تحفة المحتاج بشرح المنهاج ط العلمية

ج / 4 ص -271-        كتاب بيان ما يحل ويحرم من الأطعمة
ومعرفتهما من آكد مهمات الدين لما في تناول الحرام من الوعيد الشديد المشار إلى بعضه بقوله صلى الله عليه وسلم: "أي لحم نبت من حرام فالنار أولى به"، والأصل فيها قوله تعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157].
"حيوان البحر" أي ما يعيش فيه بأن يكون عيشه خارجه عيش مذبوح أو حي لكنه لا يدوم "السمك منه حلال كيف مات" بسبب أو غيره طافيا أو راسبا لقوله تعالى:
{أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} [المائدة: 96] أي مصيده ومطعومه وفسر طعامه جمهور الصحابة والتابعين بما طفا على وجه الماء وصح خبر هو الطهور ماؤه الحل ميتته ومر أنه صلى الله عليه وسلم أكل من العنبر وكان طافيا نعم إن انتفخ الطافي وأضر حرم وأنه يحل أكل الصغير ويتسامح بما في جوفه ولا يتنجس به الدهن وأنه يحل شيه وقليه وبلعه ولو حيا "كذا" يحل كيف مات "غيره في الأصح" مما ليس على صورة السمك المشهور فلا ينافي تصحيح الروضة أن جميع ما فيه يسمى سمكا ومنه القرش وهو اللخم بفتح اللام والمعجمة ولا نظر إلى تقويه بنابه ومن نظر لذلك في تحريم التمساح فقد تساهل وإنما العلة الصحيحة عيشه في البر "وقيل لا" يحل غير السمك لتخصيص الحل به في خبر "أحل لنا ميتتان السمك والجراد" ويرده ما تقرر أن كل ما فيه يسمى سمكا "وقيل إن أكل مثله في البر" كالبقر "حل وإلا" يؤكل مثله فيه "فلا" يحل "ككلب وحمار" لتناول الاسم له أيضا، "وما يعيش" دائما "في بر وبحر كضفدع" بكسر ثم كسر أو فتح وبفتح ثم كسر وبضم ثم فتح والفاء ساكنة في الكل "وسرطان" يسمى عقرب الماء وتمساح ونسناس "وحية" وسائر ذوات السموم وسلحفاة والترسة وهي اللجاة بالجيم جرى بعضهم على أنها كالسلحفاة وبعضهم على حلها لأنها لا يدوم عيشها في البر وجرى عليه في المجموع في موضع لكن الأصح الحرمة وقيل اللجاة هي السلحفاة "حرام" لاستخباثه وضرره مع صحة النهي عن قتل الضفدع اللازم منه حرمته وجريا على هذا في الروضة وأصلها أيضا لكن تعقبه في المجموع فقال الصحيح المعتمد أن جميع ما في البحر تحل ميتته إلا الضفدع أي وما فيه سم وما ذكره الأصحاب أو بعضهم من تحريم السلحفاة والحية والنسناس محمول على ما في غير البحر ا هـ قيل النسناس يوجد بجزائر الصين يثب على رجل واحدة وله عين واحدة يتكلم ويقتل الإنسان إن ظفر به يقفز كقفز الطير قيل يرد عليه نحو بط وإوز فإنه يعيش فيهما وهو حلال ا هـ. ويرد بمنع عيشه تحت الماء دائما الذي الكلام فيه قال الزركشي ولم يتعرضوا للدنيلس وقد عمت به البلوى في بلاد مصر كما عمت البلوى في الشام بالسراطين وعن ابن عدلان أنه أفتى بالحل لأكل نظيره في البر وهو الفستق وهذا عجيب أي: من شيئين اعتبار المثل في البر وهو ضعيف وعدم فهمه إذ المراد عليه ما أكل مثله من

 

