روضة الطالبين وعمدة المفتين ط العلمية

روضة الطالبين - كتاب صلاة الجمعة (1)
فيه ثلاثة أبواب:
[ الباب الاول ] في شروطها اعلم أن صلاة الجمعة فرض عين. وحكى ابن كج وجها: أنها فرض كفاية. وحكي قولا، وغلطوا حاكيه (2)، قال الروياني: لا يجوز حكاية هذا عن الشافعي رحمه الله. واعلم أن الجمعة كالفرائض الخمس في الاركان والشروط، إلا أنها تختص بثلاثة أشياء. أحدها: اشتراط أمور زائدة لصحتها. والثاني: اشتراط أمور زائدة لوجوبها.

(1/507)


والثالث: آداب تشرع فيها. وهذا الباب لشروط الصحة. وهي ستة: الاول: الوقت: فلا تقضى الجمعة على صورتها (1) بالاتفاق، ووقتها: وقت الظهر (2). ولو خرج الوقت، أو شكوا في خروجه، لم يشرعوا فيها. ولو بقي من الوقت ما لا يسع خطبتين وركعتين يقتصر فيهما على ما لا بد منه، لم يشرعوا فيها، بل يصلون الظهر (3). نص عليه في (الام). ولو شرعوا فيها في الوقت، ووقع بعضها خارجه، فاتت الجمعة قطعا، ووجب عليهم إتمامها ظهرا على المذهب. وفيه قول مخرج: أنه يجب استئناف الظهر. فعلى المذهب، يسر بالقراءة من حينئذ، ولا يحتاج إلى تجديد نية الظهر على الاصح. وإن قلنا بالمخرج، فهل تبطل صلاته، أم تنقلب نفلا ؟ قولان مذكوران في نظائره، تقدما في أول (صفة الصلاة) ولو شك هل خرج الوقت وهو في الصلاة ؟ أتمها جمعة على الصحيح، وظهرا على الثاني. ولو قام المسبوق الذي أدرك ركعة ليأتي بالثانية، فخرج الوقت قبل سلامه، أتمها ظهرا على الاصح، وجمعة على الثاني. ولو سلم الامام والقوم التسليمة الاولى في الوقت، والثانية خارجه، صحت جمعتهم. ولو سلم الامام الاولى خارج الوقت، فاتت جمعة الجميع. ولو سلم الامام وبعض المأمومين الاولى في الوقت، وسلمها بعض المأمومين خارجه، فمن سلمها خارجه، فظاهر المذهب بطلان صلاتهم. وأما الامام ومن سلم معه في الوقت، فإن بلغوا عددا تصح بهم الجمعة، صحت لهم، وإلا فهو شبيه بمسألة الانفضاض (4). ثم سلامه وسلامهم خارج الوقت، إن كان مع العلم بالحال، تعذر بناء الظهر عليه قطعا، لبطلان الصلاة، إلا أن يغيروا النية إلى النفل ويسلموا، ففيه ما سبق. وإن

(1/508)


كان عن جهل منه، لم تبطل صلاته. وهل يبني، أم يستأنف ؟ فيه الخلاف الذي ذكرناه. الشرط الثاني: دار الاقامة، فيشترط لصحة الجمعة دار الاقامة، وهي الابنية التي يستوطنها العدد الذين يصلون الجمعة، سواء فيه البلاد، والقرى، والاسراب التي يتخذها وطنا (1)، وسواء فيه البناء من حجر، أو طين، أو خشب. وأما أهل الخيام النازلون في الصحراء، ويتنقلون في الشتاء (2) وغيره، فلا تصح جمعتهم فيها، فإن كانوا لا يفارقونها شتاء ولا صيفا، فالاظهر أنها لا تصح. والثاني: تصح وتجب. ولو انهدمت أبنية القرية، أو البلد، فأقام أهلها على العمارة، لزمهم الجمعة فيها، سواء كانوا في مظال، أو غيرها، لانه محل الاستيطان. ولا يشترط إقامتها في مسجد، ولا في كن، بل يجوز في فضاء معدود من خطة البلد، فأما الموضع الخارج عن البلد الذي (3) انتهى إليه الخارج للسفر قصر، فلا يجوز إقامة الجمعة فيه. الشرط الثالث: أن لا يسبق الجمعة، ولا يقارنها أخرى (4). قال الشافعي

(1/509)


رحمه الله: ولا يجمع في مصر - وإن عظم، وكثرت مساجده - إلا في موضع واحد (1). وأما بغداد، فقد دخلها الشافعي رحمه الله وهم يقيمون الجمعة في موضعين. وقيل: في ثلاثة، فلم ينكر عليهم. واختلف أصحابنا في أمرها على أوجه. أصحها: أنه إنما جازت الزيادة فيها على جمعة، لانها بلدة كبيرة يشق اجتماعهم في موضع واحد، فعلى هذا تجوز الزيادة على الجمعة الواحدة في جميع البلاد، إذا كثر الناس وعسر اجتماعهم، وبهذا قال أبو العباس، وأبو إسحاق، وهو الذي اختاره أكثر أصحابنا تصريحا وتعريضا. وممن رجحه: القاضي ابن كج، والحناطي (2) - بالحاء المهملة المفتوحة، وتشديد النون - والقاضي الروياني، والغزالي. والثاني: إنما جازت الزيادة فيها، لان نهرها يحول بين جانبيها فيجعلها كبلدتين. قاله أبو الطيب ابن سلمة. وعلى هذا لا يقام في كل جانب إلا جمعة. وكل (3) بلد حال بين جانبيه نهر يحوج إلى السباحة، فهو كبغداد. واعترض عليه، بأنه لو كان الجانبان كبلدين، لقصر من عبر من أحدهما إلى الآخر، والتزم ابن سلمة المسألة، وجوز القصر. والثالث: إنما جازت الزيادة، لانها كانت قرى متفرقة، ثم اتصلت الابنية، فأجري عليها حكمها القديم، فعلى هذا، يجوز تعدد الجمعة في كل بلد هذا شأنه. واعترض عليه أبو حامد بما اعترض على الثاني. ويجاب بما

(1/510)


أجيب في الثاني. وأشار إلى هذا الجواب صاحب (التقريب). والرابع: أن الزيادة لا تجوز بحال، وإنما لم ينكر الشافعي، لان المسألة اجتهادية، وليس لمجتهد أن ينكر على المجتهدين. وهذا ظاهر نص الشافعي رحمه الله المتقدم. واقتصر عليه الشيخ أبو حامد وطبقته، لكن المختار عند الاكثرين ما قدمناه. وحيث منعنا الزيادة على جمعة، فعقدوا جمعتين، فله صور. أحدها: أن تسبق إحداهما فهي الصحيحة. والثانية: باطلة. وبم يعرف السبق ؟ فيه ثلاثة أوجه. أصحها: بالاحرام (1). والثاني: بالسلام. والثالث: بالشروع في الخطبة، ولم يحك أكثر العراقيين هذا الثالث. فإذا قلنا بالاول، فالاعتبار بالفراغ من تكبيرة الاحرام. فلو سبقت إحداهما بهمزة التكبيرة، والاخرى بالراء منها، فالصحيحة هي السابقة (2) بالراء، على الاصح. وعلى الثاني: السابقة بالهمزة. ثم على اختلاف الاوجه، لو سبقت إحداهما، وكان السلطان مع الاخرى، فالاظهر أن السابقة هي الصحيحة، ولا أثر للسلطان. والثاني: أن التي معها السلطان، هي الصحيحة. ولو دخلت طائفة في الجمعة، فأخبروا أن طائفة سبقتهم (3) بما ذكرنا، استحب لهم استئناف الظهر. وهل لهم أن يتموها ظهرا ؟ فيه الخلاف السابق، فيما إذا خرج الوقت وهم في الجمعة. الصورة الثانية: أن تقع الجمعتان معا، فباطلتان (4)، وتستأنف جمعة إن وسع الوقت. الثالثة: أن يشكل الحال، ولا يدري اقترنتا، أم سبقت إحداهما، فيعيدون

(1/511)


الجمعة أيضا، لان الاصل عدم جمعة مجزئة. قال إمام الحرمين (1): وقد حكم الائمة بأنهم إذا أعادوا الجمعة، برئت ذمتهم. وفيه إشكال لاحتمال تقدم إحداهما، فلا تصح أخرى، ولا تبرأ ذمتهم بها. فسبيل اليقين: أن يقيموا جمعة، ثم يصلوا ظهرا. الرابعة: أن تسبق إحداهما بعينها، ثم تلتبس (2)، فلا تبرأ واحدة من الطائفتين عن العهدة، خلافا للمزني. ثم ماذا عليهم ؟ فيه طريقان. المذهب: أن عليهم الظهر. والثاني: على القولين في الصورة الخامسة، وبه قطع العراقيون. الخامسة: أن تسبق إحداهما ولا يتعين، بأن سمع مريضان، أو مسافران، تكبيرتين متلاحقتين وهما خارج المسجدين، فأخبراهم بالحال ولم يعرفا المتقدمة، فلا تبرأ واحدة منهما عن العهدة، خلافا للمزني أيضا. وماذا عليهم ؟ قولان. أظهرهما في (الوسيط): أنهم يستأنفون الجمعة، والثاني: يصلون الظهر. قال أصحابنا (3): وهو القياس. قلت: الثاني أصح، وصححه الاكثرون والله أعلم. قال أصحابنا العراقيون: لو كان الامام في إحدى الطائفتين في الصور الاربع الاخيرة، ترتب على الصورة الاولى. فإن قلنا: التي فيها الامام هي الصحيحة مع العلم بتأخرها، فهنا أولى، وإلا فلا أثر لحضوره. الشرط الرابع: العدد. فلا تنعقد الجمعة بأقل من أربعين، هذا هو المذهب الصحيح المشهور. ونقل صاحب (التلخيص) قولا عن القديم: أنها تنعقد بثلاثة: إمام، ومأمومين. ولم يثبته عامة الاصحاب. ويشترط في الاربعين: الذكورة، والتكليف، والحرية (4)، والاقامة على سبيل التوطن. وصفة التوطن: أن لا يظعنوا

