تحفة المحتاج بشرح المنهاج ط العلمية

ج / 4 ص -106-        كتاب الردة
أعاذنا الله تعالى منها.
"هي" لغة الرجوع وقد تطلق على الامتناع من أداء الحق كمانعي الزكاة في زمن الصديق رضي الله عنه وشرعا "قطع" من يصح طلاقه دوام "الإسلام" ومن ثم كانت أفحش أنواع الكفر وأغلظها حكما وإنما تحبط العمل عندنا إن اتصلت بالموت لآية البقرة وكذا آية المائدة إذ لا يكون خاسرا في الآخرة إلا إن مات كافرا فلا تجب إعادة عباداته قبل الردة وقال أبو حنيفة رضي الله عنه تجب أما إحباط ثواب الأعمال بمجرد الردة فمحل وفاق وظن الإسنوي أن هذا ينافي عدم إحباطها للعمل فاعترض به وليس بظن إذ إحباط العمل الموجب للإعادة غير إحباط مجرد ثوابه إذ الصلاة في المغصوب لا ثواب فيها عند الجمهور مع صحتها وزعم الإمام عدم إحباطها للعمل، وإن مات كافرا بمعنى أنه لا يعاقب عليه في الآخرة غريب بل الصواب إحباطه وإن فعل حال الإسلام لأن شرطه موت الفاعل مسلما وإلا صار كأنه لم يفعل فيعاقب عليه وخرج بقطع الكفر الأصلي قاله الغزالي واعترضه ابن الرفعة بأن الإخراج إنما يكون بالفصل والكفر الأصلي خارج بنفس الردة ويرد بأن الجنس قد يكون مخرجا باعتبار إذ القطع الأعم يشمل الكفر الأصلي، لأن فيه قطع موالاة الله ورسوله فهو من حيث ذاته شامل له ومن حيث إضافته للإسلام مخرج له وهذا هو مراد الغزالي وإخراج الردة له إنما، هو بعد تعريفها والكلام قبله وهي حينئذ مجهولة لا يصح الإخراج بها فتأمله ولا يشمل الحد كفر المنافق، لأنه لم يوجد منه إسلام حتى يقطعه وإلحاقه بالمرتد في حكمه لا يقتضي إيراده على المتن خلافا لمن زعمه والمنتقل من كفر لكفر مر في كلامه فلا يرد عليه، وإن كان حكمه حكم المرتد كذا قيل وليس في محله، لأن الصحيح أنه يجاب لتبليغ المأمن ولا يجبر على الإسلام بخلاف المرتد فليس حكمه حكمه فلا يرد أصلا ووصف ولد المرتد بالردة أمر حكمي فلا يرد على ما نحن فيه ثم قطع الإسلام إما "بنية" لكفر ويصح عدم تنوينه بتقدير إضافته لمثل ما أضيف إليه ما عطف عليه كنصف وثلث درهم حالا أو مآلا فيكفر بها حالا كما يأتي وتسمية العزم نية بناء على ما يأتي أنه المراد منها غير بعيد وتردده في قطعه الآتي ملحق بقطعه تغليظا عليه "أو قول كفر" عن قصد وروية كما يفهمه قوله الآتي استهزاء إلخ فلا أثر لسبق لسان أو إكراه واجتهاد وحكاية كفر لكن شرط الغزالي أن لا يقع إلا في مجلس الحاكم وفيه نظر بل ينبغي أنه حيث كان في حكايته مصلحة جازت وشطح ولي حال غيبته أو تأويله بما هو مصطلح عليه بينهم، وإن جهله غيرهم إذ اللفظ المصطلح عليه حقيقة عند أهله فلا يعترض عليهم بمخالفته لاصطلاح غيرهم كما حققه أئمة الكلام وغيرهم ومن ثم زل كثيرون في التهويل على محققي الصوفية بما هم بريئون

 

ج / 4 ص -107-        منه، ويتردد النظر فيمن تكلم باصطلاحهم المقرر في كتبهم قاصدا له مع جهله به والذي ينبغي بل يتعين وجوب منعه منه بل لو قيل بمنع غير المشتهر بالتصوف الصادق من التكلم بكلماتهم المشكلة إلا مع نسبتها إليهم غير معتقد لظواهرها لم يبعد، لأن فيه مفاسد لا تخفى وقول ابن عبد السلام يعزر ولي قال أنا الله ولا ينافي ذلك ولايته لأنه غير معصوم فيه نظر، لأنه إن كان غائبا فهو غير مكلف لا يعزر كما لو أول بمقبول وإلا فهو كافر ويمكن حمله على ما إذا شككنا في حاله فيعزر فطما له ولا يحكم عليه بالكفر لاحتمال عذره ولا بعدم الولاية، لأنه غير معصوم وقول القشيري من شرط الولي الحفظ كما أن من شرط النبي العصمة فكل من للشرع عليه اعتراض مغرور مخادع مراده أنه إذا وقع منه مخالف على الندرة بادر للتنصل منه فورا لا أنه يستحيل وقوع شيء منه أصلا.
تنبيه: قال بعض مشايخ مشايخنا ممن جمع بين التصوف والعلوم النقلية والعقلية لو أدركت أرباب تلك الكلمات للمتهم على تدوينها مع اعتقادي لحقيتها، لأنها مزلة للعوام والأغبياء المدعين للتصوف انتهى وإنما يتجه إن لم يكن لهم غرض صحيح في تدوينها كخشية اندراس اصطلاحهم وتلك المفاسد يدرؤها أئمة الشرع فلا نظر إليها. قيل في المتن دور فإن الردة أحد نوعي الكفر فكيف تعرف بأنها قول كفر ورد بأن المراد بالكفر المضاف إليه الكفر الأصلي واعترض أيضا توسيطه لكفر بأن تقديمه ليحذف مما بعد لدلالة الأول أو عكسه أولى ويجاب بمنع ذلك بل له حكمة تأتي قريبا على أن توسيطه يفيد ذلك أيضا فإنه بالنسبة لما قبله متأخر ولما بعده متقدم نظير ما مر في الوقف.
تنبيه: يدخل في قول الكفر تعليقه ولو بمحال عادي وكذا شرعي أو عقلي على احتمال، لأنه قد ينافي عقد التصميم المشترط في الإسلام ويشكل على ذلك ما في البخاري من عدة طرق أن خبابا رضي الله عنه طلب من العاص بن وائل السهمي دينا له عليه فقال لا أعطيك حتى تكفر بمحمد فقال لا أكفر به حتى يميتك الله ثم يبعثك فهذا تعليق للكفر بممكن ومع ذلك لم يكن فيه كفر وقد يجاب بأنه لم يقصد التعليق قطعا، وإنما أراد تكذيب ذلك اللعين في إنكاره البعث ولا ينافيه قوله: حتى، لأنها تأتي بمعنى إلا المنقطعة فتكون بمعنى لكن التي صرحوا بأن ما بعدها كلام مستأنف وعليه خرج ابن هشام الخضراوي حديث: "كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه يهودانه" أي لكن أبواه قال وقد ذكر النحويون هذا في أقسام حتى وخرجوا عليه قوله حتى إلخ انتهى ونظير ذلك ما وقع لأسامة لما قتل من قال لا إله إلا الله ظانا أنه إنما قالها تقية فأنبه صلى الله عليه وسلم حتى قال: تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم، رواه مسلم وهذا التمني يقتضي الكفر لكنه لم يقصد ظاهر هذا اللفظ بل أن ذلك الفعل وقع منه قبل إسلامه حتى يكون مغفورا له فتأمل كلا من هذين القولين فإن الكلام فيهما مهم ومع ذلك لم يوضحوه ثم رأيت بعض شراح البخاري قال لا يقال مفهوم الغاية أنه يكفر بعد الموت لأن ذلك محال فكأنه قال لا أكفر أبدا كما في
{لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى} [الدخان: 56] في أن ذكره للتأكيد انتهى وفيه نظر، لأنه إن أراد بعد موت نفسه كان غلطا،

