روضة الطالبين وعمدة المفتين ط العلمية

روضة الطالبين - كتاب الصلاة (1)
فيه سبعة أبواب.
الباب الأول في المواقيت (2) أما وقت الظهر، فيدخل بالزوال. وهو زيادة في الظل بعد استواء الشمس، أو حدوثه، إن لم يكن عند الاستواء (3) ظل. وذلك يتصور في بعض البلاد، كمكة،

(1/289)


وصنعاء اليمن، في أطول أيام السنة. ويخرج وقتها إذا صار ظل الشخص مثله سوى الظل الذي كان عند الزوال، إن كان ظل، وما بين الطرفين وقت اختيار. وأما العصر، فيدخل وقتها، بخروج وقت الظهر بلا خلاف، ويمتد إلى غروب الشمس. وفي وجه ضعيف قاله الاصطخري: يخرج وقتها، إذا صار ظل الشئ مثليه. وعلى الصحيح: لها أربعة أوقات (1)، وقت فضيلة، وهو الاول. ووقت اختيار، إلى أن يصير ظله مثليه. وبعده جواز بلا كراهة، إلى اصفرار الشمس. ومن الاصفرار، إلى الغروب: وقت كراهة، يكره تأخيرها إليه. وأما المغرب، فيدخل وقتها بغروب الشمس بلا خلاف (2). والاعتبار بسقوط قرصها، وهو ظاهر في الصحاري. وأما في العمران، وقلل (3) الجبال، فالاعتبار، بأن لا يرى شئ من شعاعها على الجدران، ويقبل الظلام من المشرق. وفي آخر وقتها قولان. القديم: أنه يمتد إلى مغيب الشفق. والجديد: أنه إذا مضى قدر وضوء وستر عورة (4)، وأذان، وإقامة، وخمس ركعات (5)، انقضى الوقت. وما

(1/290)


لا بد منه من شرائط الصلاة، لا يجب تقديمه على الوقت، فيجوز التأخير بعد الغروب بقدر اشتغاله بها. والاعتبار في جميع ذلك، بالوسط المعتدل (1). ويحتمل أيضا أكل لقم يكسر بها حدة الجوع (2). وفي وجه: ما يمكن تقديمه على الوقت، كالطهارة، والسترة، يسقط من الاعتبار. وفي وجه: يعتبر ثلاث ركعات، لا خمس. وهما شاذان، والصواب الاول. ثم على الجديد: لو شرع في المغرب في الوقت المضبوط، فهل له استدامتها إلى انقضاء الوقت ؟ إن قلنا: الصلاة التي يقع بعضها في الوقت، وبعضها بعده أداء وأنه يجوز تأخيرها إلى أن يخرج عن الوقت بعضها، فله ذلك قطعا. وإن لم نجوز ذلك في سائر الصلوات، ففي المغرب وجهان. أصحهما: يجوز مدها إلى مغيب الشفق. والثاني: منعه كغيرها (3). ثم الاظهر من القولين، الجديد. واختار طائفة من الاصحاب، القديم، ورجحوه، وعندهم المسألة مما يفتى فيه على القديم.

(1/291)


قلت: الاحاديث الصحيحة (1)، مصرحة بما قاله في القديم، وتأويل بعضها متعذر، فهو الصواب. وممن اختاره من أصحابنا، ابن خزيمة (2)، والخطابي، والبيهقي (3)، والغزالي في (الاحياء) والبغوي في (التهذيب) وغيرهم (4). والله أعلم. وأما العشاء، فيدخل وقتها بمغيب الشفق. وهو الحمرة. وقال المزني: البياض. وقال إمام الحرمين: يدخل وقتها بزوال الحمرة، والصفرة. قال: والشمس إذا غربت، تعقبها حمرة، ثم ترق حتى تنقلب صفرة، ثم يبقى البياض. قال: وبين غروب الشمس، إلى زوال الصفرة، كما بين الصبح الصادق، وطلوع قرن الشمس. وبين زوال الصفرة، إلى انمحاق البياض، قريب مما بين الصبح الصادق، والكاذب. هذا قول إمام الحرمين. والذي عليه المعظم، ويدل عليه، نص الشافعي رضي الله عنه: أنه الحمرة. ثم غروب الشفق، ظاهر، في معظم النواحي. أما الساكنون بناحية تقصر لياليهم، ولا يغيب عنهم الشفق، فيصلون

(1/292)


العشاء إذا مضى من الزمان قدر ما يغيب فيه الشفق في أقرب البلاد إليهم. وأما وقت الاختيار للعشاء، فيمتد إلى ثلث الليل على الاظهر. وإلى نصفه، على الثاني (1). ويبقى وقت الجواز إلى طلوع الفجر الثاني على الصحيح. وقال الاصطخري: يخرج الوقت بذهاب وقت الاختيار. وأما وقت الصبح، فيدخل بطلوع الفجر الصادق. ويتمادى وقت الاختيار، إلى أن يسفر. والجواز إلى طلوع الشمس على الصحيح. وعند الاصطخري يخرج وقت الجواز بالاسفار. فعلى الصحيح، للصبح أربعة أوقات، فضيلة أوله، ثم اختيار إلى الاسفار، ثم جواز بلا كراهة إلى طلوع الحمرة، ثم كراهة وقت طلوع الحمرة إذا لم يكن عذر. قلت: مذهبنا، ومذهب جماهير العلماء أن صلاة الصبح من صلوات النهار. ويكره أن يقال للمغرب: عشاء، وأن يقال للعشاء: عتمة (2). والاختيار. أن يقال للصبح: الفجر، أو الصبح. وهما أولى من الغداة. ولا تقول: الغداة مكروه. ويكره النوم قبل العشاء (3)، والحديث بعدها لغير عذر، إلا في خير (4). واختلف العلماء في الصلاة الوسطى. فنص الشافعي رضي الله عنه (5): أنها الصبح (6). وقال صاحب (الحاوي): نص الشافعي أنها الصبح. وصحت الاحاديث، أنها

(1/293)


العصر (1). ومذهبه، إتباع الحديث، فصار مذهبه: أنها العصر. قال: ولا يكون في المسألة قولان. كما وهم بعض أصحابنا. والله أعلم. فصل: تجب الصلاة بأول الوقت وجوبا موسعا (2)، بمعنى أنه لا يأثم

(1/294)


بتأخيرها إلى آخره. فلو أخرها من غير عذر، فمات في أثناء الوقت، لم يأثم بتأخيرها على الاصح، بخلاف الحج (1). ولو وقع بعض الصلاة في الوقت، وبعضها خارج الوقت، نظر، إن كان الواقع في الوقت ركعة فصاعدا، فالاصح: أن جميع الصلاة أداء. والثاني: جميعها قضاء. والثالث: ما في الوقت أداء، وما بعده قضاء. وإن كان الواقع في الوقت أقل من ركعة، فالمذهب الجزم بأن الجميع قضاء. وقيل: هو كالركعة. وحيث قلنا: الجميع قضاء، أو الخارج، لم يجز للمسافر قصر تلك الصلاة على قولنا: لا يجوز قصر المقضية. ولو أراد تأخير الصلاة إلى حد يخرج بعضها عن الوقت، إن قلنا: كلها قضاء، أو البعض، لم يجز قطعا. وإن قلنا: الجميع أداء، لم يجز أيضا على المذهب. وفيه ترديد جواب للشيخ أبي محمد. ولو شرع فيها وقد بقي من الوقت ما يسع جميعها، فمدها بتطويل القراءة حتى خرج الوقت، لم يأثم قطعا. ولا يكره على الاصح. قلت: وفي تعليق القاضي حسين، وجه: أنه يأثم. والله أعلم. فصل: تعجيل الصلاة في أول الوقت أفضل، وفيما يحصل به فضيلة أوله، أوجه. أصحها: يحصل بأن يشتغل أول دخول الوقت بأسباب الصلاة، كالطهارة، والاذان، وغيرهما، ثم يصلي. ولا يشترط على هذا تقديم ستر العورة، على الاصح. وشرطه أبو محمد. ولا يضر الشغل الخفيف، كأكل لقم، وكلام قصير. ولا يكلف العجلة على خلاف العادة. والوجه الثاني: يبقى وقت الفضيلة إلى نصف الوقت. كذا أطلقه جماعة. وقال آخرون: إلى نصف وقت الاختيار. والثالث: لا يحصل إلا إذا قدم قبل الوقت ما يمكنه تقديمه من الاسباب، لتنطبق الصلاة على أول

(1/295)


الوقت. وعلى هذا قيل: لا ينال المتيمم فضيلة الاولية. قلت: هذا الوجه الثالث، غلط صريح. مخالف للسنة المستفيضة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. والصواب: الاول. والله أعلم. وهذا المذكور من فضيلة التعجيل، هو في الصبح، والعصر، والمغرب، على الاطلاق. وأما العشاء، فتعجيلها أيضا أفضل على الاظهر. وعلى الثاني: تأخيرها أفضل، ما لم يجاوز وقت الاختيار، وأما الظهر، فيستحب فيها التعجيل، في غير شدة الحر بلا خلاف (1). وفي شدة الحر، يستحب الابراد على الصحيح المعروف. وفيه وجه شاذ: أن الابراد رخصة. وأنه لو تحمل المشقة، وصلى في أول الوقت، كان أفضل. والصواب: أن الابراد سنة. وهو: أن يؤخر إقامة الجماعة عن أول الوقت في المسجد (2) الذي يأتيه الناس من بعد، بقدر ما يقطع للحيطان ظل يمشي فيه طالب الجماعة. ولا يؤخر عن النصف الاول من الوقت. فلو قربت منازلهم من المسجد، أو حضر جماعة في موضع لا يأتيهم غيرهم، لا يبردون على الاظهر. وكذا لو أمكنه المشي إلى المسجد في ظل، أو صلى في بيته منفردا فلا إبراد على الاصح. ويختص باستحباب الابراد بالبلاد الحارة على الاصح المنصوص، ولا تلحق الجمعة بالظهر، في الابراد على الاصح. فصل: إذا اشتبه عليه وقت صلاة، لغيم، أو حبس في مظلم، أو غيرهما، اجتهد فيه، واستدل بالدرس، والاعمال، والاوراد، وشبهها. ومن الامارات، صياح الديك المجرب إصابة صياحه الوقت. وكذا أذان المؤذنين في يوم الغيم إذا كثروا، وغلب على الظن - لكثرتهم - أنهم لا يخطؤون. والاعمى يجتهد في الوقت كالبصير. وإنما يجتهدان، إذا لم يخبرهما ثقة بدخول الوقت عن

(1/296)


مشاهدة. فلو قال: رأيت الفجر طالعا، أو الشفق غاربا، لم يجز الاجتهاد، ووجب قبول قوله. فإن أخبر عن اجتهاد، لم يجز للبصير القادر على الاجتهاد تقليده. ويجوز للاعمى على الاصح. والمؤذن الثقة العالم بالمواقيت في يوم الصحو، كالمخبر عن مشاهدة. وفي الغيم، كالمجتهد. وحكى في (التهذيب) وجهين في تقليد المؤذن، من غير فرق بين البصير، والاعمى. وقال: الاصح: الجواز. وذهب إليه ابن سريج. والتفصيل المتقدم، أقرب. واختاره الروياني، وغيره. قلت: الاصح، ما صححه صاحب (التهذيب). وقد نقله عن نص الشافعي، وبه قال الشيخ أبو حامد. وصححه البندنيجي (1)، وصاحب (العدة) وغيرهم. والله أعلم. وحيث لزم الاجتهاد، فصلى بلا اجتهاد، وجبت الاعادة وإن صادف الوقت. وإذا لم تكن دلالة، أو كانت، فلم يغلب على ظنه شئ، صبر إلى أن يغلب على قلبه دخول الوقت. والاحتياط: أن يؤخر إلى أن يغلب على ظنه أنه لو أخر، خرج الوقت. ولو قدر على الصبر إلى استيقان دخول الوقت، جاز الاجتهاد على الصحيح، كالاواني. قلت: لو علم المنجم دخول الوقت بالحساب. حكى صاحب (البيان): أن المذهب: أنه يعمل به بنفسه، ولا يعمل به غيره. والله أعلم. فرع: حيث جاز الاجتهاد، فصلى به، إن لم يتبين الحال، فلا شئ عليه. وإن بان وقوع صلاته في الوقت أو بعده، فلا قضاء عليه. لكن الواقعة بعده، قضاء على الاصح. فلو كان مسافرا، وقصرها، وجب إعادتها تامة. إذا قلنا: لا يجوز قصر القضاء. وإن بان وقوعها قبل الوقت، وأدركه، وجبت الاعادة. وإلا، فقولان. المشهور: وجوبها، ومثل هذا الخلاف، والتفصيل، يجري فيمن اشتبه عليه شهر رمضان.

(1/297)


قلت: قال أصحابنا: لو أخبره ثقة، أن صلاته وقعت قبل الوقت، إن أخبره عن علم ومشاهدة، وجبت الاعادة، وإن أخبره عن اجتهاد، فلا. والله أعلم. فصل في وقت أصحاب الاسباب المانعة من وجوب الصلاة: وهي: الصبا، والكفر، والجنون، والاغماء، والحيض، والنفاس. ولها ثلاثة أحوال. الاول: أن توجد في أول الوقت، ويخلو عنها آخره، بأن تطهر عن حيض، أو نفاس في آخر الوقت، فينظر، إن بقي من الوقت قدر ركعة، لزمها فرض الوقت. والمعتبر في الركعة، أخف ما يقدر عليه أحد. وشرط الوجوب: أن تمتد السلامة من المانع قدر إمكان الطهارة، وتلك الصلاة. فإن عاد مانع قبل ذلك، لم يجب. مثاله: بلغ الصبي في آخر وقت العصر، ثم جن، أو أفاق المجنون، ثم عاد جنونه، أو طهرت. ثم جنت، أو أفاقت مجنونة، ثم حاضت، فإن مضى في حال السلامة ما يسع طهارة وأربع ركعات، وجبت العصر، وإلا، فلا. هذا إذا كان الباقي من الوقت قدر ركعة. فإن كان قدر تكبيرة، أو فوقها دون ركعة، ففي وجوب الفرض، قولان. الاظهر: الوجوب بالشرط المتقدم في الركعة. ويستوي في الوجوب، بإدراك الركعة، أو ما دونها، جميع الصلوات. فإن كانت المدركة صبحا، أو ظهرا، أو مغربا، قصر الوجوب عليها. وإن كانت عصرا، أو عشاء، وجب مع العصر الظهر، ومع العشاء المغرب. وبماذا يجب الظهر ؟ قولان. أظهرهما: يجب بما يجب به العصر. وهو ركعة قبل الغروب على قول، وتكبيرة على قول. والثاني: لا يجب إلا بإدراك أربع ركعات زائدة على ما يجب به العصر، وتكون الاربع للظهر، والركعة أو التكبيرة للعصر، على الصحيح. وقيل: الاربع للعصر. والركعة، أو التكبيرة، للظهر. وتظهر فائدة الوجهين، في المغرب مع العشاء، فإن المغرب معها، كالظهر مع العصر. فإن قلنا: بالاظهر، وجبت المغرب بما تجب العشاء. وإن قلنا: بالثاني. وقلنا: الركعات الاربع الزائدة للظهر، اعتبرنا هنا ثلاث ركعات للمغرب، مع ما تلزم به العشاء. وإن قلنا: الاربع للعصر، اعتبرنا أربعا للعشاء. وهل يعتبر مع القدر المذكور للزوم الصلاة الواحدة، أو صلاتي الظهر

(1/298)


والعصر والمغرب، والعشاء، إدراك زمن الطهارة ؟ قولان. أظهرهما: لا. وإذا جمعت (1) الاقوال، حصل فيما يلزم به كل صلاة من إدراك آخر وقتها، أربعة أقوال. أظهرها: قدر تكبيرة. والثاني: تكبيرة، وطهارة. والثالث: ركعة. والرابع: ركعة وطهارة. وفيما يلزم به الظهر، مع العصر، ثمانية أقوال. هذه الاربعة. والخامس: قدر أربع ركعات وتكبيرة. والسادس: هذا، وزمن طهارة. والسابع: قدر خمس ركعات. والثامن: هذا، وزمن طهارة. وفيما يلزم المغرب، مع العشاء، اثنا عشر قولا، هذه الثمانية. والتاسع: ثلاث ركعات وتكبيرة. والعاشر: هذا وزمن طهارة. والحادي عشر: أربع ركعات. والثاني عشر: هذا وزمن طهارة. فرع: جميع ما ذكرناه، هو فيما إذا كان زوال العذر قبل أداء صلاة الوقت. وهذا يكون حال من سوى الصبي، من أصحاب الاسباب، فإنها كما تمنع الوجوب، تمنع الصحة. وأما الصبي إذا صلى وظيفة الوقت، ثم بلغ قبل خروج الوقت، فيستحب له أن يعيدها. ولا تجب الاعادة على الصحيح. والثاني: تجب. قاله ابن سريج: سواء قل الباقي من الوقت، أم كثر. والثالث: قاله الاصطخري: إن بلغ، وقد بقي من الوقت ما يسع تلك الصلاة، وجبت الاعادة. وإلا، فلا. أما إذا بلغ بالسن في أثنائها، فالصحيح، وظاهر النص، وما عليه الجمهور: أنه يجب إتمامها، ويستحب الاعادة. والثاني: يستحب الاتمام، وتجب الاعادة. والثالث قاله الاصطخري: إن بقي ما يسع الصلاة، وجبت الاعادة. وإلا، فلا. هذا كله في غير الجمعة. أما إذا صلى الظهر يوم الجمعة، ثم بلغ، وأمكنته الجمعة. فإن قلنا: في سائر الصلوات، تجب الاعادة (2)، وجبت الجمعة. وإلا، فالصحيح: أنها لا تجب، كالمسافر، والعبد إذا صليا الظهر، ثم زال عذرهما، وأمكنتهما الجمعة، لا تلزمهما قطعا. الحال الثاني: أن يخلو أول الوقت من الاعذار المذكورة، ثم يطرأ ما يمكن أن يطرأ، وهو الحيض، والنفاس، والجنون، والاغماء، ولا يتصور طريان الكفر المسقط للاعادة. فإذا حاضت في أثناء الوقت، قبل أن تصلي، نظر في القدر

(1/299)


الماضي من الوقت. إن كان قدرا يسع تلك الصلاة، وجب القضاء، إذا طهرت على المذهب. وخرج ابن سريج قولا: أنه لا يجب إلا إذا أدركت جميع الوقت. ثم على المذهب المعتبر: أخف ما يمكن من الصلاة. حتى لو طولت صلاتها، فحاضت فيها، وقد مضى من الوقت ما يسعها لو خفقها، وجب القضاء. ولو كان الرجل مسافرا، فطرأ عليه جنون، أو إغماء، بعد ما مضى من وقت الصلاة المقصورة ما يسع ركعتين، لزمه قضاؤها، لانه لو قصر، يمكنه أداؤها. ولا يعتبر مع إمكان فعلها، إمكان الطهارة، لانه يمكن تقديمها قبل الوقت، إلا إذا لم يجز تقديم طهارة صاحب الواقعة. كالمتيمم، والمستحاضة. قلت: ذكر في (التتمة) في اشتراط زمن الطهارة، لمن يمكنه تقديمها، وجهين، وهما كالخلاف في آخر الوقت. ولا فرق، فإنه وإن أمكن التقديم، فلا يجب. والله أعلم. أما إذا كان الماضي من الوقت لا يسع تلك الصلاة، فلا يجب على المذهب. وبه قطع الجماهير. وقال أبويحيى البلخي، وغيره من أصحابنا: حكم أول الوقت، حكم آخره. فيجب القضاء بإدراك ركعة، أو تكبيرة على الاظهر. وغلطه الاصحاب. أما العصر، فلا يجب بإدراك الظهر، ولا العشاء، بإدراك المغرب. ولو أدرك جميع وقتها على الصحيح الذي عليه الجماهير. وقال البلخي (1) إذا أدرك من وقت الظهر ثماني ركعات، ثم طرأ العذر، لزمه الظهر والعصر جميعا. كما يلزم الاولى، بإدراك الثانية، وهو غلط، لان وقت الظهر، لا يصلح للعصر، إلا إذا صليت الظهر جمعا. واعلم أن الحكم بوجوب الصلاة، إذا أدرك من وقتها ما يسعها، لا يختص بأوله. بل لو كان المدرك من وسطه، لزمت الصلاة. مثل أن أفاق المجنون في أثناء الوقت، وعاد جنونه في الوقت، أو بلغ صبي، ثم جن، أو أفاقت مجنونة، ثم

(1/300)


حاضت. وقد تلزم الظهر بإدراك أول وقت العصر، كما تلزم بآخره، بأن أفاق مغمى عليه، بعد أن مضى من وقت العصر ما يسع الظهر والعصر. فإن كان مقيما، فالمعتبر قدر ثمان ركعات. وإن كان مسافرا يقصر، كفاه قدر أربع. وتقاس المغرب مع العشاء في جميع ما ذكرناه، بالظهر مع العصر. الحال الثالث: أن يعم السبب جميع وقت الرفاهية، ووقت الضرورة، وهو الوقت الذي يجوز فيه الجمع. أما الحيض، والنفاس. فإنه يمنع وجوب الصلاة، وجوازها، ولا قضاء. وأما الكافر الاصلي، فهو مخاطب بالصلاة وغيرها من فروع الشرع على الصحيح. لكن إذا أسلم، لا يجب عليه قضاء صلاة أيام الكفر بلا خلاف. وأما المرتد، فيجب عليه قضاء صلوات أيام الردة. وأما الصبي، فلا تجب عليه الصلاة، أداء (1)، ولا قضاء. ولا يؤمر أحد ممن لا تجب عليه الصلاة بفعلها، إلا الصبي، والصبية، فإنه يؤمر بها إذا بلغ سبع سنين، ويضرب على تركها، إذا بلغ عشرا. قال الائمة: فيجب على الآباء، والامهات، تعليم الاولاد، الطهارة، والصلاة، والشرائع، بعد السبع. والضرب على تركها بعد العشر. ويؤمر بالصوم إن أطاقه، كما يؤمر بالصلاة. وأجرة تعليم الفرائض في مال الصبي. فإن لم يكن له مال، فعلى الاب. فإن لم يكن، فعلى الام. وهل يجوز أن يعطي الاجرة من مال الصبي، على تعليم ما سوى الفاتحة، والفرائض، من القرآن، والادب ؟ وجهان. قلت: الاصح، في مال الصبي. وهذا كله إذا كان الصبي، والصبية، مميزين. والله أعلم. وأما من زال عقله، بجنون، أو أغمي عليه، فلا تجب عليه الصلاة، ولا قضاؤها، سواء قل الجنون والاغماء، أو كثر، إذا استغرق الوقت. ولو زال عقله بسبب محرم، كشرب مسكر، أو دواء مزيل للعقل، وجب القضاء. هذا إذا تناول الدواء لغير حاجة، وعلم أنه يزيل العقل، وعلم أن الشراب مسكر. فإن لم يعلم

(1/301)


كون الشراب مسكرا أو كون الدواء مزيلا، فلا قضاء، كالاغماء. ولو علم أن جنسه مسكر، وظن أن ذلك القدر لا يسكر، وجب القضاء، لتقصيره. ولو وثب من موضع، لحاجة، فزال عقله، فلا قضاء. وإن فعله عبثا، وجب القضاء. فرع: لو ارتد، ثم جن، ثم أفاق وأسلم، وجب قضاء أيام الجنون، وما قبلها، تغليطا عليه. ولو سكر، ثم جن، وجب قضاء المدة التي ينتهي إليها السكر. وفيما بعدها من مدة الجنون، وجهان. الاصح: لا يجب القضاء، ولو ارتدت، ثم حاضت. أو سكرت، ثم حاضت، لم تقض أيام الحيض. ولو شربت دواء حتى حاضت، لم يلزمها القضاء. وكذلك لو شربت دواء حتى ألقت جنينا، ونفست، لم يجب القضاء على الصحيح، لان ترك الصلاة في حق الحائض والنفساء عزيمة. والحاصل، أن من لم يؤمر بالترك، لا يستحيل أن يؤمر بالقضاء. فإذا لم يؤمر، كان تخفيفا. ومن أمر بالترك، فامتثل الامر، لا يتوجه أمره بالقضاء، إلا الحائض، فإنها مأمورة بترك الصوم، وبقضائه. وهو خارج عن القياس، للنص. فصل في الاوقات المكروهة وهي خمسة (1) (2): أحدها: عند طلوع الشمس حتى ترتفع قدر رمح (3) على الصحيح. وعلى الشاذ: تزول الكراهة، بطلوع قرص الشمس بتمامه. والثاني: استواء الشمس. والثالث: عند الاصفرار حتى يتم غروبها. والرابع: بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس.

(1/302)


والخامس: بعد العصر حتى تغرب. وفي هذين الوقتين إذا قدم الصبح والعصر في أول الوقت، طال وقت الكراهة، وإذا أخرهما، قصر. هذا هو المعروف لاكثر الاصحاب: أن الاوقات خمسة كما ذكرنا. وفي الصبح، وجهان آخران. أحدهما: تكره الصلاة بعد طلوع الفجر، سوى ركعتي سنة الصبح. سواء صلى الصبح، وسنتها، أم لا. قال صاحب (الشامل) هذا الوجه: هو ظاهر المذهب. وقطع به صاحب (التتمة) والثاني: يكره ذلك لمن صلى السنة، وإن لم يصل الفريضة. والصحيح: ما سبق. وهو الموافق لكلام الجمهور. فرع: النهي والكراهة في هذه الاوقات، إنما هو في صلاة ليس لها سبب (1)، فأما ما لها سبب، فلا كراهة. والمراد بقولهم: صلاة لها سبب، أي: سبب متقدم على هذه الاوقات، أو مقارن لها، والتي لا سبب لها، هي التي ليس لها سبب متقدم، ولا مقارن. وقد يفسر قولهم: لا سبب لها، بأن الشارع لم يخصها بوضع وشرعية، بل هي التي يأتي بها الانسان ابتداء. فمن ذوات الاسباب، الفائتة، فإنه يجوز في هذه الاوقات، قضاء الفرائض، والسنن، والنوافل التي اتخذها الانسان وردا له. وتجوز صلاة الجنازة، وسجود التلاوة، وسجود الشكر، وركعتا الطواف، وصلاة الكسوف. ولو تطهر في هذه الاوقات، صلى ركعتين. ولا تكره صلاة الاستسقاء فيها على الاصح (2). وعلى الثاني: تكره، كصلاة الاستخارة. وقد يمنع الاول الكراهة في صلاة الاستخارة. ويكره ركعتا الاحرام على الاصح. وأما تحية المسجد، فإن اتفق دخوله لغرض، كإعتكاف، أو درس علم، أو انتظار صلاة، ونحو ذلك، لم تكره. وإن دخل لا لحاجة، بل ليصلي التحية فقط، فوجهان، أقيسهما: الكراهة. كما لو أخر الفائتة ليقضيها في هذه الاوقات (3). ومن الاصحاب، من لم يفصل، ويجعل في التحية وجهين على

(1/303)


الاطلاق. وينسب القول بالكراهة إلى أبي عبد الله الزبيري (1). قلت: هذه الطريقة غلط. والله أعلم. ولو فاتته راتبة، أو نافلة اتخذها وردا، فقضاها في هذه الاوقات، فهل له المداومة على مثلها في وقت الكراهة ؟ وجهان. أحدهما: نعم، للحديث الصحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاته ركعتا الظهر، فقضاهما بعد العصر، وداوم عليهما بعد العصر (2). وأصحهما: لا. وتلك الصلاة من خصائص رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فرع (3): الصلاة المنهي عنها في هذه الاوقات، يستثنى منها زمان، ومكان. أما الزمان، فعند الاستواء يوم الجمعة، ولا يلحق به باقي الاوقات يوم الجمعة على الاصح. فإن ألحقنا، جاز التنفل يوم الجمعة في الاوقات الخمسة لكل أحد. وإن قلنا بالاصح، فهل يجوز التنفل لكل أحد عند الاستواء ؟ وجهان. أصحهما: نعم. والثاني، لا يجوز لمن ليس في الجامع. وأما من في الجامع، ففيه وجهان. أحدهما: يجوز مطلقا والثاني: يجوز بشرط أن يبكر، ثم يغلبه النعاس. وقيل: يكفي النعاس بلا تبكير. وأما المكان، فمكة - زادها الله شرفا - لا تكره الصلاة فيها في شئ في هذه الاوقات، سواء صلاة الطواف، وغيرها. وقيل: إنما يباح ركعتا الطواف. والصواب، الاول. والمراد بمكة، جميع الحرم. وقيل: إنما يستثنى نفس المسجد الحرام. والصواب المعروف هو الاول.

(1/304)


فرع: متى ثبتت الكراهة فتحرم بالصلاة المكروهة (1) لم تنعقد على الاصح. كصوم العيد. وتنعقد على الثاني. كالصلاة في الحمام. ولو نذر أن يصلي في هذه الاوقات، فإن قلنا: تنعقد الصلاة، صح نذره، وإلا فلا. وإذا صح نذره، فالاولى أن يصلي في وقت آخر، كمن نذر أن يضحي بشاة يذبحها بسكين مغصوب، يصح نذره، ويذبحها بغير مغصوب. ولو نذر صلاة مطلقة، فله فعلها في هذه الاوقات قطعا، فإن لها سببا. قلت: النهي عن الصلاة في هذه الاوقات حيث أثبتناه مكروها (2)، كراهة تحريم على الاصح. وبه قطع الماوردي في (الاقناع) وصاحب (الذخائر) وآخرون: وهو مقتضى النهي في الاحاديث الصحيحة (3). والثاني: كراهة تنزيه وبه قطع أبو علي البندنيجي. والله أعلم. [ وقول بعض المتأخرين: أنه لا يحرم، شاذ متروك، علته أنه مخالف لما صرح به كثيرون، واقتضاه كلام الباقين ] (4).
الباب الثاني في الأذان (5)
الاذان والاقامة سنتان على أصح الاوجه، وفرضا كفاية على الثاني. والثالث:

(1/305)


هما سنة في غير الجمعة، وفرضا كفاية فيها. فإذا قلنا: سنة، فاتفق أهل بلد على تركها، لم يقاتلوا على الاصح، كسائر السنن. وإذا قلنا: فرض كفاية، قوتلوا على تركها بلا خلاف. وإنما يسقط الاثم عنهم، بإظهارها في البلدة، أو القرية، بحيث يعلم جميع أهلها، أنه قد أذن فيها لو أصغوا. ففي القرية الصغيرة، يكفي في موضع، وفي البلد الكبير، لا بد منه في مواضع. وإذا قلنا: الاذان فرض كفاية في الجمعة، فقيل: الواجب، هو الذي بين يدي الخطيب. وقيل: يسقط الوجوب بالاذان المأتي به لصلاة الجمعة، وإن لم يكن بين يدي الخطيب. أما ما يؤذن له فلا خلاف أنه يؤذن للجماعة الاولى من صلوات الرجال في كل مكتوبة مؤداة. فإن فقد بعض هذه القيود، ففيه تفصيل. أما المنفرد في الصحراء، أو بلد، فيؤذن على المذهب والمنصوص في الجديد. وقيل: لا يؤذن في القديم. وفي وجه: إن رجا حضور جماعة، أذن، وإلا فلا. هذا إذا لم يبلغ المنفرد أذان المؤذنين، فإن بلغه، فالخلاف مرتب، وأولى بأن لا يؤذن. فإن قلنا: لا يؤذن، فهل يقيم ؟ وجهان. أصحهما: نعم. وإن قلنا: يؤذن، فهل يرفع صوته ؟ نظر، إن صلى في مسجد أقيمت فيه جماعة، وانصرفوا، لم يرفع، لئلا يوهم دخول وقت صلاة أخرى. وإلا فوجهان. الاصح: يرفع. والثاني: إن رجا جماعة، رفع، وإلا، فلا. أما إذا أقيمت جماعة في مسجد، فحضر قوم، فإن لم يكن له إمام راتب، لم يكره لهم إقامة الجماعة فيه، وإن كان، كرهت على الاصح (1). وإذا أقاموا جماعة مكروهة،

(1/306)


أو غير مكروهة، فقولان. أحدهما: لا يسن لهم الاذان. وأظهرهما: يسن، ولا يرفع فيه الصوت، لخوف اللبس. وسواء كان المسجد مطروقا، أو غير مطروق. قال إمام الحرمين: حيث قلنا في الجماعة الثانية، في المسجد الذي أقيم فيه جماعة، وأذان الراتب: لا يرفع الصوت، لا نعني به أنه يحرم الرفع، بل نعني به أن الاولى أن لا يرفع. وإذا قلنا: المنفرد لا يرفع صوته، فلا نعني به أن الاولى أن لا يرفع، فإن الرفع أولى في حقه. ولكن نعني، أنه يعتد بأذانه دون الرفع (1). أما جماعة النساء، ففيها اقوال: المشهور المنصوص في (الام) و (المختصر): يستحب لهن الاقامة، دون الاذان. فلو أذنت على هذا، ولم ترفع صوتها، لم يكره. وكان ذكرا لله تعالى. والثاني: لا أذان، ولا إقامة. والثالث: يستحبان معا. ولو صلت امرأة منفردة. إن قلنا: الرجل المنفرد. لا يؤذن، فهي أولى. وإلا، فعلى هذه الاقوال لا ترفع صوتها بحال، فوق ما تسمع صواحبها. ويحرم عليها الزيادة على ذلك (2). أما غير الفرائض الخمس، فلا أذان لها، ولا إقامة. سواء كانت منذورة، أو سنة، سواء سن لها الجماعة، كالعيدين، والكسوفين، والاستسقاء، أم لم يسن، كالضحى. لكن ينادى للعيد، والكسوف، والاستسقاء: الصلاة جامعة. وكذا ينادى للتراويح، إذا صليت جماعة. وفي استحباب هذا النداء في الجنازة، وجهان. قلت: الاصح، لا يستحب. وبه قطع كثيرون، وهو المنصوص في (الام). والله أعلم. أما الفريضة الفائتة، فيقيم لها بلا خلاف. وفي الاذان ثلاثة أقوال: الجديد الاظهر: لا يؤذن، والقديم: يؤذن، والثالث: نصه في (الاملاء) إن رجا اجتماع

(1/307)


جماعة يصلون معه، أذن. وإلا، فلا. قال الائمة: الاذان في الجديد، حق الوقت. وفي القديم، حق الفريضة. وفي (الاملاء) حق الجماعة. قلت: الاظهر: أنه يؤذن للفائتة. وقد ثبت ذلك في الصحيح (1) عن فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وصححه كثير من أصحابنا. والله أعلم. وإذا أقيمت الفائتة جماعة، سقط القول الثالث. ولو قضى فوائت، فعلى التوالي أقام لكل واحدة قطعا بلا خلاف. ولا يؤذن لغير الاولى قطعا. وفي الاولى هذه الاقوال. ولو والى بين فريضة الوقت، ومقضية، فإن قدم فريضة الوقت، أذن لها، وأقام للمقضية. وإن قدم المقضية، أقام لها. وفي الاذان لها، الاقوال. وأما فريضة الوقت، فقال إمام الحرمين: إن قلنا: يؤذن للمقضية، لم يؤذن لفريضة الوقت، وإلا أذن. والاصح: أنه لا يؤذن لفريضة الوقت بعد المقضية بكل حال. قلت: إلا أن يؤخرها عن المقضية، بحيث يطول الفصل بينهما، فإنه يؤذن للحاضرة قطعا بكل حال. كذا قاله أصحابنا. والله أعلم. أما إذا جمع بين صلاتي الجمع، بسفر، أو مطر، فإن قدم الثانية إلى وقت الاولى، أذن للاولى، وأقام للثانية. وإن أخر الاولى إلى وقت الثانية، أقام لكل واحدة، ولا يؤذن للثانية. وفي الاذان للاولى، الاقوال في الفائتة. والاظهر: لا يؤذن. قال إمام الحرمين: وينقدح أن يقال: يؤذن لها، وإن لم يؤذن للفائتة. قلت: بل الاظهر، أنه يؤذن. ففي (صحيح مسلم) (2) عن جابر رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: جمع بين المغرب والعشاء بالمزدلفة في وقت الثانية. بأذان، وإقامتين، وهو مقدم عند العلماء على رواية أسامة، وابن عمر: أنه صلاهما

(1/308)


بإقامتين، لانه زيادة (1) ثقة حفظ ما لم يحفظ غيره. والله أعلم. وخرج أبو الحسين بن القطان من أصحابنا وجها: أنه يؤذن لكل واحدة من صلاتي الجمع، قدم، أو أخر. قلت: قال إمام الحرمين: لا سبيل إلى توالي أذانين، إلا في صورة على قول. وهي إذا صلى فائتة قبيل الزوال، وأذن لها على قول، فلما فرغ منها، زالت الشمس، فأراد إقامة الظهر، أذن لا محالة. هذا كلام الامام. ويتصور التوالي قطعا فيما لو أخروا المؤداة إلى آخر الوقت، فأذنوا لها، وصلوها، ثم دخلت فريضة أخرى. والله أعلم. فصل في صفة الاذان فيه مسائل: الاولى: الاذان، مثنى، والاقامة فرادى. والمراد: معظم الاذان مثنى. وإلا، فقول: لا إله إلا الله، في آخره مرة، والتكبير في أوله، أربع مرات. فكذا المراد، معظم الاقامة، فإن التكبير في أولها، وآخرها، ولفظ الاقامة بالتثنية على المذهب والمنصوص في الجديد. وقال: في القديم يقول هذه الكلمات مرة. وقيل: إنما أفرد في القديم الاقامة دون التكبير. وللشافعي قول: أنه إن رجع في الاذان، ثنى جميع كلمات الاقامة، وإلا، أفردها. واختاره محمد بن إسحاق بن خزيمة من أصحابنا.

