روضة الطالبين وعمدة المفتين ط العلمية

روضة الطالبين - كتاب صلاة المسافر
صلاة المسافر كغيره، إلا أن له الترخص بالقصر والجمع، فالقصر جائز بالاجماع. والسبب المجوز له، السفر الطويل (1) المباح (2). فأما السفر القصير، فلا بد فيه من ربط القصد بمقصد معلوم، فلا رخصة لهائم لا يدري أين يتوجه، وإن طال سفره. ولنا وجه: أن الهائم إذا بلغ مسافة القصر له القصر، وهو شاذ منكر. أما ابتداء السفر، فيعرف بتفصيل الموضع الذي منه الارتحال. فإن ارتحل من بلدة لها سور مختص بها (3)، فلا بد من مجاوزته وإن كان داخل السور مزارع، أو مواضع خربة، لان جميع داخل السور معدود من نفس البلد، محسوب من موضع الاقامة، فإذا فارق السور، ترخص إن لم يكن خارجه دور متلاصقة، أو مقابر، فإن كانت، فوجهان. الاصح: أنه يترخص بمفارقة السور، ولا يشترط مفارقة الدور والمقابر، وبهذا قطع الغزالي، وكثيرون. والثاني: يشترط مفارقتها، وهو موافق

(1/483)


لظاهر نص الشافعي. وأما إذا لم يكن للبلد سور، أو كان في غير صوب مقصده، فابتداء سفره بمفارقة العمران حتى لا يبقى بيت متصل ولا منفصل. والخراب الذي يتخلل العمارات، معدود من البلد، كالنهر الحائل بين جانبي البلد، فلا يترخص بالعبور من جانب إلى جانب. فإن كانت أطراف البلدة خربة، ولا عمارة وراءها، فقال العراقيون، والشيخ أبو محمد: لا بد من مجاوزتها. وقال الغزالي، وصاحب (التهذيب): لا يشترط مجاوزتها، لانه ليس موضع إقامة. وهذا الخلاف فيما إذا كانت بقايا الحيطان قائمة، ولم يتخذوا الخراب مزارع العمران، ولا هجروه بالتحويط على العامر والخراب، فإن لم يكن كذلك، لم يشترط مجاوزتها بلا خلاف. ولا يشترط مجاوزة البساتين، والمزارع المتصلة بالبلد، وإن كانت محوطة، إلا إذا كان فيها قصور أو دور يسكنها ملاكها (1) بعض فصول السنة، فلا بد من مجاوزتها حينئذ. ولنا وجه في (التتمة): أنه يشترط مجاوزة البساتين، والمزارع المضافة إلى البلدة مطلقا، وهو شاذ ضعيف. هذا حكم البلدة. وأما القرية، فلها حكم البلدة في جميع ما ذكرناه. ولا يشترط فيها مجاوزة البساتين، ولا المزارع المحوطة، هذا هو الصواب الذي قاله العراقيون. وشذ الغزالي عن الاصحاب فقال: إن كانت المزارع، أو البساتين محوطة، اشترط مجاوزتها. وقال إمام الحرمين: لا يشترط مجاوزة المزارع المحوطة، ولا البساتين غير المحوطة، ويشترط مجاوزة البساتين المحوطة. ولو كان قريتان ليس بينهما انفصال، فهما كمحلتين، فيجب مجاورتهما جميعا. قال الامام: وفيه احتمال، فلو كان بينهما انفصال فجاوز قريته، كفى وإن كانتا في غاية التقارب على الصحيح. وقال ابن سريج: إذا تقاربتا، اشترط مفارقتهما. ولو جمع سور قرى متفاصلة، لم يشترط مجاوزة السور. وكذا لو قدر ذلك في بلدتين متقاربتين. ولهذا قلنا أولا: إن ارتحل من بلدة لها سور مختص بها. وأما المقيم في الصحارى، فلا بد له من مفارقة البقعة التي فيها رحله وينسب إليه. فإن سكن واديا، وسافر في عرضه، فلا بد من مجاوزة عرض الوادي، نص عليه

(1/484)


الشافعي رحمه الله. قال الاصحاب: وهذا على الغالب في اتساع الوادي. فإن أفرطت السعة، لم يشترط إلا مجاوزة القدر الذي يعد موضع نزوله، أو موضع الحلة (1) التي هو فيها. كما لو سافر في طول الوادي. وقال القاضي أبو الطيب: كلام الشافعي مجرى على إطلاقه، وجانبا الوادي، كسور البلد. ولو كان نازلا في ربوة، فلا بد أن يهبط، وإن كان في وهدة، فلا بد أن يصعد، وهذا عند الاعتدال كما ذكرنا في الوادي. ولا فرق في اعتبار مجاوزة عرض الوادي، والصعود والهبوط، بين المنفرد في خيمة، ومن في أهل خيام على التفصيل المذكور. أما (2) إذا كان في أهل خيام كالاعراب والاكراد، فإنما يترخص إذا فارق الخيام، مجتمعة كانت، أو متفرقة، إذا كانت حلة واحدة وهي بمنزلة أبنية البلد. ولا يشترط مفارقته لحلة أخرى، بل الحلتان كالقريتين. وضبط الصيدلاني التفرق الذي لا يؤثر، بأن يكونوا بحيث يجتمعون للسمر في ناد واحد، ويستعين بعضهم من بعض. فإن كانوا بهذه الحالة، فهي حلة واحدة. ويعتبر مع مجاوزة الخيام مجاوزة مرافقها، كمطرح الرماد، وملعب الصبيان، والنادي، ومعاطن الابل، فإنها (3) من جملة مواضع إقامتهم. ولنا وجه شاذ: أنه لا يعتبر مفارقه الخيام، بل يكفي مفارقة خيمته. فرع: إذا فارق المسافر بنيان البلدة، ثم رجع إليها لحاجة، فله أحوال. أحدها: أن لا يكون له بتلك البلدة إقامة أصلا، فلا يصير مقيما بالرجوع، ولا بالحصول فيها. الثاني: أن تكون وطنه، فليس له الترخص في رجوعه، وإنما يترخص إذا فارقها ثانيا. ولنا وجه: أنه يترخص ذاهبا، وهو شاذ منكر. الثالث: أن لا تكون وطنه، لكنه أقام بها مدة، فهل له الترخص في رجوعه ؟