 

ج / 4 ص -108-        لأنه قال حتى يميتك الله ثم يبعثك أو بعد موت العاص ثم بعثه فليس هذا بمحال بل هو ممكن كما تقرر فإن قلت بل هو محال، لأن خبابا بعد بعث العاص يكون قد مات فكأنه علق بما بعد موت نفسه قلت هذا لا يوجب الاستحالة، لأنه يمكن عقلا وعادة أن الله يميت العاص ثم يبعثه لوقته وخباب حي فلا استحالة بوجه فالحق ما ذكرته على أنك قد علمت أن التعليق بمثل هذا المحال يقتضي الكفر.
"أو فعل" لكفر وسيفصل كلا من هذه الثلاثة مقدما القول، لأنه أغلب من الفعل. وظاهر يشاهد بخلاف النية وكان هذا هو حكمة إضافته لكفر دون الآخرين فاندفع ما قيل ينبغي تأخير القول عن الفعل، لأن التقسيم فيه فإن قلت فلم قدم النية فيما مر قلت: لأنها الأصل والمقومة للقول والفعل فقدمها في الإجمال لذلك والقول في التفصيل لما مر فهو صنيع حسن "سواء" في الحكم عليه عند قوله الكفر "قاله استهزاء" كأن قيل له قص أظفارك فإنه سنة فقال لا أفعله، وإن كان سنة وكأن قال لو جاءني النبي ما قبلته ما لم يرد المبالغة في تبعيد نفسه عن فعله أو يطلق فإن المتبادر منه التبعيد كما قاله بعضهم محتجا عليه بأنه لو لم يقبل شفاعته صلى الله عليه وسلم في حياته في شيء كما وقع لبريرة رضي الله عنها لم يكفر ولك أن تقول لا حجة له في ذلك للفرق الواضح بين عدم قبول الشفاعة مجردا عما يشعر باستخفاف وقوله لو إلخ فإن في هذا من الإشعار بالاستهتار ما لا يخفى على أحد فالذي يتجه في حالة الإطلاق الكفر فإن قلت يؤيد ما قاله قول السبكي ليس من التنقيص قول من سئل في شيء لو جاءني جبريل أو النبي ما فعلته، لأن هذه العبارة تدل على تعظيمه عنده قلت لا يؤيده لما هو ظاهر أن ما فعلته لا يشعر باستخفاف أصلا بخلاف ما قبلته فتأمله وأفتى الجلال البلقيني فيمن قيل له اصبر علي بدينك فقال لو جاءني ربي ما صبرت فإن الظاهر عدم الكفر وكأن مادة هذا كما ذكر عن السبكي حكاية الرافعي فيمن أمر آخر بتنظيف بيته فقال له نظف بيتنا مثل والسماء والطارق أنه لا يكفر، لأنه من باب المبالغة في التشبيه المقصودة للبلغاء الدالة على تعظيم قدر المشبه دون احتقار المشبه به أنه يكفر، لأن فيه استخفافا أن العالم لا يكفر، لأنه يعرف حقائق التشبيه المانعة من الاستخفاف نظرا إلى أن المبالغة تمنع قصد تحقيق المعنى بخلاف العامي، لأن هذه العبارة منه تدل على عظيم تهور واستخفاف ولم يرجح الرافعي شيئا من هذه الاحتمالات ورجح غيره عدم التكفير وبه يتأيد ما مر عن السبكي والجلال "أو عنادا" بأن عرف بباطنه أنه الحق وأبى أن يقر به "أو اعتقادا" وهذه الثلاثة تأتي في النية أيضا كالفعل الآتي وحذف همزة التسوية والعطف بأو لغة والأفصح ذكرها والعطف بأم ونقل الإمام عن الأصوليين أن إضمار التورية أي فيما لا يحتملها كما هو ظاهر لا يفيد فيكفر باطنا أيضا لحصول التهاون منه وبه فارق قبوله في نحو الطلاق باطنا، "فمن نفى الصانع" أخذوه من الإجماع النطقي به إن سلم وإلا فمن قوله تعالى:
{صُنْعَ اللَّهِ} [النمل: 88] لكن على مذهب من يرى أن ورود الفعل كاف أو على مذهب الباقلاني أو الغزالي كما أشرت إليهما أول الكتاب واستدل بعضهم بالخبر الصحيح: "إن الله صانع كل صانع وصنعته"، ولا