(1/512)


عن ذلك الموضع شتاء ولا صيفا، إلا لحاجة. فلو كانوا ينزلون في ذلك الموضع صيفا، ويرتحلون شتاء، أو عكسه، فليسوا مستوطنين، فلا تنعقد بهم. وفي انعقادها بالمقيم الذي لم يجعل الموضع وطنا له، خلاف نذكره في الباب الثاني إن شاء الله تعالى. وتنعقد بالمرضى على المشهور. وفي قول شاذ: لا تنعقد بهم، كالعبيد. فعلى هذا، صفة الصحة شرط خامس. ثم الصحيح، أن الامام من جملة الاربعين. والثاني أنه (1) يشترط أن يكون زائدا عن (2) الاربعين. وحكى الروياني هذا الخلاف قولين. الثاني، القديم (3). فرع: العدد المعتبر في الصلاة - وهو الاربعون - معتبر في الكلمات الواجبة من الخطبتين، واستماع القوم لها. فلو حضر العدد، ثم انفضوا كلهم، أو بعضهم، وبقي دون أربعين (4)، فتارة ينقصون قبل الخطبة، وتارة فيها، وتارة بعدها، وتارة في الصلاة، فإن انفضوا قبل افتتاح الخطبة، لم يبتدأ بها حتى يجتمع أربعون، وإن كان في أثنائها، فلا خلاف أن الركن المأتي به في غيبتهم غير محسوب، بخلاف ما إذا نقص العدد في الصلاة، فإن فيها خلافا، لان كلا يصلي لنفسه، فسومح بنقص العدد فيها. والخطيب لا يخطب لنفسه، إنما الغرض: استماع الناس، فما جرى ولا مستمع، فات فيه الغرض، فلم يحتمل. ثم إن عادوا قبل طول الفصل، بنى على خطبته، وبعد طوله، قولان يعبر عنهما بأن الموالاة في الخطبة واجبة، أم لا ؟ والاظهر: أنها واجبة، فيجب الاستئناف. والثاني: غير واجبة فيبني. وبنى جماعة القولين، على أن الخطبتين بدل من الركعتين فيجب الاستئناف، أم لا، فلا ولا فرق بين فوات الموالاة بعذر أو بغيره. ولو لم يعد الاولون، واجتمع بدلهم أربعون،

(1/513)


وجب استئناف الخطبة، طال الفصل أم قصر. أما إذا انفضوا بعد فراغ الخطبة، فإن عادوا قبل طول الفصل، صلى الجمعة بتلك الخطبة. وإن عادوا بعد طوله، ففي اشتراط الموالاة بين الخطبة والصلاة، قولان. الاظهر: الاشتراط. فلا يمكن الصلاة بتلك الخطبة. وعلى الثاني: يصلي بها. ثم نقل المازني، أن الشافعي قال: أحببت أن تبتدئ الخطبة، ثم يصلي الجمعة، فإن لم يفعل، صلى بهم الظهر. واختلف الاصحاب في معناه، فقال ابن سريج، والقفال، والاكثرون: يجب أن يعيد الخطبة، ويصلي بهم الجمعة لتمكنه. قالوا: ولفظ الشافعي: أوجبت، ولكنه صحف. ومنهم من قال: أراد بأحببت: أوجبت. قالوا: وقوله: صلى بهم الظهر، محمول على ما إذا ضاق الوقت. وقال أبو إسحاق: لا يجب إعادة الخطبة، لكن يستحب، وتجب الجمعة للقدرة (1). وقال أبو علي في (الافصاح): لا تجب إعادة الخطبة، ولا الجمعة، ولكن يستحبان عملا بظاهر النص. ودليل الثاني والثالث في ترك الخطبة، خوف الانفضاض ثانيا، فسقطت بهذا العذر، وحصل خلاف في وجوب إقامة الجمعة، كما اختصره الغزالي، فقال: إن شرطنا الموالاة، ولم تعد الخطبة، أتم المنفضون. وهل يأثم الخطيب ؟ قولان. قلت: الاصح قول ابن سريج، ومتابعيه، وأن الخطيب يأثم إذا لم يعد، والله أعلم. وسواء طال الفصل والخطيب ساكت، أو مستمر في الخطبة، ثم لما عادوا أعاد ما جرى من واجبها في حال الانفضاض. أما إذا أحرم بالعدد المعتبر، ثم حضر أربعون آخرون وأحرموا، ثم انفض الاولون، فلا يضر، بل يتم الجمعة، سواء كان اللاحقون سمعوا الخطبة، أم لا. قال إمام الحرمين: ولا يمتنع (2) عندي أن يقال: عندي (3) يشترط بقاء أربعين سمعوا الخطبة، فلا تستمر الجمعة إذا كان اللاحقون لم يسمعوها. فأما إذا انفضوا ولحق أربعون على الاتصال فقد قال في (الوسيط): تستمر الجمعة. لكن يشترط هنا أن يكون اللاحقون سمعوا الخطبة. أما إذا انفضوا فنقص العدد في باقي الصلاة، ففيه خمسة أقوال منصوصة ومخرجة. أظهرها:

(1/514)


تبطل الجمعة ويشترط العدد في جميعها. فعلى هذا، لو أحرم الامام، وتبطأ المقتدون (1)، ثم أحرموا، فإن تأخر تحرمهم عن ركوعه، فلا جمعة. وإن لم يتأخروا عن ركوعه (2)، فقال القفال: تصح الجمعة. وقال الشيخ أبو محمد: يشترط أن لا يطول الفصل بين إحرامه وإحرامهم. وقال إمام الحرمين: الشرط أن يتمكنوا من إتمام الفاتحة، فإذا حصل ذلك، لم يضر الفصل، وهذا هو الاصح عند الغزالي. والقول الثاني: إن بقي اثنان مع الامام، أتم الجمعة، وإلا بطلت. والثالث: إن بقي معه واحد، لم تبطل، وهذه الثلاثة منصوصة. الاولان في الجديد. والثالث: القديم. ويشترط في الواحد والاثنين: كونهما بصفة الكمال. وقال صاحب (التقريب): في اشتراط الكمال احتمال، لانا اكتفينا باسم الجماعة. قلت: هذا الاحتمال حكاه صاحب (الحاوي) وجها محققا لاصحابنا، حتى لو بقي صبيان، أو صبي، كفى. والصحيح: اشتراط الكمال. قال في (النهاية): احتمال صاحب (التقريب) غير معتد به. والله أعلم. والرابع: لا تبطل وإن بقي واحدة (3). والخامس: إن كان الانفضاض في الركعة الاولى بطلت الجمعة. وإن كان بعدها، لم تبطل، ويتم الامام الجمعة وحده، وكذا من معه إن بقي معه أحد. الشرط الخامس: الجماعة (4). فلا تصح الجمعة بالعدد فرادى. وشروط الجماعة: على ما سبق في غير الجمعة (5). ولا يشترط حضور السلطان، ولا إذنه فيها. وحكى في (البيان) قولا قديما: إنها لا تصح إلا خلف الامام، أو من أذن له، وهو شاذ منكر. ثم لامام الجمعة أحوال. أحدها: أن يكون عبدا، أو مسافرا، فإن تم به العدد، لم تصح الجمعة،

(1/515)


وإن تم بغيره (1)، صحت على المذهب (2). وقيل: وجهان. أصحهما: الصحة. والثاني: البطلان. هذا إذا صليا الجمعة قبل أن يصليا الظهر. فإن كانا صليا ظهر يومهما، فهما متنفلان بالجمعة. وفي الجمعة خلفهما ما يأتي في المتنفل. الحال الثاني: أن يكون صبيا، أو متنفلا، فإن تم العدد به، لم تصح، وإن تم دونه، صحت على الاظهر (3) عند الاكثرين. واتفقوا على أن الجواز في المتنفل أظهر منه في الصبي، لانه من أهل الفرض ولا نقص فيه. الحال الثالث: أن يصلوا الجمعة خلف من يصلي صبحا، أو عصرا، فكالمتنفل. وقيل: تصح قطعا، لانه يصلي فرضا. ولو صلوها (4) خلف مسافر يقصر الظهر، جاز إن قلنا (5): الجمعة ظهر مقصورة. وإن قلنا: صلاة على حيالها، فكالصبح. الحال الرابع: إذا بان الامام بعد الصلاة جنبا أو محدثا، فإن تم العدد به، لم تصح. وإن تم دونه، فالاظهر: الصحة. نص عليه في (الام)، وصححه العراقيون، وأكثر أصحابنا. والثاني: لا تصح، لان الجماعة شرط، والامام غير مصل، بخلاف سائر الصلوات، فإن الجماعة فيها ليست شرطا. وغايته أنهم صلوها فرادى. والمنع هنا أقوى منه في مسألة الاقتداء بالصبي. وقال الاكثرون المرجحون للاول: لا نسلم أن حدث الامام يمنع صحة الجماعة، وثبوت حكمها في حق المأموم الجاهل بحاله. وقالوا: لا يمنع نيل فضيلة الجماعة في سائر الصلوات، ولا غيره من أحكام الجماعة. وعلى الاظهر، قال صاحب (البيان): لو صلى الجمعة بأربعين، فبان أن المأمومين محدثون، صحت صلاة الامام (6).