(1/309)


الثانية: يستحب ترتيل الاذان، وإدراج الاقامة. فالترتيل: تبيين كلماته بلا بطء يجاوز الحد. والادراج: أن يحدرها بلا فصل. الثالثة: يرجع في أذانه. وهو أن يأتي بالشهادتين مرتين مرتين، بصوت مخفوض، ثم يرفعه، ويأتي بهما مرتين مرتين. والترجيع، سنة. لو تركه لم يفسد أذانه على الصحيح. وقيل: المشهور. الرابعة: التثويب: أن يقول في أذان الصبح بعد الحيعلتين: الصلاة خير من النوم، مرتين، وهو سنة على المذهب الذي قطع به الاكثرون. وقيل: قولان: القديم الذي يفتى به: أنه سنة. والجديد: ليس سنة. ثم ظاهر إطلاق الغزالي، وغيره، أن التثويب، يشمل الاذان الذي قبل الفجر، والذي بعده. وصرح في (التهذيب) بأنه إذا ثوب في الاذان الاول، لا يثوب في الثاني على الاصح. (1). ثم إن التثويب ليس بشرط. هكذا صرح به الاصحاب. وقال إمام الحرمين: في اشتراطه احتمال. وهو بالخلاف، أولى من الترجيع. الخامسة: ينبغي أن يؤذن ويقيم قائما مستقبل القبلة. فلو ترك القيام والاستقبال مع القدرة، صح أذانه وإقامته، على الاصح، لكن يكره، إلا إذا كان مسافرا، فلا بأس بأذانه راكبا، وعلى الثاني: لا يعتد بهما. قلت: أذان المضطجع، كالقاعد. إلا أنه أشد كراهة. وفي وجه شاذ: لا يصح وإن صح أذان القاعد. والله أعلم. السادسة: يسن (2) الالتفات في الحيعلتين، يمينا، وشمالا، فيلوي رأسه، وعنقه، ولا يحول صدره عن القبلة، ولا يزيل قدمه عن مكانها. وفي كيفية الالتواء، ثلاثة أوجه. أصحها، يلتفت عن يمينه، فيقول: حي على الصلاة، حي على الصلاة. ثم يلتفت عن يساره، فيقول: حي على الفلاح، حي على الفلاح. والثاني: يلتفت عن يمينه، فيقول: حي على الصلاة، ثم يعود إلى القبلة، ثم يلتفت عن يمينه، فيقول: حي على الصلاة، ثم يلتفت عن يساره، فيقول: حي

(1/310)


على الفلاح، ثم يستقبل القبلة، ثم يلتفت عن يساره، فيقول: حي على الفلاح، والثالث، قول القفال: يقسم كل حيعلة على الجهتين، فيقول: حي على الصلاة، مرة عن يمينه، ثم مرة عن يساره. ثم حي على الفلاح، مرة عن يمينه، ثم مرة عن يساره. ويستحب الالتفات في الاقامة على الاصح، ولا يستحب على الثاني، إلا أن يكبر المسجد، ويحتاج إليه. قلت: وإذا شرع في الاقامة في موضع، تممها فيه، ولا يمشي في أثنائها قاله أصحابنا. والله أعلم. السابعة: ينبغي أن يبالغ في رفع الصوت ما لم يجهده. وأما الاجزاء، فإن كان يؤذن لنفسه، أجزأه أن يسمع نفسه على قول الجمهور. وقال إمام الحرمين: الاقتصار على إسماع النفس، يمنع كون المأتي به أذانا وإقامة، فليزد عليه قدر ما يسمع من عنده. والخلاف المتقدم في المنفرد، أنه هل يرفع صوته ؟ هو على قول الجمهور، في أنه هل يستحب الرفع ؟ وعلى قول إمام الحرمين: هل يعتد به بلا رفع ؟. أما إذا أذن لجماعة، فثلاثة أوجه. أصحها: لا يجزئ الاسرار بشئ منه، لفوات الاعلام. والثاني: لا بأس بالاسرار. كالاسرار بقراءة صلاة جهرية. والثالث: لا بأس بالاسرار بالكلمة، والكلمتين، ولا يجزئ الاسرار بالجميع. وأما الاقامة، فلا يكفي فيها إسماع النفس على الاصح أيضا. لكن الرفع فيها أخفض من الاذان. الثامنة: ترتيب كلمات الاذان شرط. فلو عكس، لم يصح أذانه. لكن يبنى على المنتظم منه. ولو ترك بعض الكلمات في خلاله، أتى بالمتروك. وأعاد ما بعده. التاسعة: الموالاة بين كلماته، مأمور بها، فإن سكت بينهما يسيرا، لم يضر. وإن طال، ففي بطلان أذانه قولان. ولو تكلم بينها كلاما يسيرا، لم يضر على المذهب. وتردد الشيخ أبو محمد في تنزيل الكلام اليسير - إذا رفع به الصوت - منزلة السكوت الطويل. وإن تكلم طويلا، فقولان مرتبان على السكوت الطويل. وأولى بالبطلان. ولو خرج في أثناء الاذان عن أهليته، بإغماء أو نوم، فإن زال عن قرب، لم يضر. وإن طال، فعلى القولين. واعلم أن العراقيين جوزوا البناء في

(1/311)


جميع هذه الصور، مع طول الفصل. وحكوه عن نص الشافعي رحمه الله (1). لكن الاشبه، وجوب الاستئناف عند الفصل الطويل، وحمل النص على الفصل اليسير، ومع الطول على أحد القولين يستحب الاستئناف. وكذا يستحب في السكوت والكلام الكثيرين إذا لم نوجبه، ولا يستحب إذا كانا يسيرين، ويستحب أن لا يتكلم في أذانه بشئ أصلا فلو عطس، حمد الله تعالى في نفسه، ويبني. ولو سلم عليه إنسان، أو عطس، لم يجبه، ولم يشمته حتى يفرغ. فإن أجابه، أو شمته، أو تكلم بمصلحة، لم يكره. وكان تاركا للمستحب. ولو رأى أعمى يخاف وقوعه في بئر، وجب إنذاره. فرع: إذا لم نحكم ببطلان الاذان بالفصل المتخلل، فله أن يبني عليه بنفسه. ولا يجوز لغيره على المذهب أو المشهور. فرع: لو ارتد بعد فراغه من الاذان، ثم أسلم، وأقام، جاز. لكن المستحب، أن لا يصلي بأذانه، وإقامته، بل يعيدهما غيره، لان ردته تورث شبهة في حاله. ولو ارتد في خلال الاذان، لم يصح بناؤه عليه في الردة. فإن أسلم وبنى عليه، فالمذهب: أنه إن لم يطل الفصل، جاز البناء. وإلا فقولان. وقيل: قولان مطلقا. وقيل: وجهان. وإذا جوزنا له البناء، ففي بناء غيره الخلاف المتقدم في الفرع الذي قبله. وكذا لو مات في خلال الاذان. فصل في صفة المؤذن وآدابه: وشرطه أن يكون، مسلما، عاقلا، ذكرا. وإذا نطق بالشهادتين في الاذان، إن كان عيسويا (2)، لم يحكم بإسلامه. وإن كان غيره، حكم بإسلامه على الصحيح الذي قطع به الاكثرون. ولا يصح أذان السكران على الصحيح، ويصح أذان من هو في أول النشوة. ولا يصح أذان المرأة، والخنثى المشكل، للرجال على الصحيح الذي قطع به الجمهور. وأما

(1/312)


أذانها لنفسها، أو جماعة نساء، فتقدم حكمه. ويصح أذان الصبي المميز على الصحيح المعروف في المذهب. قلت: قال صاحب (الشامل) و (العدة) وغيرهما: يكره أذان الصبي، ما لم يبلغ. كما يكره أذان الفاسق، والله أعلم. وأما آدابه: فيستحب أن يكون متطهرا، فإن أذن، أو أقام محدثا، أو جنبا، كره. وصح أذانه. والكراهة في الجنب أشد، وفي الاقامة أشد. ويستحب أن يكون صيتا، حسن الصوت، وأن يؤذن على موضع عال. من منارة أو سطح، ونحوهما. وأن يجعل أصبعيه في صماخي أذنيه. وأن يكون عدلا وهو: الثقة، وأن يكون من أولاد من جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو بعض أصحابه الاذان فيهم، إذا وجد، وكان عدلا صالحا له. وأن يصلي المؤذن. ومن سمع الاذان على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد الاذان. ثم يقول: اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آت محمدا الوسيلة، والفضيلة، والدرجة الرفيعة، وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته (1). وأن يجيب كل من سمع الاذان. وإن كان جنبا، أو حائضا، فيقول: مثل قول المؤذن في جميع الاذان، والاقامة، إلا في الحيعلتين، فإنه يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله. وإلا في كلمتي الاقامة. فيقول: أقامها الله، وأدامها، وجعلني من صالحي أهلها. وإلا في التثويب، فيقول: صدقت وبررت. وفي وجه، يقول: صدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، الصلاة خير من النوم. فإن كان في قراءة، أو ذكر، استحب قطعهما ليجيب. ولو كان في صلاة، لم يجب حتى يفرغ، فإن أجاب، كره على الاظهر، لكن لا تبطل صلاته إن أجاب بما استحببناه، لانها أذكار. فلو قال: حي على الصلاة، أو الصلاة خير من النوم، بطلت صلاته، لانه كلام. قلت: وكذا لو قال: صدقت وبررت (2)، تبطل. صرح به القاضي حسين، وغيره. والله أعلم. ولو أجاب في خلال الفاتحة، وجب استئنافها، لان الاجابة في الصلاة غير محبوبة.

(1/313)


قلت: ويستحب للمجيب، أن يجيب في كل كلمة عقبها. والله أعلم. ويستجب أن يقول من سمع أذان المغرب: اللهم هذا إقبال ليلك، وإدبار نهارك، وأصوات دعاتك: فاغفر لي (1). ويستحب الدعاء بين الاذان والاقامة. وأن يتحول المؤذن إلى موضع آخر للاقامة. فرع: الاذان، والامامة، كلاهما فيه فضل، وأيهما أفضل، فيه أوجه. أصحها وهو المنصوص: الامامة أفضل. والثاني: الاذان. والثالث: هما سواء. والرابع: إن علم من نفسه القيام بحقوق الامامة، وجمع خصالها، فهي أفضل، وإلا، فالاذان. قاله أبو علي الطبري، والقاضي ابن كج، والقاضي حسين، والمسعودي (2). قلت: كذا رجح الرافعي أيضا في كتابه (المحرر) الامامة، والاصح: ترجيح الاذان، وهو قول أكثر أصحابنا. وقد نص الشافعي رحمه الله في (الام) على كراهة الامامة، فقال: أحب الاذان، لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (اللهم اغفر للمؤذنين) وأكره الامامة للضمان وما على الامام فيها، هذا نصه. والله أعلم. وأما الجمع بين الاذان، والامامة، فليس بمستحب. وأغرب ابن كج، فقال: الافضل لمن صلح لهما، الجمع بينهما. ولعله أراد الاذان لقوم، والامامة لآخرين. قلت: صرح بكراهة الجمع بينهما، الشيخ أبو محمد، والبغوي. وصرح باستحباب جمعهما، أبو علي الطبري، والماوردي، والقاضي أبو الطيب، وادعى الاجماع عليه، فحصل ثلاثة أوجه. الاصح: استحبابه، وفيه حديث حسن في الترمذي (3). والله أعلم.

(1/314)


فرع: يستحب للمؤذن، التطوع بالاذان، فإن لم يتطوع، رزقة الامام من مال المصالح. وهو خمس خمس الفئ، والغنيمة. وكذا أربعة أخماس الفئ، إذا قلنا: إنها للمصالح. وإنما يرزقه عند الحاجة، وعلى قدرها. ولو وجد فاسقا يتطوع، وأمينا لا يتطوع، فله أن يرزق الامين على الصحيح. ولو وجد أمينا يتطوع، وأمينا أحسن منه صوتا لا يتطوع، فهل يجز أن يرزقه ؟ وجهان. قال ابن سريج: نعم. والقفال: لا. قلت: قول ابن سريج أصح إن رآه الامام مصلحة، لظهور تفاوتهما. والله أعلم. وإذا كان في البلد مساجد، فإن لم يمكن جمع الناس في مسجد واحد، رزق عددا من المؤذنين، يحصل بهم الكفاية. ويتأدي الشعار. وإن أمكن، فوجهان. أحدهما: يجمع ويرزق واحدا. والثاني، يرزق الجميع، لئلا تتعطل المساجد. قلت: هذا الثاني، أصح. والله أعلم. فلو لم يكن في بيت المال سعة، بدأ بالاهم. وهو رزق مؤذن الجامع. وأذان صلاة الجمعة، أهم من غيره. وللامام أن يرزق من مال نفسه. ويجوز للواحد من الرعية. وحينئذ، لا حجر فيرزق كم شاء، ومتى شاء. وأما الاستئجار على الاذان، ففيه أوجه. أصحها: يجوز للامام من بيت المال، ومن مال نفسه، ولآحاد الناس من أهل المحلة وغيرهم، من مال نفسه. والثاني: لا يصح الاستئجار مطلقا. والثالث: يجوز للامام، ومن أذن له: ولا يجوز لآحاد الناس: وإذا جوزنا للامام الاستئجار من بيت المال، فإنما يجوز حيث يجوز الرزق، خلافا، ووفاقا. قال في (التهذيب) وإذا استأجر، من بيت المال، لم (1) يفتقر إلى بيان المدة، بل يكفي أن يقول: استأجرتك لتؤذن في هذا المسجد في أوقات الصلاة، كل شهر بكذا. ولو استأجر من مال نفسه، أو استأجر واحد من الرعية، ففي اشتراط بيان المدة، وجهان. قلت: أصحهما: الاشتراط. والله أعلم. والاقامة تدخل في الاستئجار للاذان. ولا يجوز الاستئجار للاقامة إذ لا كلفة

(1/315)


فيها، بخلاف الاذان. وليست هذه الصور بصافية عن الاشكال. فرع: يستحب أن يكون للمسجد مؤذنان. ومن فوائدهما: أن يؤذن أحدهما للصبح قبل الفجر، والآخر بعده. وتجوز الزيادة على اثنين. والمستحب أن لا يزاد على أربعة. قلت: هذا الذي ذكره من استحباب عدم الزيادة على أربعة، قاله أبو علي الطبري. وأنكره كثيرون من أصحابنا. وقالوا: إنما الضبط بالحاجة، ورؤية المصلحة. فإن رأى الامام المصلحة في الزيادة على أربعة، فعله. وإن رأى الاقتصار على اثنين، لم يزد. وهذا هو الاصح المنصوص. والله أعلم. وإذا ترتب للاذان اثنان فصاعدا، فالمستحب: أن لا يتراسلوا. بل إن اتسع الوقت، تجبوا فيه. فإن تنازعوا الابتداء، أقرع بينهم، وإن ضاق الوقت. فإن كان المسجد كبيرا، أذنوا متفرقين في أقطاره. وإن كان صغيرا وقفوا معا، وأذنوا. وهذا إذا لم يؤد اختلاف الاصوات إلى تهويش. فإن أدى، لم يؤذن إلا واحد. فإن تنازعوا، أقرع. وأما الاقامة، فإن أذنوا على الترتيب، فالاول: أولى بها، إن كان هو المؤذن الراتب، أو لم يكن هناك مؤذن راتب. إن كان الاول غير الراتب، فالاصح: أن الراتب أولى، والثاني: الاول أولى. ولو أقام في هذه الصورة، غير من له ولاية الاقامة، اعتد به، على الصحيح المعروف. وعلى الشاذ: لا يعتد بالاقامة من غير السابق بالاذان. تخريجا من قول الشافعي رحمه الله: لا يجوز أن يخطب واحد، ويصلي آخر. أما إذا أذنوا معا، فإن اتفقوا على إقامة واحد، وإلا أقرع. ولا يقيم في المسجد الواحد إلا واحد، إلا إذا لم تحصل الكفاية بواحد. وقيل: لا بأس أن يقيموا معا إذا لم يؤد إلى التهويش. فرع: وقت الاذان منوط بنظر المؤذن، لا يحتاج فيه إلى مراجعة الامام. ووقت الاقامة، منوط بالامام، وإنما يقيم المؤذن بإشارته. فرع ذكره الامام الرافعي في أوقات الصلاة وأشار إلى أنه هنا أنسب قال: صلاة الصبح تختص بالاذان بأمور. منها: أنه يجوز تقديم أذانها على دخول الوقت. وذكر في (البيان) وجها: أنه إن جرت عادة أهل بلد بتأخير

(1/316)


بالاذان، بعد طلوع الفجر، لم يقدم أذانها، [ على دخول الوقت ] (1) لئلا يلتبس. وهذا غريب. ثم في وقت جواز التقديم أوجه. أصحها: يقدم في الشتاء لسبع بقي من الليل. وفي الصيف: لنصف سبع. وهذا الضبط، تقريب لا تحديد. والثاني: يدخل بذهاب وقت الاختيار، للعشاء. وهو ثلث الليل، أو نصفه. والثالث: وقته: النصف الاخير من الليل، ولا يجوز قبله. والرابع: جميع الليل وقت له. ولم يفرق صاحب (التهذيب) بين الشتاء، والصيف. واعتبر السبع مطلقا تقريبا. قلت: الاصح: الوجه الثالث. واعتمد من رجح الاول: حديثا باطلا محرفا. والله أعلم. أما الاقامة للصبح، فلا يجوز قبل الفجر بلا خلاف. ويسن أن يؤذن للصبح مرتين (2). فيؤذن أحد المؤذنين قبل الفجر، والآخر بعده. ويجوز أن يقتصر على مرة قبل الصبح، أو بعده، أو بعض الكلمات قبل الصبح، وبعضها بعده. وإذا اقتصر على مرة، فالاولى أن يكون بعد الصبح على المعهود في سائر الصلوات. قلت: بقيت فروع تتعلق بالاذان. يكره التثويب في غير الصبح. قال في (التهذيب): لو زاد في الاذان ذكرا، أو زاد في عدده، لم يفسد أذانه. قال غيره: يستحب أن يجمع المؤذن، كل تكبيرتين بنفس واحد. وأما باقي الالفاظ، فيفرد كل كلمة بصوت، لطول لفظها، بخلاف التكبير. قال صاحب (العدة): وإذا كانت ليلة مطيرة، أو ذات ريح وظلمة، يستحب أن يقول: إذا فرغ من أذانه: ألا صلوا في رحالكم. فإن قاله في أثناء الاذان بعد الحيعلة، فلا بأس. وكذا قاله الصيدلاني، والبندنيجي، والشاشي، وغيرهم. واستبعد إمام الحرمين، قوله في أثناء الاذان، وليس هو ببعيد، بل هو الحق، والسنة. فقد نص عليه الشافعي رضي

(1/317)


الله عنه في آخر أبواب الاذان، في (الام): وقد ثبت في (الصحيحين) (1) عن ابن عباس (2) رضي الله عنهما، أنه قال لمؤذنه في يوم مطير. إذا قلت: أشهد أن محمدا رسول الله، فلا تقل: حي على الصلاة. وقل: صلوا في بيوتكم. وكأن الناس استنكروا ذلك. فقال: أتعجبون من ذا ؟ ! قد (3) فعل ذا، من هو خير مني - يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - - ويكره أن يكون الاعمى مؤذنا وحده، فإن كان معه بصير، لم يكره. ويسن أن يكون الاذان بقرب المسجد. ويكره قوله: حي على خير العمل. ولو لقن الاذان، صح. ولو أذن بالعجمية وهناك من يحسن بالعربية، لم يصح، وإلا، فيصح. ولو قال: الله الاكبر، صح. وتركه في السفر أخف من الحضر. وترك المرأة الاقامة أخف من ترك الرجل. والله أعلم.
الباب الثالث في استقبال القبلة (4)
وهو شرط لصحة الفريضة، إلا في شدة خوف القتال المباح، وسائر وجوه الخوف. وشرط لصحة النافلة، إلا في الخوف، والسفر المباح. والعاجز، كالمريض لا يجد من يوجهه. والمربوط على خشبة، يصلي حيث توجه. ولا يجوز فعل الفريضة على الراحلة، من غير ضرورة، فإن خاف انقطاعا عن رفقته لو نزل لها، أو خاف على نفسه، أو ماله، فله أن يصليها على الراحلة، وتجب الاعادة، ولا تصح المنذورة، ولا الجنازة، على الراحلة، على المذهب فيهما. وتقدم

(1/318)


بيانهما في التيمم (1). فرع: شرط الفريضة أن يكون مصليها مستقرا. فلا تصح من الماشي المستقبل، ولا من الراكب المخل بقيام، أو استقبال. فإن استقبل، وأتم الاركان في هودج، أو سرير، أو نحوهما على دابة واقفة، صحت الفريضة، على الاصح الذي قطع به الاكثرون. منهم: صاحبا (المعتمد) و (التهذيب)، وصاحبا (التتمة)، و (البحر)، وغيرهم. والثاني: لا يصح. وبه قطع إمام الحرمين، والغزالي. فإن كانت الدابة سائرة، لم تصح الفريضة على الاصح المنصوص. وتصح الفريضة في السفينة الجارية، والزورق المشدود على الساحل قطعا. وكذا في السرير الذي يحمله رجال (2)، وفي الارجوحة المشدودة بالحبال، والزورق الجاري، للمقيم ببغداد ونحوه، على الاصح في الثلاثة. فصل: يجوز التنفل ماشيا، وعلى الراحلة سائرة إلى جهة مقصده في السفر الطويل (3). وكذا القصير، على المذهب. ولا يجوز في الحضر على الصحيح، بل لها فيه حكم الفريضة في كل شئ، إلا القيام. وقال الاصطخري: يجوز للراكب، والماشي في الحضر، مترددا في جهة مقصده. واختار القفال: الجواز، بشرط الاستقبال في جميع الصلاة، وحيث جازت النافلة على الراحلة، فجميع النوافل سواء على الصحيح الذي عليه الاكثرون. وعلى الضعيف: لا تجوز صلاة العيد، والكسوف، والاستسقاء. أما راكب السفينة، فلا يجوز تنفله فيها إلى غير القبلة، لتمكنه. نص عليه الشافعي رضي الله عنه. وكذا من تمكن في هودج على دابة، على الصحيح. واستثنى صاحب (العدة) ملاح السفينة التي يسيرها. وجوز تنفله، حيث توجه لحاجة.

(1/319)


قلت: واستثناه أيضا صاحب (الحاوي) وغيره، ولا بد منه. والله أعلم. فرع: إذا لم يتمكن المتنفل راكبا، من إتمام الركوع، والسجود، والاستقبال في جميع صلاته، ففي وجوب الاستقبال عند الاحرام، أوجه. أصحها: إن سهل، وجب، وإلا، فلا. فالسهل: بأن تكون الدابة واقفة، وأمكن انحرافه عليها (1)، أو تحريفها، أو كانت سائرة وبيده زمامها، وهي سهلة. وغير السهل: أن تكون مقطورة، أو صعبة. والثاني: لا يجب أصلا. والثالث: يجب مطلقا. فإن تعذر، لم تصح صلاته. والرابع: إن كانت الدابة عند الاحرام متوجهة إلى القبلة، أو إلى طريقه، أحرم كما هو. وإن كانت إلى غيرهما، لم يجز الاحرام إلا إلى القبلة. والاعتبار باستقبال الراكب دون الدابة، فلو استقبل عند التحرم، أجزأه بلا خلاف وإن كانت الدابة منحرفة عن القبلة، واقفة أو سائرة. وإذا شرطنا الاستقبال عند الاحرام، لم نشترطه عند السلام على الاصح، ولا يشترط فيما سواهما من أركان الصلاة، ولكن يشترط لزوم جهة المقصد في جميعها، إذا لم يستقبل القبلة. وتتبع ما يعرض في الطريق من معاطف. ولا يشترط سلوكه في نفس الطريق، بل الشرط جهة المقصد. فرع: ليس لراكب التعاسيف (3)، ترك الاستقبال في شئ من نافلته. وهو الهائم الذي يستقبل تارة، ويستدبر تارة، وليس له مقصد معلوم. فلو كان له مقصد معلوم (4)، لكن لم يسر في طريق معين، فله التنفل مستقبلا جهة مقصده على

(1/320)


الاظهر. وعلى الثاني: لا، لانه لم يسلك طريقا مضبوطا، فقد لا يؤدي سيره إلى مقصده. فرع: إذا انحرف المصلي على الارض، عن القبلة، نظر، إن استدبرها، أو تحول إلى جهة أخرى عمدا، بطلت صلاته. وإن فعله ناسيا، أو عاد إلى الاستقبال على قرب، لم تبطل. وإن عاد بعد طول الفصل، بطلت على الاصح. ككلام الناسي. وإن أماله غيره عن القبلة قهرا، فعاد إلى الاستقبال بعد الطول، بطلت. وكذا على القرب، على الاصح، لندوره. كما لو أكره على الكلام، فإنها تبطل على الصحيح، لندوره. ولو انحرف المتنفل ماشيا عن مقصده، أو حرف دابته، فإن كان إلى جهة القبلة، لم يضره. وإن كان إلى غيرها عمدا، بطلت صلاته (1)، وإن كان ناسيا، أو غالطا ظن أن الذي توجه إليه طريقه، وعاد على قرب، لم تبطل. وإن طال، بطلت على الاصح. ولو انحرف بجماح الدابة، وطال الزمان، بطلت على الصحيح، كالامالة قهرا. وإن قصر، لم تبطل على المذهب. وبه قطع الجمهور، لعموم الجماح. وإذا لم تبطل في صورة النسيان، فإن طال الزمان، سجد للسهو. وإن قصر، فوجهان. المنصوص: لا يسجد. وفي صورة الجماح أوجه. أصحها: يسجد. والثاني: لا. والثالث: إن طال، سجد، وإلا فلا. وهذا تفريع على المشهور أن النفل يدخله سجود السهو. فرع: هذا الذي قدمناه، هو في استقبال الراكب على سرج، ونحوه، وليس عليه وضع الجبهة على عرف الدابة، ولا على السرج، والاكاف، بل ينحني للركوع، والسجود، إلى طريقه. والسجود، أخفض من الركوع. قال إمام

(1/321)


الحرمين: الفصل بينهما عند التمكن محتوم. والظاهر: أنه لا يجب مع ذلك أن تبلغ غاية وسعه في الانحناء. وأما سائر الاركان، فكيفيتها ظاهرة. وأما الراكب في مرقد ونحوه، مما يسهل فيه الاستقبال، وإتمام الاركان، فعليه الاستقبال في جميع الصلاة، وإتمام الاركان في جميع الصلاة (1) على الاصح، كراكب السفينة. والثاني: لا يشترط. وهو منصوص. وأما الماشي، ففيه أقوال. أظهرها: أنه يشترط أن يركع، ويسجد على الارض، وله التشهد ماشيا. والثاني: يشترط التشهد أيضا قاعدا، ولا يمشي إلا حالة القيام. والثالث: لا يشترط اللبث بالارض في شئ، ويومئ بالركوع والسجود، كالراكب. وأما استقباله، فإن قلنا بالقول الثاني، وجب عند الاحرام، وفي جميع الصلاة غير القيام. وإن قلنا بالاول، استقبل في الاحرام، والركوع، والسجود، ولا يجب عند السلام على الاصح. وإن قلنا بالثالث، لم يشترط الاستقبال في غير حالة الاحرام، والسلام. وحكمه فيهما حكم راكب بيده الزمام. وإذا لم نوجب استقبال القبلة، شرطنا ملازمة جهة مقصده. فرع: يشترط أن يكون ما يلاقي بدن المصلي على الراحلة، وثيابه، من السرج، وغيره، طاهرا. ولو بالت الدابة، أو وطئت نجاسة، أو كان على السرج نجاسة، فسترها، وصلى عليه، لم يضر. ولو أوطأها الراكب نجاسة، لم يضر أيضا على الاصح. ولو وطئ مصل ماشيا، نجاسة عمدا، بطلت صلاته، ولا يكلف التحفظ والاحتياط في المشي. ولو انتهى إلى نجاسة يابسة، ولم يجد عنها معدلا، قال إمام الحرمين: هذا فيه احتمال. فإن كانت رطبة، فمشى عليها، بطلت صلاته. فرع: يشترط في جواز النفل راكبا وماشيا دوام السفر، فلو بلغ المنزل في خلال الصلاة، اشترط إتمامها إلى القبلة متمكنا. وينزل إن كان راكبا. ولو دخل بلد إقامته، فعليه النزول، وإتمام الصلاة مستقبلا بأول دخوله البنيان (2)، إلا إذا

(1/322)


جوزنا للمقيم التنفل على الراحلة، وكذا لو نوى الاقامة بقرية. ولو مر بقرية مجتازا، فله إتمام الصلاة راكبا، فإن كان له بها أهل، فهل يصير مقيما بدخولها ؟ قولان. إن قلنا: يصير، وجب النزول والاتمام مستقبلا. قلت: الاظهر، لا يصير. والله أعلم. وحيث أمرناه بالنزول، فذلك عند تعذر البناء على الدابة، فلو أمكن الاستقبال، وإتمام الاركان عليها وهي واقفة، جاز. ويشترط الاحتراز عن الافعال التي لا يحتاج إليها. فلو ركض الدابة للحاجة، فلا بأس. ولو أجراها بلا عذر، أو كان ماشيا، فعدا بلا عذر، بطلت صلاته على الاصح. فصل في استقبال المصلي على الارض: وله أحوال.. أحدها: أن يصلي في جوف الكعبة، فتصح الفريضة، والنافلة. قلت: قال أصحابنا: والنفل فيها أفضل منه خارجها. وكذا الفرض إن لم يرج جماعة، فإن رجاها، فخارجها أفضل (1). والله أعلم. ثم له أن يستقبل أي جدار شاء. وله استقبال الباب، إن كان مردودا، أو مفتوحا، وله عتبة قدر ثلثي ذراع تقريبا. هذا هو الصحيح. ولنا وجه: أنه يشترط في العتبة، أن تكون بقدر قامة المصلي طولا وعرضا. ووجه: أنه يكفي شخوصها بأي قدر كان. الحال الثاني: لو انهدمت الكعبة - والعياذ بالله - وبقي موضعها عرصة، فوقف

(1/323)


خارجها، وصلى إليها، جاز. فإن صلى فيها، فله حكم السطح. الحال الثالث: وهو أن يقف على سطحها، فإن لم يكن بين يديه شئ شاخص، لم يصح على الصحيح. وإن كان شاخص من نفس الكعبة، فله حكم العتبة. إن كان ثلثي ذراع، جاز. وإلا، فلا، على الصحيح. وفيه الوجهان الآخران. ولو وضع بين يديه متاعا، واستقبله، لم يكف. ولو استقبل بقية حائط، أو شجرة ثابتة، جاز. ولو جمع تراب العرصة، واستقبله، أو حفر حفرة ووقف فيها، أو وقف في آخر السطح، أو العرصة، وتوجه إلى الجانب الآخر وهو مرتفع عن موقفه، جاز. ولو استقبل حشيشا نابتا عليها، أو خشبة، أو عصا مغروزة غير مسمرة، لم يكف على الاصح. وإن كانت العصا مثبتة، أو مسمرة، كفت قطعا. لكن قال إمام الحرمين: إن خرج بعض بدنه عن محاذاتها، كان على الخلاف الآتي، فيمن خرج بعض بدنه عن محاذاة الكعبة. قلت: لم يجزم إمام الحرمين بأنه يكون على ذلك الخلاف. بل قال: في هذا، تردد ظاهر عندي. وظاهر كلام الاصحاب: القطع بالصحة في مسألة العصا، لانه يعد مستقبلا، بخلاف مسألة طرف الركن. والله أعلم. الحال الرابع: أن يصلي عند طرف ركن الكعبة، وبعض بدنه يحاذيه، وبعضه يخرج عنه، فلا تصح صلاته على الاصح. ولو وقف الامام بقرب الكعبة عند المقام، أو غيره، ووقف القوم خلفه مستديرين بالبيت، جاز. ولو وقفوا في أخريات المسجد، وامتد صف طويل، جاز. وإن وقفوا بقربه، وامتد الصف، فصلاة الخارجين عن محاذاة الكعبة باطلة. الحال الخامس: أن يصلي بمكة خارج المسجد. فإن عاين الكعبة، كمن يصلي على جبل أبي قبيس (1)، صلى إليها. ولو بنى محرابه على العيان، صلى إليه أبدا، ولا يحتاج في كل صلاة إلى المعاينة. وفي معنى المعاين: من نشأ بمكة، وتيقن إصابة الكعبة وإن لم يشاهدها حال الصلاة، فإن لم يعاين، ولا تيقن

(1/324)


الاصابة، فله اعتماد الادلة، والعمل بالاجتهاد، إن حال بينه وبين الكعبة حائل أصلي، كالجبل. وكذا إن كان الحائل طارئا، كالبناء، على الاصح، للمشقة في تكليف المعاينة. الحال السادس: أن يصلي بالمدينة، فمحراب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (1)، نازل منزلة الكعبة. فمن يعاينه، يستقبله، ويسوي محرابه عليه، بناء على العيان، أو الاستدلال، كما ذكرنا في الكعبة. ولا يجوز العدول عنه بالاجتهاد بحال. وفي معنى المدينة، سائر البقاع التي صلى فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إذا ضبط المحراب. وكذا المحاريب المنصوبة في بلاد المسلمين، وفي الطريق التي هي جادتهم، يتعين استقبالها، ولا يجوز الاجتهاد. وكذا القرية الصغيرة، إذا نشأ فيها قرون من المسلمين. ولا اعتماد على علامة بطريق يندر مرور الناس به، أو يستوي مرور المسلمين والكفار به، أو بقرية خربة، لا يدرى، بناها المسلمون، أو الكفار ؟ بل يجتهد. ثم هذه المواضع التي منعنا الاجتهاد فيها في الجهة، هل يجوز في التيامن، والتياسر. إن كان محراب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ لا يجوز بحال. ولو تخيل حاذق، في معرفة القبلة فيه، تيامنا، أو تياسرا، فليس له ذلك، وخياله باطل. وأما سائر البلاد، فيجوز على الاصح الذي قطع به الاكثرون، والثاني: لا يجوز. والثالث: لا يجوز في الكوفة خاصة. والرابع: لا يجوز في الكوفة والبصرة، لكثرة من دخلهما من الصحابة رضي الله عنهم. الحال السابع: إذا كان بموضع لا يقين فيه. اعلم أن القادر على يقين القبلة، لا يجوز له الاجتهاد. وفيمن استقبل حجر الكعبة مع تمكنه منها، وجهان. الاصح: المنع، لان كونه من البيت، غير مقطوع به. بل هو مظنون. ثم اليقين، قد يحصل بالمعاينة، وبغيرها. كالناشئ بمكة، العارف يقينا بأمارات. وكما لا يجوز الاجتهاد مع القدرة على اليقين، لا يجوز اعتماد قول غيره. وأما غير القادر على اليقين، فإن وجد من يخبره بالقبلة عن علم، اعتمده، ولم

(1/325)


يجتهد، بشرط عدالة المخبر، يستوي فيه الرجل والمرأة والعبد. ولا يقبل كافر قطعا، ولا فاسق، ولا صبي، ولا مميز على الصحيح فيهما. ثم قد يكون الخبر صحيح (1) صرح لفظ، وقد يكون دلالة، كالمحراب المعتمد. وسواء في العمل بالخبر، أهل الاجتهاد وغيرهم. حتى الاعمى، يعتمد المحراب إذا عرفه باللمس حيث يعتمده البصير، وكذا البصير في الظلمة. وقال صاحب (العدة): إنما يعتمد الاعمى على المس، في محراب رآه قبل العمى. فإن لم يكن شاهده، لم يعتمده. ولو اشتبه عليه مواضع لمسها، فلا شك أنه يصبر، حتى يخبره غيره صريحا. فإن خاف فوت الوقت، صلى على حسب حاله، وأعاد. هذا كله، إذا وجد من يخبره عن علم، وهو ممن يعتمد قوله. أما إذا لم يجد العاجز من يخبره، فتارة يقدر على الاجتهاد، وتارة لا يقدر. فإن قدر، لزمه، واستقبل ما ظنه القبلة. ولا يصح الاجتهاد إلا بأدلة القبلة. وهي كثيرة فيها كتب مصنفة. وأضعفها، الرياح، لاختلافها. وأقواها، القطب، وهو نجم صغير في بنات نعش الصغرى، بين الفرقدين والجدي، إذا جعله الواقف خلف أذنه اليمنى، كان مستقبلا القبلة، إن كان بناحية الكوفة (2)، وبغداد (3)، وهمدان، وقزوين (4)، وطبرستان، وجرجان، وما والاها (5). وليس للقادر على الاجتهاد، تقليد غيره. فإن فعل، وجب قضاء الصلاة. وسواء خاف خروج الوقت، أم لم يخفه. لكن إن ضاق الوقت، صلى كيف كان،

(1/326)


وتجب الاعادة. هذا هو الصحيح، وفيه وجه لابن سريج: أنه يقلد عند خوف الفوات. وفي وجه ثالث: يصبر إلى أن تظهر القبلة، وإن فات الوقت. ولو خفيت الدلائل على المجتهد، لغيم، أو ظلمة، أو تعارض أدلة، فثلاثة طرق. أصحها: قولان. أظهرهما: لا يقلد. والثاني: يقلد. والطريق الثاني: يقلد. والثالث: يصلي بلا تقليد كيف كان، ويقضي. فإن قلنا: يقلد، لم يلزمه الاعادة على الصحيح، وقول الجمهور. قال إمام الحرمين: هذه الطرق إذا ضاق الوقت، وقبل ضيقه، يصبر، ولا يقلد قطعا، لعدم الحاجة. قال: وفيه احتمال من التيمم أول الوقت. أما إذا لم يقدر على الاجتهاد، فإن عجز عن تعلم أدلة القبلة، كالاعمى، والبصير الذي لا يعرف الادلة، ولا له أهلية معرفتها، وجب عليه تقليد مكلف، مسلم، عدل، عارف بالادلة، سواء فيه، الرجل، والمرأة، والعبد. وفي وجه شاذ: له تقليد صبي مميز. والتقليد: قبول قوله المستند إلى الاجتهاد. فلو قال بصير: رأيت القطب، أو رأيت الخلق العظيم من المسلمين يصلون إلى هنا، كان الاخذ به، قبول خبر، لا تقليدا. ولو اختلف عليه اجتهاد مجتهدين، قلد من شاء منهما على الصحيح. والاولى تقليد الاوثق والاعلم. وقيل: يجب ذلك. وقيل: يصلي مرتين إلى الجهتين، وأما المتمكن من تعلم أدلة القبلة فيبنى على أن تعلمها فرض كفاية، أم عين ؟ والاصح: فرض عين. قلت: المختار ما قاله غيره، أنه إن أراد سفرا، ففرض عين، لعموم حاجة المسافر إليها، وكثرة الاشتباه عليه، وإلا ففرض كفاية، إذا لم ينقل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم السلف، ألزموا آحاد الناس بذلك، بخلاف أركان الصلاة وشروطها. والله أعلم. فإن قلنا: ليس بفرض عين، صلى بالتقليد، ولا يقضي كالاعمى. وإن قلنا: فرض عين، لم يجز التقليد. فإن قلد، قضى لتقصيره. وإن ضاق الوقت عن التعلم، فهو كالعالم إذا تحير. وتقدم الخلاف فيه. فرع: المصلي بالاجتهاد، إذا ظهر له الخطأ في الاجتهاد، له أحوال. أحدها: أن يظهر قبل الشروع في الصلاة، فإن تيقن الخطأ في اجتهاده، أعرض عنه، واعتمد الجهة التي يعلمها، أو يظنها الآن. وإن لم يتيقن، بل ظن أن الصواب جهة أخرى. فإن كان دليل الاجتهاد الثاني عنده أوضح من الاول الآن،

(1/327)


اعتمد الثاني. وإن كان الاول أوضح، اعتمده. وإن تساويا، فله الخيار فيهما، على الاصح. وقيل: يصلي إلى الجهتين مرتين. الحال الثاني: أن يظهر الخطأ بعد الفراغ من الصلاة. فإن تيقنه، وجبت الاعادة على الاظهر، سواء تيقن الصواب أيضا، أم لا. وقيل: القولان إذا تيقن الخطأ، وتيقن الصواب. أما إذا لم يتيقن الصواب، فلا إعادة قطعا. والمذهب: الاول. ولو تيقن الخطأ الذي قلده الاعمى، فهو كتيقن خطأ المجتهد. وأما إذا لم يتيقن الخطأ، بل ظنه، فلا إعادة عليه. فلو صلى أربع صلوات، إلى أربع جهات، باجتهادات، فلا إعادة على الصحيح. وعلى وجه شاذ: يجب إعادة الاربع. وقيل: يجب إعادة غير الاخيرة. ويجري هذا الخلاف، سواء أوجبنا تجديد الاجتهاد، أم لم نوجبه ففعله. الحال الثالث: أن يظهر الخطأ في أثناء الصلاة. وهو ضربان. أحدهما: يظهر الصواب مقترنا بظهور الخطأ. فإن كان الخطأ متيقنا، بنيناه على القولين في تيقن الخطأ بعد الفراغ. فإن قلنا بوجوب الاعادة، بطلت صلاته، وإلا فوجهان. وقيل: قولان. أصحهما: ينحرف إلى جهة الصواب، ويتم صلاته. والثاني: تبطل. وإن لم يكن الخطأ متيقنا، بل مظنونا، فعلى هذين الوجهين، أو القولين، الاصح: ينحرف، ويبني. وعلى هذا: الاصح لو صلى أربع ركعات، إلى أربع جهات، باجتهادات، فلا إعادة كالصلوات، وخص صاحب (التهذيب) الوجهين بما إذا كان الدليل الثاني أوضح من الاول. قال: فإن استويا، تمم صلاته إلى الجهة الاولى، ولا إعادة. الضرب الثاني: أن لا يظهر الصواب مع الخطأ، فإن عجز عن الصواب بالاجتهاد على القرب، بطلت صلاته. إن قدر عليه على القرب، فهل ينحرف ويبني، أم يستأنف ؟ فيه خلاف مرتب على الضرب الاول، وأولى بالاستئناف. قلت: الصواب هنا، وجوب الاستئناف. والله أعلم. مثاله، عرف أن قبلته يسار المشرق، فذهب الغيم، وظهر كوكب قريب من الافق، هو مستقبله، فعلم الخطأ يقينا، ولم يعلم الصواب، إذ يحتمل كون