 

ج / 4 ص -109-        دليل فيه لما قدمته ثم أن الشرط أن لا يكون الوارد على جهة المقابلة نحو {أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} [الواقعة: 64]، {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [آل عمران: 54]، وما في الحديث من هذا القبيل وأيضا فالكلام في الصانع بأل من غير إضافة والذي في الخبر بالإضافة وهو لا يدل على غيره ألا ترى أن قوله صلى الله عليه وسلم: "يا صاحب كل نجوى أنت الصاحب في السفر"، لم يأخذوا منه أن الصاحب من غير قيد من أسمائه تعالى فكذا هو لا يؤخذ منه أن الصانع من غير قيد من أسمائه تعالى فتأمله وفي خبر مسلم: "ليعزم في الدعاء فإن الله صانع ما شاء لا مكره له"، وهذا أيضا من قبيل المضاف أو المقيد نعم صح في حديث الطبراني والحاكم: "اتقوا الله فإن الله فاتح لكم وصانع"، وهو دليل واضح للفقهاء هنا إذ لا فرق بين المنكر والمعرف ويأتي آخر العقيقة أن الواهب توفيقي بما فيه فراجعه أو اعتقد حدوثه أو قدم العالم أو نفى ما هو ثابت للقديم إجماعا كأصل العلم مطلقا أو بالجزيئات أو أثبت له ما هو منفي عنه إجماعا كاللون أو الاتصال بالعالم أو الانفصال عنه فمدعي الجسمية أو الجهة إن زعم واحدا من هذه كفر وإلا فلا، لأن الأصح أن لازم المذهب ليس بمذهب ونوزع فيه بما لا يجدي وظاهر كلامهم هنا الاكتفاء بالإجماع وإن لم يعلم من الدين بالضرورة ويمكن توجيهه بأن المجمع عليه هنا لا يكون إلا ضروريا وفيه نظر والوجه أنه لا بد من التقييد به هنا أيضا ومن ثم قيل أخذا من حديث الجارية يغتفر نحو التجسيم والجهة في حق العوام، لأنهم مع ذلك على غاية من اعتقاد التنزيه والكمال المطلق أو اعتقد أن الكوكب فاعل واستشكل بقول المعتزلة إن العبد يخلق فعل نفسه ويجاب بأن ذا الكوكب يعتقد فيه نوعا من التأثير الذي يعتقده للإله ولا كذلك المعتزلي غايته أنه يجعل فعل العبد واسطة ينسب إليها المفعول تنزيها له تعالى عن نسبة القبح إليه "أو" نفى "الرسل" أو أحدهم أو أحد الأنبياء المجمع عليه أو جحد حرفا مجمعا عليه من القرآن كالمعوذتين أو صفة من وجوه الأداء المجمع عليها أو زاد حرفا فيه مجمعا على نفيه معتقدا أنه منه أو نقص حرفا مجمعا على أنه منه "أو كذب رسولا" أو نبيا أو نقصه بأي منقص كأن صغر اسمه مريدا تحقيره أو جوز نبوة أحد بعد وجود نبينا وعيسى نبي قبل فلا يرد ومنه تمني النبوة بعد وجود نبينا صلى الله عليه وسلم كتمني كفر مسلم بقصد الرضا به لا التشديد عليه ومنه أيضا لو كان فلان نبيا آمنت أو ما آمنت به إن جوز ذلك على الأوجه وخرج بكذبه كذبه عليه وقول الجويني إنه على نبينا صلى الله عليه وسلم كفر بالغ ولده إمام الحرمين في تزييفه، وأنه زلة "أو حلل محرما بالإجماع" وعلم تحريمه من الدين بالضرورة ولم يجز أن يخفى عليه "كالزنا" واللواط وشرب الخمر والمكس وسبب التكفير بهذا كالآتي سواء في ذلك ما فيه نص وما لا نص فيه أن إنكار ما ثبت ضرورة أنه من دين محمد صلى الله عليه وسلم فيه تكذيب له صلى الله عليه وسلم "وعكسه" أي حرم حلالا مجمعا عليه وإن كره كذلك كالبيع والنكاح "أو نفى وجوب مجمع عليه" معلوما كذلك كسجدة من الخمس "أو عكسه" أي أوجب مجمعا على عدم وجوبه معلوما كذلك كصلاة سادسة أو نفى مشروعية مجمع على مشروعيته معلوم كذلك كالرواتب وكالعيد كما صرح به البغوي، أما

 

