جواهر العقود ومعين القضاة والموقعين والشهود

كتاب الْقَرَاض وَالْمُضَاربَة

وَمَا يتَعَلَّق بهما من الْأَحْكَام
الْقَرَاض وَالْمُضَاربَة: اسمان بِمَعْنى وَاحِد وَهُوَ أَن يدْفع مَاله إِلَى رجل ليتجر فِيهِ وَيكون الرِّبْح بَينهمَا على مَا يشترطانه وَرَأس المَال لرب المَال
وَأهل الْحجاز يسمون هَذَا العقد (قراضا)
وَاخْتلف فِي اشتقاقه فَقيل: إِنَّه مُشْتَقّ من الْقَرْض وَهُوَ الْقطع
يُقَال: قرضت الطَّرِيق أَي قطعتها
وقرض الفأر الثَّوْب أَي قطعه
فَكَأَن رب المَال اقتطع لِلْعَامِلِ قِطْعَة من مَاله أَو أقطع لَهُ قِطْعَة من الرِّبْح
وَقيل: إِنَّه مُشْتَقّ من الْمُسَاوَاة
يُقَال: تقارض الشاعران إِذا سَاوَى كل وَاحِد مِنْهُمَا الآخر بِشعرِهِ فِي الْمَدْح والذم
وَحكي عَن أبي الدَّرْدَاء أَنه قَالَ (قارض النَّاس مَا قارضوك
فَإِن تَركتهم لم يتركوك) يُرِيد: ساوهم
فالمتقارضان يتساويان
لِأَن أَحدهمَا يبْذل المَال وَالْآخر يتَصَرَّف فِيهِ
وَيحْتَمل أَن يكون ذَلِك لاشْتِرَاكهمَا فِي الرِّبْح
فالمقارض بِكَسْر الرَّاء هُوَ رب المَال
وَبِفَتْحِهَا: هُوَ الْعَامِل
وَأما الْمُضَاربَة: فاشتقاقها من الضَّرْب بِالْمَالِ
وَقيل: هُوَ من ضرب كل وَاحِد مِنْهُمَا فِي الرِّبْح بِسَهْم
فالمضارب بِكَسْر الرَّاء هُوَ الْعَامِل لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يضْرب فِي المَال وَلم يشتق لرب المَال مِنْهُ اسْم
والقراض: جَائِز
وَالْأَصْل فِي جَوَازه: إِجْمَاع الصَّحَابَة
وَرُوِيَ ذَلِك عَن عُثْمَان وَعلي وَابْن مَسْعُود وَحَكِيم بن حزَام رَضِي الله عَنْهُم
وروى الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ: (أَن عبيد الله وَعبد الله ابْنا عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنْهُم خرجا فِي جَيش إِلَى الْعرَاق
فتسلفا من أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ وَهُوَ عَامل لعمر مَالا فابتاعا بِهِ مَتَاعا وقدما بِهِ الْمَدِينَة
فباعاه وربحا
فَقَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ: أكل الْجَيْش قد أسلف قَالَا: لَا
فَقَالَ عمر: أديا المَال وَربحه
فَسكت عب الله وراجعه عبد الله
فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ لَو

(1/192)


