تحفة المحتاج بشرح المنهاج ط العلمية

ج / 4 ص -289-        كتاب الأيمان
بالفتح جمع يمين؛ لأنهم كانوا يضعون أيمانهم بعضها ببعض عند الحلف، وأصل اليمين القوة فلتقوية الحلف الحث على الوجود أو العدم سمي يمينا، ويرادفه الإيلاء والقسم. وهي شرعا بالنظر لوجوب تكفيرها تحقيق أمر محتمل بما يأتي وتسمية الحلف بنحو الطلاق يمينا شرعية التي اقتضاها كلام الرافعي غير بعيد، وإن نوزع فيه ويؤيد تصريحهم بمرادفة الإيلاء لليمين مع تصريحهم بأن الإيلاء لا يختص بالحلف بالله، نعم مر قولهم الطلاق لا يحلف به أي: لا يطلب، وإن كان فيه التحقيق المذكور؛ فلذا سمي يمينا بهذا الاعتبار، وحينئذ فذكر النظر لوجود التكفير إنما هو لبيان اليمين الحقيقية لا لمنع إلحاق ما لا تكفير فيه بها في التحقيق المذكور فخرج بالتحقيق لغو اليمين الآتي، وبالمحتمل نحو: لأموتن أو لأصعدن السماء لعدم تصور الحنث فيه بذاته فلا إخلال فيه بتعظيم اسمه تعالى، بخلاف لأمت ولأصعدن السماء ولأقتلن الميت فإنه يمين يجب تكفيرها حالا ما لم يقيد بوقت كغد، فيكفر غدا وذلك لهتكه حرمة الاسم، ولا تزد هذه على التعريف لفهمها منه بالأولى إذ المحتمل له فيه شائبة عذر باحتمال الوقوع وعدمه، بخلاف هذا فإنه عند الحلف هاتك لحرمة الاسم لعلمه باستحالة البر فيه وأبدل محتمل بغير ثابت ليدخل فيه الممكن والممتنع وأجمعوا على انعقادها ووجوب الكفارة بالحنث فيها، وشرط الحالف يعلم مما مر في الطلاق وغيره، بل ومما يأتي من التفصيل بين القصد وعدمه، وهو مكلف أو سكران مختار قاصد فخرج صبي ومجنون ومكره ولاغ.
"لا تنعقد" اليمين "إلا بذات الله تعالى" أي: اسم دال عليها، وإن دل على صفة معها وهي في اصطلاح المتكلمين الحقيقة والإنكار عليهم بأنها لا تعرف إلا بمعنى صاحبة مردود بتصريح الزجاج وغيره بالأول بل صرح بذلك خبيب رضي الله عنه عند قتله بقوله وذلك في ذات الإله "أو صفة له" وستأتي فالأول بقسميه "كقوله: والله ورب العالمين" أي: مالك المخلوقات؛ لأن كل مخلوق علامة على وجود خالقه، "والحي الذي لا يموت ومن نفسي بيده" أي: قدرته يصرفها كيف شاء ومن فلق الحبة "وكل اسم مختص به" الله "سبحانه وتعالى" غير ما ذكر ولو مشتقا ومن غير أسمائه الحسنى كالإله ومالك يوم الدين والذي أعبده أو أسجد له ومقلب القلوب فلا تنعقد بمخلوق: كنبي وملك للنهي الصحيح عن الحلف بالآباء، وللأمر بالحلف بالله. وروى الحاكم خبر: "من حلف بغير الله فقد كفر"، وفي رواية: "فقد أشرك" وحملوه على ما إذا قصد تعظيمه كتعظيم الله تعالى، فإن لم يقصد ذلك أثم عند أكثر أصحابنا أي: تبعا لنص الشافعي الصريح فيه، كذا قاله شارح. والذي في شرح مسلم عن أكثر الأصحاب الكراهة وهو المعتمد وإن كان الدليل ظاهرا في الإثم، قال بعضهم: وهو الذي ينبغي العمل به في غالب الأعصار لقصد غالبهم به إعظام المخلوق

 

ج / 4 ص -290-        ومضاهاته لله تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. وقال ابن الصلاح: يكره بماله حرمة شرعا كالنبي ويحرم بما لا حرمة له كالطلاق، وذكر الماوردي أن للمحتسب التحليف بالطلاق دون القاضي، بل يعزله الإمام إن فعله، وفي خبر ضعيف: "ما حلف بالطلاق مؤمن ولا استحلف به إلا منافق"، وإدخاله الباء على المقصور بناء على ما تقرر في محله الذي سلكه شارح لا ينافيه إدخاله لها في الروضة على المقصور عليه في قوله: يختص بالله لما مر أنها تدخل على المقصور والمقصور عليه وبه يندفع تصويب من حصر دخولها على المقصور فقط للمتن؛ لأن معناه لا يسمى به غير الله وهو المراد، وإفساد ما في الروضة بأن معناه يسمى الله به ولا يسمى بغيره وليس مرادا ومر أول القسم والنشوز ما يوضح ما ذكرته. وأورد على المتن اليمين الغموس وهي أن يحلف على ماض كاذبا عامدا فإنها يمين بالله ولا تنعقد؛ لأن الحنث اقترن بها ظاهرا وكذا باطنا على الأصح، ويرد بأنه اشتباه نشأ من توهم أن المحصور الأخير والمحصور فيه الأول وليس كذلك، بل المقرر أن المحصور فيه هو الجزء الأخير فانعقادها هو المحصور واسم الذات أو الصفة هو المحصور فيه، فمعناه كل يمين منعقدة لا تكون إلا باسم ذات أو صفة. وهذا حصر صحيح لا أن كل ما هو باسم الله أو صفته يكون منعقدا فتأمله، على أن جمعا متقدمين قالوا بانعقادها "ولا يقبل" ظاهرا ولا باطنا "قوله: لم أرد به اليمين" يعني لم أرد بما سبق من الأسماء والصفات الله تعالى؛ لأنها نص في معناها لا تحتمل غيره. أما لو قال في نحو بالله أو والله: لأفعلن أردت بها غير اليمين كبالله أو والله المستعان أو وثقت أو استعنت بالله، ثم ابتدأت بقولي: لأفعلن فإنه يقبل ظاهرا كما في الروضة وأصلها، لكن بالنسبة لحق الله تعالى دون طلاق وإيلاء وعتق فلا يقبل ظاهر التعلق حق الغير به "وما انصرف إليه سبحانه عند الإطلاق" غالبا وإلى غيره بالتقييد "كالرحيم والخالق والرازق" والمصور والجبار والمتكبر والحق والقاهر والقادر "والرب تنعقد به اليمين"؛ لانصراف الإطلاق إليه تعالى، وأل فيها للكمال. "إلا أن يريد" بها "غيره" تعالى بأن أراده تعالى أو أطلق بخلاف ما لو أراد بها غيره؛ لأنه قد يستعمل في ذلك كرحيم القلب وخالق الكذب. واستشكل الرب بأل بأنه يستعمل في غير الله تعالى فينبغي إلحاقه بالأول ويرد بأن أصل معناه يستعمل في غيره تعالى فصح قصده به، وأل قرينة ضعيفة لا قوة لها على إلغاء ذلك القصد، "وما استعمل فيه وفي غيره" تعالى "سواء كالشيء والموجود والعالم" بكسر اللام "والحي" والسميع والبصير والعليم والحليم والغني "ليس بيمين إلا بنية"، بأن أراده تعالى بها بخلاف ما إذا أراد بها غيره أو أطلق؛ لأنها لما أطلقت عليهما سواء أشبهت الكنايات، والاشتراك إنما يمنع الحرمة والتعظيم عند عدم النية، ثم رأيت ابن أبي عصرون أجاب به ويقع من العوام الحلف بالجناب الرفيع ويريدون به الله تعالى مع استحالته عليه إذ جناب الإنسان فناء داره فلا ينعقد وإن نوى به ذلك كما قاله أبو زرعة؛ لأن النية لا تؤثر مع الاستحالة، ولو سلمنا أن الرفيع من أسمائه تعالى بناء على أخذها من نحو رفيع الدرجات ومر ما فيه في الردة "و" الثاني ويختص من الصفات بما لا شركة فيه وهو "الصفة" الذاتية وهي "كوعظمة الله وعزته وكبريائه وكلامه وعلمه وقدرته ومشيئته"

 

ج / 4 ص -291-        وإرادته، والفرض أنه أتى بالظاهر بدل الضمير في الكل "يمين"، وإن أطلق؛ لأنه تعالى لما لم يزل موصوفا بها أشبهت أسماءه المختصة به، وأخذ من كون العظمة صفة منع قول الناس سبحان من تواضع كل شيء لعظمته؛ لأن التواضع للصفة عبادة لها، ولا يعبد إلا الذات ورد بأن العظمة هي المجموع من الذات والصفات، فإن أريد بذلك هذا فصحيح أو مجرد الصفة فممتنع، ولم يبينوا حكم الإطلاق ويظهر أنه لا منع فيه، وعلم مما فسر به الصفة أن المراد بالاسم جميع الأسماء الحسنى التسعة والتسعين وما في معناها مما مر، سواء اشتق من صفة ذاته كالسميع أو فعله كالخالق، "إلا أن ينوي بالعلم المعلوم وبالقدرة المقدور" وبالعظمة وما بعدها ظهور آثارها كأن يريد بالكلام الحروف الدالة عليه، وإطلاق كلام الله تعالى عليها حقيقة شائعة في الكتاب والسنة فلا يكون يمينا؛ لأن اللفظ محتمل لذلك وتنعقد بكتاب الله وبنحو التوراة ما لم يرد الألفاظ كما هو ظاهر، ثم رأيت الزركشي قال: لو حلف المسلم بآية منسوخة من القرآن أو بنحو التوراة تنعقد يمينه؛ لأنه كلام الله ومن صفات الذات قاله القاضي، وينبغي أن تكون المنسوخة على الخلاف في أنه هل يحرم على المحدث مسه ؟ وهل تبطل الصلاة بقراءته ؟ والصحيح لا يحرم وتبطل، وبه يقوى عدم الانعقاد ا هـ. ويرد تخريجه بأن المدار هنا على المعنى وهو كلام الله النفسي بلا شك وثم على الألفاظ، ولا حرمة لها بعد نسخها فالوجه ما ذكرته من الانعقاد ما لم يرد اللفظ وبالقرآن ما لم يرد به نحو الخطبة وبالمصحف ما لم يرد به ورقه وجلده، وإن نازع فيه الإسنوي؛ لأنه عند الإطلاق لا ينصرف عرفا إلا لما فيه من القرآن، ومنه يؤخذ أنه لا فرق بين أن يقول: والمصحف أو وحق المصحف "ولو قال وحق الله" أو وحرمته لأفعلن أو ما فعلت كذا "فيمين"، وإن أطلق لغلبة استعماله فيها؛ ولأن معناه وحقيقة الإلهية، نعم قال جمع: لا بد مع الإطلاق من جر حق وإلا كان كناية ويفرق بينه وبين ما يأتي أنه لا فرق بين الجر وغيره بأن تلك صرائح فلم يؤثر فيها الصرف بخلاف هذا كما قال: "إلا أن يريد" بالحق "العبادات" فلا يكون يمينا قطعا؛ لأنه يطلق عليها، وقضية كلامهم الآتي في الدعاوى أن الطالب أي الغالب المدرك المهلك صرائح في اليمين، واعترض بأن أسماء الله تعالى توقيفية على الأصح، ولم يرد شيء منها فلا يجوز إطلاقها عليه كما قاله الخطابي وغيره، وإن اعتذر عنهم بأنهم إنما استحسنوها لما فيها من الجلالة والردع للحالف عن اليمين الغموس ويجاب بأنهم جروا في ذلك على مقابل الأصح للمصلحة المذكورة.
"وحروف القسم" المشهورة: "باء" موحدة "وواو وتاء" فوقية "كبالله ووالله وتالله" فهي صريحة فيه جر أو نصب أو رفع أو سكن؛ لأن اللحن لا يمنع الانعقاد، وزيد رابع وهو الله أي بناء على أن الألف هي الجارة. أما على الأصح أن الجار المحذوف، وتلك عوض عنه فلا زيادة وبدأ بالباء؛ لأنها الأصل في القسم لغة والأعم لدخولها على المظهر والمضمر ثم بالواو لقربها منها مخرجا بل قيل إنها مبدلة منها؛ ولأنها أعم من التاء؛ لأنها وإن اختصت بالمظهر تعم الجلالة وغيرها؛ ولأنه قيل إن التاء بدل منها "وتختص التاء" الفوقية "بالله" أي بلفظ الجلالة وشذ ترب الكعبة وتالرحمن، ويظهر أنها لا تنعقد بهما إلا بنية فمن أطلق

 

ج / 4 ص -292-        الانعقاد بهما وجعله واردا على كلامهم فقد أبعد، ويكفي في احتياجه للنية شذوذه، ومثلهما بالله بالتحتية وفالله بالفاء وآلله بالاستفهام قيل: صوابه ويختص الله بالتاء؛ لأن الباء مع فعل الاختصاص إنما تدخل على المقصور فيقتضي أن الجلالة لا تدخل عليها الواو والباء وهو مناقض لما قدمه ا هـ. وليس في محله لما مر أنها تدخل على المقصور عليه أيضا بل هو الأصل السالم من المجاز أو التضمين كما مر "ولو قال: الله مثلا لأفعلن كذا" ويجوز مد الألف وعدمه إذ حكمهما واحد، "ورفع أو نصب أو جر" أو سكن، أو قال: أشهد بالله أو لعمر الله أو علي عهد الله وميثاقه وذمته وأمانته وكفالته لأفعلن كذا "فليس بيمين إلا بنية" للقسم؛ لاحتماله لغيره احتمالا ظاهرا ولا ينافيه في الأولى صحة ذلك نحوا إذ الجر بحذف الجار وإبقاء عمله والنصب بنزع الخافض والرفع بحذف الخبر أي: الله أحلف به والسكون بإجراء الوصل مجرى الوقف على أن هذه كلها لا تخلو من شذوذ، بل قيل: الرفع لحن لكنه غير صحيح كما تقرر، وقيل: يفرق بين نحوي وغيره ويرد بأنه حيث لم ينو اليمين ساوى غيره في احتمال لفظه، وبله بتشديد اللام وحذف الألف لغو، وإن نوى بها اليمين؛ لأن هذه كلمة غير الجلالة إذ هي الرطوبة ذكره في الروضة وهو متجه، وإن اعترض معنى ونقلا؛ لأنا وإن سلمنا أنها لغة هي غريبة جدا في الاستعمال العرفي؛ فلا يعول عليها وزعم أنها شائعة المراد منه شيوعها في ألسنة العوام، كما صرح به غير واحد ولا عبرة بالشيوع في ألسنتهم "ولو قال: أقسمت أو أقسم أو حلفت أو أحلف" أو آليت أو أولي "بالله لأفعلن" كذا "فيمين إن نواها" لاطراد العرف باستعمالها يمينا وأيده بنيتها، "أو أطلق" للعرف المذكور وبه فارق شهدت أو أشهد بالله فإنه محتاج لنية اليمين به؛ لأنه لم يشتهر في اليمين، نعم هو في اللعان صريح كما مر، أما مع حذف بالله فلغو، وإن نوى اليمين. "ولو قال: قصدت" بما ذكرت "خبرا ماضيا" في نحو أقسمت "أو مستقبلا" في نحو أقسم "صدق باطنا"؛ فلا تلزمه كفارة، "وكذا ظاهرا" ولو في نحو: أقسمت بالله لا وطئتك "على المذهب" لاحتمال ما يدعيه، بل ظهوره ولو عرفت له يمين سابقة قبل في نحو أقسمت جزما "ولو قال لغيره: أقسمت عليك بالله أو أسألك بالله لتفعلن" كذا "وأراد يمين نفسه فيمين" لصلاحية اللفظ لها مع اشتهاره على ألسنة حملة الشرع، وكأنه في الأخيرة ابتدأ الحلف بقوله بالله ويندب للمخاطب إبراره في غير معصية، ويظهر إلحاق المكروه بها، ثم رأيته مصرحا به فإن أبى كفر الحالف وقال أحمد: بل المخاطب "وإلا" يقصد يمين نفسه، بل الشفاعة أو يمين المخاطب أو أطلق "فلا" تنعقد اليمين؛ لأنه لم يحلف هو ولا المخاطب وظاهر صنيعه حيث سوى بين حلفت وغيرها فيما مر لا هنا أن حلفت عليك ليست كأقسمت وآليت عليك، ويوجه بأن هذين قد يستعملان لطلب الشفاعة بخلاف حلفت ويكره رد السائل بالله أو بوجهه في غير المكروه والسؤال بذلك كما مر، "ولو قال: إن فعلت كذا فأنا يهودي" أو نصراني "أو بريء من الإسلام"، أو من الله أو من النبي أو مستحل الخمر "فليس بيمين"؛ لانتفاء الاسم والصفة ولا كفارة، وإن حنث، نعم يحرم ذلك كما في الأذكار كغيره ولا يكفر به إن قصد تبعيد نفسه عن المحلوف عليه أو أطلق، فإن علق أو أراد

 

