روضة الطالبين وعمدة المفتين ط العلمية

روضة الطالبين - كتاب صلاة الجماعة (1)
اعلم أن أركان الصلاة وشروطها، لا تختلف بالجماعة، والانفراد، لكن الجماعة أفضل. فالجماعة فرض عين في الجمعة، وأما في غيرها من المكتوبات، ففيها أوجه. الاصح: أنها فرض كفاية (2). والثاني: سنة. والثالث: فرض عين قاله من أصحابنا، ابن المنذر، وابن خزيمة. وقيل: إنه قول للشافعي رحمه الله. فإن قلنا: فرض كفاية، فإن امتنع أهل قرية من إقامتها، قاتلهم الامام، ولم يسقط الحرج، إلا إذا أقاموها، بحيث يظهر هذا الشعار بينهم. ففي القرية الصغيرة يكفي إقامتها في موضع، وفي الكبيرة، والبلاد، تقام في المحال. فلو أطبقوا على إقامتها في البيوت، قال أبو إسحاق: لا يسقط الفرض. وخالفه بعضهم، إذا ظهرت في الاسواق (3). وإن قلنا: إنها سنة فتركوها، لم يقاتلوا على الاصح.

(1/443)


قلت: قول أبي إسحاق أصح. ولو أقام الجماعة طائفة يسيرة من أهل البلد، وأظهروها في كل البلد، ولم يحضرها جمهور المقيمين بالبلد، حصلت الجماعة، ولا إثم على المتخلفين. كما إذا صلى على الجنازة طائفة يسيرة. وأما أهل البوادي، فقال إمام الحرمين: عندي فيهم نظر، فيجوز أن يقال: لا يتعرضون لهذا الفرض، ويجوز أن يقال: يتعرضون له إذا كانوا ساكنين. قال: ولا شك أن المسافرين لا يتعرضون لهذا الفرض، وكذا إذا قل عدد ساكني قرية (1). هذا كلام الامام. والمختار أن أهل البوادي الساكنين، كأهل القرية، للحديث الصحيح (2) ما من ثلاثة في قرية، أو بدو، لا تقام فيهم الصلاة، إلا قد استحوذ عليهم الشيطان). والله أعلم. هذا حكم الرجال. وأما النساء، فلا تفرض عليهن الجماعة، لا فرض عين، ولا كفاية. ولكن يستحب لهن. ثم فيه وجهان. أحدهما: كاستحبابها للرجال. وأصحهما: لا يتأكد في حقهن، كتأكدها في حق الرجال. فلا يكره لهن تركها، ويكره تركها للرجال، مع قولنا: هي لهم سنة. والمستحب أن تقف إمامتهن (3) وسطهن، وجماعتهن في البيوت أفضل. فإن أردن حضور المسجد مع الرجال، كره للشواب، دون العجائز. وإمامة الرجال لهن، أفضل من إمامة النساء، لكن لا

(1/444)


يجوز أن يخلو بهن غير محرم (1). قلت: الخلاف في كون الجماعة فرض كفاية، أم عين، أم سنة، هو في المكتوبات المؤديات، أما المنذورة، فلا يشرع فيها الجماعة. وقد ذكره الرافعي في أثناء كلامه في باب الاذان، في مسألة، لا يؤذن لمنذورة. وأما المقضية، فليست الجماعة فيها فرض عين، ولا كفاية قطعا، ولكنها سنة قطعا. وفي الصحيح (2): أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى بأصحابه الصبح جماعة حين فاتتهم بالوادي. وأما القضاء خلف الاداء وعكسه، فجائز عندنا، كما سيأتي إن شاء الله تعالى. لكن الاولى الانفراد للخروج من خلاف العلماء. وأما النوافل، فقد سبق في باب صلاة التطوع ما يشرع فيه الجماعة، منها، وما لا يشرع. ومعنى قولهم: لا يشرع، لا تستحب فلو صلى هذا النوع جماعة جاز، ولا يقال مكروه، فقد تظاهرت الاحاديث الصحيحة على ذلك. والله أعلم. فصل: إذا صلى الرجل في بيته برفيقه، أو زوجته، أو ولده، حاز فضيلة الجماعة، لكنها في المسجد أفضل. وحيث كان الجمع من المساجد أكثر، فهو أفضل. ولو كان بقربه مسجد قليل الجمع، وبالبعد مسجد كثير الجمع، فالبعيد أفضل، إلا في حالتين. إحداهما: أن تتعطل جماعة القريب بعدوله عنه، لكونه إماما، أو يحضر الناس بحضوره، فالقريب أفضل. والثاني: أن يكون إمام البعيد مبتدعا، كالمعتزلي (3) وغيره، قال المحاملي وغيره: وكذا لو كان الامام حنفيا (4)،

(1/445)


لانه لا يعتقد وجوب بعض الاركان، بل قال أبو إسحاق: الصلاة منفردا أفضل من الصلاة خلف الحنفي وهذا تفريع على صحة الصلاة خلف الحنفي (1). ولنا وجه: أن رعاية مسجد الجوار، أفضل بكل حال. فرع: إذا أدرك المسبوق الامام قبل السلام، أدرك فضيلة الجماعة على الصحيح الذي قطع به الجمهور (2). وقال الغزالي: لا يدرك إلا بإدراك ركعة. وهو شاذ ضعيف. فرع: يستحب المحافظة على إدراك التكبيرة الاولى مع الامام. وفيما يدركها به، أوجه. أصحها: بأن يشهد تكبيرة الامام، ويشتغل عقبها بعقد صلاته. فإن أخر لم يدركها. والثاني: بأن يدرك الركوع الاول. والثالث: أن يدرك شيئا من القيام. والرابع: أن يشغله أمر دنيوي لم يدرك بالركوع. وإن منعه عذر، أو سبب

(1/446)


للصلاة، كالطهارة أدرك به. قلت: وذكر القاضي حسين وجها خامسا: أنه يدركها ما لم يشرع الامام في الفاتحة. قال الغزالي في (البسيط) في الوجه الثاني: والثالث، هما فيمن لم يحضر إحرام الامام، فأما من حضر وأخر، فقد فاتته فضيلة التكبيرة، وإن أدرك الركعة. والله أعلم. ولو خاف فوت هذه التكبيرة (1)، فقد قال أبو إسحاق: يستحب أن يسرع، ليدركها، والصحيح الذي قطع به الجماهير: أنه لا يسرع، بل يمشي بسكينة، كما لو لم يخف فوتها. فصل: يستحب للامام أن يخفف الصلاة من غير ترك الابعاض، والهيئات. فإن رضي القوم بالتطويل (2)، وكانوا منحصرين، لا يدخل فيهم غيرهم، فلا بأس بالتطويل. ولو طول الامام، فله أحوال. منها: أن يصلي في مسجد سوق، أو محلة، فيطول، ليلحق آخرون تكثر بهم الجماعة، فهذا مكروه. ومنها: أن يؤم في مسجد يحضره رجل شريف، فيطول ليلحق الشريف، فيكره أيضا. ومنها: أن يحس في صلاته بمجئ رجل يريد الاقتداء به. فإن كان الامام

(1/447)


راكعا، فهل ينتظره ليدرك الركوع ؟ فيه قولان: أظهرهما عند إمام الحرمين، وآخرين: لا ينتظره، والثاني: ينتظره بشرط أن لا يفحش التطويل، وأن يكون المسبوق داخل المسجد حين الانتظار. فإن كان خارجه لم ينتظره قطعا وبشرط أن يقصد به التقرب إلى الله تعالى، فإن قصد التودد واستمالته، فلا ينتظره قطعا. وهذا معنى قولهم: لا يميز بين داخل وداخل. وقيل: إن عرف الداخل بعينه، لم ينتظره، وإلا انتظره. وقيل: إن كان ملازما للجماعة، انتظره، وإلا فلا. واختلفوا في كيفية القولين. فقال معظم الاصحاب: ليس القولان في استحباب الانتظار، بل أحدهما: يكره، وأظهرهما: لا يكره. وقيل: أحدهما، يستحب. والثاني: لا يستحب. وقيل: أحدهما يستحب. والثاني: يكره. وقيل: لا ينتظره قولا واحدا. وإنما القولان في الانتظار في القيام. وقيل: إن لم يضر الانتظار بالمأمومين، ولم يشق عليهم، انتظر قطعا، وإلا ففيه القولان. وحيث قلنا: لا ينتظر، فانتظر، لم تبطل صلاته على المذهب. وقيل: في بطلانها قولان. ولو أحس بالداخل في التشهد الاخير، فهو كالركوع. وإن أحس به في سائر الاركان كالقيام والسجود، وغيرهما، لم ينتظره على المذهب الذي قطع به الجمهور. وقيل: هو كالركوع. وقيل: القيام، كالركوع، دون غيره. وحيث قلنا: لا ينتظر، ففي البطلان ما سبق (1). قلت: المذهب أنه يستحب انتظاره في الركوع والتشهد الاخير بالشروط المذكورة، ويكره في غيرهما. والله أعلم. فصل: من صلى صلاة من الخمس منفردا ثم أدرك جماعة يصلونها، استحب أن يعيدها معهم. ولنا وجه شاذ منكر: أنه يعيد الظهر والعشاء فقط. ووجه: يعيدهما مع المغرب. ولو صلى جماعة، ثم أدرك جماعة أخرى، فالاصح

(1/448)


عند جماهير الاصحاب: يستحب الاعادة كالمنفرد. والثاني: لا. فعلى هذا تكره إعادة الصبح والعصر دون غيرهما. والثالث: إن كان في الجماعة الثانية زيادة فضيلة لكون الامام أعلم أو أورع، أو الجمع أكثر، أو المكان أشرف، استحب الاعادة وإلا فلا. والرابع: يستحب إعادة ما عدا الصبح والعصر. وإذا استحببنا الاعادة لمن صلى منفردا، أو جماعة، ففي فرضه قولان، ووجهان (1). أظهر القولين وهو الجديد: فرضه الاولى. والقديم: فرضه إحداهما لا بعينها. والله تعالى يحتسب بما شاء منهما، وربما قيل: يحتسب بأكملهما. وأحد الوجهين كلاهما فرض. والثاني: إن صلى منفردا، فالفرض الثانية لكمالها. ثم إن فرعنا على غير الجديد، نوى الفرض في المرة الثانية. وإن كانت الصلاة مغربا أعادها كالمرة الاولى. وإن فرعنا على الجديد، فوجهان. الاصح الذي قاله الاكثرون: ينوي بها الفرض أيضا. والثاني: اختاره إمام الحرمين: ينوي الظهر والعصر. ولا يتعرض للفرض فإن كانت الصلاة مغربا. فالصحيح: أنه يعيدها كالمرة الاولى (2). والثاني: يستحب أن يقوم إلى ركعة أخرى إذا سلم الامام. قلت: الراجح: اختيار إمام الحرمين. ويستحب لمن صلى إذا رأى من يصلي تلك الفريضة وحده، أن يصليها معه ليحصل له فضيلة الجماعة. والله أعلم.
فصل : لا رخصة في ترك الجماعة، سواء قلنا سنة، أو فرض كفاية إلا من عذر عام، أو خاص، فمن العام: المطر ليلا كان أو نهارا (3). ومنه الريح العاصفة