ج / 4 ص -272-        الحيوان لا مطلقا وعن ابن عبد السلام أنه كان يفتي بتحريمه وهو الظاهر لأنه أصل السرطان لتولده منه كما نقل عن أهل المعرفة بالحيوان ا هـ. واعتمد الدميري الحل ونازع في صحة ما نقل عن ابن عبد السلام ونقل أن أهل عصر ابن عدلان وافقوه، "وحيوان البر يحل منه الأنعام" إجماعا وهي الإبل والبقر والغنم "والخيل" العربية وغيرها لصحة الأخبار بحلها وخبر النهي عن لحومها منكر وبفرض صحته هو منسوخ بإحلالها يوم خيبر ولا دلالة في: {لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل: 8] على أن الآية مكية اتفاقا والحمر لم تحرم إلا يوم خيبر فدل على أنه صلى الله عليه وسلم لم يفهم من الآية تحريم الحمر فكذا الخيل والمراد في جميع ما مر ويأتي الذكر والأنثى "وبقر وحش وحماره" وإن تأنسا لطيبهما وأكله صلى الله عليه وسلم من الثاني وأمره بالأكل منه رواه الشيخان وقيس به الأول "وظبي" إجماعا "وضبع" بضم بائه أفصح من إسكانها لصحة الخبر بأنه يؤكل ونابه ضعيف لا يتقوى به وخبر النهي عنه لم يصح وبفرض صحته فهو نهي تنزيه للخلاف فيه كذا قيل وفيه نظر، لأن ما خالف سنة صحيحة لا يراعى ومن عجيب حمقه أنه يتناوم حتى يصاد وأمره أنه سنة ذكر وسنة أنثى ويحيض "وضب" وهو معروف لذكره ذكران ولأنثاه فرجان ولا يسقط له سن وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم أقر آكليه بحضرته ثم بين حله وأنه إنما تركه لأنه لم يألفه متفق عليه "وأرنب" لأنه صلى الله عليه وسلم أكل منه رواه البخاري وهو قصير اليدين طويل الرجلين عكس الزرافة يطأ الأرض بمؤخر قدميه "وثعلب" بمثلثة أوله لأنه طيب، والخبران في تحريمه ضعيفان "ويربوع" وهو قصير اليدين جدا طويل الرجلين لونه كلون الغزال لأنه طيب أيضا ونابهما ضعيف ومثلهما قنفذ ووبر وأم حبين بحاء مهملة مضمومة فموحدة مفتوحة فتحتية تشبه الضب وهي أنثى الحرابي "وفنك" بفتح الفاء والنون وسنجاب وقاقم وحوصل "وسمور" بفتح فضم مع التشديد أعجمي معرب وهو والسنجاب نوعان من ثعالب الترك وزعم أنه طير أو من الجن أو نبت غلط، "ويحرم" وشق و "بغل" للنهي الصحيح عنه كالحمار يوم خيبر ولتولده بين حلال وحرام ومن ثم لو تولد بين فرس وحمار وحشي مثلا حل اتفاقا "وحمار أهلي" لما ذكر "وكل ذي ناب" قوي بحيث يعدو به "من السباع ومخلب" بكسر فسكون وهو للطير كالظفر للإنسان "من الطير" للنهي الصحيح عنهما فالأول "كأسد" وفهد "ونمر وذئب ودب وفيل وقرد و" الثاني نحو "باز وشاهين وصقر" عام بعد خاص لشموله للبزاة والشواهين وغيرها من كل ما يصيد وهو بالسين والصاد والزاي "ونسر" بتثليث أوله والفتح أفصح "وعقاب" بضم أوله وجميع جوارح الطير وقال جمع بحرمة النسر لاستخباثه لا لأن له مخلبا وإنما له ظفر كظفر الدجاجة "وكذا ابن آوى" بالمد وهو كريه الريح طويل المخالب والأظفار يعوي ليلا إذ استوحش بما يشبه صياح الصبيان فيه شبه من الذئب والثعلب وهو فوقه ودون الكلب لاستخباثه وعدوه بنابه "وهرة وحش في الأصح" لعدوها وكذا أهلية قيل جزما وقيل فيها الخلاف وكذا النمس "ويحرم ما ندب قتله" إذ لو جاز أكله لحل اقتناؤه "كحية وعقرب وغراب أبقع" أي فيه سواد وبياض "وحدأة" بوزن عنبة "وفأرة وكل" بالجر "سبع" بضم الباء "ضار" بالتخفيف أي عاد للخبر الصحيح في الفواسق الخمس أنهن يقتلن

 

ج / 4 ص -273-        في الحل والحرم وهي غراب أبقع وحدأة وفأرة وعقرب وكلب عقور وفي رواية لمسلم ذكر الحية بدل العقرب وفي أخرى زيادة السبع الضاري قيل البهيمة التي وطئها الآدمي مأمور بقتلها مع حلها ا هـ. ومر أن قتلها وجه ضعيف فلا استثناء على أنها لا ترد وإن قلنا بقتلها لأنه لعارض وإلا لورد ما لو صال عليه حيوان يحل أكله فإنه يجب قتله ومع ذلك هو حلال وقيد الغراب بالأبقع تبعا للخبر وللاتفاق على تحريمه وإلا فالأسود وهو الغداف الكبير ويسمى الجبلي لأنه لا يسكن إلا الجبال حرام أيضا على الأصح وكذا العقعق وهو ذو لونين أبيض وأسود طويل الذنب قصير الجناح صوته العقعقة وخرج بضار نحو ضبع وثعلب لضعف نابه كما مر "وكذا رخمة" للنهي عنها رواه البيهقي ولخبثها "وبغاثة" بموحدة مثلثة فمعجمة ثم مثلثة طائر أبيض أو أغبر بطيء الطيران أصغر من الحدأة يأكل الجيف "والأصح حل غراب زرع" وهو أسود صغير يقال له الزاغ وقد يكون محمر المنقار والرجلين لأنه مستطاب وفي أصل الروضة أن الغداف الصغير وهو أسود أو رمادي حرام واعترض بما لا يجدي بل زعم الإسنوي أنه غلط "وتحرم ببغا" بفتح الموحدتين مع تشديد الثانية ثم معجمة وبالقصر وهو الدرة بضم المهملة ولونها مختلف والغالب أنه أخضر "وطاوس" لخبثهما، "وتحل نعامة" إجماعا "وكركي وبط" قال الدميري هو الإوز الذي لا يطير "وإوز" بكسر ففتح وقد تحذف همزته "ودجاج" بتثليث أوله في الذكر والأنثى والفتح أفصح لطيبها كسائر طيور الماء إلا اللقلق "وحمام وهو كل ما عب" أي شرب الماء بلا تنفس ومص وفي القاموس العب شرب الماء أو الجرع أو تتابعه "وهدر" أي رجع صوته وغرد وذكره تأكيد وإلا فهو لازم للأول ومن ثم اقتصر في الروضة في موضع على عب وزعم أنهما متلازمان فيه نظر إذ النغر من العصافير يعب ولا يهدر "وما على شكل عصفور" بضم أوله أفصح من فتحه "وإن اختلف لونه ونوعه كعندليب" وهو الهزار "وصعوة" بمهملتين مفتوحة فساكنة وهو عصفور أحمر الرأس "وزرزور" بضم أوله لأنها من الطيبات "لا خطاف" للنهي عن قتله في مرسل اعتضد بقول صحابي وهو الخفاش عند اللغويين وفرق بينهما المصنف في تهذيبه بأن الأول عرفا طائر أسود الظهر أبيض البطن أي وهو المسمى الآن بعصفور الجنة لأنه لم يأكل من قوت الدنيا شيئا والثاني طائر صغير لا ريش له يشبه الفأرة يطير بين المغرب والعشاء واعترض جزمهما بحرمته هنا بجزمهما بأن فيه القيمة على المحرم فإن ذلك يستلزم حل أكله ويجاب بمنع هذا الاستلزام إذا المتولد مما يحل ويحرم حرام مع وجوب الجزاء فيه فلعل الخفاش عندهما من هذا فتأمله فإن المتأخرين كادوا أن يطبقوا على تغليطهما وليس كذلك "ونمل ونحل" لصحة النهي عن قتلهما وحملوه على النمل السليماني وهو الكبير إذ لا أذى فيه بخلاف الصغير للأذاة فيحل قتله بل وحرقه إن لم يندفع إلا به كالقمل "وذباب" بضم أوله "وحشرات" وهي صغار دواب الأرض "كخنفسا" بضم أوله فثالثه مع القصر أو المد أو بفتحه والمد "ودود" منفرد لما مر فيه في الصيد والذبائح ووزغ بأنواعها وذوات سموم وإبر والصرارة وذلك لاستخباثها نعم يحل منها نحو يربوع ووبر وأم حبين وقنفذ وبنت عرس وضب.

