّا التَّحْلِيف للتغريم
الْمَسْأَلَة الْخَامِسَة إِذا خرج الْمَبِيع مُسْتَحقّا بِبَيِّنَة رَجَعَ المُشْتَرِي على البَائِع بِالثّمن إِن لم يُصَرح فِي إِقْرَاره بِالْملكِ للْبَائِع فَإِن صرح وَقَالَ هَذَا ملكي اشْتَرَيْته من فلَان وَكَانَ

(7/415)


ملكه فَفِي الرُّجُوع وَجْهَان
أَحدهمَا أَنه لَا يرجع مُؤَاخذَة لَهُ بقوله فَإِنَّهُ زعم أَن الْمُدَّعِي هُوَ الظَّالِم
وَالثَّانِي وَهُوَ الْأَصَح أَنه يرجع مهما قَالَ إِنَّمَا قلت ذَلِك على رسم الْخُصُومَة
أما إِذا ادّعى جَارِيَة وَأقَام بَيِّنَة وَأَخذهَا واستولدها ثمَّ كذب نَفسه فَعَلَيهِ الْمهْر للْمقر لَهُ وَتلْزَمهُ قيمَة الْوَلَد لِأَنَّهُ انْعَقَد حرا فَلَا تَزُول الْحُرِّيَّة بِرُجُوعِهِ وَكَذَلِكَ يلْزمه قيمَة الْجَارِيَة إِذْ ثَبت لَهَا علقَة الإستيلاد فَلَا تبطل بِرُجُوعِهِ
فَلَو صدقته فَالظَّاهِر أَن تصديقها لَا يسْقط علقَة الإستيلاد وَفِيه وَجه أَنه يرد الْجَارِيَة لِأَن الْحق لَا يعدوهم وَقد تصادقوا
السَّادِسَة جَوَاب دَعْوَى الْقصاص على العَبْد بِطَلَب من العَبْد لَا من السَّيِّد وَجَوَاب دَعْوَى أرش الْجِنَايَة بِطَلَب من السَّيِّد لَا من العَبْد لِأَن إِقْرَار العَبْد لَا يقبل نعم إِن قُلْنَا يتَعَلَّق الْأَرْش بِذِمَّتِهِ فَيحلف فَإِن نكل وَحلف الْمُدَّعِي لم يتَعَلَّق بِالرَّقَبَةِ لِأَن الْيَمين الْمَرْدُودَة إِن كَانَت كالبينة فَلَا تتعدى إِلَى غير المتداعيين وَفِيه وَجه أَنه يتَعَلَّق بِالرَّقَبَةِ إِذا جَعَلْنَاهُ كالبينة

(7/416)


الرُّكْن الثَّالِث الْيَمين

وَالنَّظَر فِي الْحلف والمحلوف عَلَيْهِ والحالف وَحكم الْحلف وَفِيه أَطْرَاف
الطّرف الأول فِي الْحلف وَصورته مَشْهُورَة والتغليظ يجْرِي فِيهِ فِي كل مَاله خطر مِمَّا لَا يثبت بِرَجُل وَامْرَأَتَيْنِ وَيجْرِي فِي عُيُوب النِّسَاء لِأَن ثُبُوتهَا بقول النسْوَة للْحَاجة لَا لنُقْصَان الْخطر وَأما المَال فَلَا يجْرِي التَّغْلِيظ فِي قَلِيله وَيجْرِي فِي كَثِيره وَهُوَ مَا يُسَاوِي نِصَاب الزَّكَاة إِمَّا مِائَتي دِرْهَم أَو عشْرين دِينَار وأجروا التَّغْلِيظ فِي الْوكَالَة وَإِن كَانَت على دِرْهَم لِأَنَّهَا سلطنة فِي نَفسهَا
وَلَو ادّعى عبد على مَوْلَاهُ الْعتْق وَقِيمَته دون النّصاب فَلَا تَغْلِيظ على سَيّده إِذْ يثبت لنَفسِهِ ملكا حَقِيرًا فَإِن نكل غلظت الْيَمين الْمَرْدُودَة على العَبْد لِأَنَّهُ يثبت الْعتْق وَفِيه وَجه أَنه تغلظ على السَّيِّد أَيْضا لِاسْتِوَاء الْجَانِبَيْنِ وَلِأَن نفي الْعتْق كإثباته وَهُوَ بعيد
وَكَيْفِيَّة التَّغْلِيظ قد ذَكرْنَاهُ فِي اللّعان وَهُوَ بِالْمَكَانِ وَالزَّمَان وَزِيَادَة اللَّفْظ كَقَوْلِه وَالله الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ الطَّالِب الْغَالِب
فَإِن امْتنع الْحَالِف عَن الْمُغَلَّظَة فَهَل يَجْعَل ناكلا عَن أصل الْيَمين فِيهِ اضْطِرَاب نُصُوص وَيرجع حاصلها إِلَى أَرْبَعَة أوجه ذَكرنَاهَا فِي اللّعان
أحدهنا أَن جَمِيعهَا مُسْتَحقّ

(7/417)


وَالثَّانِي أَن الْجَمِيع مُسْتَحبّ
وَالثَّالِث أَنه لَا اسْتِحْقَاق إِلَّا فِي الْمَكَان
وَالرَّابِع إِلْحَاق الزَّمَان بِالْمَكَانِ
ثمَّ قَالَ الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ رَأَيْت بعض الْحُكَّام يسْتَحْلف بالمصحف فاستحسنت ذَلِك
وتغليظ الذِّمِّيّ بِحُضُور كنائسهم وعَلى الْمَجُوسِيّ بِحُضُور بَيت النيرَان وَفِيه وَجه أَنه لَا يحضر بَيت النيرَان كَمَا لَا يحضر بَيت الْأَصْنَام إِذْ لم يثبت حرمتهَا فِي الْكتاب

التَّفْرِيع

إِن قُلْنَا إِن التَّغْلِيظ مُسْتَحقّ فَلَو امْتنع فَهُوَ ناكل وَلَا يُغْنِيه قَوْله حَلَفت بِالطَّلَاق أَن لَا أَحْلف يَمِينا مُغَلّظَة إِذْ يُقَال انكل أَو احْلِف وليقع طَلَاقك وَكَذَلِكَ يجب على المخدرة حُضُور الْمَسْجِد للتحليف تَغْلِيظًا وَإِن لم يلْزمهَا الْحُضُور بِجَوَاب الدَّعْوَى وَإِن قُلْنَا إِنَّه مُسْتَحبّ فَلَا يلْزمهَا ذَلِك
وَأما وَقت الْيَمين فَهُوَ بعد عرض القَاضِي فَمَا يُبَادر إِلَيْهِ قبل عرض القَاضِي لَا يحْسب ويعاد عَلَيْهِ
وَشَرطه أَن يُطَابق الْإِنْكَار وَيكون الْإِنْكَار على مُطَابقَة الدَّعْوَى فَمَا لَا يكون كَذَلِك لم يحْسب

(7/418)


الطّرف الثَّانِي فِي الْمَحْلُوف عَلَيْهِ
وَفِيه مسَائِل
إِحْدَاهَا أَنه يحلف على الْبَتّ فِي كل مَا ينْسبهُ إِلَى نَفسه من نفي وَإِثْبَات وَمَا ينْسبهُ إِلَى غَيره من إِثْبَات كَبيع وَإِتْلَاف فَيلْزمهُ الْبَتّ
وَأما النَّفْي كنفي الدّين والإتلاف عَن الْمُورث الْمَيِّت فيكفيه الْحلف على نفي الْعلم وَلَو نفى عَن عَبده مَا يُوجب أرش الْجِنَايَة فَفِيهِ وَجْهَان
أَحدهمَا أَنه لَا يلْزمه الْبَتّ كالمورث وَالثَّانِي أَنه يلْزمه لِأَن عَبده كأعضائه وَهُوَ مطلع عَلَيْهِ ويلتفت هَذَا على أَنه هَل يتَعَلَّق بِذِمَّة العَبْد فَإِن تعلق بِذِمَّتِهِ فقد صَار شخصا مُسْتقِلّا لَا كالبهيمة فَإِنَّهَا إِذا أتلفت مَا ينْسب صَاحبهَا إِلَى تَقْصِير فَالظَّاهِر أَنه يلْزمه الْبَتّ
ثمَّ يجوز لَهُ أَن يبت بِظَنّ يستفيده من خطّ أَبِيه وَخط نَفسه ونكول خَصمه كَمَا سبق
الثَّانِيَة أَن الْيَمين على نِيَّة المستحلف وعقيدته أما النِّيَّة فَهُوَ أَن التورية على خلاف رَأْي القَاضِي لَا تَنْفَع وَكَذَلِكَ لَو قَالَ عقيب الْيَمين إِن شَاءَ الله وَلم يسمع القَاضِي انْعَقَدت الْيَمين فاجرة مؤثمة لِأَن هَذَا بَاب لَو فتح بطلت الْأَيْمَان وَلَو سمع القَاضِي الإستثناء لم ينْعَقد الْيَمين وَعَلِيهِ الإستعادة فَإِنَّهُ لم يحلف بعد
وَأما العقيدة فَهُوَ أَن الْحَنَفِيّ يحلف الشفعوي على نفس شُفْعَة الْجوَار فَلَا يحل للشفعوي أَن يحلف على أَنه لَا يلْزمه بِتَأْوِيل مَذْهَب نَفسه بل يَأْثَم وتنعقد الْيَمين كَاذِبَة لِأَنَّهُ قد لزمَه