(1/449)


في الليل دون النهار. وبعض الاصحاب يقول: الريح العاصفة في الليلة المظلمة، وليس ذلك على سبيل اشتراط الظلمة. ومنه الوحل الشديد وسيأتي في الجمعة إن شاء الله تعالى. ومنه، السموم، وشدة الحر في الظهر. فإن أقاموا الجماعة ولم يبردوا، أو أبردوا، أو بقي الحر الشديد، فله التخلف عن الجماعة. ومنه شدة البرد سواء في الليل والنهار. ومن الاعذار الخاصة: المرض، ولا يشترط بلوغه حدا يسقط القيام في الفريضة، بل يعتبر أن يلحقه مشقة كمشقة الماشي في المطر. ومنها: أن يكون ممرضا، ويأتي تفصيله في (الجمعة) إن شاء الله تعالى. ومنها: أن يخاف على نفسه، أو ماله، أو على من يلزمه الذب عنه من سلطان، أو غيره، ممن يظلمه، أو يخاف من غريم يحبسه، أو يلازمه وهو معسر، فله التخلف. ولا عبرة بالخوف ممن يطالبه بحق هو ظالم في منعه، بل عليه الحضور ويوفيه ذلك الحق. ويدخل في الخوف على المال، ما إذا كان خبزه في التنور، أو قدره على النار، وليس هناك من يتعهدهما. ومنها: أن يكون عليه قصاص لو ظفر به المستحق لقتله، وكان يرجو العفو مجانا، أو على مال لو غيب وجهه أياما، فله التخلف بذلك. وفي معناه حد القذف دون حد الزنا، وما لا يقبل العفو. واستشكل إمام الحرمين جواز التغيب لمن عليه قصاص. ومنها: أن يدافع أحد الاخبثين، أو الريح (1). وتكره الصلاة في هذه الحال، بل يستحب أن يفرغ نفسه، ثم يصلي وإن فاتت الجماعة. فلو خاف فوت الوقت، فوجهان. أصحهما: يقدم الصلاة. والثاني: الاولى أن يقضي حاجته، وإن فات الوقت، ثم يقضي. ولنا وجه شاذ: أنه إذا ضاق عليه الامر بالمدافعة، وسلبت خشوعه، بطلت صلاته. قاله الشيخ أبو زيد، والقاضي حسين.

(1/450)


ومنها: أن يكون به جوع، أو عطش شديد، وحضر الطعام والشراب، وتاقت نفسه إليه، فيبدأ بالاكل والشرب. قال الاصحاب: وليس المراد أن يستوفي الشبع، بل يأكل لقما يكسر حدة جوعه. إلا أن يكون الطعام مما يؤتى عليه مرة واحدة، كالسويق، واللبن. فإن خاف فوت الوقت لو اشتغل، فوجهان، كمدافعة الاخبثين. ومنها: أن يكون عاريا لا لباس (1) له، فيعذر في التخلف، سواء وجد ما يستر العورة، أم لا. ومنها: أن يريد السفر وترتحل الرفقة. ومنها: أن يكون ناشد ضالة يرجو الظفر، إن ترك الجماعة، أو وجد من غصب ماله، وأراد استرداده منه. ومنها: أن يكون أكل بصلا، أو كراثا (2)، أو نحوهما، ولم يمكنه إزالة الرائحة بغسل ومعالجة، فإن كان مطبوخا فلا. ومنها: غلبة النوم (3). قلت: أما الثلج، فإن بل الثوب فعذر، وإلا، فلا. قال في (الحاوي): والزلزلة عذر. والله أعلم.

(1/451)


باب صفة الأئمة
صفة الائمة ضربان، مشروطة، ومستحبة. فأما المشروطة، فصلاة الامام تارة تكون باطلة في اعتقاد الامام والمأموم، وتارة تكون صحيحة. فالاول كصلاة المحدث، والجنب، ومن على ثوبه نجاسة، ونحو ذلك، فلا يجوز لمن علم حاله الاقتداء به، وكذلك الكافر لا يجوز الاقتداء به. ولو صلى، لم يصر بالصلاة مسلما على المشهور. والثاني: إذا صلى في دار الحرب، صار مسلما. هذا إذا لم يسمع منه كلمتا الشهادتين، فإن سمعتا، حكم بإسلامه على الصحيح (1). فأما إذا كانت صلاة الامام صحيحة في اعتقاده دون اعتقاد المأموم، أو بالعكس، فله صورتان. إحداهما: أن يكون ذلك لاختلافهما في الفروع الاجتهادية. بأن مس الحنفي فرجه، وصلى، ولم يتوضأ، أو ترك الاعتدال، أو الطمأنينة، أو قرأ غير الفاتحة، ففي صحة صلاة الشافعي خلفه، وجهان. قال القفال: يصح. وقال الشيخ أبو حامد: لا يصح. وهذا هو الاصح عند الاكثرين. وبه قطع الروياني في (الحلية) والغزالي في (الفتاوى). ولو صلى على وجه لا يصححه، والشافعي يصححه، بأن احتجم، وصلى، فعند القفال: لا يصح اقتداء الشافعي به. وعند أبي حامد: يصح، اعتبارا باعتقاد المأموم. وقال الاودني (2)، والحليمي من أصحابنا: إذا أم ولي الامر، أو نائبه فترك البسملة. والمأموم يرى وجوبها، صحت صلاته خلفه عالما كان، أو عاميا، وليس له المفارقة لما فيه من الفتنة، وهذا حسن. أما إذا حافظ الحنفي على جميع ما يعتقد الشافعي وجوبه، واشتراطه، فيصح اقتداء الشافعي به على الصحيح الذي قطع به الجمهور. وقال الاستاذ أبو إسحاق الاسفراييني: لا يصح. ولو شك، هل أتى بالواجبات، أم لا ؟ فالاصح: أنه كما

(1/452)


إذا علم إتيانه بها. والثاني: أنه كما إذا علم تركها، فالحاصل في اقتداء الشافعي بالحنفي، أربعة أوجه. أحدها: الصحة. والثاني: البطلان. والاصح: إن حافظ على الواجبات، أو شككنا، صح. وإلا، فلا. والرابع: إن حافظ، صح. وإلا، فلا. ولو اقتدى الحنفي بالشافعي، فصلى الشافعي على وجه يصح عنده، ولا يصح عند الحنفي، بأن احتجم، ففي صحة اقتدائه الخلاف. وإذا صححنا اقتداء أحدهما بالآخر، فصلى الشافعي الصبح خلف حنفي، ومكث الحنفي بعد الركوع قليلا، وأمكنه أن يقنت فيه، فعل، وإلا تابعه. ويسجد للسهو، إن اعتبرنا اعتقاد المأموم، وإن اعتبرنا اعتقاد الامام، فلا. ولو صلى الحنفي خلف الشافعي الصبح، فترك الامام القنوت ساهيا، وسجد للسهو، تابعه المأموم، وإن ترك الامام سجود السهو، سجد المأموم إن اعتبرنا اعتقاد الامام، وإلا، فلا. الصورة الثانية: أن لا يكون لاختلافهما في الفروع، فلا يجوز لمن يعتقد بطلان صلاة غيره أن يقتدي به، كرجلين اختلف اجتهادهما في القبلة، أو في إناءين: طاهر، ونجس، فلو كثرت الآنية والمجتهدون، واختلفوا بأن كانت ثلاثة: طاهران، ونجس، فظن كل رجل طهارة واحد فحسب، وأم كل واحد في صلاة فثلاثة أوجه، الصحيح: قول ابن الحداد والاكثرين: تصح لكل واحد ما أم فيه، والاقتداء الاول يبطل الثاني. والثاني: قول صاحب (التلخيص): لا يصح الاقتداء أصلا. والثالث: قول أبي إسحاق المروزي: يصح الاقتداء الاول إن اقتصر عليه. فإن اقتدى ثانيا، لزمه إعادتهما. أما إذا ظن طهارة اثنين، فيصح اقتداؤه مستعمل المظنون طهارته بلا خلاف. ولا يصح بالثالث بلا خلاف. ولو كانت الآنية خمسة، والنجس منها واحد، فظن كل واحد طهارة واحد، ولم يظن شيئا من الاربعة، وأم كل واحد في صلاة، فعند صاحب (التلخيص) والمروزي: يجب عليهم إعادة ما اقتدوا به. وعند ابن الحداد: يجب إعادة الاقتداء الاخير فقط. وقال بعض الاصحاب: هذه الاوجه إنما هي فيما إذا سمع صوت من خمسة أنفس وتناكروه. فأما الآنية: فلا تبطل إلا الاقتداء الاخير بلا خلاف. ولو كان النجس من الآنية الخمسة اثنين، صحت صلاة كل واحد منهم خلف اثنين، وبطلت خلف اثنين. ولو كان النجس ثلاثة، صحت خلف واحد فحسب. هذا قول ابن الحداد، ولا يخفى قول الآخرين.