ج / 4 ص -293-        الرضا بذلك إذا فعل كفر حالا، ولو مات مثلا ولم يعرف قصده حكم بكفره حيث لا قرينة تحمله على غيره على ما اعتمده الإسنوي؛ لأن اللفظ بوضعه يقتضيه، وقضية كلام الأذكار خلافه وهو الصواب، وإذا لم يكفر سن له أن يستغفر الله ويقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله وأوجب صاحب الاستقصاء ذلك لخبر الصحيحين: "من حلف باللاتي والعزى فليقل لا إله إلا الله" وحذفهم أشهد هنا لا يدل على عدم وجوبه في الإسلام الحقيقي؛ لأنه يغتفر فيما هو للاحتياط ما لا يغتفر في غيره، على أنه لو قيل: الأولى أن يأتي هنا بلفظ أشهد فيهما لم يبعد؛ لأنه إسلام إجماعا بخلافه مع حذفه "ومن سبق لسانه إلى لفظها" أي اليمين "بلا قصد" كبلى والله ولا والله في نحو غضب أو صلة كلام "لم تنعقد" لقوله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [البقرة: 225] الآية، وعقدتم فيها قصدتم لآية {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: 225] وصح أنه صلى الله عليه وسلم فسر لغوها بقول الرجل: لا والله وبلى والله، وفسره ابن الصلاح بأن المراد بهما البدل لا الجمع حتى لا ينافي قول الماوردي لو جمع انعقدت الثانية؛ لأنها استدراك فكانت مقصودة، وهو ظاهر إن علم أنه قصدها وكذا إن شك؛ لأن الظاهر أنه قصدها، أما إذا علم أنه لم يقصدها فواضح أنه لغو ولو قصد الحلف على شيء فسبق لسانه لغيره فهو من لغوها. وجعل منه صاحب الكافي ما إذا دخل على صاحبه فأراد أن يقوم له فقال: والله لا تقم لي، وأقره إنه مما تعم به البلوى ا هـ. وليس بالواضح؛ لأنه إن قصد اليمين فواضح أو لم يقصدها فعلى ما مر في قوله: لم أرد به اليمين ولا تقبل ظاهرا دعوى اللغو في طلاق أو عتق أو إيلاء كما مر، "وتصح" اليمين "على ماض" كما فعلت كذا أو فعلته إجماعا "و" على "مستقبل" كلأفعلن كذا أو لا أفعله؛ للخبر الصحيح: "والله لأغزون قريشا" "وهي" أي اليمين "مكروهة" لقوله تعالى: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ} [البقرة: 224] أي: لا تكثروا من الحلف به، وروى ابن ماجه: "إنما الحلف حنث أو ندم"، وهذا هو الأصل فيها كما أفاده قوله. "إلا في طاعة" من فعل واجب أو مندوب وترك حرام أو مكروه فطاعة اتباعا للخبر السابق: "والله لأغزون قريشا"، وإلا لحاجة كتوكيد كلام كقوله صلى الله عليه وسلم: "فوالله لا يمل الله حتى تملوا" أو تعظيم أمر كقوله "والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا"، وإلا في دعوى عند حاكم فلا يكره، بل قال بعضهم: يسن، وإنما يتجه الندب في الأولين إن كانا دينين كما في الحديثين، وفي الأخير إن قصد صون المستحلف له عن الحرام لورد عليه ومع ذلك فتعففه عن اليمين وتحليله أكمل كما هو ظاهر "فإن حلف على ترك واجب أو فعل حرام عصى" بالحلف، نعم لا يعصي من حلف على ترك واجب على الكفاية لم يتعين عليه أو يمكن سقوطه كالقود يسقط بالعفو كما بحثهما البلقيني واستدل لثانيهما بقول أنس بن النضر: والله لا تنكسر ثنية الربيع، "ولزمه الحنث"؛ لأن الإقامة على هذه الحالة معصية "وكفارة"، ومثله لو حلف بالطلاق ليصومن العيد فيلزمه الحنث ويقع عليه الطلاق، لكن مع غروبه لاحتمال موته قبله، ولو كان له طريق غير الحنث كلا ينفق على زوجته لم يلزمه إذ يمكنه إعطاؤها من صداقها أو قرضها ثم إبراؤها "أو" على "ترك مندوب" كنافلة "أو فعل مكروه" كاستعمال متشمس

 

ج / 4 ص -294-        "سن حنثه وعليه كفارة"؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال: "من حلف على يمين ورأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه" رواه الشيخان، وإنما أقر صلى الله عليه وسلم الأعرابي على قوله: "والله لا أزيد على هذا ولا أنقص"؛ لأن يمينه تضمنت طاعة وهو امتثال الأمر "أو" على فعل مندوب أو ترك مكروه كره حنثه، أو على "ترك مباح أو فعله" كدخول دار وأكل طعام كلا تأكله أنت وكلا آكله أنا، وقول البغوي يسن الأكل في الثانية ضعيف، وذكر لا تأكله أنت هو ما وقع لشارح، وهو غفلة عما مر أنه يندب إبرار الحالف بشرطه، "فالأفضل ترك الحنث" إبقاء لتعظيم الاسم، نعم إن كان من شأنه تعلق غرض ديني بفعله أو تركه كلا يأكل طيبا أو لا يلبس ناعما فإن قصد التأسي بالسلف أو الفراغ للعبادة فهي طاعة فيكره الحنث فيها، وإلا فهي مكروهة فيندب فيها الحنث، "وقيل": الأفضل "الحنث" لينتفع المساكين بالكفارة. وبحث الأذرعي أنه لو كان في عدم الحنث أذى للغير كأن حلف لا يدخل أو لا يأكل أو لا يلبس كذا، ونحو صديقه يكرهه، كان الأفضل الحنث قطعا.
تنبيه: قال الإمام لا يجب اليمين مطلقا، واعترضه الشيخ عز الدين بوجوبها فيما لا يباح بالإباحة كالنفس والبضع إذا تعينت للدفع عنه، قال: بل الذي أراه وجوبها لدفع يمين خصمه الغموس على مال، وإن أبيح بالإباحة ا هـ. والأوجه في الأخير عدم الوجوب.
"وله" أي: الحالف بعد اليمين "تقديم كفارة بغير صوم على حنث جائز" أي: غير حرام. ليشمل الأقسام الخمسة الباقية للخبر الصحيح:
"فكفر عن يمينك ثم ائت الذي هو خير"؛ لأن سبب وجوبها اليمين والحنث جميعا، والتقديم على أحد السببين جائز كما مر آخر الزكاة، نعم الأولى تأخيرها عنهما خروجا من الخلاف، ومر أن من حلف على ممتنع البر يكفر حالا بخلافه على ممكنه، فإن وقت الكفارة فيه يدخل بالحنث، أما الصوم فيمتنع تقديمه على الحنث؛ لأنه عبادة بدنية "قيل و" على حنث "حرام قلت هذا أصح والله أعلم"، فلو حلف لا يزني فكفر ثم زنى لم تلزمه كفارة أخرى؛ لأن الحظر في الفعل ليس من حيث اليمين لحرمة المحلوف عليه قبلها وبعدها، فالتكفير لا يتعلق به استباحة وشرط إجزاء العتق المعجل كفارة بقاء العبد حيا مسلما إلى الحنث بخلاف نظيره في تعجيل الزكاة، لا يشترط بقاء المعجل إلى الحول، قيل: فيحتاج للفرق ا هـ. وقد يفرق بأن المستحقين ثم شركاء للمالك وقد قبضوا حقهم، وبه يزول تعلقهم بالمال ناجزا، وإن تلف قبل الحول؛ لأنهم عنده لم يبق لهم تعلق، وأما هنا فالواجب في الذمة وهي لا تبرأ عنه إلا بنحو قبض صحيح، فإذا مات العتيق أو ارتد بان بالحنث الموجب للكفارة بقاء الحق في الذمة، وأنها لم تبرأ عنه بما سبق؛ لأن الحق لم يتصل بمستحقه وقت وجوب الكفارة، ولو قدمها ولم يحنث استرجع كالزكاة أي: إن شرط أو علم القابض التعجيل وإلا فلا قال البغوي: ولو أعتق ثم مات أي: مثلا قبل حنثه وقع العتق تطوعا؛ لتعذر الاسترجاع فيه أي: لأنه لما لم يقع هنا حنث بان أن العتق تطوع من غير سبب "و" يجوز تقديم "كفارة ظهار على العود إذا كفر بغير صوم كأن" ظاهر من رجعية ثم كفر ثم راجعها، وكأن طلق رجعيا عقب ظهاره ثم كفر ثم راجع، أما عتقه عقب ظهاره فهو تكفير مع العود؛ لأن اشتغاله بالعتق عود؛ وذلك لوجود أحد السببين ومن ثم

 

ج / 4 ص -295-        امتنع تقديمها على الظهار "و" يجوز تقديم كفارة "قتل على الموت" وبعد وجود سببه من جرح أو نحوه، "و" يجوز تقديم "منذور مالي" على ثاني سببيه كما إذا نذر تصدقا أو عتقا إن شفي مريضه أو عقب شفائه بيوم فأعتق أو تصدق قبل الشفاء ووقع لهما في الزكاة خلاف هذا، واعتمد البلقيني وغيره هذا؛ لأن القاعدة في ذي السببين يجوز تقديمه على أحدهما لا عليهما صريحة فيه.

فصل في بيان كفارة اليمين
"يتخير" الرشيد الحر ولو كافرا "في كفارة اليمين بين عتق كالظهار" أي: كعتق يجزأ فيه بأن تكون رقبة كاملة مؤمنة بلا عيب يخل بالعمل أو الكسب ولو نحو غائب علمت حياته أو بانت كما مر، وهو أفضلها ولو في زمن الغلاء خلافا لما بحثه ابن عبد السلام أن الإطعام فيه أفضل "وإطعام عشرة مساكين، كل مسكين مد حب" أو غيره مما يجزئ في الفطرة "من غالب قوت البلد" في غالب السنة أي: بلد المكفر، فلو أذن لأجنبي أن يكفر عنه اعتبر بلده لا بلد الآذن فيما يظهر، فإن قلت: قياس ما مر في الفطرة اعتبار بلد المكفر عنه قلت يفرق بأن تلك طهرة للبدن، فاعتبر بلده بخلاف هذه، نعم في كثير من النسخ بلده، وقضيتها اعتبار بلد الحالف وإن كان المكفر غيره في غير بلده، وهو محتمل لما ذكر من مسألة الفطرة، ولا ينافي ما تقرر جواز نقل الكفارة؛ لأنه لملحظ آخر. وأفهم كلامه أنه لا يجوز صرف أقل من مد لكل واحد ولا لدون عشرة ولو في عشرة أيام "أو كسوتهم بما يسمى كسوة"، ويعتاد لبسه بأن يعطيهم ذينك على جهة التمليك، وإن فاوت بينهم في الكسوة "كقميص" ولو بلا كم "أو عمامة"، وإن قلت أخذا من إجزاء منديل اليد "أو إزار" أو مقنعة أو رداء أو منديل يحمل في اليد أو الكم لقوله تعالى: {
فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة: 89] الآية. "لا" ما لا يسمى كسوة ولا ما لا يعتاد كالجلود فإن اعتيدت أجزأت فمن الأول نحو "خف وقفازين" ودرع من نحو حديد ومداس ونعل وجورب وقلنسوة وقبع وطاقية "ومنطقة" وتكة وفصادية وخاتم وتبان لا يصل للركبة وبساط وهميان وثوب طويل أعطاه للعشرة قبل تقطيعه بينهم؛ لأنه ثوب واحد وبه فارق ما لو وضع لهم عشرة أمداد وقال: ملكتكم هذا بالسوية أو أطلق؛ لأنها أمداد مجتمعة، ووقع لشيخنا في شرح المنهج أجزاء العرقية وهو مشكل بنحو القلنسوة، وأجيب بأنها في عرف أهل مصر تطلق على ثوب يجعل تحت البرذعة ويرشد إليه قرنه إياها بالمنديل، وأفهم التخيير امتناع التبعيض، كأن يطعم خمسة ويكسو خمسة. "ولا يشترط" كونه مخيطا ولا ساترا للعورة، ولا "صلاحيته للمدفوع إليه فيجوز سراويل" ونحو قميص "صغير" أي دفعه "لكبير لا يصلح له"، وإن نازع فيه جمع "وقطن وكتان وحرير" وصوف ونحوها "لامرأة ورجل"؛ لوقوع اسم الكسوة على الكل ولو متنجسا لكن عليه أن يعرفهم به لئلا يصلوا فيه، وقضيته أن كل من أعطى غيره ملكا أو عارية مثلا ثوبا به نجس خفي غير معفو عنه بالنسبة لاعتقاد الآخذ عليه إعلامه به حذرا من أن يوقعه في صلاة فاسدة، ويؤيده قولهم: من رأى مصليا به نجس غير معفو عنه أي عنده
 

 

ج / 4 ص -296-        لزمه إعلامه به وفارق التبان السراويل الصغير بأن التبان لا يصلح ولا يعد لستر عورة صغير فضلا عن غيره، فإن فرض أنه يعد لستر عورة صغير فهو السروال الصغير. "ولبيس" أي: ملبوس كثيرا إن "لم تذهب" عرفا "قوته" باللبس كالحب العتيق بخلاف ما ذهبت قوته كالمهلهل النسيج الذي لا يقوى على الاستعمال ولو جديدا ومرقع لا بلي ومنسوج من جلد ميتة أي: وإن اعتيد كما هو ظاهر. "فإن عجز" بالطريق السابق في كفارة الظهار "عن" كل من "الثلاثة" المذكورة "لزمه صوم ثلاثة أيام" للآية إذ هي مخيرة ابتداء مرتبة انتهاء، "ولا يجب تتابعها في الأظهر" لإطلاق الآية، وصح عن عائشة رضي الله عنها كان فيما أنزل ثلاثة أيام متتابعات فسقطت متتابعات، وهو ظاهر في النسخ خلافا لمن جعله ظاهرا في وجوب التتابع الذي اختاره كثيرون، وأطالوا في الاستدلال له بما أطال الأولون في رده "وإن غاب ماله انتظره" ولا يصم؛ لأنه واجد، وفارق متمتعا له مال ببلده بأن القدرة فيه اعتبرت بمكة؛ لأنها محل نسكه الموجب للدم فلم ينظروا لغيرها وهنا اعتبرت مطلقا فلم يفرقوا هذا بين غيبة ماله لمسافة القصر وأقل، وبحث البلقيني تقييده بدونها بخلاف من عليها؛ لأنه عد معسرا في الزكاة. وفسخ الزوجة والبائع مردود بأنه إنما عد كذلك ثم للضرورة ولا ضرورة، بل ولا حاجة هنا إلى التعجيل؛ لأنها واجبة على التراخي أي: أصالة، وحيث لم يأثم بالحلف وإلا لزمه الحنث والكفارة فورا كما هو ظاهر "ولا يكفر" محجور عليه بسفه أو فلس بالمال بل بالصوم؛ لأنه ممنوع من التبرع ولو زال حجره قبل الصوم امتنع؛ لأن العبرة بوقت الأداء لا الوجوب ولا يكفر عن ميت بأزيد الخصال قيمة، بل يتعين أقلها أو إحداها إن استوت قيمها ولا "عبد بمال" لعدم ملكه "إلا إذا ملكه سيده" أو غيره "طعاما أو كسوة" ليكفر بهما أو مطلقا. "وقلنا" بالضعيف "إنه يملك"، ثم أذن له في التكفير فإنه يكفر، نعم لسيده بعد موته أن يكفر عنه على المعتمد بغير العتق من إطعام أو كسوة؛ لأنه حينئذ لا يستدعي دخوله في ملكه بخلافه في الحياة، ولزوال الرق بالموت ولسيد المكاتب أن يكفر عنه بذلك بإذنه، وللمكاتب بإذن سيده التكفير بذلك أيضا، وفارق العتق بأن القن ليس من أهل الولاء "بل يكفر" حتى في المرتبة كالظهار "بصوم" لعجزه عن غيره، "فإن ضره" الصوم في الخدمة "وكان حلف وحنث بإذن سيده صام بلا إذن". وليس له منعه لإذنه في سببه، فلا نظر لكونها على التراخي "أو وجدا" أي الحلف والحنث "بلا إذن لم يصم إلا بإذن"؛ لأنه لم يأذن في سببه والفرض أنه يضره فإن شرع فيه جاز له تحليله. أما إذا لم يضره ولا أضعفه، فلا يجوز له منعه منه مطلقا. "وإن أذن في أحدهما، فالأصح اعتبار الحلف"؛ لأن إذنه فيه إذن فيما يترتب عليه، والأصح في الروضة وغيرها اعتبار الحنث، بل قيل: الأول سبق قلم؛ لأن اليمين مانعة منه فليس إذنه فيها إذنا في التزام الكفارة، وبه فارق ما مر أن الإذن في الضمان دون الأداء يقتضي الرجوع بخلاف عكسه، وخرج بالعبد الأمة التي تحل له فلا يجوز لها بغير إذنه صوم مطلقا تقديما لاستمتاعه؛ لأنه ناجز، أما أمة لا تحل له فكالعبد فيما مر، وبحث الأذرعي أن الحنث الواجب كالحنث المأذون فيه فيما ذكر لوجوب التكفير فيه على الفور، والذي يتجه ما أطلقوه؛ لأن السيد لم يبطل حقه بإذنه وتعدي العبد لا يبطله، نعم لو قيل: إن إذنه في الحلف المحرم

 

ج / 4 ص -297-        كإذنه في الحنث لم يبعد؛ لأنه حينئذ التزام للكفارة لوجوب الحنث المستلزم لها فورا، "ومن بعضه حر وله مال يكفر بطعام أو كسوة" لا صوم؛ لأنه واجد "ولا عتق" لنقصه عن أهلية الولاء، نعم إن علق سيده عتقه بتكفيره بالعتق كإن أعتقت عن كفارتك فنصيبي منك حر قبله أو معه صح لزوال المانع به، أما إذا لم يكن له مال فيكفر بالصوم أي: في نوبته بغير إذن وفي نوبة سيده، أو حيث لا مهايأة بالإذن فيما يظهر.
فرع: تتكرر الكفارة بتكرر أيمان القسامة كتكرر اليمين الغموس؛ لأن كلا منها مقصود في نفسه بخلاف تكريرها في نحو: لا أدخل، وإن تفاصلت ما لم يتخللها تكفير وبتعدد الترك في نحو لأسلمن عليك كلما مررت، عملا بقضية كلما، ولأعطينك كذا كل يوم، وفي الجمع بين النفي والإثبات كوالله لآكلن ذا ولا أدخل الدار اليوم لا يحنث إلا بترك المثبت وفعل المنفي معا، ويأتي حكم لا فعلت ذا وذا مع نظائره.

