تحفة المحتاج بشرح المنهاج ط العلمية

ج / 4 ص -342-        كتاب القضاء
بالمد، وهو لغة: إحكام الشيء وإمضاؤه وجاء لمعان أخر كالوحي، والخلق وشرعا: الولاية الآتية أو الحكم المترتب عليها، أو إلزام من له الإلزام بحكم الشرع فخرج الإفتاء، والأصل فيه الكتاب، والسنة وإجماع الأمة في الخبر المتفق عليه
"إذا حكم الحاكم" أي: أراد الحكم "فاجتهد، ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد، ثم أخطأ فله أجر"، وفي رواية صحيحة بدل الأولى "فله عشرة أجور"، قال في شرح مسلم: أجمع المسلمون على أن هذا في حاكم عالم مجتهد، أما غيره فآثم بجميع أحكامه، وإن وافق الصواب وأحكامه كلها مردودة؛ لأن إصابته اتفاقية، وروى الأربعة، والحاكم، والبيهقي خبر: "القضاة ثلاثة قاض في الجنة وقاضيان في النار"، وفسر الأول بأنه عرف الحق وقضى به، والآخرين بمن عرف وجار ومن قضى على جهل والذي يستفيده بالولاية إظهار حكم الشرع وإمضاؤه فيما رفع إليه بخلاف المفتي فإنه مظهر لا ممض، ومن ثم كان القضاء بحقه أفضل من الإفتاء؛ لأنه إفتاء وزيادة.
"هو" أي: قبوله من متعددين صالحين ففيه استخدام "فرض كفاية" بل هو أسنى فروض الكفايات حتى قال الغزالي: إنه أفضل من الجهاد وذلك للإجماع مع الاضطرار إليه؛ لأن طباع البشر مجبولة على التظالم وقل من ينصف من نفسه، والإمام مشغول بما هو أهم منه فوجب من يقوم به فإن امتنع الصالحون له منه أثموا وأجبر الإمام أحدهم، أما تقليده ففرض عين على الإمام فورا في قضاء الإقليم وعلى قاضي الإقليم فيما عجز عنه كما يأتي، ولا يجوز إخلاء مسافة العدوى عن قاض، أو خليفة له؛ لأن الإحضار من فوقها مشق وبه فارق اعتبار مسافة القصر بين كل مفتيين قال البلقيني: وإيقاع القضاء بين المتنازعين فرض عين على الإمام، أو نائبه، ولا يحل له الدفع إذا كان فيه تعطيل وتطويل نزاع. ومن صريح التولية وليتك أو قلدتك القضاء، ومن كنايتها عولت، أو اعتمدت عليك فيه، ويشترط القبول لفظا، وكذا فورا في الحاضر وعند بلوغ الخبر في غيره هذا ما في الجواهر وغيرها، لكن لما نقلاه عن الماوردي بحثا أنه يأتي هنا ما مر في الوكالة فعليه الشرط عدم الرد، "فإن تعين" له واحد بأن لم يصلح غيره "لزمه طلبه" ولو ببذل مال إن قدر عليه فاضلا عما يعتبر في الفطرة فيما يظهر، وإن خاف الميل، أو علم أن الإمام عالم به ولم يطلبه منه بل عليه الطلب، والقبول، والتحرز ما أمكنه فإن امتنع أجبره الإمام، وليس امتناعه مفسقا؛ لأنه غالبا إنما يكون بتأويل، نعم بحث الأذرعي أنه لو ظن عدم الإجابة لم يلزمه الطلب وفيه نظر قوله فإن أوجبناه إلخ هكذا في النسخ ولعل هنا سقطا فحرر وقولهم: يجب الأمر بالمعروف، وإن علم أنهم لا يمتثلونه صريح في وجوب الطلب هنا، وإن علم أنهم لا يجيبونه "وإلا" يتعين عليه نظر "فإن كان غيره أصلح" سن للأصلح طلبه وقبوله إن وثق بنفسه فإن سكت "وكان

 

ج / 4 ص -343-        يتولاه" أي: يقبله إذا وليه "فللمفضول القبول" إذا بذل له من غير طلب وتنعقد توليته كالإمامة العظمى "وقيل لا" يجوز له القبول فلا تنعقد توليته لخبر البيهقي والحاكم: "من استعمل عاملا على المسلمين، وهو يعلم أن غيره أفضل منه"، وفي رواية: "رجلا على عصابة وفي تلك العصابة من هو أرضى لله منه فقد خان الله، ورسوله، والمؤمنين"، واعتمده البلقيني إذا كان الفاضل مجتهدا، أو مقلدا عارفا بمدارك إمامه، والمفضول ليس كذلك وخرج بيتولاه غيره فهو كالعدم، ولا يجبر الفاضل هنا ومحل الخلاف حيث لم يتميز المفضول بكونه أطوع في الناس، أو أقرب إلى القلوب، أو أقوى في القيام في الحق، أو ألزم لمجلس الحكم وإلا جاز له القبول بلا كراهة وانعقدت ولايته قطعا. "و" على الأول "يكره طلبه" أي: المفضول وقبوله مع وجود الفاضل الغير الممتنع لخطره وتقدمه على من هو أحق منه "وقيل يحرم" طلبه، أما على الثاني فيحرم طلبه جزما فتفريع شارح هذا على الثاني غير صحيح "وإن كان" غيره "مثله" وسئل بلا طلب "فله القبول" بلا كراهة بل قال البلقيني: يندب له؛ لأنه من أهله وقد أتاه من غير مسألة فيعان عليه أي: كما في الحديث، نعم إن خاف على نفسه لزمه الامتناع كما في الذخائر، ورجحه الزركشي، "ويندب" له القبول و "الطلب" للقضاء حيث أمن على نفسه منه كما هو ظاهر "إن كان خاملا" أي: غير مشهور بين الناس بعلم "يرجو به نشر العلم" ونفع الناس به "أو" كان غير الخامل "محتاجا إلى الرزق" من بيت المال على الولاية، وكذا إن ضاعت حقوق الناس بتولية جاهل، أو ظالم فقصد بطلبه، أو قبوله تداركها "وإلا" يوجد أحد هذه الأسباب الثلاثة "فالأولى تركه" أي: الطلب كالقبول لما فيه من الخطر من غير حاجة وهذا هو سبب امتناع أكثر السلف الصالح منه "قلت: ويكره" له الطلب، والقبول "على الصحيح والله أعلم"؛ لورود نهي مخصوص فيه وعليه حملت الأخبار المحذرة منه كالخبر الحسن: "من تولى القضاء فقد ذبح بغير سكين"، كناية عن عظيم خطره المؤدي إلى فظيع هلاكه ويصح كونه كناية عن علي رفعته بقيامه في الحق المؤدي إلى إيذاء الناس له بما هو أشد من ذلك الذبح. ويحرم الطلب على جاهل وعالم قصد انتقاما، أو ارتشاء، ويكره إن طلبه للمباهاة، والاستعلاء كذا قيل، والأوجه أنه حرام بقصد هذين أيضا هذا كله حيث لا قاضي متول، أو كان المتولي جائرا، أما صالح متول فيحرم السعي في عزله على كل أحد ولو أفضل ويفسق به الطالب ولا يؤثر بذل مال مع الطلب ممن تعين عليه، أو ندب له لكن الآخذ ظالم، فإن لم يتعين ولا ندب حرم عليه بذله ابتداء لا دواما؛ لئلا يعزل، ويسن بذله لعزل غير صالح وينفذ العزل، وإن أثم به العازل، والتولية، وإن حرم الطلب، والقبول مطلقا خشية الفتنة. "والاعتبار في التعين" السابق "وعدمه بالناحية" ويظهر ضبطها بوطنه ودون مسافة العدوى منه بناء على أنه يجب في كل مسافة عدوى نصب قاض فيجري في المتعين وغيره ما مر من أحكام التعيين وعدمه في الطلب، والقبول في وطنه ودون مسافة العدوى منه دون الزائد على ذلك؛ لأنه تعذيب لما فيه من ترك الوطن بالكلية؛ لأن عمل القضاء لا غاية له، بخلاف سائر فروض الكفايات المحوجة إلى السفر كالجهاد وتعلم العلم، نعم لو عين الإمام قاضيا وأرسله إليها لزمه الامتثال، والقبول، وإن

 

ج / 4 ص -344-        بعدت؛ لأن الإمام إذا عين أحدا لمصالح المسلمين تعين. وعلى هذا التفصيل يحمل قول الرافعي: إنما لم يكلف السفر لما فيه من التعذيب بهجر الوطن؛ إذ القضاء لا غاية له واعتراض ابن الرفعة له بقول ابن الصباغ وغيره يلزم الإمام أن يبعث قاضيا لمن ليس عندهم قاض. وقد جمع الأذرعي بنحو ما ذكرته فقال: يتعين حمل ما ذكره الرافعي عن الأئمة على وجود صالح للقضاء في البلد المبعوث إليه، أو بقربه وكلام ابن الصباغ وغيره على عكس ذلك؛ إذ لا ريب في وجوب البعث حينئذ على الإمام ووجوب امتثال أمره، وإلا وهو ما اقتضاه كلام الرافعي لزم تعطيل الحقوق في البلاد التي لا صالح فيها، ومن ثم أبطل البلقيني كلام الرافعي نقلا ودليلا، ومنه: أنه صلى الله عليه وسلم أرسل عليا إلى اليمن قاضيا وأبا موسى ومعاذا واستمر على ذلك عمل الخلفاء الراشدين ومن بعدهم.
تنبيه: المولي للقاضي الإمام أو نائبه، نعم الناحية الخارجة عن حكمه يوليه بها من يرجع أمرهم إليه اتحد، أو تعدد فإن فقد فأهل الحل، والعقد منهم كما مر، وقد يؤخذ من ذلك أن السلطان، أو نائبه لو عزل قاضيا من بلد بعيدة عنه ولم يول غيره، أو ولى من لم يصل للبلد لتعويقه في الطريق أو مات القاضي فتعطلت أمور الناس بانتظاره إن لأهل الحل، والعقد تولية من يقوم بذلك إلى حضور المتولي وينفذ حكمه ظاهرا، أو باطنا للضرورة.
"وشرط القاضي" أي: من تصح توليته للقضاء "مسلم"؛ لأن الكافر ليس أهلا للولاية ونصبه على مثله مجرد رياسة لا تقليد حكم وقضاء، ومن ثم لا يلزمون بالتحاكم عنده ولا يلزمهم حكمه إلا إن رضوا به "مكلف" لنقص غيره واشترط الماوردي زيادة عقل اكتسابي على العقل التكليفي، وقد يفهمه ما يأتي من اشتراط كونه ذا يقظة تامة "حر" كله لنقص غيره بسائر أقسامه "ذكر" فلا تولى امرأة ولو فيما تقبل فيه شهادتها ولا خنثى لخبر البخاري وغيره:
"لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة"، وصح أيضا: "هلك قوم ولوا أمرهم امرأة"، "عدل" فلا يولى فاسق؛ لعدم قبول قوله ومثله نافي الإجماع أو خبر الواحد، أو الاجتهاد ومحجور عليه بسفه "سميع" فلا يولى أصم، وهو من لا يسمع بالكلية، بخلاف من يسمع بالصياح "بصير" فلا يولى أعمى ومن يرى الشبح، ولا يميز الصورة، وإن قربت، بخلاف من يميزها إذا قربت بحيث يعرفها ولو بتكلف ومزيد تأمل، وإن عجز عن قراءة المكتوب ومن يبصر نهارا فقط وبحث الأذرعي منع عكسه وفي إطلاقهما نظر. والذي يتجه أنه متى كان في زمن يوجد فيه ضابط البصير الذي تصح توليته وفي غيره لا يوجد فيه ذلك واطردت عادته بذلك صحت توليته في الأول دون الثاني فلا يدخل تبعا للأول بل يتجه في بصير عرض له نحو رمد صيره لا يميز إلا بنحو الصوت أنه لا يصح قضاؤه فيه وظاهر أنه لا ينعزل به لقرب زواله مع كمال من طرأ له واختير صحة ولاية الأعمى؛ لأنه صلى الله عليه وسلم استخلف ابن أم مكتوم على الصلاة وغيرها من أمور المدينة رواه الطبراني، ويجاب بعد تسليم صحة ورود العموم الذي فيه باحتمال أنه استخلفه للنظر في أمورها العامة من الحراسة وما يتعلق بها لا في خصوص الحكم الذي الكلام فيه "ناطق" فلا يولى أخرس، وإن فهم إشارته كل أحد لعجزه عن تنفيذ الأحكام كسابقيه "كاف" للقيام بمنصب القضاء

 

ج / 4 ص -345-        بأن يكون ذا نهضة ويقظة تامة وقوة على تنفيذ الحق فلا يولى مغفل ومختل نظر بكبر، أو مرض وجبان ضعيف النفس وفي الروضة يندب ذو حلم وتثبت ولين وفطنة وتيقظ وصحة حواس وأعضاء. وعده الفطنة، والتيقظ لا ينافي ما قلناه في اليقظة التامة؛ لأن القصد منها أن يخرج عن التغفل واختلال الرأي كما تقرر، ومنها زيادة على ذلك بحيث يرجع إليه العقلاء في رأيه وتدبيره، "مجتهد" فلا يصح تولية جاهل ومقلد، وإن حفظ مذهب إمامه لعجزه عن إدراك غوامضه وتقرير أدلته؛ إذ لا يحيط بهما إلا مجتهد مطلق قيل كان ينبغي أن يقول: إسلام إلى آخره، أو كونه مسلما إلى آخره؛ لأن الشرط المعنى المصدري لا الشخص نفسه. ا هـ. ويرد بوضوح أن المراد بتلك الصيغ ما أشعرت به من الوصف وأفهم كلامه أنه لا يشترط كونه كاتبا واشترطه جمع واختير فعلى الأول يتأكد ندب ذلك، ولا كونه عارفا بالحساب المحتاج إليه في تصحيح المسائل الحسابية لكنه صحح في المجموع اشتراطه في المفتي فالقاضي أولى؛ لأنه مفت وزيادة وبه يندفع تصويب ابن الرفعة خلافه، وقد يجمع بحمل الاشتراط على المسائل الغالب وقوعها وعدمه على ضدها ووجهه أن رجوعه لغيره في تلك يشق على الخصوم مشقة لا تحتمل بخلافه في هذه، ولا معرفته بلغة أهل ولايته أي: وعكسه ومحلهما إن كان ثم عدل يعرفه بلغتهم، ويعرفهم بلغته كما هو واضح. وقياس ما مر في العقود أن المدار فيها على ما في نفس الأمر لا على ما في ظن المكلف أنه لو ولى من لم يعلم اجتماع تلك الشروط فيه ثم بانت فيه صحت توليته فقول جمع لا يصح: الظاهر أنه ضعيف وللمولي إن لم يعلم أن يعتمد في الصالح على شهادة عدلين عارفين بما ذكر، ويسن له اختباره ليزداد فيه بصيرة. "وهو" أي: المجتهد "من يعرف من الكتاب، والسنة ما يتعلق بالأحكام" وإن لم يحفظ ذلك عن ظهر قلب ولا ينحصر في خمسمائة آية ولا خمسمائة حديث خلافا لزاعميهما، أما الأول؛ فلأنها تستنبط حتى من آي القصص، والمواعظ وغيرهما وأما الثاني؛ فلأن المشاهدة قاضية ببطلانه، فإن أراد قائله الحصر في الأحاديث الصحيحة السالمة من طعن في سند، أو نحوه، أو الأحكام الخفية الاجتهادية كان له نوع من القرب على أن قول ابن الجوزي أنها ثلاثة آلاف وخمسمائة مردود بأن غالب الأحاديث لا يكاد يخلو عن حكم، أو أدب شرعي، أو سياسة دينية ويكفي اعتماده فيها على أصل مصحح عنده يجمع غالب أحاديث الأحكام كسنن أبي داود أي: مع معرفة اصطلاحه وما للناس فيه من نقد، ورد فيما يظهر "وعامه" راجع لما مطلقا، أو الذي أريد به العموم "وخاصه" مطلقا، أو الذي أريد به الخصوص ومطلقه ومقيده "ومجمله ومبينة وناسخه ومنسوخه"، والنص، والظاهر، والمحكم "ومتواتر السنة وغيره"، وهو آحادها؛ إذ لا يتمكن من الترجيح عند تعارضها إلا بمعرفة ذلك "و" الحديث "المتصل" باتصال رواته إلى الصحابي فقط، ويسمى الموقوف، أو إليه صلى الله عليه وسلم، ويسمى المرفوع "والمرسل"، وهو ما يسقط فيه الصحابي ويصح أن يراد به ما يشمل المعضل أو المنقطع بدليل مقابلته بالمتصل "وحال الرواة قوة وضعفا"؛ لأنه بذلك يتوصل إلى تقرير الأحكام، نعم ما تواتر ناقلوه، أو أجمع السلف على قبوله لا يبحث عن عدالة ناقليه وله الاكتفاء بتعديل إمام

 

ج / 4 ص -346-        عرف صحة مذهبه في الجرح، والتعديل، "ولسان العرب لغة، ونحوا" وصرفا وبلاغة؛ إذ لا بد منها في فهم الكتاب، والسنة "وأقوال العلماء من الصحابة فمن بعدهم إجماعا واختلافا" لا في كل مسألة بل في المسألة التي يريد النظر فيها بأن يعلم أن قوله فيها لا يخالف إجماعا ولو بأن يغلب على ظنه أنها مولدة لم يتكلم فيها الأولون، وكذا يقال في معرفة الناسخ، والمنسوخ "والقياس بأنواعه" من جلي، وهو ما يقطع فيه بنفي الفارق كقياس ضرب الوالد على تأفيفه، أو مساو، وهو ما يبعد فيه الفارق كقياس إحراق مال اليتيم على أكله، أو أدون، وهو ما لا يبعد فيه ذلك كقياس التفاح على البر في الربا بجامع الطعم صحة وفسادا وجلاء وخفاء وطرق استخراج العلل، والاستنباط ولا يشترط نهايته في كل ما ذكر بل تكفي الدرجة الوسطى في ذلك مع الاعتقاد الجازم، وإن لم يحسن قوانين علم الكلام المدونة الآن قال ابن الصلاح: وهذا سهل الآن لتدوين العلوم وضبط قوانينها واجتماع ذلك كله إنما هو شرط للمجتهد المطلق الذي يفتي في جميع أبواب الفقه، أما مقيد لا يعدو مذهب إمام خاص فليس عليه غير معرفة قواعد إمامه. وليراع فيها ما يراعيه المطلق في قوانين الشرع فإنه مع المجتهد كالمجتهد مع نصوص الشرع، ومن ثم لم يكن له العدول عن نص إمامه كما لا يجوز الاجتهاد مع النص قال ابن دقيق العيد: لا يخلو العصر عن مجتهد إلا إذا تداعى الزمان وقربت الساعة. وأما قول الغزالي كالقفال: إن العصر خلا عن المجتهد المستقل فالظاهر أن المراد مجتهد قائم بالقضاء لرغبة العلماء عنه وكيف يمكن القضاء على الأعصار بخلوها عنه والقفال نفسه كان يقول: لسائله في مسائل الصبرة تسألني عن مذهب الشافعي أم عما عندي ؟ وقال هو وآخرون منهم تلميذه القاضي حسين: لسنا مقلدين للشافعي بل وافق رأينا رأيه قال ابن الرفعة: ولا يختلف اثنان أن ابن عبد السلام وتلميذه ابن دقيق العيد بلغا رتبة الاجتهاد وقال ابن الصلاح إمام الحرمين والغزالي والشيرازي من الأئمة المجتهدين في المذهب. ا هـ. ووافقه الشيخان فأقاما كالغزالي احتمالات الإمام وجوها. وخالف في ذلك ابن الرفعة فقال في موضع من المطلب: احتمالات الإمام لا تعد وجوها وفي موضع آخر منه الغزالي ليس من أصحاب الوجوه بل، ولا إمامه والذي يتجه أن هؤلاء، وإن ثبت لهم الاجتهاد فالمراد به التأهل له مطلقا، أو في بعض المسائل؛ إذ الأصح جواز تجزيه، أما حقيقته بالفعل في سائر الأبواب فلم يحفظ ذلك من قريب عصر الشافعي إلى الآن كيف وهو متوقف على تأسيس قواعد أصولية وحديثية وغيرهما يخرج عليها استنباطاته وتفريعاته وهذا التأسيس هو الذي أعجز الناس عن بلوغ حقيقة مرتبة الاجتهاد المطلق ولا يغني عنه بلوغ الدرجة الوسطى فيما سبق فإن أدون أصحابنا ومن بعدهم بلغ ذلك ولم يحصل له مرتبة الاجتهاد المذهبي فضلا عن الاجتهاد النسبي فضلا عن الاجتهاد المطلق.
فروع في التقليد يضطر إليها مع كثرة الخلاف فيها وحاصل المعتمد من ذلك أنه يجوز تقليد كل من الأئمة الأربعة، وكذا من عداهم ممن حفظ مذهبه في تلك المسألة ودون حتى عرفت شروطه وسائر معتبراته فالإجماع الذي نقله غير واحد على منع تقليد الصحابة

 

ج / 4 ص -347-        يحمل على ما فقد فيه شرط من ذلك ويشترط لصحة التقليد أيضا أن لا يكون مما ينقض فيه قضاء القاضي هذا بالنسبة لعمل نفسه لا لإفتاء، أو قضاء فيمتنع تقليد غير الأربعة فيه إجماعا كما يعلم مما يأتي؛ لأنه محض تشبه وتغرير، ومن ثم قال السبكي: إذا قصد به المفتي مصلحة دينية جاز أي: مع تبيينه للمستفتي قائل ذلك. وعلى ما اختل فيه شرط مما ذكر يحمل قول السبكي: ما خالف الأربعة كمخالف الإجماع. ويشترط أيضا اعتقاد أرجحية مقلده، أو مساواته لغيره لكن المشهور الذي رجحاه جواز تقليد المفضول مع وجود الفاضل، ولا ينافي ذلك كونه عاميا جاهلا بالأدلة؛ لأن الاعتقاد لا يتوقف على الدليل لحصوله بالتسامح ونحوه قال الهروي: مذهب أصحابنا أن العامي لا مذهب له أي: معين يلزمه البقاء عليه وحيث اختلف عليه متبحران أي: في مذهب إمامه فكاختلاف المجتهدين. ا هـ. وقضيته جواز تقليد المفضول من أصحاب الأوجه مع وجود أفضل منه، لكن في الروضة ليس لمفت وعامل على مذهبنا في مسألة ذات قولين، أو وجهين أن يعتمد أحدهما بلا نظر فيه بلا خلاف بل يبحث عن أرجحهما بنحو تأخره إن كانا لواحد. ا هـ. ونقل ابن الصلاح فيه الإجماع لكن حمله بعضهم على المفتي، والقاضي؛ لما مر من جواز تقليد غير الأئمة الأربعة بشرطه وفيه نظر؛ لأنه صرح بمساواة العامل للمفتي في ذلك فالوجه حمله على عامل متأهل للنظر في الدليل وعلم الراجح من غيره فلا ينافي ما مر عن الهروي وما يأتي عن فتاوى السبكي؛ لأنه في عامي لا يتأهل لذلك. وإطلاق ابن عبد السلام أن من لإمامه في مسألة قولان له تقليده في أيهما أحب يرده ما تقرر وما مر في شرح الخطبة وما في الروضة من الوجهين مفروض كما ترى فيما إذا كانا لواحد، وإلا تخير لتضمن ذلك ترجيح كل منهما من قائله الأهل كما اقتضاه قوله أيضا: اختلاف المتبحرين كاختلاف المجتهدين في الفتوى. وقد سبق أن الأرجح التخيير فيهما في العمل ومما يصرح بجواز تقليد المرجوح قول البلقيني في مقلد مصحح الدور في السريجية لا يأثم، وإن كنت لا أفتي بصحته؛ لأن الفروع الاجتهادية لا يعاقب عليها. ولا ينافيه قول ابن عبد السلام: يمتنع التقليد في هذه؛ لأنه مبني على قوله فيها: ينقض قضاء القاضي بصحة الدور. ومر أن ما ينقض لا يقلد. والحاصل أن من ينقضه يمنع تقليده ومن لا ينقضه يجوز تقليده. وفي فتاوى السبكي يتخير العامل في القولين أي: إذا لم يتأهل للعلم بأرجحهما كما مر، ولا وجد من يخبره به، لكن مر في شرح الخطبة عنه وعن غيره ما يخالف بعض ذلك فراجعه بخلاف الحاكم لا يجوز له الحكم بأحدهما إلا بعد علم أرجحيته، وصرح قبل ذلك بأن له العمل بالمرجوح في حق نفسه، ويشترط أيضا أن لا يتتبع الرخص بأن يأخذ من كل مذهب بالأسهل منه؛ لانحلال ربقة التكليف من عنقه حينئذ، ومن ثم كان الأوجه أنه يفسق به. وزعم أنه ينبغي تخصيصه بمن يتبع بغير تقليد يتقيد به ليس في محله؛ لأن هذا ليس من محل الخلاف بل يفسق قطعا كما هو ظاهر. وقول ابن عبد السلام للعامل أن يعمل برخص المذاهب، وإنكاره جهل لا ينافي حرمة التتبع، ولا الفسق به خلافا لمن وهم فيه؛ لأنه لم يعبر بالتتبع وليس العمل برخص المذاهب مقتضيا له لصدق الأخذ بها مع الأخذ بالعزائم أيضا وليس الكلام

 

ج / 4 ص -348-        في هذا؛ لأن من عمل بالعزائم، والرخص لا يقال فيه أنه متتبع للرخص لا سيما مع النظر لضبطهم للتتبع بما مر فتأمله. والوجه المحكي بجوازه يرده نقل ابن حزم الإجماع على منع تتبع الرخص، وكذا يرد به قول محقق الحنفية ابن الهمام: لا أدري ما يمنع ذلك من العقل، والنقل مع أنه اتباع قول مجتهد متبوع، وقد كان صلى الله عليه وسلم يحب ما خفف على أمته، والناس في عصر الصحابة ومن بعدهم يسألون من شاءوا من غير تقييد بذلك. ا هـ. وظاهره جواز التلفيق أيضا، وهو خلاف الإجماع أيضا فتفطن له ولا تغتر بمن أخذ بكلامه هذا المخالف للإجماع كما تقرر وفي الخادم عن بعض المحتاطين الأولى لمن بلي بوسواس الأخذ بالأخف، والرخص؛ لئلا يزداد فيخرج عن الشرع ولضده الأخذ بالأثقل؛ لئلا يخرج عن الإباحة. ويشترط أيضا أن لا يلفق بين قولين يتولد منهما حقيقة مركبة لا يقول بها كل منهما وأن لا يعمل بقول في مسألة، ثم بضده في عينها كما مر بسط ذلك في شرح الخطبة مع بيان حكاية الآمدي الاتفاق على المنع بعد العمل. ونقل غير واحد عن ابن الحاجب مثله فيه تجوز، وإن جريت عليه ثم فإنه إنما نقل ذلك في عامي لم يلتزم مذهبا قال: فإن التزم معينا فخلاف، وكذا صرح بالخلاف مطلقا القرافي وقيل: ولعل المراد بالاتفاق اتفاق الأصوليين لا الفقهاء فقد جوز ابن عبد السلام الانتقال عمل بالأول أو لا وأطلق الأئمة جواز الانتقال. وقد أخذ الإسنوي من المجموع وتبعوه أن إطلاقات الأئمة إذا تناولت شيئا، ثم صرح بعضهم بما يخالف فيه فالمعتمد الأخذ فيه بإطلاقهم.
فائدة: من ارتكب ما اختلف في حرمته من غير تقليد أثم بترك تعلم أمكنه، وكذا بالفعل إن كان مما لا يعذر أحد بجهله لمزيد شهرته قيل: وكذا إن علم أنه قيل بتحريمه لا إن جهل؛ لأنه إذا خفي على بعض المجتهدين فعليه أولى، أما إذا عجز عن التعلم ولو لنقلة، أو اضطرار إلى تحصيل ما يسد رمقه، أو رمق ممونه فيرتفع تكليفه كما قبل ورود الشرع قاله المصنف كابن الصلاح. ومن أدى عبادة مختلفا في صحتها من غير تقليد للقائل بها لزمه إعادتها؛ لأن إقدامه على فعلها عبث وبه يعلم أنه حال تلبسه بها عالم بفسادها؛ إذ لا يكون عابثا إلا حينئذ فخرج من مس فرجه فنسي وصلى فله تقليد أبي حنيفة في إسقاط القضاء إن كان مذهبه صحة صلاته مع عدم تقليده له عندها، وإلا فهو عابث عنده أيضا، وكذا لمن أقدم معتقدا صحتها على مذهبه جهلا، وقد عذر به.
"فإن تعذر جمع هذه الشروط"، أو لم يتعذر كما هو ظاهر مما يأتي فذكر التعذر تصوير لا غير "فولى سلطان"، أو من "له شوكة" غيره بأن يكون بناحية انقطع غوث السلطان عنها ولم يرجعوا إلا إليه.
تنبيه: ظاهر المتن أن السلطنة لا تستلزم دوام الشوكة فلو زالت شوكة سلطان بنحو حبس، أو أسر ولم يخلع نفذت أحكامه ومر في مبحث الإمامة قبيل الردة ما له تعلق بذلك فراجعه.
"فاسقا، أو مقلدا" ولو جاهلا "نفذ قضاؤه" الموافق لمذهبه المعتد به، وإن زاد فسقه

 