(1/453)


الحال الثاني: أن تكون صلاة الامام صحيحة في اعتقاد الامام والمأموم، فتارة يغني عن القضاء، وتارة لا يغني. فإن لم تغن كمن لم يجد ماء ولا ترابا، لم يجز الاقتداء به للمتوضئ ولا للمتيمم الذي لا يقضي. وهل يجوز لمن هو في مثل حاله ؟ وجهان. الصحيح: لا. ومثله: المقيم المتيمم لعدم الماء، ومن أمكنه أن يتعلم الفاتحة فلم يتعلم ثم صلى لحرمة الوقت، والعاري، والمربوط على خشبة إذا أوجبنا عليهم الاعادة. وإن أغنت عن القضاء. فإن كان مأموما، لم يصح الاقتداء به. ولو رأى رجلين يصليان جماعة، وشك أيهما الامام، لم يجز الاقتداء بواحد منهما حتى يتبين الامام. ولو اعتقد كل واحد من المصلين أنه مأموم، لم تصح صلاتهما. وإن اعتقد أنه إمام، صحت. ولو شك كل واحد أنه إمام، أم مأموم، بطلت صلاتهما. وإن شك أحدهما، بطلت صلاته. وأما الآخر، فإن ظن أنه إمام صحت، وإلا، فلا. وإن كان غير مأموم، فتارة يخل بالقراءة، وتارة لا يخل، فإن أخل بأن كان أميا، ففي صحة اقتداء القارئ به، ثلاثة أقوال. الجديد الاظهر: لا تصح. والقديم: إن كانت سرية، صح، وإلا فلا. والثالث: مخرج أنه يصح مطلقا. هكذا نقل الجمهور. وأنكر بعضهم الثالث، وعكس الغزالي، فجعل الثاني ثالثا، والثالث ثانيا، والصواب: الاول. قلت: هذه الاقوال جارية سواء علم المأموم كون الامام أميا، أم لا هكذا قاله الشيخ أبو حامد، وغيره. وهو مقتضى اطلاق الجمهور. وقال صاحب (الحاوي): الاقوال إذا لم يعلم كونه أميا، فإن علم لم يصقطعا، والصحيح أنه لا فرق. والله أعلم. والمراد بالامي: من لا يحسن الفاتحة أو بعضها، لخرس أو غيره، فيدخل فيه الارت (1). وهو الذي يدغم (2) حرفا بحرف في غير موضع الادغام (3). وقال في (التهذيب): هو الذي يبدل الراء بالتاء. والالثغ: وهو الذي يبدل حرفا بحرف،

(1/454)


كالسين بالثاء، والراء بالغين، ومن في لسانه رخاوة تمنعه التشديد. واعلم أن الخلاف المذكور في اقتداء القارئ بالامي هو فيمن لم يطاوعه لسانه، أو طاوعه ولم يمض زمن يمكن التعلم فيه. فأما إذا مضى زمن وقصر بترك التعلم، فلا يصح الاقتداء به بلا خلاف، لان صلاته حينئذ مقضية، كصلاة من لم يجد ماء ولا ترابا. ويصح اقتداء أمي بأمي مثله. ولو حضر رجلان، كل واحد منهما يحسن بعض الفاتحة إن كان ما يحسنه ذا، يحسنه ذاك، جاز اقتداء كل واحد بصاحبه، وإن أحسن كل واحد غير ما يحسنه الآخر، فاقتداء أحدهما بالآخر، كاقتداء القارئ بالامي. وعليه يخرج الارت بالالثغ، وعكسه لان كل واحد قارئ ما لا يحسنه صاحبه. وتكره إمام التمتام، والفأفاء، والاقتداء يصح بهما. قلت: التمتام، من يكرر التاء (1)، والفأفاء (2)، من يكرر الفاء، ويتردد فيها، وهو بهمزتين بعد الفاءين، بالمد في آخره. والله أعلم. وتكره إمامة من يلحن في القراءة ثم ينظر: إن كان لحنا لا يغير المعنى كرفع الهاء من الحمد لله، صحت صلاته، وصلاة من اقتدى به. وإن كان يغير، كضم تاء أنعمت عليهم، أو كسرها، تبطله. كقوله: الصراط المستقين. فإن كان يطاوعه لسانه، ويمكنه التعلم، لزمه ذلك. فإن قصر، وضاق الوقت، صلى وقضى، ولا يجوز الاقتداء به. وإن لم يطاوعه لسانه، أو لم يمض ما يمكن التعلم فيه، فإن كان في الفاتحة، فصلاة مثله خلفه صحيحة، وصلاة صحيح اللسان خلفه، صلاة قارئ خلف أمي. وإن كان في غير الفاتحة، صحت صلاته، وصلاة من خلفه قال إمام الحرمين: ولو قيل: ليس لهذا اللاحن قراءة غير الفاتحة مما يلحن فيه، لم يكن بعيدا، لانه يتكلم بما ليس بقرآن بلا ضرورة، أما إذا لم يخل الامام بالقراءة فإن كان رجلا، صح اقتداء الرجال والنساء به، وإن كانت امرأة، صح اقتداء النساء بها، ولم يصح اقتداء الرجال، ولا الخنثى. وإن كان خنثى، جاز اقتداء المرأة به. ولا يجوز اقتداء الرجل ولا خنثى آخر به.

(1/455)


فرع: حيث حكمنا بصحة الاقتداء فلا بأس أن يكون الامام متيمما، أو ماسح خف، والمأموم متوضئا غاسلا رجله. ويجوز اقتداء السليم بسلس البول، والطاهرة بالمستحاضة غير المتحيرة على الاصح. كما يجوز قطعا بمن استنجى بالاحجار، ومن على ثوبه، أو بدنه نجاسة معفو عنها. ويصح صلاة القائم خلف القاعد، أو القائم والقاعد خلف المضطجع. فرع: جميع ما تقدم فيما إذا عرف المأموم حال الامام في الصفات المشروطة وجودا وعدما. فأما إذا ظن شيئا، فبان خلافه، فله صور. منها: إذا اقتدى رجل بخنثى مشكل، وجب القضاء، فلو لم يقض حتى بان الخنثى رجلا، لم يسقط القضاء على الاظهر. ويجري القولان فيما إذا اقتدى خنثى بامرأة، ولم يقض حتى بان امرأة، وفيما إذا اقتدى خنثى بخنثى، ولم يقض المأموم حتى بان امرأة والامام رجلا (1). ومنها: لو اقتدى بمن ظنه متطهرا، فبان بعد الصلاة محدثا أو جنبا، فلا قضاء على المأموم. ولنا قول: إن كان الامام عالما بحدثه، لزم المأموم القضاء وإلا، فلا. والمشهور المعروف الذي قطع به الاصحاب: أن لا قضاء مطلقا. قلت: هذا القول الشاذ نقله صاحب (التلخيص) قال القفال في شرح (التلخيص) قال أصحابنا: هذا النقل غلط. ولا يختلف مذهب الشافعي، أنه لا إعادة على المأموم مطلقا، وإنما حكى الشافعي مذهب مالك: أنه تجب الاعادة إن

(1/456)


تعمد الامام، وليس مذهبا له. والصواب: إثبات القول كما نقله صاحب (التلخيص) وقد نص عليه الشافعي في (البويطي). والله أعلم. هذا إذا لم يعرف المأموم حدث الامام أصلا. فإن علم ولم يتفرقا، ولم يتوضأ ثم اقتدى به ناسيا، وجبت الاعادة قطعا. وهذا كله في غير صلاة الجمعة. فإن كان فيها، ففيه كلام يأتي في بابها إن شاء الله تعالى. ومنها: لو اقتدى بمن ظنه قارئا فبان أميا، وقلنا: لا تصح صلاة القارئ خلف الامي، ففي الاعادة وجهان. أصحهما: تجب. قطع به في (التهذيب)، وهو مقتضى كلام الاكثرين، سواء كانت الصلاة سرية، أو جهرية. ولو اقتدى بمن لا يعرف حاله في جهرية، فلم يجهر، وجبت الاعادة. نص عليه في (الام) وقاله العراقيون، لان الظاهر أنه لو كان قارئا لجهر. فلو سلم وقال: أسررت ونسيت الجهر، لم تجب الاعادة، لكن تستحب (1). ولو بان في أثناء الصلاة ذكورة الخنثى، ففي بطلان صلاة المأموم الرجل، القولان، كما بعد الفراغ. ولو بان في أثنائها كونه جنبا، أو محدثا، فلا قضاء ويجب أن ينوي المفارقة في الحال، ويبني. ولو بان أميا، وقلنا: لا تجب الاعادة، فكالمحدث وإلا، فكالخنثى. ومنها لو اقتدى بمن ظنه رجلا، فبان امرأة، أو خنثى، وجبت الاعادة. وقيل: لا تجب إذا بان خنثى وهو شاذ. ولو ظنه مسلما، فبان كافرا يتظاهر بكفره كاليهودي، وجب القضاء. وإن كان يخفيه ويظهر الاسلام، كالزنديق، والمرتد، لم يجب القضاء على الاصح. قلت: هذا الذي صححه هو الاقوى دليلا. لكن الذي صححه الجمهور، وجوب القضاء. وممن صححه الشيخ أبو حامد، والمحاملي، والقاضي أبو الطيب، والشيخ نصر المقدسي، وصاحبا (الحاوي) و (العدة) وغيرهم ونقله الشيخ أبو حامد عن نص الشافعي رضي الله عنه. قال صاحب (الحاوي): وهو مذهب الشافعي وعامة أصحابه. والله أعلم.

(1/457)


ولو بان على بدن الامام أو ثوبه نجاسة (1)، فإن كانت خفية، فهو كمن بان محدثا، وإن كانت ظاهرة، فقال إمام الحرمين: عندي فيه احتمال، لانه من جنس ما يخفى. قلت: وقطع صاحب (التتمة) و (التهذيب) وغيرهما، بأن النجاسة كالحدث. ولم يفرقوا بين الخفية وغيرها، وأشار إمام الحرمين، إلى أنها إذا كانت ظاهرة، فهي كمسألة الزنديق (2). والله أعلم. وقال المزني: لا يجب القضاء إذا بان كافرا، أو امرأة. قلت: ولو بان مجنونا، وجبت الاعادة على المأموم. فلو كان له حالة جنون، وحالة إفاقة، أو حال إسلام، وحال ردة، واقتدى به ولم يدر في أي حاليه كان، فلا إعادة، لكن يستحب. ولو صلى خلف من يجهل إسلامه، فلا إعادة، لكن يستحب. ولو صلى خلف من أسلم، فقال بعد الفراغ: لم أكن أسلمت حقيقة، أو أسلمت ثم ارتددت، فلا إعادة. والله أعلم. فرع: يصح الاقتداء بالصبي المميز في الفرض والنفل، ولكن البالغ أولى منه. ويصح بالعبد بلا كراهة، لكن الحر أولى، هذا إذا أما في غير الجمعة. وإمامة الاعمى صحيحة، وهو والبصير سواء على الصحيح المنصوص الذي قطع به الجمهور. والثاني: البصير أولى، واختاره أبو إسحاق الشيرازي. والثالث: الاعمى أولى، قاله أبو إسحاق المروزي، واختاره الغزالي (3).