(1/328)


الكوكب في المشرق، ويحتمل المغرب. لكن يعرف الصواب على قرب، فإنه يرتفع، فيعلم أنه مشرق، أو ينحط، فيعلم أنه مغرب، ويعرف به القبلة. وقد يعجز عن ذلك بأن يطبق الغيم عقب الكوكب. فرع في المطلوب بالاجتهاد: قولان. أحدهما: جهة الكعبة. وأظهرهما: عينها. اتفق العراقيون والقفال على تصحيحه. ولو ظهر الخطأ في التيامن، أو التياسر، فإن كان ظهوره بالاجتهاد، وظهر بعد الفراغ، لم يؤثر قطعا. وإن كان في أثنائها، انحرف، وأتمها قطعا. وإن كان ظهور باليقين، وقلنا: الفرض جهة الكعبة، فكذلك. وإن قلنا: عينها، ففي وجوب الاعادة بعد الفراغ، والاستئناف في الاثناء، القولان. قال صاحب (التهذيب) وغيره: ولا يستيقن الخطأ في الانحراف مع البعد عن مكة، وإنما يظن. ومع القرب يمكن التيقن، والظن. وهذا كله كالتوسط بين اختلاف أطلقه أصحابنا العراقيون: أنه هل يتيقن الخطأ في الانحراف من غير معاينة الكعبة، من غير فرق بين القرب من مكة والبعد ؟ فقالوا: قال الشافعي رحمه الله: لا يتصور إلا بالمعاينة. وقال بعض الاصحاب: يتصور. فرع: إذا صلى باجتهاد، ثم أراد فريضة أخرى، حاضرة، أو فائتة، وجب إعادة الاجتهاد على الاصح (1). ثم قيل الوجهان، إذا لم يفارق موضعه. فإن فارقه وجب إعادته قطعا، كالتيمم. ولكن الفرق ظاهر، ولا يحتاج إلى تجديد الاجتهاد للنافلة قطعا ولو رأى اجتهاد رجلين إلى جهتين، عمل كل باجتهاده، ولا يقتدي بصاحبه. ولو اجتهد جماعة، واتفق اجتهادهم فأمهم أحدهم، ثم تغير اجتهاد مأموم، لزمه المفارقة، وينحرف إلى الجهة الثانية. وهل له البناء، أم عليه الاستئناف ؟ فيه الخلاف المتقدم في تغير الاجتهاد في أثناء الصلاة، وهل هو مفارق بعذر، أو بغير عذر لتركه كمال البحث ؟ وجهان. قلت: الاصح: الاول. والله أعلم. ولو تغير اجتهاد الامام، انحرف إلى الجهة الثانية، بانيا أو مستأنفا، على

(1/329)


الخلاف. ويفارقه المأمومون. ولو اختلف اجتهاد رجلين في التيامن، والتياسر، والجهة الواحدة، فإن أوجبنا على المجتهد رعاية ذلك، فهو كالاختلاف في الجهة، فلا يقتدي أحدهما بالآخر، وإلا فلا بأس. ولو شرع المقلد في الصلاة بالتقليد، فقال له عدل: أخطأ بك فلان، فله حالان. أحدهما: أن يكون قوله عن اجتهاد. فإن كان قول الاول أرجح عنده، لزيادة عدالته، أو هدايته للادلة، أو مثله، أو لم يعرف هل هو مثله، أم لا ؟ لم يجب العمل بقول الثاني. وهل تجوز العمل به ؟ يبني على أن المقلد إذا وجد مجتهدين، هل يجب الاخذ بأعلمهما، أم يتخير ؟ فإن قلنا: بالاول، لم يجز، وإلا، ففيه خلاف. قلت: الصحيح: أنه لا يجوز. والله أعلم. وإن كان الثاني أرجح، فهو كتغير اجتهاد البصير، فينحرف. ويجئ الخلاف في أنه يبني، أم يستأنف ؟ ولو قال له المجتهد الثاني بعد الفراغ من الصلاة، لم يلزم الاعادة قطعا وإن كان الثاني أرجح، كما لو تغير اجتهاده بعد الفراغ. الحال الثاني: أن يخبر عن علم، ومعاينه، فيجب الرجوع إلى قوله وإن كان قول الاول أقوى عنده. ومن هذا القبيل، أن يقول للاعمى: أنت مصل إلى الشمس، والاعمى يعلم أن قبلته إلى غير الشمس، فيلزم الاستئناف على الاظهر. ولو قال الثاني: أنت على الخطأ قطعا، وجب قبوله قطعا. وسواء أخبره هذا القاطع بالخطأ عن الصواب، متيقنا أو مجتهدا، يجب قبوله (1)، لان تقليد الاول بطل بقطع هذا. وكل المذكور في الحالين، مفروض فيما إذا أخبر الثاني بالخطأ والصواب: جميعا. فإن أخبره عن الخطأ وحده، على صورة يجب قبولها، ولم يخبر هو، ولا

(1/330)


غيره بالصواب، فهو كاختلاف المجتهدين عليه في أثناء الصلاة. وقد سبق في الفرع (1).
الباب الرابع في صفة الصلاة (2)
الصلاة تشتمل على أركان وسنن تسمى: أبعاضا، وسنن لا تسمى أبعاضا. فالاركان المتفق عليها، سبعة عشر (3). النية، والتكبير، والقيام، والقراءة، والركوع. والطمأنينة فيه، والاعتدال، والطمأنينة فيه، والسجود، والطمأنية فيه والجلوس بين السجدتين، والطمأنينة

(1/331)


فيه، والقعود في آخر الصلاة، والتشهد فيه، والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه والسلام، وترتيبها هكذا. ومن فرض فيها الموالاة، ونية الخروج ألحقهما بالاركان. وضم صاحب (التلخيص) والقفال، إلى الاركان استقبال القبلة. ومن الاصحاب، من جعل نية الصلاة شرطا. والكثرون على أنها ركن، وهو الصحيح. وأما الابعاض، فستة. أحدها: القنوت في الصبح، وفي الوتر في النصف الثاني من شهر رمضان. والثاني: القيام للقنوت. والثالث: التشهد الاول. والرابع: الجلوس له. والخامس: الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - في التشهد الاول، إذا قلنا: تسن. والسادس (1): والصلاة على آل النبي - صلى الله عليه وسلم - في التشهد الاول، والآخر، إذا قلنا: هي سنة فيهما. وأما السنن التي ليست أبعاضا، فما يشرع سوى ما قدمناه. فصل في النية: يجب مقارنتها التكبير. وفي كيفية المقارنة، وجهان. أحدهما: يجب أن يبتدئ النية بالقلب، مع ابتداء التكبير باللسان، ويفرغ منها، مع فراغه منه. وأصحهما: لا يجب هذا، بل لا يجوز لئلا يخلو أول التكبير عن تمام النية. فعلى هذا قيل: يجب أن تقدم النية على التكبير، ولو بشئ يسير. والصحيح الذي قاله الاكثرون: لا يجب ذلك، بل الاعتبار بالمقارنة. وسواء قدم، أم لم يقدم، يجب استصحاب النية إلى انقضاء التكبير على الاصح وعلى الثاني، لا يجب. والنية: هي القصد، فيحضر المصلي في ذهنه ذات الصلاة، وما يجب التعرض له من صفاتها، كالظهرية، والفرضية، وغيرهما. ثم يقصد هذه العلوم، قصدا مقارنا لاول التكبير (2). ولا يجب استصحاب النية بعد التكبير، ولكن يشترط

(1/332)


أن لا يأتي بمناقض لها. ولو نوى في أثناء الصلاة، الخروج منها، بطلت. وإن تردد في أن يخرج، أو يستمر، بطلت. والمراد بالتردد: أن يطرأ شك مناقض للجزم. ولا عبرة بما يجري في الفكر، أنه لو تردد في الصلاة، كيف يكون الحال، فإن ذلك مما يبتلى به الموسوس. وقد يقع ذلك في الايمان بالله تعالى، فلا مبالاة بذلك، قاله امام الحرمين. ولو نوى في الركعة الاولى، الخروج في الثانية، أو علق الخروج بشئ يوجد في صلاته قطعا، بطلت في الحال على الصحيح، وعلى الشاذ: لا تبطل في الحال، بل لو رفض هذا التردد قبل الانتهاء إلى الغاية المنوية، صحت صلاته. ولو علق الخروج بدخول شخص ونحوه، مما يحتمل حصوله في الصلاة. وعدمه، بطلت في الحال على الاصح، كما لو دخل في الصلاة هكذا، فإنه لا ينعقد بلا خلاف، وكما لو علق به الخروج من الاسلام، فإنه يكفر في الحال قطعا. والثاني: لا تبطل في الحال. وهل تبطل بوجود الصفة إذا وجدت وهو ذاهل عن التعليق ؟ وجهان. أحدهما: لا، وأصحهما، وقول الاكثرين: تبطل. قال إمام الحرمين: ويظهر على هذا، أن يقال: تبين بالصفة بطلانها من حين التعليق. أما إذا وجدت، وهو ذاكر للتعليق،. فتبطل قطعا. ولو نوى فريضة، أو سنة راتبة، ثم نوى فيها فريضة أخرى، أو راتبة، بطلت التي كان فيها، ولم تحصل المنوية. وفي بقاء أصل الصلاة نافلة قولان نذكرهما إن شاء الله تعالى. ولو تردد الصائم في الخروج من صومه، أو علقة على دخول شخص ونحوه، لم يبطل على المذهب الذي قطع به الجماهير. وقيل: وجهان. ولو جزم نية الخروج منه، لم يبطل على الاصح، كالحج، فإنه لا يبطل قطعا. ولو شك في صلاته، هل أتى بكمال النية، أم تركها، أو ترك بعض شروطها ؟ نظر إن تذكر أنه أتى بكمالها قبل أن يحدث شيئا على الشك وقصر الزمان، لم تبطل صلاته وإن طال، بطلت على الاصح لانقطاع نظمها. وإن تذكر بعد أن أتى على الشك بركن فعلي، كالركوع، أو السجود، بطلت. وإن أتى بقولي، كالقراءة، والتشهد، بطلت أيضا على الاصح المنصوص، والذي قطع به العراقيون. قلت: قال الماوردي: لو شك، هل نوى ظهرا، أو عصرا ؟ لم يجزئه عن واحدة، فإن تيقنها، فعلى التفصيل المذكور. والله أعلم. فرع في كيفية النية أما الفريضة، فيجب فيها قصد أمرين بلا خلاف.

(1/333)


أحدهما: فعل الصلاة، لتمتاز عن سائر الافعال. ولا يكفي إحضار نفس الصلاة بالبال، غافلا عن الفعل. والثاني: تعيين الصلاة المأتي بها، ولا تجزئه نية فريضة الوقت عن نية الظهر، أو العصر على الاصح، لان الفائتة التي يتذكرها تشاركها في كونها فريضة الوقت. ولا تصح الظهر بنية الجمعة على الصحيح الصواب. ولا تصح الجمعة بنية مطلق الظهر، ولا تصح بنية الظهر المقصورة إن قلنا: إنها صلاة بحيالها. وإن قلنا: ظهر مقصورة، صحت. واختلفوا في اعتبار أمور سوى هذين الامرين. أحدها: الفرضية، وهو شرط على الاصح عند الاكثرين، سواء كان الناوي بالغا، أو صبيا. وسواء كانت الصلاة قضاء، أم أداء. الثاني: الاضافة إلى الله تعالى، بأن يقول: لله، أو فريضة الله. والاصح: أنه لا يشترط. الثالث: القضاء، والاداء، الاصح: أنه لا يشترط، بل تصح أداء بنية القضاء، وعكسه. ولك أن تقول: الخلاف في اشتراط نية الاداء في الاداء، ونية القضاء في القضاء، ظاهر. أما الخلاف في صحة الاداء بنية القضاء وعكسه، فليس بظاهر، لانه إن جرت هذه النية على لسانه، أو في قلبه، ولم يقصد حقيقة معناها، فينبغي أن تصح قطعا. وإن قصد حقيقة معناه، فينبغي أن لا يصح قطعا، لتلاعبه. قلت: مراد الاصحاب بقولهم: يصح القضاء بنية الاداء، (1) وعكسه، من

(1/334)


نوى ذلك جاهل الوقت لغيم، ونحوه. والالزام الذي ذكره الرافعي، حكمه صحيح، ولكن ليس هو مرادهم. والله أعلم. الرابع: التعرض لاستقبال القبلة، وعدد الركعات. المذهب: أنه لا يشترط. وقيل: يشترط، وهو غلط. لكن لو نوى الظهر ثلاثا، أو خمسة، لم تنعقد. وأما النافلة، فضربان. أحدهما: ما لها وقت، أو سبب، فيشترط فيها نية فعل الصلاة، والتعيين. فينوي صلاة الاستسقاء، أو الخسوف، أو عيد الفطر، أو النحر، أو الضحى، وغيرها. وفي الرواتب، يعين بالاضافة. فيقول: سنة الفجر، أو راتبة الظهر، أو سنة العشاء، وفي وجه ضعيف: يكفي فيما عدا ركعتي الفجر من الرواتب، نية أصل الصلاة، لتأكد ركعتي الفجر، فألحقت بالفرائض. وأما الوتر، فينوي سنة الوتر، ولا يضيفها إلى العشاء، لانها مستقلة. فإن أوتر بأكثر من واحدة، نوى بالجميع الوتر، كما ينوي في جميع ركعات التراويح. وفي وجه: ينوي بما قبل الواحدة، صلاة الليل. وفي وجه: ينوي به سنة الوتر. وفي وجه: مقدمة الوتر. والظاهر: أن هذه الاوجه في الاولوية، دون الاشتراط. وفي اشتراط نية النفلية في هذا الضرب، والاداء، والقضاء، والاضافة إلى الله تعالى، الخلاف المتقدم في الفريضة (1). الضرب الثاني: النوافل (2) المطلقة. فيكفي فيها نية فعل الصلاة. ولم يذكروا هنا خلافا في اشتراط التعرض للنفلية. ويمكن أن يقال: مقتضى اشتراط الفرضية في الفرض، اشتراط النفلية هنا. قلت: الصواب، الجزم بعدم اشتراط النفلية في الضربين. ولا وجه للاشتراط في الاول. والله أعلم.

(1/335)


فرع: النية في جميع العبادات معتبرة بالقلب. ولا يكفي فيها نطق اللسان مع غفلة القلب، ولا يشترط ولا يضر مخالفته القلب. كمن قصد بقلبه الظهر، وجرى لسانه بالعصر، انعقد ظهره. ولنا وجه شاذ: أنه يشترط نطق اللسان، وهو غلط. ولو عقب النية بقوله: إن شاء الله تعالى، بالقلب، أو باللسان، فإن قصد به التبرك، ووقوع الفعل بمشيئة الله تعالى، لم يضر. وإن قصد الشك، لم تصح صلاته (1). فرع: من أتى بما ينافي الفريضة، دون النفلية في أول صلاته، أو في أثنائها، وبطل فرضه، هل تبقى صلاته نافلة، أم تبطل ؟ قولان. اختلف في الاصح منهما الاصحاب بحسب الصور. فمنها: إذا تحرم بالظهر قبل الزوال، فإن كان عالما بحقيقة الحال، فالاظهر: البطلان. وإن جهل، فالاظهر: انعقادها نافلة. ومثله: لو وجد المسبوق الامام راكعا، فأتى ببعض تكبيرة الاحرام في الركوع، لا ينعقد الفرض. فإن كان عالما بتحريمه، فالاظهر: البطلان، وإلا فالاظهر: انعقادها نفلا. ومنها: لو أحرم بفريضة منفردا، ثم أقيمت جماعة، فسلم من ركعتين ليدركها، فالاظهر: صحتها نفلا. ومنها: لو وجد المصلي قاعدا خفة في صلاته، فلم يقم، أو أحرم القادر على القيام بالفرض قاعدا، أو قلب المصلي فرضه نفلا بلا سبب، فالاظهر: البطلان في الثلاثة. فصل في تكبيرة الاحرام أما القادر عليها، فيتعين عليه كلمة التكبير. ولا يجزئ ما قرب منها، ك‍: الرحمن أجل، والرب أعظم، أو: الرحمن الرحيم أكبر. وفي وجه شاذ: يجزئه: الرحمن أكبر، أو: الرحيم أكبر. ولو قال: الله الاكبر، أجزأه على المشهور. كما لو قال: الله أكبر من كل شئ، أو: الله أكبر

(1/336)


وأجل وأعظم. ولو قال: الله الجليل أكبر، أجزأه على الصحيح. ويجري الخلاف، فيما إذا أدخل بين كلمتي التكبير لفظا آخر من صفات الله تعالى، بشرط أن يقل لفظه، كقوله: الله عزوجل أكبر. فإن طال، كقوله: الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس أكبر، لم يجزئه قطعا، لخروجه عن اسم التكبير، ولو قال: أكبر الله، أو: الاكبر الله، لم تنعقد صلاته على المذهب. وقيل: قولان. وقيل: لا ينعقد الاول. وفي الثاني الطريقان. ويجب الاحتراز في لفظ التكبير، عن وقفة بين كلمتيه، وعن زيادة تغير المعنى، بأن يقول: الله أكبر، بمد همزة الله. أو: الله أكبار، أو يزيد واوا ساكنة، أو متحركة بين الكلمتين. ولا يضر المد في موضعه، ويجب أن يكبر بحيث يسمع نفسه، ويجب أن يكبر قائما حيث يجب القيام. ولا يجزئه ترجمة التكبير بغير لسان العرب مع القدرة عليه. أما العاجز عن كلمة التكبير، أو بعضها، فله حالان. أحدهما: أن لا يمكنه كسب القدرة. فإن كان بخرس، أو نحوه، حرك لسانه، وشفتيه، ولهاته بالتكبير قدر إمكانه، وإن كان ناطقا لا يطاوعه لسانه، أتى بترجمة التكبير، ولا يعدل إلى ذكر آخر. ثم جميع اللغات في الترجمة سواء، فيتخير بينها على الصحيح. وقيل: إن أحسن السريانية، أو العبرانية، تعينت، لشرفها بإنزال الكتاب بها. والفارسية بعدهما أولى من التركية، والهندية. الحال الثاني: أن يمكنه القدرة بتعلم، أو نظر في موضع كتب عليه لفظ التكبير، فيلزمه ذلك. ولو كان ببادية، أو موضع لا يجد فيه من يعلمه، لزمه السير إلى قرية يتعلم بها على الاصح. والثاني: يكفيه الترجمة. ولا يجوز في أول الوقت لمن أمكنه التعلم في آخره. وإذا صلى بالترجمة في الحال الاول، فلا إعادة. وأما الحال الثاني، فإن ضاق الوقت عن التعلم لبلادة ذهنه، أو قلة ما أدركه من الوقت، فلا إعادة أيضا. وإن أخر التعلم مع التمكن، وضاق الوقت، صلى بالترجمة، وتجب الاعادة على الصحيح والصواب. قلت: ومن فروع الفصل، ما ذكره صاحب (التلخيص) والبغوي، والاصحاب. أنه لو كبر للاحرام أربع تكبيرات، أو أكثر، دخل في الصلاة بالاوتار، وبطلت بالاشفاع. وصورته، أن ينوي بكل تكبيرة، افتتاح الصلاة، ولم ينو

(1/337)


الخروج عن الصلاة بين كل تكبيرتين. فبالاولى: دخل في الصلاة. وبالثانية: خرج. وبالثالثة: دخل. وبالرابعة: خرج. وبالخامسة: دخل. وبالسادسة: خرج. وهكذا أبدا. لان من افتتح صلاة، ثم نوى افتتاح صلاة، بطلت صلاته. ولو نوى افتتاح الصلاتين بين كل تكبيرتين، فبالنية يخرج، وبالتكبير يدخل، ولو لم ينو بالتكبيرة الثانية وما بعدها افتتاحا، ولا خروجا، صح دخوله بالاولى، وباقي التكبيرات ذكر لا تبطل به الصلاة. والله أعلم. فرع: رفع اليدين عند تكبيرة الاحرام سنة. والمذهب: أنه يرفعهما بحيث تحاذي أطراف أصابعه أعلى أذنيه، وإبهاماه شحمتي أذنيه، وكفاه منكبيه، وهذا معنى قول الشافعي والاصحاب رحمهم الله (1) عنهم: يرفعهما حذو منكبيه. وأما حكاية الغزالي: فيه ثلاثة أقوال، فمنكرة. ولو كان أقطع اليدين، أو واحدة من المعصم، رفع الساعد. وإن قطع من المرفق، رفع العضد على الاصح. ولو لم يمكنه الرفع إلا بزيادة على المشروع، أو نقص، أتى بالممكن. فإن قدر عليهما، أتى بالزيادة. قلت: يستحب أن يكون كفه إلى القبلة عند الرفع، قاله في (التتمة) ويستحب الرفع لكل مصل، قائم، وقاعد، مفترض، ومتنفل، إمام، ومأموم. والله أعلم. وفي وقت الرفع، أوجه. أحدها: يرفع غير مكبر، ثم يبتدئ التكبير مع إرسال اليدين، وينهيه مع انتهائه. والثاني: يرفع غير مكبر، ثم يكبر، ويداه قارتان، ثم يرسلهما. وصححه البغوي. والثالث: يبتدئ الرفع مع ابتداء التكبير، وينهيهما معا. والرابع: يبتدئهما معا، وينهي التكبير مع انتهاء الارسال. والخامس وهو الاصح: يبتدئ الرفع مع ابتداء التكبير ولا استحباب في الانتهاء (2)، فإن فرغ من التكبير قبل تمام الرفع، أو بالعكس، أتم الباقي. وإن فرغ منهما، حط يديه ولم يستدم الرفع. ولو ترك رفع اليدين، حتى أتى ببعض التكبير، رفعهما في الباقي، فإن أتمه، لم يرفع بعده. ويستحب كشف اليدين عند الرفع، وأن يفرق

(1/338)


أصابعهما تفريقا وسطا، وأن لا يقصر التكبير بحيث لا يفهم، ولا يمططه بأن يبالغ في مده، بل يأتي به مبينا. والاولى فيه: الحذف على الصحيح. وعلى الشاذ: المد أولى. فرع: السنة بعد التكبير، حط اليدين، ووضع اليمنى على اليسرى، فيقبض بكفه اليمنى، كوع اليسرى، وبعض رسغها، وساعدها. قال القفال: ويتخير بين بسط أصابع اليمنى في عرض المفصل، وبين نشرها في صوب الساعد. ثم يضع يديه كما ذكرنا تحت صدره، وفوق سرته، على الصحيح. وعلى الشاذ: تحت سرته. واختلفوا في أنه إذا أرسل يديه، هل يرسلهما إرسالا بليغا ثم يستأنف رفعهما إلى تحت صدره ووضع اليمنى على اليسرى، أم يرسلهما إرسالا خفيفا إلى تحت صدره فحسب، ثم يضع ؟. قلت: الاصح: الثاني. والله أعلم. فصل في القيام: اعلم أن القيام، أو ما يقوم مقامه، ركن في الصلاة، ويقوم القعود مقامه في النافلة، وفي الفريضة عند العجز. ويشترط في القيام، الانتصاب. وهل يشترط الاستقلال، بحيث لا يستند ؟ فيه أوجه. أصحها: وهو المذكور في (التهذيب) وغيره: لا يشترط. فلو استند إلى جدار، أو انسان، بحيث لو رفع السناد لسقط، صحت صلاته مع الكراهة. والثاني: يشترط، ولا يصح مع الاسناد عند القدرة بحال. والثالث: يجوز إن كان بحيث لو رفع السناد لم يسقط، وإلا، فلا. هذا في استناد لا يسلب اسم القيام. فإن استند متكئا، بحيث لو رفع قدميه عن الارض لامكنه البقاء، فهذا معلق نفسه بشئ وليس بقائم. أما إذا لم يقدر على الاستقلال، فيجب أن ينتصب متكئا على الصحيح. وفي وجه شاذ: لا يلزمه القيام في هذا الحال، بل له الصلاة قاعدا. وأما الانتصاب المشروط، فلا يخل به إطراق الرأس، وإنما المعتبر، نصب فقار الظهر، فليس للقادر أن يقف مائلا إلى اليمين، أو اليسار، زائلا عن سنن القيام، ولا أن يقف منحنيا في حد الراكعين. فإن لم يبلغ انحناؤه حد الركوع، لكن كان إليه أقرب منه إلى الانتصاب، لم يصح على الاصح. قلت: ولو لم يقدر على النهوض للقيام إلا بمعين، ثم لا يتأذى بالقيام، لزمه

(1/339)


أن يستعين بمن يقيمه. فإن لم يجد متبرعا، لزمه الاستئجار بأجرة المثل إن وجدها. والله أعلم. هذا في القادر على الانتصاب. فأما العاجز، كمن تقوس ظهره لزمانة، أو كبر، وصار في حد الراكعين، فيلزمه القيام. فإذا أراد الركوع، زاد في الانحناء إن قدر عليه. هذا هو الصحيح الذي قطع به العراقيون، وصاحب (التتمة) و (التهذيب) ونص عليه الشافعي (1). وقال إمام الحرمين، والغزالي: يلزمه أن يصلي قاعدا. قالا: فإن قدر عند الركوع على الارتفاع إلى حد الراكعين، لزمه. ولو عجز عن الركوع والسجود، دون القيام، لعلة بظهره تمنع الانحناء، لزمه القيام. ويأتي بالركوع والسجود بحسب الطاقة، فيحني صلبه قدر الامكان. فإن لم يطق، حنى رقبته، ورأسه، فإن احتاج فيه إلى شئ يعتمد عليه، أو إلى أن يميل إلى جنبه، لزمه ذلك. فإن لم يطق الانحناء أصلا، أومأ إليهما. قلت: وإذا أمكنه القيام، والاضطجاع، ولم يمكنه القعود، قال صاحب (التهذيب) يأتي بالقعود قائما، لانه قعود وزيادة. واعلم بأنه (2) يكره للصحيح أن يقوم على إحدى رجليه، ويصح. ويكره أن يلصق القدمين، بل يستحب التفريق بينهما، وتطويل القيام عندنا، أفضل من تطويل الركوع والسجود، وتطويل السجود أفضل من تطويل الركوع. وإذا طول الثلاثة زيادة على ما يجوز الاقتصار عليه، فالاصح: أن الجميع يكون واجبا. والثاني: يقع ما زاد سنة، ومثله الخلاف في مسح جميع الرأس، وفي البعير المخرج في الزكاة عن خمس، وفي البدنة المضحي بها بدلا عن شاة منذورة (3). والله أعلم. فرع: إذا عجز عن القيام في صلاة الفرض، عدل إلى القعود، ولا ينقص ثوابه، لانه معذور. ولا نعني بالعجز، عدم تأتي القيام، بل خوف الهلاك، أو

(1/340)


زيادة المرض، أو لحوق مشقة شديدة، أو خوف الغرق، ودوران الرأس، في حق راكب السفينة. قلت: الذي اختاره إمام الحرمين في ضبط العجز: أن يلحقه بالقيام مشقة تذهب خشوعه. والله أعلم. ولو جلس للغزاة رقيب يرقب العدو، فأدركته الصلاة، ولو قام لرآه العدو، أو جلس الغزاة في مكمن، ولو قاموا رآهم العدو وفسد التدبير، فلهم الصلاة قعودا. وتجب الاعادة لندوره. قلت: قال صاحب (التتمة) في غير الرقيب: إن خاف لو قام أن يقصده العدو، وصلى قاعدا، أجزأته على الصحيح. ولو صلى الكمين في وهدة قعودا، ففي صحتها قولان. والله أعلم. ثم إذا قعد المعذور، لا يتعين لقعوده هيئة، بل يجزئه جميع هيئات القعود. لكن يكره الاقعاء في هذا القعود، وفي جميع قعدات الصلاة. وفي المراد بالاقعاء ثلاثة أوجه. أصحها: أنه الجلوس على الوركين، ونصب الفخذين، والركبتين، وضم إليه أبو عبيد: أن يضع يديه على الارض. والثاني: أن يفرش رجليه، ويضع إليه على عقبيه، والثالث: أن يضع يديه على الارض، ويقعد على أطراف أصابعه. قلت: الصواب، هو الاول. وأما الثاني: فغلط. فقد ثبت في (صحيح مسلم) (1): أن الاقعاء سنة نبينا - صلى الله عليه وسلم - وفسره العلماء بما قاله الثاني. ونص على استحبابه الشافعي رحمه الله في (البويطي) و (الاملاء) في الجلوس بين السجدتين. قال العلماء: فالاقعاء ضربان. مكروه، وغيره. فالمكروه: المذكور في الوجه الاول، وغيره: الثاني. والله أعلم. وفي الافضل من هيئات القعود، قولان، ووجهان. أحد القولين: وهو أصح

(1/341)


الجميع: يقعد مفترشا. وثانيهما: متربعا. وأحد الوجهين: متوركا. وثانيهما: ناصبا ركبته اليمنى، جالسا على رجله اليسرى. ويجري الخلاف في قعود النافلة. وأما ركوع القاعد، فأقله أن ينحني قدر ما يحاذي وجهه ما قدام ركبتيه من الارض (1). وأكمله، أن ينحني بحيث تحاذي جبهته موضع سجوده. وأما سجوده، فكسجود القائم. هذا إذا قدر القاعد على الركوع والسجود، فإن عجز لعلة بظهره، أو غيرها، فعل الممكن من الانحناء. ولو قدر القاعد على الركوع، وعجز عن وضع الجبهة على الارض نظر، إن قدر على أقل ركوع القاعد وأكمله، من غير زيادة، أتى بالممكن، مرة عن الركوع، ومرة عن السجود، ولا يضر استواؤهما. وإن قدر على زيادة على كمال الركوع، وجب الاقتصار في الانحناء للركوع على قدر الكمال، ليتميز عن السجود. ويلزمه أن يقرب جبهته من الارض للسجود، أكثر ما يقدر عليه. حتى قال الاصحاب: لو قدر أن يسجد على صدغه، أو عظم رأسه الذي فوق الجبهة، وعلم أنه إذا فعل ذلك كانت جبهته أقرب إلى الارض، لزمه ذلك. قلت: قال الشافعي رحمه الله في (الام) والاصحاب: لو قدر أن يصلي قائما منفردا، وإذا صلى مع الجماعة احتاج أن يصلي بعضها من قعود، فالافضل: أن يصلي منفردا. فإن صلى مع الجماعة، وقعد في بعضها، صحت. ولو كان بحيث لو اقتصر على قراءة الفاتحة، أمكنه القيام، وإذا زاد، عجز، صلى بالفاتحة. فلو شرع في السورة، فعجز، قعد. ولا يلزمه قطع السورة ليركع. والله أعلم. فرع فيما إذا عجز عن القعود قد ذكرنا أن العجز عن القيام، يتحقق بتعذره، أو لحوق مشقة شديدة، أو غيرهما مما قدمناه. قال الجمهور: والعجز عن القعود، يحصل بما يحصل به العجز عن القيام. وقال إمام الحرمين: لا يكفي ذلك، بل يشترط فيه عدم تصور القعود، أو خيفة الهلاك، أو المرض الطويل، إلحاقا له بالمرض المبيح للتيمم. وفي كيفية صلاته، وجهان. وقيل: قولان.

(1/342)


أصحهما: يضطجع (1) على جنبه الايمن، مستقبلا بوجهه ومقدم بدنه القبلة، كالميت في لحده. فلو خالف، واضطجع على جنبه الايسر، صح، إلا أنه ترك السنة. والثاني: أنه يستلقي على ظهره، ويجعل رجليه إلى القبلة، ويرفع وسادته قليلا. وهذا الخلاف في القادر على الاضطجاع والاستلقاء. فإن لم يقدر إلا على أحدهما، أتى به. قال إمام الحرمين: هذا الخلاف في الكيفية الواجبة، بخلاف الخلاف السابق في كيفية القعود، فإنه في الافضل، لاختلاف استقبال بهذا دون ذاك. وفي المسألة، وجه ثالث: أنه يضطجع على جنبه، وأخمصاه إلى القبلة. ثم إذا صلى على هيئة من هذه الهيئات، وقدر على الركوع والسجود، أتى بهما، وإلا أومأ بهما منحنيا، وقرب جبهته من الارض بحسب الامكان، وجعل السجود أخفض من الركوع. فإن عجز عن الاشارة بالرأس أومأ بطرفه. فإن عجز عن تحريك الاجفان، أجرى أفعال الصلاة على قلبه. فإن اعتقل لسانه، أجرى القرآن والاذكار على قلبه. وما دام عاقلا، لا تسقط عنه الصلاة. ولنا وجه: أنه تسقط الصلاة، إذا عجز عن الايماء بالرأس. وهو مذهب أبي حنيفة (2) (3) رحمه الله. وهو شاذ. والمعروف في المذهب: ما قدمناه. فرع: القادر على القيام، إذا أصابه رمد، وقال له طبيب موثوق به: إن

(1/343)


صليت مستلقيا، أو مضطجعا، أمكن مداواتك، وإلا خيف عليك العمى، جاز له الاضطجاع والاستلقاء على الاصح. ولو قال: إن صليت قاعدا، أمكنت. فقال إمام الحرمين: يجوز القعود قطعا. ومفهوم كلام غيره: أنه على الوجهين. فرع: لو عجز في أثناء صلاته عن القيام، قعد وبنى. ولو صلى قاعدا، فقدر على القيام في أثنائها، قام وبنى. وكذا لو صلى مضطجعا، فقدر على القيام، أو القعود، أتى بالمقدور، وبنى. ثم إذا تبدل الحال بالنقص إلى الكمال، بأن قدر القاعد على القيام لخفة المرض، نظر، إذا اتفق ذلك قبل القراءة، قام وقرأ قائما. وكذا إن كان في أثناء القراءة، قام وقرأ بقية الفاتحة في حال القيام. ويجب ترك القراءة في النهوض إلى أن ينتصب معتدلا. فلو قرأ في نهوضه بعض الفاتحة، فعليه إعادته. وإن قدر بعد الفاتحة (1) قبل الركوع، لزمه القيام ليهوي منه إلى الركوع. ولا يلزمه الطمأنينة في هذا القيام، لانه ليس مقصودا لنفسه. ويستحب في هذه الاحوال، أن يعيد الفاتحة ليقع في حال الكمال. ولو وجد الخفة في ركوعه قاعدا، فإن كان قبل الطمأنينة، لزمه الارتفاع إلى حد الراكعين عن قيام. ولا يجوز أن يرتفع قائما، ثم يركع، لئلا يزيد ركوعا. ولو فعله، بطلت صلاته. وإن كان بعد الطمأنينة، فقد تم ركوعه، ولا يلزمه الانتقال إلى ركوع القائمين. ولو وجد الخفة في الاعتدال عن الركوع قاعدا، فإن كان قبل الطمأنينة، لزمه أن يقوم، ليعتدل ويطمئن. وإن كان بعدها، فوجهان. أحدهما: يلزمه أن يقوم ليسجد عن قيام. وأصحهما: لا يلزمه لئلا يطول الاعتدال، وهو ركن قصير. فإن اتفق ذلك في الركعة الثانية من الصبح قبل القنوت، لم يقنت قاعدا. فإن فعل، بطلت صلاته. بل يقوم، ويقنت. أما إذا تبدل الحال من الكمال إلى النقص، بأن عجز في أثناء الصلاة، فينتقل إلى الممكن. فإن اتفق العجز في أثناء الفاتحة، وجب إدامة القراءة في هويه. فرع: يجوز فعل النافلة قاعدا مع القدرة على القيام. لكن ثوابها يكون نصف ثواب القائم. ولو تنفل مضطجعا، مع القدرة على القيام، والقعود، جاز على الاصح. ثم المضطجع في الفريضة، يأتي بالركوع والسجود، إذا قدر

(1/344)


عليهما. وهنا الخلاف في جواز الاضطجاع يجري في الاقتصار على الايماء. لكن الاصح منع الاقتصار على الايماء. قال إمام الحرمين: ما عندي أن من جوز الاضطجاع، يجوز الاقتصار في الاركان الذكرية، كالتشهد، والتكبير، وغيرهما على ذكر القلب. ثم يستوي فيما ذكرناه، النوافل كلها، الراتبة، وغيرها، على الصحيح. وفي وجه شاذ: لا تجوز صلاة العيد، والكسوف، والاستسقاء قاعدا مع القدرة، كالجنازة. فصل: يستحب للمصلي إذا كبر، أن يقول دعاء الاستفتاح (1)، وهو (وجهت وجهي للذي فطر السموات والارض حنيفا مسلما وما أنا من المشركين. إن صلاتي، ونسكي، ومحياي، ومماتي، لله رب العالمين، لا شريك له، وبذلك أمرت وأنا من المسلمين (2)). ولا يزيد الامام على هذا، إذا لم يعلم رضى المأمومين بالزيادة. فإن علم رضاهم، أو كان المصلي منفردا، استحب أن يقول بعده: (اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك، أنت ربي وأنا عبدك ظلمت نفسي، واعترفت بذنبي، فاغفر لي ذنوبي جميعا إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، واهدني لاحسن الاخلاق لا يهدي لاحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت، لبيك وسعديك، والخير كله في يديك، والشر ليس إليك، أنا بك وإليك، تباركت وتعاليت، استغفرك وأتوب إليك (3)) وقال جماعة من أصحابنا، منهم: أبو إسحاق المروزي، والقاضي أبو حامد: السنة أن يقول: (سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك) (4). ثم يقول: (وجهت وجهي...) إلى آخره. ومن ترك دعاء الاستفتاح

(1/345)


عمدا، أو سهوا، حتى شرع في التعوذ، لم يعد إليه، ولا يتداركه في باقي الركعات. ولو أدرك مسبوق الامام في التشهد الاخير، وكبر، وقعد، فسلم الامام لاول قعوده، قام، ولا يأتي بدعاء الاستفتاح، لفوات محله. ولو سلم الامام قبل قعوده، لا يقعد، ويأتي بدعاء الاستفتاح. وسواء في دعاء الاستفتاح الفريضة، وجميع النوافل. قلت: ذكر الشيخ أبو حامد في تعليقه: أنه إذا ترك دعاء الاستفتاح، وتعوذ، عاد إليه من التعوذ. والمعرف في المذهب: أنه لا يأتي به كما تقدم. لكن لو خالف فأتى به، لم تبطل صلاته، لانه ذكر، قال صاحب (التهذيب) ولو أحرم مسبوق، فأمن عقيب إحرامه، أمن معه، وأتى بدعاء الاستفتاح، لان التأمين يسير. والله أعلم. فصل: يستحب بعد دعاء الاستفتاح، أن يتعوذ (1) فيقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (2). وقال بعض أصحابنا: يقول: (أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم). ويحصل التعوذ، بكل ما اشتمل على الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم. ولا يجهر به في الصلاة السرية، ولا في الجهرية أيضا على الاظهر. وعلى الثاني: يستحب الجهر فيها، كالتسمية، والتأمين. والثالث: أنه يتخير بين الجهر، والاسرار، ولا ترجيح. وقيل: يستحب الاسرار قطعا. ثم المذهب: أنه يستحب تعوذ في كل ركعة، وهو في الركعة الاولى آكد. وهذا نص الشافعي (3). رضي الله عنه. واختاره القاضي أبو الطيب، وإمام الحرمين، والروياني، وغيرهم. وقيل: قولان. أحدهما: هذا. والثاني: يتعوذ في الاولى فقط. فإن تركه فيها عمدا، أو سهوا، أتى به في الثانية. فصل: ثم بعد التعوذ يقرأ. وللمصلي حالان:

(1/346)


أحدهما: أن يقدر على قراءة الفاتحة. والثاني: لا يقدر. فأما القادر، فيتعين عليه قراءتها في القيام، أو ما يقع بدلا عنه. ولا يقوم مقامها ترجمتها. ولا غيرها من القرآن. ويستوي في تعين الفاتحة، الامام، والمأموم، والمنفرد، في السرية، والجهرية. ولنا قول (1). ضعيف. أنها لا تجب على المأموم في الجهرية. [ ووجه شاذ: أنها لا تجب عليه في السرية أيضا. فإذا قلنا: لا يقرأ المأموم في الجهرية ]، (2) فلو كان أصم، أو بعيدا لا يسمع قراءة الامام، لزمته القراءة على الاصح. ولو جهر الامام في السرية، أو عكس، فالاصح وظاهر النص: أن الاعتبار بفعل الامام. والثاني: بصفة أصل الصلاة. وإذا لم يقرأ المأموم، هل يستحب له التعوذ ؟ وجهان، لانه ذكر سري. قلت: الاصح: لا يستحب، لعدم القراءة. والله أعلم. وإذا قلنا: يقرأ المأموم في الجهرية، فلا يجهر بحيث يغلب جهره، بل يسر بحيث يسمع نفسه لو كان سميعا، فإن هذا أدنى القراءة. ويستحب للامام على هذا القول: أن يسكت بعد الفاتحة قدر قراءة المأموم لها. واعلم أن الفاتحة واجبة في كل ركعة إلا في ركعة المسبوق إذا أدرك الامام راكعا، فإنه لا يقرأ في ركعته، وتصح. وهل يقال: يحملها عنه الامام، أم لم تجب أصلا ؟ وجهان (3). قلت: أصحهما: الاول. والله أعلم. فرع: (بسم الله الرحمن الرحيم) آية كاملة من أول الفاتحة بلا خلاف. وأما باقي السور، سوى (براءة) فالمذهب: أنها آية كاملة من أول كل سورة أيضا. وفي

(1/347)


قول: أنها بعض آية. وقيل: قولان. أحدهما: ليست بقرآن في أوائلها. وأظهرهما: أنها قرآن. والسنة: أن تجهر بالتسمية في الصلاة الجهرية في الفاتحة، وفي السورة بعدها. فرع: تجب قراءة الفاتحة بجميع حروفها وتشديداتها. فلو أسقط منها حرفا، أو خفف مشددا، أو أبدل حرفا بحرف، لم تصح قراءته. وسواء فيه الضاد، وغيره. وفي وجه: لا يضر إبدال الضاد بالظاء (1). واللحن فيها لحنا يحيل المعنى، كضم تاء (أنعمت) أو كسرها، أو كسر كاف (إياك) لم يجزئه، وتبطل صلاته إن تعمد. ويجب إعادة القراءة، إن لم يتعمد. وتجزئ بالقراءات السبع. وتصح بالقراءة الشاذة، إن لم يكن فيها تغيير معنى، ولا زيادة حرف، ولا نقصانه (2). فرع: يجب ترتيب في قراءة الفاتحة. فلو قدم مؤخرا، إن تعمد، بطلت قراءته، وعليه استئنافها. وإن سها، لم يعتد بالمؤخر، ويبني على المرتب. إلا أن

(1/348)


يطول، فيستأنف القراءة. ولو أخل بترتيب التشهد، نظر. إن غير تغييرا مبطلا للمعنى، لم يحسب ما جاء به. وإن تعمده، بطلت صلاته، وإن لم يبطل المعنى، أجزأه على المذهب. وقيل: فيه قولان. وينبغي أن يقال في الفاتحة أيضا: إن غير الترتيب تغييرا يبطل المعنى، بطلت صلاته كالتشهد. فرع: تجب الموالاة بين كلمات الفاتحة. فإن أخل بها، فله حالان. أحدهما: أن يكون عامدا، فينظر. إن سكت في أثناء الفاتحة، أو طالت (1) مدة السكوت، بأن يشعر بقطعه القراءة أو إعراضه عنها مختارا، أو لعائق، بطلت قراءته، ولزم استئنافها على الصحيح. وعلى الشاذ المنقول عن العراقيين: لا تبطل (2). فإن قصرت مدة السكوت، لم يؤثر قطعها. وإن نوى قطع القراءة، ولم يسكت، لم تبطل قطعا. ولو (3) نوى قطعها، وسكت يسيرا، بطلت قراءته على الصحيح الذي قطع به الاكثرون. ولو أتى بتسبيح، أو تهليل في أثنائها، أو قرأ آية أخرى، بطلت قراءته، قل ذلك، أم كثر. هذا فيما لا يؤمر به المصلي. فأما ما أمر به في الصلاة، ويتعلق (4) بمصلحتها، كتأمين المأموم لتأمين الامام، وسجوده للتلاوة، وفتحه عليه القراءة، وسؤاله الرحمة عند قراءته آيتها، والاستعاذة من العذاب عند قراءة آيته، فإذا وقع في أثناء الفاتحة، لم تبطل الموالاة على الاصح. وهذا تفريع على الصحيح في استحباب هذه الامور للمأموم، وعلى وجه: لا يستحب. ولا يطرد الخلاف في كل مندوب، فإن الحمد عند العطاس مندوب وإن كان في الصلاة، ولو فعله، قطع الموالاة. ولكن يختص بالمندوبات المختصة بالصلاة لمصلحتها. الحال الثاني: أن يخل بالموالاة ناسيا. وتقدم عليه، أن من ترك الفاتحة ناسيا، فيه قولان. المشهور الجديد: أنه لا يجزئه، ولا يعتد له بتلك الركعة. بل إن تذكر بعد ما ركع، عاد إلى القيام وقرأ. وإن تذكر بعد قيامه إلى الركعة الثانية،

(1/349)


صارت (الثانية) أولاه، ولغت الاولى. والقديم: أنه تجزئه صلاته. وأما ترك الموالاة ناسيا، فالصحيح الذي اتفق عليه الجمهور، ونقلوه عن نص الشافعي رحمه الله (1): أنه لا يضر. وله البناء، سواء قلنا: يعذر بترك الفاتحة ناسيا، أم لا. ومال إمام الحرمين، والغزالي، إلى أن الموالاة تنقطع بالنسيان إذا قلنا: لا يعذر به في ترك الفاتحة. فرع: من لا يقدر على قراءة الفاتحة، يلزمه كسب القدرة بتعلم، أو توسل إلى مصحف، يقرؤها منه، بشراء، أو إجارة، أو استعارة (2). فإن كان في ليل، أو ظلمة، لزمه تحصيل السراج عند الامكان. فلو امتنع من ذلك عند الامكان، لزمه إعادة كل صلاة صلاها قبل أن يقرأها. فإن تعذرت الفاتحة لتعذر التعلم، لضيق الوقت، أو بلادته، أو عدم المعلم والمصحف، أو غير ذلك لم يجز ترجمة الفاتحة، بل ينظر إن (3) أحسن قرآنا غير الفاتحة، لزمه قراءة سبع آيات، ولا يجزئه دون سبع وإن كانت آيات طوالا. وهل يشترط مع ذلك أن لا ينقص حروف كل الآيات عن حروف الفاتحة ؟ فيه أوجه. أصحها: يشترط أن يكون جملة الآيات السبع، بقدر حروف الفاتحة. ولا يمتنع أن يجعل آيتين مقام آية. والثاني: أنه يجب أن يعدل حروف كل آية من حروف آية من الفاتحة على الترتيب، فتكون مثلها، أو أطول. والثالث: يكفي سبع آيات ناقصات الحروف، كما يكفي صوم يوم قصير عن طويل. ثم إن أحسن سبع آيات متوالية بالشرط المذكور، لم يجز

(1/350)


العدول إلى المتفرقة. وإن لم يحسن الا متفرقة، أتى بها. واستدرك إمام الحرمين، فقال: لو كانت الآية المفردة لا تفيد معنى منظوما إذا قرئت وحدها، كقوله تعالى: * (ثم نظر) * (1). فيظهر أن لا نأمره بقراءة هذه الآيات المتفرقة، ونجعله كمن لا يحسن قراءة أصلا. قلت: قد قطع جماعة بأن تجزئه الآيات المتفرقة وإن كان يحسن المتوالية، سواء فرقها من سورة، أو سور. منهم: القاضي أبو الطيب، وأبو علي البندنيجي، وصاحب (البيان) وهو المنصوص في (الام) وهو الاصح. والله أعلم. أما لو كان الذي يحسنه دون السبع، كآية أو آيتين، فوجهان. أصحهما: يقرأ ما يحسنه، ويأتي بالذكر عن الباقي. والثاني: يكرر ما يحفظه حتى يبلغ قدر الفاتحة. أما الذي لا يحسن شيئا من القرآن، فيجب عليه أن يأتي بالذكر، كالتسبيح، والتهليل. وفي الذكر الواجب أوجه. أحدها: يتعين أن يقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله (2). ويكفيه هذه الكلمات الخمس. والثاني: أنها تتعين، ويجب معها كلمتان من الذكر، ليصير سبعة أنواع مقام سبع آيات. والمراد بالكلمات، أنواع الذكر، لا ألفاظ مفردة. والثالث: وهو الاصح: أنه لا يتعين شئ من الذكر. ولكن هل يشترط أن لا ينقص حروف ما أتى به من حروف الفاتحة ؟ وجهان. الاصح: يشبرط. قال إمام الحرمين: ولا يراعي هنا إلا الحروف، بخلاف ما إذا أحسن قراءة غير الفاتحة، فإنه يراعي الآيات. وفي الحروف، الخلاف. وقال في (التهذيب): يجب سبعة أنواع من الذكر. يقام كل نوع مقام آية، وهذا أقرب. وهل الدعاء المحض، كالذكر ؟ فيه تردد للشيخ أبي محمد. قال إمام الحرمين: والاشبه أن ما يتعلق بأمور الآخرة، يقوم دون ما يتعلق بالدنيا (3). ويشترط أن لا يقصد بالذكر المأتي به شيئا آخر سوى البدلية، كمن استفتح، أو تعوذ على قصد تحصيل سنتهما. ولكن لا يشترط قصد

(1/351)


البدلية فيهما، ولا في غيرهما من الاذكار على الاصح. أما إذا لم يحسن شيئا من القرآن، ولا الذكر، فعليه أن يقوم بقدر الفاتحة، ثم يركع. ولو أحسن بعض الفاتحة، ولم يحسن بدلا، وجب تكرير ما أحسن قدر الفاتحة. وإن أحسن لباقيها بدلا، فوجهان. وقيل: قولان. أحدهما: يكرره. وأصحهما: يأتي به، وببدل الباقي. فعلى هذا، لو أحسن النصف الثاني من الفاتحة دون الاول، أتى بالذكر بدلا عن النصف الاول، ثم يأتي بالنصف الثاني. فلو عكس، لم يجز على الصحيح. وأما إذا قلنا: يكرر ما يحسنه، فيكرر المحفوظ مرة بدلا، ومرة أصلا. ولو كان يحسن النصف الاول، كرره على الوجه الاول، وأما على الاصح: فيأتي به، ثم بالذكر بدلا. هذا كله إذا استمر العجز، فلو تمكن من قراءة الفاتحة في أثناء الصلاة، بتلقين، أو مصحف، أو غيرهما، فإن كان قبل الشروع في البدل، لزمه قراءة الفاتحة. وكذا إن كان في أثناء البدل على الصحيح. وعلى الضعيف: يلزمه أن يقرأ الفاتحة، بقدر ما بقي. وإن كان بعد الركوع، فقد مضت تلك الركعة على الصحة، ولا يجوز الرجوع. وإن كان بعد الفراغ من البدل، وقبل الركوع، فالمذهب: أنه لا يلزمه قراءة الفاتحة، كما إذا قدر المكفر على الاعتاق، بعد فراغه من الصوم. وقيل: وجهان. فرع: يستحب لكل من قرأ الفاتحة في الصلاة، أو خارج الصلاة، أن يقول: عقب فراغه منها: آمين، بالمد، أو القصر، بلا تشديد فيهما. ويستحب أن يفصل بينهما، وبين (ولا الضالين) بسكته لطيفة، ليميزها عن القرآن. ويستوي في استحبابها، الامام، والمأموم، والمنفرد. ويجهر بها الامام، والمنفرد، في الصلاة الجهرية، تبعا للقراءة. وأما المأموم، فالمذهب: أنه يجهر. وقيل: قولان. وقيل: إن لم يجهر الامام، جهر لينبهه. وإلا، فقولان. وقيل: إن كثر القوم، جهروا، وإلا، فلا. ويستحب أن يكون تأمين المأموم، مع تأمين الامام، لا قبله، ولا بعده. فإن فاته، أمن عقب تأمينه. قلت: قال أصحابنا: لو ترك التأمين، حتى اشتغل بغيره، فات، ولم يعد إليه. وفي (الحاوي) وغيره وجه ضعيف: أنه يأتي به ما لم يركع. قال في (الام): فإن قال: آمين رب العالمين، كان حسنا. والله أعلم. فرع: يسن للامام، والمنفرد، قراءة شئ بعد الفاتحة في صلاة الصبح،

(1/352)


والاوليين من سائر الصلوات. ويحصل أصل الاستحباب، بقراءة شئ من القرآن (1)، ولكن سورة كاملة، أفضل. حتى أن السورة القصيرة، أولى من قدرها من طويلة (2). وهل تسن السورة في الركعة الثالثة، والرابعة ؟ قولان. القديم وبه أفتى الاكثرون: لا تسن. والجديد: تسن، لكنها تكون أقصر. ولا يفضل الركعة الاولى على الثانية بزيادة القراءة، ولا الثالثة على الرابعة، على الاصح فيهما. قلت: هذا الذي صححه، هو الراجع عند جماهير الاصحاب. لكن الاصح: التفضيل. فقد صح فيه الحديث، واختاره القاضي أبو الطيب، والمحققون، ونقله القاضي أبو الطيب، عن عامة أصحابنا الخراسانيين. لكن القاضي أبو الطيب. خص الخلاف، بتفضيل الاولى على الثانية، ونقل الاتفاق، على استواء الثالثة والرابعة. والله أعلم. ويستحب أن يقرأ في الصبح، بطوال المفصل، ك‍ (الحجرات) وفي الظهر، بقريب من الصبح. وفي العصر والعشاء بأوساط المفصل. وفي المغرب، بقصاره (3)، ويسن في صبح يوم الجمعة، أن يقرأ في الاولى: (آلم تنزيل) وفي الثانية: (هل أتى) بكمالهما (4). وأما المأموم، فلا يقرأ السورة فيما يجهر في الامام إذا سمعه، بل يستمعه، وإن كانت الصلاة سرية، أو جهرية، ولم يسمع المأموم قراءته لبعده، أو صممه، قرأها على الاصح. قلت: لو قرأ السورة، ثم قرأ الفاتحة، لم تحسب السورة، على المذهب

(1/353)


والمنصوص. وذكر إمام الحرمين، والشيخ نصر المقدسي في الاعتداد بها، وجهين. قال أصحابنا: والمرأة لا تجهر بالقراءة في موضع فيه رجال أجانب. فإن كانت خالية، أو عندها نساء، أو رجال محارم، جهرت.. وفي وجه: تسر مطلقا. وحيث قلنا: تسر، فجهرت، لا تبطل صلاتها على الصحيح. والخنثى، كالمرأة (1). وأما نوافل النهار المطلقة، فيسر فيها قطعا. وأما نوافل الليل، فقال صاحب (التتمة) يجهر. وقال القاضي حسين، وصاحب (التهذيب): يتوسط بين الجهر والاسرار (2)، وهو الاصح. ويستثنى ما إذا كان عنده مصلون، أو نيام يهوش عليهم، فيسر. ويستثنى التراويح، فيجهر فيها. والله أعلم. فصل (3): يستحب للقارئ في الصلاة، وخارجها، إذا مر بآية رحمة، أن يسأل الرحمة: أو بآية عذاب، أن يستعيذ منه. أو بآية تسبيح، أن يسبح. أو بآية مثل أن يتفكر. وإذا قرأ * (أليس الله بأحكم الحاكمين) * (4). قال: بلى، وأنا على ذلك من الشاهدين. وإذا قرأ * (فبأي حديث بعده يؤمنون) * (5). قال: آمنا بالله. والمأموم، يفعل ذلك لقراءة الامام على الصحيح. فصل في الركوع أقله، أن ينحني بحيث تنال راحتاه ركبتيه، ولو أراد

(1/354)


وضعهما عليهما، وهذا عند اعتدال الخلقة، وسلامة اليدين والركبتين. ولو انخنس، وأخرج ركبتيه، وهو مائل منتصب، وصار بحيث لو مد يديه لنالت راحتاه ركبتيه، لم يكن ذلك ركوعا، لان نيلهما لم يحصل بالانحناء. قال إمام الحرمين: ولو مزج الانحناء بهذه الهيئة المذكورة، وكان التمكن من وضع الراحتين على الركبتين بهما جميعا، لم يكن ركوعا أيضا. ثم إن لم يقدر على الانحناء إلى الحد المذكور إلا بمعين، أو باعتماد على شئ، أو بأن ينحني على شقه، لزمه ذلك، فإن لم يقدر، انحنى القدر الممكن، فإن عجز، أومأ بطرفه من (1) قيام. هذا بيان ركوع القائم، وأما ركوع القاعد، فقد تقدم بيان أقله، وأكمله في فصل القيام. وتجب الطمأنينة في الركوع. وأقلها: أن يصبر حتى تستقر أعضاؤه في هيئة الركوع، وينفصل هويه عن ارتفاعه منه. فلو جاوز حد أقل الركوع، فزاد في الهوي، ثم ارتفع، والحركات متصلة، لم تحصل الطمأنينة، ولا يقوم زيادة الهوي مقام الطمأنينة، ويشترط أن لا يقصد بهويه غير الركوع. فلو قرأ في صلاته آية سجدة، فهوى ليسجد للتلاوة، ثم بدا له بعد ما بلغ حد الراكعين أن يركع، لم يعتد بذلك عن الركوع، بل يجب عليه أن يعود إلى القيام، ثم يركع. وأما أكمل الركوع، فأمران. أحدهما: في الهيئة. والثاني: في الذكر. أما الهيئة: فأن ينحني بحيث يستوي ظهره، وعنقه ويمدهما كالصفيحة، وينصب ساقيه إلى الحقو، ولا يثني ركبتيه، ويضع يديه على ركبتيه، ويأخذهما بهما، ويفرق بين أصابعه حينئذ، ويوجهها نحو القبلة، فإن كانت إحدى يديه مقطوعة، أو عليلة، فعل بالاخرى ما ذكرنا، فإن لم يمكنه وضعهما على ركبتيه، أرسلهما. ويجافي الرجل مرفقيه عن جنبيه، ولا تجافي المرأة، ولا الخنثى. الامر الثاني: الذكر: فيستحب أن يكبر للركوع، ويبتدئ به في ابتداء الهوي. وهل يمد التكبير ؟ قولان. القديم: لا يمده، بل يحذفه. والجديد

(1/355)


الصحيح: يستحب مده إلى تمام الهوي، حتى لا يخلو جزء من صلاته عن ذكر. ويجري القولان في جميع تكبيرات الانتقالات، هل يمدها إلى الركن المنتقل إليه، أم لا ؟. ويستحب أن يرفع يديه إذا ابتدأ التكبير، وتقدمت صفة الرفع. ويستحب أن يقول في ركوعه: سبحان ربي العظيم، ثلاث مرات. قال بعضهم: ويضيف إليه: وبحمده (1). والافضل، أن يقول بعده: اللهم لك ركعت، وبك آمنت، ولك أسلمت، خشع (لك) سمعي، وبصري، ومخي، وعظمي، وعصبي، وشعري، وبشري، وما استقلت به قدمي لله رب العالمين (2). وهذا أتم الكمال. ثم الزيادة على ثلاث تسبيحات، إنما تستحب للمنفرد. وأما الامام، فلا يزيد على ثلاث. وقيل: خمس، إلا أن يرضى المأمومون بالتطويل، فيستوفي الكمال. وتكره قراءة القرآن في الركوع، والسجود. قلت: قال أصحابنا: يستحب أن لا يصل تكبيرة الركوع، بآخر السورة. بل يسكت بينهما سكتة لطيفة، ويبتدئ التكبير قائما مع ابتداء رفع اليدين. فإن ترك رفع اليدين حتى فرغ من التكبير، لم يرفعهما، وإن ذكر قبل فراغه، رفع، ولو كان أقطع الكفين، لم يبلغ بيديه ركبتيه، لئلا يغير هيئة الركوع. ذكره الماوردي، وغيره. قالوا: ويستحب رفع اليدين في تكبيرة الاحرام، والركوع، والرفع منه، لكل مصل قائم، وقاعد، ومضطجع، وموم. ونص عليه في (الام) قال أصحابنا: وأقل ما يحصل به الذكر في الركوع، تسبيحة واحدة. والله أعلم. فصل في الاعتدال عن الركوع: وهو ركن، لكنه غير مقصود لنفسه، والاعتدال الواجب: أن يعود بعد ركوعه إلى الهيئة التي كان عليها قبل الركوع، سواء صلى قائما، أو قاعدا (3). فلو ركع عن قيام، فسقط في ركوعه، نظر، إن لم

(1/356)


يطمئن في ركوعه، لزمه أن يعود إلى الركوع، ويطمئن، ثم يعتدل منه. وإن كان اطمأن، فيعتدل قائما ويسجد. ولو رفع الراكع رأسه، ثم سجد، وشك هل تم اعتداله ؟ وجب أن يعتدل قائما، ويعيد السجود. واعلم أنه تجب الطمأنينة في الاعتدال، كالركوع. وقال إمام الحرمين: في قلبي من الطمأنينة في الاعتدال شئ، وفي كلام غيره ما يقتضي ترددا فيها. والمعروف الصواب وجوبها. ويجب أن لا يقصد بارتفاعه شيئا آخر. فلو رأى في ركوعه حية، فرفع فزعا منها، لم يعتد به. ويجب أن لا يطول الاعتدال، فإن طوله، ففي بطلان صلاته خلاف يذكر في باب سجود السهو، إن شاء الله تعالى. ويستحب عند الاعتدال، رفع اليدين حذو المنكبين، على ما تقدم من صفة الرفع، ويكون ابتداء رفعهما، مع ابتداء رفع الرأس. فإذا اعتدل قائما، حطهما. ويستحب أن يقول في ارتفاعه للاعتدال: سمع الله لمن حمده. فإذا استوى قائما، قال: ربنا لك الحمد، أو: ربنا ولك الحمد مل ء السموات، ومل ء الارض، ومل ء ما شئت من شئ بعد. يستوي في استحباب هذين الذكرين، الامام، والمأموم، والمنفرد. ويستحب لغير الامام وله إذا رضي القوم أن يزيد، فيقول: أهل الثناء والمجد، حق ما قال العبد، كلنا لك عبد، لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد (1). ويكره للامام هذه الزيادة، إلا برضاهم. قلت: هكذا يقوله أصحابنا في كتب المذهب: حق ما قال العبد، كلنا لك عبد. والذي في (صحيح مسلم) وغيره من كتب الحديث، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كان يقول: أحق ما قال العبد، وكلنا لك عبد. بزيادة ألف في (أحق) وواو في (وكلنا) (2) وكلاهما حسن. لكن ما ثبت في الحديث، أولى. قال الشافعي والاصحاب رحمهم الله (3): ولو قال من حمد الله: سمع له،

(1/357)


بدل: سمع الله لمن حمده، أجزأه، ولكن الاولى: سمع الله لمن حمده. قال الشافعي والاصحاب: يقول في الرفع: ربنا لك الحمد. وإن شاء قال: اللهم ربنا لك الحمد، أو: لك الحمد ربنا. والاول: أولى. قال صاحب (الحاوي): يجهر الامام ب‍: سمع الله لمن حمده، ويسر ب‍: ربنا لك الحمد. ويسر المأموم بهما جميعا. ولو أتى بالركوع الواجب، فعرضت علة منعته الانتصاب، سجد من ركوعه، وسقط الاعتدال، لتعذره. فلو زالت العلة قبل بلوغ جبهته للارض، وجب أن يرتفع، وينتصب قائما، ويعتدل، ثم يسجد، وإن زالت بعد وضع جبهته على الارض، لم يرجع إلى الاعتدال، بل سقط عنه، فإن خالف، فعاد إليه قبل تمام سجوده، فإن كان عالما بتحريمه، بطلت صلاته، وإن كان جاهلا، لم تبطل. ويعود إلى السجود. قال صاحب (التتمة): ولو ترك الاعتدال عن الركوع، والسجود، في النافلة، ففي صحتها وجهان، بناء على صلاتها مضطجعا مع قدرته على القيام. والله أعلم. فصل في القنوت: وهو مستحب بعد الرفع من الركوع، في الركعة الثانية من الصبح. وكذلك الركعة الاخيرة من الوتر في النصف الاخير من شهر رمضان. ولفظه: (اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شر ما قضيت، فإنك تقضي، ولا يقضى عليه، وإنه لا يذل من واليت، تباركت ربنا وتعاليت) هذا هو المروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (1). وزاد العلماء فيه: (ولا يعز من عاديت) قبل (تباركت وتعاليت) وبعده: (فلك الحمد على ما قضيت، أستغفرك، وأتوب إليك). قلت: قال جمهور (2) أصحابنا: لا بأس بهذه الزيادة. وقال أبو حامد، والبندنيجي، وآخرون: مستحبة. واتفقوا على تغليط القاضي أبو الطيب، في إنكار (لا يعز من عاديت) وقد جاءت في رواية البيهقي (3). والله أعلم.

(1/358)


فإن كان إماما، لم يخص نفسه، بل يذكر بلفظ الجمع. وهل تسن الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - بعده ؟ وجهان. الاصح: تسن (1). وهل تتعين هذه الكلمات في القنوت ؟ وجهان. أحدهما: تتعين، ككلمات التشهد. والصحيح الذي قطع به الجماهير: لا تتعين. وعلى هذا، لو قنت بما جاء عن عمر (2) رضي الله عنه، كان حسنا (3). وحكي وجه عن أبي علي بن أبي هريرة (4): أنه لا يقنت في الصبح، وهذا غريب، وغلط. أما غير الصبح من الفرائض ففيها ثلاثة أقوال. المشهور:

(1/359)


أنه إن نزل - والعياذ بالله - بالمسلمين نازلة (1)، كالوباء والقحط، قنتوا. وإلا فلا، والثاني: يقنتون مطلقا. والثالث: لا يقنتون مطلقا (2). ثم مقتضى كلام الاكثرين، أن الكلام، والخلاف، في غير الصبح، إنما هو في الجواز. ومنهم من يشعر إيراده بالاستحباب. قلت: الاصح، استحبابه. وصرح به صاحب (العدة) ونقله نص الشافعي في (الاملاء). والله أعلم. ثم الامام في صلاة الصبح، هل يجهر بالقنوت ؟ وجهان. أصحهما: الجهر. والثاني: لا، كالتشهد، والدعوات وأما المنفرد، فيسر به قطعا. ذكره البغوي. وأما المأموم، فإن قلنا: لا يجهر الامام، قنت. وإن قلنا: يجهر، فالاصح أنه يؤمن، ولا يقنت. والثاني: يتخير بين التأمين، والقنوت. فعلى الاصح: هل يؤمن في الجميع ؟ وجهان. الاصح، يؤمن في القدر الذي هو دعاء. وأما الثناء، فيشاركه فيه، أو يسكت. والثاني: يؤمن في الجميع. فإن كان لا يسمع الامام لبعد، أو غيره وقلنا: لو سمع لامن، فهنا وجهان. أحدهما: يقنت، والثاني: يؤمن كالوجهين في قراءة السورة إذا لم يسمع الامام. وأما غير الصبح إذا قنت فيها، فالراجح أنها كلها كالصبح سرية كانت، أو جهرية. ومقتضى إيراده في (الوسيط) أنه يسر في السرية، وفي الجهرية الخلاف. وهل يسن رفع اليدين في القنوت، ومسح الوجه بهما إذا فرغ ؟ فيه أوجه. أصحها: يستحب الرفع، دون المسح (3). والثاني: يستحبان. والثالث: لا يستحبان. قلت: لا يستحب مسح غير وجهه قطعا. بل نص جماعة على كراهته. ولو

(1/360)


قنت بآية من القرآن ينوي بها القنوت. وقلنا: لا يتعين له لفظ، فإن تضمنت الآية دعاء، أو شبهه، كان قنوتا. وإن لم تتضمنه كآية الدين، و (تبت) فوجهان. حكاهما في (الحاوي) الصحيح: لا يكون قنوتا. ولو قنت قبل الركوع، فإن كان مالكيا يرى ذلك، أجزأه. وإن كان شافعيا لا يراه، لم يحسب على الصحيح، بل يعيده بعد الرفع من الركوع. وهل يسجد للسهو ؟ وجهان. الاصح المنصوص في (الام): يسجد. والله أعلم. فصل في السجود (1): وهو ركن، وله أقل، وأكمل. أما أقله، ففيه مسائل. إحداها: يجب أن يضع على الارض من الجبهة، ما يقع عليه الاسم. وفي وجه: لا يكفي بعض الجبهة. وهو شاذ منكر. ولا يجزئ عن الجبهة، الجبينان، وهما جانبا الجبهة. والصحيح، أنه لا يكفي في وضع الجبهة الامساس، بل يجب أن يتحامل على موضع سجوده بثقل رأسه وعنقه، حتى تستقر جبهته. فلو سجد على قطن، أو حشيش، أو شئ محشو بهما، وجب أن يتحامل حتى ينكبس، ويظهر أثره على يد لو فرضت تحت ذلك المحشو، فإن لم يفعل، لم يجزئه. وقال إمام الحرمين: عندي أنه يكفي إرخاء رأسه، ولا يقله. ولا حاجة إلى التحامل كيف فرض محل السجود. وهل يجب وضع اليدين والركبتين والقدمين على موضع السجود ؟ قولان. أظهرهما: لا يجب (2). فإن أوجبناه، كفى وضع جزء من كل واحد منها. والاعتبار في اليد، بباطن الكف، وفي الرجلين، ببطون الاصابع. وإن قلنا: لا يجب، اعتمد على ما شاء منهما، ويرفع ما شاء. ولا يمكنه أن يسجد

(1/361)


مع رفع الجميع. هذا هو الغالب، أو المقطوع به. قلت: الاظهر: وجوب الوضع. قال الشيخ أبو حامد في تعليقه: إذا قلنا: لا يجب وضعها، فلو أمكنه أن يسجد على الجبهة وحدها، أجزأه، وكذا قال صاحب (العدة): لو لم يضع شيئا منها، أجزأه. ومن صور رفعها كلها إذا رفع الركبتين، والقدمين، ووضع ظهر الكفين، أو حرفهما، فإنه في حكم رفعهما. والله أعلم. ولا يجب وضع الانف على الارض. قلت: وحكى صاحب (البيان) قولا غريبا أنه يجب وضع الانف مع الجبهة مكشوفا. والله أعلم. ويجب أن يكشف من الجبهة ما يقع عليه الاسم، فيباشر به موضع السجود. وإنما يحصل الكشف إذا لم يحل بينه وبين موضع السجود حائل متصل به يرتفع بارتفاعه، فلو سجد على طرف عمامته، أو ذيله المتحرك بحركته، لم يصح. وإن لم يتحرك بحركته قياما وقعودا، أجزأه. قلت: لو كان على جبهته جراحة، فعصبها، وسجد على العصابة، أجزأه، ولا إعادة عليه على المذهب. لانه إذا سقطت الاعادة مع الايماء للعذر، فهنا أولى. والله أعلم. وإذا أوجبنا وضع الركبتين والقدمين، لم يجب كشفهما قطعا، وإذا أوجبنا وضع الكفين، لم يجب كشفهما أيضا على الاظهر. فإذا أوجبناه، كفى كشف بعض من كل واحد منهما. المسألة الثانية: إذا وضع الجبهة، وسائر الاعضاء على الارض، فله ثلاث صور. إحداها: أن يكون أعاليه أعلى من أسافله (1)، بأن يضع رأسه على ارتفاع،

(1/362)


فيصير رأسه أعلى من حقوه، فلا يجزئه، لعدم اسم السجود، كما لو أكب، ومد رجليه، الثاني: أن تكون الاسافل أعلى من الاعالي (1)، فهذه هيئة التنكيس، وهي المطلوبة، ومهما كان المكان مستويا، كان الحقو أعلى. ولو كان موضع الرأس مرتفعا، قليلا، فقد ترتفع أسافله، وتحصل هذه الهيئة أيضا. الثالثة: أن تتساوى أعاليه وأسافله، لارتفاع موضع الجبهة، وعدم رفعه الاسافل، فالاصح: أنها لا تجزئ. وإذا تعذرت الهيئة المطلوبة لمرض، أو غيره، فهل يلزمه وضع وسادة ونحوها، ليضع الجبهة عليها، أم يكفي إنهاء الرأس إلى الحد الممكن من غير وضع الجبهة على شئ ؟ وجهان. أصحهما: عند الغزالي: الوجوب. والاشبه بكلام الاكثرين: الاكتفاء بإنهاء الرأس. ولو عجز عن وضع الجبهة على الارض، وقدر على وضعها، على وسادة مع النكس، لزمه ذلك بلا خلاف. ولو عجز عن الانحناء، أشار بالرأس، ثم بالطرف، على ما تقدم نظيره. المسألة الثالثة: تجب الطمأنينة في السجود، ويجب أن لا يقصد بهويه غير السجود، فلو سقط إلى الارض من الاعتدال قبل قصد الهوي، لم يحسب، بل يعود إلى الاعتدال، ويسجد منه. ولو هوى ليسجد، فسقط على الارض بجبهته، نظر، إن وضع جبهته على الارض بنية الاعتماد، لم يحسب عن السجود، وإن لم تحدث هذه النية، حسب. ولو هوى ليسجد، فسقط على جنبه، فانقلب وأتى بصورة السجود، فإن قصد السجود، اعتد به، وإن قصد الاستقامة، لم يعتد به.

(1/363)


قلت: إذا قصد الاستقامة، له حالان. أحدهما: أن يقصدها، قاصدا صرف ذلك عن السجود، فلا يجزئه قطعا، وتبطل صلاته، لانه زاد فعلا لا يزاد مثله في الصلاة عامدا. قاله إمام الحرمين، وغيره. والثاني: أن يقصد الاستقامة، ولا يقصد صرفه عن السجود، بل يغفل عنه، فلا يجزئه أيضا على الصحيح المنصوص، ولكن لا تبطل صلاته، بل يكفيه أن يعتدل جالسا، ثم يسجد. ولا يلزمه أن يقوم ليسجد من قيام على الظاهر، فلو قام، كان زائدا قياما متعمدا، فتبطل صلاته. هذا بيان الحالتين. ولو لم يقصد السجود، ولا الاستقامة، أجزأه ذلك عن السجود قطعا. والعجب من الامام الرافعي، في كونه ترك استيفاء هذه الزيادة التي ألحقتها. والله أعلم. فرع: وأما أكمل السجود، فالسنة أن يكون أول ما يقع على الارض من الساجد ركبتيه، ثم يديه، ثم أنفه، وجبهته، ويبتدئ التكبير، مع ابتداء الهوي، وهل يمده، أو يحذفه ؟ فيه القولان المتقدمان. ولا يرفع اليد مع التكبير هنا. ويستحب أن يقول في سجوده: (سبحان ربي الاعلى) ثلاثا وهذا أدنى الكمال. والافضل أن يقول بعده: (اللهم لك سجدت، وبك آمنت، ولك أسلمت، سجد وجهي للذي خلقه وصوره، وشق سمعه وبصره، بحوله وقوته، تبارك الله أحسن الخالقين) (1) والامام يقتصر على التسبيح، إلا أن يرضوا. ويستحب للمفرد، أن يجتهد في الدعاء في سجوده، وأن يضع كل ساجد، الانف مع الجبهة مكشوفا، وأن يفرق بين ركبتيه. ويرفع الرجل مرفقيه عن جنبيه، وبطنه عن فخذيه، والمرأة تضم بعها إلى بعض. وأن يضع الساجد يديه على الارض، بإزالة منكبيه، وأصابعه ملتصق بعضها إلى بعض، مستطيلة إلى جهة القبلة، وسنة أصابع اليدين، إذا كانت منشورة في جميع الصلاة، التفريج المقتصد، إلا في حالة السجود، فإنه يلصقها. قلت: وإلا في التشهد، فإن الصحيح: أن أصابع اليسرى، تكون كهيئاتها في السجود. وكذا أصابعهما في الجلوس بين السجدتين. والله أعلم.