هلك المَال ضمناه
فَلم لَا يكون ربحه لنا فَقَالَ رجل: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ لَو جعلته قراضا فَقَالَ: قد جعلته قراضا
فَأخذ مِنْهَا رَأس المَال وَنصف الرِّبْح) فَدلَّ على أَن الْقَرَاض كَا مستقيضا فِي الصَّحَابَة
فَإِن قيل: إِذا تسلفا المَال من أبي مُوسَى
فَكيف يحتجون بذلك على الْقَرَاض قُلْنَا: مَوضِع الْحجَّة مِنْهُ: قَول الرجل لعمر رَضِي الله عَنهُ (لَو جعلته قراضا) وَلم يُنكر عَلَيْهِ عمر وَلَا غَيره الْقَرَاض
فَإِن قيل: إِذا كَانَا قد تسلفا ذَلِك من أبي مُوسَى وابتاعا بِهِ مَتَاعا
فقد ملكا المَال وَربحه
فَكيف سَاغَ لعمر أَن يَجعله قراضا وَيَأْخُذ مِنْهُمَا نصف الرِّبْح فتأول أَصْحَابنَا ذَلِك ثَلَاث تأويلات
أَحدهَا وَهُوَ تَأْوِيل أبي الْعَبَّاس أَن أَبَا مُوسَى كَانَ قد اجْتمع عِنْده مَال لبيت المَال وَأَرَادَ أَن ينفذهُ إِلَى الْمَدِينَة
فخاف عَلَيْهِ غرر الطَّرِيق فأقرضهما ذَلِك المَال ليَكُون فِي ذمتهما أحظ لبيت المَال
وَقد ملكا المَال وَربحه إِلَّا أَن عمر أَرَادَ أَن ينفع الْمُسلمين فاستدعاهما واستطاب أَنفسهمَا عَن نصف الرِّبْح وللعامل أَن يفعل كَمَا فعل أَبُو مُوسَى إِذا خَافَ على المَال
وَمن أَصْحَابنَا من قَالَ: كَانَ الطَّرِيق آمنا وَإِنَّمَا أقْرضهُمَا أَبُو مُوسَى ليتقرب بذلك إِلَى قلب أَبِيهِمَا عمر: فَلَمَّا تَصرفا فِي المَال وربحا كَانَ الرِّبْح ملكا للْمُسلمين
واستحقا أُجْرَة الْمثل
وَبَلغت أجرتهما نصف الرِّبْح
وَلِهَذَا رُوِيَ عَن عمر رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ: (كَأَنِّي بِأبي مُوسَى وَهُوَ يَقُول أئتيا أَمِير الْمُؤمنِينَ)
وَقَالَ أَبُو إِسْحَاق: كَانَ أَبُو مُوسَى أقْرضهُمَا ذَلِك المَال ثمَّ قارضهما بعد ذَلِك
فخلطا الرِّبْح الَّذِي حصل مِنْهُ
فاستطاب عمر أَنفسهمَا عَن نصف الرِّبْح
وَالْأول: أصح لِأَن الدَّرَاهِم وَالدَّنَانِير لَا تجوز إجارتهما للتِّجَارَة
فجوز عقد الْقَرَاض عَلَيْهَا كالنخل لما لم تجز إِجَارَته ليستغل جَازَ عقد الْمُسَاقَاة عَلَيْهَا
وَالْأَرْض لما جَازَت إِجَارَتهَا لتستغل لم يجز عقد المخابرة عَلَيْهَا
وَاحْتَجُّوا لهَذَا العقد بِإِجْمَاع الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم
وبالقياس على الْمُسَاقَاة
وَيشْتَرط فِي المَال الْمَدْفُوع: أَن يكون نَقْدا وَهُوَ الدَّرَاهِم وَالدَّنَانِير المضروبة فَلَا تجوز على التبر والحلي والمغشوش وَالْعرُوض وَأَن يكون قدرا مَعْلُوما
فَلَا يجوز على دَرَاهِم مَجْهُولَة الْقدر وَأَن يكون المَال عينا حَاضِرَة
فَلَا يجوز أَن يقارضه على دين لَهُ فِي ذمَّة الْغَيْر
وَلَا يجوز أَن يقارض صَاحب الدّين الْمَدْيُون بِمَا لَهُ فِي ذمَّته من الدّين وَأَن يكون مَال الْقَرَاض مُسلما إِلَى الْعَامِل فَلَا يجوز أَن يشْتَرط كَون المَال عِنْد الْمَالِك

(1/193)