(1/458)


فصل في الصفات المستحبة في الامام: الاسباب التي يترجح (1) بها الامام ستة: الفقه، والقراءة، والورع، والسن، والنسب، والهجرة. فأما الفقه والقراءة، فظاهران. وأما الورع، فليس المراد منه مجرد العدالة (2)، بل ما يزيد عليه من حسن السيرة والعفة. وأما السن، فالمعتبر سن مضى في الاسلام (3)، فلا يقدم شيخ أسلم اليوم، على شاب نشأ في الاسلام، ولا على شاب أسلم أمس. والصحيح: أنه لا تعتبر الشيخوخة، بل النظر إلى تفاوت السن، وأشار بعضهم إلى اعتبارها. وأما النسب، فنسب قريش معتبر بلا خلاف. وفي غيرهم وجهان. أصحهما: يعتبر كل نسب يعتبر في الكفاءة، كالعلماء، والصلحاء. فعلى هذا الهاشمي والمطلبي، يقدمان على سائر قريش، وسائر قريش يقدمون على سائر العرب، وسائر العرب يقدمون على العجم. والثاني: لا يعتبر ما عدا قريشا. وأما الهجرة، فيقدم من هاجر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على من لم يهاجر. ومن تقدمت هجرته على من تأخرت. وكذلك الهجرة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من دار الحرب إلى دار الاسلام، معتبرة وأولاد من هاجر، أو تقدمت هجرته، مقدمون على أولاد غيرهم. ويتفرع على هذه المقدمة مسائل. فإذا اجتمع عدل وفاسق، فالعدل أولى بالامامة، وإن اختص الفاسق بزيادة الفقه والقراءة وسائر الخصال، بل تكره الصلاة خلف الفاسق وتكره أيضا خلف المبتدع الذي لا يكفر ببدعته. وأما الذي يكفر ببدعته، فلا يجوز الاقتداء به. وحكمه ما تقدم في غيره من الكفار. وعد صاحب

(1/459)


(الافصاح) من يقول بخلق القرآن، أو ينفي شيئا من صفات الله تعالى، كافرا. وكذا جعل الشيخ أبو حامد، ومتابعوه، والمعتزلة ممن يكفر. والخوارج، لا يكفرون. ويحكى القول بتكفير من يقول بخلق القرآن، عن الشافعي. وأطلق القفال، وكثيرون من الاصحاب، القول بجواز الاقتداء بأهل البدع، وأنهم لا يكفرون. قال صاحب (العدة): وهو ظاهر مذهب الشافعي. قلت: هذا الذي قاله القفال، وصاحب (العدة) هو الصحيح، أو الصواب. فقد قال الشافعي رحمه الله: أقبل شهادة أهل الاهواء، إلا الخطابية، لانهم يرون الشهادة بالزور لموافقيهم. ولم يزل السلف والخلف على الصلاة خلف المعتزلة، وغيرهم، ومناكحتهم، وموارثتهم، وإجراء أحكام المسلمين عليهم. وقد تأول الامام الحافظ الفقيه، أبو بكر البيهقي، وغيره من أصحابنا المحققين، ما جاء عن الشافعي وغيره من العلماء، من تكفير القائل بخلق القرآن على كفران النعم، لا كفر الخروج من الملة، وحملهم على هذا التأويل، ما ذكرته من إجراء أحكام المسلمين عليهم. والله أعلم. وفي الاورع، مع الافقه والاقرأ وجهان. قال الجمهور: هما مقدمان عليه. وقال الشيخ أبو محمد، وصاحب (التتمة) و (التهذيب): يقدم عليهما، والاول أصح. ولو اجتمع من لا يقرأ إلا ما يكفي الصلاة ولكنه صاحب فقه كثير، وآخر يحسن القرآن كله وهو قليل الفقه، فالصحيح المنصوص الذي قطع به الجماهير: أن الافقه أولى، والثاني: هما سواء. فأما من جمع الفقه والقراءة، فهو مقدم على المنفرد بأحدهما قطعا. والفقه، والقراءة، يقدم كل واحد منهما على النسب، والسن، والهجرة. وعن بعض الاصحاب قول مخرج: أن السن يقدم على الفقه، وهو شاذ. وإذا استويا في الفقه والقراءة، ففيه طرق. قال الشيخ أبو حامد، وجماعة: لا خلاف في تقديم السن والنسب على الهجرة. فلو تعارض سن ونسب، كشاب قرشي، وشيخ غير قرشي، فالجديد: تقديم الشيخ، والقديم: الشاب. ورجح جماعة هذا القديم، وعكس صاحبا (التتمة) و (التهذيب) فقالا: الهجرة مقدمة على النسب والسن. وفيهما القولان. وقال آخرون، منهم صاحب (المهذب): الجديد: يقدم السن، ثم النسب، ثم الهجرة، والقديم: يقدم النسب، ثم الهجرة، ثم السن. أما إذا تساويا في جميع الصفات المذكورات، فيقدم بنظافة

(1/460)


الثوب والبدن عن الاوساخ، وبطيب الصنعة، وحسن الصوت، وما أشبهها من الفضائل. وحكى الاصحاب عن بعض متقدمي العلماء، أنهم قالوا: يقدم أحسنهم. واختلفوا في معناه. فقيل: أحسنهم وجها، وقيل: أحسنهم ذكرا بين الناس. قال في (التتمة): تقدم نظافة الثوب، ثم حسن الصوت، ثم حسن الصورة (1). فرع: الوالي في محل ولايته، أولى من غيره، وإن اختص ذلك الغير بالخصال الذي سبقت. ويقدم الوالي على إمام المسجد، ومالك الدار، ونحوهما، إذا أذن المالك في إقامة الجماعة في ملكه. فلو أذن الوالي في تقدم غيره، فلا بأس. ثم يراعى في الولاة تفاوت الدرجة، فالامام الاعظم، أولى من غيره، ثم الاعلى فالاعلى من الولاة والحكام. ولنا قول شاذ: أن المالك أولى من الوالي. والمشهور، تقديم الوالي. ولو اجتمع قوم في موضع مملوك ليس فيهم وال، فساكن الموضع بحق أولى بالتقديم، والتقدم من الاجانب، فإن لم يكن أهلا للتقدم، فهو أولى بالتقديم، سواء كان الساكن عبدا أسكنه سيده، أو حرا مالكا، أو مستعيرا، أو مستأجرا. ولو كانت الدار مشتركة بين شخصين وهما حاضران، أو أحدهما، والمستعير من الآخر، فلا يتقدم غيرهما إلا بإذنهما، ولا أحدهما إلا بإذن الآخر. فإن لم يحضر إلا أحدهما، فهو الاحق. ولو اجتمع مالك الدار والمستأجر، فالاصح: أن المستأجر أولى، والثاني: المالك. ولو اجتمع المعير والمستعير، فالاصح: أن المعير أولى، والثاني: المستعير. ولو حضر السيد وعبده الساكن، فالسيد أولى قطعا، سواء المأذون له في التجارة وغيره. ولو حضر السيد والمكاتب في دار المكاتب، فالمكاتب أولى. ولو حضر قوم في مسجد له إمام راتب، فهو أولى من غيره. فإن لم يحضر إمامه، استحب أن يبعث إليه ليحضر. فإن خيف فوات أول الوقت، استحب أن يتقدم غيره.

(1/461)


قلت: تقدم غيره مستحب إن لم يخف فتنة، فإن خيفت، صلوا فرادى. ويستحب لهم أن يعيدوا معه إن حضر بعد ذلك. والله أعلم.
فصل في شروط الاقتداء وآدابه : فأما الشروط، فسبعة: أحدها: أن لا يتقدم المأموم على الامام في جهة القبلة (1). فإن تقدم، لم تنعقد صلاته على الجديد الاظهر. ولو تقدم في خلالها، بطلت. والقديم: أنها تنعقد. والمستحب للمأموم أن يتأخر عن موقف الامام قليلا (2) إن كان وحده. فإن ائتم اثنان فصاعدا، اصطفوا خلفه. ولو تساوى الامام والمأموم، صحت صلاته. والاعتبار في التقدم، والمساواة بالعقب (3)، فلو استويا في العقب، وتقدمت أصابع المأموم، لم يضر. وإن تأخرت أصابع المأموم عن أصابع الامام، وتقدم عقبه، فعلى القولين. وقيل: تصح قطعا. وفي الوسيط: أن الاعتبار بالكعب. والصحيح: الاول. هذا فيمن بعد عن الكعبة. فإن صلوا في المسجد الحرام، فالمستحب أن يقف الامام خلف المقام، ويقف الناس مستديرين بالكعبة، فإن كان بعضهم أقرب إليها، نظر: إن كان متوجها إلى الجهة التي توجه إليها الامام، ففيه القولان القديم، والجديد، وإن كان متوجها إلى غيرها، فالمذهب صحة صلاة المأموم قطعا. وقيل: على القولين. ولو وقف الامام والمأموم داخل الكعبة، فإن كان وجه المأموم إلى ظهر الامام، أو وجهه إلى وجهه، أو ظهره إلى ظهره، وليس المأموم أقرب إلى الجدار، صح اقتداؤه، وكذا إن كان أقرب إلى الجدار على المذهب. وقيل: على القولين. وإن كان ظهره إلى وجه الامام فعلى القولين. ولو وقف الامام في الكعبة، والمأموم خارجها، جاز وله التوجه إلى أي جهة شاء ولو وقفا

(1/462)


بالعكس، جاز أيضا، لكن إن توجه إلى الجهة التي توجه إليها الامام، عاد القولان. فرع: إذا لم يحضر مع الامام إلا ذكر، فليقف عن يمينه بالغا كان أو صبيا، ولو وقف عن يساره، أو خلفه، لم تبطل صلاته. فإن جاء مأموم آخر، وقف عن يساره وأحرم. ثم إن أمكن تقدم الامام، وتأخر المأمومين لسعة المكان من الجانبين، تقدم، أو تأخر، أو أيهما أولى ؟ وجهان. الصحيح الذي قطع به الاكثرون: تأخرهما. والثاني: تقدمه. قاله القفال، لانه يبصر ما بين يديه. فإن لم يمكن إلا التقدم، أو التأخر لضيق المكان من أحد الجانبين، فعل الممكن، وهذا في القيام. أما إذا لحق الثاني في التشهد، أو السجود، فلا تقدم ولا تأخر حتى يقوموا. ولو حضر معه في الابتداء رجلان، أو رجل وصبي، اصطفا خلفه (1). ولو لم يحضر معه إلا إناث، صفهن خلفه، سواء الواحدة، وجماعتهن. وإن حضر معه رجل وامرأة، قام الرجل عن يمينه، والمرأة خلف الرجل. وإن حضر معه امرأة ورجلان، أو رجل وصبي، قام الرجلان، أو الرجل والصبي خلف الامام صفا، وقامت هي خلفهما. وإن كان معه رجل، وامرأة، وخنثى، وقف الرجل عن يمينه، والخنثى خلفهما، والمرأة خلف الخنثى. وإن حضر رجال وصبيان، وقف الرجال خلف الامام في صف، أو صفوف. والصبيان خلفهم، وفي وجه: يقف بين كل رجلين صبي ليتعلموا أفعال الصلاة. ولو حضر معهم نساء، أخر صف النساء عن الصبيان. هذا كله إذا لم يكن الرجال عراة، فإن كانوا، وقف إمامهم وسطهم وصاروا صفا. وأما النساء الخلص، إذا أقمن جماعة، فقد قدمنا في باب ستر العورة كيف يقفن. وأن إمامتهن تقف وسطهن. قلت: ولو صلى خنثى بنساء، تقدم عليهن. والله أعلم. وكل هذا استحباب، ومخالفته لا تبطل الصلاة. فرع: إذا دخل رجل، والجماعة في الصلاة، كره أن يقف منفردا (2)، بل