(7/419)


فِي الظَّاهِر كَمَا ألزمهُ القَاضِي وَهل يلْزمه فِي الْبَاطِن فِيهِ خلاف وَذكر صَاحب التَّقْرِيب وَجها ثَالِثا وَهُوَ أَن الْقَضَاء ينفذ فِي مَحل الإجتهاد بَاطِنا على الْعَوام فَإِن كَانَ الْمَحْلُوف عَلَيْهِ مُجْتَهدا لم ينفذ عَلَيْهِ فَكَأَنَّهُ لَا يؤثمه إِذا حلف بِمُوجب اعْتِقَاد نَفسه وَهَذَا بعيد بل الإعتقاد كالإجتهاد وَيَنْبَغِي أَن ينظر إِلَى عقيدة القَاضِي
الثَّالِثَة إِذا لم يطب الْمُدَّعِي الْحلف وَلَكِن قَالَ لي بَيِّنَة لَكِن أُرِيد كَفِيلا فِي الْحَال فَلَا يلْزمه بالإتفاق وَلَكِن قد جرى بِهِ رسم القضاه
وَلَو شهد شخصان وَلم يعدلا لزمَه الْكَفِيل بِالْبدنِ فَإِن امْتنع حبس لأجل الْكفَالَة لَا لأجل الْحق لِأَنَّهُ رُبمَا يهرب فالحاجة تمس إِلَيْهِ

(7/420)


الطّرف الثَّالِث فِي الْحَالِف

وَهُوَ كل مُكَلّف توجه عَلَيْهِ دَعْوَى صَحِيحَة فِي حق فَيحلف فِي الْإِيلَاء وَالطَّلَاق وَالرَّجْعَة وَالظِّهَار وَالْوَلَاء وَالنّسب وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله لَا يقْضى بِالنّكُولِ فِي هَذِه الْمسَائِل فَلَا تعرض الْيَمين فِيهَا
وَلَا يجْرِي التَّحْلِيف فِي عقوبات الله تَعَالَى إِذْ لَا مدعي فِيهَا وَلَا يجوز تَحْلِيف الشَّاهِد وَالْقَاضِي إِذْ نسبتهم إِلَى الْكَذِب دَعْوَى فَاسِدَة تجر فَسَادًا عَظِيما نعم تجوز الدَّعْوَى على القَاضِي الْمَعْزُول فَيحلف عَلَيْهِ
وَمن ادّعى أَنه صبي وَهُوَ مُحْتَمل لم يحلف بل ينْتَظر بُلُوغه وَإِن قَالَ أَنا بَالغ صدق وَلم يحلف أَيْضا وَكَذَلِكَ الْوَصِيّ لَا يحلف على نفي الدّين عَن الْمُوصي لِأَنَّهُ لَو أقرّ لم يقبل قَوْله وَكَذَا لَا يحلف الْوَكِيل الْخصم الْمُنكر لوكالته على نفي الْعلم بِالْوكَالَةِ لِأَنَّهُ وَإِن علم فَلَا يجب التَّسْلِيم إِلَيْهِ لِأَن الْمُوكل رُبمَا جحد وكَالَته وَله أَن يحلف الْوَكِيل على نفي الْعلم بِأَنَّهُ مَا عَزله وَلَا مَاتَ

(7/421)


وسبل الْوَكِيل فِي مجْلِس الحكم أَن يحضر الْخصم وَيَقُول أستحق مخاصمتك فَإِن كَانَ قد وَكله مُوكله فِي مجْلِس الحكم لم يفْتَقر إِلَى حجَّة وَإِن وَكله فِي الْغَيْبَة وَأَرَادَ الْوَكِيل إثْبَاته على الْخصم بِالْحجَّةِ جَازَ وَإِن أَرَادَ إثْبَاته فِي غير وَجه الْخصم فَفِيهِ وَجْهَان
أَحدهمَا أَنه يجوز لِأَنَّهُ يثبت حق نَفسه
وَالثَّانِي لَا فَإِنَّهُ حق على الْخصم

(7/422)


الطّرف الرَّابِع فِي حكم الْيَمين

وَفَائِدَته عندنَا قطع الْخُصُومَة فِي الْحَال فَلَا يحصل بهَا بَرَاءَة الذِّمَّة بل يجوز للْمُدَّعِي إِقَامَة الْبَيِّنَة بعده وَسَوَاء كَانَت الْبَيِّنَة حَاضِرَة أَو غَائِبَة وَقَالَ ابْن أبي ليلى لَا يجوز للْمُدَّعِي وَقَالَ مَالك إِن كَانَت الْبَيِّنَة حَاضِرَة لم يجز وَنحن نقُول لَعَلَّه تذكر وَعرف الْآن
فَلَو قَالَ أَولا لَا بَيِّنَة لي حَاضِرَة وَلَا غَائِبَة فقد ذكرنَا فِيهِ وَجْهَيْن أما إِذا قَالَ كذب شهودي بطلت الْبَيِّنَة وَفِي بطلَان دَعْوَاهُ وَجْهَان وَالأَصَح أَنه لَا تبطل فَلَعَلَّهُ أَرَادَ أَنهم قَالُوا من غير علم فَإِن قُلْنَا لَا تبطل فَلَو أَنه ادّعى عَلَيْهِ الْخصم إِقْرَاره بكذب الشُّهُود وَأقَام شَاهدا وَأَرَادَ أَن يحلف مَعَه لم يجز إِذْ لَيْسَ مضمونه إِثْبَات مَال بل الطعْن فِي الشُّهُود وَإِن قُلْنَا تسْقط الدَّعْوَى قبل لِأَن الْمَقْصُود إبِْطَال الدَّعْوَى بِمَال
فرع إِذا امْتنع عَن الْحلف وَقَالَ حلفني مرّة على هَذِه الْوَاقِعَة فليحلف على أَنه مَا حلفني فَفِي لُزُوم ذَلِك وَجْهَان لِأَنَّهُ لَيْسَ يَدعِي حَقًا وَقَالَ الفوراني لَهُ ذَلِك
فَلَو ادّعى أَنه حلفني مرّة على أَنِّي مَا حلفته فليحلف على أَنه مَا حلفني قَالَ لَا يُجَاب إِلَيْهِ لِأَن ذَلِك يتسلسل إِلَى غير نِهَايَة وبمثل هَذَا حسم الْبَاب من حسم وَلم يسمع هَذِه الدَّعْوَى من غير بَيِّنَة

(7/423)


الرُّكْن الرَّابِع فِي النّكُول

وَلَا يثبت الْحق على المنكل بِنُكُولِهِ خلافًا لأبي حنيفَة رَحمَه الله بل حكم النّكُول رد الْيَمين على الْمُدَّعِي وَبطلَان حق الناكل عَن الْيَمين حَتَّى لَا يعود وَلَكِن إِنَّمَا يبطل حَقه إِذا تمّ النّكُول وَإِنَّمَا يتم بِصَرِيح قَوْله لَا أَحْلف وَأَنا ناكل فَبعد ذَلِك لَا يعود وَلَا حَاجَة هَاهُنَا إِلَى قَول القَاضِي قضيت بِالنّكُولِ أما إِذا سكت بعد عرض الْيَمين فَيحْتَاج إِلَى الْقَضَاء
وَحقّ القَاضِي أَن يعرض الْيَمين عَلَيْهِ ثَلَاثًا وينبهه أَن حكم النّكُول اسْتِيفَاء الْحق بِيَمِين الْمُدَّعِي فَرُبمَا لَا يعرف ذَلِك فَإِذا فعل ذَلِك وَقَالَ قضيت بِنُكُولِهِ لم يُمكنهُ الْحلف بعد ذَلِك وَكَذَلِكَ لَو قَالَ الْمُدَّعِي أَحْلف فَهُوَ كالقضاء وَلَو أقبل على الْمُدَّعِي بِوَجْهِهِ وَقبل أَن يَقُول احْلِف رَجَعَ الناكل فَهُوَ لَهُ الْيَمين فِيهِ وَجْهَان

(7/424)