وَأَن يعْمل الْمَالِك مَعَ الْعَامِل
وَيجوز أَن يشْتَرط عمل غُلَام رب المَال مَعَ الْعَامِل
ووظيفة الْعَامِل: التِّجَارَة وتوابعها كنشر الثِّيَاب وطيها فَلَو قارضه على أَن يَشْتَرِي حِنْطَة فيطحنها ويخبزها أَو ثوبا يتَوَلَّى نسجه ثمَّ يَبِيعهُ فسد الْقَرَاض
وَلَا يجوز أَن يشْتَرط عَلَيْهِ شِرَاء مَتَاع معِين أَو نوع ينْدر وجوده
كالخيل البلق
مثلا أَو يشْتَرط عَلَيْهِ الْمُعَامَلَة من شخص معِين
وَيشْتَرط فِي الرِّبْح: الِاخْتِصَاص بالمتعاقدين
فَلَا يجوز شَرط شَيْء مِنْهُ لثالث
فَلَو قَالَ: قارضتك على أَن يكون الرِّبْح كُله لَك
فَهَل يكون قراضا فَاسِدا أَو صَحِيحا فِيهِ وَجْهَان
أصَحهمَا الأول
وَلَو قَالَ: على كُله لي
فَهَل يكون قراضا فَاسِدا أَو إبضاعا فِيهِ الْوَجْهَانِ الْمَذْكُورَان
وَأَن يكون الرِّبْح بَينهمَا مَعْلُوما بالجزئية
فَلَو قَالَ: على أَن لَك فِيهِ شركَة أَو نَصِيبا فسد العقد
وَلَو قَالَ: على أَنه بَيْننَا
وَصَحَّ وَيَقْتَضِي التَّسْوِيَة فِي الرِّبْح مُنَاصَفَة
وَلَو قَالَ: على أَن النّصْف لي وَسكت عَن جَانب الْعَامِل لم يَصح
وَلَو عكس وَقَالَ: على أَن النّصْف من الرِّبْح لَك صَحَّ
وَلَو شَرط لنَفسِهِ عشرَة أَو مائَة
أَو شَرط الِاخْتِصَاص بِعشْرَة أَو مائَة مثلا
فسد الْقَرَاض
وَلَا بُد فِي الْقَرَاض من الْإِيجَاب وَالْقَبُول
وَقيل: لَو قَالَ: خُذ هَذِه الدَّرَاهِم واتجر فِيهَا على أَن الرِّبْح بَيْننَا
فَأخذ اسْتغنى عَن الْقبُول
وَيجوز أَن يقارض اثْنَان وَاحِدًا وَوَاحِد اثْنَيْنِ
وَلَا يجوز لِلْعَامِلِ أَن يقارض بِغَيْر إِذن رب المَال وَإِذا فسد الْقَرَاض نفذت تَصَرُّفَات الْعَامِل
وَكَانَ جَمِيع الرِّبْح لرب المَال
وَعَلِيهِ أُجْرَة مثل الْعَمَل لِلْعَامِلِ
وعَلى الْعَامِل أَن يتَصَرَّف بالغبطة وَلَا يَبِيع وَلَا يَشْتَرِي بِالْغبنِ وَلَا نَسِيئَة من غير إِذن
وَله الرَّد بِالْعَيْبِ إِن كَانَت الْغِبْطَة فِي الرَّد
وَلَا يُعَامل الْعَامِل الْمَالِك
وَلَا يَشْتَرِي بِمَال الْقَرَاض بِأَكْثَرَ من رَأس المَال وَلَا من يعْتق على الْمَالِك بِغَيْر إِذْنه
وَكَذَا لَو اشْترى زَوجته وَلَو فعل لم يَقع عَن الْمَالِك وَيَقَع عَن الْعَامِل إِذا اشْترى فِي الذِّمَّة وَلَا يُسَافر بِمَال الْقَرَاض إِلَّا بِإِذن

الْخلاف الْمَذْكُور فِي مسَائِل الْبَاب
: اتّفق الْأَئِمَّة رَحِمهم الله تَعَالَى على جَوَاز الْمُضَاربَة
وَهِي (الْقَرَاض) بلغَة أهل الْمَدِينَة وَهُوَ أَن يدْفع إِنْسَان إِلَى إِنْسَان مَالا ليتجر فِيهِ وَالرِّبْح مُشْتَرك
فَلَو أعطَاهُ سلْعَة
وَقَالَ لَهُ: بعها وَاجعَل ثمنهَا قراضا
فَهَذَا عِنْد مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد: قِرَاض فَاسد
وَقَالَ أَبُو حنيفَة: هُوَ قِرَاض صَحِيح

(1/194)


