تحفة المحتاج بشرح المنهاج ط العلمية

ج / 4 ص -156-        كتاب الأشربة
جمع شراب بمعنى مشروب وفيه ذكر التعازير تبعا وجمع الأشربة لاختلاف أنواعها وإن اتحد حكمها ولم يقل حد الأشربة كما قال قطع السرقة، لأن القصد ثم ليس إلا بيان القطع ومتعلقاته وأما التحريم فمعلوم ضرورة وأما هنا فالقصد بيان التحريم أيضا لخفائه بالنسبة في كثير من المسائل فلم يقل حد ليقدر حكم الشامل للحرمة والحد وغيرهما كالوجوب عند الغص. شرب الخمر حرام إجماعا من الكبائر وشربها المسلمون أول الإسلام قيل استصحابا لما كان قبل الإسلام والأصح أنه بوحي ثم قيل المباح الشرب لا غيبة العقل لأنه حرام في كل ملة وزيفه المصنف وعليه فالمراد بقولهم بحرمة ذلك في كل ملة أنه باعتبار ما استقر عليه أمر ملتنا وحقيقة الخمر عند أكثر أصحابنا المسكر من عصير العنب وإن لم يقذف بالزبد فتحريم غيرها قياسي أي بفرض عدم ورود ما يأتي وإلا فسيعلم منه أن تحريم الكل منصوص وعند أقلهم كل مسكر ولكن لا يكفر مستحل المسكر من عصير غير العنب للخلاف فيه أي من حيث الجنس لحل قليله على قول جماعة، أما المسكر بالفعل فهو حرام إجماعا كما حكاه الحنفية فضلا عن غيرهم بخلاف مستحله من عصير العنب الصرف الذي لم يطبخ ولو قطرة، لأنه مجمع عليه بل ضروري ومن قال بالتكفير لكونه مجمعا عليه اعترض بأنا لا نكفر من ينكر أصل الإجماع ورد بأن الكلام فيمن اعترف بكونه مجمعا عليه وأنكره، لأن فيه حينئذ تكذيب جميع حملة الشرع فهو تكذيب للشرع والجواب بأنا لم نكفره لإنكار المجمع عليه بل لكونه ضروريا لا يتأتى إلا على المعتمد أنه لا بد في التكفير من كونه ضروريا أما من لا يشترط ذلك فلا جواب إلا ما مر فتأمله.
"كل شراب أسكر كثيره" من خمر أو غيرها ومنه المتخذ من لبن الرمكة فإنه مسكر مائع كما مر بيانه في النجاسات "حرم قليله" وكثيره لخبر الصحيحين: "كل شراب أسكر فهو حرام" وصح خبر: "أنهاكم عن قليل ما أسكر كثيره" وخبر: "ما أسكر كثيره قليله حرام" وخبر: "الخمر من هاتين العنبة والنخلة" وروى مسلم: "كل مسكر خمر وكل خمر حرام"، وفي أحاديث ضعيفة ما يخالف ذلك فلا يعول عليه كتأويل بعض تلك الأحاديث بما ينبو عنه ظاهرها من غير دليل "وحد شاربه" وإن لم يسكر أي متعاطيه لما يأتي أن الحد لا يتوقف على الشرب وإن اعتقد إباحته لضعف أدلته ولأن العبرة في الحدود بمذهب القاضي لا المتداعيين وقول الزركشي فيمن لا يسكر بشرب الخمر أن الحرمة من حيث النجاسة لا الإسكار ففي الحد عليه نظر لانتفاء العلة وهي الإسكار عجيب وغفلة عن وجوب الحد في القليل الذي لا يتصور منه إسكار فمعنى كونه علة أنه مظنة له وخرج بالشراب ما حرم من الجامدات فلا حد فيها وإن حرمت وأسكرت على ما

 