(1/463)


إن وجد فرجة (1)، أو سعة (2) في الصف، دخلها. وله أن يخرق الصف إذا لم يكن فيه فرجة وكانت في صف قدامه، لتقصيرهم بتركها. فلو (3) لم يجد في الصف سعة، فوجهان. أحدهما: يقف منفردا، ولا يجذب إلى نفسه أحدا، نص عليه في (البويطي) والثاني - وهو قول أكثر الاصحاب -: يجر إلى نفسه واحدا. ويستحب للمجرور، أن يساعده. وإنما يجره بعد إحرامه. ولو وقف منفردا، صحت صلاته. الشرط الثاني: العلم بالافعال الظاهرة من صلاة الامام. وهذا لا بد منه نص عليه الشافعي، واتفق عليه الاصحاب. ثم العلم قد يكون بمشاهدة الامام، أو مشاهدة بعض الصفوف، وقد يكون بسماع صوت الامام، أو صوت المترجم في حق الاعمى، والبصير: الذي لا يشاهد لظلمة أو غيرها، وقد يكون بهداية غيره إذا كان أعمى، أو أصم في ظلمة. الشرط الثالث: اجتماع الامام والمأموم في الموقف. ولهما ثلاثة أحوال. الاول: إذا كانا في مسجد، صح الاقتداء، قربت المسافة بينهما أم بعدت لكبر المسجد، وسواء اتحد البناء أم اختلف، كصحن المسجد، وصفته، أو منارته وسرداب فيه، أو سطحه وساحته، بشرط أن يكون السطح من المسجد، فلو كان مملوكا، فهو كملك متصل بالمسجد، وقف أحدهما فيه، والآخر في المسجد. وسيأتي في القسم الثالث إن شاء الله تعالى. وشرط البناءين في المسجد، أن يكون باب أحدهما نافذا إلى الآخر. وإلا، فلا يعدان مسجدا واحدا. وإذا حصل هذا الشرط، فلا فرق بين أن يكون الباب بينهما مفتوحا، أو مردودا مغلقا، أو غير مغلق. وفي وجه ضعيف: إن كان مغلقا، لم يجز الاقتداء. ووجه مثله فيما إذا كان أحدهما على السطح، وباب المرقى مغلقا. ولو كانا في مسجدين، يحول بينهما

(1/464)


نهر، أو طريق، أو حائط المسجد من غير باب نافذ من أحدهما إلى الآخر، فهو كما إذا وقف أحدهما في مسجد، والآخر في ملك. وسيأتي إن شاء الله تعالى. وإن كان في المسجد نهر، فإن حفر النهر بعد المسجد، فهو مسجد فلا يضر، وإن حفر قبل مصيره مسجدا، فهما مسجدان غير متصلين. قال الشيخ أبو محمد: لو كان في جوار المسجد مسجد آخر منفرد بإمام، ومؤذن، وجماعة، فلكل واحد مع الآخر حكم الملك المتصل بالمسجد. وهذا كالضابط الفارق بين المسجد والمسجدين. فظاهره يقتضي تغاير الحكم، إذا انفرد بالامور المذكورة، وإن كان باب أحدهما نافذا إلى الآخر. قلت: الذي صرح به كثيرون، منهم الشيخ أبو حامد، وصاحب (الشامل) و (التتمة)، وغيرهم: أن المساجد التي يفتح بعضها إلى بعض، لها حكم مسجد واحد وهو الصواب. والله أعلم. وأما رحبة المسجد، فعدها الاكثرون منه، ولم يذكروا فرقا بين أن يكون بينها وبين المسجد طريق أم لا. وقال ابن كج: إن انفصلت، فهي كمسجد آخر. الحال الثاني: أن يكون في غير مسجد، وهو ضربان: أحدهما: أن يكون في فضاء (1) فيجوز الاقتداء، بشرط أن لا يزيد ما بينهما على ثلاث مائة ذراع تقريبا (2) على الاصح. وعلى الثاني: تحديد (3). وهذا التقدير (4) مأخوذ من العرف (5) على الصحيح، وقول الجمهور. وعلى الثاني: مما بين الصفين في صلاة الخوف (6). ولو وقف خلف الامام صفان، أو شخصان، أحدهما وراء الآخر، فالمسافة المذكورة تعتبر بين الصف الاخير، أو الصف الاول،

(1/465)


أو الشخص الاخير والاول، ولو كثرت الصفوف، وبلغ ما بين الامام والاخير فرسخا، جاز. وفي وجه: يعتبر بين الامام والصف الاخير إذا لم تكن الصفوف القريبة من الامام متصلة على العادة. وهذا الوجه شاذ. ولو حال بين الامام والمأموم، أو الصفين نهر يمكن العبور من أحد طرفيه، إلى الآخر بلا سباحة، بالوثوب، أو الخوض، أو العبور على جسر، صح الاقتداء. وإن كان يحتاج إلى سباحة، أو كان بينهما شارع مطروق، لم يضر على الصحيح. وسواء في الحكم المذكور، كان الفضاء مواتا أو وقفا، أو ملكا، أو بعضه مواتا، وبعضه ملكا، أو بعضه (1) وقفا. وفي وجه شاذ: يشترط في الساحة المملوكة، اتصال الصفوف، وفي وجه: يشترط ذلك إن كانت لشخصين، والصحيح أنه لا يشترط مطلقا. وسواء في هذا كله كان الفضاء محوطا عليه أو مسقفا، كالبيوت الواسعة أو غير محوط. الضرب الثاني: أن يكونا في غير فضاء فإذا وقف أحدهما في صحن دار أو صفتها والآخر في بيت، فموقف المأموم، قد يكون عن يمين الامام أو يساره، وقد يكون خلفه. وفيه طريقتان. إحداهما: قالها القفال وأصحابه، وابن كج، وحكاها أبو علي في (الافصاح) عن بعض الاصحاب: أنه يشترط فيما إذا وقف من أحد الجانبين، أن يتصل الصف من البناء الذي فيه الامام، إلى البناء الذي فيه المأموم (2)، بحيث لا تبقى فرجة (3) تسع واقفا، فإن بقيت فرجة لا تسع واقفا (4)، لم يضر على الصحيح (5). ولو كان بينهما عتبة عريضة تسع واقفا، اشترط وقوف مصل فيها وإن لم يمكن الوقوف عليها، فعلى الوجهين في الفرجة اليسيرة. وأما إذا وقف خلف الامام، ففي صحة الاقتداء وجهان. أحدهما: البطلان. وأصحهما: الجواز إذا اتصلت المصفوف وتلاحقت. ومعنى اتصالها، أن يقف رجل، أو صف في آخر البناء الذي فيه الامام، ورجل، أو صف في أول البناء الذي فيه المأموم،

(1/466)


بحيث لا يكون بينهما أكثر من ثلاثة أذرع. والثلاث للتقريب. فلو زاد (1) مالا يتبين في الحس بلا ذرع، لم يضر. وهذا القدر، هو المشروع بين الصفين. وإذا وجد هذا الشرط، فلو كان في بناء المأموم بيت عن اليمين، أو الشمال، اعتبر الاتصال بتواصل المناكب. هذه طريقة. الطريقة الثانية: طريقة أصحاب أبي إسحاق المروزي، ومعظم العراقيين، واختارها أبو علي الطبري: أنه لا يشترط اتصال الصف في اليمين واليسار، ولا اتصال الصفوف في المواقف خلفه، بل المعتبر: القرب والبعد على الضبط المذكور في الصحراء. قلت: الطريقة الثانية: أصح. والله أعلم. هذا إذا كان بين البناءين باب نافذ، فوقف بحذائه صف، أو رجل، أو لم يكن جدار أصلا كالصحن مع الصفة، فلو حال حائل يمنع الاستطراق والمشاهدة، لم يصح الاقتداء باتفاق الطريقتين، وإن منع الاستطراق دون المشاهدة كالمشبك، لم يصح على الاصح. وإذا صح اقتداء الواقف في البناء الآخر، إما بشرط، وإما دونه، صحت صلاة الصفوف (2) خلفه تبعا له، وإن كان بينهم وبين البناء الذي فيه الامام جدار، وتكون الصفوف مع هذا الواقف كالمأمومين مع الامام، حتى لا تصح صلاة من بين يديه، إن تأخر عن سمت موقف الامام، إذا لم يجوز تقدم المأموم على الامام. قال القاضي حسين: ولا يجوز أن يتقدم تكبيرهم على تكبيره. أما إذا وقف الامام في صحن الدار، والمأموم في مكان عال من سطح، أو طرف صفة مرتفعة، أو بالعكس، فبماذا يحصل الاتصال ؟ وجهان. أحدهما، قول الشيخ أبي محمد: إن كان رأس الواقف في السفل يحاذي ركبة الواقف في العلو، صح الاقتداء، وإلا، فلا. والثاني: وهو الصحيح الذي قطع به الجماهير، إن حاذى رأس الاسفل قدم الاعلى، صح، وإلا، فلا. قال إمام الحرمين: الاول مزيف لا وجه له، والاعتبار، بمعتدل القامة. حتى لو كان قصيرا، أو قاعدا فلم يحاذ، ولو قام فيه معتدل القامة، لحصلت المحاذاة، كفى. وحيث لا يمنع الانخفاض القدوة، وكان بعض الذين يحصل بهم الاتصال على سرير، أو متاع، وبعضهم

(1/467)


على الارض، لم يضر. ولو كانا في البحر، والامام في سفينة، والمأموم في أخرى وهما مكشوفتان، فالصحيح، أنه يصح الاقتداء إذا لم يزد ما بينهما على ثلاث مائة ذراع، كالصحراء، وتكون السفينتان كدكتين في الصحراء، يقف الامام على إحداهما، والمأموم على الاخرى. وقال الاصطخري: يشترط أن تكون سفينة الامام مشدودة بسفينة المأموم. والجمهور على أنه ليس بشرط. وإن كانتا مسقفتين، فهما كالدارين، والسفينة التي فيها بيوت، كالدار ذات البيوت. وحكم المدارس، والرباطات، والخانات، حكم الدور. والسرادقات في الصحراء، كالسفينة المكشوفة، والخيام كالبيوت. الحال الثالث: أن يكون أحدهما في المسجد، والآخر خارجه فمن ذلك، أن يقف الامام في مسجد، والمأموم في موات متصل به. فإن لم يكن بينهما حائل، جاز، إذا لم تزد المسافة على ثلاث مائة ذراع، ويعتبر من آخر المسجد (1) على الاصح. وعلى الثاني، من آخر صف في المسجد (2). فإن لم يكن فيه إلا الامام، فمن موقفه (3). وعلى الثالث، من حريم المسجد بينه وبين الموات. وحريمه: الموضع المتصل به، المهيأ لمصلحته، كانصباب الماء إليه، وطرح القمامات فيه، ولو كان بينهما جدار المسجد، لكن الباب النافذ بينهما مفتوح، فوقف بحذائه، جاز، ولو اتصل صف بالواقف في المحاذاة، وخرجوا عن المحاذاة، جاز، ولو لم يكن في الجدار باب، أو كان، ولم يقف بحذائه بل عدل عنه، فالصحيح الذي عليه الجمهور: أنه يمنع صحة الاقتداء. وقال أبو إسحاق المروزي: لا يمنع. وأما الحائل غير جدار المسجد، فيمنع بلا خلاف. ولو كان بينهما باب مغلق، فهو كالجدار، لانه يمنع الاستطراق والمشاهدة. وإن كان مردودا غير مغلق، فهو مانع من المشاهدة دون الاستطراق، أو كان بينهما مشبك، فهو مانع من الاستطراق دون المشاهدة. ففي الصورتين، وجهان. أصحهما عند الاكثرين: أنه مانع هذا كله في