(1/485)


وجهان. أصحهما: نعم، صححه إمام الحرمين، والغزالي، وقطع به في (التتمة). والثاني: لا، وقطع به في (التهذيب) وحيث حكمنا بأنه لا يترخص إذا عاد، فلو نوى العود ولم يعد بعد، لم يترخص، وصار بالنية مقيما، ولا فرق بين حالتي الرجوع والحصول في البلدة، في الترخص وعدمه. هذا كله إذا لم يكن من موضع الرجوع إلى الوطن، مسافة القصر. فإن كانت، فهو مسافر مستأنف فيترخص.
فصل في انتهاء السفر الذي يقطع الترخص
ويحصل بأمور: الاول: العود إلى الوطن، والضبط فيه: أن يعود إلى الموضع الذي شرطنا مفارقته في إنشاء السفر منه. وفي معنى الوطن: الوصول إلى الموضع الذي يسافر إليه إذا عزم على الاقامة فيه القدر المانع من الترخص، فلو لم ينو الاقامة به ذلك القدر، لم ينته سفره بالوصول إليه على الاظهر. ولو حصل في طريقه في قرية، أو بلدة له بها أهل وعشيرة، فهل ينتهي سفره بدخولها ؟ قولان. أظهرهما: لا. ولو مر في طريق سفره بوطنه، بأن خرج من مكة إلى مسافة القصر، ونوى أنه إذا رجع إلى مكة، خرج إلى موضع آخر من غير إقامة، فالمذهب الذي قطع به الجمهور: أنه يصير مقيما بدخولها. وقال الصيدلاني وغيره: فيه القولان، كبلد أهله. فعلى أحدهما: العود إلى الوطن لا يوجب انتهاء السفر، إلا إذا كان عازما على الاقامة. الامر الثاني: نية الاقامة. فإذا نوى في طريقه الاقامة مطلقا، انقطع سفره، فلا يقصر. فلو أنشأ السير بعد ذلك، فهو سفر جديد، فلا يقصر إلا إذا توجه إلى مرحلتين. هذا إذا نوى الاقامة في موضع يصلح لها من بلدة، أو قرية، أو واد يمكن البدوي النزول فيه للاقامة. فأما المفازة ونحوها، ففي انقطاع السفر بنية الاقامة فيها قولان. أظهرهما عند الجمهور: انقطاعه. ولو نوى إقامة ثلاثة أيام فأقل، لم يصر مقيما قطعا وإن نوى أكثر من ثلاثة، قال الشافعي وجمهور الاصحاب: إن نوى إقامة أربعة أيام، صار مقيما. وذلك يقتضي أن نية دون الاربعة لا تقطع السفر وإن زاد على ثلاثة، وقد صرح به كثيرون، واختلفوا في أن الاربعة كيف تحسب ؟ على وجهين في (التهذيب) وغيره، أحدهما: يحسب منها يوما الدخول والخروج، كما

(1/486)


يحسب يوم الحدث، ويوم نزع الخف من مدة المسح. وأصحهما (1): لا يحسبان (2)، فعلى الاول، لو دخل يوم السبت وقت الزوال بنية الخروج يوم الاربعاء وقت الزوال، صار مقيما. وعلى الثاني: لا يصير (مقيما)، وإن دخل ضحوة السبت، وخرج عشية الاربعاء. وقال إمام الحرمين، والغزالي: متى نوى إقامة زائدة على ثلاثة أيام، صار مقيما. وهذا الذي قالاه، موافق لما قاله الجمهور، لانه لا يمكن زيادة على الثلاثة غير يومي الدخول والخروج، بحيث لا يبلغ الاربعة، ثم الايام المحتملة معدودة مع لياليها. وإذا نوى ما لا يحتمل، صار مقيما في الحال. ولو دخل ليلا، لم يحسب بقية الليلة، ويحسب الغد. وجميع ما ذكرناه في غير المحارب، أما المحارب، إذا نوى إقامة قدر يصير غيره به مقيما، ففيه قولان. أظهرهما: أنه كغيره. والثاني: يقصر أبدا. قلت: ولو نوى العبد إقامة أربعة أيام، أو الزوجة، أو الجيش، ولم ينو السيد، ولا الزوج، ولا الامير، ففي لزوم الاتمام في حقهم، وجهان. الاقوى: أن لهم القصر، لانهم لا يستقلون، فنيتهم كالعدم (3). والله أعلم. الامر الثالث: صورة الاقامة، فإذا عرض له شغل في بلدة، أو قرية، فأقام له، فله حالان. أحدهما (4): أن يرجو فراغ شغله ساعة فساعة، وهو على نية الارتحال عند فراغه. والثاني: يعلم أن شغله لا ينقضي في ثلاثة أيام، غير يومي الدخول

(1/487)


والخروج، كالتفقه، والتجارة الكثيرة، ونحوهما، فالاول: له القصر إلى أربعة أيام على ما سبق تفصيله. وفيما بعد ذلك طريقان. الصحيح منهما: فيه ثلاثة أقوال. أحدها: يجوز القصر أبدا، سواء فيه المقيم على القتال، أو الخوف من القتال، والمقيم لتجارة وغيرهما. والثاني: لا يجوز القصر أصلا. والثالث وهو الاظهر: يجوز ثمانية عشر (1) يوما فقط، وقيل: سبعة عشر، وقيل: تسعة عشر، وقيل: عشرين. والطريق الثاني: أن هذه الاقوال في (المحارب) ويقطع بالمنع في غيره. وأما الحال الثاني: فإن كان محاربا، وقلنا في الحال الاول: لا يقصر، فهنا أولى. وإلا فقولان. أحدهما: يترخص أبدا. والثاني: ثمانية عشر (2). وإن كان غير محارب، كالمتفقه، والتاجر، فالمذهب أنه لا يترخص أصلا. وقيل: هو كالمحارب، وهو غلط.