ج / 4 ص -157-        مر أول النجاسة بل التعزير لانتفاء الشدة المطربة عنها ككثير البتح والزعفران والعنبر والجوزة والحشيشة المعروفة، وحدوثها كان أوائل المائة السابعة حين ظهرت دولة التتار التي لم تقع في العالم فتنة أفظع ولا أذهب للنفوس منها، ولا حد بمذابها الذي ليس فيه شدة مطربة بخلاف جامد الخمر نظرا لأصلهما بل التعزير الزاجر له عن هذه المعصية الدنيئة ومما يتأكد المبالغة في الزجر عنه وإذاعة أنه من الكبائر بل من أقبحها ما حدث الآن من استعمال كثير من السفهاء له من نبت يسمى القبيسي يوجد بنحو جبال مكة فإنه أسوأ المخدرات، لأن قليله يؤدي إلى مسخ البدن والعقل وزواله عن جميع اعتدالاته وكثيره قاتل فورا فهو أبلغ من الأفيون في السمية، وقبل الآن من مركب يسمى البرش ونحوه وهو أيضا ماسخ للبدن والعقل ولا حجة لمستعملي ذلك في قولهم إن تركنا له يؤدي للقتل فصار واجبا علينا، لأنه يجب عليهم التدرج في تنقيصه شيئا فشيئا، لأنه مذهب لشغف الكبد به شيئا فشيئا إلى أن لا يضره فقده كما أجمع عليه من رأيناهم من أفاضل الأطباء فمتى لم يسعوا في ذلك التدريج فهم فسقة آثمون لا عذر لهم ولا لأحد في إطعامهم إلا قدر ما يحيي نفوسهم لو فرض فوتها بفقده وحينئذ يجب على من رأى فاقده وخشي عليه ذلك إطعامه ما يحيا به لا غير كإساغة اللقمة بالخمر الآتية ويحرم شرب ما ذكر ويحد شاربه "إلا صبيا ومجنونا" لرفع القلم عنهما لكن ينبغي تعزير المميز على قياس ما مر "وحربيا" أو معاهدا لعدم التزامه "وذميا"، لأنه لم يلتزم بالذمة مما لا يعتقده إلا ما يتعلق بالآدميين "وموجرا" مسكرا مقهرا إذ لا صنع له "وكذا مكره على شربها على المذهب" لرفع القلم عنه ويلزمه ككل آكل أو شارب حرام تقيؤه إن أطاقه كما في المجموع وغيره ولا نظر إلى عذره وإن لزمه التناول، لأن استدامته في الباطن انتفاع به وهو محرم وإن حل ابتداؤه ولزوال سببه فاندفع استبعاد الأذرعي لذلك وأخذ غيره بمقتضى استبعاده، وعلى نحو السكران إذا شرب مسكرا حد واحد ما لم يحد قبل شربه فيحد ثانيا، "ومن جهل كونها خمرا" فشربها ظانا إباحتها "لم يحد" لعذره وفي البحر يصدق بعد صحوه بيمينه إذا ادعى هذا أو الإكراه أي وبين معنى الإكراه إن لم يعلم منه أنه يعرفه "ولو قرب إسلامه فقال جهلت تحريمها لم يحد"، لأنه قد يخفى عليه ذلك والحد يدرأ بالشبهة ويؤخذ منه أن من نشأ بين أظهرنا بحيث تقضي قرينة حاله بأن تحريمها لا يخفى عليه حد واعتمده الأذرعي وغيره "أو" قال علمت التحريم و "جهلت الحد حد" إذ كان عليه إذ علم التحريم أن يتجنبها "ويحد بدردي خمر" أو مسكر آخر وهو ما يبقى آخر إنائها لأنه منها وكذا بثخينها إذا أكله "لا بخبز عجن دقيقه بها"، لأن عينها اضمحلت بالنار ولم يبق إلا أثرها وهو النجاسة "ومعجون هي فيه" وماء فيه بعضها والماء غالب بصفاته لاستهلاكها "وكذا حقنة وسعوط" بفتح السين لا يحد بهما "في الأصح" وإن حصل منهما إسكار، لأن الحد للزجر ولا حاجة إليه هنا إذ لا تدعو إليه النفس وبه فارق إفطار الصائم بهما، لأن المدار ثم على وصول عين للجوف "ومن غص" بفتح أوله المعجم كما بخطه ويجوز ضمه "بلقمة" وخاف الهلاك منها إن لم تنزل إلى الجوف ولم يمكنه إخراجها كما هو ظاهر، وظاهر أيضا

 