ج / 4 ص -110-        ما لا يعرفه إلا الخواص كاستحقاق بنت الابن السدس مع بنت الصلب وكحرمة نكاح المعتدة للغير وما لمنكره أو مثبته تأويل غير قطعي البطلان كما مر في النكاح أو بعد عن العلماء بحيث يخفى عليه ذلك فلا كفر بجحده، لأنه ليس فيه تكذيب ونوزع في نكاح المعتدة بشهرته ويجاب بمنع ضروريته إذ المراد بالضروري ما يشترك في معرفته الخاص والعام ونكاح المعتدة ليس كذلك إلا في بعض أقسامه وذلك لا يؤثر.
تنبيه أول: من أفراد قولنا أو لمثبته إلخ إيمان فرعون الذي زعمه قوم فإنه لا قطع على عدمه بل ظاهر الآية وجوده وألف فيه مع الاسترواح في أكثره بعض محققي المتأخرين من مشايخ مشايخنا ومما يرد عليه أن الإيمان عند يأس الحياة بأن وصل لآخر رمق كالغرغرة وإدراك الغرق في الآية من ذلك كما هو واضح خلافا لمن نازع فيه لا يقبل كما صرح به أئمتنا وغيرهم وهو صريح قوله تعالى:
{فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} [غافر: 85] وبما تقرر علم خطأ من كفر القائلين بإسلام فرعون، لأنا، وإن اعتقدنا بطلان هذا القول لكنه، وإن وردت به أحاديث وتبادر من آيات أولها المخالفون بما لا ينفع غير ضروري، وإن فرض أنه مجمع عليه بناء على أنه لا عبرة بخلاف أولئك إذ لم يعلم أن فيهم من بلغ مرتبة الاجتهاد المطلق.
تنبيه ثان: ينبغي للمفتي أن يحتاط في التكفير ما أمكنه لعظيم خطره وغلبة عدم قصده سيما من العوام وما زال أئمتنا على ذلك قديما وحديثا بخلاف أئمة الحنفية فإنهم توسعوا بالحكم بمكفرات كثيرة مع قبولها التأويل بل مع تبادره منها ثم رأيت الزركشي قال عما توسع به الحنفية إن غالبه في كتب الفتاوى نقلا عن مشايخهم وكان المتورعون من متأخري الحنفية ينكرون أكثرها ويخالفونهم ويقولون هؤلاء لا يجوز تقليدهم لأنهم غير معروفين بالاجتهاد ولم يخرجوها على أصل أبي حنيفة لأنه خلاف عقيدته إذ منها أن معنا أصلا محققا، هو الإيمان فلا نرفعه إلا بيقين فليتنبه لهذا وليحذر ممن يبادر إلى التكفير في هذه المسائل منا ومنهم فيخاف عليه أن يكفر، لأنه كفر مسلما ا هـ ملخصا قال بعض المحققين منا ومنهم وهو كلام نفيس وقد أفتى أبو زرعة من محققي المتأخرين فيمن قيل له اهجرني في الله فقال هجرتك لألف الله بأنه لا يكفر إن أراد لألف سبب أو هجرة لله تعالى وإن لم يكن ذلك ظاهرا للفظ حقنا للدم بحسب الإمكان لا سيما إن لم يعرف قائله بعقيدة سيئة لكن يؤدب على إطلاقه لشناعة ظاهره.
تنبيه ثالث: قال الغزالي من زعم أن له مع الله حالا أسقط عنه نحو الصلاة أو تحريم شرب الخمر وجب قتله وإن كان في الحكم بخلوده في النار نظر وقتل مثله أفضل من قتل مائة كافر، لأن ضرره أكثر انتهى ولا نظر في خلوده، لأنه مرتد لاستحلاله ما علمت حرمته أو نفيه وجوب ما علم وجوبه ضرورة فيهما ومن ثم جزم في الأنوار بخلوده ووقع لليافعي مع جلالته في روضه لو أذن الله تعالى لبعض عباده أن يلبس ثوب حرير مثلا وعلم الإذن يقينا فلبسه لم يكن منتهكا للشرع وحصول اليقين له من حيث حصوله

 

ج / 4 ص -111-        للخضر بقتله للغلام إذ هو ولي لا نبي على الصحيح انتهى وقوله مثلا ربما يدخل فيه ما زعمه بعض المتصوفة الذي ذكره الغزالي وبفرض أن اليافعي لم يرد بمثلا إلا ما هو مثل الحرير في أن استحلاله غير مكفر لعدم علمه ضرورة فإن أراد بعدم انتهاكه للشرع أن له نوع عذر، وإن كنا نقضي عليه بالإثم بل والفسق إن أدام ذلك فله نوع اتجاه أو أنه لا حرمة عليه في لبسه كما هو الظاهر من سياق كلامه فهو زلة منه، لأن ذلك اليقين إنما يكون بالإلهام، وهو ليس بحجة عند الأئمة، إذ لا ثقة بخواطر من ليس بمعصوم وبفرض أنه حجة فشرطه عند من شذ بالقول به أن لا يعارضه نص شرعي كالنص بمنع لبس الحرير المجمع عليه إلا من شذ ممن لا يعتد بخلافه فيه وبتسليم أن الخضر ولي وإلا فالأصح أنه نبي فمن أين لنا أن الإلهام لم يكن حجة في ذلك الزمن وبفرض أنه غير حجة فالأنبياء في زمنه موجودون فلعل الإذن في قتل الغلام جاء إليه على يد أحدهم فإن قلت قضية هذا أن عيسى صلى الله على نبينا وعليه وسلم لو أخبر بعد نزوله أحدا بأن له استعمال الحرير جاز له ذلك قلت هذا لا يقع لأنه ينزل بشريعة نبينا صلى الله عليه وسلم وقد استقر فيها تحريم الحرير على كل مكلف لغير حاجة أو ضرورة فلا يغيره أبدا لا يقال يتأول لليافعي بأن الإذن في الحرير وقع تداويا من علة علمها الحق من ذلك العبد كما تأول هو وغيره ما وقع لولي أنه لما اشتهرت ولايته ببلد خاف على نفسه الفتنة فدخل الحمام ولبس ثياب الغير وخرج مترفقا في مشيه ليدركوه فأدركوه وأوجعوه ضربا وسموه لص الحمام فقال الآن طاب المقام عندهم بأن فعله لذلك إنما وقع تداويا كما يتداوى بالخمر عند الغص ومفسدة لبس ثياب الغير ساعة أخف من مفسدة العجب ونحوه من قبائح النفس، لأنا نقول ذلك الإذن الذي للتداوي ليس إلا بإلهام وقد اتضح بطلان الاحتجاج به وفرق واضح بين مسألتنا ومسألة ذلك الولي فإن الحرير لا يتصور حله لغير حاجة واستعمال مال الغير يجوز مع ظن رضاه ومن أين لنا أن ذلك الولي ما عرف مالك الثياب ولا ظن رضاه وبفرض جهله به هو يظن رضاه بفرض اطلاعه على أنه إنما فعله لذلك القصد إذ كل من اطلع على باطن فاعل ذلك يرضى به، وإن كان من كان ومر في الوليمة أن ظن الغير يبيح ماله فهي واقعة محتملة للحل من غير طريق الإلهام كواقعة الخضر ومسألة الحرير لا تحتمله من غير طريق الإلهام بوجه فتأمله.
"أو عزم على الكفر غدا" مثلا "أو تردد فيه" أيفعله أو لا "كفر" في الحال في كل ما مر لمنافاته للإسلام وكذا من أنكر صحبة أبي بكر أو رمى ابنته عائشة رضي الله عنهما بما برأها الله منه وكذا في وجه حكاه القاضي من سب الشيخين أو الحسن والحسين رضي الله عنهم.
تنبيه: ذكر مسألة العزم ليبين أنه المراد من النية في كلامهم، لأنها قصد الشيء مقترنا بفعله، وهو غير شرط هنا.
"والفعل المكفر ما تعمده استهزاء صريحا بالدين" أو عنادا له "أو جحودا له كإلقاء

