تحفة المحتاج بشرح المنهاج ط العلمية

ج / 4 ص -97-          كتاب البغاة
جمع باغ من بغى ظلم وجاوز الحد لكن ليس البغي اسم ذم على الأصح عندنا لأنهم إنما خالفوا بتأويل جائز في اعتقادهم لكنهم مخطئون فيه فلهم لما فيهم من أهلية الاجتهاد نوع عذر وما ورد من ذمهم وما وقع في كلام الفقهاء في بعض المواضع من عصيانهم أو فسقهم محمولان على من لا أهلية فيه للاجتهاد أو لا تأويل له أو له تأويل قطعي البطلان أي وقد عزموا على قتالنا أخذا مما يأتي في الخوارج أو ظنيه لأهليته للاجتهاد لكن خروجه لأجل جور الإمام بعد استقرار الأمر لما يأتي فيه المعلوم منه أن أهلية الاجتهاد إنما تمنع العصيان في الصدر الأول فقط فاندفع ما يقال كيف يشترطون التأويل المتوقف على الاجتهاد المطلق إلى الآن وهم مصرحون بانقطاعه من نحو ستمائة سنة فعلم أن الأحكام الآتية إنما تثبت للبغاة الذين "هم" مسلمون فالمرتدون إذا خرجوا لا تثبت لهم تلك الأحكام بل يقتلون من غير استتابة كما يعلم مما يأتي في الردة "مخالفو الإمام" ولو جائرا لحرمة الخروج عليه أي لا مطلقا بل بعد استقرار الأمر المتأخر عن زمن الصحابة والسلف رضي الله عنهم فلا يرد خروج الحسين بن علي وابن الزبير رضي الله عنهما ومعهما كثير من السلف على يزيد وعبد الملك ودعوى المصنف الإجماع على حرمة الخروج على الجائر إنما أراد الإجماع بعد انقضاء زمن الصحابة واستقرار الأمور أي وحينئذ فلا فرق في الحرمة بين المجتهد الذي له تأويل وغيره "بخروج عليه وترك" عطف تفسير "الانقياد" له بعد الانقياد له كذا وقع في عبارة بعضهم وظاهر أنه غير شرط "أو منع حق" طلبه منهم وقد "توجه عليهم" الخروج منه كزكاة أو حد أو قود "بشرط شوكة لهم" بحيث يمكن بها مقاومة الإمام كذا قيل وفيه نظر وأحسن منه قول بعضهم بحيث لا يسهل الظفر بهم وبعضهم بحيث لا يندفعون إلا بجمع جيش ويؤيده قول الإمام في قليلين لهم فضل قوة أنهم بغاة بالاتفاق، وإنما يتحقق فضل قوتهم بما ذكر أو بتحصنهم بحصن استولوا بسببه على ناحية وكان المراد بالقليلين الذين هم محل الاتفاق أحد عشر فأكثر بدليل حكاية ابن القطان وجهين فيما لو كانوا نحو خمسة أو ستة "وتأويل" غير قطعي البطلان يجوزون به الخروج عليه كتأويل أهل الجمل وصفين خروجهم على علي رضي الله عنه بأنه يعرف قتلة عثمان ويقدر على قتلهم ويمنعهم منهم لمواطأته إياهم كذا قيل والوجه أخذا من سيرهم في ذلك أن رميه بالمواطأة الممنوعة لم يصدر ممن يعتد به لأنه بريء من ذلك حاشاه الله منه وتأويل بعض مانعي الزكاة من أبي بكر رضي الله عنه بأنهم لا يدفعون الزكاة إلا لمن صلاته سكن لهم، وهو النبي صلى الله عليه وسلم أما إذا خرجوا بلا تأويل كمانعي حق الشرع كالزكاة عنادا أو بتأويل يقطع ببطلانه كتأويل المرتدين أو لم يكن لهم شوكة فليس لهم حكم البغاة كما يأتي بتفصيله "ومطاع فيهم"

 