ج / 4 ص -158-        أن خصوص الهلاك شرط للوجوب الآتي لا لمجرد الإباحة أخذا من حصول الإكراه المبيح لها بنحو ضرب شديد على أنه قد يؤخذ مما يأتي في المضطر من إلحاق نحو الهلاك به في الوجوب ثم إلحاقه به فيه هنا "أساغها" وجوبا "بخمر إن لم يجد غيرها" إنقاذا للنفس من الهلاك ولا حد، وللقطع بالسلامة بالإساغة فارقت عدم وجوب التداوي "والأصح تحريمها" صرفا "لدواء" لمكلف أو صبي أو مجنون لخبر مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال لمن سأله أنه يصنعها للدواء: "أنه ليس بدواء ولكنه داء" وصح خبر: "إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها" وما دل عليه القرآن أن فيها منافع إنما هو قبل تحريمها، أما مستهلكة مع دواء آخر فيجوز التداوي بها كصرف بقية النجاسات إن عرف أو أخبره عدل طب بنفعها وتعينها بأن لا يغني عنها طاهر ويظهر في متنجس بخمر ونجس غيره أنه يجب تقديم هذا ولو احتيج في نحو قطع يد متآكلة إلى زوال عقله جاز بغير مسكر مائع "و" جوع و "عطش" لمن ذكر ولو لبهيمة، لأنها لا تزيله بل تزيده حرا لحرارتها ويبوستها وظاهر كلامهم امتناعها للعطش وإن أشرف على التلف وهو بعيد ولا يبعد جوازها حينئذ للضرورة ثم رأيت الزركشي نقله عن الإمام عن إجماع الأصحاب ومع تحريمها للدواء والعطش لا حد بها وإن وجد غيرها على المعتمد للشبهة وإن قيل الأصح مذهبا الحد.
تنبيه: جزم صاحب الاستقصاء بحل إسقائها للبهائم وللزركشي احتمال أنها كالآدمي في امتناع إسقائها إياها للعطش قال لأنها تثيره فيهلكها فهو من قبيل إتلاف المال انتهى و الأولى تعليله بأن فيه إضرارا لها وإضرار الحيوان حرام وإن لم يتلف قال والمتجه منع إسقائها لها لا لعطش، لأنه من قبيل التمثيل بالحيوان وهو ممتنع وفي وجه غريب حل إسقاؤها للخيل لتزداد حموا أي شدة في جريها قال والقياس حل إطعامها نحو حشيش وبتح للجوع وإن تخدرت، ويظهر جوازه لآدمي جاع ولم يجد غير ذلك وإن تخدر، لأن المخدر لا يزيد في الجوع انتهى ملخصا.
"وحد الحر أربعون" لخبر مسلم أن عثمان أمر عليا بجلد الوليد فأمر الحسن فامتنع فأمر عبد الله بن جعفر رضي الله عنهم فجلده وعلي يعد حتى بلغ أربعين فقال أي علي أمسك ثم قال: جلد النبي صلى الله عليه وسلم أربعين وأبو بكر أربعين وعمر ثمانين أي بإشارة ابن عوف لما استشار عمر الناس في ذلك، وكل سنة وهذا أحب إلي وبه يرد زعم بعضهم إجماع الصحابة على الثمانين، واستشكل ذكر الأربعين بما في البخاري أنه جلده ثمانين وجمع بأن السوط له رأسان والقصبة واحدة، وقوله وكل سنة بما صح عنه أيضا أنه صلى الله عليه وسلم لم يسنه ولهذا كان في نفسه من الثمانين شيء وقال: "لو مات وديته" وكان يحد في إمارته أربعين، ويجاب بحمل النفي على أنه لم يبلغه أولا والإثبات على أنه بلغه ثانيا أو لم يسنه بلفظ عام يشمل كل قضية بل فعله في وقائع عينية وهي لا عموم لها ثم رأيت ما يؤيد هذا وهو ما في جامع عبد الرزاق أنه صلى الله عليه وسلم جلد في الخمر ثمانين "ورقيق" أي من فيه رق وإن قل "عشرون"، لأنه على النصف من الحر ويجلد ما ذكر القوي السليم "بسوط أو أيد أو نعال أو أطراف ثياب" للاتباع رواه البخاري وغيره ولا بد في طرف الثوب من فتله

 