(1/364)


ويرفع الساجد ذراعيه عن الارض، ولا يفترشهما، وينصب القدمين، ويوجه أصابعهما إلى القبلة، وإنما يحصل توجيهها، بالتحامل عليها، والاعتماد على بطونها. وقال في (النهاية) الذي صححه الائمة: أن يضع أطراف الاصابع على الارض من غير تحامل. والاول: أصح. قلت: قال أصحابنا: ويستحب أن يفرق بين القدمين. قال القاضي أبو الطيب: قال أصحابنا: يكون بينهما شبر. ويستحب أن يقول في سجوده: (سبوح، قدوس رب الملائكة والروح) (1) وأن يبرز قدميه من ذيله في السجود، ويكشفهما إذا لم يكن عليهما خف. ويكره أن يجمع في سجود، أو غيره من أحوال الصلاة، شعره، أو ثيابه، لغير حاجة. والله أعلم. فصل: فإذا فرغ من السجود، رفع فاعتدل جالسا بين السجدتين. وهذا الاعتدال، واجب. ويجب الطمأنينة فيه، ويجب أن لا يقصد بالرفع شيئا آخر. وينبغي أن لا يطول الجلوس، ويستحب أن يرفع رأسه مكبرا. والسنة: أن يجلس مفترشا، على المشهور. وفي قول شاذ ضعيف: يضجع قدميه، ويجلس على صدورهما. ويستحب أن يضع يديه على فخذيه، قريبا من ركبتيه، منشورتي الاصابع. ولو انعطفت أطرافها على الركبة، فلا بأس. ولو تركهما على الارض من جانبي فخذيه، كان كإرسالهما في القيام. ويستحب أن يقول في جلوسه: (اللهم اغفر لي، وارحمني واجبرني، وعافني، وارزقني، واهدني) (2). فصل: ثم يسجد السجدة الثانية، مثل الاولى، في واجباتها (3)، ومندوباتها. وإذا رفع من السجدة الثانية، كبر. فإن كانت سجدة لا يعقبها تشهد، فالمذهب: أنه يسن أن يجلس عقبها جلسة لطيفة، تسمى: جلسة الاستراحة. وفي قول: لا تسن هذه الجلسة، بل يقوم من السجود. وقيل: إن كان بالمصلي

(1/365)


ضعف لكبر، أو غيره، جلس، وإلا فلا. فإن قلنا: لا يجلس، ابتدأ التكبير مع ابتداء الرفع، وفرغ منه مع استوائه قائما. وإن قلنا: يجلس، ففي التكبير، أوجه. أصحها عند جمهور الاصحاب: أنه يرفع مكبرا، ويمده إلى أن يستوي قائما. ويخفف الجلسة حتى لا يخلو جزء من صلاته عن ذكر. والثاني: يرفع غير مكبر، ويبتدئ بالتكبير جالسا، ويمده إلى أن يقوم. والثالث: يرفع مكبرا، وإذا جلس، قطعه، وقام بلا تكبير. ولا يجمع بين تكبيرتين، بلا خلاف. والسنة في هذه الجلسة: الافتراش. وسواء قام من الجلسة، أو من السجدة، يسن أن يقوم معتمدا بيديه من الارض. قلت: اختلف أصحابنا في جلسة الاستراحة على وجهين. الصحيح: أنها جلسة مستقلة يفصل بين الركعتين كالتشهد. والثاني: أنها من الركعة الثانية. قال القاضي أبو الطيب، وغيره: يكره أن يقدم إحدى رجليه حال القيام، ويعتمد عليها. والله أعلم. فصل في التشهد (1) والجلوس له: هما ضربان. أحدهما: أن يقعا في آخر الصلاة. وهما فرضان. والثاني: في أثنائها، وهما سنتان، ثم لا يتعين للقعود هيئة للاجزاء، بل كيف قعد، أجزأه. لكن السنة في قعود آخر الصلاة، التورك. وفي أثنائها، الافتراش. والافتراش: أن يضع رجله اليسرى، بحيث يلي ظهرها الارض، ويجلس عليها، وينصب اليمنى، ويضع أطراف أصابعها على الارض متوجهة إلى القبلة. والتورك: أن يخرج رجليه وهما على هيئة الافتراش، من جهة يمينه، ويمكن وركه من الارض. وإذا جلس المسبوق في آخر صلاة الامام، فثلاثة أوجه. الصحيح (2) المنصوص الذي قطع به الجماهير: يفترش. والثاني: يتورك. والثالث: إن كان جلوسه محل تشهد للمسبوق، افترش، وإلا تورك، لان جلوسه بمجرد المتابعة، فيتابع في الهيئة. وإذا جلس من عليه سجود سهو في آخر صلاته، افترش على الصحيح، وتورك على الثاني. والسنة في التشهدين جميعا: أن يضع يده اليسرى، على فخذه اليسرى، واليمنى، على فخذه اليمنى، وينشر أصابع

(1/366)


اليسرى، ويجعلها قريبة من طرف الركبة، بحيث يساوي رؤوسها الركبة. وهل يفرجها، أو يضمها ؟ وجهان. الاشهر: يفرج تفريجا مقتصدا، ولا يؤمر بالتفريج الفاحش في موضع ما. والثاني: يضمها ليتوجه إلى القبلة. قلت: هذا الثاني، أصح (1). وقد نقل الشيخ أبو حامد في تعليقه اتفاق الاصحاب عليه. والله أعلم. وأما اليد اليمنى، فيضعها على طرف الركبة اليمنى، ويقبض خنصرها، وبنصرها، ويرسل المسبحة. (2) وفيما يفعل بالابهام والوسطى ثلاثة أقوال. أحدها: يقبض الوسطى مع الخنصر والبنصر، ويرسل الابهام (3) مع المسبحة. والثاني: يحلق بين الابهام والوسطى. وفي كيفية التحليق، وجهان. أصحهما: يحلق بينهما برأسيهما. والثاني: يضع أنملة الوسطى بين عقدتي الابهام. والقول الثالث، وهو الاظهر: أنه يقبضهما أيضا. وفي كيفية وضع الابهام على هذا، وجهان. أصحهما: يضعها بجنب المسبحة، كأنه عاقد ثلاثة وخمسين. والثاني: يضعها على أصبعه الوسطى، كأنه عاقد ثلاثة وعشرين. وكيف فعل من هذه الهيئات، فقد أتى بالسنة. قاله ابن الصباغ، وغيره: وعلى الاقوال كلها، يستحب أن يرفع مسبحته في كلمة الشهادة، إذا بلغ همزة: (إلا الله) وهل يحركها عند الرفع ؟ وجهان. الاصح: لا يحركها. ولنا وجه شاذ: أنه يشير بها في جميع التشهد. قلت: وإذا قلنا بالاصح: إنه لا يحركها فحركها، لم تبطل صلاته على الصحيح. وتكره الاشارة بمسبحة اليسرى، حتى لو كان أقطع اليمنى، لم يشر

(1/367)


بمسبحة اليسرى، لان سنتها، البسط دائما. والله أعلم. فرع: التشهد الذي يعقبه السلام، واجب، كما تقدم (1)، وتجب فيه الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -. وفي الصلاة على آل النبي - صلى الله عليه وسلم - قولان. وقيل: وجهان. الصحيح المشهور: أنها سنة والثاني: واجبة. وهل تسن الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - في التشهد الاول ؟ قولان. أظهرهما: تسن وأما الصلاة على الآل فيه، فإن لم نوجبها في التشهد الاخير لم تسن وإلا، فعلى القولين في الصلاة على آل النبي - صلى الله عليه وسلم -. وإذا قلنا: لا تسن الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - في الاول، ولا في القنوت، فأتى بها في أحدهما، أو أوجبنا الصلاة على الآل في الاخيرة، ولم نسنها في الاول، فأتى بها فيه، فقد نقل ركنا إلى غير موضعه. وفي بطلان الصلاة بذلك، كلام يأتي في باب سجود السهو، إن شاء الله تعالى. وآل النبي - صلى الله عليه وسلم -: بنو هاشم، وبنو المطلب. نص عليه الشافعي رحمه الله (2). وفي وجه: أنهم كل المسلمين. فرع في أكمل التشهد، وأقله أما أكمله، فما رواه ابن عباس رضي الله عنهما (التحيات، المباركات، الصلوات، الطيبات لله، سلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، سلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله. هكذا رواه الشافعي (3)، ورواه غيره (4) (السلام عليك أيها النبي السلام علينا، وعلى عباد الله الصالحين) بالالف واللام. ولو تشهد بما رواه ابن مسعود (5)، أو (6) بتشهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه (7)، جاز. لكن

(1/368)


الاول أفضل. وتشهد ابن مسعود (التحيات لله، والصلوات، والطيبات، السلام عليك...) وذكره كما تقدم. إلا أن في آخره (وأشهد أن محمدا عبده ورسوله). وتشهد عمر (التحيات لله، الزاكيات لله، الطيبات لله، الصلوات لله، السلام عليك... وذكره كابن مسعود. ولنا وجه: أن الافضل: أن يقول: (التحيات المباركات الزاكيات، والصلوات والطيبات لله، السلام عليك....) ذكره ليكون جامعا لها كلها. وقال جماعة من أصحابنا: يستحب أن يقول قبل التحيات: (باسم الله، وبالله، التحيات لله). ويروى (بسم الله خير الاسماء) والصحيح الذي عليه جماهيرهم: أنه لا يقدم التسمية. وأما أقله، فنص الشافعي رحمه الله، وأكثر الاصحاب (1)، أنه: (التحيات لله، سلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، سلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسوله). هكذا نقله العراقيون (2)، والروياني، وكذا نقله البغوي. إلا أنه قال: (وأشهد أن محمدا رسوله). ونقله ابن كج، والصيدلاني، وأسقطا كلمة: (وبركاته) وقالا: (وأشهد أن محمدا رسول الله). وقال ابن سريج رحمه الله: أقله: (التحيات لله، سلام عليك أيها النبي، سلام على عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسوله). وأسقط بعضهم: السلام الثاني. وقال بعضهم: (سلام عليك أيها النبي، وعلى عباد الله الصالحين). وأسقط بعضهم: (الصالحين). وقال بعضهم:

(1/369)


واختاره الحليمي (1). قلت: وروي: (سلام عليك) و (سلام علينا) وروي: (السلام) بالالف واللام فيهما، وهذا أكثر في روايات الحديث، وفي كلام الشافعي: واتفق أصحابنا على جواز الامرين هنا، بخلاف سلام التحلل. قالوا: والافضل هنا، الالف واللام، لكثرته، وزيادته، وموافقته سلام التحلل. والله أعلم. فرع: أقل الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -، أن يقول: (اللهم صل على محمد) أو (صلى الله على محمد) أو (صلى الله على رسوله). وفي وجه: يكفي (صلى الله عليه (2)). وأقل الصلاة على الآل: أن يقول: (وآله) وأكملها أن يقول: (اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد، وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد). ويستحب الدعاء بعد ذلك. وله أن يدعو بما شاء من أمر الدنيا، والآخرة، وأمور الآخرة أفضل. وعن الشيخ أبي محمد: أنه كان يتردد في مثل: اللهم ارزقني جارية صفتها كذا، ويميل إلى المنع، وأنه يبطل الصلاة. والصواب الذي عليه الجماهير جواز الجميع. لكن ما ورد في الاخبار أحب من غيره. ومنه: (اللهم اغفر لي ما قدمت، وما أخرت، وما أسررت، وما أعلنت وما أسرفت - وفيه أيضا (وما أعلنت) مقدم على (ما أسررت) - وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم، وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت). وأيضا: (اللهم (إني) أعوذ بك من عذاب النار، وعذاب القبر، وفتنة المحيا، والممات، وفتنة المسيح الدجال) (3). وأيضا: (اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم). وأيضا: (اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا، لا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من

(1/370)


عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم) (1). ثم الصحيح الذي عليه الجمهور، أن الدعاء مستحب للامام، وغيره. لكن الافضل، أن يكون الدعاء أقل من التشهد والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -، لانه تبع لهما. فإن زاد، لم يضر. إلا أن يكون إماما، فيكره التطويل. والوجه الثاني: المستحب للامام، أن لا يدعو، ويستحب للمنفرد الدعاء. ولا بأس بتطويله، هذا كله في التشهد الاخير. أما الاول: فيكره فيه الدعاء، بل لا يزيد على لفظ التشهد، إلا الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قلنا: هي سنة فيه، وعلى الآل على وجه. قلت: إطالة التشهد الاول مكروهة، كما ذكر. فلو طوله، لم تبطل صلاته، ولم يسجد للسهو، سواء طوله عمدا، أم سهوا. والله أعلم. فرع: لا يجوز لمن عرف التشهد بالعربية، أن يعدل إلى ترجمته، فإن عجز، أتى بترجمته. والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعلى الآل، إذا أوجبناها، كالتشهد. وأما ما عدا الواجبات من الالفاظ المشروعة في الصلاة، إذا عجز عنها بالعربية، فقسمان. دعاء، وغيره. فأما الدعاء المأثور، ففيه ثلاثة أوجه. أصحها: تجوز الترجمة عنه لمن لا يحسن العربية، ولا يجوز لمن يحسنها، فإن ترجم، بطلت صلاته. والثاني: يجوز لمن أحسنها، ولغيره. والثالث: لا يجوز لواحد منهما. ولا يجوز أن يخترع دعوة بالعجمية يدعو بها قطعا. وأما سائر الاذكار، كالتشهد الاول، والقنوت، وتكبيرات الانتقالات، والتسبيحات، فأوجه. أحدها: يجوز أن يأتي بترجمتها العاجز. والثاني: لا يجوز. والثالث: يترجم لما يجبر بالسجود، دون غيره. قلت: الاصح: الجواز للعاجز، ومنعه في القادر. ثم إذا قام من التشهد الاول، قام مكبرا. وهل يمده ؟ فيه القولان السابقان في فصل الركوع. ثم قال جمهور أصحابنا: لا يرفع يديه في هذا القيام. ولنا وجه: أنه يستحب رفع اليدين

(1/371)


فيه، كما يستحب في الركوع، والرفع منه. وحكاه صاحب (المهذب) وغيره عن أبي بكر بن المنذر (1)، وأبي علي الطبري. وهذا الوجه، هو الصحيح، أو الصواب. فقد ثبت ذلك في صحيح البخاري) (2) وغيره، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونص عليه الشافعي رحمه الله. وقد أطنبت في إيضاحه في شرح (المهذب) (3). واعلم أن في الصلاة الرباعية، اثنتين وعشرين تكبيرة. وفي الثلاثية، سبع عشرة. وفي الثنائية، إحدى عشرة. والله أعلم. فصل في السلام (4): قد تقدم أنه ركن. وأقله: السلام عليكم. ولو قال: سلام علكم، بالتنوين، أجزأه على الاصح. قلت: الاصح عند الجمهور: لا يجزئه وهو المنصوص. والله أعلم. ولو قال: عليكم السلام، أجزأه على المذهب. ولا يجزئ: سلام عليك، ولا: سلامي عليكم، ولا: سلام الله عليكم، ولا: سلام عليهم. وإن قال شيئا من ذلك متعمدا، بطلت صلاته. إلا قوله: السلام عليهم. لانه دعاء لغائب. وهل يجب أن ينوي بسلامه الخروج من الصلاة ؟ وجهان. أصحهما: لا يجب (5). فإن قلنا: يجب، لم يجب تعيين الصلاة في نية الخروج، ولو عين غير ما هو فيه عمدا، بطلت صلاته، وإن كان سهوا، سجد للسهو، وسلم ثانيا. وإذا قلنا: لا

(1/372)


تجب نية الخروج، لا يضر الخطأ في التعيين. وإذا قلنا: يجب، فيجب أن ينوي مقترنا بالتسليمة الاولى، فإن قدمها على السلام، أو سلم بلا نية، بطلت صلاته. ولو نوى قبل السلام الخروج عنده، لم تبطل صلاته، لكن لا يكفيه، بل تجب النية مع السلام. ويجب على المصلي، أن يوقع السلام في حالة القعود. أما أكمل السلام، فأن يقول: السلام عليكم ورحمة الله. ويسن تسليمه ثانية، على المشهور (1). وفي قول قديم: لا يزيد على واحدة. وفي قول قديم آخر: يسلم غير الامام واحدة. وكذا الامام إن قل القوم. ولا لغط عندهم، وإلا، فتسليمتين. فإذا قلنا: يسلم واحدة، جعلها تلقاء وجهه. وإن قلنا: تسليمتين، فاحداهما عن يمينه، والاخرى عن يساره. ويبتدئ بالسلام مستقبل القبلة، ثم يلتفت بحيث ينقضي (2) السلام مع تمام الالتفات، ويلتفت حتى يرى من كل جانب خده الواحد، على الصحيح. وقيل: خداه. ويستحب للامام، أن ينوي بالتسليمة الاولى، السلام على من على يمينه من الملائكة، ومسلمي الجن، والانس. وبالثانية، من على يساره منهم. وينوي المأموم مثل ذلك. ويختص بشئ آخر، وهو أنه إن كان عن يمين الامام، نوى بالتسليمة الثانية، الرد على الامام، وإن كان عن يساره ينويه بالاولى. وإن كان محاذيا له، نواه بأيتهما شاء، وبالاولى أفضل. ويستحب أن ينوي بعض المأمومين، الرد على بعض. وأما المنفرد، فينوي بهما السلام، على من على جانبيه من الملائكة، ويستحب لكل منهم، أن ينوي بالتسليمة الاولى، الخروج من الصلاة، إذا لم نوجبها. قلت: السنة: أن يكثر من ذكر الله تعالى عقب الصلاة، وقد جاءت في بيان ما يستحب من الذكر، أحاديث كثيرة صحيحة (3). أوضحتها في كتاب (الاذكار)

(1/373)


ويسن الدعاء بعد السلام سرا (1)، إلا أن يكون إماما يريد تعليم الحاضرين الدعاء، فيجهر. قال أصحابنا ويستحب إذا أراد أن يتنفل عقب الفريضة، أن ينتقل إلى بيته، فإن لم يكن، فإلى موضع آخر (2). ويستحب إذا كان يصلي وراءه نساء، أن يمكث في مصلاه حتى ينصرفن. وإذا أراد الانصراف، فإن كان له حاجة عن يمينه، أو عن يساره، انصرف إلى جهة حاجته، وإن لم يكن حاجة، فجهة اليمين أفضل. وإذا سلم الامام التسليمة الاولى، فقد انقطعت متابعة المأموم، وهو بالخيار، إن شاء سلم في الحال، وإن شاء استدام الجلوس للتعوذ، والدعاء، وأطال ذلك. ولو اقتصر الامام على تسليمة، استحب للمأموم تسليمتان. ويستحب للمصلي، الخشوع في صلاته، وأن يديم نظره إلى موضع سجوده (3). قال بعض أصحابنا: يكره له تغميض عينيه. والمختار: أنه لا يكره إن لم يخف ضررا. وينبغي أن يدخل فيها بنشاط، وفراغ قلبه من الشواغل. والله أعلم.

(1/374)


فصل: من فاتته صلاة فريضة، وجب قضاؤها، وينبغي أن يقضيها على الفور، فإن أخرها، ففيه كلام نذكره في الحج، إن شاء الله تعالى. فإن قضى فائتة الليل بالليل، جهر، وإن قضى فائتة النهار بالنهار، أسر، وإن قضى فائتة النهار ليلا، أو عكس، فالاعتبار بوقت القضاء على الاصح. وعلى الثاني، بوقت الفوائت. قلت: صلاة الصبح، وإن كانت نهارية، فهي في القضاء جهرية، ولوقتها، حكم الليل (1) في الجهر، وإطلاقهم محمول على هذا. والله أعلم. ويستحب في قضاء الصلوات، الترتيب. ولا يجب في قضائها، ولا بين فريضة الوقت، والمقضية. فإن دخل وقت فريضة وتذكر فائتة، فإن اتسع وقت الحاضرة، استحب البداءة بالفائتة، وإن ضاق، وجب تقديم الحاضرة. ولو تذكر الفائتة بعد شروعه في الحاضرة، أتمها، ضاق الوقت، أم اتسع، ثم يقضي الفائتة. ويستحب أن يعيد الحاضرة بعدها. قلت: ولو شرع في الفائتة معتقدا أن في الوقت سعة، فبان ضيقه، وجب قطعها والشروع في الحاضرة على الصحيح، وعلى الشاذ: يجب إتمام الفائتة. ولو

(1/375)


تذكر فائتة وهناك جماعة يصلون في الحاضرة، والوقت متسع، فالاولى أن يصلي الفائتة أولا منفردا، لان الترتيب مختلف في وجوبه، والقضاء خلف الاداء مختلف في جوازه، فاستحب الخروج من الخلاف. ولو فاته صلوات لا يعرف قدرها، ويعلم أنها لا تنقص عن عشر صلوات، ولا تزيد على عشرين، فوجهان. أحدهما: يلزمه العشر. وأصحهما: العشرون. واعلم أن الصلاة تشتمل على فرائض، وسنن، كما سبق. ولها شروط سيأتي بيانها في بابها، إن شاء الله تعالى. قال صاحب (التهذيب): شروط الصلاة قبل الشروع فيها، خمسة: الطهارة عن الحدث والنجس، وستر العورة، واستقبال القبلة، والعلم بدخول الوقت يقينا أو ظنا، بالاجتهاد ونحوه. والخامس: العلم بفرضية الصلاة ومعرفة أعمالها. قال: فإن جهل فرضية أصل الصلاة، أو علم أن بعض الصلوات فريضة، لكن لم يعلم فرضية الصلاة التي شرع فيها، لم تصح صلاته. وكذا إذا لم يعرف فرضية الوضوء. أما إذا علم فرضية الصلاة، ولم يعلم أركانها، فله ثلاثة أحوال. أحدها: أن يعتقد جميع أفعالها سنة. والثاني: أن يعتقد بعضها فرضا، وبعضها سنة، ولا يعرف تمييزها، فلا تصح صلاته قطعا. صرح به القاضي حسين، وصاحب (التتمة) و (التهذيب). الثالث: أن يعتقد جميع أفعالها فرضا، فوجهان حكاهما القاضي حسين، وصاحب (التهذيب) أحدهما: لا تصح صلاته، لانه ترك معرفة ذلك، وهي واجبة وأصحهما: تصح. وبه قطع صاحب (التتمة) لانه ليس فيه أكثر من أنه أدى سنة باعتقاد الفرض، وذلك لا يؤثر. قال في (التهذيب): فإن لم نصحح صلاته، ففي صحة وضوئه في هذه الصورة، وجهان. هكذا ذكروا هذه المسائل، ولم يفرقوا بين العامي وغيره. وقال الغزالي في (الفتاوى): العامي الذي لا يميز فرائض صلاته من سننها، تصح صلاته بشرط أن لا يقصد التنفل بما هو فرض. فإن نوى التنفل به، لم يعتد به، فإذا غفل عن التفصيل، فنية الجملة في الابتداء كافية. هذا كلام الغزالي، وهو الظاهر الذي يقتضيه ظواهر أحوال الصحابة رضي الله عنهم، فمن بعدهم. ولم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه ألزم الاعراب ذلك، ولا أمر بإعادة صلاة من لا يعلم هذا. والله أعلم.

(1/376)


الباب الخامس في شروط (1) الصلاة والمنهي عنه فيها وشروطها ثمانية (2). أحدها: استقبال القبلة. والثاني: العلم بدخول الوقت أو ظنه. وقد تقدم ذكرهما في بابيهما. الثالث: طهارة الحدث. وتقدم في كتاب (الطهارة) بيان حصولها. فلو لم يكن متطهرا عند إحرامه لم تنعقد صلاته، عامدا كان، أو ساهيا. وإن أحرم متطهرا، ثم أحدث باختياره، بطلت صلاته، عمدا كان حدثه، أو سهوا، علم بالصلاة، أم نسيها. وإن أحدث بغير اختياره، بأن سبقه الحدث، بطلت طهاراته بلا خلاف (3)، وبطلت صلاته أيضا على المشهور الجديد، ولا تبطل على القديم، سواء كان الحدث أصغر، أو أكبر، بل يتطهر، ويبني على صلاته. فإن كان حدثه في الركوع مثلا، فقال الصيدلاني: يجب أن يعود إلى الركوع. وقال إمام الحرمين: إن لم يكن اطمأن، وجب العود إلى الركوع. وإن كان اطمأن، فالظاهر: أنه لا يعود إليه. ثم إذا ذهب من سبقه الحدث ليتوضأ ويبني، لزمه أن يسعى في تقريب الزمان، وتقليل الافعال بحسب الامكان، وليس له بعد تطهره أن يعود إلى الموضع الذي كان فيه، إن قدر على الصلاة في أقرب منه، إلا أن يكون إماما لم يستخلف، أو مأموما يقصد فضيلة الجماعة، فلهما العود. وما لا يستغنى عنه من الذهاب إلى الماء واستقائه ونحوه، فلا بأس به. ولا يشترط فيه العدو، والبدار الخارج عن الاقتصاد. ويشترط أن لا يتكلم إلا إذا احتاج إليه في تحصيل الماء، ولو أخرج تمام الحدث الاول متعمدا، لم يمنع البناء على المنصوص في

(1/377)


القديم، وبه قطع الجمهور. وقال إمام الحرمين، والغزالي: يمنع، ولو أحدث حدثا آخر، ففي منعه البناء، وجهان. هذا كله تفريع القديم، هذا كله في صاحب (طهارة الرفاهية). أما المستحاضة ومن في معناها، فلا يضر حدثها المقارن ولا الحادث على تفصيله السابق. فرع: ما سوى الحدث من الاسباب المناقضة للصلاة، إذا طرأ فيها، أبطلها قطعا إن كان باختياره، أو بغير اختياره، إذا نسب فيه إلى تقصير، كمن مسح خفه، فانقضت مدته في الصلاة، أو دخل فيها وهو يدافع الحدث، ويعلم أنه لا يقدر على التماسك إلى فراغها. ولو تخرق خف الماسح، فالاصح: أنه على قولي سبق الحدث. وقيل: تبطل قطعا. أما إذا طرأ مناقض، لا باختياره، ولا بتقصيرة، فإن أزاله في الحال، كمن انكشفت عورته، فسترها في الحال، أو وقعت عليه نجاسة يابسة، فنفضها في الحال، أو ألقى الثوب الذي وقعت عليه في الحال، فصلاته صحيحة. وإن نحاها بيده، أو كمه، بطلت صلاته. وإن احتاج في إزالته إلى زمن، بأن ينجس ثوبه، أو بدنه نجاسة يجب غسلها. أو أبعدت الريح ثوبه، فعلى قولي سبق الحدث. ولو خرج من جرحه دم متدفق، ولم يلوث بشرته، لم تبطل صلاته. الشرط الرابع: طهارة النجس. النجاسة قسمان. واقعة في مظنة العفو، وغيرها. أما الواقعة في غير مظنة العفو، فيجب الاحتراز منها في الثوب، والبدن، والمكان (1). فإن أصاب ثوبه نجاسة وعرف موضعها، فطريق إزالتها، الغسل كما سبق. فلو قطع موضعها، أجزأه. ويلزمه ذلك إذا تعذر الغسل، وأمكن ستر العورة بالظاهر منه، ولم ينقص من قيمته بالقطع أكثر من أجرة الثوب. فإن (2) لم يعرف موضع النجاسة من البدن، أو الثوب، واحتمل وجودها في كل جزء، وجب غسل

(1/378)


الجميع، ولا يجزئه التحري. فلو شق الثوب نصفين، لم يجزئ التحري فيهما. ولو أصاب شئ رطب طرفا من هذا الثوب، لم ينجس الرطب، لانا لا نتيقن نجاسة موضع الاصابة. ولو غسل إحدى نصفيه في حال اتصاله، ثم غسل النصف الآخر، فهو كما لو تيقن نجاسة الجميع، وغسله هكذا. وفيه وجهان. أحدهما: لا يطهر حتى يغسل النصفين دفعة واحدة. وأصحهما: أنه إن غسل مع النصف الثاني القدر الذي يجاوره من الاول، طهر الكل. وإن اقتصر على النصفين، فقد طهر الطرفان، وبقي المنتصف نجسا في صورة اليقين، ومجتنبا في الصورة الاولى. ولو نجس أحد موضعين منحصرين، أو مواضع، وأشكل عليه كأحد كميه، فأدى اجتهاده إلى نجاسة أحدهما، فغسله، وصلى فيه، لم تصح صلاته عل الاصح. فلو فصل أحد الكمين عن الثوب، صارا كالثوبين. فإن غسل ما ظنه نجسا، وصلى فيه، جاز. وإن صلى فيما ظنه طاهرا، جاز. ويجري الوجهان فيما إذا نجست إحدى يديه، أو أحد أصابعه، وغسل ما ظن نجاسته، وصلى. وفيما لو اجتهد في ثوبين، وغسل النجس، وصلى فيهما معا. لكن الاصح هنا، الجواز. بخلاف الكمين، لضعف أثر الاجتهاد في الثوب الواحد. ولو غسل أحد الكمين بالاجتهاد، وفصله عن الثوب، فجواز الصلاة فيما لم يغسله، على الخلاف. ولو غسل أحد الثوبين بالاجتهاد، جازت الصلاة في كل واحد منهما وحده بلا خلاف. ولو اشتبه ثوبان، أو أثواب بعضها طاهر، وبعضها نجس، اجتهد كما سبق في الاواني. فإن لم يظهر له شئ، وأمكنه غسل واحد ليصلي فيه، لزمه ذلك، وإلا فهو كمن لم يجد إلا ثوبا نجسا. ونذكره في الشرط الخامس إن شاء الله تعالى. قلت: ولنا وجه، أن يصلي الصلاة تلك في كل ثوب مرة. والصحيح المعروف: أنه يترك الثياب، ويصلي عريانا. وتجب الاعادة والله أعلم. ولو ظن طهارة أحد الثوبين، وصلى فيه، ثم تغير اجتهاده، عمل بمقتضى الاجتهاد الثاني على الاصح، كالقبلة. قلت: ولا يجب إعادة واحدة من الصلاتين - وكذا لو كثرت الثياب، والصلوات - بالاجتهاد المختلف، كما قلنا في القبلة. ولو تلف أحد الثوبين المشتبهين قبل الاجتهاد، لم يصل في الآخر على الاصح. والله أعلم.

(1/379)


فرع: ما لبسه المصلي، يجب أن يكون طاهرا، وأن لا يلاقي شيئا نجسا، سواء تحرك بحركته في قيامه وقعوده، أو لم يتحرك بعض أطرافه كذنابة العمامة. فلو أصاب طرف العمامة الذي لا يتحرك أرضا نجسة، بطلت صلاته. ولو قبض طرف حبل، أو ثوب، أو شده في يده، أو رجله، أو وسطه، وطرفه الآخر نجس، أو متصل بالنجاسة، فثلاثة أوجه. أصحها: تبطل صلاته. والثاني: لا تبطل. والثالث: إن كان الطرف نجسا، أو متصلا بعين النجاسة، بأن كان في عنق كلب، بطلت. وإن كان متصلا بطاهر، وذلك الطاهر متصلا بنجاسة، بأن شد في ساجور (1)، أو خرقة، وهما في عنق كلب، أو شده في عنق حمار عليه حمل نجس، لم تبطل. والاوجه جارية، سواء تحرك الطرف بحركته، أم لا، كذا قاله الجمهور. وقطع به إمام الحرمين، والغزالي، ومن تابعهما بالبطلان إذا تحرك، وخصوا الخلاف، بما لا يتحرك. وقطع البغوي بالبطلان في صورة الشد، وخص الخلاف بصورة القبض باليد. وقال أكثر الاصحاب: إن كان الكلب صغيرا، أو ميتا، وطرف الحبل مشدود به، بطلت الصلاة قطعا. وإن كان كبيرا حيا، بطلت على الاصح. وإن كان الحبل مشدودا في موضع طاهر من سفينة فيها نجاسة، فإن كانت صغيرة تنجر بجره، فهي كالكلب. وإن كانت كبيرة. لم تبطل على الصحيح. كما لو شد في باب دار فيها نجاسة، واتفقت الطوائف على أنه لو جعل رأس الحبل تحت رجله، صحت صلاته في جميع الصور. فرع: من انكسر عظمه، فجبره بعظم طاهر، فلا بأس (2). وإن جبره بعظم نجس، نظر، إن كان محتاجا إلى الجبر ولم يجد عظما طاهرا يقوم مقامه (3)، فهو معذور (4)، وليس عليه نزعه. وإن لم يحتج إليه، أو وجد طاهرا يقوم مقامه، وجب نزعه إن لم يخف الهلاك، ولا تلف عضو، ولا شيئا من المحذورات المذكورة في باب التيمم. فإن لم يفعل، أجبره السلطان، ولا تصح صلاته معه. ولا مبالاة

(1/380)


بالالم الذي يجده، ولا يخاف منه. ولا فرق بين أن يكتسي اللحم، أو لا يكتسيه. ومال إمام الحرمين، إلى أنه إذا اكتسى اللحم، لم يجب النزع، وإن كان لا يخاف الهلاك، وهو مذهب أبي حنيفة، ووجه شاذ لنا. وإن خاف من النزع الهلاك، أو ما في معناه، لم يجب النزع على الصحيح. وإذا أوجبنا النزع، فمات قبله، لم ينزع على الصحيح المنصوص، سواء استتر باللحم، أم لا. وقيل: إن استتر، لم ينزع قطعا. وعلى الشاذ: يجب النزع. وقيل: يستحب. ومداواة الجرح بالدواء النجس، وخياطته بخيط نجس، كالوصل بعظم نجس، فيجب النزع حيث يجب نزع العظم. وكذا لو شق موضعا من بدنه، وجعل فيه دما. وكذا لو وشم (1) يده بالعظام (2)، أو غيرها، فانه ينجس عند الغرز. وفي تعليق الفراء (3)، أنه يزال الوشم بالعلاج. فإن لم يمكن إلا بالجرح، لا يجرح، ولا إثم عليه بعد التوبة. والوادي) (4) وصلى خارجه. والله أعلم. فرع: وصل المرأة شعرها بشعر نجس، أو بشعر آدمي، حرام قطعا، لانه يحرم الانتفاع بشئ منه، لكرامته، بل يدفن شعره، وغيره. وسواء في هذين، المزوجة، وغيرها. وأما الشعر الطاهر لغير الآدمي، فإن لم تكن ذات زوج، ولا سيد، حرم الوصل به على الصحيح. وعلى الثاني: يكره (4). وإن كانت ذات زوج. أو سيد، فثلاثة أوجه. أصحها: إن وصلت بإذنه، جاز، وإلا حرم (5). والثاني: يحرم مطلقا. والثالث: لا يحرم، ولا يكره مطلقا. وأما تحمير الوجنة،

(1/381)


فإن كانت خلية من الزوج، أو السيد، أو كان أحدهما، وفعلته بغير إذنه، فهو حرام، وإن كان باذنه، فجائز على المذهب. وقيل: وجهان، كالوصل. وأما الخضاب بالسواد، وتطريف الاصابع، فألحقوه بالتحمير. قال إمام الحرمين: ويقرب منه تجعيد الشعر، ولا بأس بتصفيف الطرر، وتسوية الاصداغ. وأطلق الاصحاب القول باستحباب الخضاب بالحناء لها بكل حال. وينبغي أن تكون هذه الامور، على تفصيل نذكره في (فصل سنن الاحرام) إن شاء الله تعالى. وأما الوشم، فحرام مطلقا. والوشر: وهو تحديد طرف الاسنان وترقيقها، كالوصل بشعر طاهر (1). فرع: يجب أن يكون ما يلاقي بدن المصلي، وثوبه، وتحته، وفوقه، وجوانبه، طاهرا. فلو وقف بحيث يمسه في صلاته جدار، أو سقف نجس، بطلت صلاته. ولو صلى على بساط تحته نجاسة، أو على طرف منه نجاسة، أو على سرير قوائمه على نجاسة، لم يضر، سواء تحرك ذلك الموضع بحركته، أم لا. ولو نجس أحد البيتين، واشتبه، تحرى، كالثوبين. وإن اشتبه مكان من بيت، أو بساط، لم يجز التحري على الاصح. وعلى الثاني: يجوز، كما لو اشتبه ذلك في الصحراء. ولو كان ما يلاقي بدنه وثيابه طاهرا، وما يحاذي صدره، أو بطنه، أو شيئا من بدنه في سجوده، أو غيره، نجسا، صحت صلاته على الاصح. ولو بسط على النجاسة ثوبا مهلهل النسج، وصلى عليه، فإن حصلت مماسة النجاسة من الفرج، بطلت صلاته. وإن لم تحصل، وحصلت المحاذاة، فعلى الوجهين. فرع في مواطن ورد الشرع بالنهي عن الصلاة فيها: أحدها: المزبلة (2)، والمجزرة (3). والنهي فيهما لنجاسة الموضع. فلو فرش ثوبا، أو بساطا طاهرا، صحت صلاته، ولكن تكره بسبب النجاسة تحته. الثاني: قارعة الطريق، للنهي عنها معنيان. أحدهما: غلبة النجاسة، والثاني: اشتغال القلب بسب مرور الناس. فإن قلنا بالمعنى الاول: جرى النهي

(1/382)


في جواد الطرق في البراري. وإن قلنا بالثاني: فلا. وفي صحة الصلاة في الشوارع مع غلبة النجاسة، القولان المتقدمان في باب الاجتهاد، لتعارض الاصل، والظاهر. فإن صححناها، فالنهي للتنزيه، وإلا، فللتحريم. فلو بسط شيئا طاهرا، صحت الصلاة قطعا، وتبقى الكراهة لشغل القلب. والثالث: بطن الوادي. والنهي عنه للخوف السالب للخشوع، بسبب سيل يتوقع. فإن لم يتوقع سيل، فيحتمل أن يقال: لا كراهة، ويحتمل الكراهة لمطلق النهي. قلت: اتبع الامام الرافعي الغزالي، وإمام الحرمين، في إثبات النهي عن الصلاة في بطون الاودية مطلقا، ولم يجئ في هذا نهي أصلا. والحديث الذي جاء فيه ذكر المواطن السبعة (1)، ليس فيه الوادي، بل فيه المقبرة بدلا منه. ولم يصب من ذكر الوادي (2)، وحذف المقبرة. والحديث من أصله ضعيف، ضعفه الترمذي وغيره. وإنما الصواب، ما ذكره الشافعي رحمه الله، فإنه يكره (3) الصلاة في واد خاص. هو الذي نام (فيه) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن معه عن الصبح حتى فاتت. وقال: (اخرجوا بنا من هذا الوادي (4)،) وصلى خارجه. والله أعلم. الرابع: الحمام. قيل: سبب النهي، كثرة النجاسة، والوسخ. وقيل: لانه مأوى الشيطان. وفي المسلخ، وجهان. إن قلنا بالسبب الاول، لم يكره، وإلا كره، وهو الاصح. وتصح الصلاة بكل حال، في المسلخ، والحمام إذا حكم بطهارته.

(1/383)


الخامس: ظهر الكعبة وسبق تفصيله في باب الاستقبال. السادس: أعطان الابل. وفسره الشافعي رحمه الله، بالمواضع التي تنحى إليها الابل الشاربة، ليشرب غيرها. فإذا اجتمعت، سيقت، فتكره الصلاة في أعطان الابل، ولا تكره في مراح الغنم، وهو: مأواها ليلا. وقد يتصور في الغنم مثل عطن الابل. وحكمه حكم مراحها. وحكم مأوى الابل ليلا، حكم عطنها. لكن الكراهية في العطن، أشد. ومتى صلى في العطن، أو المراح، ونجس بالبول، أو البعر، أو غيرهما، لم تصح صلاته، وإلا صحت مع افتراقهما في الكراهة. السابع: المقبرة. وتكره الصلاة فيها بكل حال. ثم إن كانت غير منبوشة، أو بسط عليها طاهرا، صحت صلاته. وإن علم أن موضع صلاته منبوش، لم تصح. وإن شك في نبشه، صحت على الاظهر. ويكره استقبال القبر في الصلاة (1). القسم الثاني: النجاسة الواقعة في مظنة العفو. وهو أضرب. الاول: الاثر الباقي على محل الاستنجاء بعد الحجر، يعفى عنه مع نجاسته. فلو لاقى ماء قليلا، نجسه. ولو حمله مصل بطلت صلاته على الاصح. ويجري الوجهان فيما إذا حمل من على ثوبه نجاسة معفو عنها (2). ويقرب منها، الوجهان فيما لو عرق، وتلوث بمحل النجو غيره. لكن الاصح هنا، العفو، لعسر الاحتراز (3). بخلاف حمل غيره. ولو حمل حيوانا لا نجاسة عليه، صحت صلاته. وإن تنجس منفذه بالخارج، فوجهان. الاصح عند إمام الحرمين، المقطوع به في (التتمة): لا تصح صلاته. والاصح عند الغزالي: صحتها. قلت: الاول: أصح. والله أعلم. ولو وقع هذا الحيوان في ماء قليل، أو مائع آخر، وخرج حيا، لم ينجسه على

(1/384)


الاصح، للمشقة في صيانة الماء والمائع. ولو حمل بيضة صار حشوها دما ، وظاهرها طاهر، أو حمل عنقودا استحال باطن حباته خمرا، ولا رشح على ظاهرها، لم تصح صلاته على الاصح. ويجري الوجهان في كل استتار خلقي. ولو حمل قارورة مصممة الرأس برصاص، أو نحوه، وفيها نجاسة، لم تصح صلاته على الصحيح. ولو صممها بخرقة، بطلت صلاته قطعا. ولو صممها بشمع، قيل: إنه كالرصاص. وقيل: كالخرقة. ولو حمل حيوانا مذبوحا بعد غسل الدم وغيره من موضع الذبح وغيره، لم تصح قطعا (1). الضرب الثاني: طين الشوارع. فتارة يعلم نجاسته، وتارة يظنها، وتارة لا قطعا يعلمها، ولا يظنها. فالثالث: لا يضر. والمظنون فيه، القولان السابقان في باب الاجتهاد. والنجس، يعفى قليله، دون كثيره. والقليل: ما يتعذر الاحتراز منه. والرجوع فيه إلى العادة. ويختلف بالوقت، وبموضعه في (2) البدن. وذكر الائمة له تقريبا، فقالوا: القليل، ما لا ينسب صاحبه إلى سقطة، أو كبوة، أو قلة تحفظ. فإن نسب، فكثيرة. ولو أصاب أسفل الخف، أو النعل نجاسة، فدلكه بالارض حتى ذهبت أجزاؤها، ففي صحة صلاته فيه قولان. الجديد الاظهر: لا يصح مطلقا. والقديم: يصح بشروط. أحدها: أن يكون للنجاسة جرم يلتصق به. أما البول ونحوه، فلا يكفي دلكه بحال. والثاني: أن يدلكه في حال الجفاف، وما دام رطبا لا يكفي الدلك قطعا، والثالث: أن يكون حصول النجاسة بالمشي من غير تعمد. فلو تعمد تلطيخ الخف بها، وجب الغسل قطعا. والقولان جاريان فيما أصاب أسفل الخف وأطرافه من طين الشوارع - المتيقن النجاسة - الكثير الذي لا يعفى عنه وسائر النجاسة الغالبة في الطرق، كالروث، وغيره. الضرب الثالث: دم البراغيث (3). يعفى عن قليله في الثوب، والبدن. وفي كثيره، وجهان. أصحهما: العفو (4). ويجري الوجهان، في دم القمل،

(1/385)


والبعوض، وما أشبه ذلك، وفي ونيم الذباب، وبول الخفاش. ولو كان قليلا فعرق، وانتشر اللطخ بسببه، فعلى الوجهين. وفي ضبط القليل، والكثير، خلاف. ففي قول قديم: القليل: قدر دينار. وفي قديم آخر: ما دون الكف. وعلى الجديد، وجهان. أحدهما: الكثير: ما يظهر للناظر من غير تأمل وإمعان طلب. والقليل، دونه. وأصحهما: الرجوع إلى العادة، فما يقع التلطخ به غالبا، ويعسر الاحتراز عنه، فقليل. فعلى الاول: لا يختلف ذلك باختلاف الاوقات، والبلاد. وعلى الثاني: وجهان. أحدهما: يعتبر الوسط المعتدل، ولا يعتبر من الاوقات، والبلاد ما يندر ذلك فيه، أو يتفاحش. وأصحهما: يختلف باختلاف الاوقات والبلاد ويجتهد المصلي هل هو قليل أم كثير ؟ فإن شك ففيه احتمالان لامام الحرمين. أرجحهما، وهو الذي قطع به الغزالي: أن له حكم القليل، والثاني: له حكم الكثير. الضرب الرابع: دم البثرات (1)، وقيحها، وصديدها (2)، كدم البراغيث.