ج / 4 ص -98-          يصدرون عن رأيه، وإن لم يكن منصوبا إذ لا شوكة لمن لا مطاع لهم فهو شرط لحصولها لا أنه شرط آخر غيرها "قيل و" المطاع، وإن كان شرطا لكن لا يكتفى في قيام شوكتهم بكل مطاع بل لا توجد شوكتهم إلا إن وجد المطاع، وهو "إمام" لهم "منصوب" منهم عليهم للحكم بينهم وردوا هذا الوجه بأن عليا كرم الله وجهه قاتل أهل الجمل ولا إمام لهم وأهل صفين قبل نصب إمامهم ولا يشترط على الأصح جعلهم لأنفسهم حكما غير حكم الإسلام ولا انفرادهم بنحو بلد "ولو أظهر قوم رأي الخوارج" وهم صنف من المبتدعة "كترك الجماعات" لأن الأئمة لما أقروا على المعاصي كفروا بزعمهم فلم يصلوا خلفهم "وتكفير ذي كبيرة" أي فاعلها فيحبط عمله ويخلد في النار عندهم "ولم يقاتلوا" أهل العدل وهم في قبضتهم "تركوا" فلا نتعرض لهم إذ لا يكفرون بذلك بل ولا يفسقون ما لم يقاتلوا وكما تركهم علي كرم الله وجهه وجعل حكمهم حكم أهل العدل نعم إن تضررنا بهم تعرضنا لهم حتى يزول الضرر كما يعزرون إن صرحوا بسب بعض أهل العدل ويؤخذ من قولهم ولا يفسقون أنا لا نفسق سائر أنواع المبتدعة الذين لا يكفرون ببدعتهم ويؤيده ما يأتي من قبول شهادتهم ولا يلزم من ورود ذمهم ووعيدهم الشديد ككونهم كلاب أهل النار الحكم بفسقهم، لأنهم لم يفعلوا محرما في اعتقادهم، وإن أخطئوا وأثموا به من حيث إن الحق في الاعتقاديات واحد قطعا كما عليه أهل السنة، وأن مخالفه آثم غير معذور فإن قلت أكثر تعاريف الكبيرة يقتضي فسقهم لوعيدهم الشديد وقلة اكتراثهم بالدين قلت، هو كذلك بالنسبة لأحكام الآخرة دون الدنيا لما تقرر أنهم لم يفعلوا محرما عندهم كما أن الحنفي يحد بالنبيذ لضعف دليله وتقبل شهادته، لأنه لم يفعل محرما عنده نعم، هو لا يعاقب، لأن تقليده صحيح بخلافهم كما علم مما تقرر "وإلا" بأن قاتلوا أو كانوا في غير قبضتنا "ف" هم "قطاع طريق" في حكمهم الآتي في بابهم لا بغاة، وإن أطال البلقيني في الانتصار له نعم لو قتلوا لم يتحتم قتلهم، لأنهم لم يقصدوا إخافة الطريق ومن ثم لو قصدوها تحتم، "وتقبل شهادة البغاة" لعدم فسقهم كما مر نعم الخطابية منهم ومن غيرهم لا تقبل شهادتهم لموافقيهم كما يأتي ولا ينفذ قضاؤهم "و" يقبل أيضا "قضاء قاضيهم" لذلك لكن "فيما يقبل فيه قضاء قاضينا" لا في غيره كمخالف النص أو الإجماع أو القياس الجلي وظاهر كلامهم هنا وجوب قبول ذلك وعليه فلا ينافيه ما يأتي في التنفيذ، لأن هذا كما هو ظاهر فيما وقع اتصال أثر الحكم به من نحو أخذ ورد وذاك فيما لم يتصل به أثره ويفرق بأن الإلغاء هنا فيه ضرر عظيم بخلافه ثم "إلا" راجع للأمرين قبله "أن يستحل" ولو على احتمال بأن لم ندر أنه ممن يستحل أو لا "دماءنا" أو أموالنا لفقد عدالته حينئذ ويؤخذ منه أن المراد استحلال خارج الحرب وإلا فكل البغاة يستحلونها حالة الحرب واعترض هذا بقول الروضة في الشهادات تقبل شهادة المستحل للدم والمال من أهل الأهواء والقاضي كالشاهد ورد بأن المعتمد ما هنا ويحتمل الجمع بحمل ما هنا على غير المؤول تأويلا محتملا وما هناك على المؤول كذلك ثم رأيت التصريح بذلك "وينفذ" بالتشديد "كتابه بالحكم" إلينا جوازا لصحته

 