ج / 4 ص -159-        وشده حتى يؤلم "وقيل يتعين سوط"، لأن غيره لا يحصل به الزجر وصححه كثيرون ونقل غير واحد عليه إجماع الصحابة لكنه في شرح مسلم حكى الإجماع على الأول وجعل الثاني غلطا فاحشا لمخالفته للأحاديث الصحيحة ونظر فيه الأذرعي أما النضو ولو خلقة فيجلد بنحو عثكال ولا يجوز بسوط "ولو رأى الإمام بلوغه" أي حد الحر "ثمانين" جلدة "جاز في الأصح" لما مر عن عمر رضي الله عنه لكن الأولى أربعون كما بحثه الزركشي لما مر عن علي أنه صلى الله عليه وسلم لم يسنه وفيه نظر لما مر أنه سنه إلا أن يقال الأكثر من أحواله صلى الله عليه وسلم الأربعون وجاء أن عليا أشار على عمر رضي الله عنهما بذلك أيضا وعلله بأنه إذا شرب سكر وإذا سكر هذى وإذا هذى افترى وحد الافتراء ثمانون "والزيادة" على الأربعين "تعزيرات" إذ لو كانت حدا لم يجز تركها لكن لو كانت تعزيرات جازت زيادتها، لأن كل تعزير يجوز كونه تسعا وثلاثين فالوجه أن فيها شائبة من كل منهما، ومن ثم قال الرافعي اختص حد الشرب بتحتم بعضه ورجوع باقيه لرأي الإمام أو نائبه "وقيل حد" أي ومع ذلك لو مات بها ضمن على ما اقتضاه كلامهم، ويوجه بأنا وإن قلنا: إنها حد، هي تشبه التعزير من حيث جواز تركها فاندفع ما للبلقيني هنا "ويحد بإقراره أو شهادة رجلين" أو علم السيد دون غيره نظير ما مر في السرقة "لا بريح خمر و" هيئة "سكر وقيء" لاحتمال أنه احتقن أو استعط بها أو أنه شربها مع عذر لغلط أو إكراه وحد عثمان رضي الله عنه بالقيء اجتهاد له "ويكفي في إقرار وشهادة شرب خمرا" أو شربت أو شرب مما شرب منه فلان فسكر وساغ له ذلك في شرب النبيذ، لأنه قد يسمى خمرا شرعا وكونه قد يكون حنفيا فلا يفسق به بخلاف الخمر أمر خارج عما هو المقصود الذي هو الحد فلم يؤثر في تعبير الشاهد عنه بالخمر وإن لم يقل مختارا عالما كما فيهما في نحو بيع وطلاق، لأن الأصل عدم الإكراه والغالب من حال الشارب علمه بما يشربه، "وقيل يشترط" في كل من المقر والشاهد أن يقول شربها "وهو عالم" به "مختار" لاحتمال ما مر كالشهادة بالزنا واختاره الأذرعي لأنه أنما يعاقب بيقين، وفرق الأول بأن الزنا قد يطلق على مقدماته كما في الحديث وفيه نظر فإنه مر أن السرقة لا بد فيها من التفصيل وكما أنها تطلق على ما لم يوجد فيه الشروط كذلك الشرب يطلق على ما لم يوجد فيه الشروط فلا فارق بينهما وقد يفرق بأنهم سامحوا في الخمر بسهولة حدها ما لم يسامحوا في غيرها، وأيضا فالابتلاء بكثرة شربها يقتضي التوسع في سبب الزجر عنها فوسع فيه ما لم يوسع في غيره، وعلى الثاني لا بد أن يريد من غير ضرورة احترازا من الإساغة والشرب لنحو تداو قال الزركشي ومحل الخلاف حيث لم يرتب الحاكم في الشهود وإلا وجب الاستفصال جزما وقياسه أنه إذا ارتاب في عقل الشارب لزمه ذلك أيضا، "ولا يحد حال سكره" فيحرم ذلك لفوات مقصوده من الزجر مع فوات رجوعه إن كان أقر فإن حد ولم يصر ملقى لا حركة فيه اعتد به كما صححه جمع لخبر البخاري الظاهر فيه، ومن ثم قال بعض الأئمة لا خلاف فيه وكان قضية الحديث عدم الحرمة وكأنهم نظروا إلى إمكان تأويله فاحتاطوا فيها لحق الله نظرا لفوات ما ذكر وفي الاعتداد لحق الآدمي، وكذا يجزئ في المسجد وإن كره فيه

 