(1/516)


بخلاف ما لو بانوا عبيدا، أو نساء، فإن ذلك مما يسهل الاطلاع عليه. وقياس من يذهب إلى المنع 0 أن لا تصح جمعة الامام لبطلان الجماعة. الحال الخامس: إذا قام الامام في غير الجمعة إلى ركعة زائدة سهوا، فاقتدى به إنسان فيها، وأدرك جميع الركعة، فإن كان عالما بسهوه، لم تنعقد صلاته على الاصح. وإن كان جاهلا، حسبت له الركعة، ويبني عليها بعد سلام الامام وإن لم تكن تلك الركعة محسوبة للامام كالمحدث. بخلاف ما لو بان الامام كافرا، أو امرأة، لانهما ليسا أهلا للامامة بحال. وعلى الوجه الثاني (1): تنعقد الصلاة، ولا تحسب هذه الركعة للمأموم. فلو جرى هذا في الجمعة، فإن قلنا: في غير الجمعة لا يدرك به الركعة، لم يدرك به هنا الجمعة، ولا تحسب عن الظهر أيضا، وإن قلنا: يدركها في غير الجمعة، فهل تحسب هذه الركعة عن الجمعة ؟ وجهان بناء على القولين في المحدث. واختار ابن الحداد: أنها لا تحسب. واعلم أن الاصحاب لم يذكروا في المحدث إذا لم تحصل الجمعة: أن صلاة المقتدي به منعقدة، وإن المأتي به يحسب عن الظهر، حتى لو تبين الحال قبل سلام الامام أو بعده على قرب، يتمها ظهرا إذا جوزنا بناء الظهر على الجمعة. ومقتضى التسوية بين الفصلين: الانعقاد والاحتساب عن الظهر. فرع: إذا أدرك المسبوق ركوع الامام في ثانية الجمعة، كان مدركا للجمعة. فإذا سلم الامام، أتى بثانية (2)، وإذا أدركه بعد ركوعها، لم يدرك الجمعة، ويقوم بعد سلام الامام إلى أربع للظهر (3)، وكيف ينوي هذا المدرك بعد

(1/517)


الركوع ؟ وجهان. أصحهما: ينوي الجمعة موافقة للامام (1). والثاني: الظهر، لانها الحاصلة (2). فلو صلى مع الامام ركعة، ثم قام فصلى أخرى، وعلم في التشهد أنه ترك سجدة من إحدى الركعتين، نظر، إن علمها من الثانية، فهو مدرك للجمعة، فيسجد سجدة، ويعيد التشهد، ويسجد للسهو ويسلم. وإن علمها من الاولى، أو شك، لم يكن مدركا للجمعة، وحصلت له ركعة من الظهر، ولو أدركه في الثانية، وشك هل سجد معه سجدة، أم سجدتين ؟ فإن لم يسلم الامام، سجد بعد سجدة أخرى، وكان مدركا للجمعة. وإن سلم الامام، لم يدرك الجمعة، فيسجد ويتم الظهر. أما ذا أدرك في غير الجمعة الامام في ركوع غير محسوب، كركوع الامام المحدث، وركوع الامام (3) الساهي بزيادة ركعة، وقلنا: إنه لو أدركها كلها، حسبت، فوجهان. أصحهما: لا يكون مدركا للركعة. والثاني: يدركها. فلو أدرك ركوع ثانية الجمعة، فبان الامام محدثا، وقلنا: لو أدرك الركعة بكمالها مع المحدث في الجمعة حسبت، فعلى هذين الوجهين، الاصح: لا يدرك الجمعة. فصل: إذا خرج الامام عن الصلاة بحدث تعمده، أو سبقه، أو بسبب غيره، أو بلا سبب، فإن كان في غير الجمعة، ففي جواز الاستخلاف قولان. أظهرهما الجديد: يجوز (4). والقديم: لا يجوز. ولنا وجه: أنه يجوز بلا خلاف في غير الجمعة. وإنما القولان في الجمعة، والمذهب: طرد القولين في جميع الصلوات. فإن لم نجوز الاستخلاف، أتم القوم صلاتهم فرادى. وإن جوزناه، فيشترط كون الخليفة صالحا لامامة القوم. فلو استخلف لامامة الرجال امرأة، فهو

(1/518)


لغو، ولا تبطل صلاتهم إلا أن يقتدوا بها. قال إمام الحرمين: ويشترط حصول الاستخلاف على قرب. فلو فعلوا على الانفراد ركنا، امتنع الاستخلاف بعده. وهل يشترط كون الخليفة ممن اقتدى بالامام قبل حدثه ؟ قال الاكثرون من العراقيين، وغيرهم: إن استخلف في الركعة الاولى أو الثالثة (1) من الرباعية من لم يقتد به، جاز، لانه لا يخالفهم في الترتيب، وإن استخلفه في الثانية، أو الاخيرة، لم يجز، لانه يحتاج إلى القيام، ويحتاجون إلى القعود. وأطلق جماعة اشتراط كون الخليفة ممن اقتدى به. وبه قطع إمام الحرمين، وزاد فقال: لو أمر الامام أجنبيا فتقدم، لم يكن خليفة، بل عاقد لنفسه صلاة، جاز على ترتيب نفسه فيها. فلو اقتدى به القوم، فهو اقتداء منفردين في أثناء الصلاة. وقد سبق الخلاف فيه في موضعه، لان قدوتهم انقطعت بخروج الامام عن الصلاة. ولا يشترط كون الخليفة مقتديا في الاولى، بل يجوز استخلاف المسبوق. ثم عليه مراعاة نظم صلاة الامام، فيقعد في موضع قعوده، ويقوم في موضع قيامه، كما كان يفعل لو لم يخرج عن الصلاة، حتى لو لحق الامام في ثانية الصبح، ثم أحدث الامام فيها، واستخلفه، قنت وقعد فيها للتشهد، ثم يقنت في الثانية لنفسه. ولو سها قبل اقتدائه، أو بعده، سجد في آخر صلاة الامام، وأعاد في آخر صلاة نفسه على الاظهر. وإذا تمت صلاة الامام، قام لتدارك ما عليه. وهم بالخيار، إن شاؤوا فارقوه وسلموا، وإن شاؤوا صبروا جلوسا ليسلموا معه. هذا كله إذا عرف المسبوق نظم صلاة الامام، فإن لم يعرف، فقولان. وقيل: وجهان. قلت: أرجحهما دليلا (2): أنه لا يصح. وقال الشيخ أبو علي السنجي: أصحهما: جوازه (3). والله أعلم. فإن جوزنا، راقب القوم إذا أتم الركعة، فإن هموا بالقيام، قام، وإلا قعد. وسهو الخليفة قبل حدث الامام، يحمله الامام. وسهوه بعده يقتضي السجود عليه

(1/519)


وعلى القوم. وسهو القوم قبل حدث الامام [ يحمله الامام وسهوه بعده ] (1) وبعد الاستخلاف، محمول، وبينهما غير محمول، بل يسجد الساهي بعد سلام الخليفة. هذا كله في غير الجمعة. أما الاستخلاف في الجمعة، ففيه القولان. فإن لم نجوزه: فالمذهب أنه إن أحدث في الاولى، أتم القوم صلاتهم ظهرا. وإن أحدث في الثانية، أتمها جمعة من أدرك معه ركعة. ولنا قول: أنهم يتمونها جمعة في الحالين. ووجه: أنهم يتمونها ظهرا في الحالين. وإن جوزنا الاستخلاف، نظر، إن استخلف من لم يقتد به، لم يصح، ولم يكن لذلك الخليفة أن يصلي الجمعة، لانه لا يجوز ابتداء جمعة بعد جمعة. وفي صحة ظهر هذا الخليفة، خلاف مبني على أن الظهر هل تصح قبل فوات الجمعة، أم لا ؟ فإن قلنا: لا تصح، فهل تبقى نفلا ؟ فيه القولان. فإن قلنا: لا تبقى فاقتدى به القوم، بطلت صلاتهم. وإن صححناها وكان ذلك في الركعة الاولى، فلا جمعة لهم. وفي صحة الظهر خلاف مبني على صحة الظهر بنية الجمعة. وإن كان في الركعة الثانية واقتدوا به، كان هذا اقتداء طارئا على الانفراد. وفيه الخلاف الجاري في سائر الصلوات. وفيه شئ آخر، وهو الاقتداء في الجمعة بمن يصلي الظهر، أو النافلة، وفيه الخلاف المتقدم. أما إذا استخلف من اقتدى به قبل الحدث، فينظر، إن لم يحضر الخطبة، فوجهان. أحدهما: لا يصح استخلافه، كما لو استخلف بعد الخطبة من لم يحضرها ليصلي بهم، فإنه لا يجوز. وأصحهما: الجواز. ونقل الصيدلاني في هذا الخلاف قولين: المنع عن البويطي، والجواز عن أكثر الكتب. والخلاف في مجرد حضور الخطبة. ولا يشترط سماعها (2) بلا خلاف، وصرح به الاصحاب. وإن كان حضر الخطبة، أو لم يحضرها، وجوزنا استخلافه، نظر، إن استخلف من أدرك معه الركعة الاولى، جاز وتمت لهم (3) الجمعة، سواء أحدث الامام في الاولى

(1/520)