ج / 4 ص -349-        "للضرورة"؛ لئلا تتعطل مصالح الناس. ونازع كثيرون فيما ذكر في الفاسق وأطالوا وصوبه الزركشي قال: لأنه لا ضرورة إليه، بخلاف المقلد. ا هـ. وهو عجيب فإن الفرض أن الإمام، أو ذا الشوكة هو الذي ولاه عالما بفسقه بل، أو غير عالم به على ما جزم به بعضهم فكيف حينئذ يفرع إلى عدم تنفيذ أحكامه المترتب عليه من الفتن ما لا يتدارك خرقه، وقد أجمعت الأمة كما قاله الأذرعي على تنفيذ أحكام الخلفاء الظلمة وأحكام من ولوه ؟ ورجح البلقيني نفوذ تولية امرأة وأعمى فيما يضبطه وقن وكافر ونازعه الأذرعي وغيره في الكافر، والأوجه ما قاله؛ لأن الغرض الاضطرار وسبقه ابن عبد السلام للمرأة وزاد أن الصبي كذلك قال الأذرعي: والقول بتنفيذ قضاء عامي محض لا ينتحل مذهبا، ولا يعول على رأي مجتهد بعيد لا أحسب أحدا يقول به. ا هـ. ولا بعد فيه إذا ولاه ذو شوكة وعجز الناس عن عزله فينفذ منه ما وافق الحق للضرورة ولو تعارض فقيه فاسق وعامي دين قدم الأول عند جمع، والثاني عند آخرين، ويتجه كما قاله الحسباني أن فسق العالم إن كان لحق الله تعالى فهو أولى، أو بالظلم، والرشا فالدين أولى، ويراجع العلماء. وخرج بقوله سلطان القاضي الأكبر فلا تنفذ توليته من ذكر أي: إلا إن كان بعلم السلطان كما هو ظاهر وتجب عليه رعاية الأمثل فالأمثل؛ رعاية لمصلحة المسلمين وما ذكر في المقلد محله إن كان ثم مجتهد، وإلا نفذت تولية المقلد ولو من غير ذي شوكة، وكذا الفاسق، فإن كان هناك عدل اشترطت شوكة، وإلا فلا كما يفيد ذلك قول ابن الرفعة الحق أنه إذا لم يكن ثم من يصلح للقضاء نفذت تولية غير الصالح قطعا. ا هـ. وبحث البلقيني ما سبقه إليه البيضاوي أن من ولاه ذو شوكة ينعزل بزوال شوكة موليه لزوال المقتضي لنفوذ قضائه أي بخلاف مقلد، أو فاسق مع فقد المجتهد، والعدل فلا تزول ولايته بذلك؛ لعدم توقفها على الشوكة كما مر وصرح جمع متأخرون بأن قاضي الضرورة، وهو من فقد فيه بعض الشروط السابقة يلزمه بيان مستنده في سائر أحكامه، ولا يقبل قوله: حكمت بكذا من غير بيان لمستنده فيه وكأنه لضعف ولايته. ومثله المحكم بل أولى، ومحله في الأول إن لم يمنع موليه من طلب بيان مستنده كما هو ظاهر. ويجوز أن يخص النساء بقاض، والرجال بقاض وبحث في الرجل، والمرأة أن العبرة بالطالب منهما، "ويندب للإمام" أي: ومن ألحق به كما هو ظاهر "إذا ولى قاضيا أن يأذن له في الاستخلاف" ليكون أسهل له وأقرب لفصل الخصومات ويتأكد ذلك عند اتساع الخطة "وإن نهاه" عنه "لم يستخلف" استخلافا عاما؛ لأنه لم يرض بنظر غيره ولو فوض له حينئذ ما لا يمكنه القيام به نفذ فيما يمكنه، ولا يستخلف على المعتمد وظاهر أنه في بلدتين متباعدتين كبغداد، والبصرة ولاه إياهما له كما صرح به الماوردي أن يختار مباشرة القضاء في إحداهما واعترضه البلقيني بما فيه نظر. وعند اختياره إحداهما هل يكون ذلك مقتضيا لانعزاله عن الأخرى، أو يباشر كلا مدة ؟ وجهان. ورجح الزركشي وجمع أن التدريس بمدرستين في بلدتين متباعدتين ليس كذلك؛ لأن غيبته عن إحداهما لمباشرة الأخرى ليست عذرا، ورجح آخرون الجواز ويستنيب وفعله الفخر بن عساكر بالشام، والقدس، أما الخاص كتحليف وسماع بينة فقضية كلام الأكثرين منعه أيضا، وقال جمع

 

ج / 4 ص -350-        متقدمون: يجوز واختاره الأذرعي إلا أن ينص على المنع منه، نعم التزويج، والنظر في أمر اليتيم ممتنع حتى عند هؤلاء كالعام. "وإن أطلق" الاستخلاف استخلف مطلقا، أو التولية فيما لا يقدر إلا على بعضه "استخلف" "فيما لا يقدر عليه" لحاجته إليه "لا غيره في الأصح" تحكيما لقرينة الحال ولو طرأ عدم القدرة بعد التولية لنحو مرض، أو سفر استخلف جزما. قال الأذرعي: إلا إن نهي عنه ونظر فيه الغزي بأنه عجز عن المباشرة، والإنسان لا يخلو عن ذلك غالبا فليكن مستثنى من النهي عن النيابة وينبغي حمل الأول على ما إذا نهي عنه حتى للعذر، والثاني على ما إذا أطلق النهي عنه وظاهر قول المتن فيما لا يقدر عليه أن له الاستخلاف خارج محل ولايته وبه اغتر بعضهم لكن يأتي رده في شرح قوله كمعزول المبين لما هنا "وشرط المستخلف" بفتح اللام "كالقاضي"؛ لأنه قاض "إلا أن يستخلف في أمر خاص كسماع بينة" وتحليف "فيكفي علمه بما يتعلق به" من شرط البينة، أو التحليف مثلا ولو عن تقليد، ومن ذلك نائب القاضي في القرى إذا فوض له سماع البينة فقط يكفيه العلم بشروطها ولو عن تقليد كما قالاه وليس مثله من نصب للجرح، والتعديل؛ لأنه حاكم. وله استخلاف ولده ووالده كما أن للإمام توليتهما، نعم لو فوض الإمام اختيار قاض، أو توليته لرجل لم يجز له اختيارهما؛ لأن التهمة هنا أقوى للفرق الواضح بين القاضي المستقل، والنائب في التولية وإنما لم يجز لقاض سماع شهادتهما؛ لأنه يتضمن الحكم لهما بالتعديل، ومن ثم لو ثبتت عدالتهما عند غيره جاز له سماعها قال الأذرعي: وكذا محل صحة استخلافهما إذا ظهر فيه عند الناس اجتماع الشروط. ا هـ. والذي يتجه أنه حيث صحت توليته وحمدت سيرته جاز له توليتهما إن كانا كذلك "ويحكم" الخليفة "باجتهاده، أو اجتهاد مقلده" بفتح اللام "إن كان مقلدا" وسيأتي أنه لا يجوز لغير متبحر حكم بغير معتمد مذهبه ولا لمتبحر إذا شرط عليه ذلك ولو عرفا "ولا يجوز أن يشترط عليه خلافه"؛ لأنه يعتقده غير الحق، والله تعالى إنما أمر بالحكم بالحق وقضية كلام الشيخين أن المقلد لا يحكم بغير مذهب مقلده، وقال الماوردي وغيره: يجوز وجمع الأذرعي وغيره بحمل الأول على من لم ينته لرتبة الاجتهاد في مذهب إمامه، وهو المقلد الصرف الذي لم يتأهل لنظر، ولا ترجيح والثاني على من له أهلية ذلك، ومنع ذلك الحسباني من جهة أن العرف جرى بأن تولية المقلد مشروطة بأن يحكم بمذهب مقلده وهو متجه، سواء الأهل لما ذكر وغيره لا سيما إن قال له في عقد التولية: على عادة من تقدمك؛ لأنه لم يعتد لمقلد حكم بغير مذهب إمامه. وقول جمع متقدمين: لو قلد الإمام رجلا القضاء على أن يقضي بمذهب عينه بطل التقليد يتعين فرضه في قاض مجتهد أو مقلد عين له غير مقلده مع بقاء تقليده له كما هو واضح ثم رأيت شارحا جزم بذلك قال: وهو الذي عليه العمل أنه يشترط على كل مقلد العمل بمذهب مقلده فلا يجوز له الحكم بخلافه. ا هـ. ونقل ابن الرفعة عن الأصحاب أن الحاكم المقلد إذا بان حكمه على خلاف نص مقلده نقض حكمه. وصرح ابن الصلاح كما مر بأن نص إمام المقلد في حقه كنص الشارع في حق المقلد ووافقه في الروضة وما أفهمه كلام الرافعي عن الغزالي من عدم النقض بناء على أن للمقلد تقليد من شاء وجزم به في

 

ج / 4 ص -351-        جمع الجوامع قال الأذرعي: بعيد، والوجه بل الصواب سد هذا الباب من أصله؛ لما يلزم عليه من المفاسد التي لا تحصى. ا هـ. وقال غيره: المفتي على مذهب الشافعي لا يجوز له الإفتاء بمذهب غيره ولا ينفذ منه أي: لو قضى به لتحكيم، أو تولية؛ لما تقرر عن ابن الصلاح، نعم إن انتقل لمذهب آخر بشرطه وتبحر فيه جاز له الإفتاء به.
تنبيه: قيل: منصب سماع الدعوى، والبينة، والحكم بها يختص بالقاضي دون الإمام الأعظم كما هو ظاهر الروضة في القضاء على الغائب. ورد بمنع ما ذكر وبأن مرادهم بالقاضي ما يشمله بدليل أنهم لم ينبهوا على تخالف أحكامهما إلا في بعض المسائل كانعزال القاضي بالفسق دون الإمام الأعظم ومر آخر البغاة ما له ما تعلق بذلك.
"ولو حكم خصمان" أو اثنان من غير خصومة كفي نكاح، ويؤخذ منه أن من حلف لا يكلم أباه فحكما آخر فحكم عليه بتكليمه لم يحنث؛ لأن الإكراه الشرعي كالحسي، ولا شك أن المحكم يكره، وإن لم يتصور منه نحو ضرب، ولا حبس. فإفتاء بعضهم بعدم جواز التحكيم في ذلك فيه نظر. وكأنه أخذ ذلك من أن الحاكم لا يكون حكمه إكراها إلا إن قدر حسا على إجبار الحالف. ومر ما فيه في مبحث الإكراه في الطلاق فراجعه. فإن قلت: نفوذ قضاء المحكم موقوف على رضا الحالف فكيف يتصور إكراهه له ؟ قلت ليس الكلام فيما قبل الحكم بل فيما بعده، وهو حينئذ له إكراهه على مقتضى حكمه، وإن كان متوقفا أولا على رضاه، أو حكم أكثر من اثنين "رجلا في غير حد"، أو تعزير "لله تعالى جاز مطلقا" أي: مع وجود قاض أهل وعدمه "بشرط أهلية القضاء" المطلقة لا في خصوص تلك الواقعة فقط؛ لأن ذلك وقع لجمع من الصحابة ولم ينكر مع اشتهاره فكان إجماعا. أما حد الله تعالى، أو تعزيره فلا يجوز التحكيم فيه؛ إذ لا طالب له معين، وأخذ منه أن حق الله تعالى المالي الذي لا طالب له معين لا يجوز التحكيم فيه، وأما غير الأهل فلا يجوز تحكيمه أي: مع وجود الأهل، وإلا جاز ولو في النكاح على ما مر فيه. ونوزع فيه بأنه لا ضرورة إلى تحكيمه حيث وجد قاضي ضرورة؛ لأن الضرورة تتقدر بقدرها قال البلقيني: ولا يجوز لوكيل من غير إذن موكله تحكيم، ولا لولي إن أضر بموليه وكوكيل مأذون له في التجارة وعامل قراض ومفلس إن ضر غرماءه ومكاتب إن أضر به. وتحكيم السفيه لغو ولو بإذن وليه على ما اقتضاه إطلاق بعضهم وفيه نظر. "وفي قول لا يجوز" التحكيم؛ لما فيه من الافتيات على الإمام ونوابه، ويجاب بأنه ليس له حبس، ولا ترسيم ولا استيفاء عقوبة آدمي ثبت موجبها عنده؛ لئلا تخرق أبهتهم فلا افتيات "وقيل": إنما يجوز "بشرط عدم قاض في البلد" للضرورة "وقيل: يختص" الجواز "بمال دون قصاص ونكاح ونحوهما" كلعان وحد قذف. "ولا ينفذ حكمه إلا على راض" لفظا لا سكوتا فيما يظهر، ويعتبر رضا الزوجين معا في النكاح، نعم يكفي سكوت البكر إذا استؤذنت في التحكيم "به" أي: بحكمه الذي سيحكم به من ابتداء التحكيم إلى صب الحكم؛ لأنه المثبت للولاية، نعم إن كان أحد الخصمين القاضي الذي له الاستخلاف واستمر رضاه لم يؤثر عدم رضا خصمه؛ لأن المحكم نائبه. وقول ابن الرفعة نقلا عن جمع: التحاكم لشخص ليس

 

ج / 4 ص -352-        تولية له ينبغي حمله على ما إذا لم يجر غير الرضا وحمل الأول على ما إذا انضم له لفظ يفيد التفويض كاحكم بيننا مثلا، ثم رأيت الماوردي ذكره حيث قال: إذا تحاكم الإمام وخصمه لبعض الرعية ولم يقلده خصوص النظر اشترط رضا الخصم ولو كان أحدهما بعضه، أو عدوه نفذ حكمه على بعضه ولعدوه؛ لعدم التهمة دون عكسه على الأوجه لوجودها مع عدم القدرة على رده؛ لأنه لا يفيد بعد الحكم وكونه رضي به أولا قد يكون لظن عدم التهمة. وللمحكم أن يحكم بعلمه كما شمله كلامهم خلافا لمن نازع فيه؛ إذ لا وجه لمنعه منه نعم الوجه أنه لا بد من بيان مستنده كما مر وكونه مشهور الديانة، والصيانة وإذا اشترط رضا المحكوم عليه. "فلا يكفي رضا قاتل في ضرب دية على عاقلته" بل لا بد من رضاهم؛ لأنهم لا يؤاخذون بإقراره فكيف برضاه، "فإن رجع أحدهما قبل الحكم" ولو بعد استيفاء شروط البينة. "امتنع الحكم"؛ لعدم استمرار الرضا "ولا يشترط الرضا بعد الحكم في الأظهر" كحكم المولى من جهة الإمام، ولا ينقض حكمه إلا حيث ينقض حكم القاضي، وله أن يشهد على إثباته وحكمه في مجلسه خاصة لانعزاله بالتفرق، وإذا تولى القضاء بعد سماع بينة حكم بها بعده من غير إعادتها "ولو نصب" الإمام، أو نائبه "قاضيين"، أو أكثر "ببلد وخص كلا بمكان" منه "أو زمن، أو نوع" كأن جعل أحدهما يحكم في الأموال، أو بين الرجال، والآخر في الدماء، أو بين النساء "جاز"؛ لعدم المنازعة بينهما، فإن كان رجل وامرأة وليس ثم إلا قاضي رجال، أو قاضي نساء لم يحكم بينهما، بخلاف ما إذا وجدا؛ فإن العبرة بالطالب على ما مر ", وكذا إن لم يخص في الأصح" كنصب الوصيين، والوكيلين في شيء. وإذا كان في بلدة قاضيان، فإن كان أحدهما أصلا أجيب داعيه، وإلا فمن سبق داعيه، فإن جاءا معا أقرع، فإن تنازعا في اختيارهما أجيب المدعي، فإن كان كل طالبا ومطلوبا كأن اختلفا فيما يقتضي تحالفا فأقربهما وإلا فالقرعة. وقضية المتن أنه حيث لم يشرط اجتماعا ولا استقلالا حمل على الاستقلال وفارق نظيره في الوصيين بأن الاجتماع هنا ممتنع فلم يحمل عليه تصحيحا للكلام ما أمكن، والاجتماع ثم جائز فحمل عليه؛ لأنه أحوط "إلا أن يشرط اجتماعهما على الحكم" فلا يجوز قطعا؛ لاختلاف اجتهادهما غالبا فلا تنفصل الخصومات. وقضيته أنهما لو كانا مقلدين لإمام واحد، ولا أهلية لهما في نظر، ولا ترجيح، أو شرط اجتماعهما على المسائل المتفق عليها صح شرط اجتماعهما؛ لأنه لا يؤدي إلى تخالف اجتهاد ولا ترجيح ولو حكما اثنين اشترط اجتماعهما، بخلاف ما ذكر في القاضيين لظهور الفرق قاله في المطلب.
فرع: يشترط تعيين ما يولى فيه، نعم إن اطرد عرف بتبعية بلاد لبلاد في توليتها دخلت تبعا لها ويستفيد بتولية القضاء العام سائر الولايات وأمور الناس حتى نحو زكاة وحسبة لم يفوضا لغيره، والأوجه في "احكم بين الناس" أنه خاص بالحكم لا يتجاوز لغيره، ويفرق بينه وبين "وليتك القضاء" بأنه في هذا التركيب بمعنى إمضاء الأمور وسائر تصرفات القاضي فيها إمضاء، بخلاف الحكم.

 

ج / 4 ص -353-        فصل فيما يقتضي انعزال القاضي، أو عزله وما يذكر معه
إذا "جن قاض أو أغمي عليه" ولو لحظة خلافا للشارح وإنما استثنى في نحو الشريك مقدار ما بين صلاتين كما مر؛ لأنه يحتاط هنا ما لا يحتاط ثم، أو مرض مرضا لا يرجى زواله، وقد عجز معه عن الحكم "أو عمي"، أو صار كالأعمى كما عرف مما مر في قوله: بصير "أو ذهبت أهلية اجتهاده" المطلق، أو المقيد بنحو غفلة "و" كذا إن لم يكن مجتهدا، وصححنا ولايته فذهب "ضبطه بغفلة، أو نسيان" بحيث إذا نبه لا ينتبه "لا ينفذ حكمه" لانعزاله بذلك، وكذا إن خرس، أو صم. وخالف ابن أبي عصرون في العمى وصنف فيه لما عمي محتجا بأنه لا يقدح في النبوة التي هي أعلى من القضاء وأخذ منه الأذرعي اختياره أن الإغماء لا يؤثر؛ لأنه مرض لا يقدح في النبوة أيضا ومما يرد عليهما أن الملحظ هنا غيره ثم كما هو واضح. ثم رأيته في القوت أشار لهذا على أنه لم يثبت عمى نبي كما حقق في موضعه. ومر رد الاستدلال بقصة ابن أم مكتوم ولو عمي بعد ثبوت أمر عنده ولم يبق إلا الحكم الذي لا يحتاج معه إلى إشارة نفذ حكمه به. "وكذا لو فسق" أو زاد فسق من لم يعلم موليه بفسقه الأصلي، أو الزائد حال توليته كما هو ظاهر فلا ينفذ حكمه "في الأصح" لوجود المنافي هذا إن قلنا: لا ينعزل بالفسق وإلا لم ينفذ جزما، وبهذا يندفع ما أورد عليه من التكرار فإنه إنما ذكره في الوصية بالنسبة للانعزال لا لنفوذ الحكم. ولا نظر لفهم أن المراد بعدم النفوذ عدم الولاية من قوله: "فإن زالت هذه الأحوال لم تعد ولايته في الأصح" إلا بتولية جديدة كالوكالة ولأن ما بطل لا يعود إلا بتجديد عقده "وللإمام" أي: يجوز له "عزل قاض" لم يتعين "ظهر منه خلل" لا يقتضي انعزاله ككثرة الشكاوى منه أو ظن أنه ضعف، أو زالت هيبته في القلوب وذلك؛ لما فيه من الاحتياط، أما ظهور ما يقتضي انعزاله، فإن ثبت انعزل ولم يحتج لعزل، وإن ظن بقرائن فيحتمل أنه كالأول، ويحتمل فيه ندب عزله. وإطلاق ابن عبد السلام وجوب صرفه عند كثرة الشكاوى منه اختيار له "أو لم يظهر" منه خلل "وهناك أفضل منه" فله عزله من غير قيد مما يأتي في المثل؛ رعاية للأصلح للمسلمين، ولا يجب وإن قلنا: إن ولاية المفضول لا تنعقد مع وجود الفاضل؛ لأن الفرض حدوث الأفضل بعد الولاية فلم يقدح فيها "أو" هناك "مثله"، أو دونه "وفي عزله به مصلحة كتسكين فتنة"؛ لما فيه من المصلحة للمسلمين "وإلا" يكن فيه مصلحة "فلا" يجوز عزله؛ لأنه عبث وتصرف الإمام يصان عنه. واستغنى بذكر المصلحة عن قول أصله معها: وليس في عزله فتنة؛ لأنه لا تتم المصلحة إلا إذا انتفت الفتنة و به يندفع قول شارح: لا يغني عنه فقد يكون الشيء مصلحة من وجه ومفسدة من جهة أخرى. "لكن" مع الإثم على المولي، والمتولي "ينفذ العزل في الأصح" لطاعة السلطان، أما إذا تعين بأن لم يكن ثم من يصلح غيره فيحرم على موليه عزله، ولا ينفذ، وكذا عزله لنفسه حينئذ بخلافه في غير هذه الحالة ينفذ عزله لنفسه، وإن لم يعلم موليه خلافا للماوردي كالوكيل. وللمستخلف عزل خليفته ولو بلا موجب ولو ولي آخر ولم يتعرض للأول، ولا ظن نحو موته لم ينعزل على المعتمد،

 

ج / 4 ص -354-        نعم إن اطردت العادة بأن مثل ذلك المحل ليس فيه إلا قاض واحد احتمل الانعزال حينئذ. "والمذهب أنه لا ينعزل قبل بلوغه خبر عزله" لعظم الضرر في نقض أقضيته لو انعزل. ومر الفرق بينه وبين الوكيل في بابه. ومن علم عزله لم ينفذ حكمه له إلا إن يرضى بحكمه فيما يجوز التحكيم فيه لعلمه أنه غير حاكم باطنا ذكره الماوردي. وإنما يتجه إن صح ما قاله أنه غير حاكم باطنا، أما على ما اقتضاه كلامهم أنه قبل أن يبلغه خبر عزله باق على ولايته ظاهرا وباطنا فلا يصح ما قاله؛ ألا ترى أنه لو تصرف بعد العزل وقبل بلوغ الخبر بتزويج من لا ولي لها مثلا لم يلزم الزوج باطنا ولا ظاهرا انعزالها، فإن قلت: الماوردي يخص عدم نفوذه باطنا بحالة علم الخصم لا مطلقا قلت: هو حينئذ بالتحكم أشبه فلا يقبل؛ لما تقرر أن من بلغه ذلك معتقده أن ولايته باقية قبل بلوغه هو خبر العزل. وبحث الأذرعي الاكتفاء في العزل بخبر واحد مقبول الرواية، والقياس ما قاله الزركشي أنه لا بد من عدلي الشهادة، أو الاستفاضة كالتولية. لا يقال يتعين على من علم عزله، أو ظنه أن يعمل باطنا بمقتضى علمه أو ظنه كما هو قياس نظائره؛ لأنا نقول: إنما يتجه ذلك إن قلنا بعزله باطنا قبل أن يبلغه خبره، وقد تقرر أن الوجه خلافه. ولا يكفي كتاب مجرد، وإن حفته قرائن يبعد التزوير بمثلها كما يصرح به كلامهم، ولا قول إنسان: وليت، نعم الوجه أنه إن صدقه المدعي و المدعى عليه نفذ حكمه لهما وعليهما كالمحكم بل أولى، بخلاف ما إذا صدقه أحدهما، أو صدقه أهل الحل، والعقد؛ لأن تصديقهم لا يثبت تولية عامة بخلاف توليتهم فيما قدمته قبيل قوله: وشرط القاضي؛ لأن ذاك جوزت للضرورة فتقدرت بقدرها ولزم عمومها، ولا كذلك مجرد تصديقهم له. وعلى هذا التفصيل يحمل اختلافهم في أن التصديق هل يفيد أولا بحث البلقيني أنه إذا انعزل لم تنعزل نوابه حتى يبلغهم خبر عزله كما ذكروا أنه يستحق معلومه؛ لأن بقاء نوابه كبقائه، وأن نائبه إذا بلغه خبر عزل أصله لم ينعزل لبقاء ولاية أصله ونظر فيه غير واحد، والنظر في الثانية واضح؛ لأن القياس يقتضي انعزالهم وإنما اغتفر للضرورة فليتقدر بقدرها في عدم انعزالهم بالنسبة للأحكام لا بالنسبة لبقاء ولايته ببقاء ولايتهم، وفي الثالثة إنما يتجه على ما قدمناه لا على ما مر عن الماوردي. ويظهر أن العبرة في بلوغ خبر العزل للنائب بمذهبه لا بمذهب منوبه، "وإذا كتب الإمام إليه إذا قرأت كتابي فأنت معزول فقرأه" أو طالعه وفهم ما فيه، وإن لم يتلفظ به، والمراد سطر العزل نظير ما مر في الطلاق "انعزل" لوجود الشرط "وكذا إن قرئ عليه"، وإن كان قارئا "في الأصح"؛ لأن القصد إعلامه بالعزل لا قراءته وفارق ما مر في نظيره في الطلاق بأن عادة الحكام أن يقرأ عليهم فليس النظر إلا على وصول خبر العزل إليهم، بخلاف المرأة القارئة "وينعزل بموته وانعزاله من أذن له في شغل معين كبيع مال ميت" أو غائب وكسماع شهادة في معين كالوكيل "والأصح انعزال نائبه" أي: القاضي ولو قاضي الإقليم على المنقول. وقول القاضي قضاة والي الإقليم كقضاة الإمام محله كما قاله الحسباني إذا صرح له الإمام بذلك أي: التولية عنه، أو اقتضاه العرف "المطلق إن لم يؤذن له في الاستخلاف"؛ لأن القصد باستنابته معاونته، وقد زالت "أو" إن "قيل له" من جهة موليه: "استخلف عنك" لما ذكر "أو أطلق" لظهور
ِ

 

ج / 4 ص -355-        غرض المعاونة حينئذ وبه فارق ما مر في نظيره من الوكالة؛ لأن الغرض ثم ليس معاونة الوكيل بل النظر في حق الموكل فحمل الإطلاق على إرادته، نعم إن عين له الخليفة كان قاطعا لنظره فيكون كما في قول "فإن قال" له موليه "استخلف عني فلا" ينعزل الخليفة بموته؛ لأنه ليس نائبه "ولا ينعزل قاض" غير قاضي ضرورة، ولا قاضي ضرورة إذا لم يوجد مجتهد صالح، ولا من ولايته عامة كنظر بيت المال، والجيش، والحسبة، والأوقاف "بموت الإمام" الأعظم ولا بانعزاله؛ لعظم الضرر بتعطيل الحوادث، ومن ثم لو ولاه للحكم بينه وبين خصمه انعزل بفراغه منه ولأن الإمام إنما يولي القضاة نيابة عن المسلمين، بخلاف تولية القاضي لنوابه فإنه عن نفسه، ومن ثم كان له عزلهم بغير موجب كما مر، بخلاف الإمام يحرم عليه إلا بموجب وزعم بعضهم أن ناظر بيت المال كالوكيل غلط كما قاله الأذرعي. وبحث البلقيني أن قاضي الضرورة حيث انعزل استرد منه ما أخذه على القضاء. ونظر الأوقاف لا يوافق ما مر من صحة توليته. وبحث غيره أنه لا ينعزل بوجود مجتهد صالح إلا إن رجي توليته وإلا فلا فائدة في انعزاله.
تنبيه: العادة في الأزمنة السابقة أن تولية الخليفة العباسي للسلطان، ثم السلطان يستقل بتولية القضاة وغيرها فهل حينئذ ينعزل القضاة بموت السلطان؛ لأنه نائب أو لا؛ لأنه مستقل وفي روضة شريح إذا مات الخليفة فهل ينعزل قضاته ؟ وجهان، فإن قلنا ينعزلون فلو مات السلطان هل تنعزل القضاة ؟ وجهان ثانيهما لا؛ لأنهم قضاة الخليفة؛ لأنه نائب عنه. ا هـ. قال الزركشي: ويشبه أن يأتي فيه ما مر من الإذن في الاستخلاف عنه، أو عن الإمام أي: الخليفة، أو يطلق. ا هـ. وأقول في هذا كله نظر، والوجه بناؤه على ما مر آخر البغاة مع بسطه أن الخليفة إذا ضعف بحيث زالت شوكته بالكلية ولم يبق له إلا رسم التولية بإذنه تبركا به؛ إذ لو امتنع منه أجبروه عليه، أو أتوا بغيره من بني عمه وولوه، ثم يولي السلطان كما وقع نظائر لذلك، فإن قلنا ببقاء عموم ولايته مع ضعفه فالسلطان نائبه. ويأتي ذلك التفصيل الذي ذكره الزركشي، أو بعدم بقائها فالقضاة نواب السلطان لا غير.
"ولا" ينعزل "ناظر يتيم" ومسجد "ووقف بموت قاض" نصبهم، وكذا بانعزاله؛ لئلا تختل المصالح، نعم لو شرط النظر لحاكم المسلمين انعزل كما بحثه الأذرعي وغيره بتولية قاض جديد لصيرورة النظر إليه بشرط الواقف، "ولا يقبل قوله"، وإن كان انعزاله بالعمى فيما يظهر خلافا للبلقيني "بعد انعزاله"، ولا قول المحكم بعد مفارقة مجلس حكمه: "حكمت بكذا"؛ لأنه لا يملك إنشاء الحكم حينئذ "فإن شهد" وحده "أو مع آخر بحكمه لم يقبل على الصحيح"؛ لأنه يشهد بفعل نفسه. وفارق المرضعة بأن فعلها غير مقصود بالإثبات مع أن شهادتها لا تتضمن تزكية نفسها بخلاف الحاكم فيها وخرج بحكمه شهادته بإقرار صدر في مجلسه فيقبل جزما "أو" شهد "بحكم حاكم جائز الحكم" ظاهره أنه لا بد منه ويوجه بأن حذفه موهم لاحتماله حاكما لا يجوز حكمه كحاكم الشرطة مثلا فقول شارح: إنه تأكيد؛ إذ الحاكم هو جائز الحكم فيه نظر بل الأوجه ما ذكرته. ومن عبر بقاض لم يحتج لذلك، فإن قلت: سيأتي أن إطلاق الشاهد لا يجوز على ما فيه؛ لأن مذهب القاضي قد

 

ج / 4 ص -356-        يخالف مذهبه فكيف اكتفى بقوله هنا جائز الحكم ؟ قلت إنما لم ينظروا لذلك هنا لقلة الخلاف فيه "قبلت" شهادته "في الأصح" لانتفاء الشهادة بفعل نفسه واحتمال المبطل لا أثر له، ومن ثم لو علم أنه حكمه لم يقبله. وقد يشكل عليه ما في فتاوى البغوي اشترى شيئا فغصبه منه غاصب فادعى عليه به وشهد له البائع بالملك مطلقا قبلت شهادته، وإن علم القاضي أنه البائع له كمن رأى عينا في يد شخص يتصرف فيها تصرف الملاك له أن يشهد له بالملك مطلقا، وإن علم القاضي أنه يشهد بظاهر اليد فيقبله، وإن كان لو صرح به لم يقبل. ثم رأيت الغزي نظر في مسألة البيع، وقد يجاب بأن التهمة في مسألة الحكم أقوى؛ لأن الإنسان مجبول على ترويج حكمه ما أمكنه، بخلاف المسألتين الآخرتين، "ويقبل قوله قبل عزله: حكمت بكذا"، وإن قال: بعلمي لقدرته على الإنشاء حينئذ حتى لو قال: على سبيل الحكم نساء هذه القرية طوالق من أزواجهن قبل. وبحث الأذرعي أن محله في محصورات، وإلا فهو كاذب مجازف وفي قاض مجتهد ولو في مذهب إمامه قال: ولا ريب عندي في عدم نفوذه من جاهل، أو فاسق، وقد أفتيت بوجوب بيان القاضي لمستنده إذا سئل عنه لاحتمال أن يظن ما ليس بمستند مستندا، وأفتى غيره بأنه لو حكم بطلاق امرأة بشاهدين فقالا: إنما شهدنا بطلاق مقيد بصفة ولم توجد، وقال: بل أطلقتما أنه يقبل قوله إن لم يتهم في ذلك لعلمه وديانته "فإن كان في غير محل ولايته"، وهو خارج عمله لا مجلس حكمه خلافا لمن وهم فيه إلا أن يريد أن موليه قيد ولايته بذلك المجلس "فكمعزول"؛ لأنه لا يملك إنشاء الحكم حينئذ فلا ينفذ إقراره به. وأخذ الزركشي من ظاهر كلامهم أنه إذا ولي ببلد لم يتناول مزارعها وبساتينها فلو زوج، وهو بأحدهما من هي بالبلد أو عكسه لم يصح قيل: وفيه نظر. ا هـ. والنظر واضح بل الذي يتجه أخذا مما مر قبيل فصل جن قاض أنه إن علمت عادة بتبعية، أو عدمها حكم بها، وإلا اتجه ما ذكره؛ اقتصارا على ما نص له عليه وأفهم قوله كمعزول أنه لا ينفذ منه فيه تصرف استباحه بالولاية كإيجار وقف نظره للقاضي، وبيع مال يتيم، وتقرير في وظيفة، وهو ظاهر كتزويج من ليست بولايته وظاهر هذا أنه لا يصح استخلافه قبل وصوله لمحل ولايته من يحكم بها فإفتاء بعضهم بصحته بعيد وقوله: الاستخلاف ليس حكما حتى يمتنع بل مجرد إذن فهو كمحرم وكل من يزوجه بعد التحلل، أو أطلق يرد بأنه إذن استفاده بالولاية بمحل مخصوص فكيف يعتد منه به قبل وصوله إليه ؟ ويرد قياسه المذكور بأنه ليس قياس مسألتنا؛ لأن المحرم ليس ممنوعا إلا من المباشرة بنفسه، والقاضي قبل وصوله لمحل ولايته لم يتأهل لإذن ولا حكم وإنما قياسه أن يقيد تصرف الوكيل ببلد فليس له كما هو ظاهر كلامهم فيه التوكيل، وإن جوزناه له بالإذن لغيره، وهو في غيرها نعم إن اطردت العادة باستنابة المتولي قبل وصوله وعلم بها منيبه لم يبعد الجواز حينئذ.
"ولو ادعى شخص على معزول" أي: ذكر للقاضي وسماه دعوى تجوزا؛ لأنها إنما تكون بعد حضوره "أنه أخذ ماله برشوة" أي: على سبيل الرشوة كما بأصله وهي أولى؛ لإيهام الأولى أن الرشوة سبب مغاير للأخذ وليس كذلك إلا أن يجاب بأن المراد من الرشوة لازمها أي: بباطل "أو شهادة عبدين مثلا" وأعطاه لفلان ومذهبه أنه لا تجوز شهادتهما،