وَلَو لم ينبهه على حكمه وَقضى بِنُكُولِهِ فَقَالَ الناكل كنت لَا أعرف حكم النّكُول فَالظَّاهِر أَن الحكم نفذ وَفِيه احْتِمَال
وَحَيْثُ منعناه من الْيَمين فَلَو رَضِي الْمُدَّعِي بِأَن يحلف فَفِيهِ وَجْهَان
أَحدهمَا أَنه يجوز إِذْ الْحق لَا يعدوهما
الثَّانِي الْمَنْع إِذْ بَطل حق الْحلف بِالْقضَاءِ فَلَا يُؤثر الرِّضَا
ثمَّ إِذا ثَبت النّكُول ورد الْيَمين على الْمُدَّعِي فَلهُ حالتان
إِحْدَاهمَا النّكُول فَإِن نكل صَرِيحًا وَقَالَ لَا أَحْلف كَانَ نُكُوله كحلف الْمُدعى عَلَيْهِ فَلَا يُمكن من الْعود إِلَى الْيَمين بعد ذَلِك بل لَا تسمع دَعْوَاهُ إِلَّا بِبَيِّنَة فَإِن استمهل أمهلناه ثَلَاثًا ليراجع الْحساب وَلَا يُمْهل الْمُدعى عَلَيْهِ لِأَن الْمُدَّعِي على اخْتِيَاره فِي طلب الْحق وَالْمُدَّعى عَلَيْهِ لَا خيرة لَهُ وَكَذَلِكَ إِذا أَقَامَ شَاهدا وَاحِدًا واستمهل للحلف مَعَه أمهلناه وَلَو نكل حكمنَا بِنُكُولِهِ وَلَا يقبل بعد ذَلِك إِلَّا بِبَيِّنَة كَامِلَة وَمن أَصْحَابنَا من قَالَ لَا يحكم بنكول الْمُدَّعِي بل هُوَ إِلَى خيرته أبدا مهما عَاد وَحلف مكن كَمَا أَنه على خيرته فِي إِقَامَة الْبَيِّنَة
الْحَالة الثَّانِيَة أَن يحلف الْمُدَّعِي فَيسْتَحق الْحق
ثمَّ الْيَمين الْمَرْدُودَة منزلتها منزلَة إِقْرَار الْخصم أَو منزلَة الْبَيِّنَة فِيهِ خلاف مَشْهُور وَقد بنى الْأَصْحَاب عَلَيْهِ مسَائِل على غير وَجهه لِأَنَّهُ وَإِن جعل كالبينة فَلَا يَنْبَغِي أَن يَجْعَل

(7/425)


كَذَلِك فِي حق غير الْحَالِف بل الصَّحِيح أَنَّهَا كَالْإِقْرَارِ وَقد ذكرنَا تِلْكَ الْمسَائِل فِي موَاضعهَا
فَإِن قيل هَل يتَصَوَّر الْقَضَاء بِالنّكُولِ عِنْد الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ قُلْنَا مهما كَانَ الْمُدَّعِي مِمَّن لَا يُمكن الرَّد عَلَيْهِ بِأَن يكون غير معِين كالمساكين أَو يكون هُوَ الإِمَام فَيتَعَيَّن الحكم وَذَلِكَ فِي مسَائِل
الأولى النزاع بَين السَّاعِي وَرب المَال فِي الزَّكَاة يُوجب الْيَمين على رب المَال فَإِن نكل تعذر الرَّد على السَّاعِي وعَلى الْمَسَاكِين فَفِيهِ ثَلَاثَة أوجه
أَحدهَا أَنه يقْضِي بِالنّكُولِ للضَّرُورَة
وَالثَّانِي أَنه يحبس حَتَّى يقر أَو يُؤَدِّي

(7/426)


وَالثَّالِث أَنه إِن ادّعى الْأَدَاء فَهُوَ فِي صُورَة مُدع فيستوفى وَإِن أنكر المَال فَلَا يقْضى عَلَيْهِ
الثَّانِيَة ذمِّي غَابَ فَرجع مُسلما وَزعم أَنه أسلم قبل انْقِضَاء السّنة وَلَا جِزْيَة عَلَيْهِ وَنكل عَن الْيَمين فَفِي وَجه يقْضى عَلَيْهِ وَفِي وَجه يحبس حَتَّى يقر أَو يُقيم بَيِّنَة وَفِي وَجه لَا شَيْء عَلَيْهِ إِذْ هُوَ مُنكر وَلَا حجَّة عَلَيْهِ
الثَّالِثَة الصَّبِي الْمُشرك إِذا أنبت وَادّعى أَنه استعجل بالمعالجة حلف فَإِن نكل قتل وَلَيْسَ ذَلِك حكما بِالنّكُولِ بل توجه الْقَتْل بالْكفْر مَعَ الإنبات وَإِنَّمَا الْيَمين دَافع وَلَا

(7/427)


دَافع لَهُ وَفِيه وَجه أَن الْقَتْل بِالنّكُولِ محَال وتحليف من زعم أَنه صبي محَال بل يحبس حَتَّى يبلغ فَإِن حلف ترك وَإِن نكل قتل إِذْ ذَاك وَهَذَا أَجْدَر من تَحْلِيف من يزْعم أَنه صبي وَهُوَ رَكِيك لأَنا نتوهم بُلُوغه وعلامته النّكُول
الرَّابِعَة ادّعى وَاحِد من صبيان المرتزقة أَنه بَالغ قَالَ الْأَصْحَاب يثبت اسْمه بِغَيْر يَمِين لِأَنَّهُ إِن كذب فَأَي فَائِدَة فِي يَمِين الصَّبِي وَإِن صدق فليثبت وَقَالَ صَاحب التَّلْخِيص إِن اتهمه السُّلْطَان يحلفهُ فَإِن نكل فَلَا حلق لَهُ
الْخَامِسَة مَاتَ من لَا وَارِث لَهُ وَادّعى القَاضِي لَهُ دينا على إِنْسَان فنكل عَن الْيَمين فَفِيهِ وَجْهَان
أَحدهمَا أَنه يقْضِي عَلَيْهِ للضَّرُورَة فَإِنَّهُ مُنْتَهى الْخُصُومَة
وَالثَّانِي أَنه يحبس حَتَّى يحلف أَو يقر وَفِيه وَجه ثَالِث أَنه يعرض عَنهُ وَلم يذكرهُ أحد إِلَّا الشَّيْخ أَو مُحَمَّد

(7/428)


الرُّكْن الْخَامِس الْبَيِّنَة

وَقد ذكرنَا شَرطهَا ووصفها فِي الشَّهَادَات وَالْغَرَض تعَارض الْبَيِّنَتَيْنِ وَمهما أمكن الْجمع بَينهمَا جمع فَإِن تناقضا وَأمكن التَّرْجِيح رجح وَإِن تَسَاويا من كل وَجه فَأَرْبَعَة أَقْوَال إِذا كَانَ الْمُدَّعِي فِي يَد ثَالِث
أَحدهَا التساقط
وَالثَّانِي الإستعمال بِالْقُرْعَةِ
وَالثَّالِث الْقِسْمَة بَينهمَا
وَالرَّابِع الْوَقْف إِلَى أَن يصطلحا
وَأما مدارك مثارات التَّرْجِيح فَثَلَاثَة قُوَّة فِي الشَّهَادَة أَو زِيَادَة فِيهَا أَو يَد تقترن بِإِحْدَاهُمَا
الْمدْرك الأول قُوَّة الشَّهَادَة وَله صور
إِحْدَاهَا أَن يُقيم أَحدهمَا شَاهِدين وَالْآخر ثَلَاثَة فَصَاعِدا أَو كَانَ شُهُود أَحدهمَا أكمل عَدَالَة فَالْقَوْل الْجَدِيد أَنه لَا تَرْجِيح بِخِلَاف الرِّوَايَة لِأَن نِصَاب الشَّهَادَة قدره الشَّرْع فَالزِّيَادَة عَلَيْهِ لَا تُؤثر عَلَيْهِ بِخِلَاف الرِّوَايَة وَالْقَوْل الْقَدِيم التَّرْجِيح بِهِ كَمَا فِي الرِّوَايَة وعَلى هَذَا يخرج مَا إِذا كَانَ فِي أحد الْجَانِبَيْنِ شَهَادَة أحل الْخُلَفَاء الْأَرْبَعَة
الثَّانِيَة شَاهِدَانِ يقدم على شَاهد وَامْرَأَتَيْنِ وَمِنْهُم من قطع بطرد الْقَوْلَيْنِ وَهُوَ

(7/429)


الْأَظْهر
الثَّالِثَة تَقْدِيم الشَّاهِدين على شَاهد وَيَمِين فِيهِ قَولَانِ فِي الْجَدِيد وَالأَصَح التَّرْجِيح
ثمَّ حَيْثُ رجحنا لَو اقْترن الْيَد بِالْحجَّةِ الضعيفة فَوَجْهَانِ
أَحدهمَا أَنَّهُمَا يتساويان
وَالثَّانِي أَن الْيَد توجب تَرْجِيح الضَّعِيف لِأَنَّهَا أقوى
الْمدْرك الثَّانِي الْيَد وَلَا يَخْلُو الْمُتَنَازع فِيهِ إِمَّا أَن يكون فِي يدهما أَو فِي أَحدهمَا أَو فِي يَد ثَالِث
الْحَالة الأولى أَن يكون فِي يَد ثَالِث فَفِي اسْتِعْمَال الْبَيِّنَتَيْنِ قَولَانِ
أَحدهمَا أَنَّهُمَا يتساقطان لتكاذبهما وَهُوَ اخْتِيَار الْمُزنِيّ رَحمَه الله
وَالثَّانِي الإستعمال وَفِي كَيْفيَّة ثَلَاثَة أَقْوَال

(7/430)


أَحدهَا أَنه يقسم بَينهمَا وَهُوَ مَذْهَب أبي حنيفَة رَحمَه الله لِأَن كل بَيِّنَة سَبَب لكَمَال الْملك وَقد ازدحما فيقسط عَلَيْهِمَا
وَالثَّانِي أَنه يتَوَقَّف إِلَى الإصطلاح لِأَن من قسم فقد خَالف مُوجب الْبَيِّنَتَيْنِ جَمِيعًا
وَالثَّالِث أَنه يقرع بَينهمَا لِأَنَّهُ يقرع عِنْد الْإِشْكَال فعلى هَذَا هَل يجب الْحلف على من خرجت الْقرعَة لَهُ فِيهِ قَولَانِ
ثمَّ اعْلَم أَن قَول الإستعمال لَا يجْرِي إِذا تكاذبا صَرِيحًا بِحَيْثُ لَا يُمكن الْجمع بَينهمَا كَمَا لَو شهِدت إِحْدَاهمَا على قتل فِي وَقت وَشهِدت الْأُخْرَى على الْحَيَاة فِي ذَلِك الْوَقْت