أم الثانية. وفي وجه شاذ ضعيف: أن الخليفة يصلي الظهر، والقوم يصلون الجمعة. وإن استخلف من أدركه في الثانية، قال إمام الحرمين: إن قلنا: لا يجوز استخلاف من لم يحضر الخطبة، لم يجز استخلاف هذا المسبوق، وإلا، فقولان. أظهرهما: - وبه قطع الاكثرون - الجواز. فعلى هذا، يصلون الجمعة. وفي الخليفة وجهان (1). أحدهما: يتمها جمعة. والثاني، وهو الصحيح المنصوص: لا يتمها جمعة. فعلى هذا، يتمها ظهرا على المذهب. وقيل: قولان. أحدهما: يتمها ظهرا. والثاني: لا. فعلى هذا، هل تبطل، أم تنقلب نفلا ؟ قولان. فإن أبطلناها، امتنع استخلاف المسبوق. وإذا جوزنا الاستخلاف، والخليفة مسبوق، يراعي نظم صلاة الامام، فيجلس إذا صلى ركعة ويتشهد، فإذا بلغ موضع السلام، أشار إلى القوم، وقام إلى ركعة أخرى إن قلنا: إنه مدرك للجمعة، وإلى ثلاث إن قلنا: صلاته ظهر. والقوم بالخيار إن شاؤوا فارقوه وسلموا، وإن شاؤوا ثبتوا جالسين حتى يسلم بهم. ولو دخل مسبوق واقتدى به في الركعة الثانية التي استخلف فيها، صحت له الجمعة وإن لم تصح للخليفة، نص عليه الشافعي رحمه الله. قال الاصحاب: هو تفريع على صحة الجمعة خلف مصلي الظهر. وتصح جمعة الذين أدركوا مع الامام الاول ركعة بكل حال، لانهم لو انفردوا بالركعة الثانية، كانوا مدركين للجمعة، فلا يضر اقتداؤهم فيها بمصلي الظهر أو النفل. فرع: هل تشترط نية القدوة بالخليفة في الجمعة وغيرها من الصلوات ؟ وجهان. الاصح: لا يشترط (2). والثاني: يشترط، لانهم بحدث الاول صاروا منفردين. وإذا لم يستخلف الامام، قدم القوم واحدا بالاشارة. ولو تقدم واحد بنفسه، جاز، وتقديم القوم أولى من استخلاف الامام، لانهم المصلون. قال إمام الحرمين: ولو قدم الامام واحدا، والقوم آخر، فأظهر الاحتمالين: أن من قدمه

(1/521)


القوم أولى. فلو لم يستخلف الامام، ولا القوم، ولا تقدم أحد، فالحكم ما ذكرناه تفريعا على منع الاستخلاف. قال الاصحاب: ويجب على القوم تقديم (1) واحد إن كان خروج الامام في الركعة الاولى ولم يستخلف. وإن كان في الثانية، لم يجب التقديم، ولهم الانفراد بها كالمسبوق (2). وقد حكينا في الصورتين خلافا، تفريعا على منع الاستخلاف، فيتجه عليه الخلاف في وجوب التقديم وعدمه. فرع: هذا كله إذا أحدث في أثناء الصلاة. فلو أحدث بين الخطبة والصلاة، فأراد أن يستخلف من يصلي، إن جوزنا الاستخلاف في الصلاة، جاز، وإلا، فلا يجوز، بل إن اتسع الوقت، خطب بهم آخر وصلى، وإلا صلوا الظهر. وقال بعض الاصحاب: إن جوزنا الاستخلاف في الصلاة، فهنا أولى، وإلا ففيه الخلاف. وعكس الشيخ أبو محمد فقال: إن لم نجوزه في الصلاة، فهنا أولى، وإلا ففيه الخلاف. والمذهب: استواؤهما. ثم إذا جوزنا، فشرطه أن يكون الخليفة سمع الخطبة، على المذهب، وبه قطع الجمهور، لان من لم يسمع، ليس من أهل الجمعة. ولهذا، لو بادر أربعون من السامعين بعد الخطبة، فعقدوا الجمعة، انعقدت لهم، بخلاف غيرهم. وإنما يصير غير السامع من أهل الجمعة، إذا دخل في الصلاة. وحكى صاحب (التتمة) وجهين في استخلاف من لم يسمع. ولو أحدث في أثناء الخطبة، وشرطنا الطهارة فيها، فهل يجوز الاستخلاف ؟ إن منعناه في الصلاة، فهنا أولى، وإلا، فالصحيح جوازه كالصلاة. فرع: لو صلى مع الامام ركعة من الجمعة، ثم فارقه بعذر، أو بغيره، وقلنا: لا تبطل الصلاة بالمفارقة، أتمها جمعة كما لو أحدث الامام. فرع: إذا تمت صلاة الامام، ولم تتم صلاة المأمومين، فأرادوا استخلاف من يتم بهم، إن لم نجوز الاستخلاف للامام، لم يجز لهم، وإلا، فإن كان في الجمعة، بأن كانوا مسبوقين، لم يجز، لان الجمعة لا تنشأ بعد جمعة. وإن كان في غيرها، بأن كانوا مسبوقين، أو مقيمين، وهو مسافر، فالاصح: المنع، لان

(1/522)


الجماعة حصلت، وإذا أتموها (1) فرادى نالوا فضلها. فصل: إذا منعته الزحمة في الجمعة السجود على الارض مع الامام في الركعة الاولى، نظر، إن أمكنه أن يسجد على ظهر إنسان (2)، أو رجله، لزمه ذلك (3)، على الصحيح الذي قطع به الجمهور. وفيه وجه شاذ: يتخير، إن شاء سجد على الظهر، وإن شاء صبر ليسجد على الارض. ثم قال جماهير الاصحاب: إنما يسجد على ظهر غيره، إذا قدر على رعاية هيئة الساجدين، بأن يكون على موضع مرتفع. فإن لم يكن، فالمأتي به ليس بسجود. وفيه وجه ضعيف، أنه لا يضر ارتفاع الظهر، والخروج عن هيئة الساجدين للعذر. وإذا تمكن من السجود على ظهر غيره فلم يسجد، فهو تخلف بغير عذر على الاصح. وعلى الثاني: بعذر. ولو لم يتمكن من السجود على الارض ولا على الظهر، فأراد أن يخرج عن المتابعة لهذا العذر، ويتمها ظهرا، ففي صحتها قولان، لانها ظهر قبل فوات الجمعة. قال إمام الحرمين: ويظهر منعه من الانفراد، لان إقامة الجمعة واجبة، فالخروج منها عمدا مع توقع إدراكها لا (4) وجه له (5). فأما إذا دام على المتابعة،

(1/523)


فما يصنع ؟ فيه أوجه. الصحيح: أنه ينتظر التمكن. والثاني، يومئ السجود أقصى ما يمكنه كالمريض. والثالث: يتخير بيهما (1). فإذا قلنا: بالصحيح، فله حالان. أحدهما: يتمكن من السجود قبل ركوع الامام في الثانية. والثاني: لا يتمكن إلى ركوعه. ففي الحال الاول يسجد عند تمكنه، فإذا فرغ من سجوده، فللامام أحوال أربعة. أحدها: أن يكون بعد في القيام، فيفتتح القراءة، فإن أتمها ركع معه، وجرى على متابعته، ولا بأس بهذا التخلف للعذر. وإن ركع الامام قبل إتمامها، فهل له حكم المسبوق ؟ وجهان. وقد بينا حكم المسبوق في باب (صلاة الجماعة. قلت: أصحهما عند الجمهور: له حكمه. والله أعلم. الحال الثاني: للامام أن يكون في الركوع. فالاصح عند الجمهور: أنه يدع القراءة، ويركع معه، لانه لم يدرك محلها، فسقطت عنه كالمسبوق. والثاني: يلزمه قراءتها، ويسعى وراء الامام، وهو متخلف بعذر. الحال الثالث: أن يكون فارغا من الركوع ولم يسلم، فإن قلنا في الحال الثاني: هو كالمسبوق، تابع الامام فيما هو فيه، ولا يكون محسوبا له، بل يقوم عند سلام الامام إلى ركعة ثانية. وإن قلنا: ليس هو كالمسبوق، اشتغل بترتيب صلاة نفسه. وقيل: يتعين متابعة الامام قطعا. الحال الرابع: أن يكون الامام متحللا من صلاته، فلا يكون مدركا للجمعة، لانه لم يتم له ركعة قبل سلام الامام، بخلاف ما لو رفع رأسه من السجود، ثم سلم الامام في الحال. قال إمام الحرمين: وإذا جوزنا له التخلف، وأمرناه بالجريان على ترتيب صلاة (2) نفسه، فالوجه أن يقتصر على الفرائض، فعساه يدرك الامام، ويحتمل أن يجوز الاتيان بالسنن مع الاقتصار على الوسط منها. الحال الثاني للمأموم: أن لا يتمكن من السجود حتى ركع الامام في الثانية، وفيه قولان.

(1/524)


أظهرهما: يتابعه فيركع معه. والثاني: لا يركع معه بل يسجد، ويراعي ترتيب صلاة نفسه. فإن قلنا بالاول، فتارة يوافق ما أمرناه، وتارة يخالف. فإن وافق وركع معه، فأي الركوعين يحتسب ؟ وجهان. وقيل: قولان. أصحهما عند الاصحاب: بالركوع الاول. والثاني: بالثاني. فإن قلنا: بالثاني، حصلت له الركعة الثانية بكمالها. فإذا سلم الامام، ضم إليها أخرى، وتمت جمعة بلا خلاف. وإن قلنا: بالاول، حصلت ركعة ملفقة من ركوع الاولى، وسجود الثانية. وفي إدراك الجمعة بالملفقة، وجهان. أصحهما: تدرك. أما إذا خالف ما أمرناه، فاشتغل بالسجود وترتيب نفسه، فإن فعل ذلك مع علمه بأن واجبه المتابعة، ولم ينو مفارقته، بطلت صلاته، ويلزمه الاحرام بالجمعة إن أمكنه إدراك الامام في الركوع. وإن نوى مفارقته، فقد أخرج نفسه عن المتابعة بغير عذر. وفي بطلان الصلاة به، قولان سبقا. فإن لم تبطل، لم تصح جمعته. وفي صحة ظهره، خلاف مبني على أن الجمعة إذا تعذر إتمامها، هل يجوز إتمامها ظهرا ؟ وعلى أن الظهر هل تصح قبل فوات الجمعة ؟ وإن فعل ذلك ناسيا أو جاهلا، فما أتى به من السجود، لا يعتد به، ولا تبطل صلاته. ثم إن فرغ والامام بعد في الركوع لزمه متابعته. فإن تابعه وركع معه، فالتفريع كما سبق لو لم يسجد، وإن لم يركع معه، أو كان الامام فرغ من الركوع، نظر، إن راعى ترتيب نفسه، بأن قام بعد السجدتين، وقرأ، وركع، وسجد، فالمفهوم من كلام الاكثرين أنه لا يعتد له بشئ مما يأتي به على غير المتابعة. وإذا سلم الامام، سجد سجدتين لتمام الركعة، ولا يكون مدركا للجمعة، لان على هذا القول الذي عليه التفريع، نأمره بالمتابعة بكل حال. وكما لا يحسب له السجود والامام راكع، لكون فرضه المتابعة، وجب أن لا يحسب والامام في ركن بعد الركوع. وقال الصيدلاني، وإمام الحرمين، والغزالي: إذا فعل هذا المذكور، تم له منهما جميعا ركعة، لكن فيها نقصانان. أحدهما: التلفيق، فإن ركوعها من الاولى، وسجودها من الثانية، وفي الملفقة الخلاف. والثاني: نقصها بالقدوة الحكمية، فإنه لم يتابع الامام في معظم ركعته متابعة حسية، بل حكمية. وفي إدراك الجمعة بالركعة الحكمية، وجهان، كالملفقة، أصحهما: الادراك، وليس الخلاف في مطلق القدوة الحكمية، فإن السجود في حال قيام الامام، ليس على حقيقة المتابعة، ولا خلاف أن الجمعة تدرك به. هذا