(1/488)


فصل: وأما كون السفر طويلا، فلا بد منه. والطويل: ثمانية وأربعون ميلا بالهاشمي (1)، وهي ستة عشر فرسخا، وهي أربعة برد (2)، وهي مسيرة يومين معتدلين. فالميل: أربعة آلاف خطوة، والخطوة: ثلاثة أقدام. وهل هذا الضبط تحديد، أم تقريب ؟ وجهان. الاصح: تحديد. وحكي قول شاذ: أن القصر يجوز في السفر القصير، بشرط الخوف. والمعروف: الاول. واستحب الشافعي رحمه الله أن لا يقصر إلا في ثلاثة أيام، للخروج من خلاف أبي حنيفة (3) في ضبطه به. والمسافة في البحر مثل المسافة في البر وإن قطعها في لحظة. فإن شك فيها، اجتهد (4).

(1/489)


قلت: ولو حبستهم الريح فيه، قال الدارمي: هو كالاقامة في البر بغير نية الاقامة. والله أعلم. واعلم أن مسافة الرجوع لا تحسب، فلو قصد موضعا على مرحلة بنية أن لا يقيم فيه، فليس له القصر، لا ذاهبا، ولا راجعا، وإن كان يناله مشقة مرحلتين متواليتين، لانه لا يسمى سفرا طويلا. وحكى الحناطي وجها: أنه يقصر إذا كان الذهاب والرجوع مرحلتين، وهو شاذ منكر. ويشترط عزمه في الابتداء على قطع مسافة القصر، فلو خرج لطلب آبق، أو غريم، وينصرف متى لقيه ولا يعرف موضعه، لم يترخص، وإن طال سفره كما قلنا في الهائم: فإذا وجده وعزم على الرجوع إلى بلده وبينهما مسافة القصر، يرخص إذا ارتحل عن ذلك الموضع. فلو كان في ابتداء السفر يعلم موضعه، وأنه لا يلقاه قبل مرحلتين، ترخص، فلو نوى مسافة القصر، ثم نوى أنه إن وجد الغريم رجع، نظر، إن نوى ذلك قبل مفارقة عمران البلد، لم يترخص، وبعد مفارقة العمران، فوجهان. أصحهما: يترخص ما لم يجده، فإذا وجده، صار مقيما. وكذا لو نوى قصد موضع في مسافة القصر، ثم نوى الاقامة في بلد وسط الطريق، فإن كان من مخرجه إلى المقصد الثاني مسافة القصر، يترخص، وإن كان أقل، ترخص أيضا على الاصح ما لم يدخله. قلت: هذا إذا نوى الاقامة أربعة أيام، فإن نوى دونها، فهو سفر واحد، فله القصر في جميع طريقه، وفي البلد الذي في الوسط. والله أعلم. فرع: إذا سافر العبد بسير المولى، والمرأة بسير الزوج، والجندي بسير الامير، ولا يعرفون مقصدهم، لم يجز لهم الترخص (1). فلو نووا مسافة القصر (2)، فلا عبرة بنية العبد، والمرأة، وتعتبر نية الجندي، لانه ليس تحت يد الامير وقهره، فإن عرفوا مقصدهم فنووا، فلهم القصر. قلت: وإذا أسر الكفار رجلا، فساروا به ولم يعلم أين يذهبون به، لم

(1/490)


يقصر. وإن سار معهم يومين، قصر بعد ذلك. نص عليه الشافعي رحمه الله. فلو علم البلد الذي يذهبون به إليه، فإن كان نيته أنه إن تمكن من الهرب هرب، لم يقصر (1) قبل مرحلتين. وإن نوى قصد ذلك البلد، أو غيره - ولا معصية في قصده - قصر في الحال إن كان بينهما مرحلتان. والله أعلم. فرع: لو كان لمقصده (2) طريقان، يبلغ أحدهما مسافة القصر دون الآخر، فسلك الابعد، نظر، إن كان لغرض كالامن، أو السهولة، أو زيادة، أو عيادة، ترخص (3). وكذا لو قصد التنزه على المذهب. وتردد الشيخ أبو محمد في اعتباره وإن لم يكن غرض سوى الترخص، فطريقان. أصحهما: على قولين. أظهرهما (4): لا يترخص. والطريق الثاني: لا يترخص قطعا. ولو بلغ بكل واحد المسافة، فسلك الابعد لغير غرض، ترخص في جميعه قطعا. فرع: إذا خرج إلى بلد والمسافة طويلة، ثم بدا له في أثناء السفر أن يرجع، انقطع سفره (5)، فلا يجوز القصر ما دام في ذلك الموضع. فإذا فارقه، فهو سفر جديد. فإنما يقصر إذا توجه منه إلى مرحلتين، سواء رجع إلى وطنه، أو استمر إلى مقصده الاول، أو غيرهما. ولو خرج إلى بلد لا يقصر إليه الصلاة، ثم نوى مجاوزته إلى ما يقصر إليه الصلاة، فابتداء سفره، من حين غير النية، فإنما يترخص إذا كان من ذلك الموضع إلى المقصد الثاني مرحلتان. ولو خرج إلى سفر طويل بنية الاقامة في كل مرحلة أربعة أيام، لم يترخص. فصل: وأما كون السفر مباحا، فمعناه: أنه ليس بمعصية، سواء كان

(1/491)


طاعة، أو تجارة، ولا يترخص في سفر المعصية (1)، كهرب العبد من مولاه، والمرأة من الزوج، والغريم مع القدرة على الاداء، والمسافر لقطع الطريق، أو للزنى، أو قتل البرئ. وأما العاصي في سفره، وهو أن يكون السفر مباحا، ويرتكب المعاصي في طريقه، فله الترخص. ولو أنشأ سفرا مباحا، ثم جعله معصية، فالاصح أنه لا يترخص (2). ولو أنشأ سفر معصية، ثم تاب وغير قصده من غير تغيير صوب السفر، قال الاكثرون: ابتداء سفره من ذلك الموضع. إن كان منه إلى مقصده مسافة القصر، ترخص، وإلا فلا. وقيل: في الترخص وجهان، كما لو نوى مباحا، ثم جعله معصية. ثم العاصي بسفره، لا يقصر، ولا يفطر، ولا يتنفل على الراحلة، ولا يجمع بين الصلاتين، ولا يمسح ثلاثة أيام، وله أن يمسح يوما وليلة، على الصحيح. والثاني: لا يمسح أصلا. وليس له أكل الميتة عند الاضطرار على المذهب (3)، وبه قطع الجماهير من العراقيين وغيرهم. وقيل: وجهان. أصحهما: لا يجوز تغليظا عليه، لانه قادر على استباحتها بالتوبة. والثاني: الجواز. كما يجوز للمقيم العاصي على الصحيح الذي عليه الجمهور. وفي وجه شاذ: لا يجوز للمقيم العاصي لقدرته على التوبة. قلت: ولا تسقط الجمعة عن العاصي بسفره، وفي تيممه خلاف تقدم في بابه. والله أعلم. ومما ألحق بسفر المعصية، أن يتعب الانسان نفسه، ويعذب دابته بالركض