(1/386)


فيعفى عن قليله قطعا، وعن كثيره على الاصح. ولو عصر بثرة، فخرج ما فيها، عفي عنه على الاصح. ولو أصابه دم غيره، من آدمي، أو بهيمة، أو غيرهما، فإن كان كثيرا فلا عفو. وإن كان قليلا، فقولان. وقيل: وجهان. أظهرهما: العفو. ولو أصابه شئ من دم نفسه، لا من البثرات، بل من الدماميل والقروح، وموضع الفصد والحجامة، فوجهان. أحدهما وهو. مقتضى كلام الاكثرين: أنه كدم البثرات. والثاني: وهو الاولى، واختاره القاضي ابن كج، والشيخ أبو محمد، وإمام الحرمين: أنه لا يلتحق بدم البثرات. بل إن كان مما يدوم مثلها غالبا، فهي كدم الاستحاضة. وسبق حكمه في باب الحيض. وإن كان مما لا يدوم غالبا، فهو كدم الاجنبي، لا يعفى عن كثيره وفي قليله الخلاف. قلت: الاصح: أنه كدم البثرات. والله أعلم. وحكم القيح، والصديد، حكم الدم في جميع ما ذكرناه. وأما القروح، والنفاطات فإن كان له رائحة كريهة، فهو نجس، وإلا فطريقان. أحدهما: القطع بالطهارة. والثاني: على قولين. قلت: المذهب، طهارته. والله أعلم. الضرب الخامس: إذا صلى وعلى ثوبه، أو بدنه، أو موضع صلاته نجاسة غير معفو عنها، وهو لا يدري، فإن لم يكن علمها، وجبت الاعادة على الاظهر (2). وإن علمها ثم نسيها، وجبت قطعا. وقيل: على القولين. وإذا أوجبنا الاعادة، وجبت إعادة كل صلاة تيقن أنه صلاها مع النجاسة. وإذا احتمل أنها حدثت بعد ما صلى، فلا شئ عليه.

(1/387)


الضرب السادس: في أنواع متفرقة، منها: النجاسة التي تستصحبها المستحاضة، وسلس البول. ومنها إذا كان على جرحه دم كثير يخاف من إزالته. ومنها، إذا تلطخ سلاحه بالدم في صلاة شدة الخوف. ومنها: الشعر الذي ينتف ولا يخلو عنه ثوبه وبدنه، وحكمه، حكم دم البراغيث. ومنها: القدر الذي لا يدركه الطرف من البول، والخمر، وغير الدم. وفيه خلاف تقدم في أول (كتاب الطهارة). قلت: إذا كان على جرحه دم كثير زائد على ما يعفى عنه، وخاف من غسله، صلى به، وجبت الاعادة على الجديد الاظهر (1). والله أعلم. الشرط الخامس: ستر العورة (2). ويجب في غير الصلاة في غير الخلوة، وفي الخلوة أيضا على الاصح (3). وهو شرط لصحة الصلاة في الخلوة، وغيرها. فإن تركه مع القدرة، بطلت. قلت: ولو صلى في سترة، ثم علم بعد الفراغ أنه كان فيها خرق تبين منه العورة، وجبت إعادة الصلاة على المذهب، سواء كان علمها، ثم نسيها، أم لم يكن علمها. وهو شبيه بمن علم النجاسة بعد الفراغ. ولو احتمل حدوث الخرق بعد السلام، فلا إعادة قطعا. ويجوز كشف العورة في الخلوة، في غير صلاة للحاجة. والله أعلم.

(1/388)


وعورة الرجل، حرا كان أو عبدا (1): ما بين السرة والركبة على الصحيح. وفي وجه: الركبة، والسرة، عورة. وفي وجه: الركبة عورة، دون السرة. وفي وجه شاذ منكر قاله الاصطخري: إن عورة الرجل، القبل والدبر فقط. قلت: لنا وجه ضعيف مشهور: أن السرة عورة دون الركبة. والله أعلم. وأما المرأة، فإن كانت حرة، فجميع بدنها عورة (2)، إلا الوجه والكفين. ظهرهما، وبطنهما، إلى الكوعين. ولنا قول، وقيل وجه: أن باطن قدمها ليس بعورة. وقال المزني: ليس القدمان بعورة. وإن كانت أمة، أو مكاتبة، أو مستولدة، أو مدبرة، أو بعضها رقيقا، ففيها ثلاثة أوجه. أصحها: عورتها كعورة الرجل. والثاني: كعورة الحرة، إلا رأسها، فإنه ليس بعورة، والثالث: ما ينكشف في حال خدمتها، وتصرفها، كالرأس، والرقبة، والساعد، وطرف الساق، فليس بعورة. وما عداه عورة. وأما الخنثى المشكل، فإن كان رقيقا، وقلنا: عورة الامة كعورة الرجل، فلا يلزمه أن يستر إلا ما بين السرة، والركبة. وإن كان حرا أو رقيقا، وقلنا: عورة الامة أكثر من عورة الرجل، وجب ستر الزيادة على عورة الرجل أيضا، لاحتمال الانوثة. فلو خالف، فلم يستر إلا ما بين السرة والركبة، فهل تصح صلاته ؟ وجهان. قلت: أصحهما: لا تصح. لان الستر شرط. وشككنا في حصوله. والله أعلم. فرع في صفة السترة والستر: ويجب ستر العورة، بما يحول بين الناظر ولون البشرة، فلا يكفي الثوب الرقيق الذي يشاهد من ورائه سواد البشرة وبياضها، ولا الغليظ المهلهل النسج الذي يظهر بعض العورة من فرجه. ولو ستر اللون، ووصف حجم البشرة، فلا بأس. ولا وقف في ماء صاف، لم تصح صلاته، إلا إذا

(1/389)


غلبت الخضرة لتراكم الماء. فإن انغمس إلى عنقه، ومنعت الخضرة رؤية لون البشرة، صحت صلاته. ولو صلى في ماء كدر، صحت على الاصح. وصورة الصلاة في الماء، أن يتمكن من الركوع والسجود، أو يصلي على جنازة. ولو طين عورته، فاستتر اللون، أجزأه على الصحيح الذي قطع به الجماهير، سواء وجد ثوبا أم لا. وعلى هذا، لو لم يجد ثوبا ونحوه، وأمكنه التطين، وجب على الاصح. وأما صفة الستر، فقال الاصحاب: الستر يعتبر من فوق، ومن الجوانب، ولا يعتبر من أسفل الذيل والازار. حتى لو صلى في قميص متسع الذيل، وكان على طرف سطح يرى عورته من نظر إليه من أسفل، جاز، كذا قاله الاصحاب. وتوقف في صورة السطح إمام الحرمين، والشاشي. ولو صلى في قميص واسع الجيب، ترى عورته من الاعلى في الركوع، أو السجود، وغيرهما من أحوال الصلاة، لم تصح صلاته. وطريقه، أن يزر جيبه، أو يشد وسطه، أو يستر موضع الجيب بشئ يلقيه على عاتقيه، أو نحو ذلك. وكذا لو لم يكن واسع الجيب، لكن كان على صدر القميص أو ظهره خرق يبدو منه العورة، فلا بد من شئ مما ذكرناه. ولو كان الجيب بحيث ترى العورة منه في الركوع، والسجود، ولكن يمنع منها لحيته، أو شعر رأسه، صحت صلاته على الاصح. كما لو كان على إزاره ثقب، فجمع عليه الثوب بيده، فلو ستر الثقب بيده، فعلى الوجهين في اللحية. ولو كان القميص بحيث يظهر منه العورة عند الركوع، ولا يظهر في القيام، فهل تنعقد صلاته ؟ ثم إذا ركع، تبطل، أم لا تنعقد أصلا ؟ فيه هذان الوجهان. وفائدة الخلاف، فيما لو اقتدى به غيره قبل الركوع، وفيما لو ألقى ثوبا على عاتقه قبل الركوع. واعلم أنه يشترط في الساتر، أن يشمل المستور، إما باللبس كالثوب والجلد، وإما بغيره، كالتطين. فأما الفسطاط الضيق ونحوه، فلا عبرة به، لانه لا يعد مشتملا عليه. ولو وقف في جب، وصلى على جنازة، فإن كان واسع الرأس تظهر منه العورة، لم تجز. وإن كان ضيق الرأس، فقال في (التتمة) (1): تجوز. ومنهم من قال: لا تجوز.

(1/390)


قلت: الاصح: الجواز. ولو حفر في الارض حفرة، ووقف فيها لصلاة الجنازة، إذا رد التراب بحيث ستر العورة، جاز، وإلا فكالجب. ولو ستر بزجاج يرى منه لون البشرة، لم يصح. والله أعلم. فرع: إذا لم يجد المصلي ما يستر العورة، صلى عاريا وتقدم في آخر باب (التيمم) كيفية صلاته والقضاء. ولو حضر جمع من العراة، فلهم أن يصلوا جماعة. ويقف إمامهم وسطهم، كجماعة النساء. وهل يسن للعراة الجماعة، أم الاصح الاولى أن يصلوا فرادى ؟ قولان: القديم: الانفراد أفضل. والجديد: الجماعة أفضل. قلت: هكذا حكى جماعة عن الجديد. والمختار ما حكاه المحققون عن الجديد: أن الجماعة والانفراد سواء. وصورة المسألة إذا كانوا بحيث يتأتى نظر بعضهم إلى بعض، فلو كانوا عميا، أو في ظلمة، استحبت لهم الجماعة بلا خلاف. والله أعلم. ولو كان فيهم لابس أمهم، ووقفوا خلفه صفا واحدا. فإن خالفوا، فأمهم عار، واقتدى به اللابس، جاز. ولو اجتمع رجال ونساء، لم يصلوا معا، لا في صف، ولا في صفين. بل يصلي الرجال، وتكون النساء جالسات خلفهم، مستدبرات القبلة. ثم يصلي النساء، ويجلس الرجال خلفهم مستدبرين. فرع: إذا وجد المصلي ما يستر بعض العورة، لزمه ستر الممكن بلا خلاف. فإن كان الموجود يكفي السوأتين، بدأ بهما، ولا يعدل إلى غيرهما. فإن كان يكفي إحداهما فقط، فثلاثة أوجه. الصحيح المنصوص: أنه يستر القبل، رجلا كان أو امرأة. والثاني: الدبر. والثالث: يتخير. قلت: ولنا وجه ذكره القاضي حسين: أن المرأة تستر القبل، والرجل الدبر. والله أعلم. أما الخنثى المشكل، فإن وجد ما يستر قبليه ودبره، ستر. فإن لم يجد إلا ما يستر واحدا، وقلنا: يستر القبل، ستر أي قبليه شاء. والاولى أن يستر آلة الرجال،

(1/391)


إن كان هناك امرأة. وآلة النساء، إن كان هناك رجل (1). ثم ما ذكرناه من تقديم السوأتين، أو إحداهما على الفخذ وغيره، ومن تقديم إحدى السوأتين على الاخرى: هل هو على الاستحباب ؟ أم على الاشتراط. وجهان. أصحهما: الثاني. وهو مقتضى كلام الاكثرين. فرع: لو كانت أمة تصلي مكشوفة الرأس، فعتقت خلال الصلاة، فإن لم تقدر على السترة، مضت في صلاتها كالعاجز. فإن كانت قادرة على السترة، ولم تشعر بقدرتها عليها، أو لم تشعر بالعتق حتى فرغت من الصلاة، ففي وجوب الاعادة، القولان فيمن صلى بالنجاسة جاهلا. وقيل: يجب قطعا. وإن علمت السترة والعتق، فإن كان الخمار قريبا، فطرحته على رأسها، أو طرحه غيرها، مضت في صلاتها. وإن كان بعيدا، أو احتاجت في الستر إلى أفعال كثيرة، ومضى مدة في التكشف، ففيه القولان في سبق الحدث. فإن قلنا بالقديم: إنها تبني، فلها السعي في طلب الساتر، كما تسعى في طلب الماء. وإن وقفت حتى أتيت به، نظر، إن وصلها في المدة التي كانت تصله لو سعت، فلا بأس، وإن زادت، فوجهان. الاصح: لا يجوز، وتبطل صلاتها. وينبغي أن يطرد هذا الخلاف والتفصيل في طلب الماء عند سبق الحدث، وإن لم يذكروه هناك. ولو دخل العاري في الصلاة ثم وجد السترة في خلالها، فحكمه ما ذكرناه في (الامة) تعتق وهي واجدة للسترة. قلت: إذا كانت السترة قريبة، إلا أنه لا يمكن تناولها إلا باستدبار القبلة، بطلت صلاتها إذا لم يناولها غيرها، قاله في (الشامل). ولو قال لامته: إن صليت صلاة صحيحة، فأنت حرة قبلها، فصلت كاشفة الرأس عاجزة، صحت، وعتقت. أو قادرة، صحت، ولا عتق للدور (2). والله أعلم. فرع في مسائل منثورة: ليس للعاري أخذ الثوب من مالكه قهرا (3). فلو

(1/392)


وهبه له، لم يلزمه قبوله (1) على الصحيح. وفي وجه: يلزمه قبوله للصلاة فيه. ثم له رده على الواهب قهرا. وفي وجه: يلزمه قبوله، وليس له الرد. ولو أعاره، لزمه قبوله. فإن لم يقبل، وصلى عاريا، لم تصح صلاته. قلت: ولنا وجه شاذ: أنه لا يجب قبول العارية. والله أعلم. ولو باعه، أو أجره، فهو كبيع الماء. وقد ذكرناه في التيمم. وإقراض الثوب، كإقراض الثمن. ولو احتاج إلى شراء الثوب، والماء، ولم يقدر إلا على أحدهما، اشترى الثوب. ولو أوصى بثوبه لاولى الناس به في ذلك الموضع، فالمرأة أولى من الخنثى، والخنثى أولى من الرجل. وإذا لم يجد إلا ثوبا نجسا، ولم يجد ما يغسله به، فقولان. أظهرهما: يصلي عاريا بلا إعادة. والثاني: يصلي فيه وتجب الاعادة. ولو لم يجد إلا ثوب حرير، فالاصح: أنه يصلي فيه، لانه يباح للحاجة. قلت: ويجب لبسه لستر العورة عن الابصار بلا خلاف. وكذلك يجب لبس الثوب النجس، للستر عنها. وفي الخلوة، إذا أوجبنا الستر فيها. والله أعلم. ويستحب أن يصلي الرجل في أحسن ما يجده من ثيابه. ويتعمم. ويتقمص، ويرتدي. فإن اقتصر على ثوبين، فالافضل قميص ورداء، أو قميص وسراويل. فإن اقتصر على واحد، فالقميص أولى. ثم الازار، ثم السراويل، ثم الثوب الواحد إن كان واسعا، التحف به وخالف بين طرفيه. وإن كان ضيقا، عقده فوق سرته، ويجعل على عاتقه شيئا. ويستحب أن تصلي المرأة في قميص سابغ، وخمار، وتتخذ جلبابا كثيفا فوق ثيابها يتجافى عنها، ولا يبين حجم أعضائها. قلت: لو لم يجد العاري إلا ثوبا لغيره، حرم عليه لبسه، بل يصلي عاريا ولا يعيد. ولو لم يجد سترة، ووجد حشيشا يمكنه عمل سترة منه، لزمه ذلك. ولو كان

(1/393)


محبوسا في موضع نجس، ومعه ثوب لا يكفي العورة، وستر النجاسة، فقولان. أظهرهما: يبسطه على النجاسة، ويصلي عاريا، ولا إعادة. والثاني: يصلي فيه على النجاسة، ويعيد. ولو كان معه ثوب، فأتلفه، أو خرقه بعد دخول الوقت لغير حاجة، عصى، ويصلي عاريا. وفي الاعادة، الوجهان فيمن أراق الماء في الوقت سفها وصلى بالتيمم. ويكره أن يصلي في ثوب فيه صور، ويكره أن يصلي الرجل ملثما، والمرأة متنقبة، وأن يغطي فاه إلا أن يتثاءب، فإن السنة حينئذ، أن يضع يده على فمه. ويكره أن يشتمل الصماء، وأن يشتمل اشتمال اليهود، فالصماء: أن يجلل بدنه بالثوب، ثم يرفع طرفيه على عاتقه الايسر، واشتمال اليهود كذلك، إلا أنه لا يرفع طرفيه. وقيل: هما بمعنى. والمراد بهما، الثاني. والله أعلم. فصل: الشرط السادس: السكوت عن الكلام. للمتكلم في الصلاة، حالان. أحدهما: بغير عذر. فينظر، إن نطق بحرف واحد، لم تبطل صلاته. إلا إذا كان مفهما، كقوله: (ق) (ش) فإنه تبطل. وإن نطق بحرفين، بطلت. أفهم، أم لا، لان الكلام مفهم، وغيره. ولو نطق بحرف، ومده بعده، فالاصح: البطلان. والثاني: لا. والثالث: قاله إمام الحرمين: إن أتبعه بصوت غفل لا يقع على صورة المد، لم تبطل. وإن أتبعه بحقيقة المد، بطلت. وفي التنحنح أوجه. أصحها وبه قطع الجمهور: إن بان منه حرفان، بطلت صلاته. وإلا، فلا. والثاني، لا تبطل وإن بان حرفان. وحكي هذا عن نص الشافعي رحمه الله. والثالث: إن كان فمه مطبقا، لم تبطل، وإن فتحه، وبان حرفان، بطلت، وإلا، فلا. وحيث أبطلنا، فذلك إذا كان بغير عذر. فإن كان مغلوبا، فلا بأس. ولو تعذرت القراءة، إلا بالتنحنح، تنحنح، وهو معذور (1). وإن أمكنت القراءة، وتعذر الجهر، إلا بالتنحنح، فليس بعذر على الاصح. ولو تنحنح الامام، وظهر منه حرفان، فهل للمأموم أن يدوم على متابعته ؟ وجهان. أصحهما: نعم. لان الاصل بقاء العبادة، والظاهر أنه معذور. وأما الضحك، والبكاء، والنفخ،

(1/394)


والانين، فإن بان منه حرفان، بطلت، وإلا، فلا. وسواء بكى ؟ للدنيا، أو للآخرة. الحال الثاني: في الكلام بعذر. فمن سبق لسانه إلى الكلام من غير قصد، أو غلبه الضحك، أو السعال، فبان منه حرفان، أو تكلم ناسيا، أو جاهلا بتحريم الكلام، فإن كان ذلك يسيرا، لم تبطل صلاته، وإن كثرت، بطلت على الاصح. والرجوع في القلة والكثرة، إلى العرف. والجهل بتحريم الكلام، إنما هو عذر في حق قريب العهد بالاسلام. فإن طال عهده به، بطلت صلاته، لتقصيره في التعلم. ولو علم تحريم الكلام، ولم يعلم أنه يبطل الصلاة، لم يكن عذرا. ولو جهل كون التنحنح مبطلا، فهو معذور على الاصح، لخفاء حكمه على العوام. ولو علم أن جنس الكلام محرم، ولم يعلم أن ما أتى به محرم، فهو معذور على الاصح. ولو أكره على الكلام، فقولان. أظهرهما: تبطل، لندوره، وكما لو أكره أن يصلي بلا وضوء، أو قاعدا، فإنه تجب الاعادة قطعا. ولو تكلم لمصلحة الصلاة، بأن قام الامام في موضع القعود، فقال المأموم: اقعد، بطلت صلاته، وليس هو بعذر، فإن طريقه التسبيح، ولو أشرف انسان على الهلاك، فأراد انذاره وتنبيهه، ولم يحصل ذلك إلا بالكلام، وجب الكلام، وتبطل صلاته على الاصح. ولو خاطب النبي - صلى الله عليه وسلم - في عصره مصليا، لزمه الجواب بالنطق في الحال، ولا تبطل صلاته، ولو قال: آه، من خوف النار، بطلت صلاته على الصحيح. فرع: متى ناب الرجل المصلي شئ في صلاته، بأن رأى أعمى يقع في بئر، أو استأذنه انسان في الدخول، أو أراد إعلام غيره أمرا، فالسنة أن يسبح، والمرأة تصفق في جميع ذلك. والتصفيق: أن تضرب بطن كفها اليمنى، على ظهر كفها اليسرى. وقيل: تضرب أكثر أصابعها اليمنى على ظهر أصابعها اليسرى. وقيل: تضرب أصبعين على ظهر الكف. والمعاني متقاربة. والاول: أشهر. وينبغي أن لا تضرب بطن كف على بطن كف. فإن فعلت ذلك على وجه اللعب، بطلت صلاتها، لمنافاته. فرع: الكلام المبطل عند عدم العذر، هو ما سوى القرآن، والذكر، والدعاء، وما في معناها. فلو أتى بشئ من نظم القرآن قاصدا القراءة، أو القراءة مع شئ آخر، كتنبيه الامام، أو غيره، أو الفتح على من أرتج عليه، أو تفهيم

(1/395)


أمر كقوله لجماعة يستأذنون في الدخول: * (أدخلوها بسلام آمنين) (1) *. أو يقول: * (يا يحيى خذ الكتاب بقوة) * (2). وما أشبه ذلك، لم تبطل صلاته (3)، سواء كان قد انتهى في قراءته إلى تلك الآية، أو أنشأ قراءتها حينئذ. ولنا وجه شاذ: أنه إذا قصد مع القراءة شيئا آخر، بطلت صلاته، وليس بشئ. ولو قصد الافهام والاعلام فقط، بطلت صلاته بلا خلاف. ولو أتى بكلمات لا يوجد في القرآن على نظمها، وتوجد مفرداتها، كقوله: (يا إبرهيم) (سلام) (كن) بطلت صلاته، ولم يكن لها حكم القرآن بحال. وأما الاذكار، والتسبيحات، والادعية بالعربية، فلا يضر، سواء المسنون، وغيره. لكن ما فيه خطاب مخلوق غير رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يجب اجتنابه. فلو سلم على إنسان، أو رد عليه السلام بلفظ الخطاب، بطلت صلاته. ويرد السلام بالاشارة بيده، أو رأسه ولو قال: عليه السلام، لم يضر. ولو قال للعاطس: يرحمه الله، لم يضر. ولو قال: يرحمك الله، بطلت على المشهور. فرع: السكوت اليسير في الصلاة، لا يضر بحال، وكذا الكثير عمدا، إن كان لعذر، بأن نسي شيئا، فسكت ليتذكره، على المذهب. وكذا إن سكت لغير عذر، على الاصح. وإن (4) سكت كثيرا ناسيا، وقلنا: عمده مبطل، فطريقان. أحدهما: القطع بأنه لا يضر. والثاني: على الوجهين. واعلم أن إشارة الاخرس المفهمة، كالنطق في البيع وغيره من العقود. ولا تبطل بها الصلاة على الصحيح. الشرط السابع: الكف عن الافعال الكثيرة. اعلم أن ما ليس من أفعال الصلاة، ضربان. أحدهما: من جنسها. والثاني: ليس من جنسها. فالاول: إذا فعله ناسيا، لا تبطل صلاته، كمن زاد ركوعا، أو سجودا، أو ركعة. وإن تعمده، بطلت، سواء قل، أم كثر. وأما

(1/396)


الثاني: فاتفقوا على أن الكثير منه، يبطل الصلاة. والقليل: لا يبطل. وفي ضبط القليل والكثير، أوجه. أحدها: القليل: ما لا يسع زمانه فعل ركعة. والكثير: ما يسعها. والثاني: كل عمل لا يحتاج فيه إلى كلتا يديه، كرفع العمامة، وحل أنشوطة السراويل، فقليل. وما احتاج (1)، كتكوير العمامة، وعقد الازار والسراويل، فكثير. والثالث: القليل: ما لا يظن النظر إليه أن فاعله ليس في الصلاة. والكثير: ما يظن أنه ليس فيها. وضعف هذا: بأن من رآه يحمل صبيا، أو يقتل حية، أو عقربا، يتخيل أنه ليس في صلاة، وهذا لا يضر قطعا. والرابع، وهو الاصح وقول الاكثرين: أن الرجوع فيه إلى العادة. فلا يضر ما يعده الناس قليلا، كالاشارة برد السلام، وخلع النعل، ولبس الثوب الخفيف، ونزعه، ونحو ذلك. ثم قالوا: الفعلة الواحدة (2)، كالخطوة والضربة، قليل قطعا. والثلاث: كثير قطعا. والاثنتان: من القليل على الاصح. ثم أجمعوا على أن الكثير، إنما يبطل إذا توالى. فإن تفرق، بأن خطا خطوة، ثم بعد زمن خطا أخرى، أو خطوتين ثم خطوتين بينهما زمن، وقلنا: إنهما قليل، وتكرر ذلك (3) مرات فهي كثيرة، لم يضر قطعا. وحد التفريق: أن يعد الثاني منقطعا عن الاول. وقال في (التهذيب): عندي أن يكون بينهما قدر ركعة. ثم المراد بالفعلة الواحدة التي لا تبطل، ما لم يتفاحش، فإن أفرطت كالوثبة الفاحشة، أبطلت قطعا. وكذا قولهم: الثلاث المتوالية، تبطل. أراد: والخطوات ونحوها. فأما الحركات الخفيفة، كتحريك الاصابع في سبحة، أو حكة، أو حل وعقد (4)، فالاصح: أنها

(1/397)


لا تضر وإن كثرت متوالية. والثاني: تبطل كغيرها. ونص الشافعي رحمه الله: أنه لو كان يعد الآيات في صلاته عقدا باليد، لم تبطل، ولكن الاولى تركه. وجميع ما ذكرنا إذا تعمد الفعل الكثير، فأما إذا فعله ناسيا، فالمذهب، والذي قطع به الجمهور: أن الناسي كالعامد. وقيل: فيه الوجهان في كلام الناسي. وقيل: أول حد الكثرة، لا يؤثر. وما زاد، وانتهى إلى السرف، فعلى الوجهين. هذا كله حكم الفعل في غير شدة الخوف. أما فيها، فيحتمل الركض والعدو، للحاجة. وفي غير الحاجة كلام يأتي في بابها إن شاء الله تعالى (1). وإن قرأ القرآن من المصحف في الصلاة، لم يضر، بل يجب ذلك إذا لم يحفظ الفاتحة كما سبق. ولو قلب الاوراق أحيانا، لم يضر. ولو نظر في مكتوب غير القرآن، وردد ما فيه في نفسه، لم تبطل صلاته. ولنا وجه: أن حديث النفس إذا كثر، أبطل الصلاة، وهو شاذ. فرع: يستحب للمصلي أن يكون بين يديه سترة، من جدار، أو سارية، أو غيرهما. ويدنو منها بحيث لا يزيد بينهما على ثلاثة أذرع وإن كان في صحراء، غرز عصا ونحوها، أو جمع شيئا من رحله، أو متاعه. وليكن قدر مؤخرة الرحل، فإن لم يجد شيئا شاخصا، خط بين يديه خطا، أو بسط مصلى. وقال إمام الحرمين، والغزالي: لا عبرة بالخط. والصواب، ما أطبق عليه الجمهور، وهو الاكتفاء بالخط كما إذا استقبل شيئا شاخصا. قلت: وقال جماعة: في الاكتفاء بالخط، قولان للشافعي. قال في (القديم) و (سنن) حرملة (2): يستحب. ونفاه في (البويطي) لاضطراب الحديث (3) الوارد فيه وضعفه (4).

(1/398)


واختلف في صفة الخط. فقيل: يجعل مثل الهلال. وقيل: يمد طولا إلى جهة القبلة. وقيل: يمده يمينا وشمالا. والمختار استحباب الخط، وأن يكون طولا. والله أعلم. ثم إذا صلى إلى سترة، منع غيره من المرور بينه وبين السترة. وكذا ليس لغيره أن يمر بينه وبين الخط على الصحيح. وقول الجمهور: كالعصا. وهل هو منع تحريم، أو تنزيه ؟ وجهان. الصحيح: منع تحريم. وللمصلي أن يدفعه، ويضربه على المرور، وإن أدى إلى قتله. ولو لم يكن سترة، أو كانت، وتباعد منها، فالاصح: أنه ليس له الدفع لتقصيره. قلت: ولا يحرم حينئذ المرور بين يديه، لكن الاولى تركه. والله أعلم. ولو وجد الداخل فرجة في الصف الاول، فله أن يمر بين يدي الصف الثاني، ويقف فيها، لتقصير أصحاب الثاني بتركها. قال إمام الحرمين: والنهي عن المرور، والامر بالدفع، إذا وجد المار سبيلا سواه، فإن لم يجد وازدحم الناس، فلا نهي عن المرور، ولا يشرع الدفع. وتابع الغزالي إمام الحرمين على هذا، وهو مشكل. ففي الحديث الصحيح في (البخاري) (1) خلافه. وأكثر كتب الاصحاب،

(1/399)


للشافعي رحمه الله: أن الاعتبار في الفصل، بالمجلس. فإن لم يفارقه، سجد وإن طال الزمان. وإن فارقه، لم يسجد وإن قرب الزمان. لكن هذا القول شاذ. والذي اعتمده الاصحاب، العرف. قالوا: ولا تضر مفارقة المجلس، واستدبار القبلة. هذا كله تفريع على قولنا: سجود السهو قبل السلام. أما إذا قلنا: بعده. فينبغي أن يسجد على قرب، فإن طال الفصل، عاد الخلاف. وإذا سجد، فلا يحكم بالعود إلى الصلاة بلا خلاف. هل يتحرم للسجدتين، ويتشهد، ويسلم ؟ قال إمام الحرمين: حكمة حكم سجود التلاوة. ثم إذا رأينا التشهد، فوجهان. وقيل: قولان الصحيح المشهور: أنه يتشهد بعد السجدتين كسجود التلاوة. والثاني: يتشهد قبلهما، ليليهما السلام. قلت: هذه مسائل منثورة من الباب. منها أن السهو في الصلاة النفل، كالفرض على المذهب. وقيل: طريقان. الجديد كذلك، وفي القديم، قولان. أحدهما: كذلك. والثاني: لا يسجد، حكاه القاضي أبو الطيب، وصاحبا (الشامل) و (المهذب). ولو سلم من الصلاة وأحرم بأخرى، ثم تيقن أنه ترك ركنا من الاولى، لم تنعقد الثانية. وأما الاولى، فإن قصر الفصل بني عليها. وإن طال، وجب استئنافها. ولو جلس للتشهد في الرباعية، وشك: هل هو التشهد الاول، أم الثاني، فتشهد شاكا، ثم قام، فبان الحال، سجد للسهو، سواء بان أنه الاول، أو الآخر، لانه وإن بان الاول، فقد قام شاكا في زيادة هذا القيام. وأن بان الحال وهو بعد في التشهد الاول، فلا سجود. ولو نوى المسافر القصر، وصلى أربع ركعات ناسيا، ونسي في كل ركعة سجدة، حصلت له الركعتان، ويسجد للسهو، وقد تمت صلاته، فيسلم، ولا يلزمه الاتمام، لانه لم ينوه. وكذا لو صلى الجمعة أربعا ناسيا، ونسي من كل ركعة سجدة، سجد للسهو، وسلم. ولو سها سهوين، أحدهما بزيادة، والآخر بنقص، وقلنا: يسجد للزيادة بعد السلام، وللنقص قبله، سجد هنا قبله على الاصح. وبه قطع المتولي. والثاني. بعده. وبه قطع البندنيجي قال: وكذا الزيادة المتوهمة، كمن شك في عدد الركعات. ولو أراد القنوت في غير الصبح لنازلة (1) وقلنا به، فنسيه لم يسجد للسهو على الاصح.

(1/400)


ذكره في (البحر). ولو دخل في صلاة ثم ظن أنه ما كبر للاحرام، فاستأنف التكبير والصلاة، ثم علم أنه كان كبر أولا، فإن علم بعد فراغه من الصلاة الثانية، لم يفسد الاولى، وتمت بالثانية. وإن علم قبل فراغ الثانية، عاد إلى الاولى، فأكملها، وسجد للسهو في الحالين. نقله في (البحر) عن نص الشافعي وغيره. والله أعلم. السجدة الثانية: سجدة التلاوة، وهي سنة، وعدد السجدات أربع عشرة على الجديد الصحيح. ليس منها - صلى الله عليه وسلم - ومنها: سجدتان في (الحج) (1). وثلاث في المفصل. وقال في القديم: إحدى عشرة، أسقط سجدات المفصل. ولنا وجه: أن السجدات خمس عشرة، ضم إليها سجدة - صلى الله عليه وسلم -، وهذا قول ابن سريج. والصحيح المنصوص المعروف: أنها ليست من عزائم السجود (2)، وإنما هي سجدة شكر، فإن سجد فيها خارج الصلاة فحسن. قلت: قال أصحابنا: يستحب أن يسجد في - صلى الله عليه وسلم - خارج الصلاة. وهو مراد الامام الرافعي بقوله: حسن والله أعلم. ولو سجد في - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة جاهلا، أو ناسيا، لم تبطل صلاته. وإن كان عامدا، بطلت على الاصح. قلت: ويسجد للسهو الناسي والجاهل. والله أعلم. ولو سجد إمامه في - صلى الله عليه وسلم - لكونه يعتقدها (3)، لم يتابعه بل يفارقه أو ينتظره قائما. وإذا انتظره قائما، فهل يسجد للسهو ؟ وجهان. قلت: الاصح لا يسجد، لان المأمون لا سجود لسهوه. ووجه السجود،

(1/401)


ساكتة عن تقييد المنع بما إذا وجد سواه سبيلا. قلت: الصواب، أنه لا فرق بين وجود السبيل وعدمه. فحديث البخاري، صريح في المنع. ولم يرد شئ يخالفه، ولا في كتب المذهب لغير الامام ما يخالفه. وقال أصحابنا: ولا تبطل الصلاة بمرور شئ بين يدي المصلي، سواء مر رجل، أو امرأة، أو كلب، أو حمار، أو غير ذلك. وإذا صلى إلى سترة، فالسنة أن يجعلها مقابلة ليمينه، أو شماله، ولا يصمد لها. والله أعلم. الشرط الثامن: الامساك عن الاكل. فلو أكل شيئا، وإن قل، بطلت صلاته. وفي وجه: لا تبطل بالقليل، وهو غلط. ولو كان بين أسنانه شئ فابتلعه، أو نزلت نخامة من رأسه فابتلعها عمدا، بطلت صلاته. فإن أكل مغلوبا، بأن جرى الريق بباقي الطعام، أو نزلت النخامة ولم يمكنه إمساكها، لم تبطل. وإن أكل ناسيا، أو جاهلا بالتحريم، فإن قل، لم تبطل. وإن كثر، بطلت على الاصح. وتعرف القلة والكثرة بالعرف. ولو وصل شئ إلى جوفه بغير مضغ، وابتلاع، بأن وضع في فمه سكرة فذابت (1)، ونزلت إلى جوفه، بطلت صلاته على الاصح. فعلى هذا، تبطل بكل ما يبطل الصوم. واعلم أن المضغ وحده، فعل يبطل الكثير منه. وإن لم يصل شئ إلى الجوف، حتى لو كان يمضغ علكا، بطلت صلاته. وإن لم يمضغه، وكان جديدا يذوب، فهو كالسكرة. وإن كان مستعملا، لم تبطل صلاته، كما لو أمسك في فمه إجاصة (2).