(1/525)


كله إذا جرى على ترتيب نفسه بعد فراغه من السجدتين اللتين لم يعتد بهما. فأما إذا فرغ منهما والامام ساجد، فتابعه في سجدتيه، فهذا هو الذي نأمره به في هذه الحالة على هذا القول، فتحسبان له، ويكون الحاصل ركعة ملفقة، وإن وجد الامام في التشهد، وافقه. فإذا سلم، سجد سجدتين وتمت له الركعة (1)، ولا جمعة له، لانه لم يتم له ركعة والامام في الصلاة. وكذا يفعل لو وجده قد سلم. هذا كله إذا قلنا: يتابع الامام. أما إذا قلنا: لا يتابعه بل يسجد ويراعي ترتيب نفسه، فله حالان. أحدهما: أن يخالف ما أمرناه، فيركع مع الامام. فإن تعمد، بطلت صلاته، ويلزمه أن يحرم بالجمعة إن أمكنه إدراك الامام في الركوع، وإن كان (2) ناسيا، أو جاهلا يعتقد أن الواجب عليه الركوع مع الامام، لم تبطل صلاته، ولم يعتد بركوعه. فإذا سجد معه بعد الركوع، حسبت له السجدتان على الصحيح. وعلى الشاذ، لا يعتد بهما. فعلى الصحيح، تحصل ركعة ملفقة. وفي الادراك بها، الوجهان. الحال الثاني: أن يوافق ما أمرناه، فيسجد، فهذه قدوة حكمية. وفي الادراك بها، الوجهان. فإذا فرغ من السجود، فللامام حالان. أحدهما: أن يكون فارغا من الركوع، إما في السجود، وإما في التشهد، فوجهان. أحدهما: يجري على ترتيب نفسه، فيقوم، ويقرأ، ويركع. وأصحهما: يلزمه متابعة الامام فيما هو فيه، فإذا سلم الامام، اشتغل بتدارك ما عليه، وبهذا قطع كثير من أصحابنا العراقيين وغيرهم. فعلى هذا، لو كان الامام عند فراغه من السجود قد هوى للسجود فتابعه، فقد والى بين أربع سجدات: فهل المحسوب لاتمام الركعة الاولى، السجدتان الاوليان، أم الاخريان ؟ وجهان. أصحهما: الاوليان. والثاني: الاخريان. فعلى هذا، يعود الخلاف في الملفقة. الحال الثاني: للامام أن يكون راكعا بعد. فهل عليه متابعته، وتسقط عنه

(1/526)


القراءة كالمسبوق ؟ أو يشتغل بترتيب [ صلاة ] (1) نفسه فيقرأ ؟ وجهان كما ذكرنا تفريعا على القول الاول. فعلى الاول، يسلم معه، وتتم جمعته. وعلى الثاني: يقرأ ويسعى ليلحقه، وهو مدرك للجمعة. فرع: إذا لم يتمكن المزحوم من السجود حتى سجد الامام في الثانية، تابعه في السجود بلا خلاف. فإن قلنا: الواجب متابعة الامام، فالحاصل ركعة ملفقة (2)، وإلا فغير ملفقة، أما إذا لم يتمكن من السجود حتى تشهد الامام، فيسجد. ثم إن أدرك الامام قبل السلام، أدرك الجمعة، وإلا فلا. قلت: قال إمام الحرمين: لو رفع المزحوم رأسه من السجدة الثانية، فسلم الامام قبل أن يعتدل المزحوم، ففيه احتمال. قال: والظاهر: أنه مدرك للجمعة (3). والله أعلم. أما إذا كان الزحام في سجود الركعة الثانية، وقد صلى الاولى مع الامام، فيسجد متى تمكن قبل سلام الامام، أو بعده، وجمعته صحيحة. فإن كان مسبوقا، لحقه في الثانية. فإن تمكن قبل سلام الامام، سجد وأدرك ركعة من الجمعة، وإلا فلا جمعة له. أما إذا زحم عن ركوع الاولى حتى ركع الامام في الثانية، فيركع. قال الاكثرون: ويعتدله بالركعة الثانية، وتسقط الاولى. ومنهم من قال: الحاصل ركعة ملفقة. فرع: إذا عرضت حالة في الصلاة تمنع من وقوعها جمعة في صور الزحام وغيرها، فهل تتم صلاته ظهرا ؟ قولان (4) يتعلقان بأصل. وهو: أن الجمعة ظهر

(1/527)


مقصورة، أم صلاة على حيالها ؟ وفيه قولان اقتضاهما (1) كلام الشافعي (2). قلت: أظهرهما: صلاة بحيالها. والله أعلم. فإن قلنا: ظهر مقصورة، فإذا فات بعض شروط الجمعة، أتمها ظهرا كالمسافر إذا فات شرط قصره. وإن قلنا: فرض على حياله، فهل يتمها ؟ وجهان. والصحيح مطلقا: أنه يتمها ظهرا. لكن هل يشترط أن يقصد قلبها ظهرا، أم تنقلب بنفسها ظهرا ؟ وجهان في (النهاية). قلت: الاصح: لا يشترط، وهو مقتضى كلام الجمهور. والله أعلم. وإذا قلنا: لا يتمها ظهرا، فهل تبطل، أم تبقى نفلا ؟ فيه القولان السابقان فيمن صلى الظهر قبل الزوال ونظائرها. قال إمام الحرمين: قول البطلان، لا ينتظم تفريعه إذا أمرناه في صورة الزحام بشئ فامتثل، فليكن ذلك مخصوصا بما إذا خالف. فرع: التخلف بالنسيان، هل هو كالتخلف بالزحام ؟ قيل: فيه وجهان. أصحهما: نعم، لعذره. والثاني: لا لندوره وتفريطه. والمفهوم من كلام الاكثرين، أن فيه تفصيلا. فإن تأخر سجوده عن سجدتي الامام بالنسيان، ثم سجد في حال قيام الامام، فحكمه كالزحام، وكذا لو تأخر لمرض. وإن بقي ذاهلا حتى ركع الامام في الثانية، فطريقان. أحدهما: كالمزحوم، فيركع معه على قول، ويراعي ترتيب نفسه في قول. والطريق الثاني: يتبعه قولا واحدا، لانه مقصر فلا يجوز ترك المتابعة. قال الروياني: هذا الطريق أظهر. فرع: الزحام يجري في جميع الصلوات، وإنما يذكرونه في الجمعة، لان الزحمة فيها أكثر، ولانه يجتمع فيها وجوه من الاشكال لا يجري في غيرها، مثل

(1/528)


الخلاف في إدراك الجمعة بالملفقة، والحكمية وبنائها على أنها ظهر مقصورة، أم لا ؟ ولان الجماعة فيها شرط، ولا يمكن المفارقة ما دام يتوقع إدراك الجمعة، بخلاف سائر الصلوات. إذا عرفت ذلك، فإذا زحم في سائر الصلوات، فلم يمكنه السجود حتى ركع الامام في الثانية، فالمذهب: أنه على القولين. وقيل: يركع معه قطعا. وقيل: يراعي ترتيب نفسه قطعا. الشرط السادس: الخطبة. فمن شرائط الجمعة: تقديم خطبتين (1). وأركان الخطبة خمسة. أحدها: حمد الله تعالى (2)، ويتعين لفظ الحمد. والثاني: الصلاة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (3)، ويتعين لفظ الصلاة. وحكي في (النهاية) عن كلام بعض الاصحاب: ما يوهم أنهما لا يتعينان، ولم ينقله وجها مجزوما به. الثالث: الوصية بالتقوى، وهل يتعين لفظ الوصية ؟ وجهان. الصحيح المنصوص: لا يتعين. قال إمام الحرمين: ولا خلاف أنه لا يكفي الاقتصار على التحذير من الاغترار بالدنيا وزخارفها، فإن ذلك قد يتواصى به منكرو الشرائع، بل لا بد من الحمل على طاعة الله تعالى، والمنع من المعاصي. ولا يجب في الموعظة كلام طويل، بل لو قال: أطيعوا الله كفى، وأبدى الامام فيه احتمالا، ولا تردد في أن كلمتي الحمد، والصلاة، كافيتان. ولو قال: والصلاة على محمد، أو على النبي، أو رسول الله، كفى. ولو قال: الحمد للرحمن، أو الرحيم، فمقتضى كلام الغزالي: أنه لا يكفيه، ولم أره مسطورا، وليس هو ببعيد كما في كلمة

(1/529)