(1/492)


من غير غرض. ذكر الصيدلاني أنه لا يحل له ذلك. ولو كان يتنقل من بلد إلى بلد من غير غرض صحيح، لم يترخص. قال الشيخ أبو محمد: السفر لمجرد رؤية البلاد والنظر إليها، ليس من الاغراض الصحيحة. فصل: القصر (1) جائز في كل صلاة رباعية مؤداة (2) في السفر أدرك وقتها فيه. فأما المغرب، والصبح، فلا قصر فيهما بالاجماع. وأما المقضية، فإن فاتت في الحضر وقضاها في السفر، لم يقصر، خلافا للمزني. وإن شك هل فاتت في السفر، أو الحضر ؟ لم يقصر أيضا (3). وإن فاتت في السفر، فقضاها فيه، أو في الحضر، فأربعة أقوال. أظهرها: إن قضى في السفر، قصر، وإلا فلا. والثاني: يتم فيهما، والثالث: يقصر فيهما. والرابع: إن قضى ذلك في السفر، قصر، وإن قضى في الحضر، أو سفر آخر، أتم. فإن قلنا: يتم فيهما، فشرع في الصلاة بنية القصر، فخرج الوقت في أثنائها، فهو مبني على أن الصلاة التي يقع بعضها في الوقت أداء أم قضاء. والصحيح: أنه إن وقع في الوقت ركعة، فأداء، وإن كان دونها، فقضاء. فإن قلنا: قضاء، لم يقصر. وإن قلنا: أداء، قصر على الصحيح. وقال صاحب (التلخيص): يتم. فرع: إذا سافر في أثناء الوقت، وقد مضى منه ما يمكن فعل الصلاة فيه، فالنص أن له القصر. ونص فيما إذا أدركت من أول الوقت قدر الامكان، ثم حاضت، أنه يلزمها القضاء، وكذا سائر أصحاب العذر. فقال الاصحاب: في المسألتين طريقان. أحدهما وهو المذهب: العمل بظاهر النصين، والثاني: فيهما قولان. أحدهما: يلزم الحائض الصلاة، ويجب على المسافر الاتمام. والثاني: لا يلزمها الصلاة، ويجوز له القصر. وقال أبو الطيب بن سلمة (4): إن سافر وقد

(1/493)


بقي من الوقت أربع ركعات لم يقصر. وإن بقي أكثر، قصر. والجمهور: على أنه لا فرق. أما إذا سافر وقد بقي أقل من قدر الصلاة، فإن قلنا: كلها أداء، قصر، وإلا فلا. وإن مضى من الوقت دون ما يسع الصلاة وسافر، قال إمام الحرمين: ينبغي أن يمتنع القصر إن قلنا: تمتنع لو مضى ما يسع الصلاة، بخلاف ما لو حاضت بعد مضي القدر الناقص، فإنه لا يلزمها الصلاة على المذهب، لان عروض السفر لا ينافي إتمام الصلاة، وعروض الحيض ينافيه. قلت: هذا الذي ذكره الامام، شاذ مردود، فقد صرحوا بأنه يقصر هنا بلا خلاف. ونقل القاضي أبو الطيب: إجماع المسلمين: أنه يقصر. والله أعلم.
فصل: للقصر أربع شروط : أحدها: أن لا يقتدي بمتم، فإن فعله ولو في لحظة، لزمه الاتمام. والاقتداء في لحظة يتصور من وجوه. منها أن يدرك الامام في آخر صلاته، أو يحدث الامام عقب اقتدائه وينصرف. ولو صلى الظهر خلف من يقضي الصبح، مسافرا كان أو مقيما، لم يجز القصر على الاصح. ولو صلى الظهر خلف من يصلي الجمعة، فالمذهب: أنه لا يجوز القصر مطلقا، وقيل: إن قلنا: الجمعة ظهر مقصورة، قصر، وإلا فهي كالصبح. قلت: وسواء كان إمام الجمعة، مسافرا، أو مقيما، فهذا حكمه. ولو نوى الظهر مقصورة خلف من يصلي العصر مقصورة، جاز. والله أعلم. ثم المقتدي تارة يعلم حال إمامه، وتحرة يجهلها. فإن علم، نظر، إن علمه مقيما، أو ظنه، لزمه الاتمام. فلو اقتدى به ونوى القصر، انعقدت صلاته، ولغت نية القصر. بخلاف المقيم ينوي القصر، لا تنعقد صلاته، لانه ليس من أهل القصر، والمسافر من أهله، فلم يضره نية القصر. كما لو شرع في الصلاة بنية القصر، ثم نوى الاتمام، أو صار مقيما. وإن علمه، أو ظنه مسافرا، أو علم أو

(1/494)