فصل في الحلف على السكنى والمساكنة وغيرهما مما يأتي
والأصل في هذا وما بعده أن الألفاظ تحمل على حقائقها إلا أن يتعارف المجاز أو يريد دخوله فيدخل أيضا، فلا يحنث أمير حلف لا يبني داره وأطلق إلا بفعله، بخلاف ما لو أراد منع نفسه وغيره فيحنث بفعل غيره أيضا؛ لأنه بنيته ذلك صير اللفظ مستعملا في حقيقته ومجازه بناء على الأصح عندنا من جواز ذلك، أو في عموم المجاز كما هو رأي المحققين، وكذا من حلف لا يحلق رأسه وأطلق فلا يحنث بحلق غيره له بأمره على ما رجحه ابن المقري، وقيل: يحنث للعرف وصححه الرافعي، واعتمده الإسنوي وغيره وفي أصل الروضة هنا الأصل في البر، والحنث اتباع مقتضى اللفظ، وقد يتطرق إليه التقييد والتخصيص بنية تقترن به أو باصطلاح خاص أو قرينة ا هـ. وسيأتي مثل ذلك، وهذا عكس الأول؛ لأن فيه تغليظا بالنية.
تنبيه: ما تقرر أن ابن المقري رجح ذلك هو ما ذكره شيخنا حيث جعله من زيادته، لكنه مشكل فإن عبارة أصل الروضة تشمل عدم الحنث في هذا أيضا، وهي في الحلق قيل: يحنث للعرف، وقيل: فيه الخلاف كالبيع. وذكر قبل هذا فيما إذا كان الفعل المحلوف عليه لا يعتاد الحالف فعله، أو لا يجيء منه أنه لا حنث فيه بالأمر قطعا، وهذا صريح فيما ذكره ابن المقري فليس من زيادته، وقد يجاب عن شيخنا بأنه فهم من إفراد مسألة الحلق بالذكر وعدم ترجيح شيء فيها أنها مستثناة من قوله: أو لا يجيء منه. وهو محتمل، فإن قلت هل لاستثنائها وجه ؟ قلت يمكن توجيهه بأنه مع كونه يمكن مجيئه منه لا يتعاطى بالنفس؛ لأنها لا تتقن إحسانه المقصود، فكان المقصود ابتداء منع حلق الغير له، فإذا أمره به تناولته اليمين بمقتضى العرف. فحنث به فتأمله.
إذا "حلف لا يسكنها" أي: هذه الدار أو دارا "أو لا يقيم فيها" وهو فيها عند الحلف، "فليخرج" إن أراد السلامة من الحنث بنية التحول في كل من مسألة الإقامة والسكنى فيما يظهر من كلامهم، قال الأذرعي إن كان متوطنا فيه قبل حلفه فلو دخله لنحو تفرج فحلف

 

ج / 4 ص -298-        لا يسكنه لم يحتج لنية التحول قطعا "في الحال" ببدنه فقط؛ لأنه المحلوف عليه، ولا يكلف الهرولة ولا الخروج من أقرب البابين، نعم قال الماوردي: إن عدل لباب من السطح مع القدرة على غيره حنث؛ لأنه بالصعود في حكم المقيم أي: ولا نظر لتساوي المسافتين ولا لأقربية طريق السطح على ما أطلقه؛ لأنه بمشيه إلى الباب آخذ في سبب الخروج وبالعدول عنه إلى الصعود غير آخذ في ذلك عرفا، أما بغير نية التحول فيحنث على المنقول؛ لأنه مع ذلك ساكن أو مقيم عرفا "فإن مكث" ولو لحظة وهو مراد الروضة بساعة، وقول الغزي: كما لو وقف ليشرب مثلا يتعين تقييد مثاله بما إذا لم يكن شربه لعطش لا يحتمل مثله عادة، كما أفهمه قولهم: "بلا عذر حنث، وإن بعث متاعه" وأهله؛ لأنه مع ذلك يسمى ساكنا ومقيما. أما إذا مكث لعذر كأن أغلق عليه الباب أو طرأ عليه عقب الحلف نحو مرض منعه من الخروج ولم يجد من يخرجه. أو خاف على نحو ماله لو خرج فمكث ولو ليلة أو أكثر فلا حنث، ويظهر ضبط المرض هنا بما مر في العجز عن القيام في فرض الصلاة، نعم يفهم مما يأتي عن المصنف أنه متى أمكنه استئجار من يحمله بأجرة مثل وجدها فترك حنث، وقليل المال ككثيره كما اقتضاه إطلاقهم. ويتردد النظر في الخوف على الاختصاص، والقياس أنه عذر أيضا إن كان له وقع عرفا وكذا لو ضاق وقت فرض بحيث لو خرج قبل أن يصليه فاته أي: لم يدركه كاملا في الوقت كما هو ظاهر؛ لأن الإكراه الشرعي كالحسي كما مر، ولو خرج ثم عاد إليها لنحو زيارة أو عيادة لم يحنث ما دام يسمى عرفا زائرا أو عائدا وإلا حنث وعلى هذا التفصيل يحمل إطلاق الشيخين وغيرهما أنه لا حنث بالمكث للعذر، وقول البغوي ومن تبعه إن طال المكث حنث وخرج بقولنا وهو فيها عند الحلف ما لو حلف كذلك وهو خارجها فينبغي حنثه بدخولها مع إقامته لحظة أي: يحصل بها الاعتكاف فيما يظهر فيها بغير عذر، "وإن" نوى التحول لكنه "اشتغل بأسباب الخروج كجمع متاع وإخراج أهل ولبس ثوب" يليق بالخروج لا غير "لم يحنث"؛ لأنه لا يعد مع ذلك ساكنا وإن طال مقامه لأجله، ويراعى في لبثه لذلك ما اعتيد من غير إرهاق، وقيد المصنف ذلك بما إذا لم تمكنه الاستنابة وإلا حنث وبه صرح الماوردي والشاشي، ويظهر أنه لو وجد من لا يرضى بأجرة المثل أو يرضى بها ولا يقدر عليها بأن لم يكن معه ما يبقى له مما مر في باب التفليس لا يحنث لعذره "ولو حلف لا يساكنه في هذه الدار فخرج أحدهما" بنية التحول نظير ما مر "في الحال لم يحنث"؛ لانتفاء المساكنة؛ إذ المفاعلة لا تتحقق إلا من اثنين وفي المكث هنا لعذر واشتغال بأسباب الخروج ما مر. "وكذا لو بني بينهما جدار" من طين أو غيره، "ولكل جانب مدخل في الأصح"؛ للاشتغال برفع المساكنة، والأصح في الروضة وغيرها ونقلاه عن الجمهور الحنث؛ لحصول المساكنة إلى تمام البناء من غير ضرورة، وفارق المكث لنحو جمع المتاع بأنه ثم رفع المساكنة بنية التحول وأخذه في أسبابه بخلافه هنا، هذا إن كان البناء بفعل الحالف أو أمره وحده أو مع الآخر، وإلا حنث قطعا وإرخاء الستر بينهما وهما من أهل البادية مانع للمساكنة على ما قاله المتولي وخرج بهذه الدار ما لو أطلق المساكنة، فإن نوى معينا اختص به كأن نوى أنه لا يساكنه في بلد كذا على

 

ج / 4 ص -299-        أحد وجهين يظهر ترجيحه. وقول مقابله ليس هذا مساكنة فلا تؤثر فيه النية؛ لأنها لا تؤثر فيما لا يطابقه اللفظ يجاب عنه بأن هذا فيما لا يحتمله اللفظ بوجه وليس ما نحن فيه كذلك؛ لأن المساكنة قد تطلق على ذلك، وإن لم ينو معينا حنث بها في أي موضع كان، وليس منها تجاورهما ببيتين من خان، وإن صغر واتحد مرقاه، ولو لم يكن لكل باب ولا من دار كبيرة إن كان لكل باب وغلق، وكذا لو انفرد أحدهما بحجرة انفردت بجميع مرافقها، وإن اتحدت الدار والممر. "ولو حلف لا يدخلها" أي: الدار "وهو فيها أو لا يخرج" منها "وهو خارج" قال ابن الصباغ أو لا يملك هذه العين وهو مالكها فاستدام ملكها. "فلا حنث بهذا"؛ لأن حقيقة الدخول الانفصال من خارج لداخل، والخروج عكسه ولم يوجدا في الاستدامة؛ ولأنهما لا يتقدران بمدة، نعم لو نوى بعدم الدخول الاجتناب فأقام أو بعدم الخروج أن لا ينقل أهله مثلا فنقلهم حنث "أو" حلف "لا يتزوج" أو لا يتسرى كما بحثه أبو زرعة، ورد ما يتوهم من الفرق أن التزوج إيجاب وقبول، وهو منقض لا دوام له، والتسري فعل، وهو التحصين عن العيون والوطء والإنزال، وهذا مستمر بأن هذا إنما يأتي إن حمل التسري على مدلوله اللغوي لا العرفي إذ أهله لا يطلقون التسري إلا على ابتدائه دون دوامه ا هـ. وفيه نظر، والأولى على رأي الرافعي منع أن التزوج هو ما ذكر لا غير، بل يطلق لغة وعرفا على الصفة الحاصلة بعد الصيغة فساوى التسري "أو لا يتطهر أو لا يلبس أو لا يركب أو لا يقوم أو لا يقعد" أو لا يشارك فلانا أو لا يستقبل القبلة "فاستدام هذه الأحوال حنث"؛ لأنها تقدر بزمان كلبست يوما وركبت ليلة وشاركته شهرا وكذا البقية، وإذا حنث باستدامة شيء ثم حلف أن لا يفعله فاستدامه لزمه كفارة أخرى لانحلال اليمين الأولى بالاستدامة الأولى، وقضيته أنه لو قال: كلما لبست فأنت طالق تكرر الطلاق بتكرر الاستدامة، فتطلق ثلاثا بمضي ثلاث لحظات وهي لابسة وما قيل ذكر كلما قرينة صارفة للابتداء مردود بمنع ذلك ويتردد النظر في لابس مثلا حلف لا يلبس إلى وقت كذا، هل تحمل يمينه على أن لا يوجد لبسا قبل ذلك الوقت فيحنث باستدامة اللبس ولو لحظة أو على الاستدامة إلى ذلك الوقت فلا يحنث إلا إن استمر لابسا إليه كل محتمل، لكن قضية قولهم: الفعل المنفي بمنزلة النكرة المنفية في إفادة العموم ترجيح الأول فلذا جرى عليه بعضهم. وفي الأنوار: حلف لا يتختم وهو لابس الخاتم فاستدامه لم يحنث وهو مشكل على ما تقرر في اللبس إلا أن يفرق بأن صيغة التفعل تقتضي إيجاد معاناة للفعل، والاستدامة ليس فيها ذلك فلم يمكن التقدير هنا بمدة بخلاف صيغة أصل الفعل كاللبس، وعليه فهل يختص هذا بالنحوي أو لا لأن العامي يدرك الفرق بين الصيغتين، وإن لم يحسن التعبير عنه كل محتمل، والثاني أقرب؛ وبذلك يعلم أنه لو حلف لا يلبس هذا الخاتم وهو لابسه حنث بالاستدامة، "قلت تحنيثه باستدامة التزوج والتطهر" على ما في أكثر نسخ المحرر "غلط لذهول" عما في شرحيه، فإن الذي جزم به فيهما عدم الحنث كما هو المنقول المنصوص؛ إذ لا يقدران بمدة كالدخول والخروج فلا يقال: تزوجت ولا تسريت ولا تطهرت شهرا مثلا، بل منذ شهر، وزعم البلقيني أنه يقال: ذلك مردود، ولك أن تقول إن أريد لا يقال ذلك عرفا

 

ج / 4 ص -300-        اتجه الرد، لأن كلامهم صريح في أنه لا يقال عرفا وهم أحق بمعرفة العرف من غيرهم أو نحوا اتجه ما قاله إذ النحو لا يمنعه، لكن من الواضح أن المراد هو الأول ومحل عدم الحنث فيهما إن لم ينو استدامتهما وإلا حنث بها جزما "واستدامة طيب ليست تطيبا في الأصح" إذ لا يقدر عادة بمدة ومن ثم لم يلزمه بها فدية فيما لو تطيب ثم أحرم واستدام. "وكذا وطء" وغصب "وصوم وصلاة" فلا يحنث باستدامتها في الأصح "والله أعلم"، ونازع في هذه الأربعة البلقيني وغيره؛ لأنها تقدر بزمان وليس كذلك، فإن المراد في نحو نكح أو وطئ فلانة وغصب كذا وصام شهرا استمرار أحكام تلك لا حقيقتها لانقضائها بانقضاء أدنى زمن في الثلاثة الأول وبمضي يوم لا بعضه في الصوم؛ إذ حقيقته الإمساك من الفجر إلى الغروب وهذه الحقيقة لا يمكن تقديرها بزمن إلا حكما كما تقرر، والصلاة لم يعهد عرفا ولا شرعا تقديرها بزمن، بل بعدد الركعات فإن قلت ينافي ما ذكر في الوطء جعلهم استدامة الصائم الوطء بعد الفجر مع علمه وطئا مفسدا، قلت: لا ينافيه؛ لأن ذاك لمعنى آخر أشاروا إليه بقولهم تنزيلا لمنع الانعقاد منزلة الإبطال قال الماوردي وكل عقد أو فعل يحتاج لنية لا تكون استدامته كابتدائه. وفيما أطلقه في العقد نظر لما مر في الشركة إلا أن يحمل ذاك على الشركة بغير عقد كالإرث، أو لا يغصب فاستدام فلا كما قالاه، واعترضه الإسنوي بصحة تقديره بمدة كغصبته شهرا وبتصريحهم بأنه في دوام الغصب غاصب ويرد بمنع تقديره بمدة عرفا على أن المراد وأقام عندي شهرا، ومعنى قولهم المذكور أنه غاصب حكما وليس الكلام فيه، ثم رأيت شارحا أجاب بنحو ذلك، واستدامة السفر سفر ولو بالعود منه نعم إن حلف على الامتناع منه لم يحنث بالعود وعلم مما تقرر أن كل ما يقدر عرفا بمدة من غير تأويل يكون دوامه كابتدائه فيحنث باستدامته وما لا فلا، ولو حلف لا يقيم بمحل ثلاثة أيام وأطلق فأقام به يومين ثم سافر ثم عاد فأقام به يوما حنث كما أفتى به بعضهم أخذا من كلامهم في نذر اعتكاف شهر أو سنة مثلا، قالوا لصدق الاسم بالمتفرق والمتوالي بخلاف ما لو حلف لا يكلمه شهرا؛ لأن المقصود باليمين الهجر ولا يتحقق بغير تتابع، واعترض بقول الروضة: لو حلف لا تمكث زوجته في الضيافة أكثر من ثلاثة أيام فخرجت منها الثلاث فأقل ثم رجعت إليها فلا حنث وفرق بأن المعلق عليه وجد هنا لإثم؛ لأنه المكث أكثر من ثلاثة أيام للضيافة، والرجوع ولو بقصد الضيافة لا يسمى ضيافة؛ لأنها مختصة بالمسافر بعد قدومه وهو واضح إن تم له هذا التعليل، كيف والعرف قاض بأنها لا تختص بذلك "ومن حلف لا يدخل دارا" عينها، ومثلها فيما ذكر كما بحثه الأذرعي نحو المدرسة والرباط أي والمسجد "حنث بدخول دهليز" بكسر الدال، وإن طال كما اقتضاه إطلاقهم، وبحث الزركشي في مفرط الطول عدم الحنث بدخوله؛ لأنه بمنزلة الرحبة قدام الباب يرد بمنع كونه بمنزلتها مطلقا لإطباق أهل العرف على أن الجالس فيه يسمى جالسا بدار فلان بخلاف الجالس في تلك الرحبة "داخل الباب أو بين بابين"؛ لأنه حينئذ من الدار ومحله إن لم يكن فيه باب دار أخرى، وإلا فهل ينسب إليهما معا؛ لأن المالكين لما جعلا عليه بابا صار منسوبا عرفا لكل منهما أو لا ينسب لواحدة منهما محل نظر ثم رأيت ما

 

 

ج / 4 ص -301-        يأتي في الدرب أمام الباب المسقف الذي عليه باب وهو يشمل هذا فيعطى حكمه الآتي "لا بدخول طاق" معقود "قدام الباب"؛ لأنه ليس منها عرفا، وإن كان مبنيا على تربيعها ويدخل في بيعها إذ هو ثخانة لحائط المعقود له قدام أبواب دور الأكابر، نعم إن جعل عليه باب حنث بدخوله ولو غير مسقف كما شمله قول المتن أو بين بابين ونقلاه عن المتولي وأقراه، وعبارتهما وجعل المتولي الدرب المختص بالدار أمام الباب إذا كان داخلا في حد الدار ولم يكن في أوله باب كالطاق قال: فإن كان في أوله باب فهو من الدار مسقفا كان أو غيره انتهت، واستبعده الأذرعي في غير المسقف واستشكله الزركشي بأن العرف لا يعده منها مطلقا ويرد بمنع ذلك مع وجود الباب؛ لأنه يصيره منها وإن لم يدخل في حدودها، بل ولا اختص بها بناء على أن ضمير قوله فإن كان في أوله باب لمطلق الدرب لا بقيد المختص وما بعده وهو محتمل؛ لأن المدار على قرينة تجعله منسوبا لتلك الدار، والباب كذلك بالنسبة لكل دار تأخرت عنه، ولا يحنث بدخول إصطبل خارج عن حدودها، وكذا إن دخل فيها وليس فيه باب إليها، "ولا" بدخول بستان بلصقها إن لم يعد من مرافقها، ولا "بصعود سطح غير محوط" من خارجها؛ لأنه ليس من داخلها لغة ولا عرفا، وبه يعلم أنه لو حلف لا يخرج منها فصعده حنث أو ليخرجن فصعده بر. "وكذا محوط" من الجوانب الأربعة بحجر أو غيره "في الأصح" لما ذكر، نعم إن كان مسقفا كله أو بعضه ودخل تحت السقف كما أخذه البلقيني من كلام الماوردي حنث إن كان يصعد إليه منها؛ لأنه كبيت منها ولا يشكل على ما تقرر صحة الاعتكاف على سطح المسجد مطلقا؛ لأنه منه شرعا حكما لا تسمية وهو المناط ثم لا هنا، "ولو أدخل يده أو رأسه أو رجله" أو رجليه غير معتمد "لم يحنث"؛ لأنه لا يسمى داخلا "فإن وضع رجليه فيها معتمدا عليهما" أو رجلا واحدة واعتمد عليها وحدها بأن كان لو رفع الأخرى لم يقع وباقي بدنه خارج "حنث"؛ لأنه يسمى داخلا بخلاف ما إذا لم يعتمد كذلك كأن اعتمد على الداخلة والخارجة معا ولو أدخل جميع بدنه، لكن لم يعتمد على شيء منهما لتعلقه بنحو حبل حنث أيضا. يقاس بذلك الخروج ولو تعلق بغصن شجرة في الدار، فإن أحاط به بناؤها بأن علا عليه حنث وإلا فلا "ولو انهدمت الدار" المحلوف عليها بأن قال: هذه الدار "فدخل وقد بقي أساس الحيطان حنث"؛ لأنها منها فكأنه دخلها، وقضية عبارة الروضة أن المراد بالأساس شيء بارز منه، وإن قل، وفي مسودة شرح المهذب عن الأصحاب: أنها متى صارت ساحة فلا حنث بخلاف ما إذا بقي منها ما تسمى معه دارا وكالساحة ما إذا صارت تسمى طريقا، وإن بقي بعض حيطانها كما دل عليه نص الأم واعتمده البلقيني وغيره أما لو قال: دارا فكذلك كما اقتضاه سياق المتن لكن قضية عبارة الروضة أنه لا يحنث في هذه بفضاء ما كان دارا، وإن بقي رسومها ورده البلقيني بأن الخلاف والتفصيل السابق إنما هو في هذه الدار، أما دارا فيحنث فيها مطلقا، ولو قال: هذه حنث مطلقا "وإن صارت" عطف على جملة وقد بقي "فضاء" بالمد وهو الساحة الخالية من البناء "أو جعلت مسجدا أو حماما أو بستانا فلا" حنث لزوال مسمى الدار بحدوث اسم آخر لها، ومن ثم انحلت اليمين فلو أعيدت بآلتها الأولى أي: أعيد منها بها ولو الأساس