ج / 4 ص -99-          بشرطه، "ويحكم" جوازا أيضا "بكتابه" إلينا "بسماع البينة في الأصح" لصحته أيضا ويندب عدم تنفيذه والحكم به استخفافا بهم وينبغي تخصيصه بما إذا لم يترتب عليه ضرر المحكوم له بأن انحصر تخليص حقه في ذلك بل لا يبعد حينئذ الوجوب ثم رأيت الأذرعي بحثه فيما إذا كان الحق لواحد منا على واحد منهم والذي يتجه أن عكسه مثله بقيده المذكور كما اقتضاه عموم ما قررته "ولو أقاموا حدا" أو تعزيرا "وأخذوا زكاة وجزية وخراجا وفرقوا سهم المرتزقة على جندهم صح" فنفذه إذا عاد إلينا ما استولوا عليه وفعلوا فيه ذلك تأسيا بعلي كرم الله وجهه لئلا يضر بالرعية، ولأن جندهم من جند الإسلام ورعب الكفار قائم بهم وبحث البلقيني أن محله إذا كان فاعل ذلك هو مطاعهم لا آحادهم ولا فرقة منعت واجبا عليها من غير خروج وفي زكاة غير معجلة ومعجلة استمرت شوكتهم لدخول وقتها وإلا لم يعتد بقبضهم لها، لأنهم عند الوجوب غير متأهلين للأخذ "وفي الأخير" وهو تفرقتهم ما ذكر بل فيما عدا الحد "وجه" أنه لا يعتد به لئلا يتقووا به علينا "وما أتلفه باغ على عادل وعكسه إن لم يكن في قتال" ولم يكن من ضرورته "ضمن" نفسا ومالا وقيده الماوردي بما إذا قصد أهل العدل التشفي والانتقام لا إضعافهم وهزيمتهم وبه يعلم ضعف قوله لا تعقر دوابهم إذا قاتلوا عليها، لأنه إذا جوز إتلاف أموالهم خارج الحرب لأجل إضعافهم فهذا أجوز، لأن الضرورة إليه آكد والإضعاف فيه أشد "وإلا" بأن كان في قتال لحاجته أو خارجه، وهو من ضرورته "فلا" ضمان لأمر العادل بقتالهم، ولأن الصحابة رضوان الله عليهم لم يطالب بعضهم بعضا بشيء نظرا للتأويل.
تنبيه: ذكر الدميري أن من قتل في الحرب ولم يعلم قاتله لم يرثه قريبه الذي في الطائفة الأخرى لاحتمال أنه قتله وفيه نظر واضح، وإن نقله غيره وأقره، لأن المانع لا يثبت بالاحتمال فالوجه خلافه.
"وفي قول يضمن الباغي" لتقصيره ولو وطئ أحدهما أمة الآخر بلا شبهة يعتد بها لزمه الحد وكذا المهر إن أكرهها والولد رقيق "و" المسلم "المتأول بلا شوكة" لا يثبت له شيء من أحكام البغاة فحينئذ "يضمن" ما أتلفه ولو في القتال كقاطع الطريق ولئلا يحدث كل مفسد تأويلا وتبطل السياسات "وعكسه" وهو مسلم له شوكة لا تأويل "كباغ" في عدم الضمان لما أتلفه في الحرب أو لضرورتها لوجود معناه فيه من الرغبة في الطاعة ليجتمع الشمل ويقل الفساد لا في تنفيذ قضاء واستيفاء حق أو حد أما مرتدون لهم شوكة فهم كقطاع مطلقا وإن تابوا وأسلموا لجنايتهم على الإسلام ويجب على الإمام قتال البغاة لإجماع الصحابة عليه وكذا من في حكمهم "و" لكن "لا يقاتل البغاة" أي لا يجوز له ذلك "حتى يبعث إليهم أمينا" أي عدلا "فطنا" أي ظاهر المعرفة بالعلوم والحروب وسياسة الناس وأحوالهم نعم إن علم ما ينقمونه اعتبر كونه فطنا فيما يظهر "ناصحا" لأهل العدل "يسألهم ما ينقمونه" ا هـ على الإمام أي يكرهونه منه تأسيا بعلي في بعثه ابن عباس رضي الله عنهم إلى الخوارج بالنهروان فرجع بعضهم إلى الطاعة وكون المبعوث عارفا

 