ظن أنه نوى القصر، فله أن يقصر خلفه، وكذا إن لم يدر أنه نوى القصر، ولا يلزم الاتمام بهذا التردد، لان الظاهر من حال المسافر القصر. ولو عرض هذا التردد في أثناء الصلاة، لم يلزم الاتمام. ولو لم يعرف نيته فعلق عليها، فنوى إن قصر، قصرت، وإن أتم، أتممت، فوجهان: أصحهما: جواز التعليق، فإن أتم الامام، أتم، وإن قصر، قصر. فلو فسدت صلاة الامام، أو أفسدها ثم قال: كنت نويت القصر، فللمأموم القصر. وإن قال: كنت نويت الاتمام، لزمه الاتمام. وإن انصرف ولم يظهر للمأموم ما نواه، فالاصح: لزوم الاتمام. قاله أبو إسحاق. والثاني: جواز القصر، قاله ابن سريج. أما إذا لم يعلم، ولم يظن أنه مسافر، أو مقيم، بل شك، فيلزمه الاتمام وإن بان الامام مسافرا قاصرا. ولنا وجه: أنه إذا بان قاصرا، جاز القصر وهو شاذ. فرع: إذا اقتدى بمقيم، أو مسافر متم، ثم فسدت صلاة الامام، أو بان محدثا، أو فسدت صلاة المأموم، فاستأنفها، لزمه الاتمام. ولو اقتدى بمن ظنه مسافرا، فبان مقيما، لزمه الاتمام، لتقصيره، فإن شعار المسافر ظاهر. وإن بان أنه مقيم محدث، نظر، إن بان كونه مقيما أولا، لزم الاتمام. وإن بان كونه محدثا أولا أو بانا معا، فطريقان. أشهرهما: على وجهين. أصحهما: له القصر. والطريق الثاني: له القصر قطعا، إذ لا قدوة. ولو شرع في الصلاة مقيما، ثم بان أنه محدث، ثم سافر والوقت باق، فله القصر، لعدم الشروع الصحيح. بخلاف ما لو شرع فيها مقيما، ثم عرض سبب مفسد، فإنه يلزمه الاتمام، لالتزامه ذلك بالشروع الصحيح. ولو اقتدى بمقيم، ثم بان حدث المأموم، فله القصر. وكذا لو اقتدى بمن يعرفه محدثا ويظنه مقيما، فله القصر، لانه لم يصح شروعه. فرع: المذهب الصحيح الجديد: أنه يجوز أن يستخلف الامام إذا فسدت صلاته بحدث أو غيره من يتم بالمأمومين. وسيأتي بيان هذا في باب الجمعة، إن شاء الله تعالى. فإذا أم مسافر مسافرين ومقيمين، ففسدت صلاته برعاف (1)، أو

(1/495)


سبق حدث، فاستخلف مقيما، لزم المسافرين المقتدين الاتمام. كذا قطع به الاصحاب. ويجئ فيه وجه، لانا سنذكر وجها في مسائل الاستخلاف إن شاء الله تعالى: أنه يجب عليهم نية الاقتداء بالخليفة. فعلى هذا إنما يلزم الاتمام إذا نووا الاقتداء. وإنما فرع الاصحاب على الصحيح، أن نية الاقتداء بالخليفة لا تجب. وأما الامام الذي سبقه الحدث والرعاف، فظاهر نص الشافعي رحمه الله، يقتضي وجوب إتمامه. واختلفوا في معناه، فالصحيح ما قاله أبو إسحاق المروزي، والاكثرون: أن مراده، أن يعود بعد غسل الدم، ويقتدي بالخليفة، إما بناء على القول القديم، وإما استئنافا على الجديد، فيلزمه الاتمام، لانه اقتدى بمقيم في بعض صلاته. فإن لم يقتد به، لم يلزمه الاتمام. وقيل: يجب الاتمام عاد أو لم يعد، عملا بظاهر النص، لان فرعه متم، فهو أولى، وغلطه الاصحاب. وقيل: إن هذا تفريع على القديم، إن سبق الحدث لا يبطلها، فيكون الراعف في انصرافه في حكم المؤتم بخليفته المقيم. وضعفه الاصحاب أيضا، فإن البناء إنما يجوز على القديم، والاستخلاف لا يجوز على القديم. وقيل: مراده أن يحس الامام بالرعاف قبل خروج الدم، فيستخلف، ثم يخرج فيلزمه الاتمام، لانه صار مقتديا بمقيم في جزء من صلاته. وضعفه المحاملي وغيره، لانه استخلاف قبل العذر، وليس بجائز. وقال الشيخ أبو محمد: الاحساس به عذر. ومتى حضر إمام حاله أكمل، جاز استخلافه. قلت: هذا كله إذا استخلف الامام مقيما. فلو لم يستخلف، ولا استخلف المأمومون، بنوا على صلاتهم فرادى. وجاز للمسافرين منهم، والراعف، القصر قطعا. وكذا لو استخلف الامام مسافرا، أو استخلفه القوم، قصر المسافرون والراعف. فلو لم يستخلف الامام الراعف، واستخلف القوم مقيما، فوجهان. حكاهما صاحب (الحاوي) أحدهما: أنه كاستخلاف الراعف على ما مضى. وأصحهما: يجوز للراعف هنا القصر بلا خلاف إذا لم يقتد به، لانه ليس فرعا له. ولو استخلف المقيمون مقيما، والمسافرون مسافرا، جاز. وللمسافرين القصر خلف إمامهم، وكذا لو تفرقوا ثلاث فرق أو أكثر، وأم كل فرقة إمام. نص عليه الشافعي. والله أعلم. الشرط الثاني: نية القصر. فلا بد منها عند ابتداء الصلاة. ولا يجب استدامة

(1/496)