وَاخْتلفُوا فِي الْقَرَاض بالفلوس
فَمَنعه الْأَئِمَّة
وَأَجَازَهُ أَشهب وَأَبُو يُوسُف إِذا راجت
وَالْعَامِل إِذا أَخذ مَال الْقَرَاض بِبَيِّنَة لم يبرأ مِنْهُ عِنْد الْإِنْكَار إِلَّا بِبَيِّنَة
وَقَالَ أهل الْعرَاق: يقبل قَوْله مَعَ يَمِينه
وَإِذا دفع إِلَى الْعَامِل مَاله قراضا فَاشْترى الْعَامِل مِنْهُ سلْعَة ثمَّ هلك المَال قبل دَفعه إِلَى البَائِع
فَلَيْسَ على الْمُقَارض عِنْد مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد شَيْء
والسلعة لِلْعَامِلِ
وَعَلِيهِ ثمنهَا
وَقَالَ أَبُو حنيفَة: يرجع بذلك على رب المَال

فصل: وَلَا يجوز الْقَرَاض إِلَى مُدَّة مَعْلُومَة
لَا يفسخها قبلهَا وَلَا على أَنه إِذا انْتَهَت الْمدَّة يكون مَمْنُوعًا من البيع وَالشِّرَاء عِنْد مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد
وَقَالَ أَبُو حنيفَة: يجوز ذَلِك
وَإِذا شَرط رب المَال على الْعَامِل: أَن لَا يَشْتَرِي إِلَّا من فلَان
كَانَ الْقَرَاض فَاسِدا عِنْد مَالك وَالشَّافِعِيّ
وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَأحمد: يَصح
وَإِذا عمل الْمُقَارض بعد فَسَاد الْقَرَاض فَحصل فِي المَال ربح: كَانَ لِلْعَامِلِ أُجْرَة مثل عمله عِنْد أبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ
وَالرِّبْح لرب المَال وَالنُّقْصَان عَلَيْهِ
وَاخْتلف قَول مَالك
فَقَالَ: يرد إِلَى قِرَاض مثله
وَإِن كَانَ فِيهِ شَيْء لم يكن لَهُ شَيْء
وَقَالَ القَاضِي عبد الْوَهَّاب: وَيحْتَمل أَن يكون لَهُ قِرَاض مثله وَإِن كَانَ فِيهِ بعض شَيْء
وَنقل عَنهُ: أَن لَهُ أُجْرَة مثله كمذهب الشَّافِعِي وَأبي حنيفَة

فصل: وَإِذا سَافر الْعَامِل بِالْمَالِ فنفقته من مَال الْقَرَاض
عِنْد أبي حنيفَة وَمَالك
وَقَالَ أَحْمد: من مَال نَفسه حَتَّى فِي ركُوبه
وَللشَّافِعِيّ قَولَانِ
أظهرهمَا: أَن نَفَقَته من مَال نَفسه وَمن أَخذ قراضا على أَن جَمِيع الرِّبْح لَهُ وَلَا ضَمَان عَلَيْهِ فَهُوَ جَائِز عِنْد مَالك
وَقَالَ أهل الْعرَاق: يصير المَال قرضا عَلَيْهِ
وَقَالَ الشَّافِعِي: لِلْعَامِلِ أُجْرَة مثله وَالرِّبْح لرب المَال
وعامل الْقَرَاض يملك الرِّبْح بِالْقِسْمَةِ لَا بالظهور على أصح قولي الشَّافِعِي
وَهُوَ قَول مَالك
وَقَالَ أَبُو حنيفَة: يملك بالظهور وَهُوَ أحد قولي الشَّافِعِي
وَاخْتلفُوا فِيمَا إِذا اشْترى رب المَال شَيْئا من الْمُضَاربَة فَقَالَ أَبُو حنيفَة وَمَالك: يَصح
وَقَالَ الشَّافِعِي: لَا يَصح وَهُوَ أظهر الرِّوَايَتَيْنِ عِنْد أَحْمد
وَلَو ادّعى الْمضَارب أَن رب المَال أذن لَهُ فِي البيع وَالشِّرَاء نَقْدا ونسيئة وَقَالَ رب المَال: مَا أَذِنت لَك إِلَّا بِالنَّقْدِ
قَالَ أَبُو حنيفَة وَمَالك وَأحمد: القَوْل قَول الْمضَارب مَعَ يَمِينه وَقَالَ الشَّافِعِي: القَوْل قَول رب المَال مَعَ يَمِينه
وَالْمُضَارب لرجل إِذا ضَارب لآخر فربح
قَالَ أَحْمد وَحده: لَا يجوز لَهُ الْمُضَاربَة فَإِن فعل وَربح رد الرِّبْح إِلَى الأول