 

ج / 4 ص -274-        تنبيه: استدل الرافعي لتحريم الوزغ بأنه نهي عن قتلها وهو سبق قلم بلا شك فقد روى مسلم أن من قتلها في أول ضربة كتب له مائة حسنة وفي الثانية دون ذلك وفي الثالثة دون ذلك وفي ذلك حض أي حض على قتلها قيل لأنها كانت تنفخ النار على إبراهيم صلى الله على نبينا وعليه وسلم.
"وكذا" يحرم كل "ما تولد" يقينا "من مأكول وغيره" كسمع بكسر فسكون لتولده بين ذئب وضبع وكزرافة فتحرم بلا خلاف كما في المجموع لكن أطال الأذرعي وغيره في حلها لتولدها بين مأكولين من الوحش وخرج بيقينا ما لو ولدت شاة كلبة ولم يتحقق نزو كلب عليها فإنها تحل كما قاله البغوي كالقاضي لأنه قد يحصل الخلق على خلاف صورة الأصل لكن الورع تركها وقال آخرون إن كان أشبه بالحلال خلقة حل وإلا فلا ويجوز شرب لبن فرس ولدت بغلا وشاة كلبا لأنه منها لا من الفحل.
فرع: مسخ حيوان يحل إلى ما لا يحل أو عكسه اعتبر ما قبل المسخ على ما جزم به بعضهم عملا بالأصل لكن ينافيه ما في فتح الباري عن الطحاوي أن فرض كون الضب ممسوخا لا يقتضي تحريم أكله، لأن كونه آدميا قد زال حكمه ولم يبق له أثر أصلا وإنما كره صلى الله عليه وسلم أكله لما وقع عليه من سخط الله تعالى كما كره الشرب من مياه ثمود ا هـ. فظاهره اعتبار الممسوخ إليه لا عنه نظرا للحالة الراهنة وفي إطلاق هذا وما قبله نظر والذي يظهر أن ذاته إن بدلت لذات أخرى اعتبر الممسوخ إليه وإلا بأن لم تبدل إلا صفته فقط اعتبر ما قبل المسخ وفي شرح الإرشاد الصغير في مسخ أحد الزوجين ما يؤيد ذلك فراجعه فإنه مهم ومع ذلك فالذي يتعين اعتماده في الآدمي الممسوخ أنه لا يجوز أكله مطلقا كما يدل عليه الحديث الصحيح أنهم نزلوا بأرض كثيرة الضباب فطبخوا منها فقال صلى الله عليه وسلم: "
إن أمة من بني إسرائيل مسخت دواب في الأرض وأخشى أن تكون هذه فأكفئوها"، ولا ينافي ذلك أنه أذن في أكلها حملا للأول على أنه جوز مسخها وللثاني على أنه علم بعد أن الممسوخ لا نسل له ففي خبر مسلم وغيره: "إن الله لم يجعل لممسوخ نسلا ولا عقبا"، وقد كانت القردة والخنازير قبل ذلك وتردد بعضهم في مال مغصوب قدم لولي فقلب كرامة له دما ثم أعيد إلى صفته أو غير صفته والوجه عدم حله لأنه بعوده إلى المالية يعود لملك مالكه كما قالوه في جلد ميتة دبغ ولا ضمان على الولي بقلبه إلى الدم كما لا ضمان عليه إذا قتل بحاله، "وما لا نص فيه" من كتاب ولا سنة خاص ولا عام بتحريم أو تحليل ولا بما يدل على أحدهما كالأمر بقتله أو النهي عنه فاندفع ما للبلقيني هنا من الاعتراض على المتن "وإن استطابه أهل يسار" بشرط أن لا تغلب عليهم العيافة الناشئة عن التنعم "وطباع سليمة من العرب" الساكنين في البلاد والقرى دون البوادي لأنهم يأكلون ما دب ودرج "في حال رفاهية حل" سواء ما ببلاد العرب أو العجم فيما يظهر "وإن استخبثوه فلا" يحل لأنه تعالى أناط الحل بالطيب والحرمة بالخبث ومحال عادة اجتماع العالم على ذلك لاختلاف طباعهم فتعين أن المراد بعضهم والعرب أولى لأنهم الأفضل الأعدل طباعا والأكمل عقولا ومن ثم أرسل صلى الله عليه وسلم منهم ونزل القرآن بلغتهم بل وكلام أهل الجنة بها كما في