 

ج / 4 ص -112-        المصحف" أو نحوه مما فيه شيء من القرآن بل أو اسم معظم أو من الحديث قال الروياني أو من العلم الشرعي "بقاذورة" أو قذر طاهر كمخاط وبصاق ومني، لأن فيه استخفافا بالدين وقضية قوله كإلقاء أن الإلقاء ليس بشرط، وأن مماسة شيء من ذلك بقذر كفر أيضا وفي إطلاقه نظر ولو قيل لا بد من قرينة تدل على الاستهزاء لم يبعد "أو سجود لصنم أو شمس" أو مخلوق آخر وسحر فيه نحو عبادة كوكب، لأنه أثبت لله تعالى شريكا وزعم الجويني أن الفعل بمجرده لا يكون كفرا رده ولده نعم إن دلت قرينة قوية على عدم دلالة الفعل على الاستخفاف كأن كان الإلقاء لخشية أخذ كافر أو السجود من أسير في دار الحرب بحضرتهم فلا كفر وخرج بالسجود الركوع لأن صورته تقع في العادة للمخلوق كثيرا بخلاف السجود نعم يظهر أن محل الفرق بينهما عند الإطلاق بخلاف ما لو قصد تعظيم مخلوق بالركوع كما يعظم الله به فإنه لا شك في الكفر حينئذ.
تنبيه: وقع في متن المواقف وتبعه السيد في شرحه ما حاصله أن نحو السجود لنحو الشمس من مصدق بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم كفر إجماعا ثم وجه كونه كفرا بأنه يدل على عدم التصديق ظاهرا ونحن نحكم بالظاهر ولذا حكمنا بعدم إيمانه لا لأن عدم السجود لغير الله داخل في حقيقة الإيمان حتى لو علم أنه لم يسجد لها على سبيل التعظيم واعتقاد الألوهية بل سجد لها وقلبه مطمئن بالإيمان لم يحكم بكفره فيما بينه وبين الله تعالى وإن أجري عليه حكم الكفر في الظاهر ثم قالا ما حاصله أيضا لا يلزم على تفسير الكفر بأنه عدم تصديق الرسول في بعض ما جاء به ضرورة تكفير من لبس الغيار مختارا، لأنه لم يصدق في الكل وذلك لأننا جعلنا الظن الصادر عنه باختياره علامة على الكفر أي بناء هنا على أن ذلك اللبس ردة فحكمنا عليه بأنه كافر غير مصدق حتى لو علم أنه شده لا لاعتقاد حقيقة الكفر لم يحكم بكفره فيما بينه وبين الله كما مر في سجود الشمس انتهى، وهو مبني على ما اعتمداه أولا أن الإيمان التصديق فقط ثم حكيا عن طائفة أنه التصديق مع الكلمتين فعلى الأول اتضح ما ذكراه أنه لا كفر بنحو السجود للشمس لما مر عن الشارح أن نحو عدم السجود لغير الله ليس داخلا في حقيقة الإيمان والحاصل أن الإيمان على هذه الطريقة التي هي طريقة المتكلمين له حيثيتان النجاة في الآخرة وشرطها التصديق فقط وإجراء أحكام الدنيا ومناطها النطق بالشهادتين مع عدم السجود لغير الله ورمي المصحف بقاذورة وغير ذلك من الصور التي حكم الفقهاء بأنها كفر فالنطق غير داخل في حقيقة الإيمان، وإنما، هو شرط لإجراء الأحكام الدنيوية ومن جعله شطرا لم يرد أنه ركن حقيقي وإلا لم يسقط عند العجز والإكراه بل إنه دال على الحقيقة التي هي التصديق إذ لا يمكن الاطلاع عليها ومما يدل على أنه ليس شطرا ولا شرطا الأخبار الصحيحة: "يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان" قيل يلزم أن لا يعتبر النطق في الإيمان، وهو خلاف الإجماع على أنه يعتبر وإنما الخلاف في أنه شطر أو شرط وأجيب بأن الغزالي منع الإجماع وحكم بكونه مؤمنا، وأن الامتناع عن النطق كالمعاصي التي تجامع الإيمان وتبعه المحققون على هذا ولم ينظروا لأخذ النووي بقضية الإجماع أن من ترك

 