ذكرها، لكن يشترط الانفكاك عما يخالف الجزم بها. فلو نوى القصر أولا، ثم نوى الاتمام، أو تردد بين القصر والاتمام، أو شك هل نوى القصر، ثم ذكر في الحال أنه نواه، لزمه الاتمام. ولو اقتدى بمسافر علم أو ظن أنه نوى القصر، فصلى ركعتين، ثم قام الامام إلى ثالثة، نظر، إن علم أنه نوى الاتمام، لزمه الاتمام، وإن علم أنه ساه، بأن كان حنفيا لا يرى الاتمام، لم يلزمه الاتمام (1)، ويتخير، إن شاء خرج عن متابعته، وسجد للسهو، وسلم، وإن شاء انتظره حتى يعود. فلو أراد أن يتم أتم، لكن لا يجوز أن يقتدي بالامام في سهوه، لانه غير محسوب له. ولا يجوز الاقتداء بمن علمنا أنه ما هو فيه غير محسوب له، كالمسبوق إذا أدرك من آخر الصلاة ركعة، فقام الامام سهوا إلى ركعة زائدة، لم يكن للمسبوق أن يقتدي به في تدارك ما عليه. فلو شك هل قام ساهيا أم متما، لزمه الاتمام. ولو نوى القصر وصلى ركعتين، ثم قام إلى ثالثة، نظر، إن حدث ما يوجب الاتمام كنية الاتمام، أو الاقامة، أو حصوله بدار الاقامة في السفينة، فقام لذلك، فقد فعل واجبه. فإن لم يحدث شئ من ذلك، وقام عمدا، بطلت صلاته. كما لو قام المقيم المذكور إلى ركعة خامسة، أو قام المتنفل إلى ركعة زائدة قبل تغيير النية. وإن قام سهوا، ثم ذكر، لزمه أن يعود، ويسجد للسهو، ويسلم. فلو بدا له بعد التذكر أن يتم، عاد إلى القعود، ثم نهض متما. وفي وجه ضعيف: له أن يمضي في قيامه. فلو صلى ثالثة، ورابعة، سهوا، وجلس للتشهد، فتذكر، سجد للسهو وهو قاصر، وركعتاه الزائدتان غير محسوبتين. فلو نوى الاتمام، لزمه أن يقوم ويصلي ركعتين أخريين، ويسجد للسهو في آخر صلاته. الشرط الثالث: أن يكون مسافرا من أول الصلاة إلى آخرها. فلو نوى الاقامة في أثنائها، أو انتهت به السفينة إلى دار الاقامة، أو سارت به من دار الاقامة في اثنائها، أو شك، هل نوى الاقامة، أم لا ؟ أو دخل بلدا وشك هل هو مقصوده، أم لا ؟ لزمه الاتمام. الشرط الرابع: العلم بجواز القصر. فلو جهل جوازه فقصر، لم يصح،

(1/497)


لتلاعبه، نص عليه في (الام). قلت: ويلزمه إعادة هذه الصلاة أربعا، لالزامه الاتمام. والصورة فيمن نوى الظهر مطلقا، ثم سلم من ركعتين عمدا. أما لو نوى جاهل القصر الظهر ركعتين متلاعبا، فيعيدها مقصورة إذا علم القصر بعد شروعه. والله أعلم ] (1).
باب الجمع بين الصلاتين يجوز الجمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء، تقديما في وقت الاولى، أو تأخيرا في وقت الثانية، في السفر الطويل (2). ولا يجوز في القصير على الاظهر. والافضل للسائر في وقت الاولى أن يؤخرها إلى الثانية، وللنازل في وقتها، تقديم الثانية. ولا يجوز الجمع في سفر المعصية، ولا جمع الصبح إلى غيرها، ولا العصر إلى المغرب. وأما (3) الحجاج من أهل الآفاق، فيجمعون بين الظهر والعصر (4) بعرفة في وقت الظهر، وبين المغرب والعشاء بمزدلفة في وقت العشاء،

(1/498)


وذلك الجمع بسبب السفر على المذهب الصحيح. وقيل: بسبب النسك. فإن قلنا بالاول، ففي جمع المكي القولان، لان سفره قصير، ولا يجمع العرفي بعرفة، ولا المزدلفي بمزدلفة، لانه وطنه. وهل يجمع كل واحد منهما بالبقعة الاخرى، فيه القولان كالمكي. وإن قلنا بالثاني، جاز الجمع لجميعهم. ومن الاصحاب (1) يقول: في جمع المكي قولان. الجديد: منعه. والقديم: جوازه. وعلى القديم في العرفي والمزدلفي، وجهان. والمذهب: منع جميعهم على الاطلاق. وحكم الجمع في البقعتين، حكمه في سائر الاسفار. ويتخير في التقديم والتأخير، والاختيار: التقديم بعرفة، والتأخير بمزدلفة. فرع: إذا جمع المسافر في وقت الاولى، اشترط ثلاثة أمور. أحدها: الترتيب، فيبدأ بالاولى. فلو بدأ بالثانية، لم يصح. وتجب إعادتها بعد الاولى. ولو بدأ بالاولى، ثم صلى الثانية، فبان فساد الاولى، فالثانية فاسدة أيضا. الامر الثاني: نية الجمع. والمذهب: أنها تشترط. ويكفي حصولها عند الاحرام بالاولى، أو في اثنائها، أو مع التحلل منها، ولا يكفي بعد التحلل. ولنا قول شاذ (2): أنها تشترط عند الاحرام بالاولى، ووجه: أنها تجوز في اثنائها. ولا تجوز مع التحلل، ووجه: أنها تجوز بعد (3) التحلل قبل الاحرام بالثانية. وهو قول خرجه المزني للشافعي. ووجه آخر لاصحابنا، وهو مذهب المزني: أن نية الجمع لا تشترط أصلا. قلت: قال الدارمي: لو نوى الجمع، ثم نوى تركه في أثناء الاولى، ثم نوى الجمع ثانيا، ففيه القولان. والله أعلم. الامر الثالث: الموالاة. والصحيح المشهور: اشتراطها (4). وقال

(1/499)