ج / 4 ص -100-        فطنا، واجب إن بعث للمناظرة وإلا فمندوب "فإن ذكروا مظلمة" بكسر اللام وفتحها "أو شبهة أزالها" عنهم الأمين بنفسه في الشبهة وبمراجعة الإمام في المظلمة ويصح عود الضمير على الإمام فإزالته للشبهة بتسببه فيه إن لم يكن عارفا وللمظلمة برفعها "وإن أصروا" على بغيهم بعد إزالة ذلك "نصحهم" ندبا كما، هو ظاهر بواعظ ترغيبا وترهيبا وحسن لهم اتحاد كلمة الدين وعدم شماتة الكافرين "ثم" إن أصروا دعاهم للمناظرة فإن امتنعوا أو انقطعوا وكابروا "آذنهم" بالمد أي أعلمهم "بالقتال"، لأنه تعالى أمر بالإصلاح ثم القتال هذا إن كان بعسكره قوة وإلا انتظرها وينبغي له أن لا يظهر لهم ذلك بل يرهبهم ويوري وعند القوة قال الماوردي يجب القتال إن تعرضوا لحريم أو أخذ مال بيت المال أو تعطل جهاد الكفار بسببهم أو منعوا واجبا أو تظاهروا على خلع إمام انعقدت بيعته أي أو ثبتت بالاستيلاء فيما يظهر فإن اختل ذلك كله جاز قتالهم انتهى وظاهر كلامهم وجوب قتالهم مطلقا، لأن ببقائهم وإن لم يوجد شيء مما ذكر تتولد مفاسد قد لا تتدارك "فإن استمهلوا" في القتال "اجتهد" في الإمهال "وفعل ما رآه صوابا" فإن ظهر له أن غرضهم إيضاح الحق أمهلهم ما يراه ولا يتقيد بمدة أو احتيالهم لنحو جمع عسكر بادرهم ويكون قتالهم كدفع الصائل سبيله الدفع بالأدنى فالأدنى قاله الإمام وظاهره وجوب هرب أمكن وليس مرادا، لأن القصد إزالة شوكتهم ما أمكن "ولا يقاتل" إذا وقع القتل "مدبرهم" الذي لم يتحرف لقتال ولا تحيز إلى فئة قريبة لا بعيدة لا من غائلته فيها ويؤخذ منه أن المراد بها هنا هي التي يؤمن عادة مجيئها إليهم قبل انقضاء القتال أما إذا لم يؤمن ذلك بأن غلب على الظن مجيئها إليهم والحرب قائمة فينبغي أن يقاتل حينئذ، وإنما لم يشترط نظير ذلك فيما يأتي في الجهاد، لأن المدار ثم على كونه يعد من الجيش أو لا، "ولا" يقتل تارك القتال منهم، وإن لم يلق سلاحه ولا "مثخنهم" بفتح الخاء من أثخنته الجراحة أضعفته ولا من ألقى سلاحه أو أغلق بابه "و" لا "أسيرهم" لخبر الحاكم والبيهقي بذلك واقتداء بما جاء في ذلك كله بسند حسن عن علي يوم الجمل نعم لو ولوا مجتمعين تحت راية زعيمهم اتبعوا حتى يتفرقوا ولا قود بقتل أحد هؤلاء لشبهة أبي حنيفة رضي الله عنه ويسن أن يتجنب قتل رحمه ما أمكنه فيكره ما لم يقصد قتله.
تنبيه: استعمل يقاتل مريدا به حقيقة المفاعلة فيمن يتأتى منه كالمدبر وأصل الفعل فيمن لا يتأتى منه كالمثخن ولا محذور فيه بل فيه نوع بلاغة فلا اعتراض عليه.
"ولا يطلق" أسيرهم إن كان فيه منعة "وإن كان صبيا أو امرأة" وقنا "حتى تنقضي الحرب ويتفرق جمعهم" تفرقا لا يتوقع جمعهم بعده وهذا في رجل حر وكذا في مراهق وامرأة وقن قاتلوا وإلا أطلقوا بمجرد انقضاء الحرب "إلا أن يطيع" الحر الكامل الإمام بمتابعته له "باختياره" أي وتقوم قرينة على صدقه فيما يظهر فيطلق، وإن بقيت الحرب لأمن ضرره "ويرد" وجوبا مالهم و "سلاحهم وخيلهم إليهم إذا انقضت الحرب وأمنت غائلتهم" أي شرهم بعودهم للطاعة أو تفرق شملهم تفرقا لا يلتئم نظير ما مر في إطلاقهم "ولا يستعمل" ما أخذ منهم من نحو سلاح وخيل "في قتال" أو غيره أي لا

 

 