(7/431)


بل حَيْثُ يتَوَهَّم تَأْوِيل كَمَا لَو شَهدا على الْملك فَإنَّا نقُول لَعَلَّ كل وَاحِد سمع وَصيته لَهُ أَو شِرَاء أَو غَيره وَمِنْهُم من طرد الْقَوْلَيْنِ مَعَ اسْتِحَالَة الْجمع وَهُوَ بعيد
وَكَذَلِكَ قَول الْقِسْمَة لَا يجْرِي حَيْثُ تمْتَنع الْقِسْمَة كَالْمَرْأَةِ الَّتِي يدعيها زوجان وَكَذَا قَول الْوَقْف لِأَن الصُّلْح غير مُمكن وَفِي جَرَيَان قَول الْقرعَة وَجْهَان

فروع

أَحدهَا دَار فِي يَد ثَالِث ادّعى وَاحِد كلهَا وَأقَام بَيِّنَة وَادّعى آخر نصفهَا وَأقَام بَيِّنَة
أما النّصْف فقد تَعَارضا فِيهِ فَفِيهِ الْأَقْوَال الْأَرْبَعَة وَالنّصف الآخر لَا معَارض لَهُ لَكِن إِن قُلْنَا بالتهاتر بطلت بَينته فِي بعض مُوجبهَا فَهَل تبطل فِي الْبَاقِي فِيهِ وَجْهَان
الثَّانِي دَار فِي يَد ثَالِث ادّعى وَاحِد نصفهَا فَصدق وَادّعى آخر النّصْف الآخر

(7/432)


فكذبه صَاحب الْيَد وَالْمُدَّعِي الآخر وهما لَا يدعيان لأنفسهما فَفِيهِ ثَلَاثَة أوجه
أَحدهَا أَنَّهَا تسلم إِلَيْهِ إِذْ لَا مدعي لَهَا سواهُ
وَالثَّانِي أَنه مَال لَا مَالك لَهُ وَالثَّانِي يتْرك فِي يَده فَإِنَّهُ لَا حجَّة لمدعيه
وَالثَّالِث أَنه تنتزع من يَده وَتحفظ إِلَى أَن نتبين مَالِكه
الثَّالِث أقرّ الثَّالِث لأَحَدهمَا فَهَل يُوجب إِقْرَار صَاحب الْيَد التَّرْجِيح بِمَنْزِلَة الْيَد فِيهِ وَجْهَان
أَحدهمَا نعم كَالْيَدِ
وَالثَّانِي لَا لِأَن هَذِه يَد مُسْتَحقَّة الْإِزَالَة بِالْيَقِينِ
الْحَالة الثَّانِيَة أَن تكون فِي يَد أَحدهمَا
فعندنا تقدم بَيِّنَة صَاحب الْيَد وَهُوَ الدَّاخِل على بَيِّنَة الْخَارِج وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله لَا أثر لبينة صَاحب الْيَد وَلَكنَّا نقُول للداخل فِي إِقَامَة الْبَيِّنَة سِتَّة مقامات

(7/433)


الْمقَام الأول أَن لَا يكون عَلَيْهِ مُدع وَأَرَادَ إِقَامَة بَيِّنَة للتسجيل فَالْمَذْهَب أَنه لَا تسمع إِذْ لَا حجَّة إِلَّا على خصم فطريقه أَن ينصب لنَفسِهِ خصما وَفِيه وَجه أَنه تسمع لغَرَض التسجيل وَإِثْبَات الْملك فَإِن الْيَد لَا تثبت الْملك
الْمقَام الثَّانِي أَن يكون لَهُ خصم مُدع لَا بَيِّنَة لَهُ فَأَرَادَ الرجل إِقَامَة الْبَيِّنَة ليصرف الْيَمين عَن نَفسه فَالْمَذْهَب أَنه لَا تسمع إِذْ الأَصْل فِي جَانِبه الْيَمين بِنَصّ الْخَبَر وَإِنَّمَا يعدل إِلَى الْبَيِّنَة حَيْثُ لَا تكفيه الْيَمين وَخرج ابْن سُرَيج قولا أَنه تسمع كَمَا فِي الْمُودع تسمع بَينته وَإِن قدر على الْيَمين
الْمقَام الثَّالِث أَن يُقيم الْمُدَّعِي بَيِّنَة وَلَكِن لم تعدل فَهَل تسمع بَيِّنَة الدَّاخِل قبل التَّعْدِيل فِيهِ وَجْهَان
أَحدهمَا نعم كَمَا بعد التَّعْدِيل إِذا قَامَت أصل الْحجَّة
وَالثَّانِي لَا لِأَنَّهُ لَا حَاجَة إِلَى أَن يُخَالف منصبه وينهض مُدعيًا وَالْبَيِّنَة تقبل من الْمُدَّعِي
الْمقَام الرَّابِع إِذا عدلت بَيِّنَة الْمُدَّعِي وَلم يبْق إِلَّا الْقَضَاء فَهَذَا أَوَان بَينته فَتسمع عندنَا قطعا لِأَن كَونه صَاحب الْيَد لَا يمنعهُ من دَعْوَى الْملك حَيْثُ لَا تغنيه الْيَد وَلَا الْتِفَات إِلَى قَول من يَقُول إِن بَينته إِنَّمَا تعتمد ظَاهر يَده لِأَن بَيِّنَة الْخَارِج إِنَّمَا تعتمد أَيْضا يدا كَانَت لَهُ لِأَن الْيَد وَالتَّصَرُّف دَلِيل الْملك وَكَونه مُقَارنًا لَا يُؤثر وَمن أَصْحَابنَا من ارتاع من هَذَا وَشرط فِي بَينه الدَّاخِل أَن تشْتَمل على إِسْنَاد الْملك إِلَى سَبَب وَلم يسمع على الْملك الْمُطلق وَهُوَ ضَعِيف
ثمَّ اخْتلف الْأَصْحَاب فِي أَنَّهُمَا يتهاتران وَيسلم الْملك للداخل بِيَمِينِهِ أَو ترجح بِالْيَدِ فَيحكم لَهُ بِمُوجب الْبَيِّنَة فَإِن قُلْنَا يرجح فَهَل يلْزمه الْحلف مَعَ بَينته فِيهِ وَجْهَان كَمَا ذَكرْنَاهُ عِنْد التَّفْرِيع على قَول الْقرعَة

(7/434)


الْمقَام الْخَامِس إِذا لم تكن بَينته حَاضِرَة حَتَّى أزلنا يَده فَجَاءَت بَينته فَإِن ادّعى ملكا مُطلقًا فَهُوَ بَيِّنَة من خَارج وَإِن ادّعى ملكا مُسْتَندا إِلَى مَا قبل إِزَالَة الْيَد وَزعم أَن الْبَيِّنَة كَانَت غَائِبَة فَوَجْهَانِ
أَحدهمَا أَنَّهَا ترد إِلَيْهِ وترجح بِالْيَدِ وَلَا حكم للإزالة السَّابِقَة
وَالثَّانِي أَنه كالخارج لِأَن تيك الْيَد قد اتَّصل الْقَضَاء بزوالها فَلَا ينقص
الْمقَام السَّادِس إِذا أَقَامَ بعد الْقَضَاء بِاسْتِحْقَاق الْإِزَالَة وَلَكِن قبل التَّسْلِيم فَوَجْهَانِ مرتبان وَأولى بِأَن ترجح

فرعان

الأول لَو أَقَامَ الْخَارِج بَيِّنَة على الْملك الْمُطلق وَأقَام الدَّاخِل بَيِّنَة على أَنه ملكه اشْتَرَاهُ من الْخَارِج تقدم بَيِّنَة الدَّاخِل كَمَا لَو أطلق وَلَا تزَال يَده قبل إِقَامَة الْبَيِّنَة وَقَالَ القَاضِي تزَال يَده إِذا ادّعى ذَلِك إِذْ يُقَال اعْترفت لَهُ بِالْملكِ فَسلم إِلَيْهِ ثمَّ أثبت مَا تدعيه من الشِّرَاء وَكَذَلِكَ لَو قَالَ أَدعِي أَنه أَبْرَأ عَن الدّين الْمُدعى بِهِ يُقَال لَهُ سلم الدّين ثمَّ أثبت الْإِبْرَاء فقد انتهضت الْخُصُومَة الأولى كَمَا إِذا ادّعى على الْوَكِيل بِالْخُصُومَةِ إِبْرَاء مُوكله الْغَائِب وجماهير الْقُضَاة على أَنه لَا يُطَالب بِالتَّسْلِيمِ إِذا كَانَت الْبَيِّنَة حَاضِرَة بِخِلَاف الْمُوكل الْغَائِب فَإِن تَأْخِير ذَلِك يطول وَكَذَا لَو قَالَ لي بَيِّنَة غَائِبَة فيكفيه تَسْلِيم الْعين وَالدّين فِي الْحَال
الْفَرْع الثَّانِي من أقرّ لغيره بِملك ثمَّ عَاد إِلَى الدَّعْوَى لم تقبل دَعْوَاهُ حَتَّى يدعى تلقي الْملك مِنْهُ أما إِذا أخرج من يَده بَيِّنَة فجَاء يدعى مُطلقًا فَفِيهِ وَجْهَان
أَحدهمَا أَنه لَا يقبل إِذْ الْبَيِّنَة فِي حَقه كَالْإِقْرَارِ
وَالثَّانِي أَنه يقبل لِأَن الرجل يؤاخد بِإِقْرَار نَفسه فِي الإستقبال ولولاه لم يكن فِي الأقارير فَائِدَة