(1/468)


الموات. فلو وقف المأموم في شارع متصل بالمسجد، فهو كالموات على الصحيح. وعلى الثاني يشترط اتصال الصف من المسجد بالطريق. ولو وقف في حريم المسجد، فقد ذكر في (1) (التهذيب) (2): أنه كالموات، وذكر أن الفضاء المتصل بالمسجد لو كان مملوكا، فوقف المأموم فيه، لم يصح اقتداؤه حتى يتصل الصف من المسجد بالفضاء. وكذلك يشترط اتصال الصف من سطح المسجد، بالسطح المملوك، وكذلك لو وقف في دار مملوكة متصلة بالمسجد، يشترط الاتصال بأن يقف واحد في آخر المسجد متصل بعتبة الدار، وآخر في الدار متصل بالعتبة بحيث لا يكون بينهما موقف رجل. وهذا الذي ذكره في الفضاء، مشكل. وينبغي أن يكون كالموات. وأما ما ذكره في مسألة الدار، فهو الصحيح. وقال أبو إسحاق المروزي: جدار المسجد لا يمنع، كما قال في الموات. وقال أبو علي الطبري: لا يشترط اتصال الصفوف إذا لم يكن حائل. ويجوز الاقتداء، إذا كان في حد القرب. الشرط الرابع: نية الاقتداء. فمن شروط الاقتداء، أن ينوي المأموم الجماعة، أو الاقتداء (3)، وإلا فلا تكون صلاته صلاة جماعة، وينبغي أن يقرن هذه النية بالتكبير كسائر ما ينويه (4)، فإن ترك نية الاقتداء، انعقدت صلاته على الاصح (5). وعلى هذا لو شك في أثناء صلاته في نية الاقتداء، نظر، إن تذكر قبل أن يحدث فعلا على متابعة الامام، لم يضر، وإن تذكر بعد أن أحدث فعلا على متابعته، بطلت صلاته (6)، لانه في حال الشك، له حكم المنفرد، وليس له

(1/469)


المتابعة. حتى لو عرض هذا الشك في التشهد الاخير، لا يجوز أن يقف سلامه على سلام الامام (1). وهذا الذي ذكرنا من بطلان صلاته بالمتابعة، هو إذا انتظر ركوعه وسجوده ليركع ويسجد معه. فأما إذا اتفق انقضاء فعله، مع انقضاء فعله فهذا لا يبطل قطعا. لانه لا يسمى متابعة. والمراد: الانتظار الكثير. فأما اليسير، فلا يضر. وهل تجب نية الاقتداء في الجمعة ؟ وجهان. الصحيح: وجوبها. والثاني: لا، لانها لا تصح إلا بجماعة، فلم يحتج إليها. فرع: لا يجب على المأموم أن يعين في نيته الامام (2)، بل يكفي نية الاقتداء بالامام الحاضر (3)، فلو عين فأخطأ، بأن نوى الاقتداء بزيد، فبان عمرا، لم تصح صلاته (4). كما لو عين الميت في صلاة الجنازة وأخطأ، لا تصح. ولو نوى الاقتداء بالحاضر، واعتقد زيدا فكان غيره، ففي صحته وجهان. كما لو قال: بعتك هذا الفرس، فكان بغلا. قلت: الارجح صحة الاقتداء. والله أعلم. فرع: اختلاف نية الامام والمأموم فيما يأتيان به من الصلاة، لا يمنع صحة الاقتداء، فيجوز أن يقتدي المؤدي بالقاضي، وعكسه، والمفترض، بالمتنفل وعكسه (5).

(1/470)


فرع: لا يشترط لصحة الاقتداء أن ينوي الامام الامامة، سواء اقتدى به الرجال، أو النساء. وحكى أبو الحسن العبادي (1)، عن أبي حفص الباب شامي (2)، والقفال: أنه تجب نية الامامة على الامام. وأشعر كلامه بأنهما يشترطانها في صحة الاقتداء، وهذا شاذ منكر، والصحيح المعروف الذي قطع به الجماهير، أنها: لا تجب. لكن هل تكون صلاته صلاة جماعة ينال بها فضيلة الجماعة إذا لم ينوها ؟ وجهان. أصحهما: لا ينالها، لانه لم ينوها. وقال القاضي حسين: فيمن صلى منفردا، واقتدى (3) به جمع ولم يعلم بهم، ينال فضيلة الجماعة، لانهم نالوها بسببه، وهذا كالتوسط بين الوجهين. ومن فوائد الوجهين، أنه إذا لم ينو الامامة في صلاة الجمعة، هل تصح جمعته. الاصح: أنها لا تصح. ولو نوى الامامة وعين في نيته المقتدي، فبان خلافه، لم يضر، لان غلطه لا يزيد على تركها. الشرط الخامس: توافق نظم الصلاتين في الافعال والاركان (4)، فلو اختلفت صلاتا الامام والمأموم في الافعال الظاهرة، بان اقتدى مفترض بمن يصلي جنازة، أو كسوفا، لم تصح على الصحيح (5). وتصح على الثاني، وهو قول القفال. فعلى هذا، إذا اقتدى بمصلي الجنازة، لا يتابعه في التكبيرات والاذكار بينها، بل إذا كبر الامام الثانية، يتخير بين إخراج نفسه من المتابعة، وبين انتظار سلام الامام. وإذا اقتدى بمصلي الكسوف، تابعه في الركوع الاول. ثم إن شاء رفع رأسه معه وفارقه، وإن شاء انتظره. قال إمام الحرمين: وإنما قلنا: ينتظره في الركوع إلى أن يعود إليه

(1/471)


الامام، ويعتدل معه عن ركوعه الثاني، ولا ينتظره بعد الرفع لما فيه من تطويل الركن القصير. أما إذا اتفقت الصلاتان في الافعال الظاهرة، فينظر إن اتفق عددهما كالظهر، خلف العصر، أو العشاء، جاز الاقتداء. وإن كان عدد ركعات الامام أقل، كالظهر خلف الصبح، جاز. وإذا تمت صلاة الامام، قام المأموم وأتم صلاة نفسه كالمسبوق. ويتابع الامام في القنوت. ولو أراد مفارقته عند اشتغاله بالقنوت، جاز. وإذا اقتدى في الظهر بالمغرب، وانتهى الامام إلى الجلوس الاخير، تخير المأموم في المتابعة والمفارقة كالقنوت. وإن كان عدد ركعات المأموم أقل، كالصبح خلف الظهر، فالمذهب جوازه وقيل: قولان، أظهرهما: جوازه. والثاني: بطلانه. فإذا صححنا، وقام الامام إلى الثالثة، تخير المأموم، إن شاء فارقه وسلم، وإن شاء انتظره ليسلم معه. قلت: انتظاره أفضل. والله أعلم. وإن أمكنه أن يقنت في الثانية، بأن وقف الامام يسيرا، قنت. وإلا فلا شئ عليه. وله أن يخرج عن متابعته ليقنت. ولو صلى المغرب خلف الظهر، فإذا قام الامام إلى الرابعة، لم يتابعه بل يفارقه، ويتشهد ويسلم. وهل له أن يترك التشهد وينتظره ؟ وجهان. أحدهما: له ذلك كما قلنا في المقتدي بالصبح خلف الظهر. والثاني: وهو المذهب عند إمام الحرمين، ليس له ذلك، لانه يحدث تشهدا لم يفعله الامام. ولو صلى العشاء خلف التراويح، جاز. فإذا سلم الامام قام إلى باقي صلاته، والاولى أن يتمها منفردا. فلو قام الامام إلى ركعتين أخريين من التراويح، فنوى الاقتداء به ثانيا، ففي جوازه القولان، فيمن أحرم منفردا ثم اقتدى في أثنائهما. واختلف أصحابنا في المقتدي بمن يصلي العيد أو الاستسقاء، هل هو كمن يصلي الصبح ؟ أم كمن يصلي الجنازة والكسوف ؟ قلت: الصحيح: أنه كالصبح، وبه قطع صاحب (التتمة). وإذا كبر الامام التكبيرات الزائدة، لا يتابعه المأموم، فإن تابعه لم يضره، لان الاذكار لا تضر. ولو صلى العيد خلف الصبح المقضية، جاز، ويكبر التكبيرات الزائدة. والله أعلم. الشرط السادس: الموافقة (1). فإذا ترك الامام شيئا من أفعال الصلاة، نظر

(1/472)


إن ترك فرضا، فقام في موضع القعود، أو بالعكس ولم يرجع، لم يجز للمأموم متابعته، لانه إن تعمد، فصلاته باطلة، وإن سها، ففعله غير معتد به وإن لم يبطلها. ولو ترك سنة وكان في الاشتغال بها تخلف فاحش، كسجود التلاوة، والتشهد الاول، لم يأت بها المأموم، فإن فعلها، بطلت صلاته، ولو ترك الامام سجود السهو، أتى به المأموم، لانه يفعله بعد انقطاع القدوة، ولذلك يسلم التسليمة الثانية إذا تركها الامام. فأما إذا كان التخلف لها يسيرا، كجلسة الاستراحة، فلا بأس، كما لا بأس بزيادتها في غير موضعها. وكذا لا بأس بتخلفه للقنوت، إذا لحقه على قرب، بأن لحقه في السجدة الاولى (1). الشرط السابع: المتابعة، فيجب على المأموم متابعته، فلا يتقدم في الافعال. والمراد من المتابعة: أن يجري على أثر الامام، بحيث يكون بتداؤه بكل واحد منها، متأخرا عن ابتداء الامام به (2)، ومتقدما على فراغه منه. فلو خالف، فله أحوال. الاول: أن يقارنه، فإن قارنه في تكبيرة الاحرام، أو شك، هل قارنه، أو ظن أنه تأخر، فبان مقارنته، لم تنعقد. ويشترط تأخر جميع تكبيرة المأموم، عن جميع تكبيرة الامام. ويستحب للامام أن لا يكبر حتى يسووا الصفوف، ويأمرهم به ملتفتا يمينا وشمالا. وإذا فرغ المؤذن من الاقامة، قام الناس فاشتغلوا بتسوية الصفوف. وأما ما عدا التكبير، فغير السلام تجوز المقارنة فيه، ولكن تكره، وتفوت بها فضيلة الجماعة، وفي السلام وجهان. أصحهما: جوازها. الحال الثاني: أن يتخلف عن الامام، فإن تخلف بغير عذر، نظر، إن تخلف بركن واحد، لم تبطل صلاته على الاصح، وإن تخلف بركنين بطلت قطعا (3). ومن صور التخلف بغير عذر، أن يركع الامام وهو في قراءة السورة،