ج / 4 ص -113-        النطق اختيارا مخلد أبدا في النار سواء أقلنا إنه شطر، وهو واضح أو شرط، لأن بانتفائه تنتفي الماهية لكن أشار بعضهم إلى أن هذا مذهب الفقهاء والأول مذهب المتكلمين ويؤيده قول حافظ الدين النسفي كون النطق شرطا لإجراء الأحكام لا لصحة الإيمان بين العبد وربه، هو أصح الروايتين عن الأشعري وعليه الماتريدي ا هـ ولا يشكل عليه أنه شطر أو شرط لما مر في معناهما اللائق بمذهب المتكلمين لا الفقهاء فتأمل ذلك فإنه مهم لا أهم منه وبقي من المكفرات أشياء كثيرة جمعتها كلها بحسب الإمكان على مذاهب الأئمة الأربعة في كتاب مستوعب لا يستغنى عنه وسميته الإعلام بقواطع الإسلام فعليك به فإن هذا الباب أخطر الأبواب إذ الإنسان ربما فرط منه كلمة قيل بأنها كفر فيجتنبها ما أمكنه وقد بالغ الحنفية في التكفير بكثير من كلمات العوام بينتها فيه مع ما فيها.
"ولا تصح" يعني توجد إذ الردة معصية كالزنا لا توصف بصحة ولا بعدمها "ردة صبي ومجنون" لرفع القلم عنهما "ومكره" على مكفر قلبه مطمئن بالإيمان للآية وكذا إن تجرد قلبه عنهما فيما يتجه ترجيحه لإطلاقهم أن المكره لا تلزمه التورية "ولو ارتد فجن" أمهل احتياطا، لأنه قد يعقل ويعود للإسلام و "لم يقتل في جنونه" ندبا على ما اقتضاه كلامهما وقيل وجوبا واعتمده جمع لوجوب الاستتابة المستلزم لوجوب التأخير إلى الإفاقة وعليهما لا شيء على قاتله غير التعزير لافتياته على الإمام ولتفويته الاستتابة الواجبة وخرج بالفاء ما لو تراخى الجنون عن الردة واستتيب فلم يتب ثم جن فإنه لا يأتي فيه وجوب التأخير على القول الثاني. "والمذهب صحة ردة السكران" المتعدي بسكره، وإن كان غير مكلف كطلاقه تغليظا عليه وقد اتفق الصحابة رضوان الله عليهم على مؤاخذته بالقذف، وهو دليل على اعتبار أقواله ويسن تأخير استتابته لإفاقته، وإن صح إسلامه في السكر ليأتي بإسلام مجمع على صحته وتأخير الاستتابة الواجبة لمثل هذا العذر مع قصر مدة السكر غالبا غير بعيد كذا قالوه وأولى منه استتابته في حال سكره لاحتمال موته فيه ثم بعد إفاقته خروجا من خلاف من منعها فيه ومن ثم لم تجب إلا بعد إفاقته ومر آخر الوكالة أنه يغتفر للغاصب مع وجوب الرد عليه فورا التأخير للإشهاد فهذا أولى فإن قتل في سكره فلا شيء فيه أما غير المتعدي بسكره فلا تصح ردته كالمجنون "وإسلامه" سواء ارتد في سكره أم قبله لما تقرر أنه بأقواله كالصاحي فلا يحتاج لتجديده بعد الإفاقة والنص على عرض الإسلام عليه بعدها يحمل على الندب وإذا عرض عليه فوصف الكفر فهو كافر من الآن لصحة إسلامه، "وتقبل الشهادة بالردة مطلقا" كما صححاه في الروضة وأصلها أيضا فلا يحتاج الشاهد لتفصيلها، لأنها لخطرها لا يقدم العدل على الشهادة بها إلا بعد مزيد تحر "وقيل يجب التفصيل" بأن يذكر موجبها، وإن لم يقل عالما مختارا خلافا لما يوهمه كلام الرافعي لاختلاف المذاهب في الكفر وخطر أمر الردة وهذا هو القياس لا سيما في العامي ومن رأيه يخالف رأي القاضي في هذا الباب ومن ثم أطال كثيرون في الانتصار له نقلا ومعنى وجريا عليه في الدعاوى وذكرا في مسائل ما يؤيده كالشهادة بنحو الزنا والسرقة والشرب ويتعين ترجيحه في خارجي لاعتقاده أن ارتكاب

 

ج / 4 ص -114-        الكبيرة ردة مطلقا وقد يقرب الأول أن سكوته عن الإسلام الذي لا كلفة فيه بوجه دليل على صدق الشهود فلم يجب التفصيل لسهولة رفع أثر الشهادة بالمبادرة بالإسلام بخلاف تلك المسائل فإنه لما لم يمكنه رفع أثر الشهادة أوجبنا تفصيلها حتى لا يقدم على مؤاخذته إلا بعد اليقين قال البلقيني ومحل الخلاف إن قالا ارتد عن الإيمان أو كفر بالله أما مجرد ارتد أو كفر فلا يقبل قطعا أي لاحتماله لكن ظاهر المتن الآتي الاكتفاء بقولهما لفظ لفظ كفر وهو مشكل ولا يحمل على فقيهين موافقين للقاضي في هذا الباب على ما يأتي أواخر الشهادات، لأن الألفاظ والأفعال المكفرة كثر الاختلاف فيها لا سيما بين أهل المذهب الواحد فلا يتصور هنا الاتفاق لأن اللفظ المسموع قابل للاختلاف فيه فليجب بيانه مطلقا "فعلى الأول لو شهدوا بردة" إنشاء "فأنكر" بأن قال كذبا أو ما ارتددت "حكم بالشهادة" ولم ينظر لإنكاره فيستتاب ثم يقتل ما لم يسلم وكذا على الثاني إذا فصلوا فأنكر أما لو شهدوا بإقراره بها فظاهر كلامهم أنه كالأول وبحث ابن الرفعة قبول إنكاره كما لو شهدوا بإقراره بالزنا فأنكره ويرد بجواز الرجوع ومنه الإنكار ثم لا هنا ويفرق بسهولة التدارك هنا بالإسلام فلا ضرورة للرجوع "فلو" لم ينكر، وإنما "قال كنت مكرها واقتضته قرينة كأسر كفار" له "صدق بيمينه" تحكيما للقرينة وحلف لاحتمال أنه مختار فإن قتل قبل اليمين لم يضمن لوجود المقتضي والأصل عدم المانع "وإلا" تقتضيه قرينة "فلا" يصدق فيحكم ببينونة زوجته التي لم يطأها ويطالب بالإسلام فإن أبى قتل "ولو قالا لفظ لفظ كفر" أو فعل فعله "فادعى إكراها صدق" بيمينه "مطلقا" أي من القرينة وعدمها، لأنه لم يكذبهما إذ الإكراه إنما ينافي الردة دون نحو التلفظ بكلمتها لكن الحزم أن يجدد كلمة الإسلام وإنما لم يصدق في نظيره من الطلاق حيث لا قرينة، لأنه حق آدمي فيحتاط له فإن قلت الفرق بين الشهادة بالردة وبالتلفظ بلفظها مثلا إنما يتجه بناء على عدم التفصيل أما عليه فلا يظهر بينهما فرق قلت بل بينهما فرق لأنهما إذا قالا ارتد لتلفظه بكذا حكما بالردة وبينا سببها فكان في دعوى الإكراه تكذيب لهما وأما إذا قالا ابتداء لفظ بكذا فليس في دعوى الإكراه تكذيب لهما ولو شهدا بكفره وفصلاه لم يكف قوله: أنا مسلم بل لا بد من الشهادتين مع الاعتراف ببطلان ما كفر به أو البراءة من كل ما يخالف دين الإسلام. "ولو مات معروف بالإسلام عن ابنين مسلمين فقال أحدهما ارتد فمات كافرا فإن بين سبب كفره" كسجود لصنم "لم يرثه ونصيبه فيء" لبيت المال، لأنه مرتد بزعمه "وكذا إن أطلق في الأظهر" معاملة له بإقراره وهذا جري على ما مر من قبول الشهادة المطلقة لكن الأظهر في أصل الروضة وغيره أنه يستفصل فإن ذكر ما هو ردة ففيء أو غيرها كقوله كأن يشرب الخمر صرف إليه لكن في قبول هذا من عالم نظر ظاهر وإن لم يذكر شيئا وقف فإما هو مفرع على التفصيل السابق وإما لاحظ فيه فرقا ويتجه فيه أن الإنسان ولو الوارث يتسامح في الإخبار عن الميت بحسب ظنه ما لا يتسامحه في الحي الذي يعلم أنه يقتل بشهادته وكونه يفوت إرثه ويترتب عليه عار مورثه المستلزم لعاره فلا يقدم عليه إلا بعد مزيد تحر أكثر من الشاهد يعارضه أنه كثيرا ما يغفل عن ذلك، "وتجب استتابة