(7/435)


أما حكم الْبَيِّنَة فَلَا يلْزم بِكُل حَال وَلَا خلاف أَن دَعْوَى ثَالِث بِالْملكِ مُطلقًا تسمع إِذْ لم يلْزمه حكم الْبَيِّنَة المقامة على غَيره فَهَذَا ثَلَاث مَرَاتِب فلتفهم
الْحَالة الثَّالِثَة أَن تكون الدَّار فِي يدهما وَادّعى كل وَاحِد جَمِيعهَا
فَإِن لم تكن بَيِّنَة فيتحالفان إِذْ كل وَاحِد مُدع فِي النّصْف مدعى عَلَيْهِ فِي النّصْف فَيبْدَأ القَاضِي بِمن يرَاهُ أَو بِالْقُرْعَةِ فَإِن حلفا أَو نكلا بَقِي الدَّار فِي يدهما كَمَا كَانَ وَإِنَّمَا يحلف كل وَاحِد على النَّفْي بِخِلَاف المتحالفين فِي البيع إِذْ كل وَاحِد يحلف على إِثْبَات مَا يَدعِيهِ وَنفي مَا يدعى عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ يُمَيّز فِي البيع الْمُدَّعِي عَن الْمُدعى عَلَيْهِ أما هَا هُنَا فالتمييز ظَاهر إِذْ نصف الدَّار مُمَيّز عَن النّصْف الآخر وَمِنْهُم من قَالَ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ قَولَانِ بِالنَّقْلِ والتخريج
أما إِذا حلف الأول وَنكل الثَّانِي ردَّتْ الْيَمين على الأول فَيحلف على الْإِثْبَات فِي النّصْف الآخر لِأَن هَذِه يَمِين الْمُدَّعِي الْمَرْدُودَة
فَلَو أَقَامَ الناكل بَيِّنَة بعد الْيَمين الْمَرْدُودَة فَفِيهِ وَجْهَان ينبنيان على أَن الْيَمين الْمَرْدُودَة كَالْإِقْرَارِ أَو الْبَيِّنَة فَإِن قُلْنَا إِنَّهَا كَالْإِقْرَارِ لم تقبل أما إِذا نكل الأول فتعرض على الثَّانِي يَمِين النَّفْي وَالْيَمِين الْمَرْدُودَة وَفِي تعدد الْيَمين وَجْهَان
أَحدهمَا أَنه يَتَعَدَّد لتَعَدد الْجِهَة
وَالثَّانِي أَنه تَكْفِي يَمِين وَاحِدَة جَامِعَة بَين النَّفْي وَالْإِثْبَات للإيجاز فَيحلف أَن جَمِيع الدَّار لَهُ لَيْسَ لصَاحبه فِيهَا حق فَلَو قَالَ وَالله إِن النّصْف الَّذِي يَدعِيهِ لَيْسَ لَهُ فِيهِ حق وَالنّصف الآخر هُوَ لي اكْتفي بذلك
أما إِذا كَانَ لأَحَدهمَا بَيِّنَة فَتسمع ابْتِدَاء وَإِن كَانَ دَاخِلا فِي النّصْف وَلَكِن تسمع تَابعا لِلنِّصْفِ الآخر وَإِنَّمَا ينقدح الرَّد على رد بَيِّنَة الدَّاخِل وَحده إِذا أنشأ مَعَ الإستغناء عَنهُ وَهَهُنَا احْتَاجَ لأجل النّصْف وَلَكِن لَو أَقَامَ الثَّانِي بَيِّنَة فقد قيل الْآن يجب على الأول إِعَادَة بَينته ليَقَع بعد بَيِّنَة

(7/436)


الْخَارِج وَلَا يبعد التساهل فِيهِ أَيْضا
الْمدْرك الثَّالِث اشْتِمَال إِحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ على زِيَادَة تَارِيخ أَو سَبَب ملك وَالنَّظَر فِي أَطْرَاف
الأول فِي التَّارِيخ فَإِن تَسَاويا فِي التَّارِيخ فيتعارضان وَإِن شهِدت إِحْدَاهمَا على الْملك مُنْذُ سنة وَالْأُخْرَى مُنْذُ سنتَيْن فَفِيهِ قَولَانِ
أَحدهمَا أَنَّهَا يتعارضان إِذْ الْمَطْلُوب هُوَ الْملك فِي الْحَال فَلَا تَأْثِير للسبق
وَالثَّانِي ترجح السَّابِقَة وَهُوَ اخْتِيَار الْمُزنِيّ وَمذهب أبي حنيفَة رَحمَه الله لِأَن مَا سبق ثُبُوته فَالْأَصْل بَقَاؤُهُ فيصلح للترجيح وَاسْتدلَّ الْمُزنِيّ بِمَا لَو شهِدت إِحْدَاهمَا النِّتَاج فِي يَده أَو سَبَب آخر من أَسبَاب الْملك فَإِنَّهُ يقْضِي بتقديمها وَقضى الْأَصْحَاب بطرد الْقَوْلَيْنِ وَإِن شهِدت إِحْدَاهمَا على سَبَب الْملك أَيْضا
وَيجْرِي الْقَوْلَانِ فِي بَيِّنَة الزَّوْجَيْنِ على الزَّوْجِيَّة إِذا سبق التَّارِيخ فَإِن كَانَت إِحْدَى البنتين مُطلقَة وَالْأُخْرَى مؤرخة فَقَوْلَانِ مرتبان وَأولى بِأَن لَا ترجح لِأَن الْمُطلقَة كالعامة
أما إِذا كالن السَّبق فِي جَانب وَالْيَد فِي جَانب فَإِن قُلْنَا السَّبق لَا تَرْجِيح بِهِ فاليد مُقَدّمَة وَإِن رجحنا بِهِ فهاهنا ثَلَاثَة أوجه

(7/437)


أَحدهَا أَن السَّبق أولى
وَالثَّانِي الْيَد أولى
وَالثَّالِث أَنَّهُمَا يتعارضان
تَنْبِيهَات

الأول إِذا شهِدت الْبَيِّنَة على ملك إِنْسَان بالْأَمْس وَلم تتعرض لَهُ فِي الْحَال لم تقبل على الْجَدِيد بِخِلَاف مَا لَو شهد على إِقْرَاره بالْأَمْس فَإِنَّهُ يثبت الْإِقْرَار وَالْإِقْرَار الثَّابِت مستدام حكمه وَعَلِيهِ عمل الْأَوَّلين وَإِلَّا لبطلت فَائِدَة الأقارير لِأَن الْمقر يخبر عَن تَحْقِيق فَيظْهر استصحابه وَالشَّاهِد يشْهد على تخمين فِي الْملك فَإِذا لم يَنْضَم إِلَيْهِ الْجَزْم فِي الْحَال لم يُؤثر وَكَذَلِكَ لَو شهِدت الْبَيِّنَة على أَنه كَانَ ملكه بالْأَمْس اشْتَرَاهُ من صَاحب الْيَد فَتقبل لِأَنَّهُ يدْرك يَقِينا بِخِلَاف مَا لَو قَالَ اشْتَرَاهُ من غَيره لِأَنَّهُ لَا يكون حجَّة على صَاحب الْيَد أما إِذا أقرّ الْمُدعى عَلَيْهِ بِملك سَابق وَقَالَ للْمُدَّعِي كَانَ ملكك أمس فَهَل يلْزمه التَّسْلِيم استصحابا فِيهِ وَجْهَان
أَحدهمَا أَنه يلْزمه كَمَا لَو ثَبت إِقْرَاره بالْأَمْس
وَالثَّانِي لَا كَمَا لَو شهِدت الْبَيِّنَة على ملكه بالْأَمْس فَإِنَّهُ مردد بَينهمَا ثَلَاث مَرَاتِب وَهَاهُنَا قَول قديم أَن الْبَيِّنَة وَإِن شهِدت على الْملك بالْأَمْس فَتقبل كَالْإِقْرَارِ بالْأَمْس وَوجه غَرِيب مَال إِلَيْهِ القَاضِي أَن الْإِقْرَار السَّابِق إِذا شهِدت عَلَيْهِ الْبَيِّنَة لَا يسمع مَا لم يتَعَرَّض الشَّاهِد للْملك فِي الْحَال وَالْمَشْهُور الْفرق كَمَا سبق

التَّفْرِيع
إِذا فرعنا على الْجَدِيد فسبيل الشَّاهِد أَن يَقُول كَانَ ملكه بالْأَمْس وَلم يزل أَو هُوَ الْآن ملكه وَيكون مُسْتَنده فِيهِ الإستصحاب وَيجوز ذَلِك إِذا لم يعلم مزيلا فَلَو

(7/438)