 

ج / 4 ص -275-        حديث، وفي آخر "من أحبهم فبحبي أحبهم ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم"، لكن طباعهم مختلفة أيضا فرجع إلى عرب زمنه صلى الله عليه وسلم على ما قاله جمع والحق ما بحثه الرافعي أنه يرجع في كل عصر إلى أكمل الموجودين فيه وهم من جمعوا ما ذكر واعترضه البلقيني بما إذا خالف أهل زمن من قبلهم أو بعدهم بأنه إن رجع للسابق لزم أن لا يعتبر من بعدهم وبالعكس ورد بأن العرب إنما يرجع إليهم في المجهول وأما ما سبق فيه كلام العرب قبلهم فهو قد صار معلوم الحكم فلا يلتفت لكلامهم فيه وبحث الزركشي أنه يكفي خبر عدلين منهم وأنه لو خالفهما آخران أخذ بالحظر لأنه الأحوط وكأن كلامه في هذا التصوير بخصوصه وإلا فقد صرحوا بأنه لو استطابه البعض واستخبثه البعض أخذ بالأكثر فإن استووا رجح قريش لأنهم أكمل العرب عقلا وفتوة فإن اختلف القرشيون ولا مرجح أو شكوا أو سكتوا أو لم يوجدوا هم ولا غيرهم من العرب ألحق بأقرب الحيوان به شبها كما يأتي أما إذا اختل شرط مما ذكر فلا عبرة بهم لعدم الثقة بهم حينئذ، "وإن جهل اسم حيوان سألوا" عنه "وعمل بتسميتهم" حلا وحرمة "وإن لم يكن له اسم عندهم اعتبر بالأشبه به" من الحيوانات صورة أو طبعا من عدو أو ضده أو طعما للحم ويظهر قديم الطبع لقوة دلالة الأخلاق على المعاني الكامنة في النفس فالطعم فالصورة فإن استوى الشبهان أو لم نجد له شبها حل لقوله تعالى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً} [الأنعام: 145] الآية وهذا قد ينافي ترجيح الزركشي الحرمة فيما مر إلا أن يفرق بأن التعارض في الأخبار ثم أقوى منه هنا.
تنبيه: قولهم أو طعما متعذر من جهة التجربة لتوقفها على ذبح أو قطع فلذة من عضو كبير من حيوانات تحل وحيوانات تحرم إلى أن تجد الأشبه به وذلك لا يمكن القول به لأنه لا غاية له على أنه قد لا ينتج لو فعل كثير من ذلك فالذي يتجه تعين حمل كلامهم على ما إذا وجدنا عدلا ولو عدل رواية يخبر بمعرفة طعم هذا وأنه يشبه طعم حيوان يحل أو يحرم فيعمل بخبره ويقدم حينئذ على الأشبه به صورة أما إذا لم يوجد هذا فلا يعول إلا على المشابهة الطبيعية فالصورية فتأمله.
"وإذا ظهر تغير لحم جلالة" أي طعمه أو لونه أو ريحه كما ذكره الجويني واعتمده جمع متأخرون ومن اقتصر على الأخير أراد الغالب وهي آكلة الجلة بفتح الجيم أي النجاسة كالعذرة وقول الشارح وهي التي تأكل العذرة اليابسة أخذا من الجلة بفتح الجيم لا يوافق قول القاموس والجلالة البقرة تتبع النجاسات ثم قال والجلة مثلثة البعر والبعرة ا هـ. فتقييده باليابسة وقوله أخذا إلخ يحتاج فيه السند "حرم" أكله كسائر أجزائها وما تولد منها كلبنها وبيضها وبه قال أحمد ويكره إطعام مأكولة نجاسة وأفهم ربط التغير باللحم أنه لا أثر لتغير نحو اللبن وحده وهو محتمل لأنه يغتفر في التابع ما لا يغتفر في المتبوع "وقيل يكره قلت الأصح يكره والله أعلم" وبه قال أبو حنيفة ومالك، لأن النهي لتغير اللحم وهو لا يحرم كما لو نتن لحم المذكاة أو بيضها ويكره ركوبها بلا حائل ومثلها سخلة ربيت بلبن كلبة إذا تغير لحمها لا زرع وثمر سقي أو ربي بنجس بل يحل اتفاقا ولا كراهة

 