ج / 4 ص -101-        يجوز ذلك "إلا لضرورة" كخوف انهزام أهل العدل أو نحو قتلهم لو لم يستعملوا ذلك نعم تلزمهم أجرة ذلك على ما اقتضاه كلام الروضة كمضطر أكل طعام غيره يلزمه قيمته وقضية كلام الأنوار أنها لا تلزم ولا يرد عليه المضطر، لأن الضرورة لم تنشأ من المالك بخلاف ما هنا ومع ذلك فالذي يتجه أن استعمالها إن كان في القتال أو لضرورته لم يضمنها ولا منفعتها كما علم مما مر وإلا ضمنهما "ولا يقاتلون بعظيم" يعم "كنار ومنجنيق" وتغريق وإلقاء حيات، لأن القصد ردهم للطاعة وقد يرجعون فلا يجدون للنجاة سبيلا "إلا لضرورة بأن قاتلوا به أو أحاطوا بنا" ولم يندفعوا إلا به قال البغوي بقصد الخلاص منهم لا بقصد قتلهم ويظهر أن هذا مندوب لا واجب قال المتولي ويلزم الواحد منا مصابرة اثنين منهم ولا يولي إلا متحرفا أو متحيزا وظاهره جريان الأحكام الآتية في مصابرة الكفار هنا "ولا يستعان عليهم بكافر" ذمي أو غيره إلا إن اضطررنا لذلك "ولا بمن يرى قتلهم مدبرين" أو أسراء أو التذفيف على جريحهم لعداوة أو اعتقاد كالحنفي أي لا يجوز لنحو شافعي الاستعانة بأولئك، لأن القصد ردهم للطاعة وأولئك يتدينون بقتلهم نعم إن احتجنا لذلك جاز إن كان لهم نحو جراءة وحسن إقدام وأمكننا دفعهم لو أرادوا قتل واحد ممن ذكر قال الماوردي ويشترط أن يشرط عليهم الامتناع من ذلك ويثق بوفائهم به انتهى ويظهر أن ذلك يأتي في الاستعانة بالكافر أيضا إلا إن ألجأت الضرورة إليهم مطلقا ولا يخالف ما هنا جواز استخلاف الشافعي للحنفي مثلا، لأن الخليفة مستبد برأيه واجتهاده وهؤلاء تحت راية الإمام ففعلهم منسوب له فوجب كونهم على اعتقاده "ولو استعانوا علينا بأهل الحرب وآمنوهم" بالمد أي عقدوا لهم أمانا ليقاتلونا معهم "لم ينفذ أمانهم علينا" للضرر فنعاملهم معاملة الحربيين "ونفذ" الأمان "عليهم في الأصح"، لأنهم آمنوهم من أنفسهم ولو قالوا وقد أعانوهم ظننا أنه يجوز إعانة بعضكم على بعض أو أنهم المحقون ولنا إعانة الحق أو أنهم استعانوا بنا على كفار وأمكن صدقهم بلغناهم المأمن وأجرينا عليهم فيما صدر منهم أحكام البغاة هذه هي العبارة الصحيحة وأما من عبر بقوله بلغناهم المأمن وقاتلناهم كبغاة فقد تجوز وإلا ففي الجمع بين تبليغ المأمن ومقاتلتهم كبغاة تناف لأن قتالهم كبغاة إن كان بعد تبليغ المأمن فغير صحيح، لأنهم بعد بلوغ المأمن حربيون فليقاتلوا كالحربيين وقبل بلوغه لا يقاتلون أصلا فالوجه أنهم لعذرهم يبلغون المأمن وبعده يقاتلون كحربيين أما لو آمنوهم تأمينا مطلقا فينفذ علينا أيضا فإن قاتلونا معهم انتقض الأمان في حقنا وحقهم، "ولو أعانهم أهل الذمة" أو معاهدون أو مستأمنون مختارين "عالمين بتحريم قتالنا انتقض عهدهم" حتى بالنسبة للبغاة كما لو انفردوا بالقتال فيصيرون حربيين يقتلون ولو مع نحو الإثخان والإدبار "أو مكرهين" ولو بقولهم بالنسبة لأهل الذمة وببينة بالنسبة لغيرهم "فلا" ينتقض عهدهم لشبهة الإكراه "وكذا" لا ينتقض عهدهم "لو" حاربوا البغاة، لأنهم حاربوا من على الإمام محاربته أو "قالوا ظننا جوازه" أي ما فعلوه من إعانة بعض المسلمين على بعض "أو" ظننا "أنهم" استعانوا بنا على كفار أو أنهم "محقون" وأن لنا إعانة المحق وأمكن جهلهم بذلك "على

 

ج / 4 ص -102-        المذهب" لأنهم معذورون قيل وقضية كذا أنه لا خلاف في الإكراه وليس كذلك بل فيه الطريقان مع عدم انتقاض عهدهم "ويقاتلون كبغاة" لا كحربيين لحقن دمائهم ولا يلحقون بهم في عدم ضمان ما يتلف في الحرب فيضمنون المال ويقتلون إن قتلوا، لأنه ثم لردهم للطاعة لئلا ينفرهم الضمان وهذا غير موجود في نحو الذميين.