 

ج / 4 ص -302-        فقط فيما يظهر، "ولو حلف لا" يأكل طعام زيد وأطلق فأضافه لم يحنث بناء على الأصح السابق أن الضيف يتبين بازدراده أنه ملكه به، أو لا "يدخل دار زيد" أو حانوته "حنث بدخول ما يسكنها بملك لا بإعارة وإجازة وغصب" وإيصاء بمنفعتها له ووقف عليه؛ لأن الإضافة إلى من يملك تقتضي ثبوت الملك حقيقة، ومن ثم لو قال: هذه لزيد لم يقبل تفسيره بأنه يسكنها، واعتمد في المطلب قول جمع الفتوى على الحنث بكل ما ذكر؛ لأنه العرف الآن قال: فالمعتبر عرف اللافظ لا عرف اللفظ كما هو مذهب الأئمة الثلاثة "إلا أن يريد مسكنه" فيحنث بكل ذلك؛ لأنه مجاز قريب، نعم ذكر جمع متقدمون أنه لا تقبل إرادته هذه في حلف بطلاق وعتاق ظاهرا، واعترضوا بأنه حينئذ مغلظ على نفسه فكيف لا يقبل وأجيب بأنه مخفف عليها من وجه آخر وهو عدم الحنث بما يملكه ولا يسكنه فليقبل ظاهرا فيما فيه تغليظ عليه دون ما فيه تخفيف له "ويحنث بما يملكه" جميعه، وإن طرأ له بعد الحلف "ولا يسكنه" إلا أن يزيد مسكنه فلا يحنث به عملا بقصده، ولو اشتهرت الإضافة للتعريف في نحو دار أو سوق حنث بدخولها مطلقا كدار الأرقم بمكة وسوق يحيى ببغداد لتعذر حمل الإضافة على الملك. وفارق المتجدد هنا: لا أكلم ولد فلان. فإنه يحمل على الموجود دون المتجدد؛ لأن اليمين تنزل على ما للحالف قدرة على تحصيله واستشكل بقول الكافي: لو حلف لا يمس شعر فلان فحلقه ثم مس ما نبت منه حنث، وقد يجاب بأن إخلاف الشعر لما عهد مطردا في أقرب وقت نزل منزلة المقدور عليه "ولو حلف لا يدخل دار زيد أو لا يكلم عبده أو" لا يكلم "زوجته فباعهما" أي: الدار والعبد بيعا بتا أو بشرط الخيار للمشتري وكذا لهما إن أجيز البيع وهو مثال، والمراد فأزال ملكه عنهما أو عن بعضهما، وإن قل "أو طلقهما" بائنا؛ إذ الرجعية زوجة "فدخل" الدار، "وكلمه" أي: العبد أو الزوجة "لم يحنث" تغليبا للحقيقة لزوال الملك بالبيع والزوجية بالطلاق، وبحث الزركشي في دار عرفت بالشؤم وعبد عرف بالشر الحنث مطلقا؛ لأن إضافتهما لمجرد التعريف وفيه نظر إذ ما علل به قابل للمنع، ولو اشترى بعد بيعهما غيرهما فإن أطلق أو أراد أي دار أو عبد ملكه حنث بالثاني أو التقييد بالأول فلا، "إلا أن يقول: داره هذه أو زوجته هذه أو عبده هذا" أو يريد أي دار أو عبد جرى عليه ملكه أو أي امرأة جرى عليها نكاحه "فيحنث" تغليبا للإشارة على الإضافة، وغلبت التسمية عليها فيما مر آنفا؛ لأنها أقوى؛ لأن الفهم يسبق إليها أكثر وعملا بتلك النية، وألحق بالتلفظ بالإشارة نيتها، وإنما بطل البيع في بعتك هذه الشاة فإذا هي بقرة؛ لأن العقود يراعى فيها اللفظ ما أمكن، ولو حلف لا يأكل لحم هذه السخلة فكبرت وأكله لم يحنث، وفارقت نحو دار زيد هذه بأن الإضافة فيها عارضة فلم ينظر إليها بل لمجرد الإشارة الصادقة بالابتداء والدوام، وفي تلك لازمة للزوم الاسم أو الصفة؛ ولأن زوالها يتوقف على تغيير بعلاج أو خلقة فاعتبرت مع الإشارة وتعلقت اليمين بمجموعتهما. فإذا زال أحدهما ككونهما سخلة في ذلك المثال زال المحلوف عليه، وبهذا يعلم أنه لو زال اسم العبد بعتقه واسم الدار بجعلها مسجدا لم يحنث، وإن أشار فالمراد بقولهم السابق تغليبا للإشارة أي: مع بقاء الاسم "إلا أن يريد" الحالف بقوله هذه أو هذا "ما دام ملكه"

 

ج / 4 ص -303-        بالرفع والنصب فلا يحنث بدخول أو تكليم بعد زواله بملك أو طلاق؛ لأنها إرادة قريبة، ويأتي في قبول هذا في الحلف بطلاق أو عتق ما مر آنفا، ولو قال: ما دام في إجارته وأطلق فالمتبادر منه عرفا كما قاله أبو زرعة أنه ما دام مستحقا لمنفعته فتنحل الديمومة بإيجاره لغيره ثم استئجاره منه، وأفتى فيمن حلف لا يدخل هذا ما دام فلان فيه فخرج فلان ثم دخل الحالف ثم فلان بأنه لا يحنث باستدامة مكثه؛ لأن استدامة الدخول ليست بدخول ويحنث بعوده إليه وفلان فيه لبقاء اليمين، إن أراد بمدة دوامه فيه ذلك الدوام وما بعده، أو أطلق أخذا مما قالوه في لا رأيت منكرا إلا رفعته للقاضي فلان وأراد ما دام قاضيا من أنه إذا رآه بعد عزله لا يحنث ولا تنحل اليمين؛ لأنه قد يتولى القضاء فيرفعه إليه ويبر فإن أراد ما دام فيه هذه المرة انحلت بخروجه ا هـ وفيه نظر. والفرق بين ما هنا ومسألة القاضي ظاهر؛ لأن الديمومة ثم مربوطة بوصف مناسب للمحلوف عليه يطرأ ويزول فأنيط به وهنا بمحل وهو لا يتطور فيه ذلك فانعدمت بخروجه منه. وإن عاد إليه فالذي يتجه في حالة الإطلاق عدم الحنث كالحالة الأخيرة، "ولو حلف لا يدخلها من ذا الباب فنزع" بابها الخشب مثلا "ونصب في موضع آخر منها لم يحنث بالثاني"، وإن سد الأول، "ويحنث بالأول في الأصح"؛ لأن الباب إذا أطلق انصرف للمنفذ؛ لأنه المحتاج إليه في الدخول دون الخشب، وقوله: ونصب إلى آخره قيد للخلاف، إذ لو طرح أو أتلف ودخل من الثاني لم يحنث قطعا، ولو أراد الخشب قبل قطعا، أما لو لم يشر فقال: من بابها فإنه يحنث بالثاني أيضا؛ لأنه يسمى بابا لها "أو" حلف "لا يدخل بيتا حنث بكل بيت من طين أو حجر أو آجر أو خشب" أو قصب محكم كما قاله الماوردي، "أو خيمة" أو بيت شعر أو جلد، وإن كان الحالف حضريا؛ لأن البيت يطلق على جميع ذلك حقيقة لغة. كما يحنث بجميع أنواع الخبز أو الطعام، وإن اختص بعض النواحي بنوع أو أكثر منه؛ إذ العادة لا تخصص عند جمهور الأصوليين، وإنما اختص لفظ الرءوس أو البيض أو نحوهما بما يأتي للقرينة اللفظية وهي تعلق الأكل به، وأهل العرف لا يطلقونه على ما عدا ما يأتي فيها وفرق بين تخصيص العرف للفظ بنقله عن مدلوله اللغوي إلى ما هو أخص منه وبين انتفاء استعمالهم له في بعض أفراد مسماه في بعض النواحي كغلبة استعمال أهل طبرستان للخبز في خبز الأرز لا غير، فهذا لا يوجب تخصيصا ولا نقلا عرفيا للفظ، بل هو معه باق على عمومه لضعف المعارض للعموم في هذا دون ما قبله، ويفرق بين ما ذكر ومن حلف بنحو بغداد لا يركب دابة، لم يحنث بالحمار كما في العزيز بأن الحمار عند هؤلاء لا يسمى دابة أصلا بخلاف نحو الخيمة تسمى عند الحضر بيتا، لكن مع الإضافة كبيت شعر ولا ينافيه عدم اعتبارهم لنظيرها في قولهم: في نحو المسجد بيت الله؛ لأن هذا حدث له اسم خاص فلم يعول معه على تلك الإضافة بخلاف نحو بيت الشعر، وإنما أعطي في الوصية الحمار؛ لأن المدار فيها على ما يصدق عليه اللفظ، وإن لم يشتهر على ما مر وقيد الزركشي أخذا من كلامهم الخيمة بما إذا اتخذت مسكنا بخلافها لدفع أذى نحو مسافر، ولو ذكر البيت بالفارسية لم يحنث بنحو الخيمة؛ لأنهم لا يطلقونه إلا على المبني، ويظهر في غير الفارسية والعربية أنه يتبع عرفهم أيضا "ولا يحنث

 

ج / 4 ص -304-        بمسجد وحمام وكنيسة وغار جبل" وبيت الرحا؛ لأنها لا تسمى بيوتا عرفا مع حدوث أسماء خاصة لها، وبحث البلقيني في غار اتخذ للسكنى أنه بيت والأذرعي أن المراد بالكنيسة محل تعبدهم، أما لو دخل بيتا فيها فإنه يحنث ا هـ. وقياسه الحنث بخلوة في المسجد ثم رأيته بحث عدم الحنث بساحة نحو المدرسة والرباط وأبوابها بخلاف بيت فيها، وهو يؤيد ما ذكرته.
تنبيه: يعلم مما تقرر أن البيت غير الدار ومن ثم قالوا: لو حلف لا يدخل بيت فلان فدخل داره دون بيته لم يحنث، أو لا يدخل داره فدخل بيته فيها حنث.
"أو" حلف "لا يدخل على زيد فدخل بيتا فيه زيد وغيره حنث" إن علم به، وذكر الحلف واختار الدخول، كذا قاله شارح هنا وهو موهم؛ لأن ذلك شرط لكل حنث، لكن عذره ذكر المتن بعض محترزات ذلك، وخرج ببيتا دخوله عليه في نحو مسجد وحمام مما لا يختص به عرفا. قال بعضهم: ومنه الحش ورد بأنه مختص به، "وفي قول أنه إن نوى الدخول على غيره دونه لم يحنث" كما يأتي في السلام عليه، وفرق الأول بأن الأقوال تقبل الاستثناء بخلاف الأفعال، ومن ثم صح سلم عليهم إلا زيدا دون دخل عليهم إلا زيدا. "ولو جهل حضوره فخلاف حنث الناسي" والجاهل، والأصح عدم حنثهما كالمكره كما قدمه في الطلاق، نعم لو قال: لا أدخل عليه عالما ولا جاهلا حنث مطلقا، وكذا في سائر الصور، "قلت ولو حلف لا يسلم عليه فسلم على قوم هو فيهم" وكان بحيث يسمعه، وإن لم يسمعه أو كان به نحو جنون بشرط أن يكون بحيث يعلم بالكلام "واستثناه" ولو بقلبه "لم يحنث"؛ لما مر "وإن أطلق حنث" إن علم به "في الأظهر والله أعلم"؛ لأن العام يجري على عمومه ما لم يخصص، وظاهر كلام الرافعي حنثه بالسلام عليه من الصلاة، وإن لم يقصده، واعتمده ابن الصلاح وجزم به المتولي، لكن نازع فيه البلقيني وتبعه الزركشي وغيره قال: لا سيما إذا بعد عنه بحيث لا يسمع سلامه.

فصل في الحلف على الأكل والشرب مع ذكر ما يتناوله بعض المأكولات
لو "حلف لا يأكل" رءوس الشوى اختص بالغنم كما قاله الأذرعي أو لا يأكل "الرءوس" أو لا يشتريها مثلا "ولا نية له حنث برءوس"، بل أو رأس أو بعضه خلافا لما أفهمه كلامه، وإن صرح به ابن القطان، فقد قال الأذرعي: إن ظاهر كلامهم أو صريحه أن المراد الجنس "تباع وحدها" أي: من شأنها ذلك وافق عرف بلد الحالف أو لا، وهي رءوس الغنم وكذا الإبل والبقر؛ لأن ذلك هو المتعارف "لا طير" وخيل "وحوت وصيد" بري أو بحري كالظباء؛ لأنها لا تفرد بالبيع فلا تفهم من اللفظ عند الإطلاق "إلا" إن كان الحالف "ببلد" أي: من أهل بلد علم أنها "تباع فيه مفردة" عن أبدانها، وإن حلف خارجه كما رجحه البلقيني؛ لأنه يسبق إلى فهمه عرف بلده فيحنث بأكلها فيه قطعا؛ لأنها حينئذ كرءوس الأنعام لا في غيره، كما صححه في تصحيح التنبيه واعتمده البلقيني، وصرح به جمع متقدمون، لكن الأقوى في الروضة كالشرحين الحنث، وخرج بلا نية له ما لو نوى شيئا من ذلك فإنه يعمل به

 

 

ج / 4 ص -305-        وإنما اتبع هنا العرف وفي البيت اللغة كما مر عملا بالقاعدة أن اللغة متى شملت واشتهرت ولم يعارضها عرف أشهر منها اتبعت، وهو الأصل فإن اختل أحد الأولين اتبع العرف إن اشتهر واطرد، وإلا فقضية كلام ابن عبد السلام وغيره أنه يرجع إلى اللغة، ومحله حيث لا قرينة ترشد للمقصود كما يعلم من كلامهم هنا وفي الطلاق "والبيض" إذا حلف لا يأكله ولا نية له "يحمل على مزايل بائضه في الحياة" بأن يكون من شأنه أنه يفارقه فيها، ويؤكل منفردا "كدجاج ونعام وحمام" وإوز وبط وعصافير؛ لأنه المفهوم عند الإطلاق، ولا فرق بين مأكول اللحم وغيره؛ لحل أكله مطلقا اتفاقا على ما في المجموع، وإن اعترض فعلم أنه يحنث بمتصلب خرج بعد الموت، كما لو أكله مع غيره وظهر فيه صورته بخلاف الناطف ولو حلف ليأكلن مما في كمه وحلف لا يأكل البيض فكان ما في كمه بيضا فجعل في ناطف وهو حلاوة تعقد ببياضه وأكله بر. ولو قال: ليأكلن هذا البيض لم يبر بجعله في ناطف "لا" بيض "سمك"؛ لأنه إنما يزايله بعد الموت بشق البطن، وقيل: لأنه لا يؤكل منفردا وأخذ منه الحنث به في بلد يؤكل فيه منفردا كالرءوس ورده الزركشي بأنه استجد اسما آخر وهو البطارخ ا هـ. وفيه نظر؛ لأن تجدد اسم آخر مع بقاء الأول لا أثر له كما يعلم مما يأتي في الفاكهة. فالوجه رده بمنع تسميتة بيضا عرفا ولو في بلد يؤكل فيه منفردا. "وجراد" لأنه لا يؤكل منفردا، أما إذا نوى شيئا فيعمل به.
تنبيه: ظاهر إفتاء بعضهم بأن السمك يدخل فيه الدنيلس السابق في الأطعمة أنه يحمل هنا على جميع ما في البحر، وإن لم يسم سمكا عرفا، وفيه وقفة ظاهرة؛ لأن العرف اطرد بأن نحو الدنيلس لا يسمى سمكا أصلا، فإن قيل: إنه يسماه لغة قلنا هذا إن فرض تسليمه لم يشتهر وقد اشتهر العرف واطرد بخلافه، فلم يعول عليه كما علم مما مر آنفا.
"واللحم" إذا حلف لا يأكله يحمل عند الإطلاق نظير ما قبله "على" مذكى، "نعم" وهي الإبل والبقر والغنم "وخيل ووحش وطير" لوقوع اسم اللحم عليها حقيقة دون ما يحرم أي: في اعتقاد الحالف فيما يظهر "لا سمك" وجراد؛ لأنه لا يسمى لحما عرفا أي: من غير قيد، وإن سميه لغة كما في القرآن، كما لا يحنث بالجلوس في الشمس المسماة سراجا وعلى الأرض المسماة بساطا في القرآن من حلف لا يجلس في سراج أو على بساط. "و" لا "شحم بطن" وعين لمخالفهما اللحم اسما وصفة "وكذا كرش وطحال وكبد وقلب" وأمعاء ورئة ومخ "في الأصح"؛ لأنها ليست لحما حقيقة، ولا يحنث بقانصة الدجاجة قطعا ولا بجلد إلا إن رق بحيث يؤكل غالبا على الأوجه، "والأصح تناوله" أي: اللحم "لحم رأس ولسان" أي: ولحم لسان والإضافة بيانية أي: ولحما هو لسان وحينئذ فلا اعتراض عليه وخد وأكارع لصدق اسمه على ذلك، "وشحم ظهر وجنب"، وهو الأبيض الذي لا يخالطه الأحمر؛ لأنه لحم سمين ولهذا يحمر عند الهزال، "و" الأصح "أن شحم الظهر لا يتناوله الشحم"؛ لما تقرر أنه لحم بخلاف شحم العين والبطن يتناوله الشحم، "وأن الألية والسنام" بفتح أولهما "ليسا" أي: كل منهما "شحما ولا لحما"؛ لمخالفتهما كلا منهما اسما وصفة، "والألية" مبتدأ إذ لا خلاف في هذا "لا تتناول سناما ولا يتناولها" لاختلافهما كذلك. "والدسم" وهو الودك