ج / 4 ص -276-        فيه لعدم ظهور أثر النجس فيه ومنه أخذ أنه لو ظهر ريحه أي مثلا فيه كره ومعلوم أن ما أصابه منه متنجس يطهر بالغسل، "فإن علفت طاهرا" أو متنجسا أو نجسا كما بحثا أو لم تعلف كما اعتمده البلقيني وغيره واقتصار أكثرهم على العلف الطاهر جرى على الغالب أن الحيوان لا بد له من العلف وأنه الطاهر "فطاب" لحمها "حل" هو وبيضها ولبنها بلا كراهة فهو تفريع عليهما وذلك لزوال العلة ولا تقدير لمدة العلف وتقديرها بأربعين يوما في البعير وثلاثين في البقر وسبعة في الشياه وثلاثة في الدجاجة للغالب أما طيبه بنحو غسل أو طبخ فلا أثر له وتردد البغوي في شاة غذيت بحرام ورجح ابن عبد السلام كالغزالي أنها لا تحرم وإن غذيت به عشر سنين لحل ذاته وإنما حرم لحق الغير وبه فارقت حرمة المرباة بلبن كلبة على الضعيف وما في الأنوار عن البغوي من أن الحرام إن كان لو فرض نجسا غير اللحم حرمت وإلا فلا مبني على الضعيف إن الجلالة حرام، "ولو تنجس طاهر كخل ودبس ذائب" بالمعجمة "حرم" تناوله لتعذر تطهيره كما مر آخر النجاسة بدليله أما الجامد فيزيل النجس وما حوله ويأكل باقيه للخبر هذا هو المحترز عنه فلا يقال ظاهره أن المتنجس الجامد لا يحرم مطلقا ولا يكره أكل بيض سلق في ماء نجس ولا يحرم من الطاهر إلا نحو حجر وتراب ومنه مدر وطفل لمن يضره وعليه يحمل إطلاق جمع متقدمين حرمته بخلاف من لا يضره كما قاله جمع متقدمون واعتمده السبكي وغيره وسم وإن قل إلا لمن لا يضره ونبت ولبن جوز أنه سم أو من غير مأكول ومسكر ككثير أفيون وحشيش وجوزة وعنبر وزعفران وجلد دبغ ومستقذر أصالة بالنسبة لغالب ذوي الطباع السليمة كمخاط ومني وبصاق وعرق لا لعارض كغسالة يد ولحم مثلا أنتن وخرج بالبصاق وهو ما يرمى من الفم الريق وهو ما فيه فلا يحرم فيما يظهر من كلامهم لأنه غير مستقذر ما دام فيه ومن ثم كان صلى الله عليه وسلم يمص لسان عائشة وصح في حديث: "هلا بكرا تلاعبها وتلاعبك" مالك ولعابها بضم اللام وقول عياض إنه بكسر اللام لا غير مردود فالإغراء على ريقها صريح في حل تناوله ولو وقعت ميتة لا نفس لها سائلة ولم تكثر بحيث تستقذر أو قطعة يسيرة من لحم آدمي في طبيخ لحم مذكى لم يحرم أكل الجميع خلافا للغزالي في الثانية وإذا وقع بول في قلتي ماء ولم يغيره جاز استعمال جميعه لأنه لما استهلك فيه صار كالعدم، "وما كسب بمخامرة نجس كحجامة وكنس مكروه" للحر وإن كسبه قن للنهي الصحيح عن كسب الحجام ولم يحرم لأنه صلى الله عليه وسلم أعطى حاجمه أجرته رواه البخاري ولو حرم لم يعطه لأنه حيث حرم الأخذ حرم الإعطاء كأجرة النائحة إلا لضرورة كإعطاء شاعر أو ظالم أو قاض خوفا منه فيحرم الأخذ فقط وأما خبر مسلم: "كسب الحاجم خبيث" فأوله الجمهور بأنه المراد به الدنيء على حد {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة: 267]، وعلة خبثه مباشرة النجاسة ومن ثم ألحقوا به كل كسب حصل من مباشرتها كزبال ودباغ وقصاب نعم صحح في أصل الروضة أنه لا يكره كسب الفصاد لقلة مباشرته لها وقيل دناءة الحرفة وانتصر له البلقيني فيكره كسب كل ذي حرفة دنيئة كحلاق وحارس وحائك وصباغ وصواغ وصحح في الروضة أنه لا يكره كسب حائك وحكى وجهين في

 

ج / 4 ص -277-        الصباغين والصواغين لكثرة إخلافهم الوعد والوقوع في الربا والذي في المجموع وجزم به في الأنوار وغيره أنه لا يكره لحر وغيره مكسوب بحرفة دنيئة وفي خبر لأبي داود الطيالسي: "أكذب الناس الصباغون والصواغون" وحرم الحسن كسب الماشطة لأنه لا يخلو غالبا عن حرام أو تغيير لخلق الله "ويسن" للحر "أن لا يأكله" بل يكره له أكله وهو مثال إذ سائر وجوه الإنفاق حتى التصدق به كذلك كما بحثه الأذرعي والزركشي "و" أن "يطعمه رقيقه وناضحه" أي بعيره الذي يستقي عليه لنهيه صلى الله عليه وسلم من استأذنه في أجرة الحجام عنها فلا زال يسأله حتى قال له: "اعلفه ناضحك وأطعمه رقيقك" وآثر لفظ الرقيق والناضح مع لفظ الإطعام تبركا بلفظ الخبر والمراد ويمون به ما يملكه من قن وغيره ولدناءة القن لاق به الكسب الدنيء بخلاف الحر.
فرع: يسن للإنسان أن يتحرى في مؤنة نفسه وممونه ما أمكنه فإن عجز ففي مؤنة نفسه ولا تحرم معاملة من أكثر ماله حرام ولا الأكل منها كما صححه في المجموع وأنكر قول الغزالي بالحرمة مع أنه تبعه في شرح مسلم.
فرع: أفضل المكاسب الزراعة لأنها أعم نفعا وأقرب للتوكل وأسلم من الغش ثم الصناعة، لأن فيها تعبا في طلب الحلال أكثر ثم التجارة.
"ويحل جنين وجد ميتا في بطن مذكاة" وإن أشعر للخبر الصحيح يا رسول الله إنا ننحر الإبل ونذبح البقر والشاة فنجد في بطنها الجنين أي الميت فنلقيه أم نأكله فقال:
"كلوه إن شئتم فإن ذكاته ذكاة أمه" أي وذكاتها التي أحلتها أحلته تبعا لها ما لم يتم انفصاله وفيه حياة مستقرة وإلا اشترط ذبحه فعلم أنه لو خرج وبه حياة مستقرة كما صححه في الروضة والمجموع وإن نوزع فيه بأنه صار مقدورا عليه أو ميتا كما ذكره البغوي وإن نوزع فيه بكلام الإمام بل رجح غير واحد خلافه ثم رأيت ابن الرفعة رجح كلام البغوي وغيره قال إنه أقرب للمنقول فذبحت قبل انفصاله حل، لأن للمنفصل بعضه حكم المتصل كله غالبا ولا أثر لخروجه بعد ذبحها حيا لكن حركته حركة مذبوح وإن طالت بخلاف ما لو بقي ببطنها يضطرب زمنا طويلا كما قاله القاضي ونقله في المجموع عن الجويني وأقره واعتمده الأذرعي وكذا الزركشي لكنه قاسه على ما فيه نظر قال البلقيني وما لم يوجد سبب يحال عليه الموت ولو احتمالا وإلا كأن ضرب بطنها لم يحل وما لم يكن علقة لأنه دم أو مضغة لم تبن فيه صورة كما اقتضاه كلامهما وعللوه بما يصرح بأن المدار هنا على ما يثبت به الاستيلاد لأنه إنما يسمى ولدا تبعا لها حينئذ والتقييد بنفخ الروح فيه ضعيف، "ومن" اضطر وهو معصوم بأن لم يجد حلالا أو لم يتمكن منه إلا بعد نحو زنا به كما يأتي و "خاف على نفسه موتا أو مرضا مخوفا" أو غير مخوف أو نحوهما من كل مبيح للتيمم "ووجد محرما" غير مسكر كميتة ولو مغلظة ودم "لزمه" أي غير العاصي بسفره ونحوه والمشرف على الموت بأن وصل لحالة تقضي العادة أن صاحبها لا يعيش وإن أكل "أكله" أو شربه لقوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ} [البقرة: 173] الآية مع قوله: {وَلا تَقْتُلُوا