ج / 4 ص -160-        وإنما لم يحرم خلافا للبندنيجي لحصول المقصود به فيه من غير استقذار فيه له، "وسوط الحدود" والتعازير يكون "بين قضيب" أي غصن رقيق جدا "وعصا" غير معتدلة "و" بين "رطب ويابس" بأن يعتدل عرفا جرمه ورطوبته ليحصل به الزجر مع عدم خشية نحو الهلاك فيمتنع كونه ليس كذلك، لأنه إما يخشى منه الضرر الشديد أو لا يؤلم وفي الموطأ مرسلا أنه صلى الله عليه وسلم أراد أن يجلد رجلا فأتي بسوط خلق فقال: "فوق ذلك"، فأتي بسوط جديد فقال: "بين هذين" وهذا وإن كان في زان حجة هنا بتقدير اعتضاده أو صحة وصله كما قيل إذ لا فارق قال ابن الصلاح والسوط هو المتخذ من سيور تلوى وتلف "ويفرقه" أي السوط من حيث العدد "على الأعضاء" وجوبا كما قاله الأذرعي لئلا يعظم ألمه بالموالاة في موضع واحد ومن ثم لا يرفع عضده حتى يرى بياض إبطه كما لا يضعه وضعا لا يؤلم "إلا المقاتل" كثغرة نحر وفرج لأن القصد زجره لا إهلاكه "والوجه" فيحرم ضربهما كما بحثه أيضا لأمر علي كرم الله وجهه بالأول ونهيه عن الأخيرين والرأس فإن جلده على مقتل فمات ففي ضمانه وجهان وقضية كلام الدارمي نفي الضمان كالجلد في حر أو برد مفرطين "قيل: والرأس" لشرفه وأطال جمع في الانتصار له، لأنه مقتل ويخاف منه العمى والأصح المنع لأنه مستور بالشعر غالبا فلا يخاف تشويهه بضربه بخلاف الوجه، ولأمر أبي بكر رضي الله عنه الجلاد بضربه وعلله بأن الشيطان فيه لكن اعترض بأنه ضعيف ومعارض بما مر عن علي، ومحل الخلاف إن لم يقل طبيب عدل رواية بإضراره ضررا يبيح التيمم وإلا حرم جزما، لأن الحد لا يتوقف عليه "ولا تشديده" بل تترك ليتقي بها إن شاء وليضرب غير ما وضعها عليه، لأن وضعها بمحل يدل على شدة تألمه بضربه، ولا يلقى على وجهه أي يحرم ذلك فيما يظهر أخذا مما مر من حرمة كب الميت على وجهه وإن أمكن الفرق ولا يمد أي يكره ذلك ولا يحرم كما هو ظاهر بل يجلد الرجل قائما والمرأة جالسة "ولا تجرد ثيابه" التي لا تمنع ألم الضرب أي يكره ذلك أيضا فيما يظهر بخلاف نحو جبة محشوة بل ينبغي وجوب تجريدها إن منعت وصول الألم المقصود وتؤمر أي وجوبا فيما يظهر أيضا امرأة أو محرم بشد ثياب المرأة عليها كلما تكشفت ولا يتولى الجلد إلا رجل واستحسن الماوردي ما أحدثه ولاة العراق من ضربها في نحو غرارة من شعر زيادة في سترها وأن المتهافت على المعاصي يضرب في الملأ وذا الهيئة يضرب في الخلاء والخنثى كالمرأة لكن لا يتولى نحو شد ثيابها إلا محرم على الأوجه "ويوالى الضرب" عليه "بحيث يحصل" له "زجر وتنكيل" بأن يضرب في كل مرة ما يؤلمه ألما له وقع ثم يضرب الثانية وقد بقي ألم الأول فإن فات شرط من ذلك لم يعتد به وحرم كما هو ظاهر.

فصل في التعزير
وهو لغة من أسماء الأضداد، لأنه يطلق على التفخيم والتعظيم وعلى التأديب وعلى أشد الضرب وعلى ضرب دون الحد كذا في القاموس والظاهر أن هذا الأخير غلط لأن

 