الاصطخري، وأبو علي الثقفي: يجوز الجمع وإن طال الفصل بين الصلاتين ما لم يخرج وقت الاولى. وحكى عن نصه في (الام): أنه إذا صلى المغرب في بيته بنية الجمع، وأتى المسجد فصلى العشاء، جاز. والمعروف: اشتراط الموالاة، فلا يجوز الفصل الطويل، ولا يضر اليسير. قال الصيدلاني: حد أصحابنا اليسير بقدر الاقامة. والاصح ما قاله العراقيون: أن الرجوع في الفصل إلى العادة. وقد تقتضي العادة إحتمال زيادة على قدر الاقامة، ويدل عليه أن جمهور الاصحاب، جوزوا الجمع بين الصلاتين بالتيمم، وقالوا: لا يضر الفصل بينهما بالطلب والتيمم، لكن يخفف الطلب. ومنع أبو إسحاق المروزي جمع المتيمم للفصل بالطلب. ومتى طال الفصل، امتنع ضم الثانية إلى الاولى، ويتعين تأخيرها إلى وقتها، سواء طال بعذر، كالسهو، والاغماء، أو بغيره. ولو جمع فتذكر بعد فراغه منهما أنه ترك ركنا من الاولى، بطلتا جميعا، وله إعادتهما جامعا. ولو تذكر تركه من الثانية، فإن قرب الفصل تدارك ومضت الصلاتان على الصحة. وإن طال، بطلت الثانية، وتعذر الجمع لطول الفصل بالثانية الباطلة، فيعيدها في وقتها. فلو لم يدر أنه ترك من الاولى، أم من الثانية، لزمه إعادتهما لاحتمال الترك من الاولى. ولا يجوز الجمع على المشهور. وفي قول شاذ: يجوز كما لو أقيمت جمعتان في بلد، ولم يعلم السابقة منهما، يجوز إعادة الجمعة في قول. هذا كله إذا جمع في وقت الاولى، فلو جمع في وقت الثانية، لم يشترط الترتيب ولا الموالاة، ولا نية الجمع حال الصلاة على الصحيح. وتشترط الثلاثة على الثاني، فعلى الاشتراط، لو أخل بواحد منها، صارت الاولى قضاء، فلا يجوز قصرها إن لم نجوز قصر القضاء. قال الاصحاب: ويجب أن ينوي في وقت الاولى كون التأخير بنية الجمع. فلو أخر بغير نية حتى خرج الوقت، أو ضاق بحيث لم يبق منه ما تكون الصلاة فيه أداء، عصى، وصارت الاولى قضاء. فرع: إذا جمع تقديما، فصار في أثناء الاولى أو قبل الشروع في الثانية مقيما بنية الاقامة، أو وصول السفينة دار الاقامة، بطل الجمع، فيتعين تأخير الثانية إلى وقتها، وأما الاولى فصحيحة. فلو صار مقيما في أثناء الثانية، فوجهان.

(1/500)


أحدهما: يبطل الجمع، كما يمتنع القصر بالاقامة في أثنائها. فعلى هذا، هل تكون الثانية نفلا، أم تبطل ؟ فيه الخلاف كنظائره. وأصحهما: لا يبطل الجمع صيانة لها عن البطلان بعد الانعقاد، بخلاف القصر، فإن وجوب الاتمام، لا يبطل فرضية ما مضى من صلاته. أما إذا صار مقيما بعد الفراغ من الثانية، فإن قلنا: الاقامة في أثنائها لا تؤثر، فهنا أولى، وإلا فوجهان. الاصح: لا يبطل الجمع، كما لو قصر ثم أقام. ثم قال صاحب (التهذيب) وآخرون: الخلاف فيما إذا أقام بعد فراغه من الصلاتين، إما في وقت الاولى، وإما في وقت الثانية قبل مضي إمكان فعلها. فإن كان بعد إمكان فعلها، لم تجب إعادتها بلا خلاف. وصرح إمام الحرمين بجريان الخلاف مهما بقي من وقت الثانية شئ. هذا كله إذا جمع تقديما. فلو جمع في وقت الثانية، فصار مقيما بعد فراغه منهما، لم يضر. وإن كان قبل الفراغ، صارت الاولى قضاء. فصل: يجوز الجمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء، بعذر المطر. ولنا قول شاذ ضعيف، حكاه إمام الحرمين: أنه يجوز بين المغرب والعشاء في وقت المغرب دون الظهر والعصر، وهو مذهب مالك (1). وقال المزني: لا يجوز مطلقا، وسواء عندنا قوي المطر وضعيفه إذا بل الثوب، والشفان، مطر وزيادة. قلت: الشفان - بفتح الشين المعجمة، وتشديد الفاء، وآخره نون (2) - وهو برد ريح فيه ندوة، وكذا قاله أهل اللغة. وهو تصريح بأنه ليس بمطر، فضلا عن كونه مطرا وزيادة، فكأن الرافعي قلد صاحب (التهذيب) في إطلاق هذه العبارة المنكرة. وصوابه أن يقال: الشفان له حكم المطر، لتضمنه القدر المبيح من المطر، وهو ما يبل الثوب، وهو موجود في الشفان. والله أعلم. والثلج، والبرد، إن كانا يذوبان، فكالمطر، وإلا، فلا. وفي وجه شاذ: لا يرخصان بحال. ثم هذه الرخصة لمن يصلي جماعة في مسجد يأتيه من بعد، ويتأذى بالمطر في إتيانه. فأما من يصلي في بيته منفردا، أو في جماعة، أو مشى

(1/501)


إلى المسجد في كن، أو كان المسجد في باب داره، أو صلى النساء في بيوتهن جماعة، أو حضر جميع الرجال في المسجد، وصلوا أفرادا، فلا يجوز الجمع على الاصح. وقيل: على الاظهر. ثم إن أراد الجمع في وقت الاولى، فشروطه كما تقدمت في جمع السفر. وإن أراد تأخير الاولى إلى الثانية، كالسفر، لم يجز على الاظهر الجديد، ويجوز على القديم. فإذا جوزناه، قال العراقيون: يصلي الاولى مع الثانية، سواء اتصل المطر، أو انقطع. وقال في (التهذيب): إذا انقطع قبل دخول وقت الثانية، لم يجز الجمع، ويصلي الاولى في آخر وقتها، كالمسافر إذا أخر بنية الجمع، ثم أقام قبل دخول وقت الثانية، وقتضى هذا أن يقال: لو انقطع في وقت الثانية قبل فعلها، امتنع الجمع، وصارت الاولى قضاء، كما لو صار مقيما. وعكس صاحب (الابانة) ما قاله الاصحاب، واتفقوا عليه، فقال: يجوز الجمع في وقت الثانية. وفي جوازه في وقت الاولى، وجهان. وهذا نقل منكر. وأما إذا جمع في وقت الاولى، فلا بد من وجود المطر في أول الصلاتين، ويشترط وجوده أيضا عند التحلل من الاولى على الاصح الذي قاله أبو زيد، وقطع به العراقيون، وصاحب (التهذيب) وغيرهم. والثاني: لا يشترط. ونقله في (النهاية) عن معظم الاصحاب. ولا يضر انقطاعه فيما سوى هذه الاحوال الثلاث. هذا هو الصواب الذي نص عليه الشافعي، وقطع به الاصحاب في طرقهم. ونقل في (النهاية) عن بعض المصنفين أنه قال: في انقطاعه في أثناء الثانية، أو بعدها مع بقاء الوقت، الخلاف المتقدم في طريان الاقامة في جمع السفر. وضعفه، وأنكره، وقال: إذا لم يشترط دوام المطر في الاولى، فأولى أن لا يشترط في الثانية وما بعدها. وذكر القاضي ابن كج عن بعض الاصحاب: أنه لو افتتح الصلاة الاولى ولا مطر، ثم مطرت في أثنائها، ففي جواز الجمع، القولان في نية الجمع في أثناء الاولى. واختار ابن الصباغ هذه الطريقة، والصحيح المشهور ما قدمناه. فرع: يجوز الجمع بين صلاة الجمعة والعصر للمطر، فإذا قدم العصر، فلا بد من وجود المطر في الاحوال الثلاثة كما تقدم. قال صاحب (البيان): ولا يشترط وجوده في الخطبتين، وقد ينازع فيه ذهابا إلى جعلهما بدل الركعتين. قال: وإن أراد تأخير الجمعة إلى وقت العصر، جاز إذا جوزنا تأخير الظهر، فيخطب في وقت العصر ويصلي.