 

ج / 4 ص -306-        إذا حلف لا يأكله وأطلق "يتناولهما و" يتناول "شحم ظهر" وجنب "وبطن" وعين "وكل دهن" حيواني أي: مأكول فيما يظهر أخذا مما مر أنه لا حنث بغير المذكى لصدق اسمه بكل ذلك، واستشكل ذكر شحم الظهر هنا لما مر أنه لحم واللحم لا يدخل في الدسم، ويرد بمنع هذه الكلية، بل اللحم الذي فيه دسم يدخل فيه، أما دهن نحو سمسم ولوز فلا يتناولهما على ما قاله البغوي، وظاهر كلام غيره أنه يتناول كل دهن مأكول لا نحو دهن خروع وبه صرح البلقيني وفي اللبن تردد؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال: "إن له دسما" والذي يتجه أنه لا يتناوله؛ لأنه لا يسمى دسما عرفا. "ولحم البقر يتناول" البقر العراب والبقر الوحشي و "جاموسا" لصدق اسم البقر على الكل، وإن نازع فيه البلقيني، ويفرق بين تناول الإنسي للوحشي هنا لا في الربا؛ لأن المدار هنا على مطلق التناول من غير نظر لاختلاف أصل أو اسم بخلافه ثم كما يعلم من كلامهم في البابين، وبهذا يتجه أن الضأن لا يتناول المعز هنا وعكسه، وإن اتحدا جنسا، ثم لأن اسم أحدهما لا يطلق على الآخر لغة ولا عرفا، وإن شملهما اسم الغنم المقتضي لاتحاد جنسهما ثم.
فرع: الزفر في عرف العامة يشمل كل لحم ودهن حيواني وبيض ولو من سمك فينبغي حمله على ذلك، ولا تتناول ميتة سمكا وجرادا ولا دم كبد أو طحالا.
"ولو قال مشيرا إلى حنطة لا آكل هذه" ولا نية له "حنث بأكلها على هيئتها وبطحنها وخبزها" تغليبا للإشارة، واستشكله الأذرعي في الطحن والخبز بأن كلامهم هنا وفي غيره مصرح بأنه إنما يحنث بأكل الجميع، وقالوا: في لا آكل هذا الرغيف لا يحنث متى بقي منه ما يمكن التقاطه وهو يفهم الحنث إذا بقي ما لا يمكن التقاطه، ولا شك أن الحنطة إذا طحنت يبقى منها شيء في الرحا وجدرها ومن عجينها آثار في الإناء واليد وهذا كله مما يوجب التوقف في الحنث بأكل خبزها عند من ينظر إلى حقيقة اللفظ ويطرح العرف، ثم حكي عن الشاشي صاحب الحلية أنه كان يفتي من حلف لا يلبس هذا الثوب بسل خيط منه مقدار نحو أصبع ا هـ. والذي يتجه أن ما أطلقوه هنا محمول على ما فصلوه في نحو هذا الرغيف، وقوله: مقدار نحو أصبع غير قيد، بل المدار على خيط يحس ويدرك لكن الغالب أن ما كان طول أصبع يكون كذلك "ولو قال: لا آكل هذه الحنطة" فصرح بالاسم مع الإشارة "حنث بها مطبوخة" إن بقيت حباتها "ونيئة ومقلية" لوجود الاسم، كلا آكل هذا اللحم فجعله شواء، "لا" إذا هرست على ما قاله البلقيني ثم يحتمل أن مراده لا إذا جعلت هريسة، ويؤيده أنه جعله في مساق المطبوخة التي تبقى حباتها وأن مراده هرسها وهو دقها العنيف، ويوجه بأنه يلزم من دقها العنيف زوال صورتها المستلزم لزوال اسمها، وليس ببعيد أن تفتت لا إن زال قشرها فقط، ولا "بطحينها وسويقها وعجينها وخبزها"؛ لزوال الاسم والصورة، "ولا يتناول رطب تمرا ولا بسرا" ولا بلحا ولا خلالا ولا طلعا "ولا عنب زبيبا" ولا حصرما. "وكذا العكوس" لاختلافها اسما وصفة.
فائدة: أول التمر طلع ثم خلال بفتح المعجمة ثم بلح ثم بسر ثم رطب ثم تمر، ولو

 

ج / 4 ص -307-        حلف لا يأكل رطبا ولا بسرا حنث بالمنصف أو رطبة أو بسرة لم يحنث بمنصفة؛ لأنها لا تسمى رطبة ولا بسرة.
"ولو قال" ولا نية له "لا آكل هذا الرطب فتتمر فأكله، أو لا أكلم ذا الصبي فكلمه" بالغا شابا أو "شيخا فلا حنث في الأصح"؛ لزوال الاسم كما في الحنطة، وكذا لا أكلم هذا العبد فعتق أو لا آكل لحم هذه السخلة فصارت كبشا، أو هذا البسر فصار رطبا، ومر في شرح قوله: داره هذه. إيضاح ذلك وما يشكل عليه فراجعه. "والخبز يتناول كل خبز كحنطة وشعير وأرز وباقلا" بتشديد اللام مع القصر على الأشهر "وذرة" بمعجمة وهاؤها عوض عن واو أو ياء "وحمص" بكسر ففتح أو كسر وسائر المتخذ من الحبوب وإن لم يعهد ببلده كما لو حلف لا يلبس ثوبا فإنه يحنث بكل ثوب، وإن لم يعهده ببلده، وكان سبب عدم نظرهم للعرف هنا بخلافه في نحو الرءوس والبيض أنه هنا لم يطرد لاختلافه باختلاف البلاد فحكمت فيه اللغة بخلاف ذينك، والبقسماط والرقاق خبز لغة دون البسيس وهو أن يلت نحو دقيق أو سويق بنحو سمن، نعم إن خبز ثم بس حنث به "فلو ثرده" بالمثلثة "فأكله حنث"؛ لصدق الاسم، نعم لو صار في المرقة كالحسو فتحساه لم يحنث، كما لو دق الخبز اليابس ثم سفه كما بحثه ابن الرفعة؛ لأنه استجد اسما آخر، ويؤيده قول الصيمري لو جعله فتيتا وسفه أو عصيدا لم يحنث؛ لأنه لم يأكل خبزا، "ولو حلف لا يأكل سويقا فسفه أوتناوله بأصبع" مثلا "حنث"؛ لأن ذلك يعد أكلا له، وقضيته أن الابتلاع في نحو خبز وسكر بلا مضغ أكل وبه صرحا في مواضع، وهو المعتمد لكنهما جريا في الطلاق على خلاف ونسب للأكثرين ومر ما فيه. "وإن جعله في ماء فشربه فلا" حنث إلا إن خثر؛ لأنه ليس بشرب، "أو" حلف "لا يشربه فبالعكس" فيحنث في الثانية بقيدها لا الأولى، ولو حلف لا يذوق حنث بإدراك طعمه، وإن مجه ولم ينزل منه شيء إلى جوفه أو لا يتناول أو لا يطعم حنث حتى بالشرب، "أو" حلف "لا يأكل لبنا" حنث بكل أنواعه من مأكول ولو صيدا حتى نحو الزبد إن ظهر فيه لا نحو جبن وأقط ومصل، "أو مائعا آخر فأكله بخبز حنث"؛ لأنه كذلك يؤكل "أو شربه فلا" لعدم الأكل "أو" حلف "لا يشربه فبالعكس" فيحنث في الثانية دون الأولى، ولو حلف لا يأكل نحو عنب لم يحنث بشرب عصيره ولا بمصه ورمي ثفله، أو لا يشرب خمرا لم يحنث بالنبيذ وعكسه، "أو" حلف "لا يأكل سمنا فأكله بخبز جامدا" كان "أو ذائبا حنث"؛ لأنه أتى بالمحلوف عليه وزيادة، وبه فارق عدم الحنث في لا آكل مما اشتراه زيد فأكل مما اشتراه زيد وعمرو؛ لأنه لم يأكل مما اشتراه المحلوف عليه خاصة "وإن شربه ذائبا فلا" يحنث؛ لأنه لم يأكله "وإن أكله في عصيدة حنث إن كانت عينه ظاهرة" أي: مرئية متميزة في الحس كما قاله الإمام؛ لوجود اسمه حينئذ بخلاف ما إذا لم تكن متميزة كذلك، "ويدخل في الفاكهة" حلف لا يأكلها ولا نية له، "رطب وعنب ورمان وأترج" بضم أوله وثالثه مع تشديد الجيم ويقال أترنج وترنج وتين ومشمش و "رطب ويابس" من كل ما يتناوله، سواء استجد له اسم كتمر وزبيب أم لا كتين، خلافا للماوردي؛ لوقوع اسمها على هذه كلها؛ لأنها مما يتفكه أي: يتنعم بأكله ليس بقوت، وعطف الرمان والعنب عليها في الآية لا يقتضي

 

ج / 4 ص -308-        خروجهما عنها؛ لأنه من عطف الخاص على العام، وزعم أنه يقتضيه قال الأزهري: والواحدي خلاف إجماع أهل اللغة، ويدخل فيها موز رطب لا يابس على الأوجه وظاهر قولهم رطب وعنب أنه لا حنث بما لم ينضج ويطب، وهو ما صرح به الزبيري ويوافقه قول التتمة: لا يدخل فيها بلح وحصرم وقيده البلقيني في البلح بغير ما حلا من نحو بسر ومترطب بعضه "قلت وليمون ونبق" بفتح فسكون أو كسر ونارنج وقيده كالليمون الفارقي بالطري، فخرج المملح واليابس واعتمده البلقيني، بل نازع في عدهما وأطال وما قيل من أن صوابه ليمو بلا نون قال الزركشي غلط. "وبطيخ" أصفر أو هندي "ولب فستق" بضم ثالثه وفتحه "وبندق وغيرهما" كجوز ولوز "في الأصح" وتقوية الأذرعي لمقابله بأنها لا تعد فاكهة ممنوعة. "لا قثاء" بكسر أوله أشهر من فتحه وبمثلثة مع المد، "وخيار وباذنجان" بكسر المعجمة، "وجزر" بفتح أوله وكسره؛ لأنها تعد من الخضراوات لا الفواكه. وتعجب بعضهم من إسقاط الخيار مع أنه يجعل في أطباق الفاكهة وعد لب نحو البندق، ويجاب بأن الخيار دخل في نوع آخر اختص به وهو كونه من الخضراوات، وذلك اللب يعد من يابسها من غير مخرج له عنها، "ولا يدخل في الثمار" بالمثلثة "يابس والله أعلم"؛ لأن الثمر اسم للرطب، واستشكل خروج اليابس من هذه ودخوله في الفاكهة، ويجاب بأن المتبادر من كل ما ذكر.
فائدة: قضية قول القاموس: القمع بالكسر والفتح وكعنب ما التزق بأسفل التمرة والبسرة ونحوهما أن رأس التمر ما لا يلي قمعها، ووجهه بعضهم بأنه يخرج أولا كما يخرج رأس الحيوان عند ولادته أولا، وفيه نظر ظاهر. والذي يتجه أن العبرة هنا بالعرف وهو قاض بأن رأسها ما تحت قمعها.
"ولو أطلق" في الحلف "بطيخ وتمر" بالمثناة "وجوز لم يدخل هندي" في الجميع للمخالفة في الصورة والطعم. والهندي من البطيخ هو الأخضر ونازع جمع فيه بأنه الآن لا ينصرف البطيخ إلا إليه، وقد يجاب بأنه لا عبرة بالعرف الطارئ كالعرف الخاص في تجديد اسم لم يكن وبه فارق ما مر فيمن حلف بنحو بغداد لا يركب دابة ولا يتناول الخيار خيار الشنبر، "والطعام يتناول قوتا وفاكهة وأدما وحلوى"؛ لوقوعه على الجميع وإن أطال البلقيني في النزاع فيه، لا الدواء؛ لأنه لا يتناوله عرفا.
فرع: الحلو لا يتناول ما بجنسه حامض كعنب وإجاص ورمان، والحلوى تختص بالمعمول من حلو أي: بالمعنى المذكور فيما يظهر.
"ولو قال: لا آكل من هذه البقرة تناول لحمها"؛ لأنه المفهوم من ذلك "دون ولد ولبن"، ويؤخذ منه أن المراد باللحم هنا غير ما مر، وهو ما عدا هذين، فيتناول نحو شحم وكرش وسائر ما مر معهما، كما صرح به البلقيني وسبقه إلى بعضه جمع متقدمون، ويوجه بأن الأكل منها يشمل جميع ما هو من أجزائها الأصلية التي تؤكل، أو" لا يأكل "من هذه الشجرة" قال في القاموس: الشجر من النبات ما قام على ساق أو ما سما بنفسه دق أو جل قاوم الشتاء أو عجز عنه ا هـ. "فثمر" لها مأكول فيما يظهر هو الذي يحنث به "دون ورق

 

ج / 4 ص -309-        وطرف غصن" حملا على المجاز المتعارف لتعذر الحقيقة عرفا، وألحق البلقيني الجمار بالثمر قال: وكذا ورق اعتيد أكله كبعض ورق شجر الهند أي: المسمى بالتنبل ونحوه ا هـ. وعليه يحتمل أنها كرءوس تباع مفردة فيحنث، وافق عرف بلده أو لا، وأنها كرأس نحو حوت فيعتبر عرف بلد الحالف، ولعل هذا أقرب، ويفرق بأن من شأن رءوس الأنعام ما مر فلم يعول فيها على بلد بخلاف غيرها، والورق ليس من شأنه ذلك فألحق ما اعتيد أكله منه بالثانية، أما إذا لم تتعذر الحقيقة فيحمل عليها مع المجاز الراجح كما لو حلف لا يشرب من ماء النهر، الحقيقة الكرع بالفم وكثير يفعلونه، والمجاز المشهور الأخذ باليد أو الإناء فيحنث بالكل؛ لأنهما لما تكافآ إذ في كل قوة ليست في الآخر استويا فوجب العمل بهما إذ لا مرجح، نعم نقلا عن جامع المزني أنه لا حنث بلبس الخاتم في غير الخنصر؛ لأنه خلاف العادة، واستدل له البغوي بما لو حلف لا يلبس القلنسوة فلبسها في رجله، ورده ابن الرفعة بأن الذي فيه حنث المرأة لا الرجل؛ لأنه العادة فيها وانتصر له هو وغيره بأنه الموافق لما مر في الوديعة، ورجح الأذرعي قول الروياني عن الأصحاب يحنث مطلقا لوجود حقيقة اللبس وصدق الاسم، ثم بحث أنه لا فرق بين لبسه في الأنملة العليا وغيرها ا هـ وهذا هو الأقرب لقاعدة الباب وليس كما ذكره البغوي؛ لأن ذاك لم يعتد أصلا وهذا معتاد في عرف أقوام وبلدان مشهورة، ومما يؤيد أنه بغير الخنصر ليس من خصوصيات النساء ما مر من كراهته للرجل، خلافا لمن زعم حرمته محتجا بأنه من خصوصياتهن.