 

ج / 4 ص -278-        أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] وكذا خوف العجز عن نحو المشي أو التخلف عن الرفقة إن حصل به ضرر لا نحو وحشة كما هو ظاهر وكذا إذا أجهده الجوع وعيل صبره ويكفي غلبة ظن حصول ذلك بل لو جوز التلف والسلامة على السواء حل له تناول المحرم كما حكاه الإمام عن صريح كلامهم ولو امتنع مالك طعام من بذله لمضطرة إلا بعد وطئها زنا لم يجز لها تمكينه بناء على الأصح أن الإكراه بالقتل لا يبيح الزنا واللواط ولكونه مظنة في الجملة لاختلاط الأنساب شدد فيه أكثر بخلاف نظائره وظاهر أن الاضطرار لغير القوت والماء كسترة خشي بتركها ما مر يأتي فيه جميع أحكام المضطر السابقة والآتية "وقيل يجوز" كما يجوز الاستسلام للمسلم وفرق الأول بأن هذا فيه إيثار طلبها للشهادة بخلاف ذاك ولو وجد ميتة يحل مذبوحها وأخرى لا يحل أي كآدمي غير محترم فيما يظهر تخير أو مغلظة وغيرها قاله في المجموع واعتراض الإسنوي له مردود أما المسكر فلا يجوز تناوله لجوع ولا عطش كما مر أما العاصي بسفره ونحوه فلا يجوز له تناول المحرم حتى يتوب قال البلقيني وكذا مرتد وحربي حتى يسلما وتارك صلاة وقاطع طريق حتى يتوبا ا هـ. ويظهر فيمن لا تسقط توبته قتله كزان محصن أنه يأكل لأنه لا يؤمر بقتل نفسه وأما المشرف على الموت فلا يجوز له تناوله أيضا لأنه لا ينفعه ولو وجد لقمة حلالا لزمه تقديمها على الحرام "فإن توقع" أي ظن كما هو ظاهر "حلالا" يجده "قريبا" أي على قرب بأن لم يخش محذورا قبل وصوله "لم يجز غير سد" بالمهملة وهو المشهور أو المعجمة "الرمق" وهو بقية الروح على المشهور والقوة على مقابله "وإلا" يتوقعه "ففي قول يشبع" لإطلاق الآية أي يكسر ثورة الجوع بحيث لا يسمى جائعا لا أن لا يجد للطعام مساغا أما ما زاد على ذلك فحرام قطعا ولو شبع ثم قدر على الحل لزمه ككل من تناوله محرما ولو مكرها التقيؤ إن أطاقه بأن لم يحصل له منه مشقة لا تحتمل عادة "والأظهر سد الرمق فقط" لأنه بعده غير مضطر نعم إن توقف قطعه لبادية مهلكة على الشبع وجب وبحث البلقيني أنه متى خشى الهلاك لو ترك الشبع لزمه وهو معلوم من قوله "إلا أن يخاف تلفا" أي محذور تيمم "إن اقتصر" على سد الرمق فيلزمه أن يشبع أي يكسر ثورة الجوع قطعا لبقاء الروح ويجب التزود إن لم يرج وصول حلال وإلا جاز بل قال القفال لا يمنع من حمل ميتة لم تلوثه ولو لغير ضرورة، "وله" أي المعصوم بل عليه "أكل آدمي ميت" محترم إذا لم يجد ميتة غيره ولو مغلظة، لأن حرمة الحي أعظم ومن ثم لو كانت ميتة نبي امتنع الأكل منها قطعا وكذا ميتة مسلم والمضطر ذمي وظاهر كلامهما أنهما حيث اتحدا إسلاما وعصمة لم ينظر لأفضلية الميت وقياسه أنهما لو اتحدا نبوة لم ينظر لذلك أيضا ويتصور في عيسى والخضر صلى الله على نبينا وعليهما وسلم وهذا غير محتاج إليه إذ النبي لا يتقيد برأي غيره وإذا جاز أكله حرم نحو طبخه أي إن كان محترما كما بحثه الأذرعي وقيد شارح ذلك بما إذا أمكن أكله نيئا ويؤيده تعليلهم باندفاع الضرر بدون نحو الطبخ والشي "و" له بل عليه "قتل" مهدر "نحو مرتد وحربي" وزان محصن ومحارب وتارك صلاة بشرطه ومن له عليه قود من غير إذن الإمام للضرورة ومن هذا يعلم أن هؤلاء لو كانوا