(1/502)


فرع: المعروف في المذهب: أنه لا يجوز الجمع بالمرض، ولا الخوف، ولا الوحل. وقال جماعة من أصحابنا: يجوز بالمرض، والوحل. ممن قاله من أصحابنا: أبو سليمان الخطابي، والقاضي حسين، واستحسنه الروياني. فعلى هذا، يستحب أن يراعي الارفق بنفسه، فإن كان يحم مثلا في وقت الثانية، [ قدمها إلى الاولى بالشرائط المتقدمة، وإن كان يحم في وقت الاولى، أخرها إلى الثانية ] (1). قلت: القول: بجواز الجمع بالمرض ظاهر مختار (2). فقد ثبت في (صحيح مسلم) (3): أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، (جمع بالمدينة من غير خوف ولا مطر). وقد حكى الخطابي، عن القفا الكبير الشاشي، عن أبي إسحاق المروزي: جواز الجمع في الحضر للحاجة من غير اشتراط الخوف، والمطر، والمرض، وبه قال ابن المنذر من أصحابنا. والله أعلم. فرع: إذا جمع الظهر والعصر، صلى سنة الظهر، ثم سنة العصر، ثم يأتي بالفريضتين. وفي جمع العشاء والمغرب، يصلي الفريضتين، ثم سنة المغرب، ثم سنة العشاء، ثم الوتر. قلت: هذا الذي قاله الامام الرافعي في المغرب والعشاء، صحيح، وأما في الظهر والعصر، فشاذ ضعيف، والصواب الذي قاله المحققون: أنه يصلي سنة الظهر التي قبلها، ثم يصلي الظهر، ثم العصر، ثم سنة الظهر التي بعدها، ثم سنة العصر. وكيف يصح سنة الظهر التي بعدها، قبل فعلها، وقد تقدم أن وقتها يدخل بفعل الظهر ؟ ! وكذا سنة العصر لا يدخل وقتها إلا بدخول وقت العصر، ولا يدخل وقت العصر المجموعة إلى الظهر، إلا بفعل الظهر الصحيحة. والله أعلم.

(1/503)


فصل: الرخص المتعلقة بالسفر الطويل، أربع: القصر، والفطر، والمسح على الخف ثلاثة أيام ولياليهن، والجمع على الاظهر. والتي تجوز في القصر أيضا أربع: ترك الجمعة، وأكل الميتة - وليس مختصا بالسفر - والتنفل على الراحلة على المشهور، والتيمم، وإسقاط الفرض به على الصحيح فيهما (1). فصل: القصر أفضل من الاتمام على الاظهر. وعلى الثاني: الاتمام. وفي وجه: هما سواء. واستثنى الاصحاب صورا من الخلاف. منها: إذا كان السفر دون ثلاثة أيام، فالاتمام أفضل قطعا. نص عليه، وقد تقدم. ومنها: أن يجد من نفسه كراهة القصر (2)، فيكاد يكون رغبة عن السنة، فالقصر لهذا أفضل قطعا، بل يكره له الاتمام إلى أن تزول تلك الكراهة. وكذلك القول في جميع الرخص في هذه الحالة. ومنها: الملاح الذي يسافر في البحر، ومعه أهله وأولاده في سفينة، فإن الافضل له الاتمام. نص عليه في (الام). وفيه خروج من الخلاف، فإن أحمد، لا يجوز له القصر. قلت: ومنها ما حكاه صاحب (البيان) عن صاحب (الفروع): أن الرجل إذا كان لا وطن له، وعادته السير أبدا، فله القصر، ولكن الاتمام أفضل، والله أعلم.

(1/504)


واعلم: أن صوم رمضان في السفر لمن أطاقه، أفضل من الافطار على المذهب. قلت: وترك الجمع أفضل بلا خلاف، فيصلي كل صلاة في وقتها، للخروج من الخلاف، فإن أبا حنيفة، وجماعة من التابعين لا يجوزونه. وممن نص على أن تركه أفضل: الغزالي، وصاحب (التتمة). قال الغزالي في (البسيط): لا خلاف أن ترك الجمع أفضل. قال أصحابنا: وإذا جمع، كانت الصلاتان أداء، سواء جمع في وقت الاولى، أو الثانية. ولنا وجه شاذ في (الوسيط) وغيره: أن المؤخرة تكون قضاء. وغسل الرجل أفضل من مسح الخف، إلا إذا تركه رغبة عن السنة، أو شك في جوازه كما تقدم ومن فروع هذا الكتاب، لو نوى الكافر، أو الصبي السفر إلى مسافة القصر، ثم أسلم، وبلغ في أثناء الطريق، فلهما القصر في بقيته. ولو نوى مسافران إقامة أربعة أيام، وأحدهما يعتقد انقطاع القصر بها، كالشافعي، والآخر لا يعتقده كالحنفي، كره للاول أن يقتدي بالثاني. فإن اقتدى، صح. فإذا سلم الامام من ركعتين، قام المأموم لاتمام صلاته. ولا يجوز القصر في البلد للخوف، ولا يقصر الصلاة في الخوف إلى ركعة. وفي حديث ابن عباس في (مسلم): (فرضت الصلاة في السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة) معناه: ركعة مع الامام، وينفرد المأموم بأخرى. والله أعلم.

(1/505)