التكبير (1). ثم هذه الاركان الثلاثة، لا بد منها في كل واحدة من الخطبتين. ولنا وجه: أن الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - في إحداهما كافية، وهو شاذ. الرابع: الدعاء للمؤمنين (2)، وهو ركن على الصحيح. والثاني: لا يجب، وحكي عن نصه في (الاملاء). وإذا قلنا بالصحيح، فهو مخصوص بالثانية. فلو دعا في الاولى لم يحسب، ويكفي ما يقع عليه الاسم. قال إمام الحرمين: وأرى أنه يجب أن يكون متعلقا بأمور الآخرة، وأنه لا بأس بتخصيصه بالسامعين، بأن (3) يقول: رحمكم الله. الخامس: قراءة القرآن. وهي ركن على المشهور. وقيل: على الصحيح. والثاني: ليست بركن، بل مستحبة. فعلى الاول أقلها آية، نص عليه الشافعي رحمه الله، سواء كانت وعدا، أو وعيدا، أو حكما، أو قصة. قال إمام الحرمين: ولا يبعد الاكتفاء بشطر آية طويلة. ولا شك أنه لو قال: (ثم نظر) (4) لم يكف، وإن عد آية، بل يشترط كونها مفهمة. واختلفوا في محل القراءة على ثلاثة أوجه. أصحها ونص عليه في (الام): تجب في إحداهما لا بعينها. والثاني: تجب فيهما. والثالث: تجب في الاول خاصة، وهو ظاهر نصه في (المختصر): ويستحب أن يقرأ في الخطبة سورة (ق). قلت: قال الدارمي: يستحب أن تكون قراءة (ق) (5) في الخطبة الاولى. والمراد، قراءتها بكمالها، لاشتمالها على أنواع المواعظ. والله أعلم. ولو قرأ آية سجدة، نزل وسجد. فلو كان المنبر عاليا، لو نزل لطال الفصل،

(1/530)


لم يتركه (1)، لكن يسجد عليه إن أمكنه، وإلا ترك السجود. فلو نزل وطال الفصل، ففيه الخلاف المتقدم في الموالاة. ولا تدخل القراءة في الاركان المذكورة. حتى لو قرأ آية فيها موعظة، وقصد إيقاعها عن الجهتين، لم يجزئ، ولا يجوز أن يأتي بآيات تشتمل على الاركان المطلوبة، لان ذلك لا يسمى خطبة. ولو أتى ببعضها في ضمن آية لم يمتنع. وهل يشترط كون الخطبة كلها (2) بالعربية ؟ وجهان. الصحيح: اشتراطه، فإن لم يكن فيهم من يحسن العربية، خطب بغيرها. ويجب أن يتعلم كل واحد منهم الخطبة العربية (3) (4)، كالعاجز عن التكبير بالعربية. فإن مضت مدة إمكان التعلم ولم يتعلموا، عصوا كلهم، ولا جمعة لهم. فرع شروط الخطبة ستة أحدها: الوقت. وهو ما بعد الزوال (5)، فلا يصح تقديم شئ منها عليه. الثاني: تقديم الخطبتين على الصلاة. الثالث: القيام فيهما مع القدرة، فإن عجز عن القيام، فالاولى أن يستنيب. ولو خطب قاعدا أو مضطجعا للعجز، جاز كالصلاة. ويجوز الاقتداء به، سواء

(1/531)


قال: لا أستطيع، أو سكت، لان الظاهر أنه إنما قعد لعجزه، فإن بان أنه كان قادرا، فهو كما لو بان الامام جنبا، ولنا وجه: أنه تصح الخطبة قاعدا مع القدرة على القيام وهو شاذ. الرابع: الجلوس بينهما، وتجب الطمأنينة فيه، فلو خطب قاعدا لعجزه، لم يضطجع بينهما للفصل، بل يفصل بينهما بسكتة (1)، والسكتة واجبة على الاصح. ولنا وجه شاذ: أن القائم أيضا يكفيه الفصل بينهما بسكتة. الخامس: هل يشترط في صحة الخطبة الطهارة عن الحدث، والنجس في البدن والثوب والمكان، وستر العورة ؟ قولان. الجديد: اشتراط كل ذلك. ثم قيل: الخلاف مبني على أنهما بدل من الركعتين، أم لا ؟ وقيل: على أن الموالاة في الخطبة شرط، أم لا ؟ فإن شرطنا الموالاة، شرطنا الطهارة، وإلا، فلا. ثم قال صاحب (التتمة): يطرد الخلاف في اشتراط الطهارة عن الحدث الاصغر والجنابة، وخصه صاحب (التهذيب) بالحدث الاصغر، قال: فأما الجنب، فلا تحسب خطبته قولا واحدد، لان القراءة شرط، ولا تحسب قراءة الجنب، وهذا أوضح. قلت: الصحيح، أو الصواب، قول صاحب (التتمة) وقد جزم به الرافعي في (المحرر) وقطع الشيخ أبو حامد، والماوردي، وآخرون: بأنه لو بان لهم بعد فراغ الجمعة أن إمامهم (2) كان جنبا، أجزأتهم. ونقله أبو حامد، والماوردي، والاصحاب عن نصه في (الام). والله أعلم. ثم إذا شرطنا الطهارة، فسبقه حدث في الخطبة، لم يعتد بما يأتي به في حال الحدث. وفي بناء غيره عليه الخلاف الذي سبق. فلو تطهر وعاد، وجب الاستئناف، وإن طال الفصل وشرطنا الموالاة، فإن لم يطل، أو لم نشرط الموالاة، فوجهان. أصحهما: الاستئناف.

(1/532)


السادس: رفع الصوت، فلو خطب سرا بحيث لم يسمع غيره، لم تحسب على الصحيح المعروف. وفي وجه: تحسب وهو غلط. فعلى الصحيح، الشرط أن يسمع أربعين من أهل الكمال. فلو رفع صوته قدر ما يبلغ، ولكن كانوا كلهم أو بعضهم صما، فوجهان. الصحيح: لا تصح، كما لو بعدوا. والثاني: تصح، كما لو حلف لا يكلم فلانا، فكلمه بحيث يسمع، فلم يسمع لصممه، حنث (1)، وكما لو سمعوا الخطبة، ولم يفهموا معناها، فإنها تصح. وينبغي للقوم أن يقبلوا بوجوههم إلى الامام، وينصتوا، ويسمعوا (2). والانصات: هو السكوت. والاستماع: هو شغل السمع بالسماع. وهل الانصات فرض، والكلام حرام ؟ فيه قولان. القديم و (الاملاء): وجوب الانصات، وتحريم الكلام. والجديد: أنه سنة، والكلام ليس بحرام. وقيل: يجب الانصات قطعا. والجمهور أثبتوا القولين. وهل يحرم الكلام على الخطيب ؟ فيه طريقان. المذهب: لا يحرم قطعا. والثاني: على القولين. ثم جميع هذا الخلاف في الكلام الذي لا يتعلق به غرض مهم ناجز. فأما إذا رأى أعمى يقع في بئر، أو عقربا تدب على إنسان، فأنذره، أو علم إنسانا شيئا من الخير، أو نهاه عن منكر، فهذا ليس بحرام بلا خلاف. نص عليه الشافعي رحمه الله، واتفق الاصحاب على التصريح به. لكن يستحب أن يقتصر على الاشارة، ولا يتكلم ما أمكن الاستغناء عنه. هذا كله في الكلام في أثناء الخطبة. ويجوز الكلام قبل ابتداء الامام بالخطبة، وبعد الفراغ منهما. فأما في الجلوس بين الخطبتين، فطريقان، قطع صاحب (المهذب) والغزالي، بالجواز. وأجرى المحاملي، وابن الصباغ، وآخرون فيه الخلاف.

(1/533)


ويجوز للداخل في أثناء الخطبة، أن يتكلم ما لم يأخذ لنفسه مكانا. والقولان فيما بعد قعوده. فرع: إذا قلنا بالقديم، فينبغي للداخل في أثناء الخطبة، أن لا يسلم، فإن سلم، حرمت إجابته باللفظ، ويستحب بالاشارة كما في الصلاة. وفي تشميت العاطس ثلاثة أوجه، الصحيح المنصوص: تحريمه، كرد السلام. والثاني: استحبابه. والثالث: يجوز ولا يستحب. ولنا وجه: أنه يرد السلام، لانه واجب، ولا يشمت العاطس، لانه سنة. فلا يترك لها الانصات الواجب. وفي وجوب الانصات على من لا يسمع الخطبة، وجهان. أحدهما: لا يجب. ويستحب أن يشتغل بالذكر، والتلاوة. وأصحهما: يجب، نص عليه، وقطع به كثيرون. وقالوا: البعيد بالخيار بين الانصات، وبين الذكر والتلاوة. ويحرم عليه كلام الآدميين، كما يحرم على القريب. هذا تفريع على القديم. فأما إذا قلنا بالجديد، فيجوز رد السلام، والتشميت بلا خلاف. ثم رد في السلام ثلاثة أوجه. أصحها عند صاحب (التهذيب): وجوبه. والثاني: استحبابه. والثالث: جوازه بلا استحباب. وقطع إمام الحرمين، بأنه لا يجب الرد. والاصح: استحباب التشميت. وحيث حرمنا الكلام فتكلم، أثم، ولا تبطل جمعته بلا خلاف. فرع: قال الغزالي: هل يحرم الكلام على من عدا الاربعين ؟ فيه القولان. وهذا التقدير بعيد في نفسه، ومخالف لما نقله الاصحاب. أما بعده في نفسه، فلان كلامه مفروض في السامعين للخطبة. وإذا حضر جماعة يزيدون على أربعين، فلا يمكن أن يقال: تنعقد الجمعة بأربعين منهم على التعيين، فيحرم الكلام عليهم قطعا. والخلاف في حق الباقين (1)، بل الوجه: الحكم بانعقاد الجمعة بهم، أو بأربعين منهم لا على التعيين. وأما مخالفته لنقل الاصحاب، فلانك (2) لا تجد للاصحاب إلا إطلاق قولين في السامعين، ووجهين في حق غيرهم كما سبق. فرع: إذا صعد الخطيب المنبر، فينبغي (3) لمن ليس في صلاة (4) من