(1/402)


فصل: وللمحدث المكث في المسجد (1). قلت: وكذا النوم بلا كراهة. والله أعلم. وتقدم حكم مكث الجنب والحائض، وعبورهما. وهذا في حق المسلم، أما الكافر، فلا يمكن من دخول حرم مكة بحال، سواء مساجده، وغيرها. وله دخول مساجد غير الحرم، بإذن مسلم. وليس له دخولها، بغير إذن على الصحيح (2). فإن فعله، عزر. قال في (التهذيب): لو جلس فيه الحاكم للحكم، فللذمي دخوله للمحاكمة بغير إذن، وينزل جلوسه منزلة إذنه. وإذا استأذن لنوم، أو أكل، فينبغي أن لا يأذن له. وإن استأذن لسماع قرآن، أو علم، أذن له، رجاء إسلامه. هذا كله إذا لم يكن جنبا، فإن كان، فهل يمنع من المكث ؟ وجهان. أصحهما: لا. والكافرة الحائضة، تمنع حيث تمنع المسلمة، وكذا الصبيان، والمجانين، يمنعون من دخوله. قلت: ولا يمنع الجنب، والحائض، من دخول المصلى الذي ليس بمسجد على المذهب. وذكر الدارمي في باب صلاة العيد، في تحريمه، وجهين. وأجراهما في منع الكافر منه بغير إذن. وقد ذكرت جملا من الفوائد المتعلقة بالمسجد في باب ما يوجب الغسل، من شرح (المهذب). وأنا أشير إلى أحرف من بعضها، فيكره نقش المسجد، واتخاذ الشرفات له. ولا بأس بإغلاقه في غير وقت الصلاة. والبصاق في المسجد خطيئة. فإن خالف فبصق، فقد ارتكب النهي، فكفارتها دفنه في رمل المسجد، وترابه. ولو مسحه بيده، أو غيرها، كان أفضل. ويكره لمن أكل ثوما، أو بصلا، أو غيرهما مما له رائحة كريهة، دخول المسجد بلا ضرورة، ما لم يذهب ريحه. ويكره غرس الشجر فيه. فإن غرس، قطعه الامام. قال الصيمري (3): ويكره حفر البئر فيه، ويكره عمل الصنائع، ولا

(1/403)


بأس بالاكل والشرب فيه، والوضوء إذا لم يتأذ به الناس (1). ويقدم في دخول المسجد رجله اليمنى، وفي الخروج، اليسرى، ويدعو بالدعوات المشهورة فيه. ولحائط المسجد من خارجه حرمة المسجد في كل شئ. والله أعلم.
الباب السادس في السجدات التي ليست من صلب الصلاة هن ثلاث. الاولى: سجود السهو (2)، وهو سنة (3)، ليس بواجب، والذي يقتضيه، شيئان: ترك مأمور، وارتكاب منهي (4). أما ترك المأمور، فقسمان. ترك ركن وغيره. أما الركن، فلا يكفي عنه السجود، بل لابد من تداركه. ثم قد يقتضي

(1/404)


الحال، السجود بعد التدارك، وقد لا يقتضيه. كما سيأتي إن شاء الله تعالى. وأما غير الركن، فأبعاض، وغيرها. فالابعاض: تقدم بيانها في أول صفة الصلاة، وهي مجبورة بالسجود إن ترك واحدة منها سهوا قطعا. وكذلك إن تركه عمدا على الاصح (1). وأما غير الابعاض من السنن، فلا يسجد لتركها. هذا هو الصحيح المشهور المعروف. ولنا قول قديم شاذ: أنه يسجد لترك كل مسنون، ذكرا كان، أو (2) عملا. ووجهه: أن من نسي التسبيح في الركوع والسجود، سجد. وأما المنهي، فقسمان. أحدهما: لا تبطل الصلاة بعمده. كالالتفات، والخطوة، والخطوتين (3). والثاني: تبطل بعمده، كالكلام، والركوع الزائد، ونحو ذلك. فالاول: أن لا يقتضي سهوه السجود. والثاني: يقتضيه إذا لم تبطل الصلاة. وقولنا: إذا لم تبطل الصلاة، احتراز من كثير الفعل، والاكل، والكلام، فإنها تبطل الصلاة بعمدها. وكذلك بسهوها على الاصح، فلا سجود. واحتراز من الحدث أيضا، فإن عمده وسهوه يبطلان الصلاة ولا سجود. فرع: الاعتدال عن الركوع ركن قصير، أمر المصلي بتخفيفه. فلو أطاله عمدا بالسكوت، أو القنوت، أو بذكر آخر ليس بركن، فثلاثة أوجه. أصحها عند إمام الحرمين وقطع به صاحب (التهذيب): تبطل صلاته، إلا حيث ورد الشرع بالتطويل بالقنوت، أو في صلاة التسبيح. والثاني: لا تبطل. والثالث: إن قنت عمدا في اعتداله في غير موضعه، بطلت. وإن طول بذكر آخر لا يقصد القنوت، لم تبطل.

(1/405)


قلت: ثبت في (صحيح مسلم) (1) أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، طول الاعتدال جدا. فالراجح دليلا (2)، جواز إطالته بالذكر. والله أعلم. ولو نقل ركنا ذكريا إلى ركن طويل، بأن قرأ الفاتحة، أو بعضها، في الركوع، أو الجلوس، آخر الصلاة، أو قرأ التشهد، أو بعضه في القيام عمدا، لم تبطل صلاته على الاصح. وقيل: لا تبطل قطعا. ويجري هذا الخلاف فيما لو نقله إلى الاعتدال، ولم يطل، بأن قرأ الفاتحة، أو بعض التشهد. فلو اجتمع المعنيان بطول الاعتدال بالفاتحة، أو التشهد، بطلت على الاصح. وقيل: قطعا. وأما الجلوس بين السجدتين، ففيه وجهان. أصحهما: أنه ركن قصير، وبه قطع الشيخ أبو محمد، وصاحب (التهذيب) وغيرهما. والثاني: طويل، قاله ابن سريج، والجمهور. فإن قلنا بهذا، فلا بأس بتطويله. وإن قلنا بالاول، ففي تطويله عمدا الخلاف المذكور في الاعتدال. وإذا قلنا في هذه الصور ببطلان الصلاة بعمده، فلو فرض ذلك سهوا، سجد للسهو. وإذا قلنا: لا تبطل، فهل يسجد للسهو ؟ وجهان. أحدهما: لا، كسائر ما لا يبطل عمده. وأصحهما: يسجد. وتستثنى هذه الصورة عن قولنا: ما لا يبطل عمده، لا يسجد لسهوه (3).

(1/406)


فصل: الترتيب واجب في أركان الصلاة. فإن تركه عمدا، بطلت صلاته. وإن تركه سهوا، لم يعتد بما فعله بعد المتروك، حتى يأتي بما تركه. فإن تذكر السهو قبل فعل مثل المتروك، اشتغل عند التذكر بالمتروك، وإن تذكر بعد فعل مثله في ركعة أخرى، تمت الركعة السابقة به، ولغا ما بينهما. هذا إذا عرف عين المتروك، وموضعه. فإن لم يعرف، أخذ بأدنى الممكن، وأتى بالباقي. وفي الاحوال كلها يسجد للسهو، إلا إذا وجب الاستئناف، بأن ترك ركنا، وأشكل عينه، وجوز أن يكون النية، أو تكبيرة الاحرام. وإلا إذا كان المتروك، هو السلام، فإنه إذا تذكر قبل طول الفصل، سلم ولا حاجة إلى سجود السهو. ولو تذكر في قيام الركعة الثانية، أنه ترك سجدة من الاولى، فلا بد من الاتيان بها عند تذكره. ثم إن لم يكن جلس عقب السجدة المفعولة، فهل يكفيه أن يسجد عن قيام، أم لا بد أن يجلس مطمئنا، ثم يسجد ؟ وجهان. أصحهما: الثاني. فإن كان جلس عقب السجدة المفعولة - وقصد به الجلسة بين السجدتين - ثم غفل، فقام، فالمذهب أنه يكفيه السجود عن قيام. وقيل على الوجهين. وإن قصد بجلسته الاستراحة، فالاصح أنه يكفيه السجود عن قيام، ويجزئه جلسة الاستراحة عن الواجب. كما لو جلس في التشهد الاخير يظنه الاول، فإنه يجزئه عن الاخير. والثاني: يجب الجلوس مطمئنا. ولو شك، هل جلس ؟ فهو كما إذا لم يجلس. أما إذا تذكر بعد سجوده في الركعة الثانية تركه سجدة من الاولى، فينظر، إن تذكر بعد السجدتين معا، أو في الثانية منهما، فقد تم بما فعله ركعته الاولى، ولغا ما بينهما. ثم إن كان جلس في الاولى بنية الجلسة بين السجدتين، أو بنية الاستراحة إذا قلنا: تجزئ عن الواجب، فتمامها بالسجدة الاولى. وإن لم يجلس، أو جلس للاستراحة، وقلنا: لا يجزئ، فإن قلنا: لو تذكر في القيام والحالة هذه، يجلس، ثم يسجد، فتمام الركعة الاولى هنا بالسجدة الثانية. وإن قلنا هناك: يسجد عن قيام، فتمامها بالسجدة الاولى. ويبنى على هذا الخلاف، ما إذا تذكر بعد السجدة الاولى في

(1/407)


الركعة الثانية. فإن قلنا بالاول، فركعته غير تامة، فيسجد سجدة، ثم يقوم إلى ركعة ثانية. وإن قلنا بالثاني، فركعته تامة، فيقوم إلى ثانية. فرع: لو تذكر في جلوس الركعة الرابعة، أنه ترك أربع سجدات، فله أربعة أحوال. حال: يحسب له ثلاث ركعات إلا سجدتين، وحال: ركعتان وحال: ركعتان إلا سجدة. فلو تيقن ثنتين من الثالثة، وثنتين من الرابعة، صحت الركعتان الاوليان، وحصلت الثالثة، لكن لا سجود فيها، ولا فيما بعدها. فيسجد سجدتين لتتم، ثم يقوم إلى ركعة رابعة. وهكذا الحكم، لو ترك سجدة من الاولى، وسجدة من الثانية، وسجدتين من الرابعة. وكذا لو ترك واحدة من الثانية، وواحدة من الثالثة، وثنتين من الرابعة. أما إذا ترك من كل ركعة سجدة، فيحصل ركعتان، فيتم الاولى بالثانية، والثالثة بالرابعة. ومثله لو ترك ثنتين من الثانية، وثنتين من الاولى أو الثالثة، أو ثنتين من الثانية، وواحدة من الاولى، وأخرى من الثالثة، أو ثنتين من الثانية، وواحدة من الثالثة، وأخرى من الرابعة، أو ثنتين من الاولى، وثنتين من ركعتين بعدهما غير متواليتين، أو واحدة من الاولى، وواحدة من الثانية، وثنتين من الثالثة، أو واحدة من الثانية، وثنتين من الثالثة، وواحدة من الرابعة، فيحصل في كل هذه الصور، ركعتان، ويقوم فيأتي بركعتين. أما إذا ترك من الاولى واحدة، ومن الثانية ثنتين، ومن الرابعة واحدة، أو من الاولى ثنتين، ومن الثانية واحدة، ومن الرابعة أخرى. وكذا كل صورة ترك ثنتين من ركعة، وثنتين من ركعتين غير متواليتين، فيحصل ركعتان إلا سجدة. فيسجدها ثم يأتي بركعتين. هذا كله إذا عرف مواضع السجدات. فإن لم يعرف، أخذ بالاشد، فيأتي بسجدة، ثم ركعتين. وقال الشيخ أبو محمد: يلزمه سجدتان، ثم ركعتان. وهو غلط شاذ. هذا كله إذا كان قد جلس عقب السجدات المفعولات كلهن، على قصد الجلوس بين السجدتين، أو على قصد جلسة الاستراحة، إذا قلنا: تجزئ عن الواجب، أو قلنا: إن القيام يقوم مقام الجلسة. فأما إذا لم يجلس في بعض الركعات، أو لم يجلس في غير الرابعة، وقلنا بالاصح: إن القيام لا يكفي عن الجلسة، فلا يحسب ما بعد السجدة المفعولة إلى أن يجلس. حتى لو تذكر أنه ترك من كل ركعة سجدة، ولم يجلس إلا في الاخيرة، أو جلس بنية الاستراحة، أو جلس في الثانية بنية التشهد الاول، وقلنا: الفرض لا يتأدى بالنفل، لم يحصل له مما فعل إلا ركعة ناقصة

(1/408)


سجدة. ثم هذا الجلوس الذي تذكر فيه، يقوم مقام الجلوس بين السجدتين. فيسجد، ثم يقوم فيأتي بثلاث ركعات. أما إذا تذكر أنه ترك سجدة من أربع ركعات، فإن علم أنها من الاخيرة، سجدها، واستأنف التشهد إن كان تشهد، وإن علمها من غير الاخيرة، أو شك، لزمه ركعة. وإن تذكر ترك سجدتين، فإن كانتا من الركعة الاخيرة، كفاه سجدتان وإن كانتا من غير الاخيرة. فإن كانتا من ركعة، لزمه ركعة. وإن كانتا من ركعتين، فقد يكفيه ركعة، بأن يكونا من ركعتين متواليتين. وقد يحتاج إلى ركعتين، بأن يكونا من ركعتين غير متواليتين. فإن أشكل الامر، لزمه ركعتان. وإن ترك ثلاث سجدات، فقد يقتضي الحال حصول ثلاث ركعات إلا سجدة، بأن تكون ثنتان من الاولى، أو الثانية، أو الثالثة، وواحدة من الرابعة. فيسجد سجدة، ثم يقوم فيأتي بركعة. وقد يقتضي حصول ثلاث إلا سجدتين، بأن تكون سجدة من الاولى، وثنتان من الرابعة. وقد يقتضي حصول ركعتين فقط، بأن يكون الثلاث، من الثلاث الاوليات. فإن أشكل، لزمه هذا الاشد (1). وإن ترك خمس سجدات، فقد تحصل ركعتان إلا سجدتين بأن تكون

(1/409)


واحدة من الاولى، وثنتان من الثانية، وثنتان من الرابعة. وقد يحصل ركعة فقط بأن يترك سجدة من الاولى، وثنتين من الثانية، وثنتين من الثالثة. فإن أشكل، لزمه ثلاث ركعات. وقال في (المهذب): يلزمه سجدتان، وركعتان، وهو غلط. ولو ترك ست سجدات، حصل ركعة فقط. وإن ترك سبعا، حصل ركعة إلا سجدة. وإن ترك ثمانيا، حصل ركعة إلا سجدتين. ثم هذا الحكم يطرد لو تذكر السهو في المسائل المذكورة بعد السلام، ولم يطل الفصل. فإن طال، وجب الاستئناف، ويسجد للسهو في جميع مسائل الفصل. ويمكن عدها من قسم ترك المأمور - لان الترتيب مأمور به، فتركه عمدا مبطل، فسهوه يقتضي السجود - ومن ارتكاب المنهي، لانه إذا ترك الترتيب، فقد زاد في الافعال، والاركان. فرع: تقدم أن فوات التشهد الاول يقتضي سجود السهو. فإذا نهض من الركعة الثانية ناسيا للتشهد، أو جلس، ولم يقرأ التشهد، ونهض ناسيا، ثم تذكر، فتارة يتذكر بعد الانتصاب قائما، وتارة قبله. فإن كان بعده، لم تجز العودة إلى القعود على الصحيح المعروف. وفي وجه: يجوز العود ما لم يشرع في القراءة. والاولى: أن لا يعود. وهذا الوجه: شاذ منكر. فعلى الصحيح: إن عاد متعمدا عالما بتحريمه، بطلت صلاته. وإن عاد ناسيا، لم تبطل، وعليه أن يقوم عند تذكره ويسجد للسهو. وإن عاد جاهلا بتحريمه، فالاصح: أنه كالناسي. والثاني: كالعامد. هذا حكم المنفرد. والامام في معناه، فلا يرجع بعد الانتصاب. ولا يجوز للمأموم أن يتخلف للتشهد. فإن فعل، بطلت صلاته. فإن نوى مفارقته ليتشهد، جاز وكان مفارقا بعذر. ولو انتصب مع الامام، فعاد الامام، لم يجز للمأموم العود، بل ينوي مفارقته. وهل يجوز أن ينتظره قائما حملا على أنه عاد ناسيا ؟ وجهان سبق مثلهما في التنحنح. قلت: فإن عاد المأموم مع الامام، عالما بالتحريم، بطلت صلاته. وإن عاد ناسيا، أو جاهلا، لم تبطل. ولو قعد المأموم، فانتصب الامام ثم عاد، لزم المأموم القيام، لانه توجه عليه بانتصاب الامام. والله أعلم.

(1/410)


ولو قعد الامام للتشهد الاول، وقام المأموم ناسيا، أو نهضا، فتذكر الامام، فعاد قبل الانتصاب وانتصب المأموم، فثلاثة أوجه. أصحها: يجب على المأموم العود إلى التشهد لمتابعة الامام. فإن لم يعد، بطلت صلاته، صححه الشيخ أبو حامد، ومتابعوه، وقطع به صاحب (التهذيب). والثاني: يحرم العود. والثالث: يجوز، ولا يجب. ولو قام المأموم قاصدا، فقد قطع إمام الحرمين: بأنه يحرم العود. كما لو ركع قبل الامام، أو رفع رأسه قبله عمدا، يحرم العود. فإن عاد، بطلت صلاته، لانه زاد ركنا عمدا. فلو فعل ذلك سهوا، بأن سمع صوتا، فظن أن الامام ركع، فركع، فبان أنه لم يركع، فقال إمام الحرمين: في جواز الركوع، وجهان. وقال صاحب (التهذيب) وآخرون: في وجوب الرجوع، وجهان. أحدهما: يجب. فإن لم يرجع، بطلت صلاته. والاصح: أنه لا يجب، بل يتخير بين الرجوع وعدمه. وللنزاع في صورة قصد القيام، مجال ظاهر، لان أصحابنا العراقيين أطبقوا على أنه لو ركع قبل الامام عمدا، استحب له أن يرجع إلى القيام ليركع مع الامام، فجعلوه مستحبا. الحال الثاني: أن يتذكر قبل الانتصاب. فقال الشافعي، والاصحاب رحمهم الله: يرجع إلى التشهد. والمراد بالانتصاب، الاعتدال والاستواء، هذا هو الصحيح الذي قطع به الجمهور. وفي وجه: المراد به: أن يصير إلى حال هي أرفع من حد أقل الركوع. ثم إذا عاد قبل الانتصاب، هل يسجد للسهو ؟ قولان. أظهرهما: لا يسجد. وقال كثير من الاصحاب، منهم القفال: إن صار إلى القيام أقرب منه إلى القعود، ثم عاد، سجد. وإن كان إلى القعود أقرب، أو كانت نسبته إليهما على السواء، لم يسجد، لانه إذا صار إلى القيام أقرب فقد أتى بفعل يغير نظم الصلاة، (و) لو تعمده في غير موضعه، أبطل الصلاة. وقال الشيخ أبو محمد، وآخرون: إن عاد قبل أن ينتهي إلى حد الراكعين، لم يسجد. وإن عاد بعد الانتهاء إليه، سجد. والمراد بحد الركوع: أكمله، لا أقله. بل لو قرب في ارتفاعه من حد أكمل الركوع، ولم يبلغه، فهو في حد الراكعين، صرح به في (النهاية). وهذه العبارة، مع عبارة القفال ورفقته، متقاربتان، والاولى أوفى بالغرض، وهي أظهر من إطلاق القولين، وبها قطع في (التهذيب) وهي كالتوسط بين القولين، وحملهما على الحالين. ثم جميع ما ذكرناه في الحالتين، هو فيما إذا ترك التشهد الاول،

(1/411)


ونهض ناسيا. فأما إذا تعمد ذلك، ثم عاد قبل الانتصاب والاعتدال، فإن عاد بعد ما صار إلى القيام أقرب، بطلت صلاته. وإن عاد قبله، لم تبطل. ولو كان يصلي قاعدا، فافتتح القراءة بعد الركعتين، فإن كان على ظن أنه فرغ من التشهد، وجاء وقت الثالثة، لم يعد بعد ذلك إلى قراءة التشهد على الاصح. وإن سبق لسانه إلى القراءة وهو عالم بأنه لم يتشهد، فله العود إلى قراءة التشهد. وترك القنوت يقاس بما ذكرناه في التشهد، فإذا نسيه، ثم تذكر بعد وضع الجبهة على الارض، لم يجز العود. وإن كان قبله، فله العود. ثم إن عاد بعد بلوغه حد الراكعين، سجد للسهو. وإن كان قبله، فلا. فرع: إذا جلس في الركعة الاخيرة عن قيام ظانا أنه أتى بالسجدتين، فتشهد، ثم ذكر الحال بعد التشهد، لزمه تدارك السجدتين، ثم إعادة التشهد، ويسجد للسهو. ولا يختص هذا الحكم بالركعة الاخيرة، بل لو اتفق ذلك في الركعة الثانية من صلاة رباعية، أو ثلاثية، فكذلك يتدارك السجدتين، ويعيد التشهد، ويسجد للسهو في موضعه، إلا أن إعادة التشهد هنا سنة. ولو اتفق ذلك في ركعة لا يعقبها تشهد، فإذا تذكر، تدارك السجدتين، وقام، ثم يسجد للسهو. أما إذا جلس بعد السجدتين في الركعة الاولى، أو الثالثة من الرباعية، وقرأ التشهد، أو بعضه، ثم تذكر، فيسجد للسهو، لانه زاد قعودا طويلا. فلو لم يطل، لم يسجد. والتطويل: أن يزيد على جلسة الاستراحة (1). أما إذا ترك السجدة الثانية وتشهد، ثم تذكر، فيتدارك السجدة الثانية، ويعيد التشهد. وهل يسجد للسهو ؟ وجهان. الصحيح: السجود. ولو لم يتشهد، لكن طول الجلوس بين السجدتين، سجد للسهو أيضا على الاصح. أما إذا جلس عن قيام، ولم يتشهد، ثم تذكر، فيشتغل بالسجدتين وما بعدهما، على ترتيب صلاته. ثم إن طال جلوسه، سجد للسهو. وإن لم يطل، بل كان في حد جلسة الاستراحة، لم يسجد، لان تعمده في غير موضعه لا يبطل الصلاة، بخلاف الركوع، والسجود، والقيام. فرع: إذا قام إلى خامسة في رباعية ناسيا، ثم تذكر قبل السلام، فعليه أن يعود إلى الجلوس، ويسجد للسهو، ويسلم، سواء تذكر في قيام الخامسة، أو

(1/412)


ركوعها، أو سجودها. وإن تذكر بعد الجلوس فيها، سجد للسهو، ثم سلم. وأما التشهد، فإن تذكر بعد الجلوس، والتشهد في الخامسة، لم يعده، وإن تذكر قبل التشهد في الخامسة، ولم يكن تشهد في الرابعة، فلا بد منه، وإن تشهد في الرابعة، كفاه، ولم يحتج إلى إعادته على الصحيح. هذا إن تشهد بنية التشهد الاخير، فإن كان بنية الاول، فإن قلنا: إذا كان بنية الاخير يحتاج إلى إعادته، فهنا أولى، وإلا، ففيه الخلاف في تأدي الفرض بنية النفل. قلت: الاصح: أنه لا يحتاج إلى إعادته، وبه قطع كثيرون، أو الاكثرون. والله أعلم. ولو ترك الركوع، ثم تذكره في السجود، فهل يجب الرجوع إلى القيام ليركع منه، أم يكفيه أن يقوم راكعا ؟ وجهان لابن سريج. قلت: أصحهما: الاول. والله أعلم. فصل في قاعدة متكررة في أبواب الفقه وهي أنا إذا تيقنا وجود شئ أو عدمه، ثم شككنا في تغيره وزواله عما كان عليه، فإنا نستصحب اليقين الذي كان، ونطرح الشك، فإذا شك في ترك مأمور ينجبر تركه بالسجود، وهو الابعاض، فالاصل، أنه لم يفعله، فيسجد للسهو، قال في (التهذيب): هذا إذا كان الشك في ترك مأمور معين، فأما إذا شك، هل ترك مأمورا، أم لا ؟ فلا يسجد كما لو شك: هل سها، أم لا ؟ ولو شك في ارتكاب منهي، كالسلام والكلام ناسيا، فالاصل أنه لم يفعل، ولا سجود. ولو تيقن السهو، وشك هل سجد له، أم لا ؟ فليسجد، لان الاصل عدم السجود. ولو شك، هل سجد للسهو سجدة، أم سجدتين ؟ سجد أخرى. قلت: ولو تيقن السهو، وشك هل هو ترك مأمور، أو ارتكاب منهي ؟ سجد. والله أعلم. ولو شك، هل صلى ثلاثا، أم أربعا، أخذ بالاقل، وأتى بالباقي، وسجد للسهو. ولا ينفعه الظن، ولا أثر للاجتهاد في هذا الباب. ولا يجوز العمل فيه بقول غيره. وفي وجه شاذ: أنه يجوز الرجوع إلى قول جمع كثير كانوا يرقبون صلاته.

(1/413)


وكذلك الامام إذا قام إلى ركعة ظنها رابعة، وعند القوم أنها خامسة، فنبهوه، لا يرجع إلى قولهم وفي وجه شاذ: يرجع إن كثر عددهم. واختلفوا في سبب السجود، إذا شك: هل صلى ثلاثا، أم أربعا ؟ فقال الشيخ أبو محمد وطائفة: المعتمد فيه، الخبر، ولا يظهر معناه. واختاره إمام الحرمين، والغزالي. وقال القفال، والشيخ أبو علي، وصاحب (التهذيب) وآخرون: سببه: التردد في الركعة التي يأتي بها، هل هي رابعة، أم زائدة توجب السجود ؟ وهذا التردد، يقتضي الجبر بالسجود. قلت: الثاني أصح. والله أعلم. فلو زال التردد قبل السلام، وعرف أن التي يأتي بها رابعة، لم يسجد على الاول. وعلى الثاني: يسجد. وضبط أصحاب هذا الوجه صورة الشك وزواله فقالوا: إن كان ما فعله من وقت عروض الشك إلى زواله، ما لا بد منه على كل احتمال، فلا يسجد للسهو. فإن كان زائدا على بعض الاحتمالات، سجد. مثاله: شك في قيامه في الظهر، أن تلك الركعة ثالثة، أم رابعة ؟ فركع وسجد على هذا الشك، وهو على عزم القيام إلى ركعة أخرى أخذا باليقين، ثم تذكر قبل القيام أنها ثالثة، أو رابعة، فلا يسجد، لان ما فعله على الشك لا بد منه على التقديرين. فإن لم يتذكر حتى قام، سجد للسهو وإن تيقن أن التي قام إليها رابعة، لان احتمال الزيادة، وكونها خامسة، كان ثابتا حين قام. قلت: ولو شك المسبوق، هل أدرك ركوع الامام، أم لا ؟ فسيأتي في بابه إن شاء الله تعالى، لانه لا تحسب له هذه الركعة. قال الغزالي في (الفتاوى): فعلى هذا يسجد للسهو، كما لو شك، هل صلى ثلاثا، أم أربعا ؟ هذا الذي قاله الغزالي ظاهر. ولا يقال: يتحمله عنه الامام، لان هذا الشخص بعد سلام الامام شاك في عدد ركعاته. والله أعلم. فرع: إذا شك في أثناء الصلاة في عدد الركعات، أو في فعل ركن، فالاصل: أنه لم يفعل، فيجب البناء على اليقين، كما تقدم. وإن وقع هذا الشك بعد السلام، فالمذهب: أنه لا شئ عليه، ولا أثر لهذا الشك. وقيل: فيه ثلاثة أقوال. أحدها: هذا. والثاني: يجب الاخذ باليقين. فإن كان الفصل قريبا، بنى. وإن طال، استأنف. والثالث: إن قرب الفصل، وجب البناء. وإن طال،

(1/414)


فلا شئ عليه. وأما ضبط طول الفصل، فيحتاج إليه هنا وفيما إذا تيقن أنه ترك ركنا، وذكره بعد السلام. وفي قدره قولان. أظهرهما، نصه في (الام): يرجع فيه إلى العرف. والثاني، نصه في (البويطي): أن الطويل ما يزيد على قدر ركعة. ولنا وجه: أن الطويل: قدر الصلاة التي هو فيها. ثم إذا جوزنا البناء، فلا فرق بين أن يتكلم بعد السلام، أو يخرج من المسجد ويستدبر القبلة، وبين أن لا يفعل ذلك. ولنا وجه ضعيف: أن القدر المنقول عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الفصل محتمل. فإن زاد، فلا. والمنقول: أنه - صلى الله عليه وسلم -، قام، ومضى إلى ناحية المسجد، وراجع ذا اليدين، وسأل الجماعة، فأجابوا. فصل: لا يتكرر السجود بتكرر السهو، بل يكفي سجدتان في آخر الصلاة، سواء تكرر نوع، أو انواع. قال الائمة: لا تتعدد حقيقة السجود. وقد تتعدد صورته في مواضع. منها: المسبوق إذا سجد مع الامام، يعيد في آخر صلاته على المشهور. ومنها: لو سها الامام في صلاة الجمعة، فسجد للسهو، ثم بان قبل السلام خروج وقت الظهر، فالمشهور: أنهم يتمونها ظهرا، ويعيدون سجود السهو، لان الاول، لم يقع في آخر الصلاة. ومنها: لو ظن أنه سها في صلاته، فسجد للسهو، ثم بان قبل السلام أنه لم يسه، فالاصح: أنه يسجد للسهو ثانيا، لانه زاد سجدتين سهوا. والثاني: لا يسجد، ويكون السجود جابرا لنفسه ولغيره. ومنها: لو سها المسافر في الصلاة المقصورة، فسجد للسهو، ثم نوى الاتمام قبل السلام، أو صار مقيما بانتهاء السفينة إلى دار الاقامة، وجب إتمام الصلاة، ويعيد السجود قطعا. ومنها: لو سجد للسهو، ثم سها قبل السلام بكلام، أو غيره، ففي وجه: يعيد السجود. والاصح: لا يعيده كما لو تكلم، أو سلم ناسيا بين سجدتي السهو، أو فيهما، فإنه لا يعيده قطعا، لانه لا يؤمن وقوع مثله في المعاد فيتسلسل. ولو سجد للسهو ثلاثا، لم يسجد لهذا السهو. وكذا لو شك، هل سجد للسهو سجدة،

(1/415)


أم سجدتين، فأخذ بالاقل، وسجد أخرى، ثم تحقق أنه كان سجد سجدتين، لم يعد السجود. ومنها: لو ظن سهوه بترك القنوت مثلا، فسجد له، فبان قبل السلام أن سهوه بغيره، أعاد السجود على وجه، لانه لم يجبر ما يحتاج إلى الجبر. والاصح: أنه لا يعيده، لانه قصد جبر الخلل. قلت: ولو شك، هل سها، أم لا ؟ فجهل وسجد للسهو، أمر بالسجود ثانيا لهذه الزيادة. والله أعلم. فصل: إذا سها المأموم خلف الامام، لم يسجد، ويتحمل الامام سهوه. ولو سها بعد سلام الامام، لم يتحمل، لانقطاع القدوة، وكذا المأموم الموافق، إذا تكلم ساهيا عقب سلام الامام. وكذا المنفرد إذا سها في صلاته، ثم دخل في جماعة، وجوزنا ذلك، فلا يتحمل الامام سهوه ذلك. أما إذا ظن المأموم أن الامام سلم، فسلم، ثم بان أنه لم يسلم، فسلم معه، فلا سجود عليه، لانه سها في حال القدوة. ولو تيقن في التشهد أنه ترك الركوع أو الفاتحة من ركعة ناسيا، فإذا سلم الامام، لزمه أن يأتي بركعة أخرى، ولا يسجد للسهو، لانه سها في حال الاقتداء. ولو سلم الامام، فسلم المسبوق سهوا، ثم تذكر، بنى على صلاته، وسجد، لان سهوه بعد انقطاع القدوة. ولو ظن المسبوق أن الامام سلم، بأن سمع صوتا ظنه سلامه، فقام ليتدارك ما عليه، وكان ما عليه ركعة مثلا، فأتى بها وجلس، ثم علم أن الامام لم يسلم بعد تبين أن ظنه كان خطأ، فهذه الركعة غير معتد بها. لانها مفعولة في غير موضعها، فإن وقت التدارك بعد انقطاع القدوة، فإذا سلم الامام، قام إلى التدارك، ولا يسجد للسهو لبقاء حكم القدوة. ولو كانت المسألة بحالها، فسلم الامام وهو قائم، فهل يجوز له أن يمضي في صلاته، أم يجب عليه أن يعود إلى القعود، ثم يقوم ؟ وجهان. قلت: أصحهما: الثاني. والله أعلم. فإن جوزنا المضي، فلا بد من إعادة القراءة. فلو سلم الامام في قيامه، لكنه لم يعلم به حتى أتم الركعة. إن جوزنا المضي، فركعته محسوبة، ولا يسجد للسهو. وإن قلنا: عليه القعود، لم يحسب، ويسجد للسهو للزيادة بعد سلام

(1/416)


الامام. ولو كانت المسألة بحالها، وعلم في القيام أن الامام لم يسلم بعد، فقال إمام الحرمين: إن رجع، فهو الوجه، وإن أراد أن يتمادى وينوي الانفراد قبل سلام الامام، ففيه الخلاف في قطع القدوة. فإن منعناه، تعين الرجوع. وإن جوزناه، فوجهان. أحدهما: يجب الرجوع. لان نهوضه غير معتد به، فيرجع، ثم يقطع القدوة إن شاء. والثاني: لا يجب الرجوع، لان النهوض ليس مقصودا لعينه، وإنما المقصود، القيام فما بعده. هذا كلام الامام. فلو لم يرد قطع القدوة، فمقتضى كلام الامام: وجوب الرجوع. وقال الغزالي: هو مخير، إن شاء رجع، وإن شاء انتظر قائما سلام الامام. وجواز الانتظار قائما مشكل، للمخالفة الظاهرة. فإن كان قرأ قبل تبين الحال، لم يعتد بقراءته في جميع هذه الاحوال، بل عليه استئنافها. قلت: الصحيح: وجوب الرجوع في الحالتين. والله أعلم. فصل: إذا سها الامام في صلاته، لحق سهوه المأموم ويستثنى صورتان. إحداهما: إذا بان الامام محدثا، فلا يسجد لسهوه، ولا يتحمل عن المأموم أيضا. الثانية: أن يعلم سبب سجود الامام، ويتيقن غلطه في ظنه، كما إذا ظن الامام ترك بعض الابعاض، والمأموم يعلم أنه لم يترك، فلا يوافقه إذا سجد. ثم إذا سجد الامام في غير الصورتين، لزم المأموم موافقته فيه. فإن تركه عمدا، بطلت صلاته. وسواء عرف المأموم سهو الامام، أم لم يعرفه. فمتى سجد الامام في آخر صلاته سجدتين، وجب على المأموم متابعته، حملا على أنه سها، بخلاف ما لو قام وأتى بركعة خامسة، فإنه لا يتابعه، حملا على أنه ترك ركنا من ركعة، لانه لو تحقق الحال هناك لم يجز متابعته، لان المأموم أتم صلاته يقينا. قلت: ولو كان المأموم مسبوقا بركعة، أو شاكا في ترك ركن كالفاتحة، فقام الامام إلى الخامسة، لم يجز للمأموم متابعته فيها. والله أعلم. ولو لم يسجد الامام إلا سجدة، سجد المأموم أخرى، حملا على أنه نسي. ولو ترك الامام السجود لسهوه، سجد المأموم على الصحيح المنصوص. وخرج قول: أنه لا يسجد. ولو سلم الامام، ثم عاد إلى السجود، نظر، فإن سلم المأموم معه ناسيا، وافقه في السجود. فإن لم يوافقه، ففي بطلان صلاته وجهان بناء على الوجهين فيمن سلم ناسيا للسجود فعاد إليه: هل يعود إلى حكم الصلاة ؟ وإن

(1/417)


سلم المأموم عمدا مع علمه بالسهو، لم يلزمه متابعته. ولو لم يسلم المأموم، فعاد الامام ليسجد، فإن عاد بعد أن سجد المأموم للسهو، لم يتابعه، لانه قطع صلاته عن صلاته بالسجود. وإن عاد قبل أن يسجد المأموم، فالاصح: أنه لا يجوز متابعته، بل يسجد منفردا. والثاني: يلزمه متابعته. فإن لم يفعل، بطلت صلاته. ولو سبق الامام حدث بعد ما سها، أتم المأموم صلاته، وسجد للسهو. تفريعا على الصحيح المنصوص. قلت: ولو سها المأموم، ثم سبق الامام حدث، لم يسجد المأموم، لان الامام حمله. وإن قام الامام إلى خامسة ساهيا، فنوى المأموم مفارقته بعد بلوغ الامام في ارتفاعه حد الراكعين، سجد المأموم للسهو. وإن نواها قبله، فلا سجود. والله أعلم. ولو كان الامام حنفيا، وجوزنا الاقتداء به، فسلم قبل أن يسجد للسهو، لم يسلم معه المأموم، بل يسجد قبل السلام، ولا ينتظر سجود الامام، لانه فارقه بسلامه. ولو كان المأموم مسبوقا، وسها الامام بعد ما لحقه، وسجد في آخر صلاته، لزم المسبوق أن يسجد معه على الصحيح المنصوص المعروف. وعلى الشاذ: لا يسجد. فعلى الصحيح: إذا سجد معه، يعيد السجود في آخر صلاة نفسه على الاظهر. فإن لم يسجد الامام، لم يسجد المسبوق في آخر صلاة الامام. وهل يسجد في آخر صلاة نفسه ؟ فيه الخلاف المتقدم في المأموم الموافق، إذا لم يسجد الامام: هل يسجد ؟ أما إذا سها الامام قبل اقتداء المسبوق، فهل يلحق المسبوق حكم سهوه ؟ وجهان. أحدهما: لا. فعلى هذا إن لم يسجد الامام، لم يسجد هو أصلا. وإن سجد، فالاصح: أنه لا يسجد معه. والثاني: يسجد معه، لكن لا يعيده في آخر صلاته. والوجه الثاني وهو الاصح: يلحقه حكم سهوه. فعلى هذا، إن سجد الامام، سجد معه. وهل يعيده في آخر صلاته ؟ فيه القولان. وإن لم يسجد الامام، سجد هو في آخر صلاته على الصحيح المنصوص. وإذا قلنا: المسبوق يعيد السجود في آخر صلاته، فاقتدى به بعد انفراده مسبوق آخر، وبالآخر آخر، فكل واحد منهم يسجد لمتابعته إمامه، ثم يسجد في آخر صلاة نفسه. ولو سها المسبوق في تداركه، فإن قلنا: لا يسجد لسهو الامام في آخر صلاة نفسه، سجد لسهوه سجدتين. وإن قلنا: يسجد لسهو الامام في آخرها، فكم

(1/418)


يسجد ؟ وجهان. أصحهما: سجدتان. والثاني: أربع. ولو انفرد المصلي بركعة من رباعية، وسها فيها، ثم اقتدى بمسافر، وجوزنا الاقتداء في أثناء الصلاة، وسها إمامه، ثم قام إلى الرابعة، وسها فيها، فكم يسجد في آخر صلاته ؟ فيه أوجه. الاصح. سجدتان. والثاني: أربع. والثالث: ست. فإن كان سجد الامام، فلا بد أن يسجد معه، فيكون قد أتى في صلاته بثمان سجدات للسهو على الوجه الثالث. وكذا المسبوق إذا اقتدى بمسافر، وسها الامام، وسجد معه المسبوق، ثم صار الامام متما قبل أن يسلم، فأتم، وأعاد سجود السهو، وأعاد معه المسبوق، ثم قام إلى الرابعة، وسها فيها، وقلنا: يسجد أربع سجدات، فقد أتى بثماني سجدات. فإن سها بعدها بكلام، أو غيره، وفرعنا على أنه إذا سها بعد سجود السهو، يسجد، صارت السجدات عشرا. وقد يزيد عدد السجود على هذا تفريعا على الوجوه الضعيفة. قلت: إذا قلنا: يسجد سجدتين للجميع، فهل هما عن سهوه في انفراده، وسهو إمامه أم عن سهو إمامه فقط، أم عن سهوه فقط ؟ فيه ثلاثة أوجه حكاها صاحب (البيان). الصحيح المشهور: الاول، فإن قلنا: عن أحدهما فقط، فنوى الآخر عالما، بطلت صلاته. وإن قلنا: عنهما، فنوى أحدهما، لم تبطل، لكنه تارك لسجود الاخير. والله أعلم. فصل في كيفية سجود السهو ومحله: أما كيفيته، فهو سجدتان (1) بينهما جلسة، يسن في هيئتها الافتراش، وبعدهما إلى أن يسلم، يتورك. وكتب الاصحاب ساكتة عن الذكر فيهما (2)، وذلك يشعر بأن المحبوب فيها، هو المحبوب في سجدات صلب الصلاة، كسائر ما سكتوا عنه من واجبات السجود ومحبوباته.