 

ج / 4 ص -279-        مضطرين لم يجب على أحد بذل الطعام لهم "لا ذمي ومستأمن" لعصمتهما "وصبي حربي" وامرأة حربية لحرمة قتلهما "قلت الأصح حل قتل الصبي والمرأة الحربيين" كذا الخنثى والمجنون ورقيقهم "للأكل والله أعلم" لعدم عصمتهم وحرمة قتلهم إنما هي لحق الغانمين ومن ثم لم تجب فيه كفارة وبحث البلقيني أن محله ما لم يستول عليهم وإلا حرم لأنهم صاروا أرقاء معصومين للغانمين وبحث ابن عبد السلام حرمة قتل صبي حربي مع وجود حربي بالغ وليس لوالد قتل ولده للأكل ولا للسيد قتل قنه قال ابن الرفعة إلا أن يكون القن ذميا كالحربي وفيه نظر ظاهر، "ولو وجد" مضطر "طعام غائب" ولم يجد غيره "أكل" وجوبا منه ما يسد رمقه فقط أو ما يشبعه بشرطه وإن كان معسرا للضرورة ولأن الذمم تقوم مقام الأعيان "وغرم" إذا قدر قيمته إن كان متقوما وإلا فمثله لحق الغائب وبحث البلقيني منع أكله إذا اضطر الغائب أيضا وهو يحضر عن قرب وهو متجه إن أراد بالقرب أن يكون بحيث يتمكن من زوال اضطراره بهذا دون غيره وغيبة ولي محجور كغيبة مستقل وحضوره كحضوره وله بيع ماله حينئذ نسيئة ولمعسر بلا رهن للضرورة "أو" وجد وهو غير نبي طعام "حاضر مضطر لم يلزمه بذله" له "إن لم يفضل عنه" بل هو أولى لخبر "ابدأ بنفسك"، أما النبي فيجب على غيره إيثاره على نفسه ولو من غير طلب وأفتى القاضي بأن الميتة لا يد لأحد عليها فلا يقدم بها من هي بيده واعترض بأنها كسائر المباحات فذو اليد عليها أحق بها وهو ظاهر وأما ما فضل عنه أي عن سد رمقه كما بحثه الزركشي فيلزمه بذله وإن احتاج إليه مآلا "فإن آثر" في هذه الحالة وهو ممن يصبر على الإضافة على نفسه مضطرا "مسلما" معصوما "جاز" بل سن لقوله تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9]، أما المسلم غير المضطر والذمي والبهيمة وألحق بهما المسلم المهدر فيحرم إيثارهم "أو" وجد طعام حاضر "غير مضطر لزمه" أي مالك الطعام "إطعام" أي سد رمق "مضطر" أو إشباعه بشرطه معصوم "مسلم أو ذمي" أو مستأمن وإن احتاجه مالكه مآلا للضرورة الناجزة وكذا بهيمة الغير المحترمة بخلاف نحو حربي ومرتد وزان محصن وكلب عقور ويلزمه ذبح شاته لإطعام كلبه الذي فيه منفعة ويجب إطعام نحو صبي وامرأة حربيين اضطرا قبل الاستيلاء عليهما وبعده ولا ينافيه ما مر من حل قتلهما لأنه ثم لضرورة فلا ينافي احترامهما هنا وإن كانا غير معصومين في نفسهما كما مر آنفا "فإن منع" المالك غير المضطر بذله للمضطر مطلقا أو إلا بزيادة على ثمن مثله بما لا يتغابن بها "فله" أي المضطر ولا يلزمه على المعتمد وإن أمن "قهره" على أخذه "وإن قتله" لإهداره بالمنع فإن قتل المضطر قتل به أو مات جوعا بسبب امتناعه لم يضمنه لأنه لم يحدث فيه فعلا وقضية كلامهم أن للمضطر الذمي قتل المسلم المانع له وعليه يفرق بين هذا وعدم حل أكله لميتة المسلم بأنه لا تقصير ثم من المأكول بوجه وهنا ا لممتنع مهدر لنفسه بعصيانه بالمنع فبحث بعضهم أنه يضمنه وكأنه هو أو من جزم به كالشارح أخذه مما ذكر في ميتة المسلم يرد بما ذكرته أما إذا رضي ببذله له بثمن مثله ولو بزيادة يتغابن بها فيلزمه قبوله بذلك ولا يجوز له قهره "وإنما يلزم" المالك بذل ما ذكر للمضطر "بعوض

 