فصل في صور منثورة ليقاس بها غيرها
لو "حلف" لا يتغدى أو لا يتعشى فقد مر حكمه في فصل الإعسار بالنفقة أو "لا يأكل هذه التمرة فاختلطت بتمر فأكله إلا تمرة" أو بعضها، وشك هل هي المحلوف عليها أو غيرها "لم يحنث"؛ لأن الأصل براءة ذمته من الكفارة، والورع أن يكفر، فإن أكل الكل حنث لكن من آخر جزء أكله فتعتد في حلف بطلاق من حينئذ؛ لأنه المتيقن "أو" حلف "ليأكلنها فاختلطت" بتمر وانبهمت "لم يبر إلا بالجميع" أي: أكله لاحتمال أن المتروكة هي المحلوف عليها فاشترط تيقن أكلها، ومن ثم لو اختلطت بجانب من الصبرة أو بما هو بلونها وغيره لم يحتج إلا إلى أكل ما في جانب الاختلاط وما هو بلونها فقط. "أو ليأكلن هذه الرمانة فإنما يبر بجميع حبها" أي: أكله لتعلق اليمين بالكل، ولهذا لو قال: لا آكلها فترك حبة لم يحنث ومر في فتات خبز يدق مدركه أنه لا عبرة به فيحتمل أن مثله حبة رمانة يدق مدركها ويحتمل أن يفرق بأن من شأن الحبة أنه لا يدق إدراكها بخلاف فتات الخبز، ومن ثم كان الأوجه في بعض الحبة التفصيل كفتات الخبز. "أو لا يلبس" هذا أو الثوب الفلاني أو قيل له: البسه فقال: والله لا ألبسه فسل منه خيط لم يحنث كما مر عن الشاشي بقيده، وفارق لا أساكنك في هذه الدار فانهدم بعضها وساكنه في الباقي بأن المدار هنا على صدق المساكنة، ولو في جزء من الدار وثم على لبس الجميع ولم يوجد أو لا أركب أو لا أكلم هذا فقطع أكثر بدنه بأن القصد هنا النفس وفي اللبس جميع الأجزاء ولا ينافي ما تقرر في

 

ج / 4 ص -310-        سل الخيط تعبير شيخنا بقوله إن أزال منه القوارة أو نحوها الموهم أنه لا يكفي سل الخيط وإن طال؛ لأن مراده مجرد التمثيل بدليل قوله في فتاويه لا يحنث إذا سل خيطا منه أو لا يلبس أو لا يأكل أو لا يدخل مثلا "هذين لم يحنث بأحدهما"؛ لأنه حلف عليهما فإن نوى لا ألبس منهما شيئا حنث بأحدهما "فإن لبسهما معا أو مرتبا حنث" لوجود لبسهما المحلوف عليه "أو لا يلبس هذا ولا هذا حنث بأحدهما"؛ لأنهما يمينان حتى لو لبس واحدا ثم واحدا لزمه كفارتان؛ لأن العطف مع تكرر لا يقتضي ذلك فإن أسقطه لا كان كهذين نحو لا آكل هذا وهذا أو لآكلن هذا وهذا أو اللحم والعنب، فيتعلق الحنث في الأولى والبر في الثانية بهما وإن فرقهما لا بأحدهما لتردده بينه وبين هذا ولا هذا لكن رجح الأول أصل براءة الذمة وقول النحاة: النفي بلا لنفي كل واحد وبدونها لنفي المجموع يوافق ذلك ثم ما تقرر من أن الإثبات كالنفي الذي لم يعد معه حرفه هو ما اعتمده جمع متأخرون، ويشير لاعتماده أنهما لما نقلا عن المتولي أنه كالنفي المعاد معه حرف حتى تتعدد اليمين لوجود حرف العطف توقفا فيه، بل رداه حيث قالا: لو أوجب حرف العطف تعدد اليمين في الإثبات لأوجبه في النفي أي غير المعاد معه حرفه وقد بالغ ابن الصلاح في الرد على المتولي فقال: أحسب أن ما قاله من تصرفه، أو لألبسن هذا أو هذا بر بلبس واحد؛ لأن أو إذا دخلت بين إثباتين اقتضت ثبوت أحدهما أو لا ألبس هذا أو هذا فالذي رجحاه أنه لا يحنث إلا بلبسهما وردا مقابله أنه يحنث بأيهما لبس؛ لأن أو إذا دخلت بين نفيين اقتضت انتفاءهما كما في: {وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً} [الإنسان: 24]. بمنع ما علل به أي وما في الآية إنما استفيد من خارج؛ لأن أو إذا دخلت بين نفيين كفى للبر أن لا يلبس واحدا منهما ولا يضر لبسه لأحدهما كما أنها إذا دخلت بين إثباتين كفى للبر أن يلبس أحدهما ولا يضر أن لا يلبس الآخر، وانتصار البلقيني للمقابل مردود، ولو عطف بالفاء أو ثم عمل بقضية كل من ترتب بمهلة أو عدمها، ولو غير نحوي كما أطلقوه، لكن قضية ما مر له في أن دخلت بالفتح خلافه وعليه فيتجه في عامي لا نية له أن لا تعتبر ترتيب فضلا عن قيده "أو ليأكلن هذا الطعام" أو ليقضينه حقه أو ليسافرن "غدا فمات" بغير قتله لنفسه أو نسي "قبله" أي: الغد ومثله كما يعلم من كلامه الآتي موته أو نسيانه بعد مجيء الغد وقبل تمكنه "فلا شيء عليه"؛ لأنه لم يبلغ زمن البر والحنث. "وإن مات" أو نسي "أو تلف الطعام" أو بعضه "في الغد بعد تمكنه" من قضائه أو السفر أو "من أكله" بأن أمكنه إساغته وإن كان شبعان أي حيث لا ضرر كما علم مما مر في مبحث الإكراه، وأما ما اقتضاه إطلاق بعضهم من أن الشبع عذر فيتعين حمله على ما ذكرته "حنث" لتفويته البر حينئذ باختياره، ومن ثم ألحق قتله لنفسه قبل الغد بهذا لأنه به مفوت لذلك أيضا وكذا لو تلف الطعام قبله بتقصيره كأن أمكنه دفع آكله فلم يدفعه "و" في موته أو نسيانه "قبله" أي: التمكن من ذلك جرى في حنثه "قولان كمكره" والأظهر عدمه لعذره وحيث أطلقوا قولي المكره أرادوا الإكراه على الحنث فقط، أما إذا أكره على الحلف فلا خلاف في عدم الحنث "وإن أتلفه" عامدا عالما مختارا "بأكل أو غيره" كأدائه الدين في الصورة التي ذكرتها ما لم ينو أنه لا يؤخر أداءه عن الغد

 

ج / 4 ص -311-        "قبل الغد" أو بعده وقبل تمكنه منه. "حنث"؛ لتفويته البر باختياره ومر أن تقصيره في تلفه كإتلافه له ثم الأصح أنه إنما يحنث بعد مجيء الغد ومضي وقت التمكن فلو مات قبل ذلك لم يحنث وقيل بغروبه، وقيل: حالا فعليه لمعسر نية صوم الغد عن كفارته "وإن تلف" الطعام بنفسه "أو أتلفه أجنبي" قبل الغد أو التمكن ولم يقصر فيهما كما مر "فكمكره" فلا يحنث لعدم تفويته البر وما ذكرته من إلحاق ليقضينه حقه أو ليسافرن بمسألة الطعام فيما ذكر فيها هـ و القياس كما لو حلف بالطلاق الثلاث ليسافرن في هذا الشهر ثم خالع بعد تمكنه من الفعل فإنه يقع عليه الثلاث قبل الخلع؛ لتفويته البر باختياره، ومر في ذلك بسط في الطلاق فراجعه.
"تنبيه": لم أر لهم ضابطا للتمكن هنا وفي نظائره من كل ما علقوا فيه الحنث بالتمكن، وقد اختلف كلامهم في ضبط التمكن في أبواب فالتمكن من الماء في التيمم بتوهمه بحد الغوث أو تيقنه بحد القرب وأمن ما مر وظاهره أنه يلزمه مشي لذلك أطاقه لا ذهاب لما فوق ذلك، ولو راكبا وفي الجمعة بالقدرة على الذهاب إليها، ولو قبل الوقت إذا بعدت داره ولو ماشيا، ولو بنحو مركوب وقائد قدر على أجرتهما وفي الحج بما مر فيه في مبحث الاستطاعة، ومنه أنه يلزمه مشي قدر عليه إذا كان دون مرحلتين وفي الرد بالعيب والأخذ بالشفعة بما مر فيهما، وحينئذ فما هنا يلحق بأي تلك المواضع حتى يجري فيه جميع ما ذكروه في ذلك من التمكن وأعذاره وقد علمت اختلافهما باختلاف تلك المواضع، وللنظر في ذلك مجال أي مجال، وواضح أنه حيث خشي من فعل المحلوف عليه مبيح تيمم لم يكن متمكنا منه فإن لم يخش ذلك، فالذي يتجه أنه لا يكفي توهم وجود المحلوف عليه بخلاف الماء؛ لأن له بدلا بل لا بد من ظن وجوده بلا مانع مما مر في التيمم وأن المشي والركوب هنا كالحج وأن الوكيل إن لم يفعل بنفسه كما في الرد بالعيب فيعد متمكنا إذا قدر عليه، ولو بأجرة مثل طلبها الوكيل فاضلة عما يعتبر في الحج، وإن قائد الأعمى ونحو محرم المرأة والأمرد كما في الحج فيجب، ولو بأجرة وأن عذر الجمعة ونحو الرد بالعيب أعذار هنا فوجود أحدهما يمنع التمكن إلا في نحو أكل كريه مما لا أثر له هنا بخلافه في نحو الشهادة على الشهادة كما يأتي، ومر قبيل العدد في أعذار تأخير النفي الواجب فورا ما له تعلق بما هنا ويفرق بين ما هنا وكل من تلك النظائر على حدته بأن كلا من تلك المغلب فيه إما حق الله أو حق الآدمي فتكلموا فيه بما يناسبه، وهنا ليس المغلب فيه واحدا من هذين وإنما المدار على ما يأتي، وقد ذكروا في عد نحو الإكراه والنسيان والإعسار فيما لو حلف ليوفينه يوم كذا أعذارا هنا ما يبين أن المراد التمكن في عرف حملة الشرع ويؤيده ما مر أنه حيث تعذرت اللغة رجع للعرف وأن العرف الشرعي مقدم على العرف العام فلذا أخذت ضابط التمكن هنا من مجموع كلامهم في تلك الأبواب وحينئذ متى وجد التمكن من المحلوف عليه بأن لم يكن له عذر مما مر يمنعه عنه كمشي فوق مرحلتين، وإن أطاقه لم يحنث بتلف المحلوف عليه وإلا حنث فتأمل ذلك كله فإنه مهم محتاج إليه مع أنهم لم يتعرضوا لشيء منه هنا مع تخالف تلك النظائر وعدم مدرك مطرد يوجب إلحاق ما

 

ج / 4 ص -312-        هنا به فلذلك أشكل الأمر لولا ما ظهر مما قضى به المدرك الصحيح كما لا يخفى على متأمل.
"أو لأقضين حقك" ساعة بيعي لكذا فباعه مع غيبة الدائن حنث، وإن أرسله إليه حالا لتفويته البر باختياره للبيع مع غيبة الدائن وإن لم يعلم بغيبته كما هو ظاهر أو إلى زمن فمات لكن بعد تمكنه من قضائه حنث قبيل موته؛ لأن لفظ الزمن لا يعين وقتا فكان جميع العمر مهلته، وإنما وقع الطلاق بعد لحظة في أنت طالق بعد أو إلى زمن؛ لأنه تعليق فتلعق بأول ما يسمى زمنا وما هنا وعد وهو لا يختص بأول ما يقع عليه الاسم وقضيته أنه لا فرق هنا بين الحلف بالله والطلاق أو إلى أيام فثلاثة أو "عند" أو مع "رأس الهلال" أو أول الشهر "فليقض" هـ "عند غروب الشمس آخر" ظرف لغروب لا ليقضي؛ لفساد المعنى المراد ولا يصح كونه بدلا لإبهامه إذ آخر الذي هو المقصود بالحكم أصالة يطلق على نصفه الآخر واليوم الآخر وآخر لحظة منه "الشهر" الذي وقع الحلف فيه أو الذي قبل المقارنة لاقتضاء عند ومع المقارنة فاعتبر ذلك ليقع القضاء مع أول جزء من الشهر والمراد الأولية الممكنة عادة؛ لاستحالة المقارنة الحقيقية "فإن قدم" القضاء على ذلك "أو مضى بعد الغروب قدر إمكانه" العادي ولم يقض فيه "حنث" لتفويته البر باختياره هذا إن لم تكن له نية وإلا كأن نوى أن لا يأتي رأس الهلال إلا وقد خرج من حقه أو بعند أو مع إلى لم يحنث بالتقديم "ولو شرع في" العد أو الذرع أو "الكيل" أو الوزن أو غير ذلك من المقدمات "حينئذ" أي: حين إذ غربت الشمس "ولم يفرغ لكثرته إلا بعد مدة لم يحنث"؛ لأنه أخذ في القضاء عند ميقاته وبحث الأذرعي اعتبار تواصل نحو الكيل فيحنث بتخلل فئران تمنع تواصله بلا عذر لا بحمل حقه إليه من الغروب وإن لم يصل منزله إلا بعد ليلة ولا بالتأخير للشك في الهلال. "أو لا يتكلم فسبح" أو هلل أو حمد أو دعا بما لا يبطل الصلاة كأن لا يكون محرما ولا مشتملا على خطاب غير الله ورسوله "أو قرأ" ولو خارج الصلاة "قرآنا"، ولو جنبا "فلا حنث" بخلاف ما عدا ذلك فإنه يحنث به أي إن أسمع نفسه أو كان بحيث يسمع لولا العارض كما هو قياس نظائره؛ لانصراف الكلام عرفا إلى كلام الآدميين في محاوراتهم، ومن ثم لم تبطل الصلاة بذلك؛ لأنه ليس من كلامهم كما صرح به خبر مسلم لكن نازع فيه جمع بأن نحو التسبيح يصدق عليه كلام لغة وعرفا وهو لم يحلف أنه لا يكلم الناس بل أن لا يتكلم، ويرد بأن عرف الشرع مقدم وقد علم من الخبر أن هذا لا يسمى كلاما عند الإطلاق على أن العادة المطردة أن الحالفين كذلك إنما يريدون غير ما ذكر وكفى بذلك مرجحا، وكذا نحو التوراة والإنجيل نعم يتجه أنه إن قرأها مثلا كلها حنث لتحقق أن فيها مبدلا كثيرا بل لو قيل: إن أكثرها ككلها لم يبعد "أو لا يكلمه فسلم عليه"، ولو من صلاة كما مر أو قال له قم: مثلا أو دق عليه الباب فقال وقد علمه: من "حنث" إن سمعه وهل يشترط حينئذ فهمه لما سمعه، ولو بوجه أو لا كل محتمل وقضية اشتراطهم سمعه الأول ويظهر أنه لو كان بحيث يسمعه لكن منع منه عارض كلغط كان كما لو سمعه نعم في الذخائر كالحلية أنه لا يحنث بتكليمه الأصم، وإنما يتجه في صمم يمنع السماع من أصله ولو

 

ج / 4 ص -313-        عرض له كأن خاطب جدارا بحضرته بكلام ليفهمه به لم يحنث، وكذا لو ذكر كلاما من غير خطاب أحد به كذا أطلقه شارح ويرد مما يأتي من التفصيل في قراءة الآية فليحمل هذا على ذلك التفصيل كما هو واضح. "ولو كاتبه أو راسله أو أشار إليه بيد أو غيرها فلا حنث" عليه وإن كان أصم أو أخرس "في الجديد"؛ لأن هذه ليست بكلام عرفا وإن كانت كلاما لغة وبها جاء القرآن نعم إن نوى شيئا منها حنث به؛ لأن المجاز تقبل إرادته بالنية وجعلت نحو إشارة الأخرس في غير هذا كالعبارة للضرورة "وإن قرآ آية أفهمه بها مقصوده وقصد قراءة"، ولو مع الإفهام "لم يحنث"؛ لأنه لم يكلمه "وإلا" بأن قصد الإفهام وحده أو أطلقه "حنث"؛ لأنه كلمه ونازع البلقيني في حالة الإطلاق بما يرده إباحة القراءة حينئذ للجنب الدالة على أن ما تلفظ به كلام لا قرآن أو ليثنين على الله أفضل الثناء لم يبر إلا بالحمد لله حمدا يوافي نعمه ويكافئ مزيدة لأثر فيه، ولو قيل: يبر بيا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك لكان أقرب بل ينبغي أن يتعين؛ لأنه أبلغ معنى وصح به الخبر أو ليصلين على النبي صلى الله عليه وسلم أفضل الصلاة بر بصلاة التشهد فقط واعترض بأن وعلى آل محمد مستأنف كما قاله الشافعي؛ لئلا يلزم تفضيل إبراهيم على نبينا صلى الله عليهما وسلم عملا بقضية التشبيه وحينئذ فلم يبق منها إلا اللهم صل على محمد فكيف فضل الكيفية التي ذكرها الرافعي مع أن فيها التكرير الأبدي بكلما ذكرك إلى آخره وجوابه أن هذا الاستئناف غير متعين في دفع ذلك اللازم؛ لكثرة الأجوبة عنه بغير ذلك كما بسطته في كتاب الدر المنضود في الصلاة والسلام على صاحب المقام المحمود ووجه أفضليتها أنه صلى الله عليه وسلم علمها لهم، وهو لا يختار لنفسه إلا الأفضل ولئن سلمنا ذلك الاستئناف فوجه ما مر أن أفضليتها لا تتوقف على ذلك التشبيه بل وقوع الصلاة بعدها على الآل على وجه التشبيه فيه أعلى شرف له صلى الله عليه وسلم، وأن الخلق يعجزون عن تشبيه صلاته بصلاة مخلوق، وأن تعين الصلاة عليه موكول في كيفيتها وكميتها إلى ربه تعالى يختار له ما يشاء، وأنه أرشده إلى تعليم أمته صلاة لا تشابه صلاة أحد وأن الصلاة على آله إذا أشبهت الصلاة على إبراهيم وأبنائه الأنبياء فكيف حال صلاته التي رضيها تعالى له وذلك يستلزم خروجها عن الحصر فإن قلت: ظاهر كلامهم هنا بره بها وإن لم تقترن بالسلام فينافي ما مر أنه يكره إفرادها عنه وأنها إنما لم تحتج للسلام فيها؛ لأنه سبق في التشهد قلت: نعم ظاهر كلامهم هنا ذلك ولا منافاة لأنها من حيث ذاتها أفضل من غيرها، والكراهة إنما هي لأمر خارج هو الإفراد نظير كراهة ركعة الوتر إذ المراد أنه يكره الاقتصار عليها لا ذاتها "أو لا مال له" وأطلق أو عمم "حنث بكل نوع" من أنواع المال له "وإن قل" ولو لم يتمول كما اقتضاه كلامهم هنا وفي الإقرار خلافا للبلقيني كالأذرعي "حتى ثوب بدنه" لصدق اسم المال به نعم لا يحنث بملكه لمنفعة؛ لأنها لا تسمى مالا عند الإطلاق "ومدبر" له لا لمورثه إذا تأخر عتقه "ومعلق عتقه بصفة" وأم ولد "وما وصى به" لغيره؛ لأن الكل ملكه "ودين حال"، ولو على معسر جاحد بلا بينة قال البلقيني: إلا إن مات؛ لأنه صار في حكم العدم ا هـ وفيه نظر لاحتمال أن له مالا باطنا أو يظهر له بعد بنحو فسخ بيع، وبفرض عدمه هو