(1/195)


المصطلح: وَمَا يشْتَمل عَلَيْهِ من الصُّور
وَلها عمد: وَهِي ذكر رب المَال والمدفوع إِلَيْهِ وأسمائهما وأنسابهما وَأَن لَا يشْتَرط فِيهَا مُدَّة مَعْلُومَة وَذكر المَال ومبلغه من الذَّهَب أَو الْفضة وَذكر تِجَارَة الْعَامِل بِهِ فِي أَصْنَاف التِّجَارَات على مَا يُطلقهُ لَهُ رب المَال نَقْدا أَو نَسِيئَة وَذكر الْأَجْزَاء الْمَشْرُوطَة بَينهمَا فِيمَا رزق الله تَعَالَى من الرِّبْح
وَصِحَّة الْعقل وَالْبدن
وَجَوَاز الْأَمر
وَمَعْرِفَة الش بهما والتاريخ
وَأما الصُّور: فَهِيَ على أَنْوَاع مِنْهَا: صُورَة قِرَاض مُتَّفق عَلَيْهِ: أشهد عَلَيْهِ فلَان أَو أقرّ فلَان أَنه قبض وتسلم من فلَان من الذَّهَب كَذَا وَكَذَا دِينَارا أَو من الْفضة كَذَا وَكَذَا درهما قبضا شَرْعِيًّا
وَصَارَ ذَلِك إِلَيْهِ وَبِيَدِهِ وحوزه على سَبِيل الْقَرَاض الشَّرْعِيّ الْجَائِز بَين الْمُسلمين
أذن الدَّافِع الْمَذْكُور للقابض الْمَذْكُور أَن يبْتَاع بذلك مَا شَاءَ من أَصْنَاف البضائع وأنواع المتاجر وَأَن يُسَافر بذلك إِلَى حَيْثُ شَاءَ من الْبِلَاد شرقا وغربا وَبرا وبحرا عذبا وملحا صُحْبَة الرفاق والقفول فِي الطّرق المسلوكة المأمونة وَيبِيع ذَلِك كَيفَ شَاءَ بِالنَّقْدِ والنسيئة أَو بِأَحَدِهِمَا ويتصرف فِي ذَلِك بِالْبيعِ وَالشِّرَاء وَالْأَخْذ وَالعطَاء وَسَائِر التَّصَرُّفَات الشَّرْعِيَّة على الْوَجْه الشَّرْعِيّ ويتعوض بِهِ وَبِمَا شَاءَ مِنْهُ مَا شَاءَ من أَنْوَاع التِّجَارَات وأصناف البضائع على إِطْلَاقهَا وتباين أَنْوَاعهَا وأجناسها ويدير ذَلِك فِي يَده مرّة بعد أُخْرَى وَحَالا بعد حَال
بِمَا فِيهِ الْحَظ والمصلحة وَالْغِبْطَة عَاملا فِي ذَلِك كُله بتقوى الله تَعَالَى وطاعته وخشيته ومراقبته فِي سره وعلانيته وَمهما رزق الله تَعَالَى فِي ذَلِك من ربح
ويسره من فَائِدَة بعد إِخْرَاج الْمُؤَن والكلف وَالْأَجْر وتعديل رَأس المَال الْمَذْكُور وإفرازه وَحقّ الله تَعَالَى إِن وَجب كَانَ بَينهمَا بِالسَّوِيَّةِ نِصْفَيْنِ لَا مزية لأَحَدهمَا على الآخر قراضا صَحِيحا شَرْعِيًّا مُشْتَمِلًا على الْإِيجَاب وَالْقَبُول والتسلم وَالتَّسْلِيم على الْوَجْه الشَّرْعِيّ
وَإِن صدر الْإِذْن من رب المَال فِي السّفر إِلَى بلد مَعْلُوم أَو نَص لَهُ على البيع بِالْعقدِ أَو بِالنَّسِيئَةِ أَو على أَن يجلس بحانوت بسوق معِين أَو غير ذَلِك
نَص عَلَيْهِ وَكتب مَا يَقع عَلَيْهِ اتِّفَاقهمَا مُبينًا إِن كَانَ اتِّفَاقًا جَائِزا شرعا
وَصُورَة الْقَرَاض بِلَفْظ الْمُضَاربَة: إِمَّا أَن يَقُول: ضَارب فلَان فلَانا على أَن يدْفع إِلَيْهِ من مَاله وصلب مَاله كَذَا وَكَذَا دِينَارا خَالِصا أَو كَذَا وَكَذَا درهما فضَّة جَيِّدَة خَالِصَة خَالِيَة من الْغِشّ
وَإِمَّا أَن يبْدَأ بِالْإِشْهَادِ أَو الْإِقْرَار بِالْقَبْضِ حَسْبَمَا تقدم وَأذن لَهُ أَن يفعل كَذَا وَكَذَا ويسوق الْكَلَام ويستوعب الشُّرُوط الْمُتَّفق عَلَيْهِ الْجَائِزَة شرعا إِلَى آخرهَا
ويكمل على نَحْو مَا تقدم شَرحه