 

ج / 4 ص -115-        المرتد والمرتدة" لاحترامهما بالإسلام قبل وربما عرضت شبهة بل الغالب أنها لا تكون عن عبث محض وروى الدارقطني خبر أنه صلى الله عليه وسلم أمر في امرأة ارتدت أن يعرض عليها الإسلام فإن أسلمت وإلا قتلت، وإنما لم يستتب العرنيين لأنهم حاربوا والمرتد إذا حارب لا يستتاب كذا قيل وفيه نظر بل الذي يتجه وجوب الاستتابة حتى فيمن حارب لأن تحتم قتله لا يمنع طلب استتابته لينجو من الخلود في النار وحينئذ فالذي يتجه في الجواب أنها واقعة حال محتملة أنه صلى الله عليه وسلم علم منهم أنهم لا يتوبون أو علم أنهم من أهل النار قيل كان ينبغي أن يعبر بقتلها إن لم تتب لأنه الذي خالف فيه أبو حنيفة، وهو عجيب فإنه صرح به بعد "وفي قول يستحب" كالكافر الأصلي "وهي" على القولين "في الحال" للخبر الصحيح: "من بدل دينه فاقتلوه"، ومر ندب تأخيرها إلى صحو السكران "وفي قول ثلاثة أيام" لأثر فيه عن عمر رضي الله عنه "فإن أصرا" أي الرجل والمرأة على الردة "قتلا" للخبر المذكور لعموم من فيه والنهي عن قتل النساء محمول على الحربيات وللسيد قتل قنه والقتل هنا بضرب العنق دون ما عداه ولا يتولاه إلا الإمام أو نائبه فإن افتات عليه أحد عزر ولو قال عند القتل عرضت لي شبهة فأزيلوها لأتوب ناظرناه وجوبا ما لم يظهر منه تسويف بعد الإسلام وهو الأولى أو قبله على الأوجه فإن الحجة مقدمة على السيف فاغتفر له هذا الزمن القصير للحاجة ولا يدفن في مقابرنا لكفره ولا في مقابر المشركين لما سبق له من حرمة الإسلام كذا قالوه وهو مشكل فإنه أخس منهم وحرمة الإسلام لم يبق لها أثر ألبتة بعد الموت "وإن أسلم صح" إسلامه "وترك" لقوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] وللخبر الصحيح: "فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم" وشمل كلامه من كفر بسبه صلى الله عليه وسلم أو بسب نبي غيره، وهو المعتمد مذهبا لكن اختير قتله مطلقا ونقل الفارسي والخطابي من أئمتنا الإجماع عليه في سب هو قذف لا مطلقا هذا هو صواب النقل عن الفارسي وممن بالغ في الرد عليه الغزالي وللسبكي هنا ما اعترف بخروجه عن المذهب فليحذر أيضا ولم يحتج هنا للتثنية لفوات المعنى السابق الحامل عليها، وهو الإشارة للخلاف فاندفع ما قيل الأحسن أسلما ليوافق ما قبله، "وقيل لا يقبل إسلامه إن ارتد إلى كفر خفي كزنادقة وباطنية"، لأن التوبة عند الخوف عين الزندقة والزنديق من يظهر الإسلام ويخفي الكفر كذا ذكراه في ثلاثة مواضع وذكرا في آخر أنه من لا ينتحل دينا ورجحه الإسنوي وغيره بأن الأول المنافق وقد غايروا بينهما، والباطني من يعتقد أن للقرآن باطنا غير ظاهره، وأنه المراد منه وحده أو مع الظاهر وليس منه خلافا لمن وهم فيه إشارات الصوفية التي في تفاسيرهم كتفسير السلمي والقشيري، لأن أحدا منهم لم يدع أنها مرادة من لفظ القرآن، وإنما هي من باب أن الشيء يتذكر بذكر ماله به نوع مشابهة، وإن بعدت. ولا بد في الإسلام مطلقا وفي النجاة من الخلود في النار كما حكى عليه الإجماع في شرح مسلم من التلفظ بالشهادتين من الناطق فلا يكفي ما بقلبه من الإيمان، وإن قال به الغزالي وجمع محققون، لأن تركه للتلفظ بهما مع قدرته عليه وعلمه بشرطيته أو شطريته لا يقصر عن نحو رمي مصحف بقذر ولو

 