 

ج / 4 ص -314-        باق له من حيث أخذه لبدله من حسنات المدين فالمتجه إطلاقهم وكونه لا يسمى مالا الآن ممنوع "وكذا مؤجل في الأصح" لثبوته في الذمة وصحة الاعتياض والإبراء عنه ولوجوب الزكاة فيه وأخذ منه البلقيني أنه لا حنث بدينه على مكاتبه أي: لأنه لم يوجد فيه شيء من هاتين العلتين إذ ليس ثابتا في الذمة لعدم صحة الاعتياض عنه ولقدرة المكاتب على إسقاطه متى شاء ولا زكاة فيه "لا مكاتبه" كتابة صحيحة "في الأصح"؛ لأنه لعدم ملكه لمنافعه وأرش جنايته كالأجنبي عرفا فلا ينافي عده مالا في الغصب ونحوه وبهذا يعلم أنه لا أثر لتعجيزه بعد اليمين وكذا زوجة واختصاص بل، ومغصوب لم يقدر على نزعه ولا على بيعه من قادر على نزعه وغائب انقطع خبره على الأوجه خلافا للأنوار ويفرق بين المغصوب المذكور وما في ذمة المعسر بأن هذا لا يتصور سقوطه بخلاف المغصوب يتصور بأن يرده غاصبه لقاض فيتلف عنده من غير تقصير "أو ليضربنه فالبر" إنما يحصل "بما يسمى ضربا" فلا يكفي مجرد وضع اليد عليه "ولا يشترط إيلام" لصدق الاسم بدونه ووقع في الروضة في الطلاق اشتراطه لكنه أشار هنا إلى ضعفه "إلا أن يقول" أو ينوي "ضربا شديدا" أو موجعا مثلا فيشترط حينئذ الإيلام عرفا وواضح أنه يختلف بالزمن وحال المضروب "وليس وضع سوط عليه وعض" وقرض "وخنق" بكسر النون "ونتف شعر ضربا"؛ لأنه لا يسمى بذلك عرفا "قيل ولا لطم" لوجه بباطن الراحة مثلا "ووكز" وهو الضرب باليد مطبقة أو الدفع ولو بغير اليد كما دل عليه كلام اللغويين ورفس ولكم وصفع؛ لأنها لا تسمى ضربا عادة والأصح أن جميعها ضرب وأنها تسماه عادة، ومثلها الرمي بنحو حجر أصابه كما بحثته وأفتيت به ثم رأيت الخوارزمي جزم به واعتمده الأذرعي وقد صح عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمى الرجم في قصة ماعز بعد هربه وإدراكهم له ضربا مع تسمية جابر له رجما "أو ليضربنه مائة سوط أو خشبة فشد مائة" من السياط في الأولى، ومن الخشب في الثانية ولا يقوم أحدهما مقام الآخر "وضربه بها ضربة أو" ضربه "بعثكال" وهو الضغث في الآية "عليه مائة شمراخ بر إن علم إصابة الكل أو" علم "تراكم بعض" منها "على بعض فوصله" بسبب هذا التراكم "ألم الكل" عبارة الروضة: ثقل الكل قيل وهي أحسن لما مر أنه لا يشترط الإيلام ورد بأن ذكر العدد قرينة ظاهرة على الإيلام فهو كقوله ضربا شديدا وصريح كلامه إجزاء العثكال في قوله: مائة سوط وهو ما قاله كثيرون وصوبه الإسنوي لكن المعتمد ما صححاه في الروضة وأصلها أنه لا يكفي؛ لأنه أخشاب لا سياط ولا من جنسها ونقله الإمام عن قطع الجماهير، وقولهم؛ لأنه أخشاب يرد على من نازع في إجزائه عن مائة خشبة بأنه لا يسمى خشبا. "قلت ولو شك" أي: تردد باستواء أو مع ترجيح الإصابة لا مع ترجيح عدمها كما بحثه الإسنوي أخذا من كلامهم "في إصابة الجميع بر على النص والله أعلم" إذ الظاهر الإصابة وفارق ما لو مات المعلق بمشيئته، وشك في صدورها منه فإنه كتحقق العدم على ما مر فيه في الطلاق بأن الضرب سبب ظاهر في الانكباس والإصابة، ولا أمارة ثم على وجود المشيئة قالا عن البغوي: ولو قال: إن ضربتك فأنت طالق فقصد ضرب غيرها فأصابها طلقت ولا يقبل قوله ويحتمل قبوله. ا هـ. وقول الأنوار هو ضرب لها لكن

 

ج / 4 ص -315-        لا يحنث للخطإ كالمكره والناسي يحمل على أنه لا حنث باطنا عند قصده غيرها فلا ينافي كلام البغوي؛ لأنه بالنسبة للظاهر وعليه يحمل قول غيره لا يقبل قوله لم أقصدها إلا ببينة؛ لأن الضرب محقق والدفع مشكوك فيه وقوله: إلا ببينة لا يلائم ما قبله فليحمل على أن المراد إلا ببينة بقرينة على أنه لم يقصدها "أو ليضربنه مائة مرة" أو ضربة "لم يبر بهذا" أي المشدودة أو العثكال؛ لأنه جعل العدد مقصودا والأوجه أنه لا يشترط هنا تواليها واشتراط ذلك كالإيلام في الحد والتعزير؛ لأن القصد بهما الزجر والتنكيل "أو لا" أخليك تفعل كذا حمل على نفي تمكينه منه بأن يعلم به ويقدر على منعه منه، أو لا "أفارقك حتى أستوفي حقي" منك "فهرب" يعني ففارقه المحلوف عليه، ولو بغير هرب كما يعلم مما يأتي "ولم يمكنه اتباعه لم يحنث" بخلاف ما إذا أمكنه اتباعه فإنه يحنث "قلت: الصحيح لا يحنث إذا أمكنه اتباعه والله أعلم"؛ لأنه إنما حلف على فعل نفسه فلم يحنث بفعل الغريم سواء أمكنه اتباعه أم لا وفارق مفارقة أحد البائعين الآخر في المجلس وأمكنه اتباعه فإنه ينقطع خيارهما بأن التفريق يتعلق بهما ثم لا هنا، ومن ثم لو فارقه هنا بإذنه لم يحنث أيضا، ولو أراد بالمفارقة ما يعمهما حنث، ولو حلف لا يطلق غريمه فهل هو كلا أفارقه أو كلا أخلي سبيله حتى يحنث بإذنه له في المفارقة وبعدم اتباعه المقدور عليه إذا هرب جزم بعضهم بالثاني وفيه نظر في مسألة الهرب؛ لأن المتبادر لا يباشر إطلاقه وبالإذن باشره بخلاف عدم اتباعه إذا هرب "وإن فارقه" الحالف بما يقطع خيار المجلس، ولو بمشيه بعد وقوف الغريم مختارا ذاكرا "أو وقف" الحالف "حتى ذهب المحلوف عليه وكانا ماشيين" حنث لأن المفارقة حينئذ منسوبة للحالف حتى في الثانية؛ لأنه الذي أحدثها بوقوفه، أما إذا كانا ساكنين فابتدأ الغريم بالمشي فلا حنث مطلقا كما مر "أو أبرأه" حنث؛ لأنه فوت البر باختياره "أو احتال" به "على غريم" لغريمه أو أحال به على غريمه "ثم فارقه" أو حلف ليعطينه دينه يوم كذا ثم أحاله به أو عوضه عنه حنث؛ لأن الحوالة ليست استيفاء ولا إعطاء حقيقة وإن أشبهته، نعم إن نوى أنه لا يفارقه وذمته مشغولة بحقه لم يحنث كما لو نوى بالإعطاء أو الإيفاء براءة ذمته من حقه، ويقبل في ذلك ظاهرا وباطنا على المعتمد، ولو تعوض أو ضمنه له ضامن ثم فارق لظنه أن التعويض أو الضمان كاف حنث لما مر في الطلاق أن جهله بالحكم لا يعذر به "أو أفلس ففارقه ليوسر حنث" لوجود المفارقة منه وإن لزمته كما لو قال لا أصلي الفرض فصلاه فإنه يحنث نعم لو ألزمه الحاكم بمفارقته لم يحنث كالمكره وإنما أثر العذر في نحو لا أسكن فمكث لنحو مرض؛ لأن الحنث فيها باستدامة الفعل لا بإنشائه وهي أضعف فتأثرت به بخلاف ما هنا، والحاصل أن من خص يمينه بفعل المعصية أو أتى بما يعمها قاصدا دخولها أو قامت قرينة عليه حنث بها وإلا فلا كما مر في مبحث الإكراه في الطلاق وأن من ذلك ما لو حلف لا يفارقه ظانا يساره فبان إعساره فلا يحنث بمفارقته، لكن ظاهر المتن ينافي هذه إلا أن يجاب بأن قرينة المشاحة والخصومة الحاملة على إطلاق اليمين ظاهرة في إرادته حالة اليسر والعسر ومن ظن يساره حالة الحلف لا قرينة على شمول كلامه للمعصية وإن سبقت خصومة؛ لأن الظن أقوى فلم يحنث بالمفارقة الواجبة،

 

ج / 4 ص -316-        وأما قول الزركشي فمن ابتلع خيطا ليلا ثم أصبح صائما ولم يجد من ينزعه منه كرها أو غفلة ولا حاكم يجبره على نزعه حتى لا يفطر لو قيل لا يفطر بنزعه هو له لم يبعد تنزيلا؛ لإيجاب الشرع منزلة الإكراه كما لو حلف ليطأن زوجته فوجدها حائضا فمردود لتعاطيه المفطر باختياره فالقياس أنه ينزعه ويفطر كمريض خشي على نفسه الهلاك إن لم يفطر فيلزمه تعاطي المفطر ويفطر به وليس هذان كما نحن فيه؛ لأن مدار الأيمان على الألفاظ، والوضع الشرعي أو العرفي له فيها مدخل بالتخصيص تارة والتعميم أخرى فلذا فرقوا فيها بين المعصية وغيرها على التفصيل الذي ذكرناه، والحاصل أن الإكراه الشرعي كالحسي هنا لا ثم فتأمله.
فرع: سئلت عما لو حلف لا يرافقه من مكة إلى مصر فرافقه في بعض الطريق، فهل يحنث ؟ وأجبت الظاهر أنه يحنث حيث لا نية؛ لأن المتبادر من هذه الصيغة ما اقتضاه وضعها اللغوي، إذ الفعل في حد النفي كالنكرة في حيزه من عدم وجود المرافقة في جزء من أجزاء تلك الطريق وزعم أن مؤداها أننا لا نستغرق الطريق كلها بالاجتماع ليس في محله كما هو واضح، وعما لو حلف لا يكلمه مدة عمره فأجبت بأنه إن أراد مدة معلومة دين وإلا اقتضى ذلك استغراق المدة من انتهاء الحلف إلى الموت فمتى كلمه في هذه المدة حنث، وأما إفتاء بعضهم بأنه إن أراد في مدة عمره حنث بالكلام في أي وقت وإلا لم يحنث إلا بالجميع فليس في محله فاحذره فإنه لا حاصل له وبتسليم أن له حاصلا فهو سفساف لا يعول عليه.
"وإن استوفى وفارقه فوجده" أي: ما أخذه منه "ناقصا" نظر "إن كان جنس حقه لكنه أردأ" منه "لم يحنث"؛ لأن الرداءة لا تمنع الاستيفاء وقيده ابن الرفعة نقلا عن الماوردي بما إذا قل التفاوت بحيث يتسامح به أي: عرفا نظير ما مر في الوكالة فيما يظهر على أن لك أن تنازع في التقييد من أصله بمنع أن ذلك لا يمنع الاستيفاء "وإلا" يكن جنس حقه كأن كان دراهم فخرج المأخوذ مغشوشا "حنث عالم" بذلك عند المفارقة؛ لأنه فارقه قبل الاستيفاء "وفي غيره" وهو الجاهل به حينئذ "القولان" في حنث الجاهل أظهرهما لا حنث وكأن بعضهم أخذ من هذا إفتاءه فيمن حلف ليعطينه دينه فأعطاه بعضه وعوضه عن بعضه بأن الدائن إن خفي عليه ذلك لجهله به بنحو قرب إسلامه لم يحنث وقد تعذر الحنث. ا هـ. وليس في محله؛ لأن ما في المتن في جهل المحلوف عليه وهذا في جهل حكمه وقد مر مبسوطا في الطلاق أنه ليس بعذر مع الفرق بين الجهلين ولو حلف ليقضين فلانا دينه يوم كذا فأعسر ذلك اليوم لم يحنث كما أفتى به كثيرون من المتأخرين وكلامهما ناطق بذلك في فروع كثيرة منها ما مر في لآكلن ذا الطعام غدا وما يأتي من قول المتن في إلى القاضي وإلا فمكره ويؤخذ من تقييدهم الحنث في هذه المسائل بما إذا تمكن، ومن قول الكافي في إن لم تصل الظهر اليوم إن حاضت بعد مضي إمكان صلاتها حنث وإلا فلا أن محل عدم الحنث في مسألتنا أن لا يقدر على الوفاء بوجه من الوجوه من أول المدة التي حلف عليها إلى آخرها كاليوم في مسألتنا والأوجه فيما لو سافر الدائن قبلها لو قد قال لأقضينك أو

 

ج / 4 ص -317-        لأقضين فلانا عدم الحنث لفوات البر بغير اختيار ولا يكلف إعطاء وكيله أو القاضي؛ لأنه مجاز فلا يحمل الحلف عليه من غير قرينة ثم رأيت الجلال البلقيني رجح ذلك أيضا ولا ينافي ذلك ما في التوسط عن فتاوى ابن البزري قال: إن جاء حادي عشر الشهر وما أوفيتك أو لأقضينك إلى الحادي عشر فسافر الدائن قبله فإن قصد كونه لانتهاء الغاية وتمكن من الإيفاء قبله حنث وإن جعله يعني الحادي عشر ظرفا للإيفاء فسافر قبله ففيه خلاف مشهور أي: والأصح منه لا حنث وإن أطلق فالأولى أن يراجع ا هـ والذي يتجه ما يتبادر من اللفظ أن المدة كلها من حين الحلف إلى تمام الحادي عشر ظرف للإيفاء المحلوف عليه فإذا سافر بعد التمكن من الإيفاء حنث الحالف مطلقا ما لم يقل: أردت أن الحادي عشر هو الظرف للاستيفاء فيصدق بيمينه لاحتماله وبهذا يعلم وجه عدم المنافاة؛ لأن لأقضينك غدا صريح في أن الغد هو الظرف للإيفاء بخلاف صورتي الحادي عشر، فلم يؤثر السفر قبل الغد في تلك وأثر في هاتين على ما تقرر والأوجه أيضا أن موت الدائن كسفره فيما مر فيه فإن كان بعد التمكن حنث وإلا فلا ولا أثر لقدرته على الدفع للوارث؛ لأنه خلاف المحلوف عليه ومن ثم كان الذي يتجه في لأقضين حقك أنه لا يفوت البر بالسفر والموت لإمكان القضاء هنا مع غيبته، وإبراء الدائن قبل التمكن مانع منه، وأما ما في عقارب المزني أي: وسماه بذلك لصعوبته من أنه مع العجز عن القضاء يحنث إجماعا فأشار الرافعي إلى رده كما مر بل إعراض الأئمة عنه وإطباقهم على التفريع على خلافه من اعتبار التمكن أدل دليل على عدم صحته وأول بحمله على ما إذا تمكن من قضائه في الغد فلم يقضه، وتقبل دعواه بيمينه العجز لإعسار أو نسيان بل لو ادعى الأداء فأنكره الدائن قبل بالنسبة لعدم الحنث كما مر في الطلاق مع ما فيه، "أو" حلف "لا رأى منكرا" أو نحو لقطة "إلا رفعه إلى القاضي فرأى" منكرا "وتمكن" من رفعه له "فلم يرفعه" أي: لم يوصل بنفسه أو غيره بلفظ أو نحو كتابة للقاضي خبره في محل ولايته لا غيره إذ لا فائدة له "حتى مات" الحالف "حنث" أي من قبيل الموت كما هو ظاهر؛ لأنه فوت البر باختياره ويظهر أن العبرة في المنكر باعتقاد الحالف دون غيره وظاهر أن الرؤية من أعمى تحمل على العلم، ومن بصير تحمل على رؤية البصر "ويحمل" القاضي في لفظ الحالف حيث لا نية له "على قاضي البلد" أي بلد فعل المنكر؛ لأنه المعهود بالنسبة لإزالته وبه يفرق بين هذا وما مر في الرءوس نعم إنما يتجه ذلك في منكر محسوس لا نحو زنا انقضى وإلا اعتبر قاضي البلد التي فيها فاعل المنكر حالة الرفع؛ لأن القصد من هذه اليمين إزالة المنكر وهي في كل بما ذكر "فإن عزل فالبر بالرفع إلى" القاضي "الثاني"؛ لأن التعريف بأل يعمه ويمنع التخصيص بالموجود حالة الحلف، فإن تعدد في البلد تخير ما لم يختص كل بجانب فيتعين قاضي شق فاعل المنكر؛ لأنه الذي يلزمه إجابته إذا دعاه، ذكره في المطلب وتوقف فيه شيخنا بأن رفع المنكر للقاضي منوط بإخباره به لا بوجوب إجابة فاعله ويجاب بمنع ذلك بل ليس منوطا إلا بما يتمكن من إزالته بعد الرفع، ولو إليه وهذا لا يتمكن منها فالرفع إليه كالعدم ولو رآه بحضرة القاضي فالأوجه أنه لا بد من إخباره به؛ لأنه قد يتيقظ له بعد غفلته عنه، ولو كان فاعل

 