(1/196)


وَإِن كَانَت الْمُضَاربَة بِدَرَاهِم مغشوشة والغش فِيهَا أقل من الثُّلُث: فَهُوَ جَائِز عِنْد الْحَنَفِيَّة فَيكْتب الصَّدْر ويكمل الْإِشْهَاد بالألفاظ الْمُعْتَبرَة فِي ذَلِك حَسْبَمَا تقدم وَيثبت كتاب الْمُضَاربَة عِنْد قَاض حَنَفِيّ
وَصُورَة إِذن الْمولى لعَبْدِهِ أَن يقارض: أقرّ فلَان الْمُسلم أَو النَّصْرَانِي أَو الْيَهُودِيّ الْبَالِغ وَيذكر حليته وجنسه ثمَّ يَقُول: مَمْلُوك فلَان الْحَاضِر مَعَه عِنْد شُهُوده الَّذِي أذن لَهُ فِي الْإِقْرَار بِمَا سَيَأْتِي ذكره فِيهِ إِذْنا شَرْعِيًّا إِقْرَار مثله وَلَا يُقَال فِي العَبْد: جَوَاز أمره وَإِنَّمَا يُقَال: جَوَاز إِقْرَار مثله وَأَنه قبض وتسلم من فلَان من الذَّهَب كَذَا
أَو من الْفضة كَذَا وَكَذَا قبضا شَرْعِيًّا
وَصَارَ ذَلِك بِيَدِهِ وحوزه ويكمل الْقَرَاض إِلَى آخِره على نَحْو مَا تقدم شَرحه
فَإِذا وصل إِلَى التَّارِيخ كتب قبل (سَيّده) وَأقر فلَان الْقَابِض الْمَذْكُور أَعْلَاهُ: أَنه مَمْلُوك لفُلَان الْمَذْكُور وَأَنه قبل الْإِذْن مِنْهُ فِي الْعَمَل فِي مَال الْقَرَاض الْمَشْرُوع أَعْلَاهُ على الْوَضع الْمُعْتَبر الْمعِين أَعْلَاهُ
وَصدقه المقار الْمَذْكُور على ذَلِك كُله تَصْدِيقًا شَرْعِيًّا
وَوَقع الْإِشْهَاد على الْقَابِض ومولاه الْآذِن وَرب المَال بِمَا نسب إِلَى كل مِنْهُم أَعْلَاهُ فِي تَارِيخ كَذَا وَكَذَا
وَصُورَة المفاصلة فِي الْمُضَاربَة: أقرّ فلَان أَنه كَانَ من قبل تَارِيخه دفع إِلَى فلَان مَالا وَقدره كَذَا وَكَذَا على سَبِيل الْمُضَاربَة الشَّرْعِيَّة على أَن يَشْتَرِي بِهِ وَيبِيع فِيهِ وَيعْمل مَا يرَاهُ
واكتتب بذلك كتابا مؤرخا بَاطِنه بِكَذَا وَأَن فلَانا الْمَذْكُور اشْترى بِمَال الْمُضَاربَة مَا أمكنه شِرَاؤُهُ وَبَاعَ مَا أمكنه بَيْعه وَتصرف فِي ذَلِك تَصرفا شَرْعِيًّا وَأخذ وَأعْطى وأنهما تحاسبا بعد ذَلِك وَعرفا مَا رزق الله تَعَالَى فِي ذَلِك من نَمَاء ويسره من ربح وَفَائِدَة وتقاسماه بَينهمَا بعد أَن دفع فلَان إِلَى فلَان رَأس المَال الْمَذْكُور