فصل في شروط الإمام الأعظم
وبيان طرق الإمامة هي: فرض كفاية كالقضاء فيأتي فيها أقسامه الآتية من الطلب والقبول وعقب البغاة لكون الكتاب عقد لهم والإمامة لم تذكر إلا تبعا بهذا، لأن البغي خروج على الإمام الأعظم القائم بخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا ومن ثم اشترط فيه ما شرط في القاضي وزيادة كما قال "شرط الإمام كونه مسلما" ليراعي مصلحة الإسلام والمسلمين "مكلفا"، لأن غيره في ولاية غيره وحجره فكيف يلي أمر الأمة وروى أحمد خبر: "
نعوذ بالله من إمارة الصبيان" "حرا"، لأن من فيه رق لا يهاب وخبر: "اسمعوا وأطيعوا، وإن ولي عليكم عبد حبشي" محمول على غير الإمامة العظمى أو للمبالغة فقط "ذكرا" لضعف عقل الأنثى وعدم مخالطتها للرجال وصح خبر: "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة" وألحق بها الخنثى احتياطا فلا تصح ولايته، وإن بان ذكرا كالقاضي بل أولى "قرشيا" لخبر: "الأئمة من قريش" إسناده جيد لا هاشميا اتفاقا فإن فقد قرشي جامع للشروط فكناني فرجل من ولد إسماعيل صلى الله على نبينا وعليه وسلم ومر في ذلك كلام في الفيء والكفاءة فعجمي كذا في التهذيب وفي التتمة بعد ولد إسماعيل فجرهمي، لأن جرهما أصل العرب ومنهم تزوج إسماعيل فمن ولد إسحاق صلى الله على نبينا وعليه وسلم "مجتهدا" كالقاضي بل أولى بل حكي فيه الإجماع ولا ينافيه قول القاضي عدل جاهل أولى من فاسق عالم، لأن الأول يمكنه التفويض للعلماء فيما يفتقر للاجتهاد، لأن محله عند فقد المجتهدين وكون أكثر من ولي أمر الأمة بعد الخلفاء الراشدين غير مجتهدين إنما، هو لتغلبهم فلا يرد "شجاعا" ليغزو بنفسه ويدبر الجيوش ويفتح الحصون ويقهر الأعداء "ذا رأي" يسوس به الرعية ويدبر مصالحهم الدينية والدنيوية قال الهروي وأدناه أن يعرف أقدار الناس "وسمع"، وإن قل "وبصر"، وإن ضعف بحيث لم يمنع التمييز بين الأشخاص أو كان أعور أو أعشى "ونطق" يفهم، وإن فقد الذوق والشم وذلك ليتأتى منه فصل الأمور وعدلا كالقاضي بل أولى فلو اضطر لولاية فاسق جاز ومن ثم قال ابن عبد السلام لو تعذرت العدالة في الأئمة والحكام قدمنا أقلهم فسقا قال الأذرعي، وهو متعين إذ لا سبيل إلى جعل الناس فوضى ويلحق بها الشهود فإذا تعذرت العدالة في أهل قطر قدم أقلهم فسقا على ما يأتي وسليما من نقص يمنع استيفاء الحركة وسرعة النهوض وتعتبر هذه الشروط في الدوام أيضا إلا العدالة فقد مر في الوصايا أنه لا ينعزل بالفسق، وإلا الجنون إذا كان زمن الإفاقة أكثر وتمكن فيه من أموره وإلا قطع يد أو رجل فيغتفر دواما لا ابتداء بخلاف قطع اليدين أو الرجلين لا يغتفر مطلقا.