ج / 4 ص -318-        المنكر القاضي، فإن كان ثم قاض آخر رفعه إليه وإلا لم يكلف كما هو ظاهر بقوله رفعت إليك نفسك؛ لأن هذا لا يراد عرفا من لا رأيت منكرا إلا رفعته إلى القاضي "أو إلا رفعه إلى قاض بر بكل قاض" بأي بلد كان لصدق الاسم وإن كان ولايته بعد الحلف "أو إلى القاضي فلان فرآه" أي: الحالف المنكر "ثم" لم يرفعه إليه حتى "عزل فإن نوى ما دام قاضيا حنث" بعزله "إن أمكنه رفعه" إليه قبله "فتركه" لتفويته البر باختياره ولا فورية هنا، وأما لو لم يعزل ولم يرفع له حتى مات أحدهما فإنه يحنث إن تمكن منه وتقييد جمع من الشراح ما ذكر في العزل بما إذا استمر عزله لموت أحدهما وإلا فلا حنث؛ لاحتمال عوده مردود بأن هذا إنما يتأتى فيما إذا قال وهو قاض أو نواه فإنه الذي لا حنث فيه بالعزل مطلقا لاحتمال عوده وأما إذا قال ما دام أو ما زال قاضيا أو نواه فيتعين حنثه بمجرد عزله بعد تمكنه من الرفع إليه سواء أعاد أم استمر معزولا لموت أحدهما لانقطاع الديمومة بعزله فلم يبر بالرفع إليه بعد، فإن قلت: يمكن أن يجاب بأن الظرف في إلا رفعه إلى القاضي فلان ما دام قاضيا إنما هو ظرف للرفع، والديمومة موجودة حيث رفعه إليه في حال القضاء قلت كلامهم في نحو لا أكلمه ما دام في البلد فخرج ثم عاد يقتضي أنه لا بد من بقاء الوصف المعلق بدوامه من الحلف إلى الحنث فمتى زال بينهما فلا حنث عملا بالمتبادر من عبارته. "وإلا" يتمكن منه لنحو مرض أو حبس أو تحجب القاضي ولم يمكنه مراسلة ولا مكاتبة "فكمكره" فلا يحنث "وإن لم ينو" ما دام قاضيا "بر برفع" هـ "إليه بعد عزله" نوى عينه أو أطلق لتعلق اليمين بعينه وذكر القضاء للتعريف فهو كلا أدخل دار زيد هذه فباعها ثم دخلها حنث تغليبا للعين مع أن كلا من الوصف والإضافة يطرأ ويزول وبه فارق ما مر في لا أكلم هذا العبد فكلمه بعد العتق؛ لأن الرق ليس من شأنه أنه يطرأ ويزول.
فرع: حلف لا يسافر بحرا شمل النهر العظيم كما أفتى به بعضهم لتصريح الصحاح بأنه يسمى بحرا قال: ويبر من حلف ليسافرن بقصير السفر بأن يصل لمحل لا تلزمه فيه الجمعة لكونه لا يسمع النداء منه. ا هـ. وأخذ هذا من رأي من ضبط قصير السفر الذي يتنفل فيه لغير القبلة، وفيه نظر بل قضية كلامهم بره بمجرد مجاوزة ما مر في صلاة المسافر بنية السفر؛ لأنه الآن يسمى مسافرا لغة وشرعا وعرفا وإنما قيدوا نحو التنقل على الدابة بالميل أو عدم سماع النداء؛ لأن ذاك رخصة تجوزها الحاجة ولا حاجة فيما دون ذلك فتأمله.

فصل
لو "حلف" لا يشتري عينا بعشرة فاشترى نصفها بخمسة، ثم نصفها بخمسة اختلف فيه جمع متأخرون فقال جمع: يحنث وجمع لا والذي يتجه الثاني سواء أقال: لا أشتري قنا مثلا أو لا أشتري هذا؛ لأنه لم يصدق عليه عند شراء كل جزء الشراء بالعشرة وكونها استقامت عليه بعشرة لا يفيد؛ لأن المدار في الأيمان غالبا عند الإطلاق على ما يصدق عليه اللفظ فلا يقال: القصد أنها لا تدخل في ملكه بعشرة وقد وجد أو "لا يبيع أو لا يشتري فعقد" عقدا صحيحا لا فاسدا "لنفسه أو غيره" بوكالة أو ولاية "حنث" أما الأول

 

ج / 4 ص -319-        فواضح، وأما الثاني فلأن إطلاق اللفظ يشمله نعم الحج يحنث بفاسده ولو ابتداء بأن أحرم بعمرة فأفسدها ثم أدخله عليها؛ لأنه كصحيحه لا بباطله، وقضية فرقهم بين الباطل والفاسد في العارية والخلع والكتابة إلحاقها بالحج فيما ذكر من الحنث بفاسدها دون باطلها وفيه نظر. ولو قال لا أبيع فاسدا فباع فاسدا فوجهان ظاهر كلامهما ترجيح عدم الحنث، وجزم به الأنوار وغيره ورجح الإمام الحنث ومال إليه الأذرعي وغيره وينبغي أن يجمع بحمل الأول على ما إذا أراد حقيقة البيع أو أطلق لانصراف لفظ البيع إلى حقيقته وقوله فاسدا مناف لما قبله فألغي، والثاني على ما إذا أراد بالبيع صورته لا حقيقته وإنما احتجنا لهذا ليتضح وجه الأول وإلا فهو مشكل جدا كيف وقد ذكروا في لا أبيع الخمر أنه إن أراد الصورة حنث فتأمله. "ولا يحنث بعقد وكيله له"؛ لأنه لم يعقد وأخذ الزركشي من تفريقهم بين المصدر وأن والفعل في قولهم: يملك المستعير أن ينتفع فلا يؤجر، والمستأجر المنفعة فيؤجر أنه لو أتى هنا بالمصدر كلا أفعل الشراء أو الزرع حنث بفعل وكيله وفيه نظر بل لا يصح؛ لأن الكلام ثم في مدلول ذينك اللفظين شرعا وهو ما ذكروه فيهما وهنا في مدلول ما وقع في لفظ الحالف وهو في لا أفعل الشراء ولا أشتري وفي حلفت أن لا أشتري واحد وهو مباشرته للشراء بنفسه "أو" حلف "لا يزوج أو لا يطلق أو لا يعتق أو لا يضرب فوكل من فعله لم يحنث"؛ لأنه إنما حلف على فعل نفسه ولم يوجد سواء ألاق بالحالف فعل ذلك هنا وفيما قبله أم لا وسواء أحضر حال فعل الوكيل أم لا، وإنما جعلوا إعطاء وكيلها بحضرتها كإعطائها كما مر في الخلع في إن أعطيتني؛ لأنه حينئذ يسمى إعطاء وأوجبوا التسوية بين الموكل وخصمه في المجلس بين يدي القاضي ولم ينظروا للوكيل لكسر قلب الخصم بتميز خصمه حقيقة وهو الموكل عليه، وتعليقه الطلاق بفعلها فوجد تطليق بخلاف تفويضه إليها فطلقت، ومكاتبته مع الأداء ليست إعتاقا على ما قالاه هنا والذي مر في الطلاق أن تعليقه مع وجود الصفة تطليق يقتضي خلافه إلا أن يفرق "إلا أن يريد أن لا يفعل هو ولا غيره" فيحنث بالتوكيل في كل ما ذكر؛ لأن المجاز المرجوح يصير قويا بالنية، والجمع بين الحقيقة والمجاز قاله الشافعي وغيره وإن استبعده أكثر الأصوليين، ولو حلف لا يبيع ولا يوكل لم يحنث ببيع وكيله قبل الحلف؛ لأنه بعده لم يباشر ولم يوكل وأخذ منه البلقيني أنه لو حلف أن لا تخرج زوجته إلا بإذنه وكان أذن لها قبل الحلف في الخروج إلى موضع معين فخرجت إليه بعد اليمين لم يحنث وفي الأخذ نظر. وإن كان ما قاله محتملا وعليه فيظهر أن إذنه لها بالعموم كإذنه في موضع معين فذكره تصوير فقط "أو لا ينكح" ولا نية له "حنث بعقد وكيله له" وإن نازع فيه البلقيني وأطال؛ لأن الوكيل في النكاح سفير محض، ولهذا تجب إضافة القبول له كما مر، ولو حلفت لا تتزوج لم تحنث المجبرة بتزويج مجبرها لها وتحنث غيرها بتزويج وليها لها بإذنها قاله البلقيني وأفتى فيمن حلف لا يراجع فوكل في الرجعة بعدم الحنث؛ بناء على ما مر عنه في لا ينكح وبالحنث بناء على ما في المتن قال: بل هذا أولى؛ لأنه استمرار نكاح فالسفارة فيه أولى ا هـ وقد يقال اغتفروا فيها لكونها

 

ج / 4 ص -320-        استدامة ما لم يغتفروه في الابتداء فلا يبعد أن هذا من ذلك "لا بقبوله هو لغيره" لما مر أنه سفير محض فلم يصدق عليه أنه نكح نعم إن نوى لا ينكح لنفسه ولا لغيره حنث كما علم مما مر، أما إذا نوى الوطء فلا يحنث بعقد وكيله له لما مر أن المجاز يتقوى بالنية، "أو يبيع" أو يؤجر مثلا "مال زيد" أو لزيد مالا كما في الروضة ومنازعة البلقيني وفرقه بين الصورتين مردودة، ومن ثم تعين في لا تدخل لي دارا أن لي حالا من دارا قدم عليها لكونها نكرة وليس متعلقا بتدخل؛ لأن ذلك هو المتبادر من هذه العبارة فيحنث بدخول دار الحالف وإن كان فيها ودخل لغيره لا دار غيره وإن دخل له "فباعه" عالما بأنه مال زيد "بإذنه" أو إذن نحو ولي أو حاكم أو لظفر "حنث" لصدق الاسم "وإلا" يبع بإذن صحيح "فلا" حنث لما مر أن العقد إذا أطلق اختص بالصحيح، وكذا العبادات إلا الحج كما مر "أو لا" يبره وأطلق شمل كل تبرع من نحو صدقة وإبراء وعتق ووقف لا نحو زكاة أو لا "يهب له" أي: لزيد "فأوجب له" العقد "فلم يقبل لم يحنث"؛ لأن الهبة لم تتم ويجري هذا في كل عقد يحتاج لإيجاب وقبول "وكذا إن قبل ولم يقبض في الأصح" لا يحنث؛ لأن مقتضى الهبة المطلقة والغرض منها نقل الملك ولم يوجد وأطال البلقيني في الانتصار للمقابل بما في أكثره نظر وأيده غيره بقولهم في إن بعت هذا فهو حر يعتق بمجرد بيعه وإن قلنا الملك للبائع مع عدم انتقال الملك ويرد بأن البيع لما دخله الخيار المقتضي لنقل الملك تارة وعدمه أخرى كان الغرض منه لفظه بخلاف الهبة فإنه لما لم يدخلها ذلك كان الغرض منها معناها المقصودة هي لأجله فلم يكتف بلفظها وإنما لم يكن الإقرار بالهبة متضمنا للإقرار بالقبض؛ لأنه ينزل على اليقين والقبض قدر زائد على مسمى الهبة فلم يدخل بالاحتمال على أنه لا قرينة على إرادته أصلا بخلاف ما نحن فيه كما تقرر، "ويحنث" من حلف لا يهب "بعمرى ورقبى وصدقة" مندوبة لا واجبة كزكاة وكفارة ونذر وبهدية مقبوضة؛ لأنها أنواع من الهبة "لا إعارة" إذ لا ملك فيها وضيافة "ووصية" لأنها جنس مغاير للهبة، والتعليل بأنها إنما تملك بالموت والميت لا يحنث قاصر؛ لأنه لا يتأتى في نحو والله لا يهب فلان لفلان شيئا فأوصى إليه "ووقف"؛ لأن الملك فيه لله تعالى وبحث البلقيني أنه لو كان في الموقوف عين حال الوقف كثمرة أو صوف حنث؛ لأنه ملك أعيانا بغير عوض وفيه نظر لأنها تابعة لا مقصودة "أو لا يتصدق" حنث بصدقة فرض وتطوع، ولو على غني ذمي وبعتق ووقف؛ لأنه يسمى صدقة لا تقتضي التمليك وإبراء و "لم يحنث" بهدية وعارية وضيافة وقرض وقراض وإن حصل فيه ربح على الأوجه ولا "بهبة في الأصح"؛ لأنها لتوقفها على الإيجاب والقبول لا تسمى صدقة، ولهذا حلت له صلى الله عليه وسلم بخلاف الصدقة وفارق عكسه السابق بأن الصدقة أخص فكل صدقة هبة ولا عكس نعم إن نوى بالصدقة الهبة حنث، فإن قلت قد علم مما تقرر أنهم حملوا الهبة هنا على مقابل الصدقة والهدية وفيما مر على ما يشمل هذين وغيرهما فما وجهه قلت: يوجه بأن الهبة لها إطلاقان باعتبار السياق فأخذوا في كل سياق بالمتبادر منه "أو لا يأكل طعاما اشتراه زيد لم ي حنث بما اشتراه" زيد "مع غيره" يعني هو وغيره

 

ج / 4 ص -321-        معا أو مرتبا مشاعا، ولو بعد إفراز حصته على ما اقتضاه إطلاقهم لأن كل جزء منه لم يختص زيد بشرائه واليمين محمولة على ما يتبادر منها من اختصاص زيد بشرائه، ومن ثم لو حلف لا يدخل دار زيد لم يحنث بدخول دار شركة بينه وبين غيره وخرج بالإفراز ما لو اقتسما قسمة رد كأن اشتريا بطيخة ورمانة فتراضيا برد أخذ النفيسة فيحنث لأن هذه القسمة بيع فيصدق أن زيدا اشتراه وحده "وكذا لو قال" في يمينه: لا آكل "من طعام اشتراه زيد في الأصح" لما تقرر "ويحنث بما اشتراه" زيد "سلما" أو تولية أو إشراكا لأنها أنواع من الشراء، وعدم انعقادها بلفظ إنما هو لما فيها من الخصوصيات، وإن كانت بيوعا حقيقة إذ الخاص فيه قدر زائد على العام فلا يصح إيراده بلفظ العام؛ لفوات المعنى الزائد فيه على العام، وصورته في الإشراك أن يشتري بعده الباقي، ويأتي في الإفراز هنا ما مر وبما اشتراه لغيره بوكالة لا بما اشتراه له وكيله أو عاد إليه بنحو رد بعيب أو إقالة أو صلح أو قسمة ليس فيها لفظ بيع كما هو ظاهر؛ لأنها لا تسمى بيوعا على الإطلاق "ولو اختلط" فيما إذا حلف لا يأكل طعاما أو من طعام اشتراه زيد كما اقتضاه السياق ويوجه بأن التنكير يقتضي الجنسية فلم يشترط أكل الجميع "ما اشتراه" زيد وحده "بمشترى غيره" يعني بمملوكه، ولو بغير شراء "لم يحنث حتى يتيقن" أي يظن "أكله من ماله" أي: مشترى زيد بأن يأكل منه نحو الكف لظن أن فيه مما اشتراه بخلاف نحو عشر حبات، ويفرق بينه وبين تمرة حلف لا يأكلها واختلطت بتمر فأكله إلا واحدة بأنه لا يقين هنا بل ولا ظن ثم عادة ما بقيت تمرة بخلاف ما نحن فيه ولو نوى هنا نوعا مما ذكر اختص به "أو لا يدخل دارا اشتراها زيد لم يحنث ب" دخول "دار أخذها" زيد أو بعضها "بشفعة"؛ لأن الأخذ بها لا يسمى شراء عرفا ولا شرعا ويتصور أخذ كلها بشفعة جوار، ويحكم بها من يراها وبغيرها لكن لا في مرة واحدة بأن يملك شخص نصف دار، ويبيع شريكه نصفه فيأخذه بها ثم يبيع ما يملكه بها لآخر ثم يبيعه الآخر فيأخذه الشريك بها فيصدق حينئذ أنه أخذ كلها بشفعة.
فرع: أخذ بعض السلف من قوله تعالى:
{حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} [يس: 39] بناء على تفسيره القديم بما مضى عليه سنة أن من له عبيد اختلف وقت ملكهم، لو قال: أعتقت القديم منكم لم يعتق إلا من مضى له في ملكه سنة وفي التفسير المأخوذ منه ذلك نظر ظاهر، إذ لا يعضده لغة ولا عرف، والظاهر على قواعدنا أن من سمي منهم قديما عرفا عتق فإن لم يطرد بذلك عرف عتق من قبل آخرهم ملكا؛ لأن الكل يسمون قدماء بالنسبة له ويجري ذلك في التعليق بنحو كلام القديم منهم، ولو علق بإن خدمتني أو فلانا، فالذي يظهر أن المدار في الخدمة على العرف لكنهم ذكروا في الاستئجار للخدمة والوصية بها وتعليق العتق عليها ما يمكن مجيئه هنا فيكون بيانا للعرف الذي هو المناط نعم يتردد النظر فيما لو خدم خادمه فيما يتعلق به كأن ناول طابخ طعامه حطبا؛ لتمام طبخه فهل تسمى مناولته هذه خدمة للحالف لعود النفع إليه أو لا؛ لأنه يسمى في العرف خادما له بل للطابخ، أو يفرق بين أن يقصد بذلك خدمة الطابخ فلا حنث أو الحالف فالحنث، كل من الأولين محتمل دون الثالث؛ لأن مناط الخدمة التسمية ولا دخل للنية فيها وليست نظيرة لما سبق في الجعالة في

 

ج / 4 ص -322-        معين العامل؛ لأن استحقاق الجعل يتأثر بنية التبرع فتأثر بنية إعانة المالك أو العامل على أنهم سموا فعله في حال قصده إعانة العامل ردا فهو يؤيد الاحتمال الأول لولا وضوح الفرق بين الرد المتعلق بالعبد الصادق بكل من وضع يده عليه لذلك والخدمة المتعلقة بالحالف المقتضية أنه لا بد من مباشرة الخادم لخدمة الحالف بلا واسطة وبهذا يقرب الاحتمال الثاني والله أعلم.