ج / 4 ص -161-        هذا وضع شرعي لا لغوي، لأنه لم يعرف إلا من جهة الشرع فكيف ينسب لأهل اللغة الجاهلين بذلك من أصله والذي في الصحاح بعد تفسيره بالضرب ومنه سمي ضرب ما دون الحد تعزيرا فأشار إلى أن هذه الحقيقة الشرعية منقولة عن الحقيقة اللغوية بزيادة قيد هو كون ذلك الضرب دون الحد الشرعي فهو كلفظ الصلاة والزكاة ونحوهما المنقولة لوجود المعنى اللغوي فيها بزيادة وهذه دقيقة مهمة تفطن لها صاحب الصحاح وغفل عنها صاحب القاموس وقد وقع له نظير ذلك كثيرا وكله غلط يتعين التفطن له وأصله العزر بفتح فسكون وهو المنع والنكاح والإجبار على الأمر والتوقيف على الحق وغير ذلك وما قلنا إنه شرعي هو ما تضمنه قوله "يعزر في كل معصية" لله أو لآدمي "لا حد فيها" أراد به ما يشمل القود ليدخل نحو قطع طرف "ولا كفارة" سواء مقدمه ما فيه حد وغيرها إجماعا ولأمره تعالى الأزواج بالضرب عند النشوز ولما صح من فعله صلى الله عليه وسلم ولخبر أبي داود والنسائي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "في سرقة تمر دون نصاب غرم مثله وجلدات نكال" وأفتى به علي كرم الله وجهه فيمن قال لآخر يا فاسق يا خبيث، وما ذكره هو الأصل وقد ينتفي مع انتفائهما كذوي الهيئات للحديث المشهور من طرق ربما يبلغ بها درجة الحسن بل صححه ابن حبان بغير استثناء: "أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود" وفي رواية "زلاتهم"، وفسرهم الشافعي رضي الله عنه بمن لم يعرف بالشر قيل أراد أصحاب الصغائر وقيل من يندم على الذنب ويتوب منه، وفي عثراتهم وجهان صغيرة لا حد فيها أو أول زلة أي ولو كبيرة صدرت من مطيع، وكلام ابن عبد السلام صريح في ترجيح الأول منهما فإنه عبر بالأولياء وبالصغائر فقال لا يجوز تعزير الأولياء على الصغائر وزعم سقوط الولاية بها جهل، ونازعه الأذرعي في عدم الجواز بأن ظاهر كلام الشافعي سن العفو عنهم وبأن عمر عزر غير واحد من مشاهير الصحابة رضي الله عنهم وهم رءوس الأولياء وسادات الأمة ولم ينكر أحد عليه وقد ينظر فيه بأن قول الأم في موضع لم يعزر ظاهر في الحرمة وفعل عمر اجتهاد منه والمجتهد لا ينكر عليه في المسائل الخلافية وكمن رأى زانيا بأهله وهو محصن فقتله لعذره بالحمية والغيظ هذا إن ثبت ذلك وإلا حل له قتله باطنا وأقيد به ظاهرا كما في الأم وكقطع الشخص أطراف نفسه وكدخول قوي ما حماه الإمام للضعفة فرعاه فلا يعزر ولا يغرم وإن أثم لكن يمنع من الرعي نقله في الروضة وأقره ونظر فيه الأذرعي ويؤيده تعزير مخالف تسعير الإمام وإن حرم على الإمام التسعير فهذا أولى وبهذا يضعف قول البلقيني لم يعص وإنما ارتكب مكروها، ومنع الإمام لمصلحة الضعفاء لا لتحريمه على غيرهم وبفرضه فإخراج دوابه تعزير يكفي في نحو هذا ومثله ما لو حمى أحد الرعية حمى ورعاه فلا يغرم ولا يعزر لأنه أحد المستحقين قاله الماوردي وكمن قال لمخاصمه ابتداء ظالم فاجر أو نحوه كما في شرح مسلم وبه إن صح يتقيد قول غيره يعزر في سب لا حد فيه وعلى الأول فكأن وجه استثناء هذه الألفاظ أن أحدا لا يخلو عنها نظير ما مر في باب حد القذف وكردة وقذفه لمن لاعنها وتكليفه قنه ما لا يطيق وضربه تعديا حليلته ووطئها في دبرها أول مرة في

 