(1/473)


فيشتغل باتمامها، وكذا التخلف للاشتغال بتسبيحات الركوع والسجود. وأما بيان صور التخلف بركن، فيحتاج إلى معرفة الركن الطويل والقصير، فالقصير: الاعتدال عن الركوع، وكذا الجلوس بين السجدتين على الاصح. والطويل: ما عداهما. ثم الطويل، مقصود في نفسه. وفي القصير وجهان. أحدهما: مقصود في نفسه وبه قال الاكثرون، ومال الامام إلى الجزم به. والثاني: لا بل تابع لغيره. وبه قطع في (التهذيب). فإذا ركع الامام، ثم ركع المأموم وأدركه في ركوعه فليس هذا تخلفا بركن، فلا تبطل به الصلاة قطعا. فلو اعتدل الامام، والمأموم بعد قائم، ففي بطلان صلاته وجهان، اختلفوا في مأخذهما، فقيل: مأخذهما: التردد في أن الاعتدال ركن مقصود أم لا ؟ إن قلنا: مقصود فقد فارق الامام ركنا، واشتغل بركن آخر مقصود، فتبطل صلاة المتخلف. وإن قلنا: غير مقصود، فهو كما لو لم يفرغ من الركوع، لان الذي هو فيه تبع له، فلا تبطل صلاته. وقيل: مأخذهما الوجهان، في أن التخلف بركن يبطل أم لا ؟ إن قلنا: يبطل فقد تخلف بركن الركوع تاما فتبطل صلاته، وإن قلنا: لا، فما دام في الاعتدال، لم يكمل الركن الثاني، فلا تبطل. قلت: الاصح لا تبطل. والله أعلم. وإذا هوى إلى السجود ولم يبلغه، والمأموم بعد قائم، فعلى المأخذ الاول لا تبطل صلاته، لانه لم يشرع في ركن مقصود، وعلى الثاني: تبطل، لان ركن الاعتدال قد تم. هكذا ذكره إمام الحرمين، والغزالي. وقياسه، أن يقال: إذا ارتفع عن حد الركوع، والمأموم بعد في القيام، فقد حصل التخلف بركن، وإن لم يعتدل الامام، فتبطل الصلاة عند من يجعل التخلف بركن مبطلا. أما إذا انتهى الامام (1) إلى السجود، والمأموم بعد في القيام، فتبطل صلاته قطعا. ثم إذا اكتفينا بابتداء الهوي عن الاعتدال، وابتداء الارتفاع عن حد الركوع، فالتخلف بركنين: هو أن يتم للامام ركنان، والمأموم بعد فيما قبلهما، وبركن: هو أن يتم للامام الركن الذي سبق والمأموم بعد فيما قبله، وإن لم يكتف بذلك

(1/474)


فللتخلف شرط آخر، وهو أن لا يلابس مع تمامهما، أو تمامه ركنا آخر. ومقتضى كلام صاحب (التهذيب) ترجيح البطلان فيما إذا تخلف بركن كامل مقصود، كما إذا استمر في الركوع حتى اعتدل الامام وسجد. هذا كله في التخلف بغير عذر. أما الاعذار فأنواع. منها: الخوف، وسيأتي في بابه إن شاء الله تعالى. ومنها: أن يكون المأموم بطئ القراءة (1)، والامام سريعها، فيركع قبل أن يتم المأموم الفاتحة، فوجهان. أحدهما: يتابعه ويسقط عن المأموم باقيها. فعلى هذا، لو اشتغل بإتمامها، كان متخلفا بلا عذر. والصحيح الذي قطع به صاحب (التهذيب) وغيره، أنه لا يسقط بل عليه أن يتمها، ويسعى خلف الامام على نظم صلاته ما لم يسبقه بأكثر من ثلاثة أركان مقصودة، فإن زاد على الثلاثة فوجهان. أحدهما: يخرج نفسه عن المتابعة لتعذر الموافقة. وأصحهما: له أن يدوم على متابعته. وعلى هذا وجهان. أحدهما: يراعي نظم صلاته، ويجري على أثره. وبهذا أفتى القفال. وأصحهما: يوافقه فيما هو فيه، ثم يقضي ما فاته بعد سلام الامام. وهذان الوجهان، كالقولين في مسألة الزحام (2). ومنها: أخذ التقدير بثلاثة أركان مقصودة، فإن القولين في مسألة الزحام، إنما هما إذا ركع الامام في الثانية. وقبل ذلك لا يوافقه، وإنما يكون التخلف قبله بالسجدتين والقيام. ولم يعتبر الجلوس بين السجدتين على مذهب من يقول: هو غير مقصود، ولا يجعل التخلف بغير المقصود مؤثرا. وأما من لا يفرق بين المقصود وغيره، أو يفرق ويجعل الجلوس مقصودا، أو ركنا طويلا، فالقياس على أصله، التقدير بأربعة أركان أخذا من مسألة الزحام. ولو اشتغل المأموم بدعاء الاستفتاح، فلم يتم الفاتحة لذلك، فركع الامام، فيتم الفاتحة كبطئ القراءة. وكان هذا في المأموم الموافق. أما المسبوق إذا أدرك الامام قائما وخاف ركوعه، فينبغي أن لا يقرأ الاستفتاح، بل يبادر إلى الفاتحة، فإن ركع الامام في أثناء الفاتحة فأوجه. أحدها: يركع معه وتسقط باقي الفاتحة، والثاني: يتمها. وأصحها: أنه إن لم يقرأ شيئا من

(1/475)


الاستفتاح، قطع الفاتحة وركع، ويكون مدركا للركعة. وإن قرأ شيئا منه، لزمه بقدره من الفاتحة لتقصيره. وهذا هو الاصح عند القفال، والمعتبرين، وبه قال أبو زيد. فإن قلنا: عليه إتمام الفاتحة، فتخلف ليقرأ كان تخلفا بعذر (1)، فإن لم يتمها وركع مع الامام، بطلت صلاته. وإن قلنا: يركع فاشتغل بإتمامها، كان متخلفا بلا عذر. وإن سبقه الامام بالركوع، وقرأ هذا المسبوق الفاتحة، ثم لحقه في الاعتدال، لم يكن مدركا للركعة. والاصح: أنه لا تبطل صلاته إذا قلنا: المتخلف (2) بركن لا يبطل كما في غير المسبوق. والثاني: يبطل، لانه ترك متابعة الامام فيما فاتت به ركعة، فكان كالتخلف بركعة. ومنها: الزحام، وسيأتي في الجمعة، إن شاء الله تعالى. ومنها: النسيان. فلو ركع مع الامام، ثم تذكر أنه نسي الفاتحة، أو شك في قراءتها، لم يجز أن يعود، لانه فات محل القراءة، فإذا سلم الامام، قام وتدارك ما فاته. ولو تذكر، أو شك بعد أن ركع الامام ولم يركع هو، لم تسقط القراءة بالنسيان. وماذا يفعل ؟ وجهان. أحدهما: يركع معه، فإذا سلم الامام، قام فقضى ركعة، وأصحهما: يتمها، وبه أفتى القفال. وعلى هذا، تخلفه تخلف معذور على الاصح، وعلى الثاني: تخلف غير معذور لتقصيره بالنسيان. الحال الثالث: أن يتقدم على الامام بالركوع، أو غيره من الافعال الظاهرة فينظر إن لم يسبق بركن كامل، بأن ركع قبل الامام، فلم يرفع حتى ركع الامام، لم تبطل صلاته، عمدا كان أو سهوا. وفي وجه شاذ: تبطل إن تعمد. فإذا قلنا: لا تبطل، فهل يعود ؟ وجهان. المنصوص، وبه قال العراقيون: يستحب أن يعود إلى القيام ويركع معه. والثاني: وبه قطع صاحبا (النهاية) و (التهذيب): لا يجوز

(1/476)


العود، فإن عاد، بطلت صلاته، وإن فعله سهوا، فالاصح: أنه مخير بين العود والدوام. والثاني: يجب العود، فإن لم يعد، بطلت صلاته، وإن سبق بركنين فصاعدا، بطلت صلاته إن كان عامدا عالما بتحريمه. وإن كان ساهيا، أو جاهلا، لم تبطل، لكن لا يعتد بتلك الركعة، فيأتي بها بعد سلام الامام، ولا يخفى بيان التقدم بركنين من قياس ما ذكرناه (1) في التخلف. ومثل أئمتنا العراقيون ذلك، بما إذا ركع قبل الامام، فلما أراد الامام أن يركع، رفع، فلما أراد أن يرفع، سجد، فلم يجتمعا في الركوع، ولا في الاعتدال، وهذا يخالف ذلك القياس، فيجوز أن يقدر مثله في التخلف، ويجوز أن يخص ذلك بالتقدم، لان المخالفة فيه أفحش. وإن سبق بركن مقصود، بأن ركع قبل الامام، ورفع والامام في القيام ثم وقف حتى رفع الامام، واجتمعا في الاعتدال، فقال الصيدلاني، وجماعة: تبطل صلاته. قالوا: فإن سبق بركن غير مقصود كالاعتدال، بأن اعتدل وسجد، والامام بعد في الركوع، أو سبق بالجلوس بين السجدتين، بأن رفع رأسه من السجدة الاولى، وجلس وسجد الثانية والامام بعد في الاولى، فوجهان. وقال العراقيون، وآخرون: التقدم بركن لا يبطل كالتخلف به. وهذا أصح، وأشهر. وحكي عن نص الشافعي رضي الله عنه (2). هذا في الافعال الظاهرة، فأما تكبيرة الاحرام، فالسبق بها مبطل كما تقدم، وأما الفاتحة والتشهد، ففي السبق بهما أوجه. الصحيح: لا يضر، بل يجزئان. والثاني: تبطل الصلاة. والثالث: لا تبطل. ويجب إعادتهما مع قراءة الامام أو بعدها. فرع: المسبوق إذا أدرك الامام راكعا (3)، يكبر للافتتاح، وليس له أن يشتغل بالفاتحة بل يهوي للركوع ويكبر له تكبيرة أخرى. وكذا لو أدركه قائما،