فَقَبضهُ مِنْهُ قبضا شَرْعِيًّا تَاما وافيا وتفاسخا مَا كَانَ بَينهمَا من هَذِه الْمُضَاربَة وأبطلاها وَلم يبْق لكل وَاحِد مِنْهُمَا قبل صَاحبه وَلَا عِنْده وَلَا فِي ذمَّته وَلَا فِي يَده حق وَلَا دَعْوَى وَلَا طلب وَلَا دين وَلَا عين وَلَا ورق وَلَا ربح وَلَا حق وَلَا بَقِيَّة من حق وَلَا يَمِين بِاللَّه تَعَالَى على ذَلِك وَلَا على شَيْء مِنْهُ وَلَا مُطَالبَة على أحد من خلق الله تَعَالَى بِسَبَب ذَلِك وَلَا شَيْء قل وَلَا جلّ لما مضى من سَائِر الزَّمَان إِلَى يَوْم تَارِيخه وتصادقا على ذَلِك كُله تَصَادقا شَرْعِيًّا
ويؤرخ
تَنْبِيه: من علل الْمُضَاربَة: أَن يكْتب إِلَى أجل مَعْلُوم لما فِيهِ من الضَّرَر الْعَائِد على رب المَال وَالْعَامِل أما لَو كَانَت مضيقة بتأقيت الشِّرَاء جَازَ
فَإِنَّهُ عقد جَائِز
فَلهُ أَن يمنعهُ من ذَلِك مَتى شَاءَ
وَيجوز لوَلِيّ الطِّفْل وَالْمَجْنُون أَن يقارض بمالهما سَوَاء فِيهِ الْأَب وَالْجد وَالْوَصِيّ وَالْحكم وأمينه
انْتهى

(1/197)


تَنْبِيه آخر: إِذا كَانَ الْقَرَاض بيد جمَاعَة فَلَا يَصح أَن يتكافلوا فِي الذِّمَّة
وَلَا يجوز ضَمَان الدَّرك فِي مَال الْقَرَاض وَلَا ضَمَان الذِّمَّة بل يَصح ضَمَان الْوَجْه
لِأَن يَد الْعَامِل يَد أَمَانَة
فرع: إِذا قَالَ الْعَامِل: ربحت كَذَا ثمَّ قَالَ: خسرت بعده
قبل قَوْله
وَإِن قَالَ: غَلطت فِي الْحساب أَو كذبت من خوف الْفَسْخ لم يقبل خلافًا لمَالِك حَيْثُ يَقُول: لَو قَالَ: ربحت كَذَا ثمَّ قَالَ: كذبت من خوف الْفَسْخ ينظر
فَإِن كَانَ هُنَاكَ موسم يتَوَقَّع رواج الْمَتَاع فِيهِ قبل قَوْله وَإِلَّا فَلَا
فَائِدَة: لَو أذن الْمَالِك لِلْعَامِلِ فِي الشِّرَاء سلما جَازَ
وَلَو أذن لَهُ فِي البيع سلما لم يجز
وَالْفرق: وجود الْخط طَالبا فِي الشِّرَاء وَعَدَمه فِي البيع وَالله أعلم

(1/198)