 

 

ج / 4 ص -103-        "وتنعقد الإمامة" بطرق أحدها "بالبيعة" كما بايع الصحابة أبا بكر رضي الله تعالى عنهم "والأصح" أن المعتبر، هو "بيعة أهل الحل والعقد من العلماء والرؤساء ووجوه الناس الذين يتيسر اجتماعهم" حالة البيعة بأن لم يكن فيه كلفة عرفا فيما يظهر، لأن الأمر ينتظم بهم ويتبعهم سائر الناس ويكفي بيعة واحد انحصر الحل والعقد فيه أما بيعة غير أهل الحل والعقد من العوام فلا عبرة بها ويشترط قبوله لبيعتهم كذا قيل ولو قيل الشرط عدم الرد لم يبعد فإن امتنع لم يجبر إلا إن لم يصلح غيره "وشرطهم" أي المبايعين "صفة الشهود" من العدالة وغيرها مما يأتي أول الشهادات قالا وكونه مجتهدا إن اتحد وإلا فمجتهد فيهم ورد بأنه مفرع على ضعيف وإنما يتجه إن أريد حقيقة الاجتهاد أما إذا أريد به ذو رأي وعلم ليعلم وجود الشروط والاستحقاق فيمن يبايعه فهو ظاهر كما يدل له قولهم: لا عبرة ببيعة العوام ثم رأيت عن الزنجاني أنه صرح بذلك في شرح الوجيز ويشترط شاهدان إن اتحد المبايع أي لأنه لا يقبل قوله وحده فربما ادعي عقد سابق وطال الخصام فيه لا إن تعدد أي لقبول شهادتهم بها حينئذ فلا محذور وشهادة الإنسان بفعل نفسه مقبولة حيث لا تهمة كرأيت الهلال أو أرضعت هذا وبهذا الذي يتعين حمل كلامهم عليه لوضوحه يندفع اعتراض التفصيل الذي صححه في الروضة "و" ثانيها "باستخلاف الإمام" واحدا بعده ولو فرعه أو أصله ويعبر عنه بعهده إليه كما عهد أبو بكر إلى عمر رضي الله عنهما وانعقد الإجماع على الاعتداد بذلك وصورته أن يعقد له الخلافة في حياته ليكون، هو الخليفة بعده فهو، وإن كان خليفة في حياته لكن تصرفه موقوف على موته ففيه شبه بوكالة نجزت وعلق تصرفها بشرط وبهذا يندفع ما هنا من الترديدات ومما يؤيد ما ذكرناه أنه خليفة حالا وإنما المنتظر تصرفه وأنه غير وصاية قولهم: وقت قبول المعين الذي هو شرط من العهد إلى الموت وقضيته أنه لو أخره إلى ما بعد الموت لم يصح، وهو متجه لأن ذلك خلاف قضية العهد وبتشبيههم له بالوكالة اندفع قول البلقيني ينبغي أن يجب الفور في القبول وقولهم: لا بد من وجود شروط الإمامة فيه وقت العهد فإن لم توجد إلا عند موت العاهد احتاج للبيعة.
"تنبيه" ظاهر كلامهم هنا أنه لا بد من القبول لفظا وقضية تشبيهه بالوكالة أن الشرط عدم الرد إلا أن يفرق بالاحتياط للإمامة وعلى الأول يفرق بينه وبين ما قدمته في البيعة بأنه ثم لم ينب عن أحد حتى يقبل عنه بخلافه هنا ويجوز العهد لجمع مترتبين نعم للأول مثلا بعد موت العاهد العهد بها إلى غيرهم، لأنه لما استقل صار أملك بها ولو أوصى بها لواحد جاز لكن قبول الموصى له واجتماع الشروط فيه إنما يعتبران بعد موت الموصي.
"فلو جعل" الإمام "الأمر شورى بين جمع فكاستخلاف" في الاعتداد به ووجوب العمل بقضيته "فيرتضون" بعد موته أو في حياته بإذنه "أحدهم"، لأن عمر جعل الأمر شورى بين ستة علي وعثمان والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وطلحة فاتفقوا بعد موته على عثمان رضي الله عنهم ولو امتنعوا من الاختيار لم يجبروا،

 