(1/477)


فكبر، فركع الامام بمجرد تكبيره، فلو اقتصر في الحالين على تكبيرة، فله أحوال. أحدها: أن ينوي بها تكبيرة الافتتاح، فتصح صلاته بشرط أن يوقعها في حال القيام (1). الثاني: ينوي تكبيرة الركوع فلا تنعقد صلاته (2). الثالث: ينويهما، فلا تنعقد فرضا ولا نفلا أيضا على الصحيح (3). الرابع: لا ينوي واحدا منهما، بل يطلق التكبيرة. فالصحيح المنصوص في (الام) وقطع به الجمهور: لا تنعقد. والثاني: تنعقد لقرينة الافتتاح، ومال إليه إمام الحرمين. فرع: إذا أخرج المأموم نفسه عن متابعة الامام، فالمذهب أنه لا تبطل صلاته، سواء فارق بعذر، أو بغيره، هذا جملته. وتفصيله: أن في بطلان الصلاة بالمفارقة طريقين. أحدهما: لا تبطل. والثاني: على قولين. أصحهما: لا تبطل. واختلفوا في موضع القولين، على طرق. أصحها: هما فيمن فارق بغير عذر. فأما المعذور، فيجوز قطعا. وقيل: هما في المعذور. فأما غيره، فتبطل صلاته قطعا. وقيل: هما فيهما، واختاره الحليمي. وقال إمام الحرمين: والاعذار كثيرة، وأقرب معتبرا، أن يقال: كل ما جوز ترك الجماعة ابتداء، جوز المفارقة. وألحقوا به، ما إذا ترك الامام سنة مقصودة، كالتشهد الاول، والقنوت. وأما إذا لم يصبر على طول القراءة لضعف، أو شغل، فالاصح: أنه عذر. هذا كله إذا قطع المأموم القدوة والامام بعد في الصلاة. أما إذا انقطعت بحدث الامام، ونحوه، فلا تبطل صلاة المأموم قطعا بكل حال.

(1/478)


فرع: إذا أقيمت الجماعة وهو في الصلاة منفردا، نظر، إن كان في فريضة الوقت، فقد قال الشافعي رضي الله عنه: أحببت أن يكمل ركعتين، ويسلم، فتكون له نافلة، ويبتدئ الصلاة مع الامام. ومعناه: أن يقطع الفريضة ويقلبها نفلا. وفيه وفي نظائره خلاف قدمناه في مسائل النية في صفة الصلاة. ثم هذا فيما إذا كانت الصلاة ثلاثية، أو رباعية، ولم يصل بعد ركعتين. فإن كانت ذات ركعتين، أو ذات ثلاث، أو أربع، وقد قام إلى الثالثة، فإنه يتمها، ثم يدخل في الجماعة، وإن كان في فائتة، لم يستحب أن يقتصر على ركعتين ليصلي تلك الفائتة جماعة، لان الفائتة لا يشرع لها الجماعة، بخلاف ما لو شرع في فائتة في يوم غيم، فانكشف الغيم، وخاف فوت الحاضرة، فإنه يسلم عن ركعتين، ويشتغل بالحاضرة. قلت: قوله: لا يشرع لها الجماعة، يحمل على التفصيل الذي ذكرته في أول كتاب صلاة الجماعة. والله أعلم. وإن كان في نافلة، وأقيمت الجماعة، فإن لم يخش فوتها، أتمها. وإن خشيه، قطعها ودخل في الجماعة. فأما إذا لم يسلم من صلاته التي أحرم بها منفردا، بل اقتدى في خلالها، فالمذهب جوازه. وهذا جملته. فأما تفصيله، ففي صحة هذا الاقتداء، طريقان. أحدهما: القطع ببطلانه. وتبطل به الصلاة. وأصحهما، وأشهرهما: فيه قولان. أظهرهما: جوازه. ثم اختلفوا في موضع القولين على طرق، فقيل: هما فيما إذا لم يركع المنفرد في انفراده. فإن ركع، لم يجز قطعا. وقيل: هما بعد ركوعه. فأما قبله، فيجوز قطعا. وقيل: هما إذا اتفقا في الركعة، فإن اختلفا، فكان الامام في ركعة، والمأموم في أخرى متقدما، أو متأخرا، لم يجز قطعا. والطريق الرابع الصحيح: أن القولين في جميع الاحوال. وإذا صححنا الاقتداء على الاطلاق، فاختلفا في الركعة، قعد المأموم في موضع قعود الامام، وقام في موضع قيامه، فإن تمت صلاته أولا، لم يتابع الامام في الزيادة، بل إن شاء فارقه، وإن شاء انتظره في التشهد، وطول الدعاء، وسلم معه. فإن تمت صلاة الامام أولا، قام المأموم، وأتم صلاته كما يفعل المسبوق، وإذا سها المأموم قبل الاقتداء، لم يتحمل عنه الامام، بل إذا سلم الامام، سجد هو

(1/479)


لسهوه، وإن سها بعد الاقتداء، حمل عنه. وإن سها الامام قبل الاقتداء، أو بعده، لحق المأموم ويسجد معه، ويعيد في آخر صلاته على الاظهر كالمسبوق. فرع: من أدرك الامام في الركوع، كان مدركا للركعة. وقال محمد بن إسحاق بن خزيمة، وأبو بكر الصبغي (1) - بكسر الصاد المهملة، وإسكان الباء الموحدة، وبالغين المعجمة، كلاهما من أصحابنا -: لا يدرك الركعة بادراك الركوع. وهذا شاذ منكر، والصحيح الذي عليه الناس، وأطبق عليه الائمة: إدراكها، لكن يشترط أن يكون ذلك الركوع محسوبا للامام، فإن لم يكن، ففيه تفصيل نذكره في الجمعة، إن شاء الله تعالى. ثم المراد بإدراك الركوع، أن يلتقي هو وإمامه في حد أقل الركوع. حتى لو كان هو في الهوي، والامام في الارتفاع، وقد بلغ هويه حد الاقل قبل أن يرتفع الامام عنه، كان مدركا، وإن لم يلتقيا فيه، فلا. هكذا قاله جميع الاصحاب. ويشترط أن يطمئن قبل ارتفاع الامام عن الحد المعتبر. هكذا صرح به في (البيان) وبه أشعر كلام كثير من النقلة، وهو الوجه، وإن كان الاكثرون لم يتعرضوا له. ولو كبر، وانحنى، وشك، هل بلغ الحد المعتبر قبل ارتفاع الامام عنه ؟ فوجهان. وقيل: قولان. أصحهما: لا يكون مدركا. والثاني: يكون. فأما إذا أدركه فيما بعد الركوع، فلا يكون مدركا للركعة قطعا، وعليه أن يتابعه في الركن الذي أدركه فيه وإن لم يحسب له. قلت: وإذا أدركه في التشهد الاخير، لزمه متابعته في الجلوس، ولا يلزمه أن يتشهد معه قطعا، ويسن (2) له ذلك على الصحيح المنصوص. والله أعلم. فرع: المسبوق إذا أدرك الامام في الركوع. فقد ذكرنا أنه يكبر للركوع بعد تكبيرة الافتتاح، فلو أدركه في السجدة الاولى، أو الثانية، أو التشهد، فهل يكبر للانتقال إليه ؟ وجهان. أصحهما: لا، لان هذا غير محسوب له، بخلاف

(1/480)


الركوع، ويخالف ما لو أدركه في الاعتدال فما بعده فإنه ينتقل معه من ركن إلى ركن مكبرا، وإن لم يكن محسوبا، لانه لموافقة الامام. ولذلك نقول: يوافقه في قراءة التشهد، وفي التسبيحات، على الاصح. وإذا قام المسبوق بعد سلام الامام، فإن كان الجلوس الذي قام منه موضع جلوس المسبوق، بأن أدركه في الثالثة من رباعية، أو ثانية (1) المغرب، قام مكبرا. فإن لم يكن موضع جلوسه، بأن أدركه في الاخيرة، أو الثانية من الرباعية، قام بلا تكبير على الاصح. ثم إذا لم يكن موضع جلوسه، لم يجز المكث بعد سلام الامام. فإن مكث، بطلت صلاته. وإن كان موضع جلوسه، لم يضر المكث. والسنة للمسبوق: أن يقوم عقب تسليمتي الامام، فإن الثانية من الصلاة، ويجوز أن يقوم عقب الاولى. وإن قام قبل تمامها، بطلت صلاته إن تعمد القيام. وما يدركه المسبوق أول صلاته، وما يفعله بعد سلام الامام آخرها، حتى لو أدرك ركعة من المغرب، فإذا قام لاتمام الباقي، يجهر في الثانية ويتشهد، ويسر في الثالثة. ولو أدرك ركعة من الصبح، وقنت مع الامام، أعاد القنوت في الركعة التي يأتي بها. ونص الشافعي رحمه الله أنه لو أدرك ركعتين من رباعية، ثم قام للتدارك، يقرأ السورة في الركعتين، فقيل: هذا تفريع على قوله: يستحب قراءة السورة في جميع الركعات، وقيل: هو تفريع على القولين جميعا لئلا تخلو صلاته عن السورة. قلت: الثاني، أصح. وحكي قول غريب: أنه يجهر. والجماعة في الصبح، أفضل من غيرها، ثم العشاء، ثم العصر، للاحاديث الصحيحة. ولو كان للمسجد إمام راتب، كره لغيره إقامة الجماعة فيه، قبله أو بعده إلا بإذنه، فإن كان المسجد مطروقا، فلا بأس. وقد سبقت المسألة في باب الاذان. ويكره أن يؤم الرجل قوما وأكثرهم له كارهون، فإن كرهه الاقل، أو النصف، لم تكره إمامته. والمراد أن يكرهوه لمعنى مذموم في الشرع (2)، فإن لم يكن كذلك، فالعتب عليهم ولا كراهة. وقال القفال: إنما يكره إذا لم ينصبه الامام، فإن نصبه فلا يبالي بكراهة

(1/481)


أكثرهم. والصحيح الذي عليه الجمهور: أنه لا فرق بين من نصبه الامام وغيره (1). وأما إذا كان بعض المأمومين يكره أهل المسجد حضوره، فلا يكره له الحضور، لان غيره لا يرتبط به، نص عليه الشافعي والاصحاب (2) ويكره أن يكون موقف الامام أعلى من موقف المأموم، وكذا عكسه (3)، فإن احتاج الامام إلى الاستعلاء ليعلمهم صفة الصلاة، أو المأموم ليبلغ القوم تكبير الامام، استحب (4). وأفضل صفوف الرجال (5)، أولها، ثم ما قرب منه، وكذلك النساء الخلص، فإن كان النساء مع الرجال، فأفضل صفوفهن آخرها (6). والله أعلم.

(1/482)