ج / 4 ص -162-        الكل لكن اعترضت الأخيرة بوطء الحائض ويرد بأن هذا أفحش للإجماع على تحريمه وكفر مستحله على أن العلة أن وطء الدبر رذيلة ينبغي عدم إذاعتها، وكالأصل لحق فرعه ما عدا قذفه كما مر وكتأخير قادر نفقة زوجة طلبتها أول النهار فإنه لا يحبس ولا يوكل به وإن أثم قاله الإمام وفهم انتفاء التعزير منه الموجب للاستثناء فيه نظر إذ مراده لا يحبس لكونها دينا فإنه لا يتحقق إلا بمضي النهار إذ لو نشزت مثلا أثناءه سقطت نفقتها، وكتعريض أهل البغي بسب الإمام، وقد يقال انتفاء تعزيرهم لأن التعريض عندنا ليس كالتصريح فليسوا مما نحن فيه، لكن قضية قول البحر ربما هيجهم التعزير للقتال فيترك إن تركه ليس لكون سببه غير معصية، وكمن لا يفيد فيه إلا الضرب المبرح فلا يضرب أصلا نقله الإمام عن المحققين وبحث فيه الرافعي بأنه ينبغي ضربه غير مبرح إقامة لصورة الواجب واعتمده التاج السبكي وقد يجامع التعزير الكفارة كمجامع حليلته نهار رمضان وإن أطال البلقيني في رده وكالمظاهر وحالف يمين غموس وكقتل من لا يقاد به ونوزع فيها باختلاف الجهة وبينه الإسنوي في الأخيرة ثم قال وقضيته إيجاب التعزير في محرمات الإحرام إن كانت إتلافا كالحلق والصيد لا الاستمتاع كاللبس والتطيب وفيه نظر بل الكل على حد سواء، ومن اختلافها ما لو شهد بزنا ثم رجع فيحد للقذف ويعزر لشهادة الزور، وقد يجامع الحد وحده أو مع الكفارة كتعليق يد السارق في عنقه ساعة زيادة في نكاله وكالزيادة على الأربعين في حد الشرب وكمن زنى بأمه في الكعبة صائما رمضان معتكفا محرما فيلزمه الحد والعتق والبدنة ويعزر لقطع رحمه وانتهاك حرمة الكعبة قاله ابن عبد السلام قيل ومن صور اجتماعه مع الحد ما لو تكررت ردته انتهى وفيه نظر لأنه إن عزر ثم قتل فقتله للإصرار وهو معصية أخرى وإن أسلم عزر ولا حد فلم يجتمعا، وقد يوجد حيث لا معصية كغير مكلف فعل ما يعزر به المكلف أو يحد وكمن يكتسب باللهو المباح فيعزر المحتسب الآخذ والمعطي كما اقتضاه كلام الماوردي للمصلحة، وكنفي المخنث للمصلحة وإن لم يرتكب معصية ثم التعزير يكون "بحبس أو ضرب" غير مبرح فإن علم أنه لا يزجره إلا المبرح لم يحل المبرح ولا غيره على المعتمد وعليه فينبغي أنه ينتقل به إلى نوع آخر أعلى فإن فرض أن جميع أنواع التعزير لا تفيد فيه كان نادرا فيفعل به أعلاها من غير نظر لذلك وعلى هذا يحمل ما مر عن الرافعي فعلم أن قولهم لم يحل المبرح ولا غيره إنما هو في نوع الضرب فقط وأما غيره من بقية أنواع التعزير فلا يتصور فيها فرق بين مبرح وغيره فإذا علم أنه لا يؤثر فيه ضرب مبرح ولا غير مبرح انتقل لغيره من بقيتها كما ذكرته هكذا أفهم ثم رأيت ما يأتي قريبا عن ابن عبد السلام وهو صريح فيما ذكرته "أو صفع" وهو الضرب بجمع الكف أو بسطها "أو توبيخ" باللسان أو تغريب أو كشف رأس أو قيام من المجلس أو تسويد وجه، قال الماوردي وحلق رأس لا لحية انتهى وظاهره حرمة حلقها وهو إنما يجيء على حرمته التي عليها أكثر المتأخرين أما على كراهته التي عليها الشيخان وآخرون فلا وجه للمنع إذا رآه الإمام لخصوص المعزر أو المعزر عليه، فإن قلت فيه تمثيل وقد نهينا

 