 

ج / 4 ص -357-        "أحضر وفصلت خصومتهما" لتعذر إثبات ذلك بغير حضوره، وله أن يوكل ولا يحضر قالا: ومن حضر لجديد وتظلم من معزول لم يحضره قبل استفصاله عن دعواه؛ لئلا يقصد ابتذاله "وإن قال: حكم بعبدين" أو نحو فاسقين قال ابن الرفعة: أي وهو يعلم ذلك وأنه لا يجوز وأنا أطالبه بالغرم. وقال غيره: لا يحتاج لذلك وإنما سمعت هذه الدعوى مع أنها ليست على قواعد الدعاوى الملزمة؛ إذ ليست بنفس الحق؛ لأن القصد منها التدرج إلى إلزام الخصم "ولم يذكر مالا أحضر" ليجيب عن دعواه "وقيل: لا" يحضره "حتى تقوم بينة بدعواه"؛ لأنه كان أمين الشرع. والظاهر من أحكام القضاة جريانها على الصحة فلا يعدل عن الظاهر إلا ببينة؛ صيانة لولاة المسلمين عن البذلة. ويرد بأن هذا الظاهر، وإن سلم لا يمنع إحضاره لتبين الحال "فإن حضر" بعد البينة، أو من غير بينة "وأنكر" بأن قال: لم أحكم عليه أصلا، أو لم أحكم إلا بشهادة حرين عدلين "صدق بلا يمين في الأصح" صيانة عن الابتذال، ومن ثم صوبه جمع متأخرون منهم الزركشي قال: وهذا فيمن عزل مع بقاء أهليته فأما من ظهر فسقه وجوره وعلمت خيانته فالظاهر أنه يحلف قطعا وسبقه إليه الأذرعي كما يأتي "قلت الأصح" أنه لا يصدق إلا "بيمين والله أعلم" لعموم خبر: "واليمين على من أنكر" ولأن غايته أنه أمين، وهو كالوديع لا بد من حلفه، "ولو ادعي على قاض" متول "جور في حكم لم تسمع" الدعوى عليه لأجل أنه يحلف له، وكذا لو ادعي على شاهد أنه شهد زورا وأراد تغريمه؛ لأنهما أمينا الشرع "ويشترط" لسماع الدعوى عليهما بذلك "بينة" يحضرها بين يدي المدعى عنده لتخبره حتى يحضره إذ لو فتح باب تحليفهما لكل مدع لاشتد الأمر، ورغب الناس عن القضاء، والشهادة. وبما قررت به المتن اندفع الاعتراض عليه بأن اشتراطه البينة ينافي جزمه قبله بعدم سماع الدعوى فإن اعتماد البينة فرع سماع الدعوى. ونازع السبكي فيما ذكر وأطال فيه في حلبياته، لكن أطال الحسباني في رده وتزييفه نقلا ومعنى وتبعه الأذرعي في بعضه. ومر أن هذا في قاض محمود السيرة، ومن ثم اعترض الأذرعي التعليل بالرغبة بأنه يقطع بأن غالب قضاة عصره لو حلف أحدهم سبعين مرة في اليوم أنه لم يرتش ولم يجر لحلف ولم يزده وغيره ذلك إلا حرصا وتهافتا على القضاء، "وإن" ادعي على متول بشيء "لم يتعلق بحكمه" كغصب، أو دين، أو بيع "حكم بينهما خليفته، أو غيره" كواحد من الرعية يحكمانه قال السبكي: هذا إن ادعي عليه بما لا يقدح فيه، ولا يخل بمنصبه، وإلا لم تسمع الدعوى قطعا، ولا يحلف ولا طريق للمدعي حينئذ إلا البينة قال: بل ينبغي أنها لا تسمع، وإن لم يقدح فيه حيث لم يظهر للحاكم صحة الدعوى صيانة عن ابتذاله بالدعاوى، والتحليف. ا هـ. وفيه ما مر وبفرضه يتعين تقييده بقاض مرضي السيرة ظاهر العفة، والديانة وخرج بما ذكر الدعوى على متول في محل ولايته عند قاض أنه حكم بكذا فلا تسمع بخلافه في غير محلها وبخلاف المعزول فتسمع الدعوى، والبينة ولا يحلف.

فصل في آداب القضاء وغيرها
"ليكتب الإمام"، أو نائبه كالقاضي الكبير ندبا "لمن يوليه" كتابا بالتولية، وما فوضه إليه،

 

 

ج / 4 ص -358-        وما يحتاج إليه القاضي، ويعظمه فيه ويعظه، ويبالغ في وصيته بالتقوى ومشاورة العلماء، والوصية بالضعفاء اتباعا له صلى الله عليه وسلم في عمرو بن حزم لما ولاه اليمن، وهو ابن سبع عشرة سنة رواه أصحاب السنن، واقتصر في معاذ لما بعثه إليها على الوصية من غير كتابة" "ويشهد بالكتاب" يعني لا بد إن أراد العمل بذلك الكتاب أن يشهد بما فيه من التولية "شاهدين" بصفات عدول الشهادة "يخرجان معه إلى البلد" أي: محل التولية، وإن قرب "يخبران بالحال" حتى يلزم أهل البلد قضاؤه، والاعتماد على ما يشهدان به دون ما في الكتاب. ولا بد أن يسمع التولية من المولي، وإذا قرئ الكتاب بحضرته فليعلما أن ما فيه هو الذي قرئ؛ لئلا يقرأ غير ما فيه، ثم إن كان في البلد قاض أديا عنده وأثبت ذلك بشروطه، وإلا كفى إخبارهما لأهل البلد أي: لأهل الحل، والعقد منهم كما هو ظاهر وحينئذ يتعين الاكتفاء بظاهري العدالة لاستحالة ثبوتها عند غير قاض مع الاضطرار إلى ما يشهدان به فقولهم: بصفات عدول الشهادة إنما يتأتى إن كان ثم قاض واختار البلقيني الاكتفاء بواحد، "وتكفي الاستفاضة" عن الشهادة "في الأصح" لحصول المقصود ولأنه لم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم، ولا عن الخلفاء الراشدين إشهاد "لا مجرد كتاب" فلا يكفي "على المذهب" لإمكان تزويره، وإن احتفت القرائن بصدقه، ولا يكفي إخبار القاضي، وإن صدقوه كما مر بما فيه لاتهامه. "ويبحث" بالرفع "القاضي" ندبا "عن حال علماء البلد"، أي: محل ولايته "وعدوله" إن لم يعرفهم قبل دخوله، فإن تعسر فعقبه ليعاملهم بما يليق بهم "ويدخل" وعليه عمامة سوداء "كما فعل صلى الله عليه وسلم لما دخل مكة يوم الفتح ". والأولى دخوله "يوم الاثنين" صبيحته "؛ لأنه صلى الله عليه وسلم دخل المدينة فيه حين اشتد الضحى "، فإن تعسر فالخميس فالسبت وصح خبر: "اللهم بارك لأمتي في بكورها"، ومن ثم قال المصنف ينبغي تحريها بفعل وظائف الدين، والدنيا فيها، وعقب دخوله يقصد الجامع فيصلي ركعتين، ثم يأمر بعهده ليقرأ، ثم بالنداء من كانت له حاجة؛ ليأخذ في العمل ويستحق الرزق. وقضيته أنه لا يستحقه من حين التولية وبه صرح الماوردي "وينزل" حيث لا موضع مهيأ للقضاء "وسط" بفتح السين على الأشهر "البلد" ليتساوى الناس في القرب منه "وينظر أولا" ندبا بعد أن يتسلم من الأول ديوان الحكم، وهو الأوراق المتعلقة بالناس، وأن ينادي في البلد متكررا أن القاضي يريد النظر في المحابيس يوم كذا فمن كان له محبوس فليحضر. "في أهل الحبس" حيث لا أحوج بالنظر منهم هل يستحقونه، أو لا ؟ لأنه عذاب، ويقرع في البداءة فمن قرع أحضر خصمه ويفصل بينهما وهكذا "فمن قال: حبست بحق أدامه" إلى أدائه، أو ثبوت إعساره وبعده ينادي عليه لاحتمال ظهور غريم آخر ثم يطلقه، أو إلى استيفاء حد حبس له، أو إلى ما يناسب جريمة مغزر إن لم ير ما مضى كافيا "أو" قال: حبست "ظلما فعلى خصمه حجة" إن حضر، فإن أقامها أدامه وإلا حلفه وأطلقه من غير كفيل، إلا أن يراه فحسن. ونازع فيه البلقيني وأطال في أن الحجة إنما هي على المحبوس؛ إذ الظاهر أنه إنما حبس بحق "فإن كان" خصمه "غائبا" عن البلد "كتب إليه ليحضر" لفصل الخصومة بينهما أو يوكل؛ لأن القصد إعلامه ليلحن بحجته، فإن علم ولم يحضر، ولا وكل حلف وأطلق؛ لتقصير الغائب. ونازع فيه وأطال

 

ج / 4 ص -359-        أيضا "ثم" في "الأوصياء" وكل متصرف على الغير بعد ثبوت ولايتهم عنده؛ لأن ذا المال لا يملك المطالبة بماله فناب القاضي عنه؛ لأنه وليه العام إن كان ببلده، وإن كان ماله ببلد آخر؛ لما مر أن الولاية العامة لصاحب بلد المالك، "فمن ادعى وصاية سأل" الناس "عنها" ألها حقيقة وما كيفية ثبوتها ؟ "وعن حاله" هل هو مستجمع للشروط ؟ "وتصرفه فمن" قال: فرقت الوصية، أو تصرفت للموصى عليه لم يعترضه إن وجده عدلا، وإن "وجده فاسقا أخذ المال منه" وجوبا أي: بدل ما فوته وعين غيره ومن شك في حاله ولم تثبت عدالته عند الأول ينتزعه منه كما رجحه البلقيني وغيره، ورجح الأذرعي عدم الانتزاع قال: وهو الأقرب لكلام الشيخين، والجمهور، أما إذا ثبتت عدالته عند الأول فلا يؤثر الشك، وإن طال الزمن لاتحاد القضية وبه فارق شاهدا زكي، ثم شهد بعد طول الزمن لا بد من استزكائه "أو" وجده "ضعيفا" عن القيام بها مع أمانته "عضده بمعين"، ولا ينزع المال منه، ثم بعد الأوصياء ينظر في أمناء القاضي بما ذكر في الأوصياء، نعم له عزل من شاء منهم ولو بلا جنحة؛ لأنهم صاروا نوابه بخلاف الأوصياء وليس له كشف عن أب وجد إلا بعد ثبوت موجب قادح عنده، ثم ينظر في الأوقاف العامة ونحوها كاللقطات وعليه الأحظ من بقائها مفردة وخلطها بمال بيت المال وبيعها وحفظ ثمنها، "ويتخذ" ندبا "مزكيا" بصفته الآتية وأراد به الجنس، وكذا ما بعده؛ إذ لا يكفي واحد "وكاتبا"؛ لأنه يحتاج إليه لكثرة أشغاله وكان له صلى الله عليه وسلم كتاب فوق الأربعين وإنما يندب هذا إن لم يطلب أجرا، أو رزق من بيت المال، وإلا لم يعينه ندبا. وقال القاضي: وجوبا؛ لئلا يغالي في الأجرة ويأتي ذلك في المترجمين، والمسمعين. "ويشترط كونه" أي: الكاتب حرا ذكرا "مسلما عدلا" لتؤمن خيانته "عارفا بكتابة محاضر وسجلات" وسيأتي الفرق بينهما، وقد يترادفان على مطلق المكتوب وسائر الكتب الحكمية؛ لأن الجاهل بذلك يفسد ما يكتبه "ويستحب" فيه "فتحه" فيما يكتبه أي: زيادته من التوسع في معرفة الشروط ومواقع اللفظ، والتحرز عن الموهم، والمختل؛ لئلا يؤتى من الجهل. ومن اشترط فقهه أراد المعرفة بما لا بد منه من أحكام الكتابة وعفة عن الطمع؛ لئلا يستمال "ووفور عقل" اكتسابي ليزيد ذكاؤه وفطنته فلا يخدع "وجودة خط" وإيضاحه مع ضبط الحروف وترتيبها وتضييقها؛ لئلا يقع فيها إلحاق، وتبيينها حتى لا تشتبه نحو سبعة بتسعة، ومعرفته بحساب المواريث وغيرها لاضطراره إليه وفصاحته وعلمه بلغات الخصوم، "و" يتخذ ندبا أيضا "مترجما"؛ لأنه قد يجهل لسان الخصوم، أو الشهود "وشرطه عدالة وحرية وعدد" أي: اثنان ولو في زنا، وإن كان شهوده كلهم أعجميين، نعم يكفي رجل وامرأتان فيما يثبت بهما وقيس بهما أربع نسوة فيما يثبت بهن وذلك؛ لأنه ينقل للقاضي قولا لا يعرفه فأشبه المزكي، والشاهد ", والأصح جواز أعمى" إن لم يتكلم غير الخصم؛ لأن الترجمة تفسير؛ لما يسمع فلم يحتج لمعاينة وإشارة، بخلاف الشهادة. ولا يلزم من هذا أنهم غلبوا شائبة الرواية خلافا لمن ظنه بل هو شهادة إلا في هذا؛ لعدم وجود المعنى المشترط له الإبصار هنا. "و" الأصح "اشتراط عدد"، ولا يضر العمى هنا أيضا "في إسماع قاض به صمم" لم يبطل سمعه كالمترجم فإنه ينقل عين اللفظ كما أن ذاك ينقل معناه. وشرطهما ما مر في المترجمين. وشرط

 

ج / 4 ص -360-        كل من الفريقين الإتيان بلفظ الشهادة وانتفاء التهمة؛ فلا يقبل ذلك من نحو أصل أو فرع إن تضمن حقا لهما. وخرج بإسماع القاضي الذي هو مصدر مضاف لمفعوله إسماع الخصم ما يقوله القاضي، أو خصمه؛ فيكفي فيه واحد؛ لأنه إخبار محض، "ويتخذ" ندبا "درة" بكسر المهملة "للتأديب" اقتداء بعمر رضي الله عنه، نعم منع ابن دقيق العيد نوابه من ضرب المستورين بها؛ لأنه صار مما يعير به ذرية المضروب وأقاربه، بخلاف الأراذل. وله التأديب بالسوط "وسجنا لأداء حق وتعزير" كما فعله عمر رضي الله تعالى عنه بدار اشتراها بمكة وجعلها سجنا. وحكى شريح وجهين في تقييد محبوس لجوج. وقضية ما مر في التفليس أنه إن عرف له مال وعائد عزره القاضي بما يراه من قيد وغيره، وإلا فلا "ويستحب كون مجلسه" الذي يقضي فيه "فسيحا"؛ لئلا يتأذى به الخصوم "بارزا" أي ظاهرا ليعرفه كل أحد، ويكره اتخاذ حاجب لا مع زحمة، أو في خلوة "مصونا من أذى" نحو "حر وبرد" وريح كريه وغبار ودخان "لائقا بالوقت" أي: الفصل كمهب الريح وموضع الماء في الصيف، والكن في الشتاء، والخضرة في الربيع ولم يجعل هذا نفس المصون كما صنعه أصله بل غيره كأنه للإشارة إلى تغايرهما؛ لأن الأول لدفع المؤذي، والثاني لتحصيل التنزه ودفع الكدورة عن النفس؛ فاندفع استحسان شارح لعبارة أصله على عبارته "و" لائقا بوظيفة "القضاء" التي هي أعظم المناصب وأجل المراتب بأن يكون على غاية من الأبهة، والحرمة، والجلالة فيجلس مستقبل القبلة داعيا بالتوفيق، والعصمة، والتسديد متعمما متطلسا على عال به فرش ووسادة ليتميز به وليكون أهيب، وإن كان من أهل الزهد، والتواضع للحاجة إلى قوة الرهبة، والهيبة، ومن ثم كره جلوسه على غير هذه الهيئة "لا مسجدا" أي: لا يتخذه مجلسا للحكم فيكره ذلك؛ لأن مجلس القاضي يغشاه نحو الحيض، والدواب ويقع فيه اللغط، والتخاصم، والمسجد يصان عن ذلك. نعم إن اتفق عند جلوسه فيه قضية، أو قضايا فلا بأس بفصلها وعليه يحمل ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم، والخلفاء بعده، وكذا إذا جلس فيه لعذر نحو مطر. وإقامة الحدود فيه أشد كراهة وألحق بالمسجد بيته ويتعين حمله على ما إذا كان بحيث يحتشم الناس دخوله بأن أعده مع حاله فيه يحتشم الناس الدخول عليه لأجلها، أما إذا أعده وأخلاه من نحو عيال وصار بحيث لا يحتشمه أحد في الدخول عليه فلا معنى للكراهة حينئذ، "ويكره أن يقضي في حال غضب" لا لله تعالى "وجوع وشبع مفرطين وكل حال يسوء خلقه" فيه كمرض ومدافعة حدث وشدة حزن، أو خوف، أو هم، أو سرور لصحة النهي عنه في الغضب. وقيس به الباقي؛ ولاختلال فكره وفهمه بذلك ومع ذلك ينفذ حكمه. وقضية ذلك أن ما لا مجال للاجتهاد فيه لا كراهة فيه كما أشار إليه في المطلب وجزم به ابن عبد السلام، ولا يخلو عن نظر؛ لأنه لا يأمن التقصير في مقدمات الحكم، أما إذا غضب لله تعالى وكان يملك نفسه فلا كراهة كما اعتمده البلقيني وغيره؛ لأنه يؤمن معه التعدي، بخلاف لحظ نفسه وترجيح الأذرعي عدم الفرق وأطال له يحمل على من لم يملك نفسه لتشويش الفكر حينئذ، "ويندب أن يشاور" المجتهد ولو في الفتوى وغيره حيث لا معتمد متيقن في مذهبه في تلك الواقعة بسائر توابعها ومقاصدها فيما يظهر عند تعارض الأدلة والمدارك "الفقهاء"

 

ج / 4 ص -361-        العدول الموافقين، والمخالفين لقوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل: عمران ]، ومنه أخذ رد قول القاضي: لا يشاور من هو دونه. وأيضا قد يكون عند المفضول في بعض المسائل ما ليس عند الفاضل. وفي وجه تحرم المباحثة مع الفاسق ويتعين ترجيحه إن قصد بها إيناسه؛ لأنه حرام كما صرحوا به "وأن لا يشتري ويبيع" ويعامل مع وجود من يوكله "بنفسه" في عمله بل يكره له؛ لئلا يحابى ", ولا يكون له وكيل معروف"؛ لئلا يحابي أيضا. "فإن" كان وجه هذا التفريع أن مباشرته لنحو البيع وعلم وكيله لما كانا مظنة لمحاباته التي هي في حكم الهدية فرع حكمها عليهما وحينئذ قد يؤخذ من ذلك ما لم أر من تعرض له، وهو أنه لو بيع له شيء بدون ثمن المثل حرم عليه قبوله، وهو متجه، وإن كان قولهم: لئلا يحابي تعليلا للكراهة قد يقتضي حل قبول المحاباة "أهدى إليه"، أو ضيفه، أو وهبه، أو تصدق عليه فرضا أو نفلا على ما يأتي "من له خصومة"، أو من أحس منه أنه سيخاصم، وإن كان بعضه على الأوجه؛ لئلا يمتنع من الحكم عليه، أو كان يهدي قبل الولاية "أو" من لا خصومة له و "لم يهد" إليه شيئا "قبل ولايته"، أو كان يهدي إليه قبلها لكنه زاد في القدر، أو الوصف "حرم عليه قبولها"، ولا يملكها؛ لأنها في الأولى توجب الميل إليه وفي الثانية سببها الولاية. وقد صرحت الأخبار الصحيحة بتحريم هدايا العمال بل صح عن تابعي أخذه الرشوة يبلغ به الكفر أي إن استحل، أو أنها سبب له، ومن ثم جاء المعاصي يريد الكفر وإنما حلت له صلى الله عليه وسلم الهدايا بالعصمة. وفي خبر أنه أحلها لمعاذ، فإن صح فهو من خصوصياته أيضا وسواء أكان المهدي من أهل عمله أم من غيره، وقد حملها إليه؛ لأنه صار في عمله فلو جهزها له مع رسوله وليس له محاكمة فوجهان إن رجح شارح منهما الحرمة. ولا يحرم عليه قبولها في غير عمله و إن كان المهدي من أهل عمله ما لم يستشعر بأنها مقدمة لخصومة. ومتى بذل له مال ليحكم بغير حق، أو ليمتنع من حكم بحق فهو الرشوة المحرمة إجماعا. ومثله ما لو امتنع من الحكم بالحق إلا بمال لكنه أقل إثما، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "لعن الله الراشي، والمرتشي في الحكم" وفي رواية، والرائش، وهو الماشي بينهما ومحله في راش لباطل أما من علم أخذ ماله بباطل لولا الرشوة فلا ذم عليه. وحكم الرائش حكم موكله، فإن توكل عنهما عصى مطلقا "تنبيه".
محل قولنا: لكنه أقل إثما، أما إذا كان له رزق من بيت المال، وإلا وكان ذلك الحكم مما يصح الاستئجار عليه وطلب أجرة مثل عمله فقط جاز له طلبها وأخذها عند كثيرين وامتنع عند آخرين قيل: والأول أقرب، والثاني أحوط قال السبكي: ولمفت لم ينحصر الأمر فيه الامتناع من الإفتاء إلا بجعل، وكذا المحكم وفارقا الحاكم بأنه نصب للفصل أي: فيتهم ولو قيل بأنهما مثله له لكان مذهبا محتملا. ا هـ. وعلى الأول فمحله إن كان ما يأخذ عليه فيه كلفة تقابل بأجرة وحينئذ لا فرق بين العيني وغيره بناء على الأصح أن العيني المقابل بالأجرة لمن تعين عليه الامتناع منه إلا بالأجرة. ولعل ما قاله السبكي مبني على الضعيف أن العيني لا يجوز أخذ الأجرة عليه مطلقا وكأنه بنى على هذا قوله أيضا: يجوز البذل لمن يتحدث له في أمر جائز يقابل بأجرة عند ذي سلطان إن لم يكن المتحدث مرصدا لمثلها

 

ج / 4 ص -362-        بحيث يجب عليه فقوله: إن إلخ إنما يأتي على الضعيف كقوله لا يجوز الأخذ على شفاعة واجبة قال: وكذا مباحة بشرط عوض إن جعل العوض جزاء لها.
"وإن كان" من عادته أنه "يهدي" إليه قبل الولاية، والترشح لها لنحو قرابة، أو صداقة ولو مرة فقط كما أشعر به كلامهم واعتمده الزركشي وعليه فإشعار كان في المتن بالتكرار غير مراد "ولا خصومة" له حاضرة ولا مترقبة "جاز" قبول هديته إن كانت "بقدر العادة" قيل: كالعادة ليعم الوصف أيضا أولى. ا هـ. وقد يجاب بأن القدر قد يستعمل في الكيف كالكم وذلك لانتفاء التهمة حينئذ بخلافها بعد الترشح، أو مع الزيادة فيحرم قبول الكل إن كانت الزيادة في الوصف كأن اعتاد الكتان فأهدي إليه الحرير، وكذا في القدر على الأوجه الذي اقتضاه كلام الشيخين وغيرهما. ولا يأتي فيه تفريق الصفقة؛ لأن محله إن تميز الحرام، ومن ثم قال البلقيني كمجلي إذا تميزت الزيادة حرمت فقط. وزعم أنه يلزم من زيادة القدر التميز ممنوع ولو أهدي له بعد الحكم حرم القبول أيضا إن كان مجازاة له، وإلا فلا كذا أطلقه شارح ويتعين حمله على مهد معتاد أهدي إليه بعد الحكم له. وجوز له السبكي في حلبياته قبول الصدقة ممن لا خصومة له، ولا عادة وخصه في تفسيره بما إذا لم يعرف المتصدق أنه القاضي وعكسه واعتمده ولده، وهو متجه، وإلا لأشكل بما يأتي في الضيافة. وبحث غيره القطع بحل أخذه للزكاة وينبغي تقييده بما ذكر وألحق الحسباني بالأعيان المنافع المقابلة بمال عادة كسكنى دار، بخلاف غيرها كاستعارة كتاب علم وأكله طعام بعض أهل ولايته ضيفا كقبول هديتهم كما علم مما مر. وتردد السبكي في الوقف عليه من أهل عمله. والذي يتجه فيه وفي النذر أنه إن عينه باسمه وشرطنا القبول كان كالهدية له، وكذا لو وقف على تدريس هو شيخه، فإن عين باسمه امتنع، وإلا فلا ويصح إبراؤه عن دينه؛ إذ لا يشترط فيه قبول، وكذا أداؤه عنه بغير إذنه بخلافه بإذنه بشرط عدم الرجوع. وبحث التاج السبكي أن خلع الملوك أي: التي من أموالهم كما هو ظاهر ليست كالهدية بشرط اعتيادها لمثله وأن لا يتغير بها قلبه عن التصميم على الحق. وسائر العمال مثله في نحو الهدية، لكنه أغلظ هذا ما أفتى به جمع واعتمده السبكي. وقول البدر بن جماعة بالحل لهم ضعيف جدا مصادم للحديث المشهور:
"هدايا العمال غلول" ولما سأل السبكي شيخه ابن الرفعة عن هذا التخالف فأجابه بأنهم إن كافئوا عليها ولو بدجاجة لم يحرم قال: أتوهم أن الحامل له على هذا الجواب عدم موافقته للطائفتين، أو عدم إتقانه للمسألة والله يغفر لنا وله. ا هـ. "والأولى" لمن جاز له قبول الهدية "أن يثيب عليها"، أو يردها لمالكها، أو يضعها في بيت المال وأولى من ذلك سد باب القبول مطلقا حسما للباب "ولا ينفذ حكمه"، ولا سماعه لشهادة "لنفسه"؛ لأنه متهم وإنما جاز له تعزير من أساء أدبه عليه في حكمه كحكمت علي بالجور؛ لئلا يستخف، ويستهان به؛ فلا يسمع حكمه. وله أيضا أن يحكم لمحجوره، وإن كان وصيا عليه قبل القضاء كما في أصل الروضة، وإن نازع فيه ابن الرفعة وغيره، وإن تضمن حكمه استيلاءه على المال المحكوم به وتصرفه فيه، وكذا بإثبات وقف شرط نظره لقاض هو بصفته، وإن تضمن حكمه وضع يده عليه وبإثبات مال لبيت المال، وإن كان يرزق منه،

 

ج / 4 ص -363-        وإفتاء العلم البلقيني بأنه لا يصح من القاضي الحكم بما آجره هو، أو مأذونه من وقف هو ناظره يحمل على ما فصله الأذرعي حيث قال: الظاهر منعه لمدرسة هو مدرسها ووقف نظره له قبل الولاية؛ لأنه هو الخصم إلا أن يكون متبرعا فكالوصي وهذا أولى من رد بعضهم لكلام العلم بأن القاضي أولى من الوصي؛ لأن ولايته على الوقف بجهة القضاء تزول بانعزاله، ولا كذلك الوصي إذا تولى القضاء فالتهمة في حقه أقوى، ومن ثم لو شهد القاضي بمال للوقف قبل ولايته عليه قبل، أو الوصي بمال لموليه قبل الوصية له لم يقبل "ورقيقه" لذلك، نعم له الحكم بجناية عليه قبل رقه بأن جنى ملتزم على ذمي، ثم حارب وأرق، ويوقف ما ثبت له حينئذ إلى عتقه، فإن مات قنا صار فيئا ذكره البلقيني قال: وكذا لمن ورث موصى بمنفعته الحكم بكسبه أي: لأنه ليس له "وشريكه"، أو شريك مكاتبه "في المشترك" لذلك أيضا، نعم لو حكم له بشاهد ويمينه جاز؛ لأن المنصوص أنه لا يشاركه ذكره أيضا. ويؤخذ من علته أنه يشترط أن يعلم أنه لا يشاركه، وإلا فالتهمة موجودة باعتبار ظنه وهي كافية "وكذا أصله وفرعه" ولو لأحدهم على الآخر "على الصحيح"؛ لأنهم أبعاضه فكانوا كنفسه، ومن ثم امتنع قضاؤه لهم بعلمه قطعا. أما الحكم عليهم كقنه وشريكه بل ونفسه فيجوز عكس العدو. وحكمه على نفسه حكم لا إقرار على الأوجه وله على المعتمد تنفيذ حكم بعضه، والشهادة على شهادته؛ إذ لا تهمة "ويحكم له" أي القاضي "ولهؤلاء الإمام أو قاض آخر" مستقل؛ إذ لا تهمة ", وكذا نائبه على الصحيح" كبقية الحكام، "وإذا" ادعي عنده بدين حال، أو مؤجل، أو بعين مملوكة، أو وقف، أو غير ذلك، ثم "أقر المدعى عليه، أو نكل فحلف المدعي" أو حلف بلا نكول بأن كانت اليمين في جهته لنحو لوث، أو إقامة شاهد مع إرادة الحلف معه "وسأل" المدعي "القاضي أن يشهد على إقراره عنده أو يمينه، أو" سأل "الحكم" له عليه "بما ثبت، والإشهاد به لزمه" إجابته؛ لما ذكر، وكذا لو حلف مدعى عليه، وسأل الإشهاد ليكون حجة له فلا يطالبه مرة أخرى وذلك؛ لأنه قد ينكر بعد فيفوت الحق لنحو نسيان القاضي أو انعزاله ولو أقام بينة بدعواه وسأله الإشهاد عليه بقبولها لزمه أيضا؛ لأنه يتضمن تعديل البينة وإثبات حقه. وخرج بقوله: سأل ما إذا لم يسأله لامتناع الحكم للمدعي قبل أن يسأل فيه كامتناعه قبل دعوى صحيحة إلا فيما تقبل فيه شهادة الحسبة. وصيغة الحكم الصحيح الذي هو الإلزام النفساني المستفاد من جهة الولاية حكمت، أو قضيت له به أو نفذت الحكم به، أو ألزمت خصمه الحق. وأخذ ابن عبد السلام من كون الحكم الإلزام أنه إذا حكم في نفسه في مختلف فيه لم يتأثر بنقض مخالف له. وظاهره أنه بعد حكم المخالف يقبل ادعاؤه ذلك الحكم؛ لأنه لا يعرف إلا من جهته وفيه نظر. والذي يتجه أنه إن كان أشهد به قبل حكم المخالف لم يعتد بحكم المخالف وإلا اعتد به، وإذا عدلت البينة لم يجز الحكم إلا بطلب المدعي كما تقرر فإذا طلبه قال لخصمه: ألك دافع في هذه البينة أو قادح ؟، فإن قال: لا، أو، نعم ولم يثبته حكم عليه، وإن وجد فيها ريبة لم يجد لها مستندا خلافا لأبي حنيفة. وقوله: ثبت عندي كذا، أو صح بالبينة العادلة ليس بحكم، وإن توقف على الدعوى أيضا، سواء أكان الثابت الحق أم سببه خلافا لما أختاره