(1/534)


الحاضرين، ألا يفتتحها، سواء كان صلى السنة، أم لا، ومن كان في صلاة خففها، والفرق بين الكلام - حيث قلنا: لا بأس به وإن صعد المنبر ما لم تبتدئ الخطبة - وبين الصلاة انقطع الكلام، هين متى ابتدأ الخطيب الخطبة، بخلاف الصلاة، فإنه قد يفوت سماع أول الخطبة إلى أن يتمها. قلت: وسواء في المنع من افتتاح الصلاة في حال الخطبة من يسمعها، وغيره. والله أعلم. ولو دخل في أثناء الخطبة، استحب له أن يصلي التحية، ويخففها. فلو كان ما صلى السنة، صلاها وحصلت التحية. ولو دخل والامام في آخر الخطبة، لم يصل، لئلا يفوته أول الجمعة مع الامام، وسواء في استحباب التحية. قلنا: يجب الانصات، أم لا ؟ فرع: في أمور اختلف في إيجابها في الخطبة. منها: كونها بالعربية، وتقدم بيانه. ومنها: نية الخطبة وفرضيتها، اشترطهما القاضي حسين. ومنها: الترتيب بين الكلمات الثلاث، فأوجب صاحب (التهذيب) وغيره، أن يبدأ بالحمد، ثم الصلاة، ثم الوصية. ولا ترتيب بين القراءة والدعاء، ولا بينهما وبين غيرهما. وقطع صاحب (العدة) وآخرون: بأنه لا يجب في شئ من الالفاظ أصلا. قالوا: لكن الافضل الرعاية. قلت: قطع صاحب (الحاوي) وكثيرون من العراقيين، بأنه لا يجب الترتيب ونقله في (الحاوي) عن نص الشافعي رحمه الله، وهو الاصح. والله أعلم.

(1/535)


فرع في سنن الخطبة فمنها: أن يكون على منبر، والسنة أن يكون المنبر على يمين الموضع (1) الذي يصلي فيه الامام. ويكره المنبر الكبير الذي يضيق على المصلين، إذا لم يكن المسجد متسع الخطة، فإن لم يكن منبر، خطب على موضع مرتفع. ومنها: أن يسلم على من عند المنبر إذا انتهى إليه. ومنها: إذا بلغ في صعوده الدرجة التي تلي موضع القعود - ويسمى ذلك الموضع: المستراح - أقبل على الناس بوجهه، وسلم عليهم. ومنها: أن يجلس بعد السلام على المستراح. ومنها: أنه إذا جلس، اشتغل المؤذن بالآذان، ويديم الامام الجلوس إلى فراغ المؤذن. قال صاحب (الافصاح) والمحاملي: المستحب، أن يكون المؤذن للجمعة واحدا. وأشار إليه الغزالي، وفي كلام بعض الاصحاب (2)، إشعار باستحباب تعديد المؤذنين. ومنها: أن تكون الخطبة بليغة غير مؤلفة من الكلمات المبتذلة، ولا من الكلمات (3) الغريبة الوحشية، بل قريبة من الافهام. ومنها: أن لا يطولها ولا يخففها، بل تكون متوسطة. ومنها: أن يستدبر القبلة، ويستقبل الناس في خطبتيه، ولا يلتفت يمينا ولا شمالا. ولو خطب مستدبر الناس، جاز على الصحيح. وعلى الثاني: لا يجزئه. قلت: وطرد الدارمي هذا الوجه، فيما إذا استدبروه، أو خالفوه، وهو الهيئة

(1/536)


المشروعة في ذلك. والله أعلم. ومنها: أنه يستحب أن يكون جلوسه بين الخطبتين قدر سورة (الاخلاص) نص عليه. وفيه وجه: أنه يجب هذا القدر وحكي عن نصه. ومنها: أن يعتمد على سيف، أو عصا، أو نحوهما. قال في (التهذيب): يقبضه بيده اليسرى. ولم يذكر الاكثرون بأيتهما يقبضه. قلت: قال القاضي حسين في تعليقه كما قال في (التهذيب). والله أعلم. ويشغل يده الاخرى بحرف المنبر، فإن لم يجد شيئا، سكن يده (1) وجسده، بأن يجعل اليمنى على اليسرى، أو يقرهما مرسلتين. والغرض، أن يخشع، ولا يعبث بهما. ومنها: أنه ينبغي للقوم أن يقبلوا على الخطيب مستمعين، لا يشتغلون بشئ آخر، حتى يكره الشرب للتلذذ، ولا بأس به للعطش، لا للخطيب، ولا للقوم. ومنها: أن يأخذ في النزول بعد الفراغ، ويأخذ المؤذن في الاقامة، ويبتدر ليبلغ المحراب مع فراغ المقيم. قلت: يكره في الخطبة أمور ابتدعها الجهلة. منها: التفاتهم في الخطبة الثانية (2)، والدق على درج المنبر في صعوده، والدعاء إذا انتهى (3) إلى صعوده قبل أن يجلس. وربما توهموا أنها ساعة الاجابة، وهذا

(1/537)


جهل، فإن ساعة الاجابة إنما هي بعد جلوسه، كما سيأتي إن شاء الله تعالى. ومنها: المجازفة في أوصاف السلاطين في الدعاء لهم. وأما أصل الدعاء للسلطان، فقد ذكر صاحب (المهذب) وغيره: أنه مكروه. والاختيار: أنه لا بأس به إذا لم يكن فيه مجازفة في وصفه (1)، ولا نحو ذلك، فإنه يستحب الدعاء بصلاح ولاة الامر. ومنها: مبالغتهم في الاسراع في الخطبة الثانية. [ وأما الاحتباء (2) والامام يخطب، فقال صاحب (البيان): لا يكره. والصحيح: أنه مكروه. فقد صح في (سنن أبي داود) (3) والترمذي، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، نهى عن الاحتباء والامام يخطب)، قال الترمذي (4): حديث حسن. وقال الخطابي من أصحابنا: نهى عنه، لانه يجلب النوم فيعرض طهارته للنقض، ويمنعه استماع الخطبة ] (5). ويستحب إذا كان المنبر واسعا، أن يقوم على يمينه، قاله القاضي حسين، وصاحب (التهذيب). ويكره للخطيب أن يشير بيده. فقال (6) في (التهذيب): يستحب أن يختم الخطبة بقوله: استغفر الله لي ولكم. وذكر صاحبا (العدة) و (البيان): أنه يستحب للخطيب إذا وصل إلى (7) المنبر، أن يصلي تحية المسجد، ثم يصعده. وهذا الذي قالاه، غريب، وشاذ، ومردود، فإنه خلاف ظاهر المنقول عن فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والخلفاء الراشدين، فمن (8) بعدهم. ولو أغمي على الخطيب، قال في (التهذيب) في بناء غيره على خطبته، القولان في الاستخلاف في الصلاة، فإن لم نجوزه، استؤنفت الخطبة، وإن جوزناه، اشترط أن يكون الذي يبني سمع أول الخطبة. هذا كلامه في (التهذيب). والمختار، أنه لا يجوز البناء هنا. والله أعلم.

(1/538)


الباب الثاني فيمن تلزمه الجمعة لوجوبها خمسة شروط: أحدها: التكليف، فلا جمعة على صبي ولا مجنون. قلت: والمغمى عليه، كالمجنون، بخلاف السكران، فإنه يلزمه قضاؤها ظهرا كغيرها. والله أعلم. الثاني: الحرية، فلا جمعة على عبد قن، أو مدبر، أو مكاتب. [ قلت: ويستحب إذا أذن السيد حضورها، ولا يجب. والله أعلم ] (1). الثالث: الذكورة، فلا جمعة على امرأة ولا خنثى (2). الرابع: الاقامة، فلا جمعة على مسافر (3)، لكن يستحب له، وللعبد، وللصبي، حضورها إذا أمكن. الخامس: الصحة، فلا جمعة على مريض ولو فاتت بتخلفه لنقصان العدد، ثم من لا تجب عليه، لا تنعقد به إلا المريض. وفيه أيضا قول شاذ، قدمناه في الشرط الرابع للجمعة. وفي معنى المرض، أعذار تأتي قريبا إن شاء الله تعالى، ولكن تنعقد لجميعهم، ويجزيهم عن الظهر إلا المجنون، فلا يصح فعله. ثم إذا حضر الصبيان والنساء، والعبيد، والمسافرون، الجامع، فلهم الانصراف، ويصلون الظهر. وخرج صاحب (التلخيص) وجها في العبد، أنه تلزمه الجمعة إذا حضر. وقال في (النهاية): وهذا غلط باتفاق الاصحاب. فأما المريض، فقد أطلق كثيرون أنه لا يجوز له الانصراف بعد حضوره، بل تلزمه الجمعة. وقال إمام الحرمين: إن حضر قبل الوقت، فله الانصراف، وإن دخل الوقت وقامت الصلاة، لزمته الجمعة. فإن كان يتخلل زمن بين دخول الوقت، والصلاة، فإن لم يلحقه مزيد مشقة في الانتظار، لزمه، وإلا فلا، وهذا التفصيل حسن، ولا يبعد أن يكون كلام المطلقين منزلا عليه. وألحقوا بالمرضى، أصحاب الاعذار الملحقة

(1/539)