ج / 4 ص -163-        عن المثلة، قلت ممنوع لإمكان ملازمته لبيته حتى تعود فغايته أنه كحبس دون سنة مع ضرب دون الحد ومع تسويد الوجه إذ للإمام الجمع بين أنواع منه كما يأتي وإركابه الحمار منكوسا والدوران به كذلك بين الناس وتهديده بأنواع العقوبات قال الماوردي أو صلبه حيا لخبر فيه ولا يجاوز ثلاثة أيام ولا يمنع طعاما وشرابا ووضوءا ويصلي بالإيماء واعترض تجويزه بأنه يؤدي إلى الصلاة بالإيماء من غير ضرورة إليه أي بالنسبة للإمام فلم يجز له التسبب فيه، فإن قلت ظاهر إطلاقهم أو صريحه أن له حبسه حتى عن الجمعة فقياسه هذا قلت قد يفرق بأن الإيماء أضيق عذرا منها فسومح فيها بما لم يسامح فيه، وبأن الخبر الذي ذكره غير معروف، ويتعين على الإمام أن يفعل من هذه الأنواع في حق كل معزر ما يراه لائقا به وبجنايته وأن يراعي في الترتيب والتدريج ما يراعيه في دفع الصائل فلا يرقى لرتبة وهو يرى ما دونها كافيا فأو هنا للتنويع ويصح كونها لمطلق الجمع إذ للإمام الجمع بين نوعين أو أكثر منها بحسب ما يراه، وقول ابن الرفعة إذا جمع بين الحبس والضرب ينبغي نقصه نقصا إذا عدل معه الحبس بضربات لا تبلغ ذلك أدنى الحدود نظر فيه الأذرعي بأنه لو نظر لتعديل مدة حبسه بالجلدات لما جاز حبسه قريب سنة وبأن الجلد والتغريب حد واحد وإن اختلف جنسه، "ويجتهد الإمام في جنسه وقدره" كما تقرر لأنه غير مقدر شرعا فوكل إلى رأيه واجتهاده لاختلافه باختلاف مراتب الناس والمعاصي، وأفهم لكلامه أنه ليس لغير الإمام استيفاؤه نعم للأب والجد تأديب ولده الصغير والمجنون والسفيه للتعلم وسوء الأدب، وقول جمع الأصح أنه ليس لهما ضرب البالغ ولو سفيها يحمل على السفيه المهمل الذي ينفذ تصرفه ومثلهما الأم ومن نحو الصبي في كفالته كما بحثه الرافعي وغيره وللسيد تأديب قنه ولو لحق الله تعالى وللمعلم تأديب المتعلم منه لكن بإذن ولي المحجور وللزوج تعزير زوجته لحقه كالنشوز لا لحق الله تعالى أي الذي لا يبطل أو ينقص شيئا من حقوقه كما هو ظاهر ومن ثم بحث بعضهم أن له تأديب صغيرة للتعلم أو اعتياد الصلاة واجتناب المساوئ وبحث ابن البزري بكسر الموحدة أنه يلزمه أمر زوجته بالصلاة في أوقاتها وضربها عليها وهو متجه حتى في وجوب ضرب المكلفة لكن لا مطلقا بل إن توقف الفعل عليه ولم يخش أن يترتب عليه مشوش للعشرة يعسر تداركه "وقيل إن تعلق بآدمي لم يكف توبيخ" لتأكد حقه، ومنع ابن دقيق العيد ضرب المستور بالدرة الآن، لأنه صار عارا في الذرية وهو حسن لكن لا يساعده النقل قاله الأذرعي وأفتى ابن عبد السلام بإدامة حبس من يكثر الجناية على الناس ولم ينفع فيه التعزير حتى يموت "فإن جلد وجب أن ينقص" عن أقل حدود المعزر فينقص "في عبد عن عشرين جلدة" ونصف سنة في الحبس والتغريب "وحر عن أربعين" جلدة وسنة فيهما "وقيل" يجب النقص فيهما "عن عشرين" لخبر: "من بلغ حدا في غير حد فهو من المعتدين" لكنه مرسل وقيل لا يزادان على عشر للخبر المتفق عليه: "لا يجلد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله تعالى"، واختاره كثيرون قالوا ولو بلغ الشافعي لقال به لكن نقل الرافعي عن بعضهم أنه منسوخ، واحتج له
 

 

ج / 4 ص -164-        بعمل الصحابة رضي الله تعالى عنهم بخلافه من غير إنكار انتهى وفيه نظر إذ المروي عن الصحابة مختلف وهو لا يثبت به النسخ ثم رأيت القونوي قال حمله على الأولوية بعد ثبوت العمل بخلافه أهون من حمله على النسخ ما لم يتحقق "ويستوي في هذا" أي النقص عما ذكر في كل قول "جميع المعاصي في الأصح" وقيل تقاس كل معصية بما يناسبها مما فيه حد فينقص تعزير مقدمة الزنا عن حده وإن زاد على حد القذف وتعزير السب عن حد القذف وإن زاد على حد الشرب، "ولو عفا مستحق حد فلا تعزير" يجوز "للإمام في الأصح" إذ لا نظر له فيه "أو" مستحق "تعزير فله" أي الإمام التعزير "في الأصح" لتعلقه بنظره وإن كان لا يستوفيه إلا بعد طلب مستحقه والفرق أنه بالعفو يسقط فيبقى حق الإصلاح لينكف عن نظير ذلك وقبل الطلب الإصلاح منتظر فلو أقيم لفات على المستحق حق الطلب وحصول التشفي، وربما يفهم المتن أنه لو طلب لا يلزم الإمام إجابته وله العفو وهو أحد وجهين رجحه ابن المقري لكن الذي رجحه الحاوي الصغير ومختصروه وغيرهم أنه ليس له العفو، أما العفو فيما يتعلق بحق الله تعالى فيجوز له إن رآه مصلحة والله أعلم.