 

ج / 4 ص -364-        السبكي لانتفاء الإلزام فيه وإنما هو بمعنى سمعت البينة وقبلتها ويجري في الصحيح، والفاسد إلا في مسألة تسجيل الفسق عند عدم الحاجة إليه، وإلا كإبطال نظره فالأوجه الجواز، فإن حكم بالثبوت كان حكما بتعديلها وسماعها فلا يحتاج حاكم آخر إلى النظر فيها كذا قاله الشارح. وقضيته أن الثبوت بلا حكم لا يحصل ذلك، لكن قضية كلام غيره بل صريحه خلافه. وعبارة شيخنا: الثبوت ليس حكما بالثابت وإنما هو حكم بتعديل البينة وقبولها وجريان ما شهدت به، وفائدته عدم احتياج حاكم آخر إلى النظر فيها انتهت. قال: وفيما إذا ثبت الحق كثبت عندي وقف هذا على الفقراء هو، وإن لم يكن حكما، لكنه في معناه فلا يصح رجوع الشاهد بعده، بخلاف ثبوت سببه كوقف فلان لتوقفه على نظر آخر، ومن ثم يمتنع على الحاكم الحكم به حتى ينظر في شروطه، وقال أيضا: والتنفيذ بشرطه إلا ما غلب في زمننا حكم وفائدته التأكيد للحكم قبله. ويجوز تنفيذ الحكم في البلد قطعا من غير دعوى، ولا حلف في نحو غائب، بخلاف تنفيذ الثبوت المجرد فيها، فإن فيه خلافا، والأوجه جوازه بناء على أنه حكم بقبول البينة. والحاصل أن تنفيذ الحكم لا يكون حكما من المنفذ إلا إن وجدت فيه شروط الحكم عنده، وإلا كان إثباتا لحكم الأول فقط. وفي الفرق بين الحكم بالموجب، والحكم بالصحة كلام طويل للسبكي والبلقيني وأبي زرعة، وقد جمعته كله، وما فيه من نقد، ورد وزيادة في كتابي المستوعب في بيع الماء، والحكم بالموجب بما لم يوجد مثله فاطلبه فإنه مهم. ومنه أن الحكم بالموجب يتناول الآثار الموجودة، والتابعة لها بخلافه بالصحة فإنه إنما يتناول الموجودة فقط فلو حكم شافعي بموجب الهبة للفرع لم يكن للحنفي الحكم بمنع رجوع الأصل لشمول حكم الشافعي للحكم بجوازه أو بصحتها لم يمنعه من ذلك ولو حكم حنفي بصحة التدبير لم يمنع الشافعي من الحكم بصحة بيع المدبر، أو بموجبه منعه، أو مالكي بصحة البيع لم يمنع الشافعي من الحكم بخيار المجلس مثلا، أو بموجبه منعه ومنع العاقدين من الفسخ به؛ لاستلزامه نقض حكم الحاكم مع نفوذه ظاهرا وباطنا كما يأتي. ولو حكم شافعي بموجب إقرار بعدم الاستحقاق منع الحنفي من الحكم بعدم قبول دعوى السهو؛ لأن موجبه مفرد مضاف لمعرفة فيعم فكأنه قال: حكمت بكل مقتضى من مقتضياته، ومنها سماع دعوى السهو، أو بموجب بيع فبان أن البائع وقفه قبل البيع على نفسه فضمن حكمه إلغاء الوقف فيمتنع على الحنفي الحكم بصحته. ولو حكم شافعي بصحة البيع لم يمنع الحنفي من الحكم بشفعة الجوار في المبيع، أو بموجبه منعه أو مالكي بصحة قرض لم يمنع الشافعي من الحكم بجواز رجوع المقرض في عينه ما دامت باقية بيد المقترض، أو بموجبه منعه وذلك؛ لأن الحكم بما ذكر بعد الحكم بالصحة في الكل لا ينافيه بل يترتب عليه؛ فليس فيه نقض له بخلافه بالموجب ولهذا آثره الأكثرون، وإن كان الأول أقوى من حيث إنه يستلزم الحكم بملك العاقد مثلا، ومن ثم امتنع على الحاكم الحكم بها إلا بحجة تفيد الملك، بخلاف الحكم بالموجب. وفي فتاوى القاضي لو وهب آخر شقصا مشاعا فباعه المتهب فرفعه الواهب لحنفي فحكم ببطلان الهبة فرفع المشتري البائع لشافعي وطالبه بالثمن فحكم بصحة البيع نفذ وامتنع على الحنفي

 

ج / 4 ص -365-        إلزام البائع بالثمن أي: لأن ما حكم به الشافعي قضية أخرى لم يشملها حكم الحنفي الأول فلم يكن له نقض حكم الشافعي ولو حكم بالصحة ولم يعلم هل استند لحجة بالملك، أو لا ؟ حملنا حكمه على الاستناد؛ لأنه الظاهر، نعم لو قيل بأن محله في قاض موثوق بدينه وعلمه لم يبعد. ويجري ذلك في كل حكم أجمل ولم يعلم استيفاؤه لشروطه فلا يقبل إلا ممن ذكر فيما يظهر أيضا، ثم رأيت ما قدمته قبل العارية، وهو صريح في ذلك.
تنبيه: من المشكل حكاية الرافعي وجهين في أنه هل يصح أن يلزم القاضي الميت بموجب إقراره في حياته ؟؛ إذ لا خلاف أنه يجب إخراج ما أقر به من تركته عينا كان أو دينا وحمله السبكي على ما إذا ادعي على رجل فأقر ثم مات قبل الحكم عليه هل يحكم عليه بإقراره الأول أو يحتاج إلى إنشاء دعوى على الوارث قال: فينبغي أن يكون هذا محل الوجهين وليس من جهة لفظ الموجب.
"أو" سأله المدعي ومثله المدعى عليه نظير ما مر "أن يكتب له" بقرطاس أحضره من عنده حيث لم يكن من بيت المال "محضرا" بفتح الميم "بما جرى من غير حكم، أو سجلا بما حكم استحب إجابته"؛ لأنه مذكور وإنما لم يجب؛ لأن الحق يثبت بالشهود لا بالكتاب "وقيل: يجب" توثقة لحقه، نعم إن تعلقت الحكومة بصبي، أو مجنون له، أو عليه وجب التسجيل جزما وألحق بهما الزركشي الغائب ونحو الوقف مما يحتاط له. وأشار المتن إلى أن المحضر ما تحكى فيه واقعة الدعوى، والجواب وسماع البينة بلا حكم، والسجل ما تضمن إشهاده على نفسه أنه حكم بكذا، أو نفذه "ويستحب نسختان" أي: كتابتهما "إحداهما" تدفع "له" بلا ختم "والأخرى تحفظ في ديوان الحكم" مختومة مكتوب عليها اسم الخصمين، وإن لم يطلب الخصم ذلك؛ لأنه طريق للتذكر لو ضاعت تلك، "وإذا حكم باجتهاد" وهو من أهله، أو باجتهاد مقلده "ثم بان" أن ما حكم به "خلاف نص الكتاب، أو السنة" المتواترة، أو الآحاد "أو" بان خلاف "الإجماع"، ومنه ما خالف شرط الواقف "أو" خلاف "قياس جلي"، وهو ما يعم الأولى، والمساوي قال القرافي: أو خالف القواعد الكلية قالت الحنفية: أو كان حكما لا دليل عليه أي: قطعا فلا نظر؛ لما بنوه على ذلك من النقض في مسائل كثيرة قال بها غيرهم لأدلة عنده. قال السبكي: أو خالف المذاهب الأربعة؛ لأنه كالمخالف للإجماع أي: لما يأتي عن ابن الصلاح "نقضه" أي: أظهر بطلانه وجوبا، وإن لم يرفع إليه "هو وغيره" بنحو: نقضته أو أبطلته، أو فسخته إجماعا في مخالف الإجماع وقياسا في غيره، والمراد بالنص هنا الظاهر على ما في المطلب عن النص لا معناه الحقيقي، وهو ما لا يحتمل غيره، ويؤيده قول السبكي: فمتى بان الخطأ قطعا، أو ظنا نقض الحكم قال: أما مجرد التعارض لقيام بينة بعد الحكم، بخلاف ما قامت به البينة التي حكم بها فلا نقل فيه. والذي يترجح أنه لا نقض فيه وأطال في تقريره وكأن هذا مبني على ما يأتي عنه قبيل فصل القائف مع بيان أن الحق في ذلك أنه إن قطع بما يوجب بطلان الحكم الأول أبطل وإلا فلا على أنهم صرحوا بتبين بطلانه إذا بان فسق شاهده أو رجوعه، أو نحو ذلك، لكن لا يرد هذا على السبكي؛ لأن هذا ليس معارضا بل رافعا وشتان ما بينهما، ويدخل في قوله:

 

ج / 4 ص -366-        باجتهاد خلافا لمن أورده عليه ما لو حكم بنص، ثم بان نسخه أو خروج تلك الصورة عنه بدليل. وينقض أيضا حكم مقلد بما يخالف نص إمامه؛ لأنه بالنسبة إليه كنص الشارع بالنسبة للمجتهد كما في أصل الروضة واعتمده المتأخرون وألحق به الزركشي حكم غير متبحر بخلاف المعتمد عند أهل المذهب أي: لأنه لم يرتق عن رتبة التقليد وحكم من لا يصلح للقضاء، وإن وافق المعتمد أي: ما لم يكن قاضي ضرورة؛ لما مر أنه ينفذ حكمه بالمعتمد في مذهبه. ونقل القرافي وابن الصلاح الإجماع على أنه لا يجوز الحكم، بخلاف الراجح في المذهب. وبعدم الجواز وصرح السبكي في مواضع من فتاويه في الوقف وأطال وجعل ذلك من الحكم، بخلاف ما أنزل الله؛ لأن الله أوجب على المجتهدين أن يأخذوا بالراجح وأوجب على غيرهم تقليدهم فيما يجب عليهم العمل به، وبه يعلم أن مراد الأولين بعدم الجواز عدم الاعتداد به فيجب نقضه كما علم مما مر عن أصل الروضة قال ابن الصلاح وتبعوه: وينفذ حكم من له أهلية الترجيح إذا رجح قولا ولو مرجوحا في مذهبه بدليل جيد وليس له أن يحكم بشاذ، أو غريب في مذهبه إلا إن ترجح عنده ولم يشرط عليه التزام مذهب باللفظ، أو العرف كقوله: على قاعدة من تقدمه قال: ولا يجوز إجماعا تقليد غير الأئمة الأربعة في قضاء، ولا إفتاء، بخلاف غيرهما. ا هـ. وسبقه إلى صحة ذلك الاستثناء الماوردي وخالفه ابن عبد السلام. ومر آنفا لذلك مزيد قال البغوي: ولو حكم حاكم بالصحة في قضية من بعض وجوه اشتملت عليها فلمخالفه الحكم بفسادها من وجه آخر كصغيرة زوجها غير مجبر بغير كفء ويلزمه التسجيل بالنقض إن سجل بالمنقوض قاله الماوردي قال السبكي: ومتى نقض حكم غيره سئل عن مستنده وقولهم: لا يسأل القاضي عن مستنده محله إذا لم يكن حكمه نقضا أي ومحله أيضا إذا لم يكن فاسقا، أو جاهلا كما مر أول الباب. "لا" ما بان خلاف قياس "خفي"، وهو ما لا يبعد احتمال الفارق فيه كقياس الذرة على البر في الربا بجامع الطعم فلا ينقضه لاحتماله، "والقضاء" أي: الحكم الذي يستفيده القاضي بالولاية فيما باطن الأمر فيه، بخلاف ظاهره تنفيذا كان أو غيره "ينفذ ظاهرا لا باطنا" فالحكم بشهادة كاذبين ظاهرهما العدالة لا يفيد الحل باطنا لمال، ولا لبضع لخبر الصحيحين: "لعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له بنحو ما أسمع منه فمن قضيت له من حق أخيه بشيء فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار"، وخبر: "أمرت أن أحكم بالظاهر والله يتولى السرائر" جزم الحافظ العراقي بأنه لا أصل له، وكذا أنكره المزي وغيره ولعله من حيث نسبة هذا اللفظ بخصوصه إليه صلى الله عليه وسلم، أما معناه فهو صحيح منسوب إليه صلى الله عليه وسلم أخذا من قول المصنف في شرح مسلم في خبر: "إني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس، ولا أشق بطونهم" معناه إني أمرت أن أحكم بالظاهر والله يتولى السرائر كما قال صلى الله عليه وسلم. ا هـ. وعبارة الأم عقب حديث الصحيحين المذكور فأخبرهم صلى الله عليه وسلم أنه إنما يقضي بالظاهر وأن أمر السرائر إلى الله بل نقل ابن عبد البر الإجماع على معناه وعبارته أجمعوا على أن أحكام الدنيا على الظاهر وأن أمر السرائر إلى الله انتهت. وبهذا كله يتبين رد إطلاق أولئك الحفاظ أنه لا أصل له. ويلزم المحكوم عليها بنكاح كاذب الهرب بل، والقتل إن

 

ج / 4 ص -367-        قدرت عليه كالصائل على البضع، ولا نظر لكونه يعتقد الإباحة كما يجب دفع الصبي عنه، وإن كان غير مكلف، فإن أكرهت فلا إثم. ولا يخالف هذا قولهم: الإكراه لا يبيح الزنا لشبهة سبق الحكم على أن بعضهم قيد عدم الإثم بما إذا ربطت حتى لم يبق لها حركة، لكن فيه نظر؛ إذ لو كان هذا مرادا لم يفرقوا بين ما هنا، والإكراه على الزنا؛ لأن محل حرمته حيث لم تربط كذلك، فإن وطئت فزنا عند الشيخ أبي حامد ووطء شبهة عند غيره، وهو الأصح؛ لأن أبا حنيفة رضي الله عنه يجعلها منكوحة بالحكم، ورجح الزركشي كالأذرعي الأول قالا: والشبهة إنما تراعى حيث قوي مدركها لا كهذه، أما ما باطن الأمر فيه كظاهره، فإن لم يكن في محل اختلاف المجتهدين كالتسليط على الأخذ بالشفعة الذي لم يترتب على أصل كاذب نفذ باطنا أيضا، وكذا إن اختلف فيه كشفعة الجوار فينفذ باطنا أيضا على المعتمد، ومن ثم حل للشافعي طلبها من الحنفي، وإن لم يقلد أبا حنيفة؛ لأن من عقيدة الشافعي أن النفوذ باطنا يستلزم الحل فلم يأخذ محرما في اعتقاده، ومن ثم لم يجز للحنفي منعه من طلبها وجاز للشافعي الشهادة بها، لكن لا بصيغة أشهد أنه يستحقها؛ لأنه كذب كما أن له حضور نكاح بلا ولي إن قلد أو أراد حفظ الواقعة، نعم ليس له دعوى، ولا شهادة على مرتد عند من لا يرى قبول توبته كما نص عليه؛ لأن أمر الدماء أغلظ. وجاز أيضا لحاكم شافعي أنهي إليه ما لا يراه من أحكام مخالفيه تنفيذها وإلزام العمل بها فلو فسخ نكاح امرأة أو خولعت مرارا وحكم حنبلي بصحة أحدهما، ثم رفعت أمرها للشافعي ليزوجها في الأولى من آخر و في الثانية من زوجها من غير محلل جاز ذلك خلافا لابن العماد في الثانية؛ لما مر من أنه يرى نفوذ حكم المخالف باطنا. و كحكم المخالف فيما ذكر إثباته إن كان معتقده أنه حكم كما هو ظاهر مما تقرر أن العبرة بعقيدته لا بعقيدة من أنهي إليه حكم ويظهر أنه لا أثر لكون المخالف يعتقد أن الحكم إنما ينفد ظاهرا فقط بل العبرة في هذا باعتقاد المنهي إليه كالشافعي. ويفرق بأن هذا هو المبيح للإقدام على العمل بقضية حكم المخالف فنظر لاعتقاد الثاني في هذا بخصوصه دون ما عداه، "ولا يقضي" أي: لا يجوز له القضاء "بخلاف علمه" أي: ظنه المؤكد على ما قاله شارح أخذا مما يأتي عقبه، ويحتمل الفرق "بالإجماع" على نزاع فيه منشؤه أن الوجوه هل تخرق الإجماع ؟ والوجه أنا إن قلنا: لازم المذهب مذهب خرقته، وإلا وهو الأصح فلا وذلك كما إذا شهدا برق، أو نكاح، أو ملك من يعلم حريته، أو بينونتها أو عدم ملكه؛ لأنه قاطع ببطلان الحكم به حينئذ، والحكم بالباطل محرم، ولا يجوز له القضاء في هذه الصورة بعلمه؛ لمعارضة البينة له مع عدالتها ظاهرا، ولا يلزم من علمه خلاف ما شهدا به تعمدهما المفسق لهما وبه فارق قولهم: لو تحقق جرح شاهدين ردهما وحكم بعلمه المعارض لشهادتهما. قيل: صواب المتن بما يعلم خلافه فإن من يقتضي بشهادة من لا يعلم صدقهما، ولا كذبهما قاض، بخلاف علمه، وهو نافذ اتفاقا. ا هـ. وهو عجيب فإنه فرضه فيمن لا يعلم صدقا، ولا كذبا فكيف يصح أن يقال: إن هذا قضى، بخلاف علمه حتى يرد على المتن فالصواب صحة عبارته. ثم رأيت البلقيني رده بما ذكرته فقال: هذا الاعتراض غير صحيح؛ لأن الذي يقضي به هو ما يشهدان به لا

 

ج / 4 ص -368-        صدقهما فلم يقض حينئذ، بخلاف علمه، ولا بما يعلم خلافه فالعبارتان مستويتان. ا هـ.
فرع: علم مما مر أن من قال: إن تزوجت فلانة فهي طالق ثلاثا فتزوجها وحكم له شافعي بصحة النكاح، أو موجبه تضمن الحكم إبطال ذلك التعليق، وإن لم يذكره في حكمه؛ لأن المعتمد أن الحكم بالصحة كالحكم بالموجب في تناول جميع الآثار المختلف فيها، لكن إن دخل وقت الحكم بها كما هنا فإن من آثارهما هنا أن الطلاق السابق تعليقه على النكاح لا يرفعه. ولو حكم حنفي مثلا قبل العقد بصحة ذلك التعليق جاز للشافعي عقب العقد أن يحكم بإلغائه؛ لأنه ليس نقضا له؛ لعدم دخول وقته؛ لأنه في الحقيقة فتوى لا حكم؛ إذ الحكم الحقيقي الممتنع نقضه إنما يكون في واقع وقته دون ما سيقع؛ لعدم تصور دعوى ملزمة به. والحكم في غير الحسبة إنما يعتد به بعدها إجماعا على ما حكاه غير واحد من الحنفية، نعم إن ثبت ما قيل عن المالكية، أو الحنابلة أنه قد لا يتوقف عليها وأنه قد يسوغ على قواعدهم مثل هذا الحكم لم يبعد امتناع نقضه حينئذ. ومر في الطلاق ما له تعلق بذلك.
"والأظهر أنه" أي: القاضي ولو قاضي ضرورة على الأوجه "يقضي بعلمه" إن شاء أي: بظنه المؤكد الذي يجوز له الشهادة مستندا إليه، وإن استفاده قبل ولايته. واشتراط القطع ومنع الاكتفاء بالظن مطلقا ضعيف، ومن ثم مثله الأئمة بأن يدعى عنده بمال، وقد رآه أقرضه إياه قبل، أو سمعه قبل أقر له به مع احتمال الإبراء، أو غيره ولو سمع دائنا أبرأ مدينه فأخبره فقال: مع إبرائه دينه باق علي عمل به وليس على خلاف العلم؛ لأن إقراره المتأخر عن الإبراء دافع له، ولا بد أن يصرح بمستنده فيقول: علمت أن له عليك ما ادعاه وقضيت، أو حكمت عليك بعلمي، فإن ترك أحد هذين اللفظين لم ينفذ حكمه كما قاله الماوردي وتبعوه ولم يبالوا باستغراب ابن أبي الدم له قال ابن عبد السلام: ولا بد أيضا من كونه ظاهر التقوى، والورع. ا هـ. وهو احتياط لا بأس به. ويقضي بعلمه في الجرح، والتعديل، والتقويم قطعا، وكذا على من أقر بمجلسه أي واستمر على إقراره، لكنه قضاء بالإقرار دون العلم، فإن أنكر كان قضاء بالعلم فلا تناقض في كلامهما كما رد به البلقيني على الإسنوي. ولو رأى وحده هلال رمضان قضى به قطعا بناء على ثبوته بواحد "إلا في حدود"، أو تعازير "الله تعالى" كحد زنا، أو محاربة، أو سرقة، أو شرب لسقوطها بالشبهة مع ندب سترها في الجملة، نعم من ظهر منه في مجلس حكمه ما يوجب تعزيرا عزروه، وإن كان قضاء بالعلم قال جمع متأخرون: وقد يحكم بعلمه في حد لله تعالى كما إذا علم من مكلف أنه أسلم، ثم أظهر الردة فيقضي عليه بموجب ذلك قال البلقيني: وكما إذا اعترف في مجلس الحكم بموجب حد و لم يرجع عنه فيقضي فيه بعلمه، وإن كان إقراره سرا لخبر:
"فإن اعترفت فارجمها" ولم يقيد بحضرة الناس وكما إذا أظهر منه في مجلس الحكم على رءوس الأشهاد نحو ردة وشرب خمر، أما حدود الآدميين فيقضي فيها، سواء المال، والقود وحد القذف، "ولو رأى" إنسان "ورقة فيها حكمه، أو شهادته، أو شهد" عليه، أو أخبره "شاهدان أنك حكمت، أو شهدت بهذا لم يعلم به" القاضي "ولم يشهد" به الشاهد أي: لا يجوز لكل منهما ذلك، "حتى

 

ج / 4 ص -369-        يتذكر" الواقعة بتفصيلها، ولا يكفي تذكره أن هذا خطه فقط وذلك لاحتمال التزوير. والمطلوب علم الحاكم، والشاهد ولم يوجد وخرج بيعمل به عمل غيره إذا شهدا عنده بحكمه "وفيهما وجه" إذا كان الحكم، والشهادة مكتوبين "في ورقة مصونة عندهما" ووثق بأنه خطه ولم يداخله فيه ريبة أنه يعمل به. والأصح لا فرق لاحتمال الريبة. ولا ينافي ذلك نص الشافعي على جواز اعتماده للبينة فيما لو نسي نكول الخصم؛ لأنه يغتفر في الوصف ما لا يغتفر في الأصل، ويؤخذ منه أنه يلحق بالنكول في ذلك كل ما في معناه.
فائدة: كان السبكي في زمن قضائه يكتب على ما ظهر بطلانه أنه باطل بغير إذن مالكه ويقول: لا يعطى لمالكه بل يحفظ في ديوان الحكم ليراه كل قاض.
"وله الحلف على استحقاق حق أو أدائه اعتمادا على" إخبار عدل وعلى "خط" نفسه على المعتمد من تناقض فيه وعلى خط نحو مكاتبه ومأذونه ووكيله وشريكه "مورثه إذا وثق بخطه" بحيث انتفى عنه احتمال تزويره "وأمانته" بأن علم منه أنه لا يتساهل في شيء من حقوق الناس اعتضادا بالقرينة. ودليل حل الحلف بالظن حلف عمر رضي الله عنه بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم أن ابن صياد هو الدجال ولم ينكر عليه مع أنه غيره عند الأكثرين وإنما قال: "
إن يكنه فلن تسلط عليه". وفارقت ما قبلها بأن خطرهما عام بخلافها لتعلقها بنفسه. "والصحيح جواز رواية الحديث بخط" كتبه هو، أو غيره، وإن لم يتذكر قراءة، ولا سماعا ولا إجازة "محفوظ عنده" أو عند غيره؛ لأن باب الرواية أوسع ولذا عمل به السلف، والخلف. ولو رأى خط شيخه له بالإذن في الرواية وعرفه جاز له الاعتماد عليه أيضا الخ.

فصل في التسوية
"ليسو" وجوبا "بين الخصمين"، وإن وكلا، وكثير يوكل خلاصا من ورطة التسوية بينه، وبين خصمه، وهو جهل قبيح، وإذا استويا في مجلس أرفع، ووكيلاهما في مجلس أدون، أو جلسا مستويين، وقام وكيلاهما مستويين جاز كما بحثه الأذرعي "في دخول عليه" بأن يأذن لهما فيه معا لا لأحدهما فقط، ولا قبل الآخر "وقيام لهما"، أو تركه "واستماع لكلامهما"، ونظر إليهما "وطلاقة وجه"، أو عبوسة "وجواب سلام" إن سلما معا "ومجلس" بأن يكون قربهما إليه فيه على السواء أحدهما عن يمينه، والآخر عن يساره، أو بين يديه، وهو الأولى لخبر فيه، والأولى أيضا أن يكون على الركب؛ لأنه أهيب نعم الأولى للمرأة التربع؛ لأنه أستر، ويبعد الرجل عنها، وسائر أنواع الإكرام فلا يجوز له أن يؤثر أحدهما بشيء من ذلك، ولا يمزح معه، وإن شرف بعلم، أو حرية، أو، والديه، أو غيرها لكسر قلب الآخر، وإضراره، والأولى ترك القيام لشريف، ووضيع؛ لأنه يعلم أن القيام لأجل الشريف، ولو قام لمن لم يظنه مخاصما فبان قام لخصمه، أو اعتذر له أما إذا سلم أحدهما فقط فليسكت حتى يسلم الآخر، ويغتفر طول الفصل للضرورة، أو يقول للآخر سلم حتى أرد عليكما، واغتفر له هذا التكلم بأجنبي، ولم يكن قاطعا للرد لذلك، ومن ثم حكى الإمام عنهم أنهم جوزوا له ترك الرد مطلقا لكنه استبعده هو والغزالي، وأفهم قوله: ومجلس أنه لا يتركهما قائمين أي: الأولى

 

ج / 4 ص -370-        ذلك، وعليه يحمل قول الماوردي لا تسمع الدعوى، وهما قائمان، ولو قرب أحدهما من القاضي، وبعد الآخر منه، وطلب الأول مجيء الآخر إليه، وعكس الثاني فالذي يتجه الرجوع للقاضي من غير نظر لشرف أحدهما، أو خسته فإن قلت أمره بنزول الشريف إلى الخسيس تحقير، أو إخافة له بخلاف عكسه فليتعين قلت ممنوع؛ لأن قصد التسوية ينفي النظر لذلك نعم لو قيل: الأولى ذلك لم يبعد "والأصح رفع مسلم على ذمي فيه" أي: المجلس وجوبا عند الماوردي، واعتمده الزركشي كالبارزي، وجوازا عند سليم، وغيره؛ لأن الإسلام يعلو، ولا يعلى، وفي خبر البيهقي في مخاصمة علي كرم الله، وجهه ليهودي في درع بين يدي نائبه شريح أنه قال: وقد ارتفع على الذمي لو كان خصمي مسلما لقعدت معه بين يديك ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تساووهم في المجالس"، وقضية كلام الرافعي إيثار المسلم في سائر وجوه الإكرام، واعتمده البلقيني، واعترض بأن طوائف صرحوا بوجوب التسوية بينهما، "وإذا جلسا"، أو قاما بين يديه "فله أن يسكت" لئلا يتهم "وله أن يقول ليتكلم المدعي" منكما؛ لأنهما ربما هاباه فإن عرف عين المدعي قال له: تكلم "فإذا ادعى" دعوى صحيحة "طالب" جوازا "خصمه بالجواب" بنحو اخرج من دعواه، وإن لم يسأله المدعي لتنفصل الخصومة، وقضية كلامهم هنا أنه لا يلزمه ذلك، وإن انحصر الأمر فيه بأن لم يكن بالبلد قاض آخر، ولو قال له الخصم: طالبه لي بجواب دعواي، ولو قيل: بوجوبه عليه حينئذ لم يبعد، وإلا لزم بقاؤهما متخاصمين، وإذا أثم بدفعهما عنه فكذا بهذا؛ لأن العلة واحدة "فإن أقر" حقيقة أو حكما "فذاك" ظاهر فيلزمه ما أقر به لثبوت الحق بالإقرار من غير حكم لوضوح دلالته بخلاف البينة، ومن ثم لو كانت صورة الإقرار مختلفا فيها احتيج للحكم كما بحثه البلقيني، وله أن يزن عن أحد الخصمين لعود النفع إليهما، وأن يشفع له إن ظن قبوله لا عن حياء، وإلا أثم، وإن تردد فيه الأذرعي لتصريح الغزالي بأن الأخذ بالحياء كهو غصبا، وتردد أيضا في قوله: على ضمانه لاتهامه بالمدافعة، والذي يتجه حرمته إن قويت قرينة ذلك الاتهام "وإن أنكر فله أن يقول للمدعي: ألك بينة" لخبر مسلم به أو شاهد مع يمينك إن ثبت الحق بهما، وإن كانت اليمين بجانب المدعي لنحو لوث قال له: أتحلف "و" له، وهو الأولى "أن يسكت" لئلا يتهم بميله للمدعي نعم إن سكت لجهل وجب إعلامه، ولو شك هل سكوته مع علم، أو جهل فالقول أولى، وإنما لم يجز له تعليم المدعي كيفية الدعوى، ولا الشاهد كيفية الشهادة لقوة الاتهام بذلك فإن تعدى، وفعل فأدى الشاهد بتعليمه اعتد به على ما بحثه الغزي، ولو قيل: محله في مشهورين بالديانة لم يبعد، ولا يلزمه سؤال من التمس منه حضور من بالبلد عن كيفية دعواه إلا في المعزول كما مر، ورجح الغزي ما أفهمه كلام شريح أنه يلزمه لاحتمال طلبه بما لا يسمع فيبتذل، أو يتضرر، وعليه فمحله فيمن يعد ذلك ابتذالا، أو إضرارا له "فإن قال: لي بينة، وأريد تحليفه فله ذلك"؛ لأنه إن تورع، وأقر سهل الأمر، وإلا أقام البينة عليه لتشتهر خيانته، وكذبه، وبحث البلقيني في متصرف عن غيره، أو عن نفسه، وهو محجور عليه بنحو سفه، أو فلس تعين إقامة البينة لئلا يحتاج الأمر للدعوى بين يدي من لا يرى البينة بعد الحلف فيحصل الضرر "أو" قال: "لا