ج / 4 ص -104-        كما لو امتنع المعهود إليه من القبول وكأن لا عهد ولا جعل شورى وظاهر كلامه أن الاستخلاف بقسميه يختص بالإمام الجامع للشروط، وهو متجه ومن ثم اعتمده الأذرعي وقد يشكل عليه ما في التواريخ والطبقات من تنفيذ العلماء وغيرهم لعهود خلفاء بني العباس مع عدم استجماعهم الشروط بل نفذ السلف عهود بني أمية مع أنهم كذلك إلا أن يقال هذه وقائع محتملة أنهم إنما نفذوا ذلك للشوكة وخشية الفتنة لا للعهد بل هذا، هو الظاهر "و" ثالثها "باستيلاء جامع الشروط" بالشوكة لانتظام الشمل به هذا إن مات الإمام أو كان متغلبا أي ولم يجمع الشروط كما هو ظاهر "وكذا فاسق وجاهل" وغيرهما، وإن اختلت فيه الشروط كلها "في الأصح"، وإن عصى بما فعل حذرا من تشتت الأمر وثوران الفتن.
فرع: لا يجوز عقدها لاثنين في وقت واحد ثم إن ترتبا يقينا تعين الأول وإلا بطلا ولا يأتي هنا الوقف إن خشي منه ضرر لما يترتب عليه من المفاسد التي لا يتدارك خرقها بل يتعين على أهل الحل والعقد تولية أحدهما، لأن لهما فيها شبهة ألغت النظر لغيرهما فاندفع نزاع البلقيني فيه، وإن استحسن ووقع اختلاف تأليفين لبعض مشايخنا في بقاء خلافة المتولي من بني العباس بطريق العهد المتسلسل فيهم إلى الآن فقيل نعم لما أجمعت عليه الأعصار المتأخرة بعد زوال شوكة الخلافة من أنه لا يولى السلطان من الأكراد والأتراك إلا هو مشترطا عليه ابتداء أنه نائبه في العام والخاص وقيل لا لزوال شوكته من أصلها حتى إن بعض السلاطين أهانه وحبسه وأخذ أكثر أقطاعه وما زال متقهقرا إلى الآن حتى انعدم بالكلية وقد قدمت ما يبطل الأول من أنه لا عبرة بعهد غير مستجمع الشروط ولا نظر للضعف وزوال الشوكة، لأن عروضهما إن صحت ولايته لا يبطلها بل لا تصح تولية غيره حتى يخلع نفسه مطلقا أو يخلع لسبب ولا ينعزل بأسر كفار له إلا إن أيس من خلاصه ومثلهم بغاة لهم إمام وإلا لم ينعزل، وإن أيس من خلاصه، لأنه نادر.
"قلت: لو ادعى" من لزمته زكاة ممن استولى عليهم البغاة "دفع الزكاة إلى البغاة" أي إمامهم أو منصوبه "صدق" بلا يمين على المعتمد وإن اتهم لبنائها على التخفيف ويسن أن يستظهر على صدقه إذ اتهم "بيمينه" خروجا من الخلاف في وجوبها "أو" ادعى "دفع جزية فلا" يصدق "على الصحيح" لأنها كالأجرة إذ هي عوض عن سكنى دارنا وبه فارقت الزكاة "وكذا خراج في الأصح"، لأنه أجرة أو ثمن ولا يقبل ذلك من الذمي جزما "ويصدق في" إقامة "حد" أو تعزير عليه قال الماوردي بلا يمين لأن الحدود تدرأ بالشبهات "إلا أن يثبت ببينة ولا أثر له في البدن" أي وقد قرب الزمن بحيث لو كان لوجد أثره فيما يظهر فلا يصدق "والله أعلم" وفارق المقر بأنه لا يقبل رجوعه بخلاف المقر وإنكار بقاء الحد عليه في معنى الرجوع وأخر هذه الأحكام إلى هنا لتعلقها بالإمام فإن قلت وقتال البغاة ونحوه متعلق به أيضا فكان الأنسب تأخيره إليها أو تقديمها معه قلت هذه تتعلق به مع وجود البغي وعدمه فكانت أنسب به من غيرها.

 

ج / 4 ص -105-        "فائدة" عن أبي حنيفة أنه ليس للسلطان أن يقضي بين خصمين، وإنما ذلك لنائبه الخاص قال الدميري، وهو مذهبنا كما نقله في شرح مسلم واعترض بأنه ليس فيه في مظانه ويعترض أيضا بأن ثبوت ذلك لنائبه دونه بعيد لا يوافقه قياس إلا أن يرد به نقل صريح لا يقال قد يشتغل عن وظيفته من النظر في المصالح الكلية، لأنا نمنع ذلك بأن وصول جزئية إليه لطلب حكمه فيها نادر لا يشغل عن ذلك وبفرض عدم ندوره يلزمه تقديم تلك على هذه.