ج / 4 ص -280-        ناجز" هو ثمن مثله زمانا ومكانا "إن حضر" معه "وإلا" يحضر معه عوض بأن غاب ماله "ف" لا يلزمه بذله مجانا مع اتساع الوقت بل بعوض "نسيئة" ممتدة لزمن وصوله إليه، لأن الضرر لا يزال بالضرر قال الإسنوي ولا وجه لوجوب البيع نسيئة بل الصواب أنه يبيعه بحال غير أنه لا يطالبه به إلا عند اليسار ا هـ. ويرد بأنه قد يطالبه به قبل وصوله لماله مع عجزه عن إثبات إعساره فيحبسه أما إذا لم يكن له مال أصلا فلا معنى لوجوب الأجل لأنه لا حد لليسار يؤجل إليه ثم إن قدر العوض وأفرز له المعوض ملكه به كائنا ما كان وإن كان المضطر محجورا وقدره وليه بأضعاف ثمن مثله للضرورة وإن لم يقدره أو لم يفرزه له لزمه مثل المثلي وقيمة المتقوم في ذلك الزمن والمكان أما مع ضيق الوقت عن تقدير عوض بأن كان لو قدر مات فيلزمه إطعامه مجانا ويفرق بين هذا وما لو أوجر المضطر قهرا أو وهو نحو مغمى عليه أو مجنون فإن له البدل بأن مانع التقدير هنا قام بالمضطر لكونه عن التزام العوض أو غيبة عقله حتى أوجره فناسب إلزامه بالبدل وأما في تلك فالمانع لم ينشأ عنه بل عن أمر خارج فلم يلزم بشيء "ولو أطعمه ولم يذكر عوضا فالأصح لا عوض" له لتقصيره فإن صرح بالإباحة فلا عوض قطعا قال البلقيني وكذا لو ظهرت قرينتها ولو اختلفا في ذكر العوض صدق المالك بيمينه ومر قبيل الوليمة وأول القرض ماله تعلق بذلك، "ولو وجد مضطر ميتة" غير آدمي محترم "وطعام غيره" الغائب فالمذهب أنه يلزمه أكلها لأنها مباحة له بالنص الأقوى من الاجتهاد المبيح له مال الغير بلا إذنه أما الحاضر فإن بذله ولو بثمن مثله أو بزيادة يتغابن بها وهو معه ولو ببذل سائر عورته إن لم يخف هلاكا بنحو برد أو رضي بذمته لم تحل الميتة أو لا يتغابن بها حلت ولا يقاتله هنا لو امتنع مطلقا "أو" وجد مضطر "محرم" أو بالحرم "ميتة وصيدا" حيا وألحق به لبنه وبيضه وفيه نظر، لأن هذين ليس فيهما إلا تحريم واحد كالميتة إلا أن يفرق بأن فيهما جزاء بخلافها "فالمذهب" أنه يلزمه "أكلها"، لأن في الصيد تحريم ذبحه المقتضي لكونه ميتة ولوجوب الجزاء وتحريم أكله وفيها تحريم واحد فكانت أخف نعم لو وجد المحرم حلالا يذبح الصيد حرمت على الأوجه وإن ذبحه له، لأن هذا يحرمه عليه وحده فهو أخف منها لحرمتها على العموم أو ميتة ولحم صيد ذبحه محرم يخير بينهما أو صيدا حيا وميتة وطعام الغير فأوجه سبعة أصحها تعينها أيضا ولو لم يجد محرم أو من بالحرم إلا صيدا ذبحه وأكله وافتدى أو ميتة أكلها ولا فدية أو صيدا وطعام الغير أكل الصيد، لأن حق الله تعالى مبني على المسامحة ما لم يحضر مالك الطعام ويبذله ولو بثمن مثله كما هو ظاهر.
فرع: عم الحرام الأرض جاز أن يستعمل منه ما تمس حاجته إليه دون ما زاد هذا إن توقع معرفة أربابه وإلا صار مال بيت المال فيأخذ منه لقدر ما يستحقه فيه.
"والأصح تحريم قطع بعضه" أي بعض نفسه "لأكله" بلفظ المصدر لتوقع الهلاك منه "قلت الأصح جوازه" لما يسد به رمقه أو لما يشبعه بشرطه لأنه قطع بعض لاستبقاء كل فهو كقطع يد متآكلة "وشرطه" أي حل قطع البعض "فقد الميتة ونحوها" كطعام الغير فمتى

 

ج / 4 ص -281-        وجد ما يأكله حرم ذاك قطعا "وأن" لا يكون في قطعه خوف أصلا أو "يكون الخوف في قطعه أقل" منه في تركه فإن كان مثله أو أكثر أو الخوف في القطع فقط حرم قطعا وإنما جاز قطع السلعة عند تساوي الخطرين لأنها لحم زائد وبقطعها يزول شينها ويحصل الشفاء وهذا تغيير وإفساد للبنية الأصلية فضويق فيه ومن ثم لو كان ما يراد قطعه نحو سلعة أو يد متآكلة جاز هنا حيث يجوز قطعها في حالة الاختيار بالأولى قاله البلقيني "ويحرم قطعه" أي البعض من نفسه "لغيره" ولو مضطرا لفقد استبقاء الكل هنا نعم يجب قطعه لنبي "و" يحرم على مضطر قطع البعض "من معصوم" لأجل نفسه "والله أعلم" لما ذكر والمعصوم هنا من لا يجوز قتله للأكل أما غير المعصوم كحربي ومرتد ومحارب وزان محصن وتارك صلاة فيجوز قطع البعض منه لأكله واعترض بتصريح الماوردي بحرمته لما فيه من تعذيبه ويرد بأنه أخف الضررين ومتى قدر على قتله حرم عليه أكله حيا.