صرح بِأَنِّي مستصحب ملكه فَإِنِّي لَا أعلم مزيلا قَالَ الْأَصْحَاب لَا تقبل كَشَهَادَة الرَّضَاع على صُورَة الإمتصاص وحركة الْحُلْقُوم وَقَالَ القَاضِي تقبل إِذْ نعلم أَنه لَا مُسْتَند لَهُ سواهُ بِخِلَاف الرَّضَاع إِذْ يدْرك ذَلِك بقرائن لَا تعرب الْعبارَة عَنهُ نعم لَو قَالَ الشَّاهِد فِي معرض مرتاب لَا أَدْرِي أَزَال ملكه أَو لم يزل لم تسمع لفساد الصِّيغَة
أما إِذا قَالَ لَا أعلم مزيلا كَفاهُ وَأكْثر الْأَصْحَاب على أَنه لَا بُد من الْجَزْم فِي الْحَال
وَلَا خلاف أَن الْبَيِّنَة لَو شهِدت بِأَنَّهُ كَانَ فِي يَد الْمُدَّعِي بالْأَمْس قبل وَجعل الْمُدَّعِي صَاحب الْيَد
التَّنْبِيه الثَّانِي لَا توجب الْملك لَكِن تظهره وَمن ضَرُورَته التَّقَدُّم بلحظة على الْإِقَامَة فَلَو كَانَ الْمُدعى دَابَّة فنتاجها الَّذِي نتج قبل الْإِقَامَة للْمُدَّعى عَلَيْهِ وَمَا نتج بعد الْإِقَامَة وَقبل التَّعْدِيل فللمدعي فَلَو كَانَت
شَجَرَة ثَمَرَتهَا بادية فَهِيَ للْمُدَّعى عَلَيْهِ
وَفِي الْحمل احْتِمَال إِذْ انْفِصَال الْملك فِيهِ مُمكن بِالْوَصِيَّةِ وَهَذَا فِي الْبَيِّنَة الْمُطلقَة الَّتِي لَا تتعرض لملك سَابق
التَّنْبِيه الثَّالِث أَن مُقْتَضى مَا ذَكرْنَاهُ أَن لَا يرجع المُشْتَرِي بِالثّمن إِذا أَخذ مِنْهُ الْمَبِيع بِبَيِّنَة مُطلقَة لِأَنَّهُ لَيْسَ يَقْتَضِي الزَّوَال إِلَّا من الْوَقْت قَالَ القَاضِي يحْتَمل أَن يُقَال لَا يرجع إِذا كَانَت الدَّعْوَى وَالْبَيِّنَة مستندة إِلَى ملك سَابق وَإِطْلَاق الْأَصْحَاب يحمل على

(7/439)


أَنهم أَرَادوا ذَلِك فَإِنَّهُ غير نَادِر لكنه قَالَ فِي كَلَام الْأَصْحَاب مَا يدل على خلاف مَا قلته إِذْ قَالُوا لَو أَخذ من المُشْتَرِي أَو الْمُتَّهب من المُشْتَرِي فَلِلْمُشْتَرِي الأول الرُّجُوع على البَائِع مِنْهُ وَلَعَلَّ سَببه أَن الْبَيِّنَة إِذا كَانَت مُطلقَة لَا تشهد على إِزَالَة الْملك فَيحمل على الصدْق الْمُطلق فالحاجة تمس إِلَى ذَلِك فِي عُهْدَة الْعُقُود
أما إِذا ادّعى عَلَيْهِ أَنَّك أزلت الْملك فَأنْكر وَقَامَت الْبَيِّنَة على إِزَالَته فَلَا رُجُوع لَهُ وَأما مُجَرّد دَعْوَى الْمُدَّعِي للإحالة عَلَيْهِ فَلَا تمنع الرُّجُوع إِذا لم تشهد الْبَيِّنَة عَلَيْهِ
التَّنْبِيه الرَّابِع لَو ادّعى أَرضًا وزرعا فِيهَا وَأقَام بَيِّنَة عَلَيْهَا وَأَنه زَرعهَا وَأقَام صَاحب الْيَد بَيِّنَة أما الأَرْض فَلصَاحِب الْيَد وَأما الزَّرْع فيبنى على أَن السَّبق وَالْيَد إِذا اجْتمعَا أَيهمَا يقدم
الْخَامِس إِذا ادّعى ملكا مُطلقًا فَذكر الشَّاهِد الْملك وَسَببه لم يضر لَكِن إِن طلب الْخصم تَقْدِيم حجَّته لاشتمالها على ذكر السَّبَب فَلَا يُجَاب إِلَيْهِ إِلَّا بِأَن تُعَاد الْبَيِّنَة بعد دَعْوَاهُ فَإِن الذّكر قبل الدَّعْوَى لاغ وَلَا تجرح الْبَيِّنَة بِخِلَاف مَا لَو ادّعى ألفا فَشَهِدت البينت على أَلفَيْنِ رد فِي الزِّيَادَة لِأَنَّهَا زِيَادَة مُسْتَقلَّة وَهل ترد فِي الْبَاقِي كَيْلا تتبعض الْبَيِّنَة فِيهِ وَجْهَان
فَإِن قُلْنَا ترد فَهَل يصير الشَّاهِد مجروحا بِهِ فِيهِ وَجْهَان يجْرِي فِي كل شَهَادَة تُؤدِّي قبل الدَّعْوَى
وَلَو ذكر الْمُدَّعِي سَببا وَذكر الشَّاهِد سَببا آخر فَالصَّحِيح أَنه لَا يقبل للتناقض وَقيل تقبل على الْملك ويلغى السَّبَب

(7/440)


الطّرف الثَّانِي التَّنَازُع فِي الْعُقُود

وَفِيه مسَائِل
الأولى إِذا قَالَ صَاحب الدَّار أكريت بَيْتا من الدَّار بِعشْرَة وَقَالَ الْمُكْتَرِي بل اكتريت الْكل بِعشْرَة وَأقَام كل وَاحِد بَيِّنَة قَالَ ابْن سُرَيج بَيِّنَة الْمُكْتَرِي أولى لاشْتِمَاله على ذكر زِيَادَة حَتَّى لَو قَالَ الْمكْرِي اكتريت جَمِيع الدَّار بِعشْرين وَقَالَ الْمُكْتَرِي بل بِعشْرَة فَبَيِّنَة الْمكْرِي أولى لِأَن فِيهِ زِيَادَة وَهُوَ ضَعِيف بل الصَّحِيح التَّعَارُض لِأَن هَذِه زِيَادَة فِي مِقْدَار الْمَشْهُود بِهِ وَلَيْسَ فِيهِ زِيَادَة إِيضَاح بِخِلَاف استناد الْملك إِلَى سَبَب أَو تَارِيخ سَابق فَإِن فرعنا على التَّعَارُض ورأينا التهاتر فيتحالفان وَكَأَنَّهُ لَا بَيِّنَة وَلَا تجْعَل الزِّيَادَة مرعية وَبِه يتَبَيَّن ضعف رَأْي ابْن سُرَيج وَإِن قُلْنَا بِالْوَقْفِ فَلَا وَجه لَهُ إِذْ الْمَنَافِع تفوت وَإِن قُلْنَا بِالْقِسْمَةِ فَكَذَلِك فَإِن الزِّيَادَة يدعيها وَاحِد وينفيها الآخر وَإِنَّمَا يُمكن الْقِسْمَة إِذا ادّعى كل وَاحِد لنَفسِهِ وَأما الْقرعَة فممكن وَلَكِن اسْتِعْمَالهَا ضَعِيف لِأَنَّهَا لَا تسْتَعْمل إِلَّا فِي إِفْرَاز الْحُقُوق الْمُشْتَركَة لينقطع النزاع أَو فِي الْعتْق للْخَبَر
وَمن رأى الْقِسْمَة أَو الْوَقْف وَتعذر عَلَيْهِ اخْتلفُوا مِنْهُم من رَجَعَ إِلَى قَول التهاتر لعسر

(7/441)


الإستعمال وَمِنْهُم من رَجَعَ إِلَى الطَّرِيق الْمُمكن فِي الإستعمال وَهُوَ الْقرعَة فَيرى الإستعمال بِأحد الطّرق أولى من التهاتر
الثَّانِيَة إِذا ادّعى رجلَانِ دَارا فِي يَد ثَالِث يزْعم كل وَاحِد أَن الثَّالِث قد بَاعه وَقبض مِنْهُ مائَة فِي ثمنهَا فتجري الْأَقْوَال الْأَرْبَعَة فِي بينتيهما لَكِن لَا بُد من الْبَيِّنَة لأمور
أَحدهَا أَنا على قَول الْقرعَة نسلم الدَّار إِلَى من خرجت قرعته ونسلم الثّمن إِلَى الثَّانِي لِأَن الْقرعَة مُؤثرَة فِي مَحل التَّنَاقُض وَهُوَ رَقَبَة الدَّار أما اجْتِمَاع الثمنين عَلَيْهِ فممكن لَا تضَاد فِيهِ
وعَلى قَول الْوَقْف تخرج الدَّار وَالثمن من يَده ويتوقف فيهمَا
وعَلى قَول الْقِسْمَة يَأْخُذ كل وَاحِد نصف الدَّار وَنصف الثّمن ثمَّ لكل وَاحِد أَن يمْتَنع

(7/442)


عَن النّصْف لتبعض الْمَبِيع عَلَيْهِ فَيرجع إِلَى جَمِيع الثّمن فَإِن فسخ
أَحدهمَا فللآخر أَن يطْلب جَمِيع الدَّار إِذْ يَقُول كَانَت الْقِسْمَة لأجل المزاحم وَقد انْدفع وَفِيه وَجه أَنه يقْتَصر على النّصْف
الثَّانِي أَن الشَّيْخ أَبَا مُحَمَّد قَالَ لَا أجري قَول الْقرعَة إِذا كَانَتَا مطلقتين غير مؤرختين حَتَّى يؤرخا بتاريخ وَاحِد يظْهر تناقضه إِذْ هِيَ لتمييز الْكَاذِب وصدقهما مُمكن بتعاقب عقدين بعد تخَلّل ملك وَهَذَا ضَعِيف بل هِيَ لتقديم أحد المتساويين
الثَّالِث أَن الربعِي خرج قولا خَامِسًا وَهُوَ أَن تسْتَعْمل الْبَيِّنَتَانِ لفسخ الْعقْدَيْنِ إِذْ تعذر عقد كل وَاحِد بِسَبَب بَيِّنَة الآخر
الرَّابِع أَن الْأَقْوَال تجْرِي إِذا كَانَتَا مطلقتين أَو مؤرختين بتاريخ وَاحِد أما إِذا سبق تَارِيخ إِحْدَاهمَا فَهِيَ مُقَدّمَة لِأَن البيع إِذا ثَبت سبقه منع صِحَة مَا بعده
الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة عكس الثَّانِيَة وَهُوَ أَن يَدعِي كل وَاحِد مِنْهُمَا بيع الدَّار من الثَّالِث بِأَلف ومقصودهما طلب الْألف وَترك الدَّار فِي يَده فَالصَّحِيح أَن الْأَقْوَال لَا تجْرِي لِأَن الذِّمَّة متسعة لإِثْبَات الثمنين فَيلْزمهُ توفيتهما بِخِلَاف مَا إِذا كَانَ الْمَطْلُوب مِنْهُ رَقَبَة الدَّار لِأَنَّهَا وَاحِدَة تضيق وَمن الْأَصْحَاب من أجْرى الْأَقْوَال لِأَنَّهُمَا ربطا الثمنين بِعَين وَاحِدَة وَلَا يَصح ذَلِك إِلَّا إِذا عينا وقتا وَاحِدًا يَسْتَحِيل تَقْدِير الْجمع وَإِلَّا فلزوم الثمنين فِي عقدين بَينهمَا بِبَدَل ملك مُمكن إِلَّا أَن تعْيين وَقت وَاحِد لَا يَتَّسِع لكلمتين أَيْضا لَا يُدْرِكهُ الْحس إِلَّا إِذا اكتفينا بِجَوَاز شَهَادَة النَّفْي مهما اسْتندَ إِلَى وَقت معِين فَإِن السُّكُوت عَن البيع يُشَاهد فنعلم أَنه نفى البيع وَفِي مثل تِلْكَ الشَّهَادَة خلاف

(7/443)


الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة ادّعى عبد أَن مَوْلَاهُ أعْتقهُ وَادّعى آخر أَن مَوْلَاهُ بَاعه مِنْهُ وَأقَام كل وَاحِد بَيِّنَة فَإِن كَانَ فيهمَا تَارِيخ قدم السَّابِق لِأَنَّهُ يمْنَع صِحَة مَا بعده وَإِن لم يكن جرى الْأَقْوَال كلهَا
وعَلى قَول الْقِسْمَة يعْتق نصف العَبْد وَيحكم بِالْملكِ فِي النّصْف وَالصَّحِيح أَنه لَا يسري إِلَيْهِ الْعتْق لِأَنَّهُ مَحْكُوم بِهِ قهرا وَذكر الْعِرَاقِيُّونَ قَوْلَيْنِ وَزَعَمُوا أَنه يسري إِلَيْهِ الْعتْق فِي قَول لِأَنَّهُ حكم عَلَيْهِ بِاخْتِيَارِهِ الْعتْق وَاعْترض الْمُزنِيّ وَقَالَ يَنْبَغِي أَن تقدم بَيِّنَة الْعتْق لِأَن العَبْد كصاحب الْيَد فِي حق رقبته وَهُوَ ضَعِيف لِأَنَّهُ فِي يَد سَيّده مَا لم يثبت عتقه فَهُوَ يَدعِي الْيَد وَلم تثبت بعد

(7/444)


الطّرف الثَّالِث فِي النزاع فِي الْمَوْت وَالْقَتْل

وَفِيه مسَائِل ثَلَاثَة
الأولى رجل مَعْرُوف بالتنصر مَاتَ وَله ابْن مُسلم يَدعِي أَنه مَاتَ مُسلما والإبن النَّصْرَانِي يَدعِي أَنه لم يسلم فَالْقَوْل قَول النَّصْرَانِي لِأَن الأَصْل عدم الْإِسْلَام
وَلَو أَقَامَ كل وَاحِد بَيِّنَة قدمت بَيِّنَة الْمُسلم لاشتمالها على زِيَادَة ناقلة عَن الإستصحاب وَكَذَلِكَ إِذا ادّعى الإبن الْإِرْث فِي دَار فأقامت زَوْجَة أَبِيه بَيِّنَة أَنه أصدقهَا الدَّار أَو اشترتها من أَبِيه قدمت بينتها
أما إِذا شهِدت بَيِّنَة النَّصْرَانِي أَنه نطق بتنصر وَمَات عَقِيبه فقد تَعَارضا فتجري الْأَقْوَال الْأَرْبَعَة وَقَالَ أَبُو إِسْحَق الْمروزِي لَا يجْرِي قَول الْقِسْمَة إِذْ لَا يشْتَرك فِي الْمِيرَاث مُسلم وَكَافِر وَهَذَا ضَعِيف إِذْ كل بَيِّنَة تَقْتَضِي كَمَال الْملك لصَاحِبهَا فَانْدفع فِي النّصْف بِالْأُخْرَى إِذْ لَيْسَ أَحدهمَا بِأولى فَيَكْفِي إِمْكَان الشّركَة فِي جنس الْملك
أما إِذا كَانَ الْمَيِّت مَجْهُول الدّين فَقَالَ كل وَاحِد مِنْهُمَا لم يزل على ديني حَتَّى مَاتَ فَلَيْسَ أَحدهمَا أولى بِأَن يَجْعَل القَوْل قَوْله فتجعل التَّرِكَة كَمَال فِي يَد اثْنَيْنِ تنازعاه وَقَالَ القَاضِي إِن كَانَ فِي يَد أَحدهمَا كَانَ القَوْل قَوْله وَهَذِه زلَّة لِأَنَّهُ معترف بِأَن يَده من جِهَة الْمِيرَاث فَلَا أثر ليده مَعَ ذَلِك
فَإِن أَقَامَ كل وَاحِد بَيِّنَة جرت الْأَقْوَال الْأَرْبَعَة وَقيل بَيِّنَة الْإِسْلَام تقدم لِأَنَّهُ الظَّاهِر فِي

(7/445)


دَار الْإِسْلَام وَهَذَا بعيد إِذْ لَو كَانَ كَذَلِك لجعل القَوْل قَوْله نعم نَص الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ أَن هَذَا الشَّخْص يغسل وَيصلى عَلَيْهِ إِذا أشكل أمره وَالصَّلَاة على نَصْرَانِيّ أَهْون من ترك الصَّلَاة على مُسلم
الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة مَاتَ نَصْرَانِيّ وَله ابْن مُسلم يَدعِي أَنه أسلم بعد مَوته فيرث وَابْنه النَّصْرَانِي يَدعِي أَنه أسلم قبل مَوته فَلَا يَرث فللمسألة حالتان
إِحْدَاهمَا أَن يتَّفقَا على أَنه أسلم فِي رَمَضَان وَلَكِن ادّعى أَن الْأَب مَاتَ فِي شعْبَان وَقَالَ الْأَخ النَّصْرَانِي بل مَاتَ فِي شَوَّال فَالْقَوْل قَول النَّصْرَانِي لِأَن الأَصْل بَقَاء الْحَيَاة فَإِن أَقَامَ كل وَاحِد بَيِّنَة قَالَ الْأَصْحَاب تقدم بَيِّنَة الْمُسلم لاشتمالها على زِيَادَة علم بِالْمَوْتِ فِي شعْبَان أما كَونه مَيتا فِي شَوَّال فمشترك قَالَ الإِمَام هَذَا ضَعِيف لِأَن من يشْهد على الْمَوْت فِي شَوَّال يشْهد على مَوته عَن حَيَاة وَإِذا ثَبت الْحَيَاة حصل التَّعَارُض فتجري الْأَقْوَال
الْحَالة الثَّانِيَة اتفقَا على أَنه مَاتَ فِي رَمَضَان وَلَكِن قَالَ الْمُسلم أسلمت فِي شَوَّال وَقَالَ النَّصْرَانِي بل أسلمت فِي شعْبَان فَالْقَوْل قَول الْمُسلم إِذْ الأَصْل بَقَاء الْكفْر وَإِن كَانَ لَهما بَيِّنَة فَتقدم بَيِّنَة النَّصْرَانِي لِأَن الناقلة أولى من المستصحبه

(7/446)


فرع
زَوْجَة مسلمة وَأَخ مُسلم وابنان كَافِرَانِ تنازعوا فِي إِسْلَام الْمَيِّت وتعارضت بينتان فَإِن رَأينَا الْقِسْمَة فالنصف للإثنين فَإِنَّهُمَا فريق وَالنّصف للزَّوْجَة وَالْأَخ ثمَّ الزَّوْجَة تَأْخُذ الرّبع من هَذَا النّصْف لِأَن الإبن مَحْجُوب بقولهمَا فَلَا نردها إِلَى الْيَمين
وَلَو خلف أبوين كَافِرين وابنين مُسلمين وَتَنَازَعُوا فِي دين الْمَيِّت فَوَجْهَانِ
أَحدهمَا أَن القَوْل قَول الْأَبَوَيْنِ لِأَن الظَّاهِر أَن الْوَلَد يكون على دين الْأَبَوَيْنِ
وَالثَّانِي أَن القَوْل قَول الإبنين لِأَن الْإِسْلَام يَنْبَغِي أَن يغلب بِالدَّار
الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة قَالَ لعَبْدِهِ إِن قتلت فَأَنت حر فَشهد اثْنَان أَنه قتل وَشهد آخرَانِ أَنه مَاتَ حتف أَنفه فَقَوْلَانِ
أَحدهمَا التَّعَارُض
وَالثَّانِي تَقْدِيم بَيِّنَة الْقَتْل لاشتمالها على زِيَادَة إِذْ كل قَتِيل ميت وَلَيْسَ كل ميت قَتِيلا وَلَو قَالَ لسالم إِن مت فِي رَمَضَان فَأَنت حر وَقَالَ لغانم إِن مت فِي شَوَّال فَأَنت حر وَأقَام كل وَاحِد بَيِّنَة فَقَوْلَانِ
أَحدهمَا التَّعَارُض
وَالثَّانِي تَقْدِيم بَيِّنَة رَمَضَان لزِيَادَة علمهَا بِتَقْدِيم الْمَوْت وَقَالَ ابْن سُرَيج بَيِّنَة شَوَّال أولى لِأَنَّهُ رُبمَا يغمى عَلَيْهِ فِي رَمَضَان فيظن مَوته
فرع إِذا تنَازع الزَّوْجَانِ فِي مَتَاع الْبَيْت فَهُوَ فِي يدهما وَلَا يخْتَص السِّلَاح بِالرجلِ وَلَا آلَة الْغَزل بِالْمَرْأَةِ خلافًا لأبي حنيفَة رَحمَه الله

(7/447)


الطّرف الرَّابِع فِي النزاع فِي الْوَصِيَّة وَالْعِتْق

وَفِيه مسَائِل
الأولى إِذا قَامَت بَيِّنَة على أَنه أعتق فِي مَرضه عبدا وَهُوَ ثلث مَاله وَقَامَت بَيِّنَة أُخْرَى لعبد آخر فَالْقِيَاس أَن يَجْعَل كَأَنَّهُ أعتقهما مَعًا فيقرع بَينهمَا لَكِن نَص الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ على أَنه يعْتق من كل وَاحِد نصفه فَيجب تَنْزِيله على مَوضِع لَا تجْرِي فِيهِ الْقرعَة وَذَلِكَ بِأَن يتَقَدَّم عتق أَحدهمَا فَإِنَّهُ لَا قرعَة وَلَو تقدم عتق أَحدهمَا وَلَكِن أشكل السَّابِق فَهُوَ كالإعتاق مَعًا أَو كالتعاقب فِيهِ قَولَانِ فَإِن قُلْنَا لَا يقرع فَيحمل تعَارض الْبَيِّنَتَيْنِ على هَذِه الصُّورَة ونقول الْغَالِب أَنه أعتقهما ترتيبا وأشكل الْأَمر فَلَا قرعَة فَيقسم عَلَيْهِمَا
الثَّانِيَة الْمَسْأَلَة بِحَالِهَا لَكِن أحد البعدين سدس المَال فَحَيْثُ يقرع لَو خرج على الخسيس يعْتق بِكَمَالِهِ وَيعتق من النفيس نصفه لتكملة الثُّلُث وَلَو خرج على النفيس اقْتصر عَلَيْهِ فَإِنَّهُ كَمَال الثُّلُث وَحَيْثُ نرى الْقِسْمَة على قَول فَفِي كفيته وَجْهَان
أَحدهمَا أَنه يعْتق من كل وَاحِد ثُلُثَاهُ لِأَن النفيس يضارب بِضعْف مَا يضارب بِهِ الخسيس كَمَا لَو أوصى لزيد بِكُل مَاله ولعمرو بِثلث مَاله وَأَجَازَ الْوَرَثَة الْوَصَايَا إِذْ يقسم المَال بَينهمَا أَربَاعًا فَإِن زيدا يضارب بِثَلَاثَة أَمْثَال مَا يضارب بِهِ عَمْرو

(7/448)


وَالْوَجْه الثَّانِي وَهُوَ مَذْهَب أبي حنيفَة رَحمَه الله أَنه يعْتق من النفيس ثَلَاثَة أَربَاع وَمن الخسيس نصفه لِأَن النفيس يَقُول إِن أعتقت أَولا فجميعي حر وَإِن تَأَخَّرت فنصفي حر فَنصف مُسلم لَا خلاف فِيهِ إِنَّمَا النزاع فِي النّصْف الآخر وَهُوَ قدر سدس بيني وَبَيْنك فَيقسم عَلَيْهِمَا وَهَذَا أَيْضا يَنْبَغِي أَن يطرد فِي مَسْأَلَة الْوَصِيَّة فَيَقُول زيد أما الثُّلُثَانِ فَهُوَ مُسلم لي وَإِنَّمَا التزاحم فِي الثُّلُث فَيقسم علينا فَيحصل زيد على خَمْسَة أَسْدَاس وَعَمْرو على سدس وَهُوَ مَذْهَب أبي حنيفَة رَحمَه الله
الثَّالِثَة شهد أجنبيان أَنه أوصى بِعِتْق عَبده غَانِم وَهُوَ ثلث المَال وَشهد وارثان بِأَنَّهُ رَجَعَ عَنهُ وَأوصى بسالم وَهُوَ أَيْضا ثلث ثَبت بقول الْوَارِثين عتق سَالم وَالرُّجُوع عَن غَانِم إِذْ لَا تُهْمَة عَلَيْهِمَا فِي تَبْدِيل مَحل الْعتْق وَلَا نظر إِلَى تبدل الْوَلَاء فَلَا يتهم الْعدْل بِمثلِهِ أما إِذا كَانَ سَالم سدس المَال فَهُوَ مُتَّهم بتنقيص السُّدس فَترد فِي قدر السُّدس وَالشَّهَادَة إِذا ردَّتْ فِي بعض فَهَل ترد فِي الْبَاقِي قَولَانِ فَإِن قُلْنَا إِنَّهَا ترد فَيعتق العبدان جَمِيعًا الأول بِالشَّهَادَةِ إِذْ ردَّتْ شَهَادَة الرُّجُوع وَالثَّانِي يعْتق بِإِقْرَار الْوَارِث وَقد نَص الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ على عتقهما
وَإِن قُلْنَا لَا ترد فِي الْبَاقِي فقد شهد على الرُّجُوع عَن جَمِيع غَانِم وَهُوَ مُتَّهم فِي النّصْف إِذْ لم يثبت لَهُ بَدَلا وَلَا يتهم فِي النّصْف فِي نصف غَانِم وَيعتق نصفه مَعَ جَمِيع سَالم لِأَن نصف غَانِم سدس وَجُمْلَة سَالم سدس وَالثلث يَفِي بهما فَكَأَنَّهُ أوصى بِعِتْق نصف غَانِم وَجَمِيع سَالم وَيحْتَمل أَن يُقَال الرُّجُوع لَا يتَجَزَّأ فَتبْطل الشَّهَادَة على الرُّجُوع عَن عتق غَانِم وَتبقى الشَّهَادَة بِالْعِتْقِ لغانم وَشَهَادَة الْوَرَثَة كَشَهَادَة الْأَجَانِب فَكَأَنَّهُ ثَبت عتقهما جَمِيعًا فيقرع بَينهمَا فَإِن خرج على غَانِم عتق فَقَط وَإِن خرج على سَالم عتق وَعتق مَعَه من غَانِم نصفه ليكمل الثُّلُث

(7/449)


الرَّابِعَة شهِدت بَيِّنَة أَنه أوصى لزيد بِالثُّلثِ وَشهِدت أُخْرَى لعَمْرو بِالثُّلثِ وَشهِدت أُخْرَى بِالرُّجُوعِ عَن إِحْدَى الوصيتين لَا بِعَينهَا قَالَ الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ يقسم الثُّلُث بَينهمَا قَالَ الْأَصْحَاب سَببه رد شَهَادَة الرُّجُوع لِأَنَّهَا مجملة وَقَالَ الْقفال تقبل شَهَادَة الرُّجُوع لِأَن الْمَشْهُود عَلَيْهِ والمشهود لَهُ معِين
وَتظهر فَائِدَة الْخلاف فِيمَا لَو كَانَ شهد كل بَيِّنَة بالسدس فَإِن رددنا شَهَادَة الرُّجُوع المجملة أعطينا كل وَاحِد سدسا كَامِلا وَإِن قبلنَا الشَّهَادَة وزعنا سدسا وَاحِدًا عَلَيْهِمَا
وَقد تمّ الْكَلَام فِي الدَّعَاوَى فلنذكر دَعْوَى النّسَب

(7/450)