بالمرض، وقالوا: إذا حضروا، لزمتهم الجمعة. ولا يبعد أن يكونوا على التفصيل المذكور أيضا، إن لم يزد ضرر المعذور بالصبر إلى إقامة الجمعة، فالامر كذلك، وإلا فله الانصراف وإقامة الظهر في منزله. هذا كله إذا لم يشرعوا في الجمعة، فإن أحرم الذين لا تلزمهم الجمعة بالجمعة، ثم أرادوا الانصراف، قال في (البيان): لا يجوز ذلك للمسافر والمريض، وفي العبد والمرأة وجهان حكاهما الصيمري (1). قلت: الاصح، أنه لا يجوز لهما، لان صلاتهما انعقدت عن فرضهما، فيتعين إتمامها. وقد قدمنا أن من دخل في فرض لاول الوقت، لزمه إتمامه على المذهب والمنصوص، فهنا أولى. والله أعلم. فرع: كل ما أمكن تصوره في الجمعة من الاعذار المرخصة في ترك الجماعة، يرخص في ترك الجمعة. أما الوحل الشديد، ففيه ثلاثة أوجه. الصحيح: أنه عذر في ترك الجمعة والجماعة. والثاني: لا. والثالث: في الجماعة دون الجمعة. حكاه صاحب (العدة) وقال: به أفتى أئمة طبرستان. أما التمريض، فإن كان للمريض من يتعهده، ويقوم بأمره، نظر، إن كان قريبا وهو مشرف على الموت، أو غير مشرف لكن يستأنس به، فله التخلف عن الجمعة ويحضر عنده، وإن لم يكن استئناس، فليس له التخلف على الصحيح. وإن كان أجنبيا، لم يجز التخلف بحال. والمملوك، والزوجة، وكل من له مصاهرة، والصديق، كالقريب. وإن لم يكن للمريض متعهد، فقال إمام الحرمين: إن كان يخاف عليه الهلاك لو غاب عنه، فهو عذر، سواء كان المريض قريبا، أو أجنبيا، لان انقاذ المسلم من الهلاك، فرض كفاية، وإن كان يلحقه ضرر ظاهر لا يبلغ دفعه مبلغ فروض الكفايات، ففيه أوجه. أصحها: أنه عذر أيضا. والثاني: لا.

(1/540)


والثالث (1): أنه عذر في القريب دون الاجنبي. ولو كان له متعهد، لكن لم يفرغ لخدمته، لاشتغاله بشراء الادوية، أو الكفن، وحفر القبر إذا كان منزولا به، فهو كما لو لم يكن متعهد. فرع: يجب على الزمن الجمعة إذا وجد مركوبا، ملكا أو بإجارة، أو إعارة ولم يشق عليه الركوب، وكذا الشيخ الضعيف. ويجب على الاعمى إذا وجد قائدا متبرعا، أو بأجرة، وله مال، وإلا فقد أطلق الاكثرون: أنها لا تجب عليه. وقال القاضي حسين: إن كان يحسن المشي بالعصا من غير قائد، لزمه. فرع: من بعضه حر، وبعضه عبد، لا جمعة عليه، وفيه وجه شاذ: أنه إذا كان بينه وبين سيده مهايأة، لزمه الجمعة الواقعة في نوبته، ولا تنعقد به بلا خلاف. فرع: الغريب إذا قام ببلد، واتخذه وطنا، صار له حكم أهله في وجوب الجمعة وانعقادها به، وإن لم يتخذه وطنا، بل عزمه الرجوع إلى بلده بعد مدة - يخرج بها من كونه مسافرا - قصيرة، أو طويلة، كالمتفقه، والتاجر (2) لزمه الجمعة، ولا تنعقد به على الاصح. فرع: القرية إذا كان فيها أربعون من أهل الكمال، لزمهم الجمعة. فإن أقاموها في قريتهم، فذاك. وإن دخلوا المصر فصلوها فيه، سقط الفرض عنهم (3)، وكانوا مسيئين، لتعطيلهم الجمعة في قريتهم. وفيه وجه (4): أنهم غير مسيئين (5)، لان أبا حنيفة (6) لا يجوز جمعة في قرية، ففيما فعلوه، خروج من

(1/541)


الخلاف، وهو ضعيف. وإن لم يكن فيها أربعون من أهل الكمال، فلهم حالان. أحدهما: يبلغهم النداء من موضع تقام فيه جمعة من بلد، أو قرية، فتجب عليهم الجمعة. والمعتبر نداء مؤذن عالي الصوت يقف على طرف البلد من الجانب الذي يلي تلك القرية، ويؤذن على عادته، والاصوات هادئة، والرياح راكدة. فإذا سمع صوته من القرية من أصغى إليه، ولم يكن أصم، ولا جاوز سمعه حد العادة، وجبت الجمعة على أهلها. وفي وجه: المعتبر أن يقف المؤذن في وسط البلد، ووجه يقف في الموضع الذي تقام فيه الجمعة. وهل يعتبر أن يقف على موضع عال كمنارة أو سور ؟ وجهان. قال الاكثرون: لا يعتبر. وقال القاضي أبو الطيب: سمعت شيوخنا يقولون: لا يعتبر إلا بطبرستان، فإنها بين أشجار وغياض تمنع بلوغ الصوت. أما إذا كانت قرية على قلة جبل يسمع أهلها النداء لعلوها، بحيث لو كانت على استواء الارض لما سمعوا، أو كانت قرية في وهدة من الارض لا يسمع أهلها النداء لانخفاضها، بحيث لو كانت على استواء لسمعوا، فوجهان. أصحهما (1) وبه قال [ القاضي أبو الطيب: لا تجب الجمعة في الصورة الاولى، وتجب في الثانية، اعتبارا بتقدير الاستواء (2). والثاني: وبه قال ] (3) الشيخ أبو حامد: عكسه، اعتبارا بنفس السماع. أما إذا لم يبلغ النداء أهل القرية، فلا جمعة عليهم. وأما أهل الخيام إذا لزموا موضعا، ولم يفارقوه، وقلنا: لا يصلون الجمعة موضعهم، فهم

(1/542)


كأهل القرى. وإذ لم يبلغوا أربعين، إن سمعوا النداء، لزمتهم الجمعة، وإلا فلا. قلت: وإذا سمع أهل القرية الناقصون عن الاربعين النداء من بلدين، فأيهما حضروا جاز، والاولى حضور أكثرهما جماعة. والله أعلم. فرع: العذر المبيح ترك الجمعة يبيحه وإن طرأ بعد الزوال، إلا السفر، فإنه يحرم إنشاؤه بعد الزوال. وهل يجوز بعد الفجر وقبل الزوال ؟ قولان. قال في القديم وحرملة: يجوز. وفي الجديد: لا يجوز، وهو الاظهر عند العراقيين. وقيل: يجوز قولا واحدا. هذا في السفر المباح. أما الطاعة واجبا كان كالحج، أو مندوبا، فلا يجوز بعد الزوال، وأما قبله، فقطع كثير من أئمتنا بجوازه. ومقتضى كلام العراقيين، أنه على الخلاف كالمباح. وحيث قلنا: يحرم، فله شرطان. أحدهما: أننا ينقطع عن الرفقة، ولا يناله ضرر في تخلفه للجمعة. فإن انقطع، وفات سفره بذلك، أو ناله ضرر، فله الخروج بعد الزوال بلا خلاف. كذا قاله الاصحاب. وقال الشيخ أبو حاتم القزويني (1): في جوازه بعد الزوال لخوف الانقطاع عن الرفقة، وجهان (2). الشرط الثاني: أن لا يمكنه (3) صلاة الجمعة في منزله، أو طريقه. فإن

(1/543)


أمكنت، فلا منع بحال. قلت: الاظهر (1) تحريم السفر المباح، والطاعة قبل الزوال، وحيث حرمناه بعد الزوال، فسافر، كان عاصيا، فلا يترخص ما لم تفت الجمعة. ثم حيث كان فواتها، يكون ابتداء سفره، قاله القاضي حسين، وصاحب (التهذيب) وهو ظاهر. والله أعلم. فرع: المعذورون في ترك الجمعة، ضربان. أحدهما: يتوقع زوال عذره، كالعبد، والمريض يتوقع الخفة، فيستحب له تأخير الظهر إلى اليأس من إدراك الجمعة، لاحتمال تمكنه منها. ويحصل اليأس برفع الامام رأسه من الركوع الثاني على الصحيح. وعلى الشاذ: يراعى تصور الادراك في حق كل واحد، فإذا كان منزله بعيدا، فانتهى الوقت إلى حد لو أخذ في السعي لم يدرك الجمعة، حصل الفوات في حقه. الضرب الثاني: من لا يرجو زوال عذره كالمرأة، والزمن، فالاولى أن يصلي الظهر في أول الوقت، لفضيلة الاولية. قلت: هذا اختيار أصحابنا الخراسانيين، وهو الاصح. وقال العراقيون: هذا الضرب كالاول، فيستحب لهم تأخير الظهر، لان الجمعة صلاة الكاملين فقدمت. والاختيار التوسط. فيقال: إن كان هذا الشخص جازما بأنه لا يحضر الجمعة وإن تمكن منها، استحب تقديم الظهر. وإن كان لو تمكن، أو نشط حضرها، استحب التأخير، كالضرب الاول. والله أعلم. وإذا اجتمع معذورون، استحب لهم الجماعة في ظهرهم على الاصح (2) قال

(1/544)


الشافعي رحمه الله: واستحب لهم إخفاء الجماعة لئلا يتهموا. قال الاصحاب: هذا إذا كان عذرهم خفيا، فإن كان ظاهرا، فلا تهمة. ومنهم من استحب الاخفاء مطلقا. ثم إذا صلى المعذور الظهر قبل فوات الجمعة، صحت ظهره. فلو زال عذره وتمكن من الجمعة، لم تلزمه، إلا في الخنثى إذا صلى الظهر، ثم بان رجلا، وتمكن من الجمعة، فتلزمه. والمستحب لهؤلاء، حضور الجمعة بعد فعلهم الظهر. فإن صلوا الجمعة، ففرضهم الظهر على الاظهر. وعلى الثاني: يحتسب الله تعالى بما شاء. أما إذا زال العذر في أثناء الظهر، فقال القفال: هو كرؤية المتيمم الماء في الصلاة. وهذا يقتضي خلافا في بطلان الظهر، كالخلاف في بطلان صلاة المتيمم. وذكر الشيخ أبو محمد وجهين هنا. والمذهب، استمرار صحