تحفة المحتاج بشرح المنهاج ط العلمية

ج / 3 ص -147-        كتاب قسم الصدقات
أي الزكوات لمستحقيها وجمعها باختلاف أنواعها سميت بذلك لإشعارها بصدق باذلها ولشمولها للنفل وضعا ذكره في فصل آخر الباب ورتبهم على ما يأتي مخالفا لمن ابتدأ بالعامل لتقدمه في القسم لكونه يأخذه عوضا تأسيا بالآية المشار فيها فاللام الملك في الأربعة الأول إلى إطلاق ملكهم وتصرفهم وبفي الظرفية في الأربعة الأخيرة إلى تقييده بالصرف فيما أعطوا لأجله وإلا استرد على ما يأتي وبواو الجمع ليفيد اشتراكهم على السواء فلا يجوز حرمان بعضهم ولا إعطاؤه أقل من الثمن على ما يأتي أيضا وأما قول المخالف القصد مجرد بيان المصرف فيجوز دفع المالك زكاته لصنف بل لواحد منه كفقير فهو مخالف لقاعدة اللغة فيحتاج لدليل إذ ما لا عرف للشارع فيه يجب حمله على اللغة ومما يصرح بما قلناه الاتفاق في نحو الوصية, أو الوقف, أو النذر أو الإقرار لزيد وعمرو وبكر بشيء على أنه يصرف إليهم على السواء وذكر أكثر الأصحاب كالمختصر هذا هنا; لأنه كسابقيه يجمعه الإمام ويفرقه وأقلهم كالأم آخر الزكاة لتعلقه بها ومن ثم كان أنسب وجرى عليه في الروضة.
"الفقير من لا مال له" قيل هذا ملفت فإنه لم يذكر ما يربطه ا هـ وليس في محله لبناء زعم التلفت على زعم أنه لم يذكر رابطا فإن أراد الربط النحوي فليس هنا ما يحتاج إليه فيه أو المعنوي فهو مذكور بل متكرر في كلامه الآتي وبفرض أنه لم يذكر ما يأتي من أن هؤلاء الأصناف الثمانية هم المستحقون لهذه الصدقات لم يكن مفلتا; لأن دلالة السياق محكمة, وهي قاضية عند من له أدنى ذوق بأن المراد قسمتها لمستحقيها, وأنهم المبينون في كلامه "ولا كسب" حلال لائق به "يقع" جميعهما, أو مجموعهما "موقعا من حاجته" من مطعم وملبس ومسكن وسائر ما لا بد منه لنفسه وممونه الذي تلزمه مؤنته لا غيره. وإن اقتضت العادة إنفاقه خلافا لبعضهم وكأنه توهمه من كلام السبكي الآتي رده على ما يليق به وبهم من غير إسراف ولا تقتير كمن يحتاج عشرة ولا يجد إلا درهمين وقال المحاملي إلا ثلاثة والقاضي إلا أربعة واعترض بأنه يقع موقعا وقضية الحد أن الكسوب غير فقير, وإن لم يكتسب, وهو كذلك هنا وفي الحج في بعض صوره كما مر وفيمن تلزمه نفقة فرعه بخلافه في الأصل المنفق عليه لحرمته كما يأتي إن وجد من يستعمله وقدر عليه أي: بأن لم يكن عليه فيه مشقة لا تحتمل عادة فيما يظهر وحل له تعاطيه ولاق به كما يأتي وإلا أعطي, وأن ذا المال الذي عليه قدره, أو أقل بقدر لا يخرجه عن الفقر ولو حالا على المعتمد غير فقير أيضا فلا يعطى من سهم الفقراء حتى يصرف ما معه في الدين, ونزاع الرافعي فيه الناشئ عن تناقض حكي عنه هنا وفي العتق بأنه ينبغي أن لا يعتبر كما منع وجوب نفقة القريب وزكاة الفطر مردود بأن في منعه للفطرة تناقضا مر أي وعلى المنع ثم

 

ج / 3 ص -148-        يفرق بأن تلك مواساة في مقابلة طهرة البدن, وهو ليس من أهلها لتعلق الدين بذمته وما هنا ملحظه الاحتياج, وهو قبل صرف ما بيده غير محتاج, وبأن نفقة القريب تجب مع الدين كما ذكروه في الفلس فوجوب الزكاة فيه ونفقة القريب معه يقتضيان الغنى ثم هذا الحد لفقير الزكاة لا فقير العرايا والعاقلة ونفقة الممون وغيرهم مما هو معلوم في محاله ومن له عقار ينقص دخله عن كفايته فقير, أو مسكين بناء على ما يأتي أنه يعطى كفاية العمر الغالب نعم إن كان نفيسا ولو باعه حصل به ما يكفيه دخله لزمه بيعه على الأوجه. "ولا يمنع الفقر" والمسكنة كما يأتي "مسكنه" الذي يحتاجه ولاق به, وإن اعتاد السكن بالأجرة بخلاف ما لو نزل في موقوف يستحقه على الأوجه فيهما; لأن هذا كالمالك بخلاف ذاك ويتردد النظر في مكفية بإسكان زوجها هل تكلف بيع دارها فيما لم يكفها الزوج إياه; لأنها مستغنية عنه الآن كالساكن بالموقوف, أو يفرق بأن الناظر لا يقدر على إخراجه, والزوج يقدر على طلاقها متى شاء كل محتمل والثاني أقرب ويفرق بينه وبين ما مر في نظيره في الحج بأنه ينظر فيه للحاجة الراهنة دون المستقبلة بدليل أنه يكلف بيع ضيعته ورأس ماله بخلافه هنا بدليل النظر للسنة أو العمر الغالب "وثيابه" ولو للتجمل بها في بعض أيام السنة, وإن تعددت إن لاقت به أيضا على الأوجه خلافا لما يوهمه كلام السبكي ويؤخذ من ذلك صحة إفتاء بعضهم بأن حلي المرأة اللائق بها المحتاجة للتزين به عادة لا يمنع فقرها وقنه المحتاج لخدمته ولو لمروءته لكن إن اختلت مروءته بخدمته لنفسه, أو شقت عليه مشقة لا تحتمل عادة وكتبه التي يحتاجها ولو نادرا لعلم شرعي, أو آلة له كتواريخ المحدثين, وأشعار نحو اللغويين ولو مرة في السنة, أو كطب, أو وعظ لنفسه, أو غيره ولو تكررت عنده كتب من فن واحد بقيت كلها لمدرس والمبسوط لغيره فيبيع الموجز إلا إن كان فيه ما ليس في المبسوط فيما يظهر, أو نسخ من كتاب بقي له الأصح لا الأحسن. فإن كانت إحدى النسختين كبيرة الحجم, والأخرى صغيرته بقيتا لمدرس; لأنه يحتاج لحمل هذه إلى درسه وغيره يبقى له أصحهما كما مر وآلة المحترف كخيل جندي مرتزق وسلاحه إن لم يعطه الإمام بدلهما من بيت المال كما هو ظاهر ومتطوع احتاجهما وتعين عليه الجهاد نظير ما مر في المفلس مع ما يأتي مجيئه هنا مما مر عن السبكي وغيره بقيده ومن تفصيل المصحف وثمن ما ذكر ما دام معه يمنع إعطاءه بالفقر حتى يصرفه فيه.
"تنبيه" قضية قولهم أيام السنة ولو مرة في السنة أنه لو كان يحتاج لبعض الثياب, أو الكتب في كل سنتين مرة مثلا لا يبقيان له, وهو مشكل فلعل هذا مبني على إعطاء السنة, وقولنا الآتي في بحث المسكين والمعتمد إلى آخره صريح فيه.
"وماله الغائب في مرحلتين" أو الحاضر وقد حيل بينه وبينه "و" ماله "المؤجل"; لأنه معسر الآن فيهما, وإن نازع في الأولى جمع فيأخذ حتى يصله, أو يحل ما لم يجد من يقرضه على الأوجه; لأنه غني فلا نظر لاحتمال تلفهما فتبقى ذمته معلقة "وكسب لا يليق به" شرعا, أو عرفا لحرمته, أو لإخلاله بمروءته; لأنه حينئذ كالعدم كما لو لم يجد من يستعمله إلا من ماله حرام أي: أو فيه شبهة قوية فيما يظهر, وأفتى الغزالي بأن أرباب

 

ج / 3 ص -149-        البيوت الذين لم تجر عادتهم بالكسب لهم الأخذ وكلامهم يشمله لكنه قال في الإحياء إن ترك الشريف نحو النسج والخياطة عند الحاجة حماقة ورعونة نفس, وأخذه الأوساخ عند قدرته أذهب لمروءته ا هـ فإن أراد بذلك إرشاده للأكمل من الكسب فواضح, أو منعه من الأخذ فالأوجه الأول حيث أخل الكسب بمروءته عرفا, وإن كان ناسخا لكتب العلم.
"ولو اشتغل" بحفظ قرآن, أو "بعلم" شرعي ومنه بل أهمه في حق من لم يرزق قلبا سليما علم الباطن المطهر للنفس عن أخلاقها الرديئة, أو آلة له وأمكن عادة أن يتأتى منه تحصيل فيه ويلحق بذلك الاشتغال بالصلاة على الجنائز بجامع أنه فرض كفاية أيضا, وقوله بالنوافل يفهمه "والكسب" الذي يحسنه "يمنعه" من أصله, أو كماله "فهو" "فقير" فيعطى ويترك الكسب لتعدي نفعه وعمومه "ولو اشتغل بالنوافل" من صلاة وغيرها وقول بعضهم المطلقة غير صحيح بل لو فرض تعارض راتبة وكسب يكفيه كلف الكسب كما يعلم من العلة الآتية "فلا" يعطى شيئا من الزكاة من سهم الفقراء, وإن استغرق بذلك جميع وقته خلافا للقفال; لأن نفعه قاصر عليه سواء الصوفي وغيره نعم لو نذر صوم الدهر وانعقد نذره ومنعه صومه عن كسبه أعطي على الأوجه للضرورة حينئذ كما لو احتاج للنكاح ولا شيء معه فيعطى ما يصرفه فيه "ولا يشترط فيه" أي: الفقير "الزمانة" بالفتح وفسرت بالعاهة وبما يقعد الإنسان, وظاهر أن المراد بها هنا ما يمنع الكسب من مرض ونحوه "ولا التعفف عن المسألة على الجديد" فيهما لصدق اسم الفقر مع ذلك ولظاهر الإخبار; ولأنه صلى الله عليه وسلم أعطى القوي والسائل وضدهما كما يعلم مما يأتي أول الفصل الآتي. "والمكفى بنفقة قريب" أصل, أو فرع "أو زوج ليس فقيرا" ولا مسكينا "في الأصح" لاستغنائه وللمنفق وغيره الصرف إليه بغير الفقر والمسكنة نعم لا يعطي المنفق قريبه من سهم المؤلفة ما يغنيه عنه; لأنه بذلك يسقط النفقة عن نفسه ولا ابن السبيل إلا ما زاد بسبب السفر وبأحدهما بالنسبة لكفاية نحو قن الآخذ ممن لا يلزم المزكي إنفاقه ولو سقطت نفقتها بنشوز لم تعط لقدرتها على النفقة حالا بالطاعة, ومن ثم لو سافرت بلا إذن, أو معه ومنعها أعطيت من سهم الفقراء, أو المساكين حيث لم تقدر على العود حالا لعذرها وكذا من سهم ابن السبيل إذا تركت السفر وعزمت على الرجوع لانتهاء المعصية قيل: قول أصله لا يعطيان من سهم الفقراء أصوب; لأن القريب فقير لصدق الحد عليه; لكنه إنما لم يعط لكونه في معنى القادر بالكسب. وأما المكفية بنفقة الزوج فغنية قطعا بما تملكه في ذمته. ا هـ, وهو ممنوع بل الوجه ما سلكه المصنف; لأن صنيع أصله يوهم أن الحد غير مانع بالنسبة للقريب لما قرره المعترض أنه فقير ولا يعطى, وليس كذلك بل هو غير فقير; لأن قدرة بعضه كقدرته لتنزيله منزلته فما سلكه المصنف فيه أدق وأصوب, وأفهم قوله: المكفي أن الكلام في زوج موسر, أما معسر لا يكفي فتأخذ تمام كفايتها بالفقر, ويؤخذ منه أن من لا يكفيها ما وجب لها على الموسر لكونها أكولة تأخذ تمام كفايتها بالفقر ولو منه فيما يظهر, وأن الغائب زوجها, ولا مال له ثم تقدر على التوصل إليه, وعجزت عن الاقتراض تأخذ, وهو متجه ثم رأيت الغزالي والمصنف في فتاويه وغيرهما ذكروا ما يوافق

 

ج / 3 ص -150-        ذلك من أن الزوج, أو البعض لو أعسر, أو غاب ولم يترك منفقا ولا مالا يمكن الوصول إليه أعطيت الزوجة والقريب بالفقر, أو المسكنة والمعتدة التي لها النفقة كالتي في العصمة ويسن لها أن تعطي زوجها من زكاتها ولو بالفقر, وإن أنفقها عليها خلافا للقاضي لحديث زينب زوجة ابن مسعود رضي الله عنهما في البخاري وغيره. "والمسكين من قدر على مال, أو كسب" حلال لائق به "يقع موقعا من كفايته" وكفاية ممونه من مطعم وغيره مما مر. "ولا يكفيه" كمن يحتاج عشرة فيجد ثمانية, أو سبعة, وإن ملك نصابا, أو نصبا ومن ثم قال في: الإحياء قد يملك ألفا, وهو فقير, وقد لا يملك إلا فأسا وحبلا, وهو غني ولا يمنع المسكنة المسكن, وما معه مما مر مبسوطا, والمعتمد أن المراد بالكفاية هنا, وفيما مر كفاية العمر الغالب لا سنة فحسب نظير ما يأتي في الإعطاء خلافا لمن فرق, ولا يقال: يلزم على ذلك أخذ أكثر الأغنياء, بل الملوك من الزكاة; لأن من معه مال يكفيه ربحه, أو عقار يكفيه دخله غني, والأغنياء غالبهم كذلك فضلا عن الملوك فلا يلزم ما ذكره.
"تنبيه" علم مما تقرر أن الفقير أسوأ حالا من المسكين وعكس أبو حنيفة ورد بأنه صلى الله عليه وسلم استعاذ من الفقر وسأل المسكنة بقوله: "اللهم أحيني مسكينا الحديث" ولا رد فيه; لأن الفقر المستعاذ منه فقر القلب, والمسكنة والمسئولة سكونه وتواضعه وطمأنينته على أن حديثها ضعيف, ومعارض بما روي أنه صلى الله عليه وسلم استعاذ منها, لكن أجيب بأنه إنما استعاذ من فتنتها كما استعاذ من فتنتي الفقر والغنى دون وصفيهما; لأنهما تعاوراه فكان خاتمة أمره غنيا بما أفاء الله عليه وإنما الذي يرد عليه ما نقله في المجموع عن خلائق من أهل اللغة مثل ما قلناه.
"والعامل" المستحق للزكاة بأن فرق الإمام, أو نائبه ولم يجعل له أجرة من بيت المال هو "ساع" يجيبها "وكاتب" ما وصل من ذوي الأموال وما عليهم وحاسب. "وقاسم وحاشر", وهو الذي "يجمع ذوي الأموال" أو السهمان وحافظ وعريف, وهو كالنقيب للقبيلة ومشد احتيج إليه وكيال ووزان وعداد يميز بين الأصناف. "لا" الذي يميز نصيب المستحقين من مال المالك بل أجرته عليه, ولا نحو راع وحافظ بعد قبض الإمام لها, بل أجرته من أصل الزكاة لا من خصوص سهم العامل ولا "القاضي والوالي" على الإقليم إذا قاما بذلك بل يرزقهما الإمام من خمس الخمس المرصد للمصالح; لأن علمهما عام, وقضية المتن دخول قبض الزكاة وصرفها في عموم ولاية القاضي, وهو كذلك كما نقله الرافعي عن الهروي, وأقره إلا أن ينصب لها متكلما خاصا, وبحث جواز أخذه من سهم الغارم إذا استدان للإصلاح, ومن سهم الغازي المتطوع, ومن سهم المؤلف الغير الضعيف النية; لأن هذا لا تصح توليته القضاء, وظاهر أنه إذا منع حقه في بيت المال جاز له الأخذ بنحو الفقر, والغرم مطلقا وسيأتي في الرشوة أن غير السبكي بحث القطع بجواز أخذه للزكاة. "والمؤلفة من أسلم, ونيته ضعيفة" في أهل الإسلام, أو في الإسلام نفسه بناء على ما عليه أئمتنا كأكثر العلماء أن الإيمان أي: التصديق نفسه يزيد وينقص كثمرته, فيعطى ولو امرأة ليتقوى إيمانه "أو" من نيته قوية لكن "له شرف" بحيث "يتوقع بإعطائه إسلام غيره" ولو

 

ج / 3 ص -151-        امرأة. "والمذهب أنهم يعطون من الزكاة" لنص الآية عليهم, فلو حرموا ألزم أن لا محمل لها, ودعوى أن الله أعز الإسلام عن التألف بالمال إنما تتوجه فيمن لا نص فيه على أنها إنما تتجه ردا لقول من قال: إن مؤلفة الكفار يعطون من غير الزكاة لعلهم يسلمون, وعندنا لا يعطون منها قطعا ولا من غيرها على الأصح, وبهذا المأخوذ من المجموع, وغيره يندفع ما أوهمه كلام شيخنا من حكاية الإجماع على عدم إعطائهم حتى من غيرها وإرادة الإجماع المذهبي بعيدة جدا, ومن المؤلفة أيضا من يقاتل, أو يخوف مانعي الزكاة حتى يحملها منهم إلى الإمام, ومن يقاتل من يليه من الكفار, أو البغاة فيعطيان إن كان إعطاؤهما أسهل من بعث جيش وحذفهما; لأن الأول في معنى العامل, والثاني في معنى الغازي, وظاهر قوله الآتي وإلا فالقسمة على سبعة أن المؤلف بأقسامه يعطى, وإن قسم المالك, وهو كذلك كما في الروضة وغيرها خلافا لجمع متأخرين, وجزم شيخنا في شرح المنهج بما قالوه يناقضه قوله: بعد قبيل الفصل الثاني والمؤلفة يعطيها الإمام أو المالك ما يراه. نعم اشتراط أن للإمام دخلا في الأخيرين متجه لتعلقهما بالمصالح العامة الراجع أمرها إليه بخلاف الأولين لسهولة معرفة المالك لضعف النية, أو الشرف فلا وجه لتوقف إعطائهما على نظر الإمام, ثم اشتراط جمع في إعطاء الأربعة الاحتياج إليهم فيه نظر بالنسبة للأولين أيضا, وكفى بالضعف والشرف حاجة وكذا الأخيران فإن اشتراط كون إعطائهما أسهل من بعث جيش يغني عن اشتراط الاحتياج إليهما. "والرقاب المكاتبون" كما فسر بهم الآية أكثر العلماء وقال مالك وأحمد: هم أرقاء يشترون ويعتقون, وشرطهم صحة كتابتهم كما سيذكره فخرج من علق عتقه بإعطاء مال فإن عتق بما اقترضه وأداه فهو غارم, وأن لا يكون معهم وفاء بالنجوم, وإن قدروا على الكسب لا حلول النجم توسيعا لطرق العتق لتشوف الشارع إليه, وبه فارق الغارم, ولا إذن للسيد في الإعطاء, وإذا صححنا كتابة بعض قن كأن أوصى بكتابة عبد فعجز الثلث عن كله لم يعط, وقيل: إن كانت مهايأة أعطي في نوبته وإلا فلا واستحسناه ولا يعطي مكاتبه من زكاته ويسترد منه إن رق, أو أعتق بغير المعطي في غير ما يأتي في التنبيه الآتي. نعم ما أتلفه قبل العتق بغير المعطي لا يغرم بدله; لأنه حال إتلافه كان ملكه, وإنما منع من إنفاقه في غير العتق, وإن كان له كسب لكن قبل كسب ما عليه لا بعده ليقوى ظن حصوله المتشوف إليه الشارع. "والغارم" المدين ومنه كما مر مكاتب استدان للنجوم وعتق ثم "إن استدان لنفسه" أي: لغرضها الأخروي والدنيوي "في غير معصية أعطي" وإن صرفه فيها, ولو لم يتب إذا علم قصده الإباحة, أو لا لكنا لا نصدقه فيه أي: بل لا بد من بينة, فإن قلت: من أين علمها بذلك قلت: لها أن تعتمد القرائن المفيدة له كالإعسار "أو" استدان "لمعصية" يعني أو لزم ذمته دين بسبب عصى به, وقد صرفه فيها كأن اشترى خمرا في ذمته كذا ذكره الرافعي, وهو مشكل; لأنه إذا اشتراها, وأتلفها لا يلزم ذمته شيء إلا أن يحمل على كافر اشتراها, وقبضها في الكفر ثم أسلم, فيستقر بدلها في ذمته, أو يراد من ذلك أنه استدان شيئا بقصد صرفه في تحصيل خمر, وصرفه فيها فالاستدانة بهذا القصد معصية, وكأن أتلف مال غيره عمدا, أو أسرف في النفقة, وقولهم: إن صرف المال في اللذات المباحة

 

ج / 3 ص -152-        غير سرف محله فيمن يصرف من ماله بالاستدانة من غير رجاء وفائه أي: حالا فيما يظهر من جهة ظاهرة مع جهل الدائن بحاله, فإن قلت: لو أريد هذا لم يتقيد بالإسراف قلت: المراد بالإسراف هنا الزائد على الضرورة أما الاقتراض للضرورة, فلا حرمة فيه كما هو ظاهر من كلامهم في وجوب البيع للمضطر المعسر "فلا" يعطى شيئا لتقصيره بالاستدانة للمعصية مع صرفا فيها, "قلت: الأصح يعطى إذا تاب" حالا إن غلب ظن صدقه في توبته, "والله أعلم", وكذا إذا صرفه في مباح كعكسه السابق, ويظهر أن العبرة في المعصية بعقدة المدين لا غيره كالشاهد, بل أولى ولا يعطى غارم مات, ولا وفاء معه; لأنه إن عصى به فواضح, وإلا فهو غير محتاج; لأنه لا يطالب به كذا أطلقه شارح ويتعين حمله على أنه لا يحبس بسببه عن مقامه الكريم على خلاف فيه, وأما عدم المطالبة به حتى لا يؤخذ من حسنات المدين للدائن, فالأدلة تقتضي خلافه وعلى غير المستدين لنفع عام كبقية أقسام الغارم الآتية, ثم رأيت بعضهم جزم باستثناء بعضها فقط, وهو المستدين للإصلاح, وما ذكرته أولى حملا على هذه المكرمة. "والأظهر اشتراط حاجته" بأن يكون بحيث لو قضى دينه مما معه تمسكن كما رجحاه في الروضة وأصلها والمجموع, فيترك له مما معه ما يكفيه أي: الكفاية السابقة للعمر الغالب فيما يظهر ثم إن فضل معه شيء صرفه في دينه وتمم له باقيه, وإلا قضى عنه الكل, ولا يكلف كسوب الكسب هنا; لأنه لا يقدر على قضاء دينه منه غالبا إلا بتدريج, وفيه حرج شديد, وظاهر كلامهم هنا أنه لا يكلفه عاص بالاستدانة صرفه في مباح, أو تاب فينافي إطلاقهم السابق في الفلس, بل أخذ بعضهم مما هنا أن شرط ذاك أن يصرفه في معصية, ولا يتوب ولك أن تفرق بين البابين بأن ذاك حق آدمي, فغلظ فيه أكثر "دون حلول الدين"; لأنه لا يسمى الآن مدينا "قلت: الأصح اشتراط حلوله, والله أعلم" لعدم حاجته إليه الآن "أو" استدان "لإصلاح ذات البين" أي: الحال بين القوم بأن يخاف فتنة بين شخصين; أو قبيلتين تنازعا في قتيل, أو مال متلف, وإن عرف قاتله, أو متلفه, فيستدين ما تسكن به الفتنة, ولو كان ثم من الآحاد من يسكنها غيره "أعطي" إن حل الدين هنا أيضا على المعتمد "مع الغنى" ولو بنقد, وإلا لامتنع الناس من هذه المكرمة. "وقيل: إن كان غنيا بنقد فلا" يعطى إذ ليس في صرفه إلى الدين ما يهتك المروءة, ويرد بأن الملحظ هنا الحمل على مكارم الأخلاق القاضي بأنه لا فرق وأفهم ذكره الاستدانة الدال عليها العطف كما تقرر أنه لو أعطى من ماله لم يعط, ومثله ما لو استدان, ووفى من ماله ومن الغارم الضامن لغيره فيعطى إن كان المضمون حالا, وقد أعسر, أو إن ضمن بالإذن, أو أعسر هو وحده إن لم يضمن بالإذن ومنه استدان لنحو عمارة مسجد وقرى ضيف ثم اختلفوا فألحقه كثيرون بمن استدان لنفسه, ورجحه جمع متأخرون وآخرون بمن استدان لإصلاح ذات البين إلا إن غني بنقد, ورجحه بعضهم, ولو رجح أنه لا أثر لغناه بالنقد أيضا حملا على هذه المكرمة العام نفعها لم يبعد, وواضح أن الكلام فيمن لم يملك حصته قبل موته لكونه من المحصورين الذين ملكوها.
"تنبيه" لا يتعين على مكاتب اكتسب قدر ما أخذ الصرف فيما أخذ له كما مر, وكذا

 

ج / 3 ص -153-        الغارم وابن السبيل بخلاف ما إذا أرادوا ذلك قبل اكتساب ما يفي, وإن توقع لهم كسب يفي على الأوجه, ويظهر أن هذا بالنسبة للآخذ, أما الدافع فيبرأ بمجرد الدفع, وإن لم يصرفه الآخذ فيما أخذ له ويحتمل خلافه.
"وسبيل الله تعالى غزاة لا في عملهم" أي: لا سهم لهم في ديوان المرتزقة, بل هم متطوعة يغزون إذا نشطوا, إلا فهم في حرفهم وصنائعهم, وسبيل الله وضعا الطريق الموصلة إليه تعالى, ثم كثر استعماله في الجهاد; لأنه سبب للشهادة الموصلة إلى الله تعالى, ثم وضع على هؤلاء; لأنهم جاهدوا لا في مقابل فكانوا أفضل من غيرهم, وتفسير أحمد وغيره المخالف لما عليه أكثر العلماء له بالحج لحديث فيه أجابوا عنه أي: بعد تسليم صحته التي زعمها الحاكم, وإلا فقد طعن فيه غير واحد بأن في سنده مجهولا, وبأن فيه عنعنة مدلس, وبأن فيه اضطرابا بأنا لا نمنع أنه يسمى بذلك, وإنما النزاع في سبيل الله في الآية, وقوله: صلى الله عليه وسلم
"لا تحل الصدقة إلا لخمسة" وذكر منها الغازي في سبيل الله صريح في أن المراد بهم فيها من ذكرناه على أن في أصل دلالة ذلك الحديث على مدعاهم نظرا; لأن الذي فيه إعطاء بغير جعل صدقة في سبيل الله كما في رواية, أو أوصى به لسبيل الله كما في أخرى لمن يحج عليه فيفرض أنه بغير زكاة يحتمل أن معطاه فقير, أو أنه أركبه من غير تمليك ولا تملك "فيعطون مع الغنى" إعانة لهم على الغزو, ومر أنه لا حظ لهم في الفيء كما لا حظ لأهله في الزكاة إلا على ما مر فيهم عن الإمام وغيره, فإن عدم واضطررنا لهم لزم أغنياؤنا إعانتهم من غير الزكاة, فإن امتنعوا ولم يجبرهم الإمام حل لأهله الذين لم يحصل لهم منه كفايتهم الأخذ منها فيما يظهر, وإن لم نقل بذلك الذي مر, وإنما لم يعط الآل منها إذا منعوا من الفيء; لأن المنع ثم لشرف ذواتهم بخلافه هنا. "وابن السبيل" الشامل للذكر والأنثى ففيه تغليب "منشئ سفر" من بلد الزكاة, وإن لم تكن وطنه, وقدم اهتماما به لوقوع الخلاف القوي فيه إذ إطلاقه عليه مجاز لدليل هو عندنا القياس على الثاني بجامع احتياج كل لأهبة السفر "أو مجتاز" به سمي بذلك لملازمته السبيل, وهي الطريق وأفرد في الآية دون غيره; لأن السفر محل الوحدة والانفراد. "وشرطه" من جهة الإعطاء لا التسمية "الحاجة" بأن لا يجد ما يقوم بحوائج سفره, وإن كان له مال بغيره, ولو دون مسافة القصر, وإن وجد من يقرضه على المعتمد, ويفرق بين هذا, وما مر من اشتراط مسافة القصر, وعدم وجود مقرض بأن الضرورة في السفر أشد, والحاجة فيه أغلب, ومن ثم لم يفرقوا فيه بين القادر على الكسب ولو بلا مشقة كما اقتضاه إطلاقهم وبين غيره لتحقق حاجته مع قدرته هنا دون ما مر. "وعدم المعصية" الشامل لسفر الطاعة والمكروه والمباح, ولو سفر نزهة على المعتمد بخلاف سفر المعصية بأن عصى به لا فيه كسفر الهائم; لأن إتعاب النفس والدابة بلا غرض صحيح حرام, وذلك لأن القصد بإعطائه إعانته ولا يعان على المعصية, فإن تاب أعطي لبقية سفره. "وشرط آخذ الزكاة من هذه الأصناف الثمانية" الحرية الكاملة إلا المكاتب فلا يعطى مبعض, ولو في نوبته و "الإسلام" فلا يدفع منها لكافر إجماعا. نعم يجوز استئجار كافر وعبد كيال, أو حامل, أو حافظ, أو نحوهم من سهم العامل; لأنه أجرة لا زكاة بخلاف

 

ج / 3 ص -154-        نحو ساع, وإن كان ما يأخذه أجرة أيضا; لأنه لا أمانة له, ويؤخذ من ذلك جواز استئجار ذوي القربى, والمرتزقة من سهم العامل لشيء مما ذكر بخلاف عمله فيه بلا إجارة; لأن فيما يأخذه حينئذ شائبة زكاة, وبهذا يخص عموم قوله: "وأن لا يكون هاشميا ولا مطلبيا", وإن منعوا حقهم من الخمس لخبر مسلم "إنما هي أوساخ الناس وإنها لا تحل لمحمد ولا لآل محمد" وبنو المطلب من الآل كما مر. وكالزكاة كل واجب كالنذر والكفارة ومنها دماء النسك بخلاف التطوع, وحرم عليه صلى الله عليه وسلم الكل; لأن مقامه أشرف وحلت له الهدية; لأنها شأن الملوك بخلاف الصدقة "وكذا مولاهم في الأصح" للخبر الصحيح "مولى القوم منهم" ويفرق بينهم وبين بني أخواتهم مع صحة حديث "ابن أخت القوم منهم" بأن أولئك لما لم يكن لهم آباء وقبائل ينسبون إليهم غالبا تمحضت نسبتهم لساداتهم فحرم عليهم ما حرم عليهم تحقيقا لشرف موالاتهم, ولم يعطوا من الخمس; لئلا يساووهم في جميع شرفهم, فإن قلت: يمكن ذلك بإعطائهم من الخمس والزكاة قلت ممنوع; لأن أخذ الزكاة قد يكون شرفا كما في حق الغازي فلا يتحقق حينئذ انحطاط شرفهم, وأما بنو الأخت فلهم آباء وقبائل لا ينسبون إلا إليها فلم يلحقوا بغيرهم في شيء من ذلك, وأن لا يكون ممونا للمزكي على ما مر فيه من التفصيل, وأن لا يكون لهم سهم في الفيء كما مر بما فيه آنفا, وأن لا يكون محجورا عليه, ومن ثم أفتى المصنف في بالغ تارك للصلاة كسلا أنه لا يقبضها له إلا وليه أي: كصبي ومجنون فلا يعطى له, وإن غاب وليه خلافا لمن زعمه بخلاف ما لو طرأ تركه أي: أو تبذيره ولم يحجر عليه فإنه يقبضها, ويجوز دفعها لفاسق إلا إن علم أنه يستعين بها على معصية فيحرم أي: وإن أجزأ كما علم مما تقرر ولأعمى كأخذها منه, وقيل: يوكلان وجوبا, ويرده قولهم: يجوز دفعها مربوطة من غير علم بجنس ولا قدر ولا صفة نعم الأولى توكيلهما خروجا من الخلاف, وأفتى العماد بن يونس بمنع دفعها لأب قوي صحيح فقير وأخوه بجوازه قال شارح: وهو الظاهر إذ لا وجه للمنع. ا هـ, وإنما يظهر إن قلنا: يلزمه الكسب, وهو ضعيف, والأصح وجوب نفقته, وإن قدر عليه فالوجه الأول.

فصل في بيان مستند الإعطاء وقدر المعطى
"من طلب زكاة", أو لم يطلب, وأريد إعطاؤه وآثر الطلب; لأنه الأغلب "وعلم الإمام" أو غيره ممن له ولاية الدفع وذكره فقط; لأن دخله فيها أقوى من غيره, والمراد بالعلم الظن كما يعلم مما يأتي "استحقاقه" لها "أو عدمه عمل بعلمه" ولا يخرج على خلاف القضاء بالعلم لبناء أمر الزكاة على السهولة, وليس فيها إضرار بالغير, وبه يعلم أنه لا يأتي هنا ما سيذكر ثم إن القاضي إذا قامت عنده بينة بخلاف علمه لا يعمل بواحد منهما "وإلا" يعلم شيئا من حاله "فإن ادعى فقرا أو مسكنة", أو أنه غير كسوب, وإن كان جلدا قويا "لم يكلف بينة" لعسرها وكذا يحلف, وإن اتهم لما صح أنه صلى الله عليه وسلم أعطى من سألاه الصدقة بعد أن أعلمهما أنه لا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب, ولم يحلفهما مع أنه رآهما جلدين, ومن ثم قال الحافظ المنذري هذا أصل في أن من لم يعرف له مال فأمره محمول على العدم,

 

ج / 3 ص -155-        ولم يعتبر صلى الله عليه وسلم ظاهر القوة; لأن الإنسان مع ذلك قد يكون أخرق لا كسب له مع أنه صلى الله عليه وسلم استظهر في أمرهما فأنذرهما أي: ومن ثم قال البغوي يسن للإمام أي: أو المالك ذلك فيمن يشك في استحقاقه "فإن عرف له مال" يغنيه "وادعى تلفه كلف" بينة رجلين, أو رجلا وامرأتين بتلفه, وإن لم يكونا من أهل الخبرة الباطنة بحاله; لأن الأصل بقاؤه سواء ادعى سببا ظاهرا أم خفيا بخلاف ما مر في نحو الوديع; لأن الأصل ثم عدم الضمان, وهنا عدم الاستحقاق, وزعم أن الأصل هنا الفقر يبطله أن الفرض أنه عرف له مال يغنيه "وكذا إن ادعى عيالا في الأصح" يكلف بينة بذلك لسهولتها قال السبكي والمراد بالعيال من تلزمه مؤنتهم, وغيرهم ممن تقتضي المروءة بإنفاقه ممن يمكن صرف الزكاة إليه من قريب وغيره. ا هـ, والأوجه أن المراد بهم من تلزمه مؤنتهم, وغيرهم يسألون لأنفسهم, أو يسأل هو لهم. "ويعطى" مؤلف بقوله بلا يمين إن ادعى ضعف نيته دون شرف, أو قتال لسهولة إقامة البينة عليهما وتعذرها على الأول "غاز وابن سبيل" بقسميه "بقولهما" بلا يمين; لأنه لأمر مستقبل, وإنما يعطيان عند الخروج ليتهيآ له "فإن" أعطيا فخرجا, ثم رجعا استرد فاضل ابن السبيل مطلقا وكذا فاضل الغازي بعد غزوه إن كان شيئا له وقع عرفا ولم يقتر على نفسه لتبين أنهما أعطيا فوق حاجتهما.
"تنبيه" مر أن لابن السبيل صرف ما أخذه لغير حوائج السفر وحينئذ لا يتأتى استرداد ذمته; لأنه لا يعرف لو بقي ما أعطيه وصرف منه هل كان يفضل منه شيء, أو لا؟, فليحمل كلامهم على ما لو صرف من عين ما أعطيه وقد يقال: ينسب ما صرفه قتر به على نفسه, أو لا لمأخوذه فإن فضل من المأخوذ شيء استرد منه بقدره, وعليه فيظهر أنه يقبل قوله: في قدر الصرف, وأنه لو ادعى أنه لم يعلم قدره صدق, ولم يسترد منه شيء; لأن الأصل براءة ذمته.
وإن "لم يخرجا" بأن مضت ثلاثة أيام تقريبا, ولم يترصدا للخروج ولا انتظرا رفقة ولا أهبة "استرد" منهما ما أخذاه أي: إن بقي وإلا فبدله, وكذا لو أخرج الغازي, ولم يغز ثم رجع, وقال الماوردي: لو وصل بلادهم ولم يقاتل لبعد العدو لم يسترد منه; لأن القصد الاستيلاء على بلادهم, وقد وجد وخرج بقولنا: رجع ما لو مات أثناء الطريق أو في المقصد فإنه لا يسترد منه إلا ما بقي, وإلحاق الرافعي بالموت الامتناع من الغزو رده ابن الرفعة بأنه مخالف لما تقرر, وكذا يسترد من مكاتب كما مر وغارم استغنيا عن المأخوذ بنحو إبراء, أو أداء من الغير. "ويطالب عامل ومكاتب وغارم" ولو لإصلاح ذات البين "ببينة" لسهولتها بما ادعوه, واستشكل تصوير دعوى العامل بأن الإمام يعلم  إذ هو الذي يبعثه, ويجاب بتصوير ذلك بما إذا طلب من الإمام حصته من زكاة وصلت إليه من نائبه بمحل كذا لكون ذلك النائب استعمله عليها حتى أوصلها إليه, أو قال له الإمام: أنسيت أنك العامل, أو مات مستعمله فطلب ممن تولى محله حصته, وصوره السبكي بأن يأتي لرب المال, ويطالبه ويجهل  ويرد بأنه إن فرق فلا عامل, وإن فرق الإمام فلا وجه لمطالبته المالك, ويحتمل أن يريد أن المطالب قال للمالك: أنا عامل الإمام فادفع لي زكاتك, ويرد بأن الكلام

 

ج / 3 ص -156-        ليس في هذا, بل في طلب العامل لحصته المقابلة لعمله, وأن يريد أن الإمام ترك بعض الزكاة عند المالك, وأمره بأن يعطي من أرسله إليه فجاءه من يدعي أنه عامل الإمام, وأنه أرسله إليه فيكلفه البينة حينئذ, وابن الرفعة بما إذا استأجره الإمام من خمس الخمس فادعى أنه قبض الصدقات, وتلفت في يده من غير تفريط وطالب بالأجرة, ويرد بأن فيه خروجا عما نحن فيه; لأنه إنما يدعي بأجرة من خمس الخمس لا من الزكاة والأذرعي بما إذا فوض إليه التفرقة أيضا, ثم جاء وادعى القبض والتفرقة, وطلب أجرته من المصالح ويرد بنظير ما قبله "وهي" أي: البينة فيما ذكر "إخبار عدلين", أو عدل وامرأتين ولو بغير لفظ شهادة واستشهاد ودعوى عند قاض. "ويغني عنها" في سائر الصور التي يحتاج للبينة فيها "الاستفاضة" بين الناس من قوم يبعد تواطؤهم على الكذب, وقد يحصل ذلك بثلاثة كما قاله الرافعي كغيره, واستغراب ابن الرفعة له يجاب عنه بأن القصد هنا الظن المجوز للإعطاء, وهو حاصل بذلك وبه يفرق بين هذا, وما يأتي في الشهادة, ومما يصرح بذلك قولهم: "وكذا تصديق رب الدين والسيد في الأصح" بلا بينة ولا يمين ولا نظر لاحتمال التواطؤ; لأنه خلاف الغالب, ويؤخذ من اكتفائهم بإخبار الغريم هنا وحده مع تهمته الاكتفاء بإخبار ثقة ولو عدل رواية ظن صدقه, بل القياس الاكتفاء بمن وقع في القلب صدقه ولو فاسقا, ثم رأيت في كلام الشيخين ما يؤيد ذلك. نعم بحث الزركشي في الغريم والسيد أن محل الخلاف إذا وثق بقولهما, وغلب على الظن الصدق قال: وإلا لم يفد قطعا. ا هـ. وبعد أن مهد من أول الفصل إلى هنا ما يثبت به الوصف المقتضي للاستحقاق شرع في بيان قدر ما يعطاه كل فقال: "ويعطى الفقير والمسكين" اللذان لا يحسنان التكسب بحرفة ولا تجارة "كفاية سنة"; لأن وجوب الزكاة لا يعود إلا بمضيها. "قلت: الأصح المنصوص" في الأم "وقول الجمهور" يعطى "كفاية العمر الغالب" أي: ما بقي منه; لأن القصد إغناؤه, ولا يحصل إلا بذلك فإن زاد عمره عليه فيظهر أنه يعطى سنة إذ لا حد للزائد عليها, ثم رأيت جزم بعضهم الآتي, وهو صريح فيه, أما من يحسن حرفة تكفيه الكفاية اللائقة به كما مر أول الباب فيعطى ثمن آلة حرفته, وإن كثر, وظاهر أن المراد بإعطاء ذلك له الإذن له في الشراء, أو الشراء له نظير ما يأتي أو تجارة فيعطى رأس مال يكفيه كذلك ربحه غالبا باعتبار عادة بلده فيما يظهر, ويختلف ذلك باختلاف الأشخاص والنواحي وقدروه في أرباب المتاجر بما كانوا يتعارفونه, وأما الآن فلا ينضبط إلا بما ذكرته, ثم رأيت بعضهم صرح بذلك ولو أحسن أكثر من حرفة, والكل يكفيه أعطي ثمن, أو رأس مال الأدنى, وإن كفاه بعضهم فقط أعطي له, وإن لم يكفه واحدة منها أعطي لواحدة وزيد له شراء عقار يتم دخله بقية كفايته فيما يظهر. "تنبيه" لم أر لأحد هنا بيان قدر العمر الغالب, والذي دلت عليه الأحاديث أنه ما بين الستين والسبعين من الولادة, وعليه فهل العبرة هنا بالستين فقط; لأنها المتيقن دخولها أو بالسبعين احتياطا للأخذ كل محتمل, وقد يؤخذ ترجيح هذا من أنا إذا قلنا في المفقود بالتقدير يكون سبعين, وقيل: ثمانين, وقيل: تسعين, وقيل: مائة وقيل: مائة وعشرين فالسبعون أقل ما قيل على هذا فالأخذ بها هنا غير بعيد, وإن أمكن الفرق بين البابين, ثم رأيت

 

ج / 3 ص -157-        بعضهم جزم هنا بأنه ستون, وبعدها يعطى كفاية سنة, ثم سنة وهكذا وليس المراد بإعطاء من لا يحسن ذلك إعطاء نقد يكفيه تلك المدة لتعذره, بل ثمن ما يكفيه دخله.
"فيشتري به" إن أذن له الإمام, وكان رشيدا, وإلا فوليه "عقارا", أو نحو ماشية إن كان من أهلها. "يستغله" ويغتني به عن الزكاة فيملكه ويورث عنه. "والله أعلم" للمصلحة العائدة عليه; لأن الفرض أنه لا يحسن تجارة ولا حرفة, والأوجه كما أفهمه قولي: إن أذن له الإمام أخذا من كلام الزركشي, وغيره, وأفهمه كلام المحرر كالقاضي أبي الطيب أن للإمام دون المالك شراءه له نظير ما يأتي في الغازي, وله أن يلزمه بالشراء وعدم إخراجه عن ملكه لما في ذلك من المصلحة العامة فلم ينظر لما فيه من جبر الرشيد, وحينئذ ليس له إخراجه فلا يحل. ولا يصح فيما يظهر, وعلى بقية المستحقين بإغنائه عنهم ولو ملك هذا دون كفاية العمر الغالب كمل له من الزكاة كفايته كما بحثه السبكي, وأطال في الرد على بعض معاصريه في اشتراط اتصافه يوم الإعطاء بالفقر والمسكنة أي: باحتياجه حينئذ للمعطي, ويؤيد الأول قول الماوردي لو كان معه تسعون ولا يكفيه إلا ربح مائة أعطي العشرة الأخرى, وإن كفته التسعون لو أنفقها من غير اكتساب فيها سنين لا تبلغ العمر الغالب فإن قلت: إذا تقرر أنه يشتري له عقار يكفيه دخله بطل اعتبار العمر الغالب; لأن الغالب في العقار بقاؤه أكثر منه قلت: ممنوع; لأن العقارات مختلفة في البقاء عادة, وعند أهل الخبرة فيعطى لمن بقي من عمره الغالب عشرة مثلا عقار يبقى عشرة, وهكذا على أن الذي يظهر أنه ليس المراد منع إعطاء عقار يزيد بقاؤه على العمر الغالب بل منع إعطاء ما ينقص عنه. وأما ما يساويه, أو يزيد عليه فإن وجدا تعين الأول, أو الثاني فقط اشتري له ولا أثر للزيادة للضرورة, ويظهر أيضا فيما لو عرض انهدام عقاره المعطى أثناء المدة أنه يعطى ما يعمره به عمارة تبقى بقية المدة نعم إن فرض وجود مبنى أخف من عمارة ذاك لم يبعد أن يقال: يتعين شراؤه له, ويباع ذاك ويوزن ثمنه في هذا, هذا كله في غير محصورين أما المحصورون فسيأتي أنهم يملكونه, وهل ملكهم له بعدد رءوسهم, أو قدر حاجاتهم, أو لا يملكون إلا الكفاية دون الزائد عليها؟. تردد فيه الدميري وغيره, والذي يظهر أنهم يملكون ما يكفيهم على قدر حاجاتهم ولا ينافيه ما يأتي من الاكتفاء بأقل متمول لأحدهم; لأن محله كما هو ظاهر حيث لا ملك, ويفرق بأن ذاك منوط بالمفرق لا بمستحق معين فنظر فيه لاجتهاده ورعاية الحاجة الواجبة على الإمام, أو نائبه إنما تقتضي الإثم عند الإخلال بها لا منع الإجزاء, وهذا الملك فيه منوط بوقت الوجوب لمعين فلا ينظر للمفرق, وحينئذ فلا مرجح إلا الكفاية, فوجب ملكهم بحسبها, وأن الفاضل عنها يحفظ حتى يوجد غيرهم, وقول السبكي لو زادت الزكاة على كفاية المستحقين لكثرتها وقلتهم لزمه قسمتها كلها عليهم, وينتقل بعدهم لورثتهم فيه نظر, بل الوجه ما يصرح به كلامهم كما اعترف به ثم, أوله أن ما زاد من الزكوات على كفايتهم يحفظ لوجودهم.
"و" يعطى "المكاتب والغارم" لغير نحو إصلاح ذات البين لما مر أنه يعطى مع الغني أي: كل منهما "قدر دينه" ما لم يكن معه وفاء لبعضه وإلا فما يوفيه فقط. "وابن

 

ج / 3 ص -158-        السبيل ما يوصله مقصده" بكسر الصاد إن لم يكن له في طريقه إليه مال. "أو موضع ماله" إن كان له في طريقه مال فإن كان ببعضه بعض ما يكفيه كمل له كفايته ويعطى لرجوعه أيضا إن عزم عليه, والأحوط تأخيره إلى شروعه فيه إن تيسر أي: ووجد شرط النقل إن كان المفرق المالك ولمدة إقامة المسافرين, وهي أربعة أيام لا ثمانية عشر; لأن شرطها قد لا يوجد "و" يعطى "الغازي قدر حاجته" اللائقة به وبممونه ل "نفقة وكسوة" له ولهم "ذاهبا وراجعا ومقيما هناك" أي: في الثغر, أو نحوه إلى الفتح, وإن طال لبقاء اسم الغزو مع الطول بخلاف السفر في ابن السبيل, ويعطيان جميع المؤنة لا ما زاد بسبب السفر فقط ومؤنة من تلزمهما مؤنته ولم يقدروا المعطى لإقامة الغازي, وبحث الأذرعي أنه يعطى لأقل ما يظن إقامته, ثم فإن زاد زيد له, ويغتفر له النقل أي: من المالك حينئذ لدار الحرب للحاجة, أو تنزل إقامته ثم لمصلحة المسلمين منزلة إقامته ببلد المال. "و" يعطيه الإمام لا المالك لامتناع الإبدال في الزكاة عليه "فرسا" إن كان ممن يقاتل فارسا "وسلاحا" ولو بغير شراء لما يأتي "ويصير ذلك" أي: الفرس والسلاح "ملكا له" إن أعطي الثمن فاشترى لنفسه, أو دفعهما له الإمام ملكا إذا رآه بخلاف ما إذا استأجرهما له, أو أعاره إياهما لكونهما موقوفين عنده إذ له شراؤهما من هذا السهم وبقاؤهما ووقفهما, وتسمية ذلك عارية مجاز إذ الإمام لا يملكه والآخذ لا يضمنه لو تلف, بل يقبل قوله فيه بيمينه كالوديع, لكن لما وجب ردهما عند انقضاء الحاجة منهما أشبها العارية "ويهيأ" من جهة الإمام "له ولابن السبيل مركوب إن كان السفر طويلا أو" كان السفر قصيرا, ولكنه "كان ضعيفا لا يطيق المشي" بالضابط السابق في الحج كما هو ظاهر دفعا لضرورته بخلاف ما إذا اقتصر, وهو قوي, وأعطي الغازي مركوبا غير الفرس كما صرحت به العبارة ليتوفر فرسه للحرب إذ ركوبه في الطريق يضعفه. "وما ينقل عليه الزاد ومتاعه" لحاجته إليه "إلا أن يكون قدرا يعتاد مثله حمله بنفسه" لانتفاء الحاجة, وأفهم التعبير بيهيئ أنه يسترد منهما جميع ذلك إذا عادا, ومحله في الغازي إن لم يملكه له الإمام إذا رآه; لأنه لحاجتنا إليه أقوى استحقاقا من ابن السبيل فلذا استرد منه, ولو ما ملكه إياه ويعطى المؤلف ما يراه الدافع كما مر, والعامل أجرة عمله فإن زاد سهمه عليها رد الفاضل على بقية الأصناف, وإن نقص كمل من مال الزكاة, أو من سهم المصالح. "ومن فيه صفتا استحقاق" للزكاة كالفقر والغرم, أو الغزو "يعطى" من زكاة واحدة أي: باعتبار ما وجبت فيه لا من وجبت عليه فيما يظهر فلو كان على واحد زكوات أجناس كانت زكوات متعددة, ولو اشترك جماعة في زكاة جنس واحد كانت متحدة "بإحداهما فقط" والخيرة إليه, ويفرق بينه وبين ما مر فيمن له حرف يكفيه كل منهما يعطى بالأدنى بأنه لو أعطي ثم فوق الأدنى لزم أخذه للزائد بلا موجب, وهنا كل من الوصفين موجب فلا محذور في اختياره لأحدهما, وإن اقتضى الزيادة على الآخر "في الأظهر"; لأنه مقتضى العطف في الآية نعم إن أخذ بالغرم, أو الفقر مثلا فأخذه غريمه, وبقي فقيرا أخذ بالفقر, وإن نازع فيه كثيرون, فالممتنع إنما هو الأخذ بهما دفعة واحدة, أو مرتبا قبل التصرف في المأخوذ أما من زكاتين, فيجوز أن يأخذ من واحدة بصفة, ومن الأخرى بصفة أخرى كغاز

 

ج / 3 ص -159-        هاشمي يأخذ بهما من الفيء كما مر.
"تنبيه" يأتي أن الزكوات كلها في يد الإمام كزكاة واحدة, وقضيته أنه يمتنع عليه إعطاء واحد بصفة من زكاة, وبأخرى من زكاة أخرى, وهو بعيد, والذي يتجه جواز ذلك لما قررته في معنى اتحاد الزكاة وكونها في يده كزكاة واحدة إنما هو بالنظر لجواز النقل وعدم الاستيعاب ونحوهما مما يقتضي التسهيل عليه.

فصل في قسمة الزكاة بين الأصناف ونقلها وما يتبعهما
"يجب استيعاب الأصناف" الثمانية بالزكاة ولو زكاة الفطر لكن اختار جمع جواز دفعها لثلاثة فقراء, أو مساكين مثلا وآخرون جوازه لواحد, وأطال بعضهم في الانتصار له, بل نقل الروياني عن الأئمة الثلاثة وآخرين أنه يجوز دفع زكاة المال أيضا إلى ثلاثة من أهل السهمان قال, وهو الاختيار لتعذر العمل بمذهبنا ولو كان الشافعي حيا لأفتانا به. ا هـ. "إن قسم الإمام" أو نائبه "وهناك عامل" لم يجعل الإمام له شيئا من بيت المال لإضافتها إليهم جميعهم فلم يجز حرمان بعضهم كما مر أول الباب, ونقل الأذرعي عن الدارمي وأقره أنه لا يجوز إعطاؤه إلا إذا لم يوجد متبرع, والأوجه وفاقا للسبكي جوازه, وإن وجد فيستحق إن أذن له الإمام في العمل, وإن لم يشرط له شيئا بل, وإن شرط له أن لا يأخذ شيئا; لأنه يستحق ذلك بالعمل فريضة من الله تعالى, فلا يحتاج لشرط من المخلوق كما تستحق الغنيمة بالجهاد فلا يخرج عن ملكه إلا بناقل "وإلا" يقسم الإمام بل المالك, أو قسم الإمام ولا عامل هناك بأن حملها أصحابها إليه, أو جعل للعامل أجرة من بيت المال, وكأنهم إنما لم ينظروا هنا لكونه فريضة; لأن ما يأخذه من بيت المال في حكم البدل عنها فلم تفت هنا بالكلية بخلافها ثم "فالقسمة على سبعة" منهم المؤلف كما مر بما فيه "فإن فقد بعضهم" أي: السبعة, أو الثمانية ولم يبال بشمول هذا الفقد العامل لأنه قدم حكمه أي: صنف فأكثر أو بعض صنف من البلد بالنسبة للمالك, ومنه من غيره بالنسبة للإمام "فعلى الموجودين" تكون القسمة, فيعطى في الأخيرة حصة الصنف كله لمن وجد من أفراده; لأن المعدوم لا سهم له قال ابن الصلاح: الموجود الآن أربعة فقير ومسكين وغارم وابن سبيل, والأمر كما قال في غالب البلاد فإن لم يوجد أحد منهم حفظت حتى يوجد بعضهم.
"تنبيه" سيذكر هذا أيضا بقوله وإلا فيرد على الباقين, ولا تكرار; لأنه ذكر هنا لضرورة التقسيم وثم لبيان الخلاف.
"وإذا قسم الإمام", أو عامله الذي فوض إليه الصرف "استوعب" وجوبا "من الزكوات الحاصلة عنده" إن سدت أدنى مسد لو وزعت على الكل "آحاد كل صنف" لسهولة ذلك عليه, ومن ثم لم يلزمه استيعابهم من كل زكاة على حدتها لعسره, بل له إعطاء زكاة واحد لواحد; لأن الزكوات كلها في يده كزكاة واحدة, وبهذا يعلم أن المراد في قولهم: أول الفصل بل بالزكاة الجنس. "وكذا يستوعب" وجوبا على المعتمد "المالك", أو وكيله الآحاد "إن انحصر المستحقون في البلد" بأن سهل عادة ضبطهم أو معرفة عددهم نظير ما يأتي في النكاح

 

ج / 3 ص -160-        "ووفى بهم" أي: بحاجاتهم أي: الناجزة فيما يظهر "المال" لسهولته عليه حينئذ, وناقضا هذا أعني الوجوب في موضع آخر وحمل على ما إذا لم يف بهم المال كما قال "وإلا" ينحصروا, أو انحصروا ولم يف بهم المال. "فيجب إعطاء ثلاثة" فأكثر من كل صنف; لأنهم ذكروا في الآية بلفظ الجمع, وأقله ثلاثة إلا ابن السبيل, وهو المراد فيه أيضا, وإنما أفرد لما مر فيه على أن إضافته للمعرفة أوجبت عمومه فكان في معنى الجمع, وكذا قوله: في سبيل الله نعم يجوز اتحاد العامل فإن أخل بصنف غرم له حصته أو ببعض الثلاثة مع القدرة عليه غرم له أقل متمول نعم الإمام إنما يضمن مما عنده من الزكاة, ثم التفصيل بين المحصور المذكور, وغيره إنما هو بالنسبة للتعميم وعدمه أما بالنسبة للملك فمتى وجد وقت الوجوب من كل صنف ثلاثة فأقل ملكوها, وإن كانوا ورثة المزكي بنفس الوجوب ملكا مستقرا يورث عنهم, وإن كان ورثتهم أغنياء, أو المالك وحينئذ تسقط الزكاة عنه, والنية لسقوط الدفع لا لتعذر أخذه من نفسه لنفسه, ولم يشاركهم من حدث ولهم التصرف فيه قبل قبضه إلا بالاستبدال عنه, والإبراء منه, وإن كان هو القياس; لأن الغالب على الزكاة التعبد كما أشار إليه ابن الرفعة, ولو انحصر صنف, أو أكثر دون البقية أعطي كل حكمه, ومر في الوكالة جواز التوكيل في قبضها بما فيه, وهنا أنهم يملكون على قدر كفايتهم; لأنها المرجحة في هذا الباب كما علمته مما مر ويأتي.
"وتجب التسوية بين الأصناف" سواء أقسم المالك أم العامل, وإن تفاوتت حاجتهم; لأن ذلك هو قضية الجمع بينهم بواو التشريك نعم حيث استحق العامل لم يزد على أجرة مثله فإن زاد الثمن عليها رد الزائد للباقي على ما يأتي, أو نقصت تمم من الزكاة, أو من بيت المال كما مر ولو نقص سهم صنف آخر عن كفايتهم, وزاد سهم صنف آخر رد فاضل هذا على أولئك كما يعلم مما يأتي, ووقع في تصحيح التنبيه تصحيح نقله لأولئك الصنف, والمعتمد خلافه "لا بين آحاد الصنف" فلا تجب التسوية إن قسم المالك لعدم انضباط الحاجات التي من شأنها التفاوت, لكن يسن التساوي إن تساوت حاجتهم, وفارق هذا ما قبله بأن الأصناف محصورون في ثمانية, فأقل وعدد كل صنف غير محصور غالبا فسقط اعتباره وجاز التفضيل "إلا أن يقسم الإمام", أو نائبه وهناك ما يسد مسدا لو وزع "فيحرم عليه التفضيل مع تساوي الحاجات" على المعتمد لسهولة التساوي عليه; ولأن عليه التعميم كما مر, فكذا التسوية بخلاف المالك فيهما أما لو اختلفت الحاجات فيراعيها, وإذا لم تجب التسوية فالمتوطنون أولى. "والأظهر" وإن نقل مقابله عن أكثر العلماء وانتصر له "منع نقل الزكاة" لغير الغازي على ما مر فيه عن محل المؤدى عنه من الفطرة والمال الذي وجبت فيه, وهو فيه مع وجود مستحق به إلى محل آخر به مستحق لتصرف إليه ما لم يقرب منه أي: بأن نسب إليه عرفا بحيث يعد معه بلدا واحدا, وإن خرج عن سوره وعمرانه فيما يظهر ثم رأيت أبا شكيل قال: ومحل المنع في غير سواد البلد وقراه فلا خلاف في جوازه فيه. ا هـ. والظاهر أن مراده بذلك ما ذكرته, وإلا فهو بعيد مما يرد نفيه للخلاف بل وما بحثه قول الشيخ أبي حامد لا يجوز لمن في البلد أن يدفع زكاته لمن هو خارج السور;

 

ج / 3 ص -161-        لأنه نقل للزكاة. ا هـ, لكن فيه حرج شديد, فالوجه ما ذكرته; لأنه ليس فيه إفراط أبي حامد ولا تفريط أبي شكيل فتأمله, ثم رأيت الزركشي في شرحه نقل عن الشيخ وابن الصباغ أنهما ألحقا سواد البلد إلى دون مسافة القصر بحاضريه كما في الخيام أي: الحلل المتفرقة غير المتمايزة لمن قد ينتجعون عند الحاجة إذ هؤلاء هم الذين يتقيدون بدون مسافة القصر كما يأتي, وهذه المقالة لإفادتها أن المعدين من سواد بلد, وإن تفرقت منازلهم إلى دون مرحلتين ينقل إليهم فقط فيها تقييد لمقالة أبي شكيل ومع ذلك فالوجه ضعفها أيضا ثم ما ذكر عن الشيخ هنا ينافيه ما مر عنه فلعل كلامه اختلف, وإذا منعنا النقل حرم, ولم يجز لخبر الصحيحين "تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم". ونظر في وجه دلالته أي: لأن الظاهر أن الضمير لعموم المسلمين, ولامتداد أطماع مستحقي كل محل إلى ما فيه من الزكاة, والنقل يوحشهم وبه فارقت الزكاة الكفارة والنذر والوصية ووقفا لفقراء, أو مساكين إذا لم ينص نحو الواقف فيه على نقل, أو غيره وعلم من إناطة الحكم ببلد المال لا المالك أن العبرة ببلد المدين لا الدائن لكن قال بعضهم: له صرفها في أي بلد شاء, وقد يوجه بأن ما في الذمة لا يوصف بأن له محلا مخصوصا; لأنه أمر تقديري لا حسي فاستوت الأماكن كلها إليه فيخير مالكه, ومحله في دين يلزم المالك الإخراج عنه, وهو في الذمة, وإلا فيحتمل أن العبرة بمحل قبضه منه فحينئذ يخرج على مستحقيه جميع زكاة السنين السابقة ويحتمل أنه كالأول فيتخير هنا أيضا; لأنه بالقبض تبين تعلق وجوب كل حول مر به, وقد كان حينئذ غير موجود حسا فتخير هنا أيضا, والكلام في المالك المقيم ببلد, أو بادية لا يظعن عنها أما الإمام فله نقلها مطلقا لما مر أن الزكوات كلها في يده كزكاة واحدة, وكذا الساعي, بل يلزمه نقلها للإمام إذا لم يأذن له في تفرقتها ومثله قاض له دخل فيها بأن لم يولها الإمام غيره, ولمن جاز له النقل أن يأذن للمالك فيه على الأوجه; لكن لا ينقل إلا في عمله لا خارجه كما يؤخذ مما مر في زكاة الفطر, وقد يجوز للمالك أيضا كما إذا كان له بكل محل عشرون شاة فله مع الكراهة إخراج شاة بأحدهما حذرا من التشقيص وكأن حال الحول والمال ببادية لا مستحق بها فيفرقه في أقرب محل إليه به مستحق, وللمنتجعين من أهل الخيام الذين لا قرار لهم صرفها لمن معهم ولو بعض صنف كمن بسفينة في اللجة فيما يظهر, فإن فقدوا فلمن بأقرب محل إليهم عند تمام الحول, فإن تعذر الوصول للأقرب, فهل ينقل للأقرب إلى ذلك الأقرب وهكذا, أو يحفظ حتى يتيسر الوصول إليهم كل محتمل ولو قيل: إن رجا الوصول عن قرب انتظر, وإلا نقل لكان أوجه ولو استوى بلدان في القرب إليه, فالذي يظهر أنهما كبلد واحدة, فيجري في مستحقيهما ما مر في مستحق بلد واحدة, والحلل المتمايزة بنحو ماء ومرعى لكل كل حلة منها كبلد فيحرم النقل إليها, وغير المتمايزة له النقل إليها لمن بدون مسافة القصر من محل الوجوب.
"ولو عدم الأصناف في البلد" أي: بلد الوجوب, أو فضل عنهم شيء "وجب النقل" لها, أو للفاضل إلى مثلهم بأقرب محل لمحل المال, فإن جاوزه حرم ولم يجز كالنقل ابتداء, وإنما لم يجز نقل دم الحرم مطلقا, بل يحفظ لوجود مساكينه; لأنه وجب لهم بالنص فهو

 

ج / 3 ص -162-        كمن نذر تصدقا على فقراء بلد كذا ففقدوا يحفظ حتى يوجدوا, والزكاة ليس فيها نص صريح بتخصيصها بالبلد وإذا جاز النقل فمؤنة على المالك قبل قبض الساعي وبعده في الزكاة, فيباع منها ما يفي بذلك كما لو خشي وقوعها في خطر, أو احتاج لرد جبران. "أو" عدم "بعضهم" من بلد المال ووجد بغيره, أو فضل عنه شيء بأن وجدوا كلهم, وفضل عن كفاية بعضهم شيء, أو وجد بعضهم وفضل عن كفاية بعضه شيء "وجوزنا النقل" مع وجودهم "وجب" النقل لذلك الصنف بأقرب بلد إليه "وإلا" نجوزه كما هو الأصح "فيرد" بالنصب وجوبا نصيب المفقود من البعض, أو الفاضل عنه, أو عن بعضه "على الباقين" إن نقص نصيبهم عن كفايتهم ولا ينقل إلى غيرهم لانحصار الاستحقاق فيهم فإن لم ينقص نقله لذلك الصنف بأقرب بلد إليه "وقيل: ينقل" إلى أقرب محل إليه للنص على استحقاقهم فيقدم على رعاية المكان الناشئة عن الاجتهاد ويرد بأن النص لو سلم عمومه كان في عمومه في الأمكنة خلاف فليس صريحا في محل النزاع.
"فرع" إذا امتنع المستحقون من أخذ الزكاة قوتلوا لتعطيلهم هذا الشعار العظيم كتعطيل الجماعة بناء على أنها فرض كفاية بل أولى, ولو قال: فرق هذا على المساكين لم يدخل فيهم هو ولا ممونه, وإن نص على ذلك.
"وشرط الساعي" وصف بأحد أوصافه السابقة "كونه حرا" ذكرا "عدلا" في الشهادة; لأنها ولاية ليس من ذوي القربى ولا من مواليهم ولا من المرتزقة ومر أنه يغتفر في بعض أنواع العامل كثير من هذه الشروط; لأن عمله لا ولاية فيه بوجه فكان ما يأخذه محض أجرة "فقيها بأبواب الزكاة" فيما تضمنته ولايته ليعرف ما يأخذه, ومن يدفع له "فإن عين له أخذ ودفع" بأن نص له على مأخوذ بعينه ومدفوع إليه بعينه "لم يشترط" فيه كأعوانه من نحو كاتب وحاسب ومشرف "الفقه" ولا الحرية أي: ولا الذكورة كما أفهمه كلام الماوردي, وهو متجه; لأنها سفارة لا ولاية. نعم لا بد من الإسلام كغيره من بقية الشروط; لأن فيه نوع ولاية, وقول الأحكام السلطانية لا يشترط الإسلام حمله الأذرعي على أخذ من معين وصرف لمعين; لأنه حينئذ محض استخدام لا ولاية فيه أي: لأنه لما عين له الثلاثة المأخوذ والمأخوذ منه, والمدفوع إليه لم يبق له دخل بوجه بخلافه فيما مر في قولنا: بأن نص له إلى آخره; لأنه لما لم يعين له المأخوذ منه كان له نوع ولاية كما تقرر, ويتأيد حمله المذكور بأنه يجوز توكيل الآحاد له في القبض والدفع, ويجب على الإمام, أو نائبه بعث السعاة لأخذ الزكوات. "وليعلم" الإمام, أو الساعي ندبا "شهرا لأخذها" أي: الزكاة ليتهيأ ذوو الأموال لدفعها والمستحقون لقبضها والمحرم أولى; لأنه أول السنة الشرعية, ومحل ذلك فيما يعتبر فيه الحول المختلف في حق الناس بخلاف نحو زرع وثمر لا يسن فيه ذلك, بل يبعث العامل وقت وجوبه من اشتداد الحب وإدراك الثمر, وهو لا يختلف غالبا في الناحية الواحدة كثير اختلاف, ومعلوم مما مر أن من تم حوله ووجد المستحق ولا عذر له يلزمه الأداء فورا ولا يجوز التأخير للمحرم ولا لغيره. "ويسن وسم نعم الصدقة والفيء" وخيله وحمره وبغاله وفيلته للاتباع في بعضها وقياسا في الباقي, ولتتميز حتى يردها واجدها, ولئلا يتملكها

 

ج / 3 ص -163-        المتصدق بعد فإنه يكره لمن تصدق بشيء أن يتملكه ممن دفعه له بغير نحو إرث أما نحو نعم غيرهما فيباح وسمه, وهو بمهملة, وقيل: معجمة التأثير بنحو كي, وقيل: المهملة للوجه والمعجمة لسائر البدن ويكون ندبا "في موضع" ظاهر صلب "لا يكثر شعره" ليظهر والأولى وسم الغنم في الأذن وغيرها في الفخذ, وكون ميسم الغنم ألطف وفوقه البقر وفوقه الإبل, وبحث أن ميسم الخيل فوق ميسم الحمر, ودون ميسم البقر والبغال, ويظهر أن الفيل فوق الإبل, وكتب صدقة أو زكاة في الزكاة, وكذا الله بل هو أبرك وأولى; لأن الغرض منه مع التبرك التمييز لا الذكر, فلا نظر لتمرغها به في النجاسة, وقد مر أن قصد غير الدراسة بالقرآن يخرجه عن حرمته المقتضية لحرمة مسه بلا طهر, وبه يرد ما للإسنوي, ومن تبعه هنا وكتب جزية, أو صغار في الجزية وفي نعم بقية الفيء فيء, ويكفي كتب حرف كبير ككاف الزكاة "ويكره" الوسم لغير آدمي "في الوجه" للنهي عنه "قلت الأصح تحريمه, وبه جزم البغوي وفي صحيح مسلم" خبر فيه "لعن فاعله", وهو مر صلى الله عليه وسلم بحمار وقد وسم في وجهه فقال: "لعن الله الذي وسمه" وحينئذ فمن قال بالكراهة أراد كراهة التحريم, أو لم يبلغه هذا, "والله أعلم" أما وسم وجه الآدمي, ومنع ما يفعل بوجه بعض الأرقاء بل الوجه أن التقييد بالوجه ليس إلا لكون الكلام فيه إذ لا مزية في حرمته بغير الوجه أيضا; لأن التعذيب بالنار, أو غيرها لا يجوز إلا إن ورد كما في الوسم هنا, أو كان لضرورة توقفت عليه فقط كالتداوي بالنجاسة, بل أولى فحرام إجماعا, وكذا ضرب وجهه كما يأتي في الأشربة, ويحرم الخصاء إلا لصغار المأكول, ويظهر ضبط الصغر بالعرف, أو بما يسرع معه البرء, ويخف الألم وقد يرجع لما قبله, وبحث الأذرعي تحريم إنزاء الخيل على البقر لكبر آلتها, ويؤخذ منه أن كل إنزاء مضر ضررا لا يحتمل عادة كذلك, وبه يرد التنظير في قول شارح يلحق إنزاء الخيل على الحمير بعكسه في الكراهة. نعم إن لم يحتمل الأتان الفرس لمزيد كبر جثته اتجهت الحرمة

فصل في صدقة التطوع
وهي المرادة عند الإطلاق غالبا "صدقة التطوع سنة" مؤكدة للآيات والأحاديث الكثيرة الشهيرة فيها منها الخبر الصحيح "كل امرئ في ظل صدقته حتى يفصل بين الناس" وقد تحرم كأن علم كذا وكذا إن ظن فيما يظهر من الآخذ أنه يصرفها في معصية لا يقال: تجب للمضطر لتصريحهم بأنه لا يجب البذل له إلا بثمنه ولو في الذمة لمن لا شيء معه نعم من لا يتأهل للالتزام يمكن جريان ذلك فيه حيث لم ينو الرجوع وسيأتي في السير أنه يلزم المياسير على الكفاية نحو إطعام المحتاجين "وتحل لغني" للخبر الصحيح به ويكره له, وإن لم يكفه ماله, أو كسبه إلا يوما وليلة, ويظهر أخذا مما مر آنفا أنه لا عبرة بكسب حرام, أو غير لائق به أخذها, والتعرض له إن لم يظهر الفاقة, أو يسأل وإلا حرم عليه قبولها, واستثنى في الإحياء من تحريم سؤال القادر على الكسب ما إذا كان مستغرق الوقت في طلب العلم, وفيه أيضا

 

ج / 3 ص -164-        سؤال الغني حرام بأن وجد ما يكفيه هو وممونه يومهم وليلتهم وسترتهم وآنية يحتاجون إليها, وهل له سؤال ما يحتاج إليه بعد يوم وليلة؟. ينظر إن كان السؤال متيسرا عند نفاد ذلك لم يجز, وإلا جاز أن يطلب ما يحتاج إليه لسنة. ا هـ. ونازع الأذرعي في التحديد بالسنة وبحث جواز طلب ما يحتاج إليه إلى وقت يعلم عادة تيسر السؤال والإعطاء فيه لا يحرم على من علم غنى سائل, أو مظهر للفاقة الدفع إليه فيما يظهر خلافا للأذرعي; لأن الحرمة إنما هي لتغريره بإظهار الفاقة من لا يعطيه لو علم غناه فمن علمه, وأعطاه لم يحصل له تغرير, ثم رأيت بعضهم رد عليه بتصريح شرح مسلم بعدم الحرمة, وظاهر أن سؤال ما اعتيد سؤاله بين الأصدقاء, ونحوهم مما لا يشك في رضا باذله, وإن علم غنى آخذه كقلم, وسواك لا حرمة فيه لاعتياد المسامحة به, ومن أعطي لوصف يظن به كفقر, أو صلاح, أو نسب بأن توفرت القرائن أنه إنما أعطي بهذا القصد, أو صرح له المعطي بذلك, وهو باطنا بخلافه حرم عليه الأخذ مطلقا, ومثله ما لو كان به وصف باطنا لو اطلع عليه المعطي لم يعطه, ويجري ذلك في الهدية أيضا على الأوجه, ومثلها سائر عقود التبرع فيما يظهر كهبة ووصية ووقف ونذر وبحث الأذرعي ندب التنزه للفقير عن قبول صدقة التطوع إلا إن حصل للمعطي نحو تأذ, أو قطع رحم, وقد يعارضه الخبر الصحيح "ما أتاك من هذا المال, وأنت غير مستشرف ولا سائل فخذه" إلا أن يجاب بحمل البحث على ما إذا كان في الأخذ نحو شك في الحل, أو هتك للمروءة, أو دناءة في التناول, وفي شرح مسلم وغيره متى أذل نفسه, أو ألح في السؤال, أو آذى المسئول حرم اتفاقا أي: وإن كان محتاجا كما أفتى به ابن الصلاح وفي الإحياء متى أخذ من جوزنا له المسألة عالما بأن باعث المعطي الحياء منه, أو من الحاضرين ولولاه لما أعطاه فهو حرام إجماعا, ويلزمه رده. ا هـ, وحيث حرم الأخذ لم يملك ما أخذه; لأن مالكه لم يرض ببذله له وذهب الحليمي إلى حرمة السؤال بالله تعالى إن أدى إلى تضجر, ولم يأمن أن يرده وإلى أن رد السائل صغيرة ما لم ينهره, وإلا فكبيرة. ا هـ, ويحمل الأول على ما إذا آذى بذلك المسئول إيذاء لا يحتمل عادة, والثاني على نحو مضطر مع العلم بحاله, وإلا فعموم ما قاله غريب, وقد أطلقوا أنه يكره سؤال مخلوق بوجه الله لخبر أبي داود "لا يسأل بوجه الله إلا الجنة" وقضيته أن السؤال بالله من غير ذكر الوجه لا كراهة فيه, وفيه نظر إذ الوجه بمعنى الذات فتساويا إلا أن يقال: إن ذكر الوجه فيه من الفخامة ما يناسب أن لا يسأل به إلا الجنة بخلاف ما إذا حذف, ويظهر أن سؤال المخلوق بوجه الله ما يؤدي إلى الجنة كتعليم خبر لا يكره, وأن سؤال الله بوجهه ما يتعلق بالدنيا يكره كما دل عليه الحديث, وقد بسطت الكلام على ذلك في شرح المشكاة. "وكافر" ولو حربيا لخبر الصحيحين "في كل كبد رطبة أجر" وخبر "لا يأكل طعامك إلا تقي" المراد به أن الأولى تحري الأتقياء, ويأتي منع إعطائه من أضحية التطوع. "ودفعها سرا" أفضل منه جهرا الآية {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ} ولأن مخفيها بحيث لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه كناية عن المبالغة في إخفائها من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله وفي حديث سنده حسن "صنائع المعروف تقي مصارع السوء, وصدقة السر تطفئ

 

ج / 3 ص -165-        غضب الرب, وصلة الرحم تزيد في العمر" وإبداؤها ليقتدي به غيره لا لغرض آخر حسن بل قال ابن عبد السلام: إنه لمقصد صالح أفضل, وسبقه إليه الغزالي بشرط أن لا يتأذى الآخذ بالإظهار أما الزكاة, فإظهارها أفضل إجماعا كما في المجموع قال الماوردي: إلا المال الباطن أي: إن خشي محذورا وإلا فهو ضعيف "و" دفعها "في رمضان" لا سيما عشرة الأخر أفضل لخبر أبي داود أي صدقة أفضل قال: "في رمضان" ولعجز الفقراء عن التكسب فيه, ويليه عشر الحجة فيما يظهر, وفي الأماكن الشريفة كمكة ثم المدينة, وعند الأمر المهم كغزو وحج ومرض وسفر وكسوف واستسقاء أفضل, وليس المراد بذلك أن من أراد صدقة يسن له تأخيرها لشيء مما ذكر, بل الاعتناء عند وجود ذلك بالإكثار منها فيه; لأنه أعظم أجرا وأكثر فائدة. "أو" دفعها "لقريب" تلزمه نفقته أولا الأقرب فالأقرب من المحارم, ثم الزوج, أو الزوجة ثم غير المحرم, والرحم من جهة الأب, ومن جهة الأم سواء, ثم محرم الرضاع, ثم المصاهرة, ثم المولى من أعلى, ثم من أسفل أفضل, ويجري ذلك في نحو الزكاة أيضا إذا كانوا بصفة الاستحقاق, والعدو من الأقارب أولى لخبر فيه وألحق به العدو ومن غيرهم "و" دفعها بعد القريب إلى "جار أفضل" منه لغيره فعلم أن القريب البعيد الدار في البلد أفضل من الجار الأجنبي, وفي غيرها الجار أولى منه بناء على منع نقل الزكاة, وأهل الخير والمحتاجون أولى من غيرهم مطلقا.
"فرع" قال في المجموع عن الشيخ أبي حامد وأقره يكره الأخذ ممن بيده حلال وحرام كالسلطان الجائر وتختلف الكراهة بقلة الشبهة وكثرتها, ولا يحرم إلا إن تيقن أن هذا من الحرام الذي يمكن معرفة صاحبه أي: ليرده عليه, وإلا فبدله لما مر في الغصب أن من ملك بالخلط يحجر عليه في التصرف فيه حتى يعطى البدل, وقول الغزالي يحرم الأخذ ممن أكثر ماله حرام, وكذا معاملته شاذ انفرد به أي: على أنه في بسيطه جرى على المذهب فجعل الورع اجتناب معاملة من أكثر ماله ربا. قال: وإنما لم يحرم, وإن غلب على الظن أنه ربا; لأن الأصل المعتمد في الأملاك اليد, ولم يثبت لنا فيه أصل آخر يعارضه فاستصحب ولم يبال بغلبة الظن. ا هـ. قال غيره, ويجوز الأخذ من الحرام بقصد رده على مالكه إلا إن كان مفتيا, أو حاكما, أو شاهدا فيلزمه التصريح بأنه إنما يأخذه للرد على مالكه لئلا يسوء اعتقاد الناس في صدقه ودينه فيردون فتياه وحكمه وشهادته.
"ومن عليه دين" لله, أو لآدمي "أو له من تلزمه نفقته يستحب" له "أن لا يتصدق حتى يؤدي ما عليه" تقديما للأهم, وعبارة أصله كالروضة وغيرها لا يستحب له أن يتصدق والأولى أولى; لأن أهمية الدين إن لم تقتض الحرمة على هذا القول فلا أقل من أن تقتضي طلب عدم الصدقة قال الأذرعي وهذا ليس على إطلاقه إذ لا يقول أحد فيما أظن: إن من عليه صداق, أو غيره إذا تصدق بنحو رغيف مما يقطع بأنه لو بقي لم يدفعه لجهة الدين أنه لا يستحب له التصدق به, وإنما المراد أن المسارعة لبراءة الذمة أولى وأحق من التطوع على الجملة. "قلت: الأصح تحريم صدقته" ومنها فيما يظهر إبراء مدين له موسر مقر, أو له به بينة "بما يحتاج إليه" حالا كما ارتضاه ابن الرفعة, وينبغي أن مراده به يومهم وليلتهم

 

ج / 3 ص -166-        "لنفقة" ومؤنة "من تلزمه نفقته, أو لدين" ولو مؤجلا لله, أو لآدمي "لا يرجو" أي: يظن "له وفاء" حالا في الحال, وعند الحلول في المؤجل من جهة ظاهرة. "والله أعلم"; لأن الواجب لا يجوز تركه لسنة ومع حرمة التصدق يملكه الآخذ خلافا لكثيرين اغتروا بكلام ابن الرفعة وغيره, وغفلوا عن كلام الشافعي والأصحاب, وقد بينت ذلك أتم بيان, وأوضحه في كتابي قرة العين ببيان أن التبرع لا يبطله الدين, قيل: قضية المتن جوازه بما يحتاجه لنفقة نفسه وبه صرح في الروضة, وصحح في المجموع التحريم مطلقا. ا هـ, ويعلم مما يأتي حمل الأول على ما إذا صبر على الإضافة وعليه يحمل قولهم: يجوز للمضطر إيثار مضطر آخر مسلم, والثاني على ما إذا لم يصبر, وعليه حمل قولهم: في التيمم يحرم على عطشان إيثار عطشان آخر ولا يرد على المتن; لأن من تلزمه نفقته يشمل نفسه أيضا, واستشكل جمع ذلك بأن كثيرين من الصحابة والسلف تصدقوا بما يحتاجونه لعيالهم, ويجاب بحمله على علمهم من عيالهم الكاملين الرضا والصبر والإيثار, ثم رأيت ابن الرفعة جمع بحمل المنع على الكفاية حالا, والحل عليها للأبد, وما ذكرته أولى كما لا يخفى, ويؤيد ما ذكرته قول جمع لو كان من تلزمه نفقته بالغا عاقلا, ورضي بذلك كان الأفضل التصدق, أما إذا ظن وفاء الدين من جهة ظاهرة, ولو عند حلول المؤجل فلا بأس بالتصدق حالا, بل قد يسن. نعم إن وجب أداؤه فورا لطلب صاحبه له, أو لعصيانه بسببه مع عدم علم رضا صاحبه بالتأخير حرمت الصدقة قبل وفائه مطلقا كما تحرم صلاة النفل على من عليه فرض فوري. "وفي استحباب التصدق بما فضل عن حاجته" السابقة من حاجة نفسه وممونه يومهم وليلتهم وكسوة فصلهم ووفاء دينه "أوجه" أحدها: يسن مطلقا. ثانيها: لا يسن مطلقا. ثالثها: وهو "أصحها" أنه "إن لم يشق عليه الصبر استحب"; لأن الصديق رضي الله عنه وكرم وجهه تصدق بجميع ماله وقبله منه النبي صلى الله عليه وسلم صححه الترمذي "وإلا" بأن شق عليه الصبر "فلا" يستحب له, بل يكره للخبر الصحيح "خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى" أي: غنى النفس, وهو صبرها على الفقر, وبهذا التفصيل جمعوا بين الأحاديث المختلفة الظواهر كهذا الحديث مع خبر أبي بكر, أما التصدق ببعض الفاضل عن ذلك فيسن اتفاقا. نعم المقارب للكل كالكل, أو خرج بالصدقة الضيافة فلا يشترط فضلها عن مؤنة من ذكر على ما في المجموع للخلاف القوي في وجوبها, ويتعين حمله على ما إذا لم يؤد إيثارها إلى إلحاق أدنى ضرر بممونه الذي لا رضا له على أنه خالفه في شرح مسلم.
"فرع" في الجواهر يكره إمساك الفضل وغير المحتاج إليه كما بوب عليه البيهقي. ا هـ, وبحث غيره أن المراد بالباقي ما زاد على كفاية سنة أخذا من قولها أيضا: إذا كان بالناس ضرورة لزمه بيع ما فضل عن قوته وقوت عياله سنة, فإن أبى أجبره الحاكم, ويؤيده قول الروضة عن الإمام يلزم الموسر المواساة بما زاد على كفاية سنة. قال بعضهم: أي: في حال الضرورة لا مطلقا. ا هـ, وهو فاسد كما يعلم مما سأذكره أوائل السير, ولا ينافي اعتبار السنة هنا ما مر آنفا; لأن الكراهة كما هنا يحتاط لها أكثر من الندب كما هناك.