 

ج / 4 ص -371-        بينة لي"، وأطلق، أو قال: لا حاضرة، ولا غائبة، أو كل بينة أقيمها زور "ثم أحضرها قبلت في الأصح" لاحتمال نسيانه، أو عدم علمه بتحملها، وقضيته أن من ادعى عليه بقرض مثلا فأنكر أخذه من أصله، ثم أراد إقامة بينة بأداء، أو إبراء قبلت، وجرى عليه أبو زرعة لجواز نسيانه حال الإنكار كما لو أنكر أصل الإيداع، ثم ادعى تلفا، أو ردا قبل الجحد، وعليه فمحله في صورة القرض أن يدعي أداء، أو إبراء قبل الجحد على أن شيخنا فرق بين الوديعة، والبيع مرابحة بأن مبنى الوديعة على الأمانة فاكتفي فيها بالبينة مطلقا بخلاف البيع، وهذا ظاهر في الفرق بينها، وبين القرض فالقياس المذكور غير صحيح، ولو قال: شهودي فسقة، أو عبيد، ثم أحضر بينة فالأوجه أنه إن اعترف أنهم هم الذين قال عنهم ذلك اشترط مضي زمن يمكن فيه العتق، والاستبراء لإمكان قبولهم حينئذ بإقامة البينة بذلك، وإن قال هؤلاء آخرون جهلتهم، أو نسيتهم قبلوا، وإن قرب الزمن فإن تعذرت مراجعته، وقال الوارث: لا أعلم بذلك فالذي يظهر الوقف إلى بيان الحال؛ لأن قوله: فسقة، أو عبيد مانع فلا بد من تيقن انتفائه، واحتمال كون المحضرين غير المقول عنهم ذلك لا يؤثر احتياطا لحق الغير، "وإذا ازدحم خصوم" أي: مدعون "قدم الأسبق" فالأسبق المسلم وجوبا إن تعين عليه فصل الخصومة؛ لأنه العدل، والعبرة بسبق المدعي؛ لأنه ذو الحق، وبحث البلقيني أنه لو جاء مدع وحده، ثم مدع مع خصمه، ثم خصم الأول قدم من جاء مع خصمه أما الكافر فيقدم عليه المسلم المسبوق كما بحثه البلقيني، وسبقه إليه الفزاري، وأما إذا لم يتعين عليه فصلها فيقدم من شاء كمدرس في علم غير فرض، ولو كفاية كالعروض، وزيادة التبحر على ما يشترط في الاجتهاد المطلق، وأما فيه فهو كالقاضي، وكذا يقال في المفتي كما هو ظاهر: "فإن جهل" السابق "أو جاءوا معا أقرع" إذ لا مرجح، ومنه أن يكتب أسماءهم برقاع بين يديه، ثم يأخذ رقعة رقعة فكل من خرج اسمه قدمه، والأولى لهم تقديم مريض يتضرر بالتأخير فإن امتنعوا قدمه القاضي إن كان مطلوبا؛ لأنه مجبور "ويقدم" ندبا "مسافرون" أي: مريدون للسفر المباح، وإن قصر كما اقتضاه إطلاقهم على مقيمين "مستوفزون" مدعون، أو مدعى عليهم بأن يتضرروا بالتأخر عن رفقتهم "ونسوة" كذلك على رجال، وكذا على خناثى فيما يظهر "وإن تأخروا" لدفع الضرر عنهم "ما لم يكثروا" أي: النوعان، وغلب الذكور لشرفهم فإن كثروا بأن كانوا قدر أهل البلد، أو أكثر فكالمقيمين كذا قالاه، وعبارة غيرهما تفهم اعتبار الخصوم بعضهم مع بعض لا مع أهل البلد كلهم قيل، ولعله أولى، والمسافرون فيما بينهم، والنسوة كذلك يقدم منهم بالسبق، ثم يقرع، ولو تعارض مسافر، وامرأة قدم على الأوجه؛ لأن الضرر فيه أقوى، وبحث الزركشي أن العجوز كالرجل لانتفاء المحذور، وفيه نظر، وما علل به ممنوع "ولا يقدم سابق، وقارع إلا بدعوى" واحدة لئلا يزيد ضرر الباقين، ويقدم المسافر بدعاويه إن خفت بحيث لم تضر بغيره إضرارا بينا أي: بأن لم يحتمل عادة كما هو ظاهر، وإلا فبدعوى واحدة، وألحق به المرأة.
"ويحرم اتخاذ شهود معينين لا يقبل غيرهم" لما فيه من التضييق، وضياع كثير من الحقوق، وله أن يعين من يكتب الوثائق أي: إن تبرع، أو رزق من بيت المال، وإلا حرم كما

 

ج / 4 ص -372-        مر عن القاضي؛ لأنه يؤدي إلى تعنت المعين، ومغالاته في الأجرة، وتعطيله الحقوق، أو تأخيرها، "وإذا شهد شهود" بين يدي قاض بحق، أو تزكية "فعرف عدالة، أو فسقا عمل بعلمه" قطعا، ولم يحتج لتزكية إن علم عدالة، وإن طلبها الخصم نعم أصله، وفرعه لا تقبل تزكيته لهما فلا يعمل فيهما بعلمه "وإلا" يعلم فيهم شيئا "وجب" عليه "الاستزكاء" أي: طلب من يزكيهم، وإن اعترف الخصم بعدالتهم كما يأتي؛ لأن الحق لله تعالى نعم إن صدقهما فيما شهدا به عمل به من جهة الإقرار لا الشهادة، ولو عرف عدالة مزكي المزكى فقط كفى خلافا لما وقع للزركشي، وله الحكم بسؤال المدعي عقب ثبوت العدالة، والأولى أن يقول للمدعى عليه: هل لك دافع في البينة، أو غيرها، ويمهله ثلاثة أيام فأقل، وفي هذا الإمهال بغير رضا الخصم، ولا طلب المدعى عليه نظر ظاهر. والفرق بينه وبين ما يأتي في الحيلولة بلا طلب غير خفي، ويجاب مدع طلب الحيلولة بعد البينة، وقيل: التزكية، وله حينئذ ملازمته بنفسه، أو بنائبه، وبعد الحيلولة لا ينفذ تصرف واحد منهما نعم من بان له نفوذ تصرفه كما هو ظاهر مما مر، وللحاكم فعلها بلا طلب إن رآه، ولا يجيب طالب استيفاء، أو حجر، أو حبس قبل الحكم "بأن" بمعنى كأن "يكتب ما يتميز به الشاهد" اسما، وصفة، وشهرة لئلا يشتبه، ويكفي مميز "والمشهود له، وعليه" لئلا يكون قريبا، أو عدوا، وهذا ليس من الاستزكاء، بل مما يريح من النظر بعده في مانع آخر من نحو عداوة، أو قرابة "وكذا قدر الدين على الصحيح"؛ لأنه قد يغلب على الظن صدق الشاهد في القليل دون الكثير، ولا بعد في كون العدالة تختلف بذلك، وإن كانت ملكه فمن ثم ضعف المصنف الخلاف، وإن قواه الإمام، ونقل المقابل عن معظم الأئمة فاندفع قول شارح لا يحسن التعبير بالصحيح، بل بالأصح "ويبعث به" أي: المكتوب "مزكيا" أي: اثنين مع كل نسخة مخفية عن الآخر، وسماه به؛ لأنه سبب في التزكية فلا ينافي قول أصله إلى المزكي خلافا لمن اعترضه، وهؤلاء المبعوثون ويسمون أصحاب المسائل؛ لأنهم يبحثون، ويسألون، ويسن أن يكون بعثهما سرا، وأن لا يعلم كلا بالآخر، ويطلقون على المزكين حقيقة، وهم المرسول إليهم "ثم" بعد السؤال، والبعث "يشافهه المزكي بما عنده" من جرح فيسن له إخفاؤه، ويقول: زدني في شهودك، وتعديل فيعمل به، ثم هذا المزكى إن كان شاهد أصل فواضح، وإلا اشترط في الأصل عذر يجوز الشهادة على الشهادة، وقال جمع: لا يشترط ذلك للحاجة، ولو ولي صاحب المسألة الحكم بالجرح، والتعديل اكتفي بقوله: فيه؛ لأنه حاكم "وقيل: تكفي كتابته" أي: المزكي إلى القاضي بما عنده وأول الأذرعي كالحسباني هذا الوجه بما يرجع إلى المعتمد "وشرطه" أي: المزكي سواء صاحب المسألة، والمرسول إليه "كشاهد" في كل ما يشترط فيه أما من نصب للحكم بالتعديل، والجرح فشرطه كقاض، ومحله إن لم يكن في، واقعة خاصة، وإلا فكما مر في الاستخلاف "مع معرفة" المزكي لكل من "الجرح، والتعديل"، وأسبابهما لئلا يجرح عدلا، ويزكي فاسقا، ومثله في ذلك الشاهد بالرشد فقول بعضهم: يكفيه أن يشهد بأنه صالح لدينه، ودنياه يحمل على من يعرف صلاحهما الذي يحصل به الرشد في مذهب الحاكم نظير ما يأتي في هو عدل لكن سيأتي في الشهادات ما يعلم منه أنه لا يكتفي بنحو ذلك الإطلاق،

 

ج / 4 ص -373-        ولو من الموافق للقاضي في مذهبه؛ لأن وظيفة الشاهد التفصيل لا الإجمال لينظر فيه القاضي، وقد يجمع بحمل هذا على ما إذا كان ثم احتمال يقدح في ذلك الإطلاق، والأول على خلافه. "و" مع "خبرة" المرسول إليه أيضا بحقيقة "باطن من يعدله"، وجوز بعضهم رفع خبرة عطفا على خبر "شرطه" "لصحبة، أو جوار" بكسر أوله أفصح من ضمه "أو معاملة" قديمة كما قاله عمر رضي الله عنه لمن عدل عنده شاهدا: أهو جارك تعرف ليله، ونهاره، أو عاملك بالدينار، والدرهم اللذين يستدل بهما على الورع، أو رفيقك في السفر الذي يستدل به على مكارم الأخلاق قال: لا قال: لست تعرفه، ويقبل قولهم في خبرتهم بذلك كما يدل له الأثر أما غير القديمة من تلك الثلاثة كأن عرفه في أحدها من نحو شهرين فلا يكفي اتفاقا على ما قاله الماوردي، ويغني عن خبره ذلك أن تستفيض عنده عدالته من الخبراء بباطنه، وألحق ابن الرفعة بذلك ما إذا تكرر ذلك على سمعه مرة بعد أخرى بحيث يخرج عن حد التواطؤ لا شهادة عدلين لاحتمال التواطؤ إلا إن شهد على شهادتهما، وخرج بمن يعدله من يجرحه فلا يشترط خبرة باطنه لاشتراط تفسير الجرح ", والأصح اشتراط لفظ شهادة" من المزكي كبقية الشهادات "و" الأصح "أنه يكفي" قول العارف بأسباب الجرح، والتعديل أي: الموافق مذهبه لمذهب القاضي فيهما نظير ما تقرر بما فيه "هو عدل"؛ لأنه أثبت له العدالة التي هي المقصود "وقيل: يزيد على ولي"، ونقل عن الأكثر؛ لأنه قد يكون عدلا في شيء دون شيء يعني قد يظن صدقه في شيء دون شيء أخذا مما تقرر آنفا في القليل، والكثير، وأما إثبات حقيقة العدالة في صورة، ونفيها في أخر فغير متصور شرعا، وإذا تقرر أن ذلك الذي ذكرته هو المراد لم ينتج منه تأييد لذلك الوجه الضعيف؛ لأنه، وإن قال: على، ولي قد يريد في بعض الصور التي يغلب الظن فيها صدقه دون غيرها فتأمله فإن الشراح أغفلوه بالكلية، ولا يجوز أن يزكي أحد الشاهدين الآخر، ولو عرف الحاكم، والخصم اسم الشاهد، ونسبه، وعينه جازت تزكيته في غيبته كما يأتي، "ويجب ذكر سبب الجرح" صريحا كزان، ولا يكون به قاذفا للحاجة مع أنه مسئول، وبه فارق شهود الزنا إذا نقصوا كما مر مع أنه يندب لهم الستر أو سارق للاختلاف في سببه فوجب بيانه ليعمل القاضي فيه باعتقاده نعم لو اتحد مذهب القاضي، وشاهد الجرح لم يبعد الاكتفاء منه بالإطلاق لكن ظاهر كلامهم أنه لا فرق، ويوجه بما مر آنفا، وقال الإمام والغزالي علمه بسببه مغن عن تفسيره، ولو علم له مجرحات اقتصر على واحد لعدم الحاجة لأزيد منه، بل قال ابن عبد السلام لا يجوز جرحه بالأكبر لاستغنائه عنه بالأصغر فإن لم يبين سببه لم يقبل لكن يجب التوقف عن الاحتجاج به إلى أن يبحث عن ذلك الجرح كما يأتي أما سبب العدالة فلا يحتاج لذكره لكثرة أسبابها، وعسر عدها قال جمع متأخرون: ولا يشترط حضور المزكي والمجروح ولا الشهود له أو عليه أي: لأن الحكم بالجرح، والتعديل حق لله تعالى، ومن ثم كفت فيهما شهادة الحسبة نعم لا بد من تسمية البينة للخصم ليأتي بدافع إن أمكنه "ويعتمد فيه" أي: الجرح "المعاينة" لنحو زناه، أو السماع لنحو قذفه "أو الاستفاضة" عنه بما يجرحه، وإن لم يبلغ التواتر، ولا يجوز اعتماد عدد قليل إلا إن شهد على شهادتهم، ووجد شرط الشهادة على الشهادة، والأشهر أنه

 

ج / 4 ص -374-        يذكر معتمده المذكور، والأقيس لا، "ويقدم" الجرح "على التعديل" لزيادة علم الجارح، "فإن قال المعدل: عرفت سبب الجرح، وتاب منه، وصلح قدم" لزيادة علمه حينئذ.
تنبيه: قوله: وصلح يحتمل أن يكون تأكيدا، والوجه أنه تأسيس إذ لا يلزم من التوبة قبول الشهادة، وحينئذ فيفيد أنه مضت مدة الاستبراء بعد التوبة لكن ظاهر المتن أنه يكفي مجرد قوله: صلح، وليس مرادا، بل لا بد من ذكر مضي تلك المدة إن لم يعلم تاريخ الجرح، وإلا لم يحتج لذلك إذ لا بد من مضيها، وكذا يقدم التعديل إن أرخ كل من البينتين، وكانت بينة التعديل متأخرة قال ابن الصلاح إن علم المعدل جرحه، وإلا فيحتمل اعتماده على حاله قبل الجرح قال القاضي ولا تتوقف الشهادة به على سؤال القاضي؛ لأنه تسمع فيه شهادة الحسبة، وقضيته أن التعديل كذلك لسماعها فيه أيضا، ويقبل قول الشاهد قبل الحكم أنا فاسق، أو مجروح، وإن لم يذكر السبب خلافا للروياني، وغيره نعم يتجه أن محله فيمن لا يبعد عادة علمه بأسباب الجرح، وفي شرح مسلم يتوقف القاضي عن شاهد جرحه عدل بلا بيان سبب، ويتجه أن مراده ندب التوقف إن قويت الريبة لعل القادح يتضح فإن لم يتضح حكم لما يأتي أنه لا عبرة لريبة يجدها بلا مستند.
"والأصح أنه لا يكفي في التعديل قول المدعى عليه هو عدل، وقد غلط" في شهادته علي لما مر أن الاستزكاء حق لله تعالى، ولهذا لا يجوز الحكم بشهادة فاسق، وإن رضي الخصم، ومقابله الاكتفاء بذلك في الحكم عليه لا في التعديل إذ لا قائل به، وقوله: وقد غلط ليس بشرط، بل هو بيان؛ لأن إنكاره مع اعترافه بعدالته مستلزم لنسبته للغلط، وإن لم يصرح به فإن قال عدل فيما شهد به علي كان إقرارا منه به، ويسن له، ولا يلزمه. وإن طلب الخصم إذا ارتاب فيهم لكن بقيده الآتي قبيل الحسبة، وفي المنتقبة، وإلا وجب أن يفرقهم، ويسأل كلا، ويستقصي، ثم يسأل الثاني قبل اجتماع الأول به، ويستقصي، ويعمل بما غلب على ظنه، والأولى كون ذلك قبل التزكية، ولهم أن لا يجيبوه، ويلزمه حينئذ القضاء إن وجدت شروطه، ولا عبرة بريبة يجدها، ولو قال: لا دافع لي فيه، ثم أتى ببينة بنحو عداوته، أو فسقه، وادعى أنه كان جاهلا بذلك قبل قوله: بيمينه على ما ذكره بعضهم فله بعد حلفه إقامة البينة بذلك فإن قلت: أطلقوا قبوله في لا بينة لي، وما معه مما مر آنفا الظاهر، أو الصريح في أنه لا يمين عليه، وهذا يرد على ذلك البعض قلت يمكن الفرق بأن التنافي هنا أظهر؛ لأنه نفى القادح على العموم ثم أثبت بعضه في شخص واحد فاحتاج ليمين تؤيد صدقه في ذلك الإثبات، وأما ثم فإتيانه ببينة لا ينافي لا بينة لي من كل وجه؛ لأنهما لم يتواردا على شيء واحد، وأما قولهم قد يكون له بينة، ولا يعلمها فلا فارق فيه؛ لأنه قد يكون عدوه مثلا، وهو لا يعلمه، ولو أقام بينة على إقرار المدعي بأن شاهديه شربا الخمر مثلا، وقت كذا فإن كان بينه، وبين الأداء دون سنة ردا، وإلا فلا، ولو لم يعينا للشرب وقتا سئل المقر، وحكم بما يقتضيه تعيينه فإن أبى عن التعيين توقف عن الحكم، ولو ادعى الخصم أن المدعي أقر بنحو فسق بينته، وأقام شاهدا ليحلف معه بنى على ما لو قال بعد بينته: شهودي فسقة، والأصح بطلان بينته لا دعواه فلا يحلف الخصم مع شاهده؛ لأن الغرض الطعن في البينة، وهو لا يثبت بشاهد،

 

ج / 4 ص -375-        ويمين، ولو شهدا بأن هذا ملكه، ورثه فشهد آخران بأنهما ذكرا بعد موت الأب أنهما ليسا بشاهدين في هذه الحادثة، أو أنهما ابتاعا الدار منه ردا، وإيهام الروضة خلاف ذلك غير مراد.

باب القضاء على الغائب
عن البلد، أو المجلس بشرطه، وتوابع أخر.
"هو جائز" في كل شيء ما عدا عقوبة لله تعالى كما يأتي، وإن كان الغائب في غير عمله للحاجة، ولتمكنه من إبطال الحكم عليه بإثبات طاعن في البينة إذ يجب تسميتها له إذا حضر بنحو فسق، أو في الحق بنحو أداء، وليس له سؤال القاضي أي: الأهل كما هو ظاهر عن كيفية الدعوى، ومثلها يمين الاستظهار، وإن كان في تحريرها خفاء يبعد على غير العالم استيفاؤه؛ لأن تحريرها إليه نعم إن سجلت فله القدح بإبداء مبطل لها كما هو ظاهر، ولأنه صلى الله عليه وسلم قال لهند امرأة أبي سفيان رضي الله عنهما لما شكت إليه شحه:
"خذي من ماله ما يكفيك وولدك بالمعروف"، فهو قضاء عليه لا إفتاء، وإلا لقال: لك أن تأخذي مثلا، ورده في شرح مسلم بأنه كان حاضرا غير متوار، ولا متعزز؛ لأن الواقعة في فتح مكة لما حضرت هند للمبايعة، وذكر صلى الله عليه وسلم فيها أن لا يسرقن فذكرت هند ذلك، ويؤيده ما رواه الحاكم، وصححه، وأقره الذهبي أنها قالت: لا أبايعك على السرقة إني أسرق من مال زوجي فكف صلى الله عليه وسلم يده، وكفت يدها حتى أرسل إلى أبي سفيان يتحلل لها منه فقال أبو سفيان: أما الرطب فنعم، وأما اليابس فلا، واعترضه غيره بأنه لم يحلفها، ولم يقدر المحكوم به لها، ولم تجر دعوى على ما شرطوه، والدليل الواضح أنه صح عن عمر وعثمان رضي الله عنهما القضاء على الغائب، ولا مخالف لهما من الصحابة كما قاله ابن حزم، واتفاقهم على سماع البينة عليه فالحكم مثلها، والقياس على سماعها على ميت، وصغير مع أنهما أعجز عن الدفع من الغائب، وإنما تسمع الدعوى عليه بشروطها الآتية في بابها مع زيادة شروط أخرى هنا منها أنه لا تسمع هنا إلا "إن كانت عليه" حجة يعلمها القاضي حالة الدعوى كما دل عليه كلامهم، وإن اعترضه البلقيني، وجوز سماعها إذا حدث بعدها علم البينة، أو تحملها، ثم تلك الحجة إما "بينة"، ولو شاهدا، ويمينا فيما يقضى فيه بهما. وإما علم القاضي دون ما عداهما لتعذر الإقرار، واليمين المردودة "وادعى المدعي جحوده"، وأنه يلزمه تسليمه له الآن، وأنه يطالبه بذلك "فإن قال: هو مقر"، وإنما أقيم البينة استظهارا مخافة أن ينكر، أو ليكتب بها القاضي إلى قاضي بلد الغائب "لم تسمع بينته" إلا أن يقول: وهو ممتنع، وذلك؛ لأنها لا تقام على مقر، ولا أثر لقوله: مخافة أن ينكر خلافا للبلقيني، ويؤخذ منه أنه لا تسمع الدعوى على غائب بوديعة للمدعي في يده لعدم الحاجة لذلك لتمكن الوديع من دعوى الرد، أو التلف لكن بحث أبو زرعة سماع الدعوى بأنه له تحت يده وديعة، وتسمع بينته بها لكن لا يحكم، ولا يوفيه من ماله إذ ليس له في ذمته شيء، ومن ثم لو كان معه بينة بإتلافه لها، أو تلفها عنده بتقصير سمعها، وحكم، ووفاه من ماله؛ لأن بدلها حينئذ من جملة الديون قال: وإنما جوزنا ذلك لاحتمال جحود الوديع، وتعذر البينة فيضبطها عند القاضي بإقامتها لديه، وإشهاده على نفسه بثبوت ذلك يستغنى

 

ج / 4 ص -376-        بإقامتها عند جحود الوديع إذا حضر؛ لأنها قد تتعذر حينئذ. ا هـ. ولعل ما قاله مبني على ما نظر إليه شيخه البلقيني من أن مخافة إنكاره مسوغ لسماع الدعوى عليه، ويستثنى من ذلك ما إذا كان للغائب عين حاضرة في عمل القاضي الذي الدعوى عنده، وإن لم تكن ببلده كما هو ظاهر، وأراد إقامة البينة على دينه ليوفيه منه فتسمع البينة، وإن قال: هو مقر قال البلقيني، وكذا تسمع بينته لو قال: أقر فلان بكذا، ولي بينة بإقراره، وجزم به غيره، ولو كان ممن لا يقبل إقراره كسفيه، ومفلس فيما لا يقبل إقرارهما فيه لم يؤثر قوله: هو مقر في سماع البينة. "وإن أطلق"، ولم يتعرض لجحود، ولا إقرار "فالأصح أنها تسمع"؛ لأنه قد لا يعلم جحوده في غيبته، ويحتاج إلى إثبات الحق فيجعل غيبته كسكوته.
فرع: غاب المحال عليه، واتصل بالحاكم، وثيقة بما للمحيل عليه ثابتة قبل الحوالة حكم بموجب الحوالة فله إذا حضر إنكار دين المحيل لا بصحتها كما هو ظاهر لعدم ثبوت محل التصرف عنده إذ الصورة أنه اتصل به ثبوت غيره الذي لم ينضم إليه حكم أما إذا اتصل به حكم غيره بذلك فيحكم بالصحة، وليس للمحال عليه الإنكار.
"و" الأصح "أنه لا يلزم القاضي نصب مسخر" بفتح الخاء المعجمة المشددة "ينكر عن الغائب"، ومن ألحق به ممن يأتي؛ لأنه قد يكون مقرا فيكون إنكار المسخر كذبا نعم لا بأس بنصبه خروجا من خلاف من أوجبه، وكذبه غير محقق على أن الكذب قد يغتفر في مواضع، وقول الأنوار: يستحب بعيد فإن قلت صريح المتن قوة الخلاف، ويؤيده قول المطلب: أن لزوم نصبه هو قياس المذهب في الدعاوى على المتمرد، والخلاف القوي تسن رعايته قلت قوته من حيث الشهرة لا تنافي ضعفه من حيث المدرك كيف، وهو يقتضي حرمة النصب كما قاله الرافعي لكن لما كان فيه نوع حاجة اقتضى إباحته لا غير، وما ذكره في المطلب ممنوع بل المتمرد، والغائب سواء في هذا، وإن افترقا فيما يأتي.
"ويجب" فيما إذا لم يكن للغائب وكيل حاضر إن كانت الدعوى بدين، أو عين، أو بصحة عقد، أو إبراء كأن أحال الغائب على مدين له حاضر فادعى أنه مكره عليه "أن يحلفه بعد البينة"، وتعديلها "أن الحق" في الصورة الأولى "ثابت في ذمته" إلى الآن احتياطا للمحكوم عليه؛ لأنه لو حضر لربما ادعى ما يبريه. ويشترط أن يقول مع ذلك، وأنه يلزمه تسليمه إليه؛ لأنه قد يكون عليه، ولا يلزمه أداؤه لتأجيل، أو نحوه، وظاهر كما قاله البلقيني أن هذا لا يأتي في الدعوى بعين بل يحلف فيها على ما يليق بها، وكذا نحو الإبراء كما يأتي، وأنه لا بد أن يتعرض مع الثبوت، ولزوم التسليم إلى أنه لا يعلم أن في شهوده قادحا في الشهادة مطلقا، أو بالنسبة للغائب كفسق، وعداوة، وتهمة بناء على الأصح أن المدعى عليه لو كان حاضرا، وطلب تحليف المدعي على ذلك أجيب، ولا يبطل الحق بتأخير هذه اليمين، ولا ترتد بالرد؛ لأنها ليست مكملة للحجة، وإنما هي شرط للحكم، ولو ثبت الحق، وحلف ثم نقل إلى حاكم آخر ليحكم به لم تجب إعادتها على الأوجه أما إذا كان له وكيل حاضر فهل يتوقف التحليف على طلبه، وجهان، وقضية كلامهما توقفه عليه، واعتمده ابن

 

ج / 4 ص -377-        الرفعة، واستشكله في التوشيح بأنه إذا كان له وكيل حاضر لم يكن قضاء على غائب، ولم تجب يمين جزما، وفيه نظر؛ ولأن العبرة في الخصومات في نحو اليمين بالموكل لا الوكيل فهو قضاء على غائب بالنسبة لليمين، ويؤيد ذلك قول البلقيني للقاضي سماع الدعوى على غائب، وإن حضر وكيله لوجود الغيبة المسوغة للحكم عليه، والقضاء إنما يقع عليه أي: في الحقيقة، أو بالنسبة لليمين، فالحاصل أن الدعوى إن سمعت على الوكيل توجه الحكم إليه دون موكله إلا بالنسبة لليمين احتياطا لحق الموكل، وإن لم تسمع عليه توجه الحكم إلى الغائب من كل وجه في اليمين، وغيرها.
تنبيه: علم من كلام البلقيني أن القاضي فيمن له وكيل حاضر مخير بين سماع الدعوى على الوكيل، وسماعها على الغائب إذا وجدت شروط القضاء عليه، ولا يتعين عليه أحد هذين؛ لأن كلا منهما يتوصل به إلى الحق فإن لم توجد شروط القضاء على الغائب فالذي يظهر وجوب سماعها على الوكيل حينئذ لئلا يضيع حق المدعي، وخرج بقوله: إن الحق ثابت في ذمته ما لو لم يكن كذلك كدعوى قن عتقا، أو امرأة طلاقا على غائب، وشهدت البينة حسبة على إقراره به فلا يحتاج لليمين إذا لاحظ جهة الحسبة، وبه أفتى ابن الصلاح في العتق، وألحق به الأذرعي الطلاق، ونحوه من حقوق الله تعالى المتعلقة بشخص معين بخلاف ما لو ادعى عليه بنحو بيع، وأقام بينة به، أو بالإقرار به، وطلب الحكم بثبوته فإنه يجيبه لذلك خلافا لما وقع في الجواهر، وحينئذ يجب أن يحلف خوفا من مفسد قارن العقد، أو طرو مزيل له، ويكفي أنه الآن مستحق لما ادعاه.
"وقيل: يستحب" التحليف؛ لأنه يمكنه التدارك إن كان له دافع، ويقع أن الحاضر بالبلد يوكل من يدعي على الغائب حتى ينفي عنه يمين الاستظهار أخذا من ظواهر عبارات تقتضي ذلك، وليس بصواب، بل المجزوم به في كلام الأصحاب أنه لا بد من حلف الموكل، وتلك العبارات محمولة على وكيل الغائب أي: إلى محل تسمع عليه الدعوى فيه لا مطلقا كما هو ظاهر، وسكتوا عن التصريح بذلك لوضوحه.
تنبيه: ادعى على غائب بنحو طلاق كأن علقه بمضي شهر فمضى حكم به، ولا ينتظر، وإن احتمل أن تخلفه بعذر كما مر مبسوطا أواخر الطلاق، وظاهر كلام السبكي وجوب يمين الاستظهار حتى في الطلاق أي: إذا لم يلاحظ فيه الحسبة فإنه أفتى فيمن قال: إن مضت مدة كذا، ولم أدخل بها فهي طالق فانقضت المدة، وهو غائب بأنه إن شهد أربع نسوة ببكارتها، وحلفت على عدم الدخول لأجل غيبته حكم بوقوع الطلاق فقوله: وحلفت بالواو لا بأو خلافا لما وقع في نسخ تحريفا، وتعليله بقوله: لأجل غيبته صريح في أنها يمين استظهار، وقد يجمع بأن الأول في بينة شهادة بإقراره فهو المقصر به فلم يحتج للاستظهار في حقه وهذا في بينة شاهدة بفعله، وهو لضعف دلالته يحتاج لمقو فوجبت هذا، والأوجه إطلاق وجوبها؛ لأنه الأنسب بالاحتياط المبني عليه أمر الغائب، وظاهر أنه ليس من محل الخلاف ما إذا علق بعدم الإنفاق عليها فتحلف أن نفقتها باقية عليه ما برئ منها بطريق من الطرق،

 