(1/419)


وسمعت بعض الائمة يحكي: أنه يستحب أن يقول فيهما: سبحان من لا ينام، ولا يسهو (1). وهذا لائق بالحال. وفي محله ثلاثة أقوال. أظهرها: قبل السلام. والثاني: إن سها بزيادة، سجد بعد السلام، وإن سها بنقص، سجد قبله. والثالث: أنه يتخير، إن شاء قبله، وإن شاء بعده (2). والاول: هو الجديد. والآخران: قديمان. ثم هذا الخلاف في الاجزاء على المذهب. وقيل: في الافضل. ثم إذا قلنا: قبل السلام، فسلم قبل أن يسجد، نظر، فإن سلم عامدا، فوجهان. الاصح: أنه فوت السجود. والثاني: إن قصر الفصل سجد، وإلا، فلا. وإذا سجد، فلا يكون عائدا إلى الصلاة بلا خلاف (3)، بخلاف ما إذا سلم ناسيا وسجد، فإن فيه خلافا، وإن سلم ناسيا، وطال الزمان، فقولان. الجديد الاظهر: لا يسجد. والقديم: يسجد، وإن لم يطل، وتذكر على قرب، فإن بدا له أن لا يسجد، فذاك، والصلاة ماضية على الصحة، وحصل التحلل بالسلام على الصحيح. وفي وجه: يسلم مرة أخرى. وذلك السلام غير معتد به، وإن أراد أن يسجد (4)، فالصحيح المنصوص الذي قطع به الجمهور: أنه يسجد. والثاني: لا يسجد. وإذا قلنا بالصحيح هنا، أو بالقديم عند طول الفصل، فسجد، فهل يكون عائدا إلى حكم الصلاة ؟ وجهان. أرجحهما عند صاحب (التهذيب): لا يكون عائدا. وأرجحهما عند الاكثرين: يكون عائدا. وبه قال أبو زيد، وصححه القفال، وإمام الحرمين، والغزالي في (الفتاوى) والروياني، وغيرهم. ويتفرع على الوجهين، مسائل. منها: لو تكلم عامدا، أو أحدث في السجود، بطلت صلاته على الوجه

(1/420)


الثاني، ولا تبطل على الاول. ومنها: لو كان السهو في صلاة جمعة، وخرج الوقت وهو في السجود، فاتت الجمعة على الوجه الثاني، دون الاول. ومنها: لو كان مسافرا يقصر، ونوى الاتمام في السجود، لزمه الاتمام على الوجه الثاني، دون الاول. ومنها: هل يكبر للافتتاح ؟ وهل يتشهد (1) ؟ إن قلنا بالوجه الثاني: لم يكبر، ولم يتشهد، وإن قلنا بالاول، كبر، وفي التشهد، وجهان. أصحهما: لا يتشهد. وقال في (التهذيب): والصحيح: أنه يسلم، سواء قلنا بتشهد، أم لا. وأما حد طول الفصل، ففيه الخلاف المتقدم فيمن ترك ركنا ناسيا ثم تذكر بعد السلام أو شك فيه. والاصح: الرجوع إلى العرف. وحاول إمام الحرمين ضبط العرف، فقال: إذا مضى زمن يغلب على الظن، أنه أضرب عن السجود قصدا، أو نسيانا، فهذا طويل، وإلا فقصير. قال: وهذا إذا لم يفارق المجلس، فإن فارق، ثم تذكر على قرب الزمان، ففيه احتمال عندي، لان الزمان قريب، لكن مفارقته المجلس تغلب على الظن الاضراب عن السجود. قال: ولو سلم، وأحدث، ثم انغمس في ماء على قرب الزمان، فالظاهر أن الحدث فاصل وإن لم يطل الزمان. وقد نقل قول

(1/421)


أنه يعتقد أن إمامه زاد في صلاته جاهلا. وحكى صاحب (البحر) وجها: أنه يتابع الامام في سجود - صلى الله عليه وسلم -. والله أعلم. ومواضع السجدات بينة لا خلاف فيها، إلا التي في (حم السجدة) فالاصح: أنها عقب * (لا يسأمون) (1) *. والثاني: عقب * (إن كنتم إياه تعبدون) (2) *. فرع: يسن السجود للقارئ (3)، والمستمع له (4)، سواء كان القارئ في الصلاة، أم لا. وفي وجه شاذ: لا يسجد المستمع لقراءة من في الصلاة. ويسن للمستمع إلى قراءة المحدث (5)، والصبي، والكافر، على الاصح. وسواء سجد القارئ، أم لم يسجد، يسن للمستمع السجود، لكنه إذا سجد كان آكد. هذا هو الصحيح الذي قطع به الجمهور. وقال الصيدلاني: لا يسن له السجود إذا لم يسجد القارئ، واختاره إمام الحرمين. وأما الذي لا يستمع، بل يسمع عن غير قصد، ففيه أوجه. الصحيح المنصوص: أنه يستحب له، ولا يتأكد في حقه تأكده في حق المستمع. والثاني: أنه كالمستمع. والثالث: لا يسن له السجود أصلا. أما المصلي، فإن كان منفردا سجد لقراءة نفسه. فلو لم يسجد فركع، ثم بدا له أن يسجد، لم يجز. فلو كان قبل بلوغه حد الراكعين، جاز. ولو هوى لسجود التلاوة، ثم بدا له فرجع، جاز، كما لو قرأ بعض التشهد الاول ولم يتممه، فإنه يجوز. ولو أصغى المنفرد بالصلاة لقراءة قارئ في الصلاة أو غيرها، لم يسجد، لانه ممنوع من الاصغاء، فإن سجد، بطلت صلاته. وإن كان المصلي إماما، فهو كالمنفرد فيما ذكرناه. ولا يكره له قراءة آية لسجدة، لا في الصلاة الجهرية، ولا في

(1/422)


السرية. وإذا سجد الامام، سجد المأموم. فلو لم يفعل، بطلت صلاته (1). وإذا لم يسجد الامام، لم يسجد المأموم. ولو فعل، بطلت صلاته. ويحسن القضاء (2) إذا فرغ ولا يتأكد. ولو سجد الامام ولم يعلم المأموم حتى رفع الامام رأسه من السجود، لم يسجد. وإن علم وهو بعد في السجود، سجد. وإن كان المأموم في الهوي، ورفع الامام رأسه، رجع معه ولم يسجد، وكذا الضعيف الذي هوى مع الامام لسجود التلاوة، فرفع الامام رأسه، قبل انتهائه إلى الارض لبطء حركته، يرجع معه، ولا يسجد. أما إذا كان المصلي مأموما، فلا يسجد لقراءة نفسه. بل يكره له قراءة السجدة. ولا يسجد لقراءة غير الامام، بل يكره له الاصغاء إليها. ولو سجد لقراءة نفسه، أو قراءة غير إمامه، بطلت صلاته. فرع: إذا قرأ آيات السجدات في مكان واحد، سجد لكل واحدة، فلو كرر الآية الواحدة في المجلس الواحد، نظر، إن لم يسجد للمرة الاولى، كفاه سجود واحد، وإن سجد للاولى، فثلاثة أوجه. الاصح: يسجد مرة أخرى، لتجدد السبب. والثاني: يكفيه الاولى. والثالث: إن طال الفصل، سجد أخرى، وإلا فتكفيه الاولى. ولو كرر الآية الواحدة في الصلاة، فإن كان في ركعة، فكالمجلس الواحد، وإن كان في ركعتين، فكالمجلسين. ولو قرأ مرة في الصلاة، ومرة خارجها في المجلس الواحد، وسجد للاولى، فلم أر فيه نصا للاصحاب، وإطلاقهم يقتضي طرد الخلاف فيه. فصل في شرائط سجود التلاوة وكيفيته أما شروطه، فيفتقر إلى شروط الصلاة، كطهارة الحدث، والنجس، وستر العورة، واستقبال القبلة، وغيرها بلا خلاف. وأما كيفيته، فله حالان. حال في غير الصلاة. وحال فيها. فالاول: ينوي ويكبر للافتتاح، ويرفع يديه في هذه التكبيرة حذو منكبيه، كما

(1/423)


يفعل في تكبيرة الافتتاح في الصلاة، ثم يكبر أخرى للهوي من غير رفع اليد. ثم تكبير الهوي مستحب ليس بشرط. وفي تكبيرة الافتتاح، أوجه. أصحها: أنها شرط. والثاني: مستحبة. والثالث: لا تشرع أصلا. قاله أبو جعفر الترمذي (1). وهو شاذ منكر. قلت: قد قاله أيضا صاحب (التهذيب) و (التتمة) وأنكره إمام الحرمين، وغيره. قال الامام: ولم أر لهذا ذكرا، ولا أصلا. وهذا الذي قاله الامام، هو الاصوب، فلم يذكر جمهور أصحابنا هذا القيام، ولا ثبت فيه شئ مما يحتج به. فالاختيار تركه. والله أعلم. ويستحب أن يقول في سجوده: (سجد وجهي للذي خلقه وصوره، وشق سمعه وبصره، بحوله وقوته). وأن يقول: (اللهم اكتب لي بها عندك أجرا، واجعلها لي عندك ذخرا، وضع عني بها وزرا، واقبلها مني، كما قبلتها من عبدك داود - صلى الله عليه وسلم - (2) (3) ولو قال ما يقول في سجود صلاته، جاز. ثم يرفع رأسه مكبرا، كما يرفع من سجود الصلاة. وهل يشترط السلام ؟ فيه قولان. أظهرهما: يشترط، فعلى هذا في اشتراط التشهد وجهان. الاصح: لا يشترط. ومن الاصحاب من يقول: في اشتراط السلام والتشهد، ثلاثة أوجه. أصحها: يشترط السلام دون التشهد. وإذا قلنا: التشهد ليس بشرط، فهل يستحب ؟ وجهان. حكاهما في (النهاية).

(1/424)


قلت: الاصح: لا يستحب. والله أعلم. الحال الثاني: أن يسجد للتلاوة في الصلاة، فلا يكبر للافتتاح، لكن يستحب التكبير للهوي إلى السجود، من غير رفع اليدين، فكذا يكبر عند رفع الرأس كما يفعل في سجدات الصلاة. ولنا وجه شاذ: أنه لا يكبر للهوي، ولا للرفع، قاله ابن أبي هريرة. ويستحب أن يقول في سجوده ما قدمناه. وإذا رفع رأسه قام، ولا يجلس للاستراحة. ويستحب أن يقرأ شيئا، ثم يركع. ولا بد من انتصابه قائما، ثم يركع. فإن الهوي من قيام، واجب. فصل: ينبغي أن يسجد عقب قراءة آية سجدة، أو استماعها. فإن أخر، وقصر الفصل، سجد. وإن طال، فاتت. وهل تقضى ؟ قولان. حكاهما صاحب (التقريب) أظهرهما - وبه قطع الصيدلاني، وآخرون: لا تقضى، لانها لعارض، فأشبهت صلاة الكسوف. وضبط طول الفصل، يؤخذ مما تقدم في سجود السهو. ولو كان القارئ، أو المستمع، محدثا عند التلاوة فإن تطهر على قرب، سجد. وإلا، فالقضاء على الخلاف. ولو كان يصلي، فقرأ قارئ آية سجدة، فإذا فرغ من صلاته، هل يقضي سجود التلاوة ؟ المذهب: أنه لا يقضيه، وبه قطع الشاشي وغيره، واختاره إمام الحرمين، لان قراءة غير إمامه، لا تقتضي سجوده. وإذا لم نجز ما يقتضي السجود أداء، فالقضاء بعيد. وقال صاحب (التقريب): وفيه القولان المتقدمان. وقال صاحب (التهذيب): يحسن أن يقضي ولا يتأكد، كما يجيب المؤذن إذا فرغ من الصلاة. قلت: إذا قرأ السجدة في الصلاة قبل الفاتحة، سجد، بخلاف ما لو قرأها في الركوع، أو السجود، فإنه لا يسجد. ولو قرأ السجدة، فهوى ليسجد، فشك، هل قرأ الفاتحة ؟ فإنه يسجد للتلاوة، ثم يعود إلى القيام، فيقرأ الفاتحة. ولو قرأ خارج الصلاة السجدة بالفارسية، لا يسجد عندنا. وإذا سجد المستمع مع القارئ، لا يرتبط به، ولا ينوي الاقتداء به، وله الرفع من السجود قبله. ولو أراد أن يقرأ آية، أو آيتين فيهما سجدة، ليسجد، فلم أر فيه كلاما لاصحابنا. وفي كراهته خلاف للسلف، أوضحته في كتاب (آداب القرآن) ومقتضى مذهبنا: أنه إن كان

(1/425)


في غير الوقت المنهي عن الصلاة فيه، وفي غير الصلاة، لم يكره. وإن كان في الصلاة، أو في وقت كراهتها، ففيه الوجهان فيمن دخل المسجد في هذه الاوقات لا لغرض سوى صلاة التحية. والاصح: أنه يكره له الصلاة. هذا إذا لم يتعلق بالقراءة المذكورة غرض سوى السجود، فإن تعلق، فلا كراهة مطلقا قطعا، ولو قرأ آية سجدة في الصلاة، فلم يسجد، وسلم، يستحب أن يسجد ما لم يطل الفصل. فإن طال، ففيه الخلاف المتقدم. ولو سجد للتلاوة قبل بلوغ السجدة ولو بحرف، لم يصح سجوده. ولو قرأ بعد السجدة آيات، ثم سجد جاز ما لم يطل الفصل. ولو قرأ سجدة، فسجد، فقرأ في سجوده سجدة أخرى، لا يسجد ثانيا على الصحيح المعروف. وفيه وجه شاذ: حكاه في (البحر) أنه يسجد. قال صاحب (البحر): إذا قرأ الامام السجدة في صلاة سرية، استحب تأخير السجود إلى فراغه من الصلاة. قال: وقد استحب أصحابنا للخطيب إذا قرأ سجدة، أن يترك السجود لما فيه من كلفة النزول عن المنبر والصعود (1). قال: ولو قرأ السجدة في صلاة الجنازة، لم يسجد فيها. وهل يسجد بعد الفراغ ؟ وجهان. أصحهما: لا يسجد. وأصلهما أن القراءة التي لا تشرع، هل يسجد لتلاوتها ؟ وجهان. والله أعلم. السجدة الثالثة: سجدة الشكر: سجود الشكر سنة عند مفاجأة نعمة (2)، أو

(1/426)


اندفاع نقمة (1)، من حيث لا يحتسب، وكذا إذا رأى مبتلى ببلية (2)، أو بمعصية (3). ولا يسن عند استمرار النعم. وإذا سجد لنعمة، أو اندفاع بلية لا تتعلق بغيره، استحب إظهار السجود. وإن سجد لبلية في غيره، وصاحب البلية غير معذور، كالفاسق، أظهر السجود بين يديه لعله يتوب. وإن كان معذورا، كصاحب الزمانة، أخفاه كيلا (4) يتأذى. ويفتقد سجود الشكر إلى شروط الصلاة. وكيفيته ككيفية سجود التلاوة خارج الصلاة. ولا يجوز سجود الشكر في الصلاة بحال. قلت: قال أصحابنا: لو سجد في الصلاة للشكر، بطلت صلاته. فلو قرأ آية سجدة ليسجد بها للشكر، ففي جواز السجود، وجهان. في (الشامل) و (البيان) أصحهما: يحرم، وتبطل صلاته. وهما كالوجهين، فيمن دخل المسجد في وقت النهي ليصلي التحية. والله أعلم. فرع: في جواز سجود الشكر على الراحلة بالايماء (5) وجهان. كالتنفل مضطجعا مع القدرة. ولو سجد للتلاوة على الراحلة، إن كان في صلاة نافلة، جاز قطعا تبعا لها، وإلا، فعلى الوجهين في سجدة الشكر. أصحهما: الجواز فيهما، وبه قطع صاحب (التهذيب) و (العدة) والخلاف فيمن اقتصر على الايماء، فإن كان في مرقد، وأتم السجود، جاز قطعا. وأما الماشي في السفر فيسجد على الارض على الصحيح

(1/427)


قلت: قال في (التهذيب): لو تصدق صاحب هذه النعمة أو صلى شكرا، فحسن (1). والله أعلم. فرع: لو خضع إنسان لله تعالى، فتقرب بسجدة من غير سبب، فالاصح: أنه حرام، كالتقرب بركوع مفرد ونحوه. وصححه إمام الحرمين، والغزالي، وغيرهما، وقطع به الشيخ أبو محمد. والثاني: يجوز، قاله صاحب (التقريب) قال: وإذا فاتت سجدة الشكر، ففي قضائها الخلاف في قضاء النوافل الراتبة. وقطع غيره بعدم القضاء. قلت: وسواء في هذا الخلاف في تحريم السجدة، ما يفعل بعد صلاة وغيره. وليس من هذا ما يفعله كثيرون من الجهلة الظالمين (2)، من السجود بين يدي المشايخ، فإن ذلك حرام قطعا بكل حال، سواء كان إلى القبلة، أو غيرها. وسواء قصد السجود لله تعالى، أو غفل. وفي بعض صوره ما يقتضي الكفر عافانا الله تعالى. والله أعلم.
الباب السابع في صلاة التطوع
اختلف اصطلاح الاصحاب في تطوع الصلاة. فمنهم من يفسره بما لم يرد فيه نقل بخصوصيته، بل ينشؤه الانسان ابتداء. وهؤلاء قالوا: ما عدا الفرائض، ثلاثة أقسام، سنن، وهي التي واظب عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ومستحبات، وهي التي فعلها أحيانا، ولم يواظب عليها. وتطوعات، وهي التي ذكرنا. ومنهم من يرادف بين لفظي النافلة والتطوع، ويطلقهما على ما سوى الفرائض. قلت: ومن أصحابنا من يقول: السنة، والمستحب، والمندوب، والتطوع،

(1/428)


والنفل والمرغب فيه، والحسن، كلها بمعنى واحد. وهو ما رجح الشرع فعله على تركه، وجاز تركه (1). والله أعلم. واختلف أصحابنا في الرواتب ما هي ؟ فقيل: هي النوافل الموقتة بوقت مخصوص، وعد منها التراويح، وصلاة العيدين، والضحى. وقيل: هي السنن التابعة للفرائض (2). واعلم أن ما سوى فرائض الصلاة، قسمان. ما يسن له الجماعة كالعيدين، والكسوفين، والاستسقاء. ولها أبواب معروفة، وما لا يسن فيه الجماعة، وهي رواتب مع الفرائض وغيرها، فأما الرواتب، فالوتر وغيره، وأما غير الوتر، فاختلف الاصحاب في عددها، فقال الاكثرون: عشر ركعات، ركعتان قبل الصبح، وركعتان قبل الظهر، وركعتان بعدها، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء. ومنهم من نقص ركعتي العشاء. نص عليه في (البويطي) وبه قال الخضري. ومنهم من زاد على العشر ركعتين أخريين قبل الظهر. ومنهم من زاد على هذا أربعا قبل العصر. ومنهم من زاد على هذا آخريين بعد الظهر. فهذه خمسة أوجه لاصحابنا، وليس خلافهم في أصل الاستحباب، بل إن المؤكد من الرواتب ماذا ؟ مع أن الاستحباب يشمل الجميع. ولهذا قال صاحب (المهذب) وجماعة: أدنى الكمال: عشر ركعات، وهو وجه الاول. وأتم الكمال: ثماني عشرة ركعة، وهو الوجه الخامس. وفي استحباب ركعتين قبل المغرب وجهان.

(1/429)


وبالاستحباب قال أبو إسحاق الطوسي (1)، وأبو زكريا السكري (2). قلت: الصحيح، استحبابهما، ففي مواضع من (صحيح البخاري) عن (3) عبد الله (4) بن مغفل (5) رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (صلوا قبل صلاة المغرب) قال في الثالثة: لمن شاء. والله أعلم. فصل: الوتر سنة. ويحصل بركعة، وبثلاث، وبخمس، وبسبع، وبتسع، وبإحدى عشرة، فهذا أكثره على الاصح. وعلى الثاني: أكثره ثلاث عشرة. ولا يجوز الزيادة على أكثره على الاصح. فإن زاد، لم يصح وتره (6). وإذا زاد على ركعة، فأوتر بثلاث فأكثر موصولة، فالصحيح: أن له أن يتشهد تشهدا واحدا في الاخيرة، وله تشهد آخر في التي قبلها. وفي وجه: لا يجزئ الاقتصار على تشهد واحد. وفي وجه: لا يجوز لمن أوتر بثلاث، أن يتشهد تشهدين

(1/430)


بتسليمة. فإن فعل، بطلت صلاته، بل يقتصر على تشهد أو يسلم في التشهدين. وهذان الوجهان منكران، والصواب جواز ذلك كله. ولكن: هل الافضل تشهد ؟ أم تشهدان ؟ فيه أوجه. أرجحها عند الروياني: تشهد. والثاني: تشهدان. والثالث: هما في الفضيلة سواء. أما إذا زاد على تشهدين، وجلس في كل ركعتين، واقتصر على تسليمة في الركعة الاخيرة، فالصحيح: أنه لا يجوز، لانه خلاف المنقول. والثاني: يجوز كنافلة كثيرة الركعات. أما إذا أراد الايتار بثلاث ركعات، فهل الافضل فصلها بسلامين، أم وصلها بسلام. فيه أوجه. أصحها: الفصل أفضل. والثاني: الوصل. والثالث: إن كان منفردا، فالفصل، وإن صلاها بجماعة، فالوصل. والرابع: عكسه. وهل الثلاث الموصولة أفضل من ركعة فردة ؟ فيه أوجه. الصحيح: أن الثلاث أفضل. والثاني: الفردة. قال في (النهاية): وغلا هذا القائل فقال: الفردة أفضل من إحدى عشرة ركعة موصولة. والثالث: إن كان منفردا، فالفردة. وإن كان إماما، فالثلاث الموصولة. فرع في وقت الوتر: (في وقت الوتر) وجهان. الصحيح: أنه من حين يصلي العشاء، إلى طلوع الفجر. فإن أوتر قبل فعل العشاء، لم يصح وتره، سواء تعمد، أو سها وظن أنه صلى العشاء، أو صلاها ظانا أنه متطهر، ثم أحدث فتوضأ وصلى الوتر، ثم بان أنه كان محدثا في العشاء، فوتره باطل. والوجه الثاني: يدخل وقت الوتر بدخول وقت العشاء، وله أن يصليه قبلها. ولو صلى العشاء، ثم أوتر بركعة قبل أن يتنفل، صح وتره على الصحيح. وقيل: لا يصح حتى يتقدمه نافلة، فإذا لم يصح وترا، كان تطوعا. كذا قاله إمام الحرمين. وينبغي أن يكون على الخلاف فيمن صلى الظهر قبل الزوال غالطا، هل تبطل صلاته، أم تكون نفلا ؟ والمستحب أن يكون الوتر آخر صلاة الليل. فإن كان لا تهجد له، فينبغي أن يوتر بعد فريضة العشاء وراتبتها، ويكون وتره آخر صلاة الليل، وإن كان له تهجد، فالافضل أن يؤخر الوتر، كذا قاله العراقيون. وقال إمام الحرمين، والغزالي: اختار الشافعي رحمه الله، تقديم الوتر. فيجوز أن يحمل

(1/431)


نقلهما على من لا يعتاد قيام الليل. ويجوز أن يحمل على اختلاف قول، أو وجه. والامر فيه قريب، وكل شائع. وإذا أوتر قبل أن ينام، ثم قام وتهجد، لم يعد الوتر على الصحيح المعروف. وفي وجه شاذ: يصلي في أول قيامه ركعة يشفعه، ثم يتهجد ما شاء، ثم يوتر ثانيا، ويسمى هذا: نقض الوتر. والصحيح المنصوص في (الام) و (المختصر): أن الوتر يسمى: تهجدا: وقيل: الوتر غير التهجد. فرع: إذا استحببنا الجماعة في التراويح، يستحب الجماعة أيضا في الوتر بعدها. وأما في غير رمضان، فالمذهب: أنه لا يستحب فيه الجماعة. وقيل: في استحبابها، وجهان مطلقا. حكاه أبو الفضل بن عبدان. فرع: يستحب القنوت في الوتر في النصف الاخير من شهر رمضان، فإن أوتر بركعة، قنت فيها، وإن أوتر بأكثر، قنت في الاخيرة. ولنا وجه: أنه يقنت في جميع رمضان، ووجه: أنه يقنت في جميع السنة. قاله أربعة من أئمة أصحابنا: أبو عبد الله الزبيري، وأبو الوليد النيسابوري (1)، وأبو الفضل بن عبدان، (2) وأبو منصور بن مهران (3). والصحيح: اختصاص الاستحباب بالنصف الثاني من رمضان، وبه قال جمهور الاصحاب. وظاهر نص الشافعي رحمه الله، كراهة القنوت في غير هذا النصف. ولو ترك القنوت في موضع نستحبه، سجد للسهو، ولو قنت في غير النصف الاخير من رمضان - وقلنا: لا يستحب - سجد للسهو. وحكى الروياني وجها: أنه يجوز القنوت في جميع السنة بلا كراهة، ولا يسجد

(1/432)


للسهو بتركه في غير النصف. قال: وهذا اختيار مشايخ طبرستان، واستحسنه. وفي موضع القنوت في الوتر، أوجه، أصحها: بعد الركوع. ونص عليه في سنن حرملة (1). والثاني: قبل الركوع، قاله ابن سريج. والثالث: يتخير بينهما. وإذا قدمه، فالاصح أنه يقنت بلا تكبير. والثاني: يكبر بعد القراءة، ثم يقنت. ولفظ القنوت: هو ما تقدم في قنوت الصبح. واستحب الاصحاب أن يضم إليه قنوت عمر (2) رضي الله عنه: (اللهم إنا نستعينك، ونستغفرك، ونستهديك، ونؤمن بك، ونتوكل عليك، ونثني عليك الخير كله، نشكرك ولا نكفرك، ونخلع ونترك من يفجرك. اللهم إياك نعبد، ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفد (3)، نرجو رحمتك، ونخشى عذابك، إن عذابك بالكفار ملحق (4). اللهم عذب كفرة أهل الكتاب الذين يصدون عن سبيلك، ويكذبون رسلك، ويقاتلون أولياءك، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، وأصلح ذات بينهم، وألف بين قلوبهم، واجعل في قلوبهم الايمان والحكمة، وثبتهم على ملة رسولك، وأوزعهم أن يوفوا بعهدك الذي عاهدتهم عليه، وانصرهم على عدوك وعدوهم، إله الحق، واجعلنا منهم). وهل الافضل أن يقدم قنوت عمر على قنوت الصبح، أم يؤخره ؟ وجهان. قال الروياني: يقدمه، وعليه العمل ونقل القاضي أبو الطيب عن شيوخهم، تأخيره. قلت: الاصح: تأخيره، لان قنوت الصبح ثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الوتر. وينبغي أن يقول: (اللهم عذب الكفرة) للحاجة إلى التعميم في أزماننا. والله أعلم. قال الروياني: قال ابن القاص: يزيد في القنوت (ربنا لا تؤاخذنا) إلى آخر

(1/433)


السورة (1) واستحسنه (2). وحكم الجهر بالقنوت، ورفع اليدين وغيرهما، على ما تقدم في الصبح. ويستحب لمن أوتر بثلاث، أن يقرأ بعد الفاتحة في الاولى: * (سبح) *. وفي الثانية: * (قل يا أيها الكافرون) *. وفي الثالثة: * (قل هو الله أحد) *. والمعوذتين (3). فصل في النوافل التي يسن فيها الجماعة: اعلم أن أفضل النوافل مطلقا، العيدان (4)، ثم الكسوفان، ثم الاستسقاء (5). وأما التراويح، فإن قلنا: لا يسن فيها الجماعة، فالرواتب أفضل منها، وإن قلنا: يسن فيها، فكذلك على الاصح. والثاني: التراويح أفضل (6). قلت: كسوف الشمس أفضل من خسوف القمر، ذكره الماوردي وغيره. والله أعلم. فصل: ومن التطوع الذي لا يسن له الجماعة، صلاة الضحى. وأقلها: ركعتان، وأفضلها: ثمان، وأكثرها: اثنا عشر، ويسلم من كل ركعتين. ووقتها من حين ترتفع الشمس إلى الاستواء. قلت: قال أصحابنا: وقت الضحى من طلوع الشمس. ويستحب تأخيرها إلى ارتفاعها. قال الماوردي: ووقتها المختار إذا مضى ربع النهار. والله أعلم. ومنه تحية المسجد بركعتين، ولو صلى الداخل فريضة، أو وردا، أو سنة،

(1/434)


ونوى التحية معها، حصلا جميعا. وكذا إن لم ينوها. ويجوز أن يطرد فيه الخلاف المذكور فيمن نوى غسل الجنابة: هل يحصل له الجمعة والعيد إذا لم ينوهما ؟ (1) ولو صلى الداخل على جنازة، أو سجد لتلاوة، أو شكر، أو صلى ركعة واحدة، لم يحصل التحية على الصحيح. قلت: ومن تكرر دخوله المسجد في الساعة الواحدة مرارا. قال المحاملي في كتابه (اللباب): أرجو أن يجزئه التحية مرة. وقال صاحب (التتمة): لو تكرر دخوله، يستحب التحية كل مرة، وهو الاصح. قال المحاملي: وتكره التحية في حالين. أحدهما: إذا دخل والامام في المكتوبة. والثاني: إذا دخل المسجد الحرام، فلا يشتغل بها عن الطواف. ومما يحتاج إلى معرفته، أنه لو جلس في المسجد قبل التحية، وطال الفصل، لم يأت بها كما سيأتي: أنه لا يشرع قضاؤها. وإن لم يطل، فالذي قاله الاصحاب: أنها تفوت بالجلوس، فلا يفعلها. وذكر الامام أبو الفضل بن عبدان في كتابه المصنف في العبادات: أنه لو نسي التحية وجلس، فذكر بعد ساعة، صلاها. وهذا غريب. وفي (صحيح البخاري) (2) و (مسلم) ما يؤيده في حديث الداخل يوم الجمعة. والله أعلم. ومنه ركعتا الاحرام، وركعتا الطواف، إذا لم نوجبهما. قلت: ومنه ركعتان عقب الوضوء، ينوي بهما سنة الوضوء. ومنه سنة الجمعة

(1/435)


قبلها أربع ركعات، وبعدها أربع. كذا قاله ابن القاص في (المفتاح) وآخرون. ويحصل أيضا بركعتين قبلها، وركعتين بعدها. والعمدة فيما بعدها، حديث (صحيح مسلم) (1) وإذا صليتم الجمعة فصلوا بعدها أربعا) وفي (الصحيحين) (2) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي بعدها ركعتين. وأما قبلها، فالعمدة فيه، القياس على الظهر. ويستأنس فيه بحديث (سنن ابن ماجه) (3): أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، كان يصلي قبلها أربعا. وإسناده ضعيف جدا. ومنه ركعتا الاستخارة. ثبت في (صحيح البخاري) (4). ومنه ركعتا صلاة الحاجة. والله أعلم. فصل: أوكد ما لا تسن له الجماعة: السنن الرواتب. وأفضل الرواتب: الوتر، وركعتا الفجر. وأفضلهما: الوتر على الجديد الصحيح (5). والقديم: سنة الفجر. وفي وجه: هما سواء. فإذا قلنا بالجديد، فالصحيح الذي عليه الجمهور: أن سنة الفجر تلي الوتر في الفضيلة. وفي وجه قاله أبو إسحاق: أن صلاة الليل تقدم على سنة الفجر. قلت: هذا الوجه قوي. ففي (صحيح مسلم) (6) أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال:

(1/436)


(أفضل الصلاة بعد الفريضة، صلاة الليل) وفي رواية (الصلاة في جوف الليل). والله أعلم. ثم أفضل الصلوات بعد الرواتب المذكورة، الضحى. ثم ما يتعلق بفعل، كركعتي الطواف، وركعتي الاحرام، وتحية المسجد (1). فصل: التراويح، عشرون ركعة بعشر تسليمات. قلت: فلو صلى أربعا بتسليمة، لم يصح. ذكره القاضي حسين في (الفتاوى) لانه خلاف المشروع (2). وينوي التراويح، أو قيام رمضان. ولا يصح بنية مطلقة، بل ينوي ركعتين من التراويح في كل تسليمة. والله أعلم. قال الشافعي رحمه الله: ورأيت أهل المدينة يقومون بتسع وثلاثين، منها ثلاث للوتر. قال أصحابنا: ليس لغير أهل المدينة ذلك. والافضل في التراويح الجماعة على الاصح. وقيل: الاظهر، وبه قال الاكثرون. والثاني: الانفراد أفضل. ثم قال العراقيون، والصيدلاني، وغيرهم: الخلاف فيمن يحفظ القرآن، ولا يخاف الكسل عنها، ولا تختل الجماعة في المسجد بتخلفه. فإن فقد بعض هذا، فالجماعة أفضل قطعا. وأطلق جماعة ثلاثة أوجه، ثالثها: هذا الفرق. ويدخل وقت التراويح بالفراغ من صلاة العشاء. فصل: التطوعات التي لا تتعلق بسبب، ولا وقت، لا حصر لاعدادها، ولا لركعات الواحدة منها. فإذا شرع في تطوع، ولم ينو عددا، فله أن يسلم من

(1/437)


ركعة، وله أن يسلم من ركعتين فصاعدا. ولو صلى عددا لا يعلمه، ثم سلم، صح. نص عليه في (الاملاء). ولو نوى ركعة، أو عددا قليلا، أو كثيرا، فله ذلك. ولنا وجه شاذ: أنه لا يجوز أن يزيد على ثلاث عشرة بتسليمة واحدة، وهو غلط. ثم إذا نوى عددا، فله أن يزيد، وله أن ينقص. فمن أحرم بركعة، فله جعلها عشرا. أو بعشر، فله جعلها واحدة، بشرط تغيير النية قبل الزيادة، والنقصان. فلو زاد أو نقص قبل تغير النية عمدا، بطلت صلاته. مثاله: نوى ركعتين، فقام لثالثة بنية الزيادة، جاز. ولو قام قبلها عمدا، بطلت صلاته. وإن قام ناسيا، عاد وسجد للسهو وسلم. فلو بدا له في القيام أن يزيد. فهل يشترط العود إلى القعود ثم يقوم منه، أم له المضي ؟ وجهان. أصحهما: الاول، ثم يسجد للسهو في آخر صلاته. ولو زاد ركعتين سهوا، ثم نوى إكمال أربع، صلى ركعتين أخريين. وما سها به لا يحسب. ولو نوى أربعا، ثم غير نيته، وسلم عن ركعتين، جاز. ولو سلم قبل تغيير النية عمدا، بطلت صلاته. وإن سلم ساهيا، أتم أربعا، وسجد للسهو. فلو أراد بعد السلام أن يقتصر على الركعتين، سجد للسهو وسلم ثانيا، فإن سلامه الاول غير محسوب. ثم إن تطوع بركعة، فلا بد من التشهد. وإن زاد على ركعة، فله أن يقتصر على تشهد في آخر صلاته. وهذا التشهد ركن. وله أن يتشهد في كل ركعتين، كما في الفرائض الرباعية. فإن كان العدد وترا، فلا بد من التشهد في الاخيرة أيضا. وهل له أن يتشهد في كل ركعة ؟ قال إمام الحرمين: فيه احتمال، والظاهر جوازه. واعلم أن تجويز التشهد في كل ركعة، لم يذكره غير الامام، والغزالي. وفي كلام كثير من الاصحاب ما يقتضي منعه. قلت: (الصحيح المختار)، منعه، فإنه اختراع صورة في الصلاة لا عهد بها. والله أعلم. وأما الاقتصار على تشهد في آخر الصلاة، فلا خلاف في جوازه. وأما التشهد في كل ركعتين، فذكره العراقيون وغيرهم، وقالوا: هو الافضل، وإن جاز الاقتصار على تشهد. وذكر صاحب (التتمة)، و (التهذيب) وجماعة: أنه لا يجوز الزيادة على تشهدين بحال. ولا يجوز أن يكون بين التشهدين أكثر من الركعتين، إن كان

(1/438)


العدد شفعا وإن كان وترا، لم يجز بينهما أكثر من ركعة. والمذهب: جواز الزيادة كما قدمناه. وحكى صاحب (البيان) وجها: أنه لا يجلس إلا في آخر الصلاة، وهو شاذ منكر. ثم إن صلى بتشهد، قرأ السورة في الركعات كلها، وإن صلى بتشهدين، فهل يقرأ فيما بعد التشهد الاول ؟ فيه القولان في الفرائض، والافضل: أن يسلم من كل ركعتين، سواء كان بالليل أو بالنهار (1). ولو نوى صلاة تطوع، ولم ينو ركعة، ولا ركعتان (2)، فهل يجوز الاقتصار على ركعة ؟ قال صاحب (التتمة): فيه وجهان، بناء على ما لو نذر صلاة مطلقة، هل يخرج عن نذره بركعة، أم لا بد من ركعتين ؟ وينبغي أن يقطع بالجواز. قلت: إنما ذكر صاحب (التتمة) الوجهين في أنه: هل يكره الاقتصار على ركعة، أم لا يكره ؟ وجزم بالجواز، كما جزم به سائر الاصحاب. والله أعلم. فصل في أوقات النوافل الراتبة: وهي ضربان: أحدهما: راتبة تسبق الفريضة فيدخل وقتها بدخول وقت الفريضة، ويبقى جوازها ما بقي وقت الفريضة. ووقت اختيارها ما قبل الفريضة. ولنا وجه شاذ: أن سنة الصبح يبقى وقت أدائها إلى زوال الشمس. الضرب الثاني: الرواتب التي بعد الفريضة، ويدخل وقتها بفعل الفريضة، ويخرج بخروج وقتها. ولنا قول شاذ: أن الوتر يبقى أداء إلى أن يصلي الصبح. والمشهور: أنه يخرج بطلوع الفجر. فرع: النافلة قسمان. أحدهما: غير مؤقتة، وإنما تفعل لسبب عارض، كصلاة الكسوفين، والاستسقاء، وتحية المسجد. وهذا لا مدخل للقضاء فيه. والثاني: مؤقتة، كالعيد، والضحى، والرواتب التابعة للفرائض. وفي قضائها أقوال. وأظهرها: تقضى. والثاني: لا. والثالث: ما استقل، كالعيد،

(1/439)


والضحى، قضي. وما كان تبعا كالرواتب، فلا. وإذا قلنا: تقضى، فالمشهور أنها تقضى أبدا. والثاني: تقضى صلاة النهار. ما لم تغرب شمسه، وفائت الليل ما لم يطلع فجره. فيقضي ركعتي الفجر ما دام النهار باقيا. والثالث: يقضي كل تابع ما لم يصل فريضة مستقبلة، فيقضي الوتر ما لم يصل الصبح، ويقضي سنة الصبح ما لم يصل الظهر، والباقي على هذا المثال. وقيل: على هذا الاعتبار، بدخول وقت المستقبلة، لا بفعلها. قلت: يستحب عندنا فعل الرواتب، في السفر، كالحضر. والسنة: أن يضطجع بعد سنة الفجر قبل الفريضة. فإن لم يفعل، فصل بينهما، لحديث [ عن عائشة رضي الله عنها ] (1)، (أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، كان إذا صلى سنة الفجر، فإن كنت مستيقظة، حدثني، وإلا اضطجع حتى يؤذن بالصلاة) رواه البخاري (2). والسنة، أن يخفف السورة فيهما. ففي (صحيح مسلم) (3) أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، كان يقرأ في الاولى بعد الفاتحة، * (قولوا آمنا بالله...) * (4). الآيات. وفي الثانية: * (قل يا أهل الكتاب تعالوا...) * (5).

(1/440)


وفي رواية (1): أنه قرأ في الاولى: * (قل يا أيها الكافرون) *. وفي الثانية: * (قل هو الله أحد) * فكلاهما سنة. ونص في (البويطي) على الثانية. وفي سنة المغرب: * (قل يا أيها الكافرون) * و * (قل هو الله أحد) *. وكذا في ركعتي الاستخارة، وتحية المسجد. وتطوع الليل، أفضل من تطوع النهار (2). فإن أراد أحد نصفي الليل، فالنصف الثاني أفضل، وإن أراد أحد الثلاثه، (3) فالاوسط وأفضل منه السدس الرابع، والخامس. ثبت ذلك في (الصحيحين) (4). ويكره قيام الليل كله دائما، وينبغي أن لا يخل بصلاة في الليل وإن قلت. والنفل في البيت أفضل من المسجد (5)، كما قدمناه.

(1/441)


ويستحب لمن قام لتهجد، أن يوقظ له من يطمع بتهجده إذا لم يخف ضررا. ويستحب المحافظة على الركعتين في المسجد، إذا قدم من سفر، للاحاديث الصحيحة في كل ذلك. والله أعلم.

(1/442)