ج / 4 ص -116-        بالعجمية، وإن أحسن العربية على المنقول المعتمد والفرق بينه وبين تكبيرة الإحرام جلي بترتيبهما ثم الاعتراف برسالته صلى الله عليه وسلم إلى غير العرب ممن ينكرها أو البراءة من كل دين يخالف دين الإسلام وبرجوعه عن الاعتقاد الذي ارتد بسببه ولا يعزر مرتد تاب على أول مرة خلافا لما يفعله جهلة القضاة ومن جهلهم أيضا أن من ادعي عليه عندهم بردة أو جاءهم بطلب الحكم بإسلامه يقولون له تلفظ بما قلت وهذا غلط فاحش فقد قال الشافعي رضي الله عنه إذا ادعي على رجل أنه ارتد، وهو مسلم لم أكشف عن الحال وقلت له قل أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمدا رسول الله، وأنك بريء من كل دين يخالف دين الإسلام انتهى ويؤخذ من تكريره رضي الله عنه لفظ أشهد أنه لا بد منه في صحة الإسلام، وهو ما يدل عليه كلام الشيخين في الكفارة وغيرها لكن خالف فيه جمع وفي الأحاديث ما يدل لكل "وولد المرتد إن انعقد قبلها" أي الردة "أو بعدها وأحد أبويه" من جهة الأب أو الأم، وإن علا أو مات "مسلم فمسلم" تغليبا للإسلام "أو" وأبواه "مرتدان" وليس في أصوله مسلم "فمسلم" فلا يسترق ويرثه قريبه المسلم ويجزئ عتقه عن الكفارة إن كان قنا لبقاء علقة الإسلام في أبويه "وفي قول"، هو "مرتد" تبعا لهما "وفي قول"، هو "كافر أصلي" لتولده بين كافرين ولم يباشر إسلاما حتى يغلظ عليه فيعامل معاملة ولد الحربي إذ لا أمان له نعم لا يقر بجزية لأن كفره لم يستند لشبهة دين كان حقا قبل الإسلام "قلت الأظهر"، هو "مرتد" وقطع به العراقيون "ونقل العراقيون" أي إمامهم القاضي أبو الطيب "الاتفاق" من أهل المذهب "على كفره والله أعلم" فلا يسترق بحال ولا يقتل حتى يبلغ ويمتنع عن الإسلام أما إذا كان في أحد أصوله مسلم، وإن بعد ومات فهو مسلم تبعا له اتفاقا كما علم من كلامه في اللقيط أو أحد أبويه مرتد والآخر كافر أصلي فكافر أصلي قاله البغوي ويوجه بأن من يقر أولى بالنظر إليه ممن لا يقر والكلام كله في أحكام الدنيا أما في الآخرة فكل من مات قبل البلوغ من أولاد الكفار الأصليين والمرتدين في الجنة على الأصح، "وفي زوال ملكه عن ماله بها" أي الردة "أقوال" أحدها يزول مطلقا حقيقة ولا ينافيه عوده بالإسلام، لأنه مجمع عليه ثانيهما: لا مطلقا "و" ثالثها وهو "أظهرها إن هلك مرتدا بان زوال ملكه، وإن أسلم بان أنه لم يزل"، لأن بطلان عمله يتوقف على موته مرتدا فكذا زوال ملكه ومحل الخلاف في غير ما ملكه في الردة بنحو اصطياد فهو إما فيء أو باق على إباحته وفي مال معرض للزوال لا نحو مكاتب وأم ولد وظاهر كلامه أنه بمجرد الردة يصير محجورا عليه، وهو وجه والأصح أنه لا بد من ضرب الحاكم الحجر عليه وأنه كحجر المفلس لأنه لأجل حق الفيء هذا ما ذكره شارح وهو ضعيف والمعتمد أن ما لا يقبل الوقف يبطل مطلقا، وأن ما يقبله إن حجر عليه بطل وإلا وقف "وعلى الأقوال" كلها "يقضى منه دين لزمه قبلها" أي الردة بإتلاف أو غيره أو فيها بإتلاف كما سيذكره أما على بقاء ملكه فواضح وأما على زواله فهي لا تزيد على الموت والدين مقدم على حق الورثة فعلى حق الفيء أولى ومن ثم لو مات مرتدا وعليه دين وفي ثم ما بقي فيء وظاهر كلامهم أن المال انتقل جميعه لبيت المال متعلقا به الدين،

 

ج / 4 ص -117-        كما أنه لا يمنع انتقال جميع التركة للوارث، وهو أوجه مما أفهمه ظاهر كلام بعضهم أنه لا ينتقل إليه إلا ما بقي "وينفق عليه منه" في مدة الاستتابة كما يجهز الميت من ماله، وإن زال ملكه عنه بالموت "والأصح" بناء على زوال ملكه "أنه يلزمه غرم إتلافه فيها" كمن حفر بئرا عدوانا يضمن في تركته ما تلف بها بعد موته "ونفقة" يعني مؤنة "زوجات وقف نكاحهن" نفقة الموسرين "وقريب" أصل أو فرع وإن تعدد وتجدد بعد الردة وأم ولد لتقدم سبب وجوبها أما على الوقف فيجب ذلك قطعا كنفقة القن "وإذا وقفنا ملكه فتصرفه" فيها "إن احتمل الوقف" بأن يقبل قوليه ومقصود فعليه التعليق "كتعليق وتدبير ووصية موقوف إن أسلم نفذ" أي بان نفوذه "وإلا فلا" ولو أوصى قبل الردة ومات مرتدا بطلت وصيته أيضا "وبيعه" ونكاحه "ورهنه وهبته وكتابته" على المعتمد ونحوها من كل ما لا يقبل الوقف لعدم قبوله للتعليق "باطلة" في الجديد لبطلان وقف العقود ووقف التبين إنما يكون حيث وجد الشرط حال العقد ولم يعلم وجوده وهنا ليس كذلك لما تقرر أن الشرط احتمال العقد للتعليق، وهو منتف، وإن احتمله مقصود العقد في الكتابة "وفي القديم موقوفة" بناء على صحة وقف العقود فإن أسلم حكم بصحتها وإلا فلا "وعلى الأقوال" كلها خلافا لمن خصه بغير الأول "يجعل ماله مع عدل وأمته عند" نحو "امرأة ثقة" أو محرم "ويؤجر ماله" كعقاره وحيوانه صيانة له عن الضياع وللقاضي بيعه إن هرب ورآه مصلحة "ويؤدي مكاتبه النجوم إلى القاضي" ويعتق لعدم الاعتداد بقبض المرتد كالمجنون وذلك احتياط له لاحتمال إسلامه وللمسلمين لاحتمال موته مرتدا.