ج / 4 ص -378-        وأفتى بعضهم بأنه لا يحتاج إليها في قاض جعله الميت، وصيا، واعترف عنده بدين عليه لفلان بناء على أن له القضاء بعلمه، وفيه نظر، بل لا يصح؛ لأنه قد يبرئه بعد الوصية فاحتيج ليمين الاستظهار لنفي ذلك، ونحوه، وبأنه لو أقر بدين، وهو مريض، وأوصى بقضائه، وفي الورثة يتيم احتيج ليمين الاستظهار إن مضى بعد الإقرار إمكان أدائه، وفيه إيهام، والوجه أخذا مما مر أنه تلزمه يمين بأن الإقرار حق، وببقاء الدين، وإن لم يمض مدة إمكان أدائه لاحتمال الإبراء، أو نحوه.
"ويجريان" أي: الوجهان كما قبلهما من الأحكام "في دعوى على صبي، ومجنون" لا ولي له، أو له ولي، ولم يطلب فلا تتوقف اليمين على طلبه، وميت ليس له، وارث خاص حاضر كالغائب، بل، أولى لعجزهم عن التدارك فإذا كملا، أو قدم الغائب فهم على حجتهم أما من له وارث خاص حاضر كامل فلا بد في تحليف خصمه بعد البينة من طلبه والفرق بينه، وبين ما مر في الولي ظاهر، ومن ثم لو كان على الميت دين مستغرق لم يتوقف على طلبه إلا إن حضر معه كل الغرماء، وسكتوا نعم إن سكت عن طلبها لجهل عرفه الحاكم فإن لم يطلبها قضى عليه بدونها، وخرج بمن ذكر متعزز، ومتوار فيقضى عليهما بلا يمين كما يأتي لتقصيرهما.
فرع: لا تسقط يمين الاستظهار بإحالة الدائن، ولا يمنع توقف طلبها من المحيل صحة الحوالة، ولا سماع بينة المحتال، وأفتى العماد بن يونس في ميت عن ابنين غائب، وطفل، وعنده رهن بدين فمات المدين فحضر وكيل الغائب، ووصي الطفل إلى القاضي، وأثبتا الدين، والرهن، وطلبا منه الوفاء بأنه يوفى من ثمنه، وتوقف اليمين إلى الحضور، والبلوغ، ويظهر أنه مفرع على طريقة السبكي الآتية، وغيره بأنه لو حكم على غائب فبان أن له وكيلا بالبلد حالة الحكم نفذ، ويوافقه ما مر آنفا عن البلقيني، ومر أن القاضي لو باع مال غائب فقدم، وقال: بعته قبل بيع الحاكم قدم المالك بخلاف ما لو باع وكيله، ثم ادعى سبق بيعه لا بد له من البينة كما في النهاية؛ لأن ولاية الوكيل الخاص أقوى من ولاية الحاكم، وتناقض كلام ابن الصلاح فيما لو ادعى أن الميت أبرأه، وأثبته بالبينة، والأوجه أنه لا بد من يمين الاستظهار هنا أيضا قال الأذرعي لاحتمال أنه كان مكرها على الإبراء، أو الإقرار به.
"ولو ادعى وكيل الغائب" أي: إلى مسافة يجوز القضاء فيها على الغائب كما هو ظاهر، ثم رأيت بعضهم صرح به فقال فيما إذا ادعى وكيل غائب على غائب، أو حاضر المراد بالغيبة فيهما فوق مسافة العدوى، أو في غير ولاية الحاكم، وإن قربت كما يأتي عن الماوردي "على غائب"، أو صبي، أو مجنون، أو ميت، وإن لم يرثه إلا بيت المال على الأوجه "فلا تحليف"، بل يحكم بالبينة؛ لأن الوكيل لا يتصور حلفه على استحقاقه، ولا على أن موكله يستحقه، ولو، وقف الأمر إلى حضور الموكل لتعذر استيفاء الحقوق بالوكلاء، وإفتاء ابن الصلاح فيمن ادعى على ميت، وأقام بينة ثم، وكل، ثم غاب طالب وكيله، ولا يتوقف على يمين الموكل مردود بأن التوكيل هنا إنما وقع لإسقاط اليمين بعد وجوبها فلم تسقط

 

ج / 4 ص -379-        بخلافه فيما مر أما الغائب إلى محل قريب، وهو بولاية القاضي فتلزمه اليمين فيتوقف الأمر إلى حضوره، وحلفها؛ لأنه لا مشقة عليه في الحضور حينئذ بخلاف ما لو بعد، أو كان بغير ولاية الحاكم، ولو ادعى قيم صبي، أو مجنون دينا له على كامل فادعى وجود مسقط كأتلف أحدهما علي من جنس ما يدعيه بقدر دينه، وكأبرأني مورثه، أو قبضه مني قبل موته، وكأقررت لكن على رسم القبالة على الأوجه لم يؤخر الاستيفاء لليمين المتوجهة على أحدهما بعد كماله لإقراره فلم يراع بخلاف من قامت عليه البينة في المسألة الآتية فادعاء تناقض بينهما ليس في محله، وأيضا فاليمين هنا إنما توجهت في دعوى ثانية فلم يلتفت إليها بخلافها فيما يأتي، أو على أحدهما، أو غائب وقف الأمر إلى الكمال، والحضور كما صرح به كلامهما، وبه صرح القاضي، وتبعوه كما اعترف به السبكي لتوقفه على اليمين المتعذرة، ويفرق بين هذا، وما مر في الوكيل بأنه يترتب على عدم الاستيفاء ثم مفسدة عامة، وهي تعذر استيفاء الحقوق بالوكلاء بخلافه هنا لكن ينبغي أن يؤخذ كفيل، وقال السبكي يحكم الآن بما قامت به البينة، ويؤخذ منه، وبسط ذلك، وسبقه إليه ابن عبد السلام، وتبعهما جمع متأخرون كالأذرعي والبلقيني والزركشي، وهو قوي مدركا لا نقلا؛ لأنه قد يترتب على الانتظار ضياع الحق لكن هذا يخف بأخذ الكفيل الذي ذكرته، والمراد به أخذ القاضي من ماله تحت يده ما يفي بالمدعى، أو ثمنه إن خشي تلفه، وبه يقرب الأول، ويحلف الولي يمين الاستظهار فيما باشره بناء على ما يأتي، "ولو حضر المدعى عليه، وقال" بعد الدعوى عليه من وكيل غائب بدين له عليه "لوكيل المدعي" الغائب "أبرأني موكلك"، أو، وفيته مثلا فأخر الطلب إلى حضوره ليحلف لي أنه ما أبرأني لم يجب و "أمر بالتسليم" له ثم يثبت الإبراء بعد إن كان له به حجة؛ لأنه لو وقف لتعذر الاستيفاء بالوكلاء نعم له تحليف الوكيل إذا ادعى عليه علمه بنحو إبراء أنه لا يعلم أن موكله أبرأه مثلا لصحة هذه الدعوى إذ لو أقر بمضمونها بطلت وكالته قال الرافعي، وقياس ذلك أن القاضي يحلفه على أنه لا يعلم صدور مسقط لما يدعيه من نحو قبض، وإبراء، ويحمل قولهم لا يحلف الوكيل على الحلف على البت، وكان وجه ذكر هذه المسألة مع أنها ليست من فروع هذا الباب أن فيها طلب توقف إلى يمين فأشبهت ما قبلها.
فرع: يكفي في دعوى الوكيل مصادقة الخصم له على الوكالة إن كان القصد إثبات الحق لا تسلمه؛ لأنه، وإن ثبت عليه لا يلزمه الدفع إلا على، وجه مبر، ولا يبرأ إلا بعد ثبوت الوكالة.
"وإذا ثبت" عند حاكم "مال على غائب"، أو ميت، وحكم به بشروطه "وله مال" حاضر في عمله، أو دين ثابت على حاضر في عمله كما شمله المتن، واعتمده جمع منهم أبو زرعة، وأطال فيه في فتاويه، ولا ينافيه منعهم الدعوى بالدين على غريم الغريم؛ لأنه محمول على ما إذا كان الغريم حاضرا، أو غائبا، ولم يكن دينه ثابتا على غريمه فليس له الدعوى ليقيم شاهدا، ويحلف معه، وجزم ابن الصلاح بأن لغريم ميت لا وارث له، أو له وارث، ولم يدع الدعوى على غريم الميت بعين له تحت يده لعله يقر قال: والأحسن إقامة البينة بها، وتبعه

 

ج / 4 ص -380-        السبكي قال الغزي، وهو واضح، وما ذكروه في المنع إنما هو في الدين للفرق بينهما، والغائب كالميت فيما ذكر، وقول شريح تمتنع إقامة غريم الغائب بينة بملكه عينا منظر فيه، أو محمول على ما إذا أراد أن يدعي ليقيم شاهدا، ويحلف معه "قضاه الحاكم منه" إذا طلبه المدعي؛ لأن الحاكم يقوم مقامه، ولا يطالبه بكفيل؛ لأن الأصل بقاء المال، ولا يعطيه بمجرد الثبوت؛ لأنه ليس بحكم أما إذا كان في غير عمله فسيأتي قريبا، واستثنى منه البلقيني ما إذا كان الحاضر يجبر على دفع مقابله للغائب كزوجة تدعي بصداقها الحال قبل الوطء، وبائع يدعي بالثمن قبل القبض، وما إذا تعلق بالمال الحاضر حق كبائع له لم يقبض ثمنه، وطلب من الحاكم الحجر على المشتري الغائب حيث استحقه فيجيبه، ولا يوفى الدين منه، وكذلك يقدم مؤنة ممون الغائب ذلك اليوم على الدين الذي عليه، وطلب قضاؤه من ماله، ولو كان نحو مرهون تزيد قيمته على الدين فللقاضي بطلب المدعي إجبار المرتهن على أخذ حقه بطريقة ليبقى الفاضل للدائن. ا هـ. ولو باع قاض مال غائب في دينه فقدم، وأبطل الدين بإثبات إيفائه، أو نحو فسق شاهد بطل البيع على الأوجه خلافا للروياني "وإلا" يكن له مال في عمله، أو لم يحكم "فإن سأل المدعي إنهاء الحال إلى قاضي بلد الغائب"، أو إلى كل من يصل إليه الكتاب من القضاة "أجابه" وجوبا، وإن كان المكتوب إليه قاضي ضرورة مسارعة لقضاء حقه "فينهي إليه سماع بينة"، ثم إن عدلها لم يحتج المكتوب إليه إلى تعديلها، وإلا احتاج إليه "ليحكم بها ثم يستوفي" الحق، وخرج بها علمه فلا يكتب به؛ لأنه شاهد الآن لا قاض ذكره في العدة، وخالفه السرخسي، واعتمده البلقيني؛ لأن علمه كقيام البينة، ويؤيده قول المتن الآتي فشافهه بحكمه إلى آخره، وله على الأوجه أن يكتب سماع شاهد واحد ليسمع المكتوب إليه شاهدا آخر، أو يحلفه، ويحكم له "أو" ينهي إليه "حكما" إن حكم "ليستوفي" الحق؛ لأن الحاجة تدعو إلى ذلك، ولا يشترط هنا بعد المسافة كما يأتي قيل: إنهاؤه إما سماع بينة، أو ثبت عندي، وهي تستلزم الأولى، ولا عكس، وإما الحكم بالحق، وهو أرفعها، ويستلزم الأولين، والذي يرتب عليه المكتوب إليه الحكم هو الثانية لا الأولى فإذا تعبير المصنف ليس بمحرر. ا هـ. ويرد بأن غاية الأمر أن قوله: سماع بينة محتمل لأن يكون معه ثبوت، وأن لا، والمراد الأول، ومثل هذا لا يوجب الجزم بعدم تحرير التعبير، ولو كتب لمعين فشهد الشاهدان عند غيره أمضاه إذ الاعتماد على الشهادة، ولو حضر الغائب، وطلب من الكاتب المبهم البينة المعدل لها أن يبينها له ليقدح فيها أجيب على الأوجه وفاقا لجمع، ولو شهدت بينة عند قاض أن القاضي فلانا ثبت عنده كذا لفلان، وكان قد مات، أو عزل حكم به، ولم يحتج لإعادة البينة بأصل الحق، وقولهم إذا عزل بعد سماع بينة، ثم ولي أعادها محله كما بينه البلقيني إذا لم يكن قد حكم بقبول البينة، وإلا لم تجب استعادتها، وإن لم يكن قد حكم بالإلزام بالحق، وفي الكفاية لو فسق، والكتاب بسماع الشهادة لم يقبل، ولم يحكم به كما لو فسق الشاهد قبل الحكم، ومحله إذا كان فسقه قبل عمل المكتوب إليه بالسماع فإن كان بعده لم ينتقض صرح به جمع متقدمون. ا هـ. ملخصا.
تنبيه: إنما يعتد بكتاب القاضي فيما لم يمكن تحصيله بغيره فلو طلب منه أن يحكم

 

ج / 4 ص -381-        لغريب حاضر على غائب بعين غائبة ببلد الغريب، وله بينة من بلده عازمون على السفر إليه لم تسمع شهادتهم، وإن سمعها لم يكتب بها بل يقول له: اذهب معهم لقاضي بلدك، وبلد ملكك ليشهدوا عنده.
"والإنهاء أن يشهد" ذكرين "عدلين بذلك" أي: بما جرى عنده من ثبوت، أو حكم، ولا يكفي غير رجلين، ولو في مال، أو هلال رمضان "ويستحب كتاب به" ليذكر الشهود الحال "يذكر فيه ما يتميز به المحكوم"، أو المشهود "عليه"، وله من اسم، ونسب، وصنعة، وحلية، وأسماء الشهود، وتاريخه "ويختمه" ندبا حفظا له، وإكراما للمكتوب إليه، وختم الكتاب من حيث هو سنة متبعة، وظاهر أن المراد بختمه جعل نحو شمع عليه، ويختم عليه بخاتمه؛ لأنه يحفظ بذلك، ويكرم به المكتوب إليه حينئذ، وعلى هذا يحمل ما صح أنه صلى الله عليه وسلم كان يرسل كتبه غير مختومة فامتنع بعضهم من قبولها إلا مختومة فاتخذ خاتما، ونقش عليه محمد رسول الله، ويسن له ذكر نقش خاتمه الذي يختم به في الكتاب، وأن يثبت اسم نفسه، واسم المكتوب إليه في باطنه، وعنوانه، وقبل ختمه يقرؤه هو، أو غيره بحضرته على الشاهدين، ويقول: أشهد كما أني كتبت إلى فلان بما فيه، ولا يكفي أشهد كما أن هذا خطي، أو أن ما فيه حكمي، ويدفع لهما نسخة أخرى غير مختومة يتذاكران بها، ولو خالفاه، أو انمحى، أو ضاع فالعبرة بهما "و" بعد وصوله للمكتوب إليه، وإحضاره الخصم خلافا لقول ابن الصلاح لا يتوقف إثبات الكتاب الحكمي على حضور الخصم، ولا على إثبات غيبته الغيبة المعتبرة ثم رأيت القمولي قال: وهذا غريب، والخادم قال عن الماوردي لا بد من حضور الخصم؛ لأن ذلك شهادة عليه، وسكت عليه الروياني، وغيره، وبه أفتى السبكي، ونقله غيره عن قضية كلام الشيخين وابن الرفعة، واعتمد أكثر متأخري فقهاء اليمن ما ذكر عن ابن الصلاح قيل: وعليه عمل الأشياخ، والقضاة؛ لأن القاضي المنهى إليه منفذ لما قامت به الحجة عند الأول غير مبتدئ للحكم، وقد قطع الروياني بأن التنفيذ لا يشترط فيه حضور الخصم، والدعوى عليه. ا هـ. ويرد بأن التنفيذ إنما يكون في الأحكام التامة التي فرغ منها، وأما الحكم هنا فلا يقال له: تنفيذ؛ لأن الأول إن لم يحكم فواضح، وإن حكم، ولم يكن بمحله مال للمحكوم عليه فحكمه لم يتم فنزل منزلة عدم الحكم، وعلى كل فليس هنا محض تنفيذ فاشترط حضور الخصم، وإن كان هناك حكم احتياطا "يشهدان عليه إن أنكر" بما فيه "فإن قال: لست المسمى في الكتاب صدق بيمينه" على ذلك؛ لأن الأصل براءته "وعلى المدعي بينة"، ويكفي فيها العدالة الظاهرة كما أخذه الزركشي من كلام الرافعي "بأن هذا المكتوب اسمه، ونسبه" نعم إن كان معروفا بهما حكم عليه، ولم يلتفت لإنكاره "فإن أقامها بذلك فقال: لست المحكوم عليه لزمه الحكم إن لم يكن هناك مشارك له في الاسم، والصفات"، أو كان، ولم يعاصره؛ لأن الظاهر أنه المحكوم عليه ", وإن كان" هناك من يشاركه بعلم القاضي، أو بينة، وقد عاصره قال جمع متقدمون: وأمكنت معاملته أي: أو معاملة مورثه، أو إتلافه لماله، ومات بعد الحكم، أو قبله، وقع الإشكال فيرسل للكاتب بما يأتي، وإن لم يمت "أحضر فإن اعترف بالحق طولب، وترك الأول" إن صدق المدعي المقر، وإلا فهو مقر لمنكر، ويبقى طلبه

 

ج / 4 ص -382-        على الأول، "وإلا" أي: وإن أنكر "بعث" المكتوب إليه "إلى الكاتب" بما وقع من الإشكال "ليطلب من الشهود زيادة صفة تميزه، ويكتبها"، وينهيها لقاضي بلد الغائب "ثانيا" فإن لم يجد مزيدا وقف الأمر حتى ينكشف الحال، وبحث البلقيني أنه لا بد من حكم ثان بما كتب به من غير دعوى، ولا حلف، وفيه، وقفة؛ لأن هذا من تتمة الحكم الأول فلا حاجة لاستئناف حكم آخر، "ولو حضر قاضي بلد الغائب" سواء المكتوب إليه، وغيره "ببلد الحاكم"، ولو أمين الشرطة لكن بشرط أن ينحصر الخلاص في الإنهاء إليه نظير ما يأتي في الشهادة عنده "فشافهه بحكمه ففي إمضائه" أي: تنفيذه "إذا عاد إلى" محل "ولايته خلاف القضاء بعلمه"، والأصح جوازه؛ لأنه قادر على الإنشاء، وخرج به ما لو شافهه بسماع البينة دون الحكم فإنه لا يقضي بها إذا رجع إلى محل ولايته قطعا؛ لأنه مجرد إخبار كالشهادة وبحث تقييده بما يأتي عن المطلب، "ولو ناداه" كاثنين "في طرفي ولايتهما"، وقال له: إني حكمت بكذا "أمضاه" أي: نفذه، وكذا إذا كان في بلد قاضيان، ولو نائبا، ومنيبه، وشافه أحدهما الآخر بحكمه فيمضيه، وإن لم يحضر الخصم "فإن اقتصر" القاضي الكاتب "على سماع بينة كتب سمعت بينة على فلان"، ويصفه بما يميزه ليحكم عليه المكتوب إليه "ويسميها" وجوبا، ويرفع في نسبها "إن لم يعدلها" ليبحث المكتوب له عن عدالتها، وغيرها حتى يحكم بها، وبحث الأذرعي تعين تعديلها إذا علم أنه ليس له في بلد المكتوب له من يعرفها "وإلا" بأن عدلها "فالأصح جواز ترك التسمية"، ولو في غير مشهوري العدالة كما اقتضاه إطلاقهم لكن خصه الماوردي بمشهوريها، وذلك اكتفاء بتعديل الكاتب لها كما أنه إذا حكم استغنى عن تسمية الشهود نعم إن كانت شاهدا، ويمينا، أو يمينا مردودة، وجب بيانها؛ لأن الإنهاء قد يصل لمن لا يرى قبولها، والحكم بالعلم قال بعضهم: الأصح أن له نقله، وإن لم يبينه، وفيه نظر لاختلاف العلماء فيه كالذي قبله، ولو ثبت الحق بالإقرار لزمه بيانه، ولا يجزم بأنه عليه لقبول الإقرار للسقوط بدعوى أنه على رسم القبالة فيطلب يمين خصمه فيردها فيحلف فيبطل الإقرار "والكتاب"، والإنهاء بلا كتاب "بالحكم" من الحاكم لا المحكم "يمضي مع قرب المسافة"، وبعدها؛ لأن الحكم تم فلم يبق بعده إلا الاستيفاء "وبسماع البينة لا يقبل على الصحيح إلا في مسافة قبول شهادة على شهادة" فيقبل من الحاكم لا المحكم أيضا، وهي فوق مسافة العدوى الآتية لسهولة إحضار الحجة مع القرب، ومنه أخذ في المطلب أنه لو تعسر إحضارها مع القرب بنحو مرض قبل الإنهاء، والعبرة في المسافة بما بين القاضيين لا بما بين القاضي المنهي، والغريم.
فرع: قال القاضي وأقروه لو حضر الغريم، وامتنع من بيع ماله الغائب لوفاء دينه به عند الطلب ساغ للقاضي بيعه لقضاء الدين، وإن لم يكن المال بمحل ولايته، وكذا إن غاب بمحل ولايته كما ذكره التاج السبكي والغزي قالا بخلاف ما لو كان بغير محل ولايته؛ لأنه لا يمكن نيابته عنه في، وفاء الدين حينئذ بخلافه في الصورتين الأولتين، ونوزعا بتصريح الغزالي كإمامه، واقتضاه كلام الرافعي، وغيره بأنه لا فرق في العقار المقضي به بين كونه بمحل ولاية القاضي الكاتب، وغيرها قال الإمام فإن قيل: كيف يقضي ببقعة ليست في محل

 

ج / 4 ص -383-        ولايته؟ قلنا: هذا غفلة عن حقيقة القضاء على الغائب فكما أنه يقضى على من ليس بمحل ولايته ففيما ليس فيه كذلك، وعن هذا قال العلماء بحقائق القضاء قاض في قرية ينفذ قضاؤه في دائرة الآفاق، ويقضي على أهل الدنيا ثم إذا ساغ القضاء على غائب فالقضاء بالدار الغائبة قضاء على غائب، والدار مقضى بها. ا هـ. قال غيره، وبيع الغائبة عن الغائب عن محل ولايته قضاء عليه بقضاء دينه بلا شك، بل ذلك أولى بالقضاء على غائب عن محل ولايته بعين في غير محل ولايته، ويلزم السبكي والغزي، ومن تبعهما أن يمنعوا ذلك، ولا أظنهم يسمحون به، وتقييد الرافعي بالحاضر في قوله: إذا ثبت على الغائب دين، وله مال حاضر، وفاه الحاكم منه إنما هو للغالب لندرة القدرة على تيسر القضاء من المال الغائب عن محل ولايته. ا هـ. وعلى هذا يحمل قوله: أيضا قد يكون للغائب مال حاضر يمكن التوفية منه، وقد لا فيسأل المدعي القاضي إنهاء الحكم إلى قاضي بلد الغائب. ا هـ. فقوله: فيسأل إنما هو لكون هذا الإنهاء أسرع في خلاص الحق، وأقوى عليه من حكم القاضي به مع كونه بغير عمله، وقد قال القمولي في المفلس كابن عبد السلام باع الحاكم ماله، وصرفه في دينه سواء أكان ماله في محل ولاية هذا الحاكم، أو في ولاية غيره، ونقله الأزرق عن فتاوى القاضي فثبت أن هذا هو المنقول المعتمد، ولك أن تقول: لا شاهد في هذا؛ لأن الغريم فيه في محل ولايته، ولا كلام حينئذ في بيع ماله، وإن كان خارجها، وإنما محل الكلام إذا كان كل من المال، والخصم في غير محل ولايته، ولا شاهد أيضا في كلام الغزالي، وما بعده؛ لأنه ليس فيه تصريح بغيبتهما معا عن محل ولايته فليحمل على أن الإنهاء يخالف غيره، أو على ما إذا كان الخصم الغائب بمحل ولايته، والأولوية، وحمل كلام الرافعي المذكوران ممنوعان إذ لا دليل يصرح بذلك، وقد اعتمد بعضهم كلام السبكي والغزي فارقا بين إنهاء القاضي إلى قاضي بلد المال فيجوز مطلقا، وبين بيعه للمال فلا يجوز إلا إن كان أحدهما في محل عمله فقال ما حاصله قال ابن قاضي شهبة، وإنما يمتنع البيع إذا غاب هو وماله عن محل ولايته أي: فينهيه إلى حاكم بلد هو فيها، أو ماله كما ذكره الأئمة، ولا يجوز أن يبيع إذا خرجا عنها، وقول بعضهم يجوز سهو؛ لأنه إذا لم يجز له إحضاره للدعوى عليه، وإن قرب فكيف يبيع ماله قهرا عليه. ا هـ. وما علل به السهو هو السهو إذ لا ملازمة بين الإحضار، والبيع، وخالف شيخنا في فتاويه ذلك فمنع بيع ما ليس بمحل ولايته مطلقا قال كمن زوج امرأة ليست بمحل ولايته بمن هو فيها. ا هـ. ولا شاهد فيما ذكره؛ لأن العبرة في التصرف في المال بقاضي بلد مالكه لا بقاضي بلد المال؛ لأنه تابع لا مستقل بخلاف الزوجة فإنها مستقلة فاعتبرت بلدها لا غير.

فصل في غيبة المحكوم به عن مجلس القاضي
سواء أكان بمحل ولايته أم لا، ولهذا أدخله في الترجمة لمناسبته لها، ولا فرق فيما يأتي بين حضور المدعى عليه، وغيبته.
"ادعى عينا غائبة عن البلد"، ولو في غير محل ولايته على ما مر، "يؤمن اشتباهها

 

ج / 4 ص -384-        كعقار، وعبد، وفرس معروفات"، ولو للقاضي، وحده إن حكم بعلمه، أو بالشهرة، أو بتحديد الأول "سمع" القاضي "بينته" التي ليست ذاهبة لبلد العين كما مر "وحكم بها" على حاضر، وغائب "وكتب إلى قاضي بلد المال ليسلمه للمدعي" كما يسمع البينة، ويحكم على الغائب فيما مر قال جمع: صوابه معروفين؛ لأن القاعدة عند اجتماع العاقل مع غيره تغليب العاقل. ا هـ. وتعبيرهم بالصواب غير صواب، بل ذلك قد يحسن كما أنه قد يحسن تغليب غير العاقل لكثرته كما في {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [الحشر:1، والصف: 1] وزعم البلقيني أن الصواب قول أصله وغيره معروفين نعتا لغير العقار اكتفاء فيه بقوله: "ويعتمد في" معرفة "العقار، وحدوده"، ويرد بأن المعرفة فيه لا تتقيد بحدوده، بل قد يعرف بالشهرة التامة فلا يحتاج لذكر حد، ولا غيره، وهذا استفيد من كلامه الأول، وقد لا فيحتاج لذكر حدوده الأربعة، ولا يجوز الاقتصار على أقل منها، وقول الروضة، وأصلها ككثيرين يكفي ثلاثة محله إن تميز بها، بل قال ابن الرفعة إن تميز بحد كفى ويشترط أيضا ذكر بلده، وسكنه، ومحله منها لا قيمته لحصول التمييز بدونها "أو لا يؤمن" اشتباهها كغير المعروف من نحو العبيد، والدواب "فالأظهر سماع" الدعوى بها اعتمادا على الأوصاف أيضا لإقامة "البينة" عليها؛ لأن الصفة تميزها، والحاجة داعية إلى إقامة الحجة عليها كالعقار "ويبالغ" وجوبا "المدعي في الوصف" للمثلي بما يمكن الاستقصاء به ليحصل التمييز به الحاصل غالبا بذلك، واشترطت المبالغة هنا دون السلم؛ لأنها ثم تؤدي لعزة الوجود المنافية للعقد "ويذكر القيمة" في المتقوم وجوبا أيضا إذ لا يصير معلوما إلا بها أما ذكر قيمة المثلي، والمبالغة في وصف المتقوم فمندوبان كما جريا عليه هنا، وقولهما في الدعاوى يجب وصف العين بصفة السلم دون قيمتها مثلية كانت، أو متقومة محمول على عين حاضرة بالبلد يمكن إحضارها مجلس الحكم. وقد أشاروا لذلك بتعبيرهم هنا بالمبالغة في الوصف، وثم بوصف السلم فمن عبر في البابين بصفات السلم فقد، وهم "و" الأظهر "أنه لا يحكم بها" أي: بما قامت البينة عليه؛ لأن الحكم مع خطر الاشتباه، والجهالة بعيد، والحاجة تندفع بسماع البينة بها اعتمادا على صفاتها، والكتابة بها كما قال: "بل يكتب إلى قاضي بلد المال بما شهدت به" البينة فإن أظهر الخصم هناك عينا أخرى مشاركة لها بيده، أو يد غيره أشكل الحال نظير ما مر في المحكوم عليه، وإن لم يأت بدافع عمل القاضي المكتوب إليه بالصفة التي تضمنها الكتاب، وحينئذ "فيأخذه" ممن هو عنده "ويبعثه إلى" القاضي "الكاتب ليشهدوا على عينه" ليحصل اليقين "و" لكن "الأظهر أنه" لا "يسلمه للمدعي" إلا "بكفيل" ويظهر وجوب كونه ثقة مليا قادرا ليطيق السفر لإحضاره، وليصدق في طلبه "ببدنه" احتياطا للمدعى عليه حتى إذا لم يعينه الشهود طولب برده نعم الأمة التي تحرم خلوته بها لا ترسل معه، بل مع أمين معه في الرفقة، وظاهره أنه لا يحتاج هنا إلى نحو محرم، أو امرأة ثقة تمنع الخلوة، ولو قيل: به لم يبعد إلا أن يجاب بأن اعتبار ذلك يشق فسومح فيه مسارعة لفصل الخصومة، وفيه ما فيه، ويسن أن يختم على العين، وأن يعلق قلادة بعنق الحيوان بختم لازم لئلا يبدل بغيره "فإن" ذهب به إلى القاضي الكاتب و "شهدوا" عنده "بعينه كتب ببراءة الكفيل" بعد تتميم الحكم

 

ج / 4 ص -385-        وتسليم العين للمدعي، ولم يحتج لإرسال ثان ", وإلا" يشهدوا بعينه "فعلى المدعي مؤنة الرد" كالذهاب لظهور تعديه، وعليه مع ذلك أجرة تلك المدة إن كانت له منفعة؛ لأنه عطلها على صاحبها بغير حق، "أو" ادعى عينا غير معروفة للقاضي، ولا مشهورة للناس "غائبة عن المجلس لا البلد". قال الأذرعي أو قريبة من البلد، وسهل إحضارها، وسبقه إليه في المطلب فقال: الغائبة عن البلد بمسافة العدوى أي: وهي في محل ولاية القاضي كالتي في البلد لاشتراكهما في وجوب الإحضار "أمر بإحضار ما يمكن" أي: يتيسر من غير كبير مشقة لا تحتمل عادة كما هو ظاهر "إحضاره" ليدعي و "ليشهدوا بعينه" لتوصله به لحقه فوجب كما يجب على الخصم الحضور عند الطلب "ولا تسمع" حينئذ "شهادة بصفة" كما في الخصم الغائب عن المجلس في البلد، ونحوه لعدم الحاجة إلى ذلك بخلافه في الغائب عن ذلك إما مشهور، أو معروف للقاضي، وأراد الحكم فيه بعلمه فيحكم به من غير إحضاره بخلاف ما إذا لم يحكم بعلمه لا بد من إحضاره لما تقرر أن الشهادة لا تسمع بصفة، وأما ما لا يسهل إحضاره كالعقار فإن اشتهر، أو عرفه القاضي، وحكم بعلمه، أو، وصف، وحدد فتسمع البينة، ويحكم به فإن قالت البينة: إنما نعرف عينه فقط تعين حضور القاضي، أو نائبه لتقع الشهادة على عينه فإن كان هو المحدود في الدعوى حكم، وإلا فلا وأما ثقيل، ومثبت، وما يورث قلعه ضررا أي: له، وقع عرفا فيما يظهر فيأتيه القاضي، أو نائبه للدعوى على عينه بعد وصف ما يمكن وصفه، وقد تسمع البينة بالوصف بأن شهدت بإقرار المدعى عليه باستيلائه على عين صفتها كذا، ومؤنة الإحضار على المدعى عليه إن ثبت للمدعي، وإلا فهي، ومؤنة الرد على المدعي كما يأتي، وعلم مما تقرر قبول الشهادة على العين، وإن غابت عن الشهود بعد التحمل، وزعم بعض معاصري أبي زرعة اشتراط ملازمتها لها من التحمل إلى الأداء أطال أبو زرعة في رده بما حاصله أنه لم ير أحدا ذكر ذلك فيطالب بنقله، أو الأصل الذي خرجه عليه إن تأهل للتخريج، وهل يقول بذلك في كل مثلي، أو ومتقوم، ثم قال: والذي لا أشك فيه أن الشاهد إن كان من أهل الدين، واليقظة التامة قبلت شهادته بها، وتشخيصه لها، ولا يقال له: من أين علمتها؛ لأنه قد يحصل له بعينها مميز لها عن مشاركها في وصفها من قرائن، وممارسة بها، وإن لم يكن كذلك فينبغي للقاضي أن يسأله فإن ذكر أنه لازمها من تحمله إلى أدائه قبل، وإن قال: غابت عني لكنها لم تشتبه علي فينبغي للقاضي امتحانه بخلطها بمشابهها من جنسها فإن ميزها حينئذ علم صدقه، وضبطه قال: وهذا كما يفرق القاضي الشهود للريبة فإن لم ير منهم موجب الرد أمضى الحكم، ولو مع بقاء الريبة، والشاهد أمين، والقاضي أسيره فإذا ادعى معرفة ما شهد به فهو مؤتمن عليه فإن اتهمه حرر الأمر كما ذكرنا من التفريق، وخلط المشهود به، أو عليه، أو له مع مشابهه ليتحرر له ضبط الشاهد. ا هـ. وقوله: ينبغي الأول، والثاني يحتمل الوجوب، والندب، والذي يظهر أنه يأتي هنا ما يأتي قبيل الحسبة، وفي المنتقبة من التفصيل المفيد للوجوب تارة، وللندب أخرى.
"وإذا، وجب إحضار فقال: "عندي عين بهذه الصفة لكنها غائبة غرم قيمتها للحيلولة، أو "ليس بيدي عين بهذه الصفة صدق بيمينه" على حسب جوابه؛ لأن الأصل معه "ثم" بعد

 

ج / 4 ص -386-        حلف المدعى عليه "للمدعي دعوى القيمة" في المتقوم، والمثل في المثلي لاحتمال أنها هلكت "فإن نكل" المدعى عليه عن اليمين "فحلف المدعي، أو أقام بينة" بأن العين الموصوفة كانت بيده، وإن قالت: لا نعلم أنها ملك المدعي "كلف الإحضار" ليشهد الشهود على عينه كما مر "وحبس عليه" لامتناعه من حق لزمه ما لم يبين عذرا له فيه "ولا يطلق إلا بإحضار" للموصوف "أو دعوى تلف" له مع الحلف عليه وحينئذ فيأخذ منه القيمة، أو المثل، ويقبل دعواه التلف، وإن ناقض قوله الأول للضرورة نعم بحث الأذرعي أنه لو أضاف التلف إلى جهة ظاهرة طولب ببينة بها، ثم يحلف على التلف بها كالوديع "ولو شك المدعي هل تلفت العين فيدعي قيمة أم" الأفصح، أو "لا فيدعيها فقال: غصب مني كذا فإن بقي لزمه رده، وإلا فقيمته" في المتقوم، ومثله في المثلي "سمعت دعواه"، وإن كانت مترددة للحاجة، ثم إن أقر بشيء فذاك، وإلا حلف أنه لا يلزمه رد العين، ولا بدلها، وإن نكل حلف المدعي كما ادعى على الأوجه "وقيل:" لا تسمع دعواه للتردد "بل يدعيها" أي: العين "ويحلفه" عليها "ثم يدعي القيمة" إن تقوم، وإلا فالمثل "ويجريان" أي: الوجهان "فيمن دفع ثوبه لدلال ليبيعه فجحده، وشك هل باعه فيطلب الثمن أم أتلفه ف" يطلب "قيمته أم هو باق فيطلبه" فعلى الأول الأصح تسمع دعواه مترددة بين هذه الثلاثة فيدعي أن عليه رده، أو ثمنه إن باعه، وأخذه، أو قيمته إن أتلفه، ويحلف الخصم يمينا واحدة أنه لا يلزمه تسليم الثوب، ولا ثمنه، ولا قيمته فإن رد حلف المدعي كما ادعى ثم يكلف المدعى عليه البيان، ويحلف إن ادعى التلف فإن رد حلف المدعي أنه لا يعلم التلف، ثم يحبس له "وحيث أوجبنا الإحضار فثبتت للمدعي استقرت مؤنته على المدعى عليه"؛ لأنه المحوج إلى ذلك "وإلا" تثبت له "فهي" أي: مؤنة الإحضار "ومؤنة الرد" للعين إلى محلها "على المدعي"؛ لأنه المحوج للغرم، وعليه أيضا أجرة مثل منافع تلك المدة إن كانت غائبة عن البلد لا المجلس فقط ونفقتها إلى أن تثبت في بيت المال، ثم باقتراض، ثم على المدعي.
فرع: غاب إنسان من غير وكيل، وله مال فأنهى إلى الحاكم أنه إن لم يبعه اختل معظمه لزمه بيعه إن تعين طريقا لسلامته، وقد صرح الأصحاب بأنه إنما يتسلط على أموال الغائبين إذا أشرفت على الضياع، أو مست الحاجة إليها في استيفاء حقوق ثبتت على الغائب قالوا: ثم في الضياع تفصيل فإن امتدت الغيبة، وعسرت المراجعة قبل وقوع الضياع ساغ التصرف، وليس من الضياع اختلال لا يؤدي لتلف المعظم، ولم يكن سار بالامتناع بيع مال الغائب لمجرد المصلحة، والاختلال المؤدي لتلف المعظم ضياع نعم الحيوان يباع بمجرد تطرق اختلال إليه لحرمة الروح، ولأنه يباع على مالكه بحضرته إذا لم ينفقه، ومتى أمكن تدارك الضياع بالإجارة اكتفى بها، ويقتصر على أقل زمن يحتاج إليه، ولو نهي عن التصرف في ماله امتنع إلا في الحيوان. ا هـ. ملخصا، وفي فتاوى القفال للقاضي بيع مال الغائب بنفسه، أو قيمه إذا احتاج إلى نفقة، وكذا إذا خاف فوته، أو كان الصلاح في بيعه، ولا يأخذ له بالشفعة، وإذا قدم لم ينقض بيع الحاكم، ولا إيجاره، وإذا أخبر بغصب ماله، ولو قبل غيبته، أو بجحد مدينه، وخشي فلسه فله نصب من يدعيه، ولا يسترد، وديعته، وأفتى الأذرعي فيمن طالت غيبته،

 

ج / 4 ص -387-        وله دين خشي تلفه بأن الحاكم ينصب من يستوفيه، وينفق على من عليه مؤنته، وقد تناقض كلام الشيخين فيما للغائب من دين، وعين فظاهره في موضع منع الحاكم من قبضهما، وفي آخر جوازه فيهما، وفي آخر جوازه في العين فقط، وهو، أوجه؛ لأن بقاء الدين في الذمة أحرز منه في يد الحاكم بخلاف العين قال الفارقي: والكلام في مدين ثقة مليء، وإلا وجب أخذه منه قطعا، وبه يتأيد ما ذكر عن القفال والأذرعي، والذي يتجه أن ما غلب على الظن فواته على مالكه لفلس، أو جحد، أو فسق يجب أخذه عينا كان، أو دينا، وكذا لو طلب من العين عنده قبضها منه لسفر، أو نحوه، وما لا يجوز في العين لا يجوز في الدين، والكلام في قاض أمين كما علم مما مر في الوديعة قال الزركشي وقد أطلق الأصحاب أنه يلزم الحاكم قبض دين حاضر ممتنع من قبوله بلا عذر، وقياسه في الغائب مثله، ولو مات الغائب، وورثه محجور، وليه القاضي لزمه قبض، وطلب جميع ماله من عين، ودين، والله أعلم.

فصل
"الغائب الذي تسمع" الدعوى و "البينة" عليه "ويحكم عليه من بمسافة بعيدة"؛ لأن القريب يسهل إحضاره، وقضية المتن أنه لو حكم على غائب فبان كونه حينئذ بمسافة قريبة بان فساد الحكم، وهو كذلك، وزعم أن المتبادر من كلامهم الصحة ممنوع، ويجري ذلك في صبي، أو مجنون، أو سفيه بأن كماله، ولو قدم الغائب، وقال: ولو بلا بينة كنت بعت، أو أعتقت قبل بيع الحاكم بان بطلان تصرف الحاكم كما مر، ولو بان المدعى موته حيا بعد بيع الحاكم ماله في دينه قال أبو شكيل بأن بطلانه إن كان الدين مؤجلا لتبين بقائه لا حالا؛ لأن الدين يلزمه، وفاؤه حالا. ا هـ. وإنما يتم له ذلك في الحال إن بان معسرا لا يملك غير المبيع إذ لو رفع للقاضي باع ماله حينئذ بخلاف ما إذا لم يكن كذلك فينبغي بيان بطلان البيع؛ لأنه لا يلزمه الوفاء من هذا المبيع بعينه، ولو بان أن لا دين بان أن لا بيع كما هو، واضح "وهي" أي: البعيدة "التي لا يرجع منها" متعلق بقوله: "مبكر" أي: خارج عقب طلوع الفجر أخذا مما مر في الجمعة أن التبكير فيها يدخل وقته من الفجر، ويحتمل الفرق، وأن المراد المبكر عرفا، وهو من يخرج قبيل طلوع الشمس "إلى موضعه ليلا" أي: أوائله، وهي ما ينتهي إليه سفر الناس غالبا قاله البلقيني، وذلك؛ لأن في إيجاب الحضور منها مشقة بمفارقة الأهل، والوطن ليلا، ويتعلق منها بمبكر المتعين لتوقف صحة المراد عليه مع جعل إلى موضعه من إظهار المضمر أي: لا يرجع مبكر منها لبلد الحاكم إليها أول الليل، بل بعده اندفع قول البلقيني تعبيره غير مستقيم؛ لأن منها يعود للبعيدة، وهي ليست التي لا يرجع منها، بل التي لا يصل إليها ليلا من يخرج بكرة من موضعه إلى بلد الحاكم فلو قال: التي لو خرج منها بكرة لبلد الحاكم لا يرجع إليها ليلا لو عاد في يومه بعد فراغ المحاكمة لوفى بالمقصود. ا هـ. وظاهر أن العبرة في ذلك باليوم المعتدل، ويظهر أن المراد زمن المحاكمة المعتدلة من دعوى، وجواب، وإقامة بينة حاضرة، أو حلف، وتعديلها، وأن العبرة بسير الأثقال؛ لأنه المنضبط المعول عليه في نحو مسافة القصر، وأنه لو كان لمحل طريقان

 

ج / 4 ص -388-        وهو بأحدهما على المسافة، وبالآخر على دونها فإن كانت القصيرة، وعرة جدا لم تعتبر، وإلا اعتبرت، وقدمت في صلاة المسافر في شرح قوله: ولو كان لمقصده طريقان ما له تعلق بذلك فراجعه "وقيل:" هي "مسافة القصر"؛ لأن الشرع اعتبرها في مواضع، ويرد بوضوح الفرق هذا كله حيث كان في محل ولاية القاضي، وإلا سمع الدعوى عليه، والبينة، وحكم، وكاتب، وإن قربت قاله الماوردي، وغيره، وقضيته أنه لو تعددت النواب، أو المستقلون في بلد، وحد لكل واحد حد فطلب من قاض منهم الحكم على من ليس في حده قبل حضوره حكم، وكاتب؛ لأنه غائب بالنسبة إليه، وفيه نظر ظاهر لا سيما إن لم تفحش سعة البلد، والظاهر أن هذا غير مراد للماوردي، وغيره "ومن" بمسافة "قريبة"، ولو بعد الدعوى عليه في حضوره، وهو ممن يتأتى حضوره "كحاضر فلا تسمع" دعوى، ولا "بينة" عليه "ولا يحكم بغير حضوره"، بل يحضره وجوبا لسهولة إحضاره لئلا يشتبه على الشهود، أو ليدفع إن شاء، أو يقر فيغني عن البينة، والنظر فيها، أو لتمتنع الشهود إن كانوا كذبة حياء، أو خوفا منه، ومحل ما ذكر في منع سماع البينة إذا تيسر إحضار المدعى عليه، ولم يضطر الشهود إلى السفر فورا، وإلا فينبغي حينئذ جواز سماعها في غيبته للضرورة، وإن أمكن أن يشهد على شهادتها أخذا من قولهم إذا قام بالشاهد عذر منعه من الأداء جاز للقاضي أن يرسل من يشهد على شهادته، أو من يسمعها أي: أو يسمعها هو كما فهم بالأولى فإذا جاز له سماعها هنا مع تيسر الشهادة على شهادته فكذا في مسألتنا، بل قضية قولهم، أو يرسل من يسمعها أنه لا يحتاج لحضور الخصم حينئذ فيتأيد به ما ذكرته، وإذا سمعت في غيبته، وجب أن يخبر بأسمائهم ليتمكن من القدح "إلا لتواريه"، ولو بالذهاب لنحو السلطان زعما منه أنه يخاف جور الحاكم عليه كما هو ظاهر؛ لأن الخصم لو مكن من ذلك تعذر القضاء فوجب أن لا يلتفت لهذا العذر منه، وإن اشتهر جور قاضي الضرورة، وفسقه، أو حبسه بمحل لا يمكن الوصول إليه، أو هربه من مجلس الحكم "أو تعززه" أي: تغلبه، وقد ثبت ذلك عند القاضي فتسمع البينة ويحكم بغير حضوره من غير يمين للاستظهار على المنقول المعتمد تغليظا عليه، وإلا لامتنع الناس كلهم فإن لم يكن للمدعي بينة جعل الآخر في حكم الناكل فيحلف المدعي يمين الرد خلافا للماوردي ومن تبعه، ثم يحكم له لكن لا بد من تقديم النداء بأنه إن لم يحضر جعل ناكلا قاله الماوردي والروياني، "والأظهر جواز القضاء على غائب في قصاص، وحد قذف"؛ لأنه حق آدمي كالمال "ومنعه في حد"، أو تعزير "لله تعالى" لبنائهما على المسامحة، والدرء ما أمكن، وما فيه الحقان كالسرقة يقضى فيه بالمال لا القطع.
"ولو سمع بينة على غائب فقدم"، ولو "قبل الحكم لم يستعدها" أي: لم يلزمه لوقوع سماعها صحيحا لكنه على حجته من إبداء قادح، أو دافع "بل يخبره" بالحال فيتوقف حكمه على إخباره كما في المطلب، وقول البلقيني اعتراضا عليه الإعذار غير شرط عندنا لصحة الحكم رده تلميذه أبو زرعة بأنه في غير هذه لحضوره الدعوى والبينة فهو متمكن من الدفع، وأما هنا فلم يعلم فاشترط إعلامه "ويمكنه من الجرح"، أو نحوه كإثبات نحو عداوة، ولو بعد الحكم أخذا من قولهم يقبل الجرح بعده، ويمهل ثلاثة أيام، ولا بد أن يؤرخ الجرح

 

ج / 4 ص -389-        بيوم الشهادة، أو قبلها، وقبل مضي مدة الاستبراء. وقد استطرد بذكر مسائل لها نوع تعلق بالباب فقال: "ولو عزل"، أو انعزل "بعد سماع بينة ثم، ولي"، ولم يكن حكم بقبولها كما بحثه البلقيني "وجبت الاستعادة"، ولا يحكم بالسماع الأول لبطلانه بالانعزال بخلاف ما لو خرج عن محل ولايته، ثم عاد لبقاء ولايته، وبخلاف ما لو حكم بقبولها فإن له الحكم بالسماع الأول، ولا أثر لإشعاره على نفسه بالسماع؛ لأن الأرجح أنه غير حكم، "وإذا استعدى" بالبناء للمفعول "على حاضر بالبلد"، ولو يهوديا يوم سبته أهل لسماع الدعوى، وجوابها أي: طلب منه إحضاره، ولم يعلم كذبه، ولا كان أجير عين، ولا نحو معاهد، ولا أراد التوكيل "أحضره" وجوبا، وإن أحالت العادة ما ادعاه عليه كوزير ادعى عليه وضيع أنه استأجره سائسا، أو نازح قذر، وإن اختار جمع خلافه، ومما يرد عليهم ما يأتي من تمكنه من التوكيل أما إذا علم كذبه فلا يحضره كما ذكره الماوردي، وغيره، وكذا أجير عين، وحضوره يعطل حق المستأجر فلا يحضره حتى تنقضي مدة الإجارة ذكره السبكي، وغيره، ويظهر ضبط التعطيل المضر بأن يمضي زمن يقابل بأجرة، وإن قلت، وكذا من الحكم بينهما غير لازم له كمعاهد على مثله، وكذا من، وكل فيقبل وكيله إن كان من ذوي الهيئات ذكرهما البلقيني، والذي يتجه قبول وكيله، ولو من غير ذوي الهيئات، ثم رأيت شارحا اعترضه بتجويز ابن أبي الدم التوكيل مطلقا، ويلزمه إذا لزم مخدرة يمين أن يرسل إليها من يحلفها كما يأتي، وقول الجواهر عن الصيمري بسن ذلك مردود "بدفع ختم طين رطب، أو غيره" مكتوب فيه أجب القاضي فلانا، وكان ذلك معتادا فهجر، واعتيد الكتابة في الورق قيل: وهو أولى "أو بمرتب لذلك"، وهو العون المسمى الآن بالرسول، ولم يرتض الشيخ أبو حامد التخيير فقال: يرسل الختم أولا فإن امتنع فالعون، وأقراه قال البلقيني، وفيه مصلحة؛ لأن الطالب قد يتضرر بأخذ أجرته منه. ا هـ. ومعناه أن الترتيب الذي جريا عليه في الروضة، وأصلها فيه مصلحة للطالب؛ لأن القاضي إذا عمل به لا يزن الطالب أجره من أول وهلة بخلاف ما إذا تخير فإنه قد يرسل إليه العون، أو لا فيأخذ أجرته من الطالب مع احتمال أنه لو أرسل له الختم أولا جاء، وتوفرت على الطالب الأجرة حينئذ، وإنما يتجه هذا للبلقيني إن كان يقول بأن أجرة العون على الطالب أرسل القاضي العون، أولا، أو بعد الامتناع من الحضور بالختم، وحينئذ فالظاهر من كلام البلقيني هذا أنه يقول بأن الأجرة على الطالب سواء أقلنا بالتخيير، واختار القاضي العون، أو لا أم بالترتيب، ولم يعمل به القاضي بأن أرسله، أولا وفيه ما فيه، وبالأولى إذا عمل به بأن لم يحضره إلا بعد الامتناع من الختم، ويؤيد هذا الإطلاق إطلاقهم أن أجرة الملازم على الطالب، وهو المدعي بخلاف أجرة الحبس، واعتمد أبو زرعة ما أطلقه شيخه أولا فقال: الأجرة على الطالب مطلقا، وإن امتنع من الحضور معه إلا برسول؛ لأنه لا يلزمه الحضور لمجلس الشرع إلا بطلب أي: من القاضي، وقد لا يوافق الطالب على أن له عليه حقا، ويراه مبطلا. ا هـ. ويؤخذ منه تقييد إطلاق شيخه بما إذا لم يكن طلب من القاضي، وإلا لزمت المطلوب لتعديه بامتناعه بعد طلب القاضي له، ومن ثم جاز للقاضي، أو لزمه إرسال عون الحاكم، وعزره إن رآه دون ما أطلقه ثانيا فجعل أجرة الملازم

 

ج / 4 ص -390-        بإذن الحاكم على المدين قال: لتقصيره بتأخير الوفاء مع القدرة، ولا يلزم الدائن ملازمته بنفسه. ا هـ. وبتأمل كلامه يعلم أن الأجرتين أجرة العون، وأجرة الملازم حكمهما واحد، وهو أنه إن كان الامتناع بعد طلب الحاكم لزمت المطلوب، وإلا فالطالب، وقضية قوله: مع القدرة أنه لا بد من ثبوت يساره، والذي يتجه التعبير بمع عدم ثبوت إعساره، والكلام في عون من ليس له رزق من بيت المال، وإلا فلا شيء له على واحد منهما.
تنبيه: ما ذكره أبو زرعة من أنه لا يلزمه حضور مجلس القاضي إلا بطلبه دون طلب الخصم هو الذي صرح به الإمام كالمراوزة قالوا:؛ لأن الواجب إنما هو أداء الحق إن صدق، وقال العراقيون: بل يجب، ولو بطلب الخصم، وجمع ابن أبي الدم بحمل الأول على ما إذا قال: لي عليك كذا فاحضر معي، والثاني على ما إذا قال بيني، وبينك خصومة فاحضر معي، وله، وجه، ومر أنه متى، وكل لم يلزمه الحضور بنفسه.
"فإن امتنع" من الحضور بنفسه، أو وكيله من محل تلزمه الإجابة منه "بلا عذر" من أعذار الجمعة، وثبت ذلك عنده، ولو بقول عون ثقة كما قاله الماوردي، وغيره "أحضره بأعوان السلطان"، وأجرتهم عليه حينئذ "وعزره" إن رأى ذلك لتعديه، ولو استخفى نودي متكررا بباب داره إن لم يحضر إلى ثلاث سمر بابه، أو ختم، وسمعت الدعوى عليه، وحكم بها فإن لم يحضر بعدها، وسأل المدعي أحدهما، وأثبت أنه يأوي داره أجابه، وواضح أن التسمير فيه نوع نقص فلا يفعله إلا في مملوك له بخلاف الختم، ثم تسمع البينة عليه، ويحكم بها كما لو هرب قبل الدعوى، أو بعدها، وبعد الحكم عليه يزال التسمير، أو الختم قال الأذرعي، ولا تسمر إذا كان يأويها غيره، ولا يخرج الغير فيما يظهر. ا هـ. ومحله كما هو ظاهر في ساكن بأجرة لا عارية، ولو أخبر أنه بمحل نساء أرسل إليه ممسوحا، أو مميزا، وبعد الظفر يعزره بحبس، وغيره مما يراه، والمعذور يرسل إليه من يسمع الدعوى بينه، وبين خصمه، أو يلزم بالتوكيل، وله الحكم عليه بالبينة كالغائب كما قاله البغوي، واعتمده جمع، "أو" ادعى على "غائب في غير" محل "ولايته فليس له إحضاره" إذ لا ولاية له عليه، بل يسمع الدعوى، والبينة، ثم ينهي كما مر "أو فيهما، وله هناك نائب"، ومثله متوسط يصلح بين الناس، وإن لم يصلح للقضاء "لم يحضره" للمشقة مع تيسر الفصل "بل يسمع بينته" عليه "ويكتب إليه" في المسافة السابقة لسهولة الفصل حينئذ "أو لا نائب له فالأصح" أنه "يحضره" بعد تحرير الدعوى، وصحة سماعها "من مسافة العدوى فقط، وهي التي يرجع منها مبكر" إلى محله "ليلا" كما علم مما مر مبسوطا فإن كان فوقها لم يحضره لكن مقتضى كلام الروضة، وأصلها إحضاره مطلقا، وانتصر له كثيرون، ومر أن أوائل الليل كالنهار، وحينئذ فلا تنافي بين قوله: هنا ليلا، وقوله: في الروضة قبل الليل، وسميت بذلك؛ لأن القاضي يعدي أي: يعين من طلب خصما منها على إحضاره، "و" الأصح "أن المخدرة لا تحضر" صرفا للمشقة عنها كالمريض، وحينئذ فيرسل القاضي لها لتوكل، أو من يفصل بينهما ويغلظ عليها بحضور الجامع للتحليف، ولا تحضر برزة من خارج البلد إلا مع نحو محرم، أو نسوة ثقات، أو امرأة احتياطا لحق الآدمي "وهي من لا يكثر خروجها لحاجات" متكررة كشراء قطن بأن لا تخرج

 

ج / 4 ص -391-        أصلا، أو تخرج نادرا لنحو عزاء، أو حمام، أو زيارة؛ لأنها غير مبتذلة بهذا الخروج بخلافه لنحو مسجد.

باب القسمة
أدرجت في القضاء لاحتياج القاضي إليها؛ ولأن القاسم كالقاضي على ما يأتي وهي تمييز بعض الأنصباء من بعض، وأصلها قبل الإجماع {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ} [النساء: 8] الآية وقسمته صلى الله عليه وسلم للغنائم والحديث السابق أول الشفعة.
"قد يقسم" المشترك "الشركاء" الكاملون، أما غير الكامل فلا يقسم له وليه إلا إن كان له فيه غبطة "أو منصوبهم" أي وكيلهم "أو منصوب الإمام" أو الإمام نفسه وإن غاب أحدهم؛ لأنه ينوب عنه أو المحكم لحصول المقصود بكل ممن ذكر ولا يجوز لأحد الشريكين قبل القسمة أن يأخذ حصته إلا بإذن شريكه. قال القفال: أو امتناعه من المتماثل فقط بناء على الأصح الآتي أن قسمته إفراز وما قبض من المشترك مشترك نعم للحاضر أن ينفرد بأخذ نصيبه من مدع ثبت له منه حصة فكأنهم جعلوا غيبة شريكه عذرا في تمكنه منه كامتناعه وأفتى جماعة منهم المصنف في دراهم جمعت لأمر وخلطت، ثم بدا لهم تركه بأن لأحدهم أخذ قدر حصته بغير رضاهم، وخالفهم التاج الفزاري قال الأذرعي: وقوله أي المصنف بغير رضاهم يشعر بامتناعهم فالجواز حينئذ هو المعتمد كما في فتاوى القفال. ا هـ. ويؤيده ما مر في الغيبة إذ لا فرق بينها وبين الامتناع، ومثلهما جهل الشريك لقول المجموع لو اختلطت دراهم أو دهن حرام بحلال فصل قدر الحرام فيصرفه مصرفه أي: من حفظ الإمام له إن توقعت معرفة صاحبه، وإدخاله بيت المال إن لم تتوقع ويتصرف في قدر ماله كيف شاء. قال: وكذا لو اختلطت دراهم أو حنطة جماعة أو غصبت وخلطت أي: ولم يملكها الغاصب لما مر ثم فيقسم الجميع بينهم. وقيل: يجوز الانفراد بالقسمة في المتشابهات مطلقا "وشرط منصوبه" أي: الإمام ومثله محكمهم ما تضمنه قوله "ذكر حر عدل" تقبل شهادته، ومن لازمه التكليف والإسلام وغيرهما مما يأتي أول الشهادات من نحو سمع وبصر وضبط ونطق؛ لأنها ولاية وفيها إلزام كالقضاء إذ القسام مجتهد مساحة وتقديرا ثم يلزم بالإقراع "يعلم" إن نصب للقسمة مطلقا أو فيما يحتاج لمساحة وحساب "المساحة" بكسر الميم وهي علم يعرف به طرق استعلام المجهولات العددية العارضة للمقادير وهي قسم من الحساب فعطفه عليها من عطف الأعم "والحساب"؛ لأنهما آلتها كالفقه للقضاء واشترط جمع كونه نزها قليل الطمع وخرج بمنصوبه منصوبهم فيشترط تكليفه فقط؛ لأنه وكيل ويجوز كونه قنا وفاسقا أو امرأة نعم إن كان فيهم محجورا عليه اشترط ما مر "فإن كان فيها تقويم وجب" حيث لم يجعل حاكما في التقويم "قاسمان" أي: مقومان يقسمان بأنفسهما؛ لأن التقويم لا يثبت إلا باثنين فاشتراط التعدد إنما هو لأجل التقويم لا القسمة "وإلا" يكن فيها تقويم "فقاسم" واحد يكفي وإن كان فيها خرص؛ لأنه حاكم؛ لأن قسمته تلزم بنفس قوله ولا يحتاج وإن تعدد للفظ الشهادة؛

 

ج / 4 ص -392-        لأنها تستند إلى عمل محسوس، "وفي قول" يشترط "اثنان" بناء على الضعيف أنه شاهد لا حاكم وانتصر له البلقيني هذا في منصوب الإمام، أما منصوبهم فيكفي اتحاده قطعا وفارق الخرص القسمة بأنه يعتمد الاجتهاد وهي تعتمد الإخبار بأن هذا يساوي كذا، "وللإمام جعل القاسم حاكما في التقويم" وحينئذ "فيعمل فيه بعدلين" ذكرين يشهدان عنده به لا بأقل منهما "ويقسم" بنفسه وله العمل فيه بعلمه كما علم من كلامه في القضاء، وعلم من كلامه أنه لا يشترط معرفته بالقيمة، فيرجع لعدلين خبيرين وقيل: يشترط ورجحه البلقيني في غير قسمة الإفراز والمعتمد الأول نعم يستحب ذلك خروجا من الخلاف "ويجعل الإمام" وجوبا كما هو ظاهر "رزق منصوبه من بيت المال" من سهم المصالح؛ لأنه من المصالح العامة "فإن لم يكن" فيه مال، أو ثم مصرف أهم أو منع ظلما، ولهذا العموم الذي قد يستفاد من عبارته حذف قول أصله فيه مال "فأجرته على الشركاء" إن استأجروه لا إن عمل ساكتا وذلك؛ لأنه يعمل لهم مع التزامهم له عوضا وليس للإمام حينئذ تعيين قاسم أي: يحرم عند القاضي ويكره عند الفوراني وذلك؛ لأنه يتغالى في الأجرة أو يواطئه بعضهم فيحيف أما لو استأجره بعضهم فالكل عليه وإنما حرم على القاضي أخذ أجرة على الحكم مطلقا؛ لأنه حق الله تعالى وما هنا حق متمحض للآدمي ومن ثم كان القضاء فرضا دون القسمة، ونظر ابن الرفعة في عدم فرضيتها ثم فرق بما يقتضي أن للقاضي أخذ الأجرة إذا قسم بينهم ونظر فيه أيضا وليس النظر بالواضح؛ لأنه لم يأخذها من حيث القضاء بل من حيث مباشرته للقسمة الغير المتوقفة على القضاء "فإن استأجروه" كلهم معا. "وسمى كل منهم قدرا" كاستأجرناك لتقسم هذا بيننا بدينار على فلان، ودينارين على فلان، وثلاثة على فلان أو وكلوا من عقد لهم كذلك "لزمه" أي: كلا ما سماه ولو فوق أجرة المثل ساوى حصته أم لا أما مرتبا فيجوز على المنقول المنصوص ومن ثم قال الإسنوي وغيره: أنه المعروف فجزم الأنوار وغيره بعدم الصحة إلا برضا الباقين؛ لأن ذلك يقتضي التصرف في ملك غيره بغير إذنه ضعيف نقلا، وإن كان قويا مدركا ومن ثم اعتمده البلقيني وعليه له ذلك في قسمة الإجبار من الحاكم "وإلا" يسم كل منهم قدرا بل أطلقوه "فالأجرة موزعة على الحصص"؛ لأنها من مؤن الملك كنفقة المشترك هذا في غير قسمة للتعديل، أما فيها فإنها توزع بحسب المأخوذ قلة وكثرة لا بحسب الحصص الأصلية؛ لأن العمل في الكثير أكثر منه في القليل هذا إن صحت الإجارة وإلا وزعت أجرة المثل على قدر الحصص مطلقا كما لو أمر القاضي من يقسم بينهم إجبارا "وفي قول على الرءوس"؛ لأن العمل في النصيب القليل كهو في الكثير، "ثم ما عظم الضرر في قسمته كجوهرة وثوب نفيسين" وذكر النفاسة في الجوهرة قد يحترز به عن جوهرة لا نفاسة لها إذ الجوهرة الكبيرة من اللؤلؤ قد يكون لها من الإضاءة وعدمها ما يقتضي نفاستها وخستها بالنسبة لبقية جنسها "وزوجي خف" أي: فردتيه "إن طلب الشركاء كلهم قسمته لم يجبهم القاضي" إن بطلت منفعته أي: المقصودة منه أخذا مما يأتي بالكلية بل يمنعهم من القسمة بأنفسهم؛ لأنه سفه ونازع البلقيني وأطال في صورة زوجي خف إذ ليس في قسمتهما إبطال منفعة بل نقصها ويرد

 

ج / 4 ص -393-        بأنهما إن كانا بين أكثر من اثنين كانا من هذا القسم أو بين اثنين فقط كانا من القسم الآتي فلا اعتراض "ولا يمنعهم إن قسموا بأنفسهم إن لم تبطل منفعته" المذكورة بالكلية بأن نقصت "كسيف يكسر"؛ لإمكان الانتفاع بما صار إليه منه على حاله أو باتخاذه سكينا مثلا ولا يجيبهم إلى ذلك؛ لما فيه من إضاعة المال وكان قضية هذا أنه يمنعهم لكن رخص لهم فعلها بأنفسهم تخلصا من سوء المشاركة ومع النظر لذلك لا إضاعة؛ لأن إتلاف المال للغرض الصحيح جائز وبه ينظر في بحث جمع أخذا مما مر من بطلان بيع جزء معين من نفيس أن ما هنا في سيف خسيس وإلا منعهم وبما قلناه علم الفرق بين ما هنا وثم إذ لا محوج للبيع ثم بخلاف القسمة هنا، "وما يبطل نفعه المقصود" منه "كحمام وطاحونة صغيرين" لو قسم كل لم ينتفع به من الوجه الذي كان ينتفع به قبل القسمة ولو بإحداث مرافق ولم يعتبروا هنا مطلق الانتفاع لعظم التفاوت بين أجناس المنافع وفي صغيرين تغليب المذكر وهو الحمام وكذا في نفيسين "لا يجاب طالب قسمته" إجبارا "في الأصح"؛ لما فيه من ضرر الآخر ولا يمنعهم منها لما مر "وإن أمكن جعله حمامين" أو طاحونين "أجيب" وأجبر الممتنع لانتفاء الضرر وإن احتاج إلى إحداث نحو بئر ومستوقد لتيسر التدارك وإنما بطل بيع ما لا ممر لها وإن أمكن تحصيله بعد؛ لأن شرط المبيع الانتفاع به حالا، "ولو كان له عشر دار" أو حمام أو أرض "لا يصلح للسكنى" أو كونه حماما أو لما يقصد من تلك الأرض لو قسم "والباقي لآخر" وإن تعدد كما يأتي بسطه قبيل التنبيه الآتي وهو يصلح لذلك "فالأصح إجبار صاحب العشر" وإن بطل نفع حصته بالكلية كما يصرح به كلامهم "بطلب صاحبه" لانتفاعه بحصته من الوجه الذي كان ينتفع به قبل القسمة فهو معذور وضرر صاحب العشر إنما نشأ من قلة نصيبه لا من مجرد القسمة "دون عكسه"؛ لأنه مضيع لماله متعنت نعم إن ملك أو أحيا ما لو ضم لعشره صلح أجيب ويظهر أن يأتي هنا ما يأتي قريبا فيما لو طلب أن يكون نصيبه إلى جهة أرضه.
فرع: قال الماوردي والروياني: لو كان بأرض مشتركة بناء أو شجر لهما فأراد أحدهما قسمة الأرض فقط لم يجبر الآخر وكذا عكسه لبقاء العلقة بينهما إما برضاهما فيجوز ذلك ولو اقتسما الشجر وتميزت حصة كل ثم اقتسما الأرض فإن كان فيما خصهما أو أحدهما شجر للآخر فهل نكلفه قلعه مجانا أو يأتي فيه ما مر آخر العارية ؟ للنظر فيه مجال والوجه الثاني بجامع عدم التعدي قال الشيخان: ولو كانوا ثلاثة فاقتسم اثنان على أن تبقى حصة الثالث شائعة مع كل منهما لم تصح ونقل غيرهما الاتفاق عليه وإنما أجبر الممتنع على قسمتها مع غراس بها دون زرع فيها؛ لأن له أمدا ينتظر وإذا تنازع الشركاء فيما لا يمكن قسمته فإن تهايئوا منفعته مياومة أو غيرها جاز ولكل الرجوع ولو بعد الاستيفاء فيغرم بدل ما استوفاه قال ابن عجيل: ويد كل يد أمانة كالمستأجر وإن أبوا المهايأة أجبرهم الحاكم على إيجاره أو آجره عليهم سنة وما قاربها وأشهد كما لو غابوا كلهم أو بعضهم فإن تعدد طالبو الإيجار آجره وجوبا لمن يراه أصلح وهل له إيجاره من بعضهم ؟ تردد فيه في التوشيح ورجح غيره أن له ذلك إن رآه أي: بأن لم يوجد من هو مثله كما هو ظاهر،

 

ج / 4 ص -394-        وأنه لو طلب كل منهم استئجار حصة غيره فإن كان ثم أجنبي قدم وإلا أقرع بينهم فإن تعذر إيجاره أي: لا لكساد يزول عن قرب عادة كما بحثه بعضهم قال ابن الصلاح: باعه لتعينه واعتمده الأذرعي ويؤخذ من علته أن المهايأة تعذرت لغيبة بعضهم أو امتناعه فإن تعذر البيع وحضره كلهم أجبرهم على المهايأة إن طلبها بعضهم كما بحثه الزركشي فإن قلت قياس ما مر في العارية أنه يعرض عنهم حتى يصطلحوا ولا يجبرهم على شيء مما ذكر قلت القياس غير بعيد إلا أن يفرق بأن الضرر هنا أكثر؛ لأن كلا منهما ثم يمكن أن ينتفع بنصيبه بخلافه هنا ثم رأيت بعضهم فرق بأن الضرر ثم إنما هو على الممتنع فقط وهنا الضرر على الكل فلم يمكن فيه الإعراض.
"وما لا يعظم ضرره قسمته أنواع" ثلاثة "أحدها بالأجزاء" وتسمى قسمة المتشابهات وقسمة الأجزاء "كمثلي" متفق النوع فيما يظهر ومر بيانه في الغصب ومنه نقد ولو مغشوشا على المعتمد لجواز المعاملة به، أما إذا اختلف النوع فيجب حيث لا رضا قسمة كل نوع وحده، ثم رأيت غير واحد أشاروا لذلك "ودار متفقة الأبنية" بأن يكون ما بشرقيها من بيت وصفة كما بغربيها "وأرض مشتبهة الأجزاء" ونحوها ككرباس لا ينقص بالقطع "فيجبر الممتنع" عليها استوت الأنصباء أم لا للتخلص من سوء المشاركة مع عدم الضرر نعم لا إجبار في قسمة الزرع قبل اشتداده وكان وجهه عدم كمال انضباطه، فإن اشتد ولم ير أو كان إلى الآن بذرا لم تصح قسمته للجهل به "فتعدل" أي: تساوى "السهام" أي: عند عدم التراضي، أو حيث كان في الشركاء محجور كما يعلم مما سأذكره في التنبيه الآتي "كيلا" في المكيل "أو وزنا" في الموزون "أو ذرعا" في المذروع أو عدا في المعدود "بعدد الأنصباء إن استوت" فإذا كانت بين ثلاثة أثلاثا جعلت ثلاثة أجزاء، ويؤخذ ثلاث رقاع متساوية "ويكتب" مثلا هنا وفيما يأتي من بقية الأنواع "في كل رقعة" إما "اسم شريك" إن كتب أسماء الشركاء لتخرج على السهام "أو جزء" بالرفع كما تصرح به عبارة الروضة أي: هو مع مميزه كما يأتي إن كتب السهام لتخرج على أسماء الشركاء "مميز" عن البقية "بحد أو جهة" مثلا "وتدرج" الرقع "في بنادق" ويندب كونها في بنادق "مستوية" وزنا وشكلا من نحو طين أو شمع إذ لو تفاوتت لسبقت اليد للكبيرة وفيه ترجيح لصاحبها ولا ينحصر في ذلك بل يجوز بنحو أقلام ومختلف كدواة وقلم، ثم توضع في حجر من لم يحضر، وكونه مغفلا أولى. "ثم يخرج من لم يحضرها" أي: الواقعة ويظهر أن كونه لم يحضرها ندب أيضا إلا إن علم من حاضرها أنه ميزها فلا يجوز التفويض إليه "رقعة" إما "على الجزء الأول إن كتب الأسماء" في الرقاع "فيعطى من خرج اسمه"، ثم يؤمر بإخراج أخرى على الجزء الذي يليه، ويعطى من خرج اسمه ويتعين الآخر للآخر من غير قرعة، وكذا فيما يأتي "أو" يخرج "على اسم زيد" مثلا "إن كتب الأجزاء" أي: أسماؤها في الرقاع فيخرج رقعة على اسم زيد وأخرى على اسم عمرو وهكذا ومن به الابتداء هنا وفيما قبله من الأسماء والأجزاء منوط بنظر القاسم إذ لا تهمة ولا تميز "فإن اختلفت الأنصباء كنصف وثلث وسدس" في أرض أو نحوها "جزئت الأرض" أو نحوها "على أقل السهام" كستة هنا لتأدي

 

ج / 4 ص -395-        القليل والكثير بذلك من غير حيف ولا شطط "وقسمت كما سبق" لكن الأولى هنا كتابة الأسماء؛ لأنه لو كتب الأجزاء وأخرج على الأسماء فربما خرج لصاحب السدس الجزء الثاني أو الخامس فيتفرق ملك من له الثلث أو النصف "و" هو لا يجوز إذ يجب عليه أنه "يحترز عن تفريق حصة واحد" والمجوزون لكتابة الأجزاء احترزوا عن التفريق بقولهم لا يخرج اسم صاحب السدس أولا؛ لأن التفريق إنما جاء من قبله بل يبدأ بذي النصف فإن خرج على اسمه الجزء الأول أو الثاني أعطيهما. والثالث ويثنى بذي الثلث فإن خرج على اسمه الجزء الرابع أعطيه والخامس وعلى هذا القياس وأخذ من ذلك أنه لو كان لهما أرض مستوية الأجزاء ولأحدهما أرض بجنبها فطلب قسمتها وأن يكون نصيبه إلى جهة أرضه ليتصلا ولا ضرر على الآخر أجيب وقد يشمله قولهم في الصلح يجبر على قسمة عرضه ولو عرضا في الطول ليختص كلا بما يليه قبل البناء أو بعد الهدم ويوافقه قولهم لو أراد جمع من الشركاء بقاء شركتهم وطلبوا من الباقين أن يتميزوا عنهم بجانب، ويكون حق المتفقين متصلا فإن كان نصيب كل لو انفرد لم ينتفع به بعادة الأرض أجيبوا بل بحث بعضهم إجابتهم، وإن أمكن كلا الانتفاع لو انفرد لكن هذا مردود بأنه خلاف كلامهم مع أنه لا حاجة إليه بخلاف ما مر لتوقف تمام الانتفاع عليه وفي الروضة وأصلها وغيرهما لو كان نصف الدار لواحد، والآخر لخمسة أجيب الأول وحينئذ فلكل من الخمسة القسمة تبعا له وإن كان العشر الذي لكل منهم لا يصلح مسكنا له؛ لأن في القسمة فائدة لبعض الشركاء، ولو بقي حق الخمسة مشاعا لم يجب أحدهم للقسمة؛ لأنها تضر الجميع وإن طلب أولا الخمسة إفراز نصيبهم مشاعا أو كانت الدار لعشرة فطلب خمسة منهم إفراز نصيبهم مشاعا أجيبوا؛ لأنهم ينتفعون بنصيبهم كما كانوا ينتفعون به قبل القسمة. ا هـ.
تنبيه: قد يفهم مما ذكره في حالتي تساوي الأجزاء، واختلافها أن الشركاء الكاملين لو تراضوا على خلاف ذلك امتنع وليس مرادا بل يجوز التفاوت برضا الكل الكاملين ولو جزافا فيما يظهر ولو في الربوي بناء على أن هذه القسمة إفراز لا بيع والربا إنما يتصور جريانه في العقد دون غيره وبهذا يعلم أن القسمة التي هي بيع لا يجوز فيها في الربوي أخذ أحد أكثر من حقه وإن رضوا بذلك فيأتي فيه هنا جميع ما مر في باب الربا في متحدي الجنس ومختلفيه وفي قاعدة مد عجوة ودرهم وتصح قسمة الإفراز فيما تعلقت الزكاة به قبل إخراجها، ثم يخرج كل زكاة ما آل إليه ولا تتوقف صحة تصرف من أخرج على إخراج الآخر، ثم رأيت الإمام نقل عن الأصحاب أنهما لو رضيا بالتفاوت جاز، ثم نازعهم بأن الوجه منعه في الإفراز وليس كما قال كما هو ظاهر مما ذكرته ووقع لبعضهم هنا اشتباه فاجتنبه وقد صرحوا بجواز قسمة الثمر على الشجر ولو مختلطا من نحو بسر ورطب ومنصف وتمر جاف خرصا بناء على أنها إفراز، وهو صريح فيما ذكرته.
النوع "الثاني" القسمة "بالتعديل" بأن تعدل السهام بالقيمة "كأرض تختلف قيمة أجزائها بحسب قوة إنبات وقرب ماء" ونحوهما مما يرفع قيمة أحد الطرفين على الآخر كبستان بعضه نخيل وبعضه عنب، ودار بعضها من حجر وبعضها من لبن فيكون الثلث

 

ج / 4 ص -396-        لجودته كالثلثين قيمة فيجعل سهما وهما سهما إن كانت نصفين فإن اختلفت كنصف وثلث وسدس جعلت ستة أجزاء بالقيمة لا بالمساحة فعلم أنه لا بد من علم القيمة عند التجزئة "ويجبر" الممتنع منها "عليها" أي: قسمة التعديل "في الأظهر" إلحاقا للتساوي في القيمة به في الأجزاء نعم إن أمكن قسمة الجيد وحده، والرديء وحده لم يجبر عليها فهما كأرضين تمكن قسمة كل منهما بالأجزاء فلا يجبر على التعديل كما بحثه الشيخان وسبقهما إليه جمع متقدمون ولا يمنع الإجبار في المنقسم الحاجة إلى بقاء طريق ونحوها مشاعة بينهم يمر كل فيها إلى ما خرج له إذا لم يمكن إفراد كل بطريق ولو اقتسما بالتراضي السفل لواحد والعلو لآخر ولم يتعرضا للسطح بقي مشتركا بينهما كما أفتى به بعضهم ومر عن الماوردي والروياني ما يصرح به وكأنه إنما لم ينظر لبقاء العلقة بينهما؛ لأن السطح تابع كالطريق، "ولو استوت قيمة دارين أو حانوتين" متلاصقين أو لا "فطلب جعل كل لواحد فلا إجبار" لتفاوت الأغراض باختلاف المحال والأبنية نعم لو اشتركا في دكاكين صغار متلاصقة مستوية القيمة لا تحتمل آحادها القسمة فطلب أحدهما قسمة أعيانها أجيب إن زالت الشركة بها قال الجيلي: ما لم تنقص القيمة بالقسمة. ا هـ. وفيه نظر ظاهر وظاهر كلامهم كالصريح في رده وخرج بقوله كل لواحد ما لو لم يطلب خصوص ذلك فيجبر الممتنع، "أو" استوت قيمة متقوم نحو "عبيد أو ثياب من نوع" وصنف واحد فطلب جعل كل لواحد كثلاثة أعبد مستوية كذلك بين ثلاثة وكثلاثة يساوي اثنان منها واحدا بين اثنين "أجبر" إن زالت الشركة بها لقلة اختلاف الأغراض فيها "أو" من "نوعين" أو صنفين كتركي وهندي وضائنتين شامية ومصرية استوت قيمتهما أم لا وكعبد وثوب "فلا" إجبار لشدة تعلق الغرض بكل نوع وعند الرضا بالتفاوت في قسمة هي بيع قال الإمام: لا بد من لفظ البيع؛ لأن لفظ القسمة يدل على التساوي واستحسنه غيره. قال بعضهم: وهو فقه ظاهر لكن نازعه البلقيني إذا جرى أمر ملزم وهو القبض بالإذن أي: ويكون الزائد عند العلم به كالموهوب المقبوض. هذا والذي في أصل الروضة أن قسمة الرد لا يشترط فيها لفظ بيع ولا تمليك وإن كانت بيعا وعبر في الروض بما يصرح بأن ما عدا قسمة الإجبار. قال شيخنا في شرحه: سواء قسمة الرد وغيرها لا يشترط فيها ذلك وعليه فكلام الإمام مقالة ولمستأجري أرض تناوبها بلا إجبار وقسمتها أي: حيث لم تؤثر القسمة نقصا فيها كما هو ظاهر وهل يدخلها الإجبار ؟ وجهان وقضية الإجبار في كراء العقب الإجبار هنا إلا أن يفرق بتعذر الاجتماع على كل جزء من أجزاء المسافة ثم فتعينت القسمة إذ لا يمكن استيفاؤهما المنفعة إلا بها بخلافها هنا وهو ظاهر ولو ملكا شجرا دون أرضه فالذي يظهر أنهما إن استحقا منفعتها دائما بنحو وقف لم يجبر على القسمة أخذا مما مر عن الماوردي والروياني؛ لأن استحقاق المنفعة الدائمة كملكها فلم تنقطع العلقة بينهما وإن لم يستحقاها كذلك أجبرا، وإن كانت إفرازا أو تعديلا، ولا نظر لبقاء شركتهما في منفعة الأرض؛ لأنها بصدد الانقضاء وكما لا تضر شركتهما في نحو الممر مما لا يمكن قسمته ويأتي في قسمتهما المنفعة هنا الوجهان السابقان ووقع لجمع هنا خلاف ما تقرر فاجتنبه.

 

ج / 4 ص -397-        النوع "الثالث" القسمة "بالرد" وهي التي يحتاج فيها لرد أحد الشريكين للآخر مالا أجنبيا "بأن" أي: كأن "يكون في أحد الجانبين" ما يتميز به عن الآخر وليس في الآخر ما يعادله إلا بضم شيء من خارج إليه ومنه "بئر أو شجر" مثلا "لا يمكن قسمته فيرد من يأخذه قسط قيمته" أي: نحو البئر أو الشجر فإذا كانت قيمة كل جانب ألفا، وقيمة نحو البئر ألفا رد من أخذ جانبها خمسمائة قيل: وما اقتضته عبارة الروضة كأصلها والمحرر من رد الألف خطأ. ا هـ. وصوابه غير مراد وما تمكن قسمته ردا وتعديلا فطلب أحدهما الرد، والآخر التعديل أجيب من طلب قسمة فيها الإجبار وإلا اشترط اتفاقهما على واحدة بعينها "ولا إجبار فيه" أي: هذا النوع؛ لأنه دخله ما لا شركة فيه وهو المال المردود "وهو" أي: هذا النوع وهو قسمة الرد "بيع" لوجود حقيقته وهو مقابلة المال بالمال فتثبت أحكامه من نحو خيار وشفعة نعم لا يفتقر للفظ نحو بيع أو تمليك وقبول بل يقوم الرضا مقامهما ولهما الاتفاق على من يأخذ النفيس ويرد، وأن يحكما القرعة ليرد من خرج له "وكذا التعديل" أي: قسمته بيع "على المذهب"؛ لأن كل جزء مشترك بينهما وإنما دخلها الإجبار للحاجة، "وقسمة الأجزاء" بالإجبار والتراضي "إفراز" للحق أي: يتبين بها أن ما خرج لكل هو الذي ملكه كالذي في الذمة لا يتعين إلا بالقبض "في الأظهر" إذ لو كانت بيعا لما دخلها إجبار، ولما جاز فيها الاعتماد على القرعة كذا قالوه وهو مشكل؛ لأن قسمة التعديل بيع وقد دخلها الإجبار وجاز الاعتماد فيها على القرعة وجوابه أن كلا منهما لما انفرد ببعض المشترك بينهما صار كأنه باع ما كان له بما كان للآخر ولم نقل بالتبين كما قلنا في الإفراز للتوقف هنا على التقويم وهو تخمين قد يخطئ، ومن ثم كانت قسمة الرد بيعا لذلك وإنما وقع الإجبار في قسمة التعديل للحاجة إليه كما يبيع الحاكم مال المدين جبرا ولم يقع في الرد؛ لأنه إجبار على دفع مال غير مستحق وهو بعيد. وقيل: الإفراز بيع فيما لا يملكه من نصيب صاحبه إفراز فيما كان يملكه قبل القسمة ودخله الإجبار للحاجة وهذا أوجه في المعنى ومن ثم جريا عليه في مواضع لكن المعتمد الأول، ولا تتأثر القسمة بشرط فاسد إلا إذا كانت بيعا، وقسمة الوقف من الملك لا تجوز إلا إذا كانت إفرازا ولا رد فيهما من المالك وإن كان فيها رد من أرباب الوقف بخلاف ما إذا كانت بيعا فإنها تمتنع مطلقا وفيها رد من المالك؛ لأنه حينئذ يأخذ بإزاء ملكه جزءا من الوقف وهو ممتنع وإن نازع في ذلك السبكي وغيره سواء أكان الطالب المالك أم الناظر أم الموقوف عليهم وفي شرح المهذب في الأضحية إذا اشترك جمع في بدنة أو بقرة لم تجز القسمة إن قلنا أنها بيع على المذهب. وهذه نظيرة مسألتنا وبين أربابه تمتنع مطلقا؛ لأن فيه تغييرا لشرطه نعم لا منع من مهايأة رضوا بها كلهم إذ لا تغيير فيها لعدم لزومها وجزم الماوردي بأن الواقف لو تعدد جازت القسمة كما في قسمة الوقف عن الملك واعتمده البلقيني وعليه فيظهر أن محله حيث لا رد فيها من أحد الجانبين لاستلزامه حينئذ استبدال جزء وقف بجزء آخر وقف وهو ممتنع مطلقا وبه يفرق بين هذا وما مر في قسمة الوقف عن الملك من جواز رد أرباب الوقف؛ لأنه لا يلزم عليه ذلك ويؤخذ من

 

ج / 4 ص -398-        هذا أن الواقف لو تعدد، واتحد الموقوف عليهم جازت إفرازا بشرط عدم الرد من أحد الجانبين هنا أيضا لاستلزامه الاستبدال ولو مع اتحاد المستحق بخلاف ما لو اتحد الواقف واختلف الموقوف عليهم فلا يجوز مطلقا؛ لأن فيها تغييرا لشرطه ووقع لشيخنا في شرح الروض ما يخالف ذلك والوجه ما قررته، "ويشترط في" قسمة "الرد الرضا" باللفظ "بعد خروج القرعة"؛ لأنها بيع وهو لا يحصل بالقرعة فافتقر إلى التراضي بعده "ولو تراضيا بقسمة ما لا إجبار فيه" كقسمة تعديل وإفراز "اشترط" فيما إذا كان هناك قرعة "الرضا بعد القرعة في الأصح كقولهما رضينا بهذه القسمة" أو بهذا "أو بما أخرجته القرعة"، أما في قسمة التعديل فلأنها بيع كقسمة الرد، وأما في غيرها فقياسا عليها؛ لأن الرضا أمر خفي فأنيط بظاهر يدل عليه ولا يشترط لفظ نحو بيع فإن لم يحكما القرعة كأن اتفقا على أن يأخذ أحدهما أحد الجانبين، والآخر الآخر، أو أحدهما الخسيس، والآخر النفيس ويرد زائد القيمة فلا حاجة إلى تراض ثان، أما قسمة الإجبار فلا يعتبر فيها الرضا لا قبل القرعة ولا بعدها. قيل: في كلامه خلل من أوجه: أن ما لا إجبار فيه هو قسمة الرد فقط وقد جزم باشتراط الرضا فيها فلزم التكرار والجزم أولا وحكاية الخلاف ثانيا وأنه عبر بالأصح وفي الروضة بالصحيح وأنه عكس ما بأصله فإنه لم يذكر فيه هذا الخلاف إلا في قسمة الإجبار. قيل: فكأن المتن أراد أن يكتب ما فيه إجبار فكتب ما لا إجبار فيه ولعل عبارته ما الإجبار فيه فحرفت وبهذا يزول التكرار والتناقض والتعاكس وأنه أطلق الخلاف ومحله حيث حكموا قاسما فإن تولاها حاكم أو منصوبه جبرا لم يعتبر الرضا قطعا ولو نصبوا وكيلا عنهم اشترط رضاهم بعد القرعة قطعا، وكذا لو قسموا بأنفسهم. ا هـ. حاصل ما أطالوا به وكله تعسف وحاصل ما يندفع به كل ما أبدوه أن المراد بما لا إجبار فيه كما دل عليه السياق أنه لا إجبار فيه الآن باعتبار التراضي وإن كان فيه الإجبار باعتبار أصله، وعبارة المحرر القسمة التي لا يجبر عليها إذا جرت بالتراضي والمراد بها ما ذكرته أيضا فحينئذ هما مسألتان ما يتعلق بالرد وما يتعلق بالتعديل والإفراز والخلاف في الثانية بقسميها له وجه نظرا إلى الرضا العارض وإلى الإجبار الأصلي كما أن الجزم في الأولى له وجه وكونه قواه هنا وضعفه في الروضة فكثيرا ما يقع له ولا اعتراض عليه فيه؛ لأن منشأه الاجتهاد وهو يتغير، "ولو ثبت" بإقرار أو علم قاض أو يمين مردودة أو "ببينة" ذكرين عدلين دون غيرهما على الأوجه "غلط" ولو غير فاحش "أو حيف" وإن قل "في قسمة إجبار نقضت" كما لو ثبت ظلم قاض أو كذب شاهد وطريقه أن يحضر قاسمين حاذقين لينظرا أو يمسحا فيعرفا الخلل ويشهدا به أو يعرف أنه يستحق ألف ذراع فمسح ما أخذه فإذا هو دون ذلك، ولا يحلف قاسم قاض واستشكل ابن الرفعة النقض بأنه رفع للشيء بمثله ولا مرجح ويرد بأن الأصل المحقق الشيوع فترجح به قول مثبت النقض "فإن لم يكن بينة وادعاه" أي: أحدهما "واحد" من الشريكين، أو الشركاء على شريكه وبين قدر ما ادعاه "فله تحليف شريكه" أنه لا غلط أو أن لا زائد معه أو أنه لا يستحق عليه ما ادعاه ولا شيئا منه فإن حلف مضت وإلا وحلف المدعي

 

ج / 4 ص -399-        نقضت كما لو أقر ولا تسمع الدعوى على القاسم من جهة الحاكم؛ لأنه لو أقر لم تنقض نعم بحث الزركشي سماعها عليه رجاء أن يثبت حيفه فيرد الأجرة ويغرم كما لو قال قاض غلطت في الحكم أو تعمدت الحيف "ولو ادعاه في قسمة تراض" في غير ربوي بأن نصبا لهما قاسما أو اقتسما بأنفسهما ورضيا بعد القسمة "وقلنا هي بيع" بأن كانت تعديلا أو ردا "فالأصح أنه لا أثر للغلط فلا فائدة لهذه الدعوى" وإن تحقق الغبن لرضا صاحب الحق بتركه فصار كما لو اشترى شيئا وغبن فيه إما ربوي تحقق غلط في كيله، أو وزنه فالقسمة باطلة لا محالة للربا "قلت وإن قلنا إفراز" بأن كانت بالأجزاء "نقضت إن ثبت" بحجة؛ لأنه لا إفراز مع التفاوت "وإلا" يثبت "فيحلف شريكه والله أعلم". نظير ما مر في قسمة الإجبار ولو أقرا بصحة القسمة وأن كلا تسلم ما يخصه، ثم ادعى أحدهما أن شريكه تعدى بأخذ أكثر من حصته؛ لأن الحد هذا وقال المدعى عليه: بل الحد هذا اختص هذا بما وراء الحد الأول والمدعي بما وراء الحد الثاني وقسم ما بين الحدين على نسبة ما كان بينهما قبل القسمة؛ لأن الأصل الإشاعة فرجع إليها عند التنازع حيث لا مرجح كذا جزم به بعضهم فإن قلت ينافي هذا قول الروضة ولو تقاسما، ثم تنازعا في قطعة من الأرض فقال: كل هذا من نصيبي ولا مرجح تحالفا، وفسخت القسمة كالمتبايعين ورجح أبو حامد باليد إن وجدت؛ لأن الآخر يدعي غصبه والأصل عدمه قلت المنافاة ظاهرة لولا اعتراف كل في تلك بأن كلا تسلم ما يخصه ومع ذلك فالذي يتجه في تلك ما قاله الشيخ أبو حامد من أنه لا يقبل قول من ادعى تعدي صاحبه بتقديم الحد، "ولو استحق بعض المقسوم شائعا" كالربع "بطلت فيه وفي الباقي خلاف تفريق الصفة" والأظهر منه أنه يصح، ويتخير كل منهم وقيل: يبطل في الكل وأطال الإسنوي في الانتصار له "أو" استحق "من النصيبين" شيء "معين" فإن كان بينهما "سواء بقيت" القسمة في الباقي إذ لا تراجع بين الشريكين "وإلا" يكن سواء بأن اختص بأحد النصيبين أو عمهما لكنه في أحدهما أكثر "بطلت"؛ لأن ما يبقى لكل ليس قدر حقه بل يحتاج أحدهما إلى الرجوع على الآخر وتعود الإشاعة ولو بان فساد القسمة وقد أنفق أو زرع أو بنى مثلا أحدهما أو كلاهما جرى هنا ما مر فيما إذا بان فساد البيع وقد فعل ذلك لكن الأوجه أنه لا يلزم كل شريك هنا من أرش نحو القلع إلا قدر حصته؛ لأن التغرير من جهته إنما هو فيه لا غير.
تنبيه: قد يتوهم من المتن أن القرعة شرط لصحة القسمة وليس مرادا كما يفهمه قوله السابق فيجبر الممتنع فتعدل السهام إلى آخره فلم يجعل التعديل إلا عند الإجبار، ومفهومه أن الشريكين لو تراضيا بقسمة المشترك جاز ولو بلا قرعة كما في الشامل والبيان وغيرهما فلو قسم بعضهم في غيبة الباقين وأخذ قسطه فلما علموا قرروه صحت لكن من حين التقرير قاله ابن كبن.
فرع: طلب أحد الشركاء من الحاكم قسمة ما بأيديهم لم يجبهم حتى يثبتوا ملكهم وإن لم يكن لهم منازع؛ لأن تصرف الحاكم في قضية طلب منه فصلها حكم وهو لا

 

ج / 4 ص -400-        يكون بقول ذي الحق وسمعت البينة وهي هنا غير شاهد ويمين مع عدم سبق دعوى للحاجة؛ ولأن القصد منعهم من الاحتجاج بعد بتصرف الحاكم وأخذ البلقيني من هذا أنه لا يحكم بموجب بيع أقرا به أو أقاما بينة بمجرد صدوره منهما. ا هـ. وإنما يتضح إن كان الحكم بالموجب يستلزم الحكم بالصحة المقتضية لثبوت الملك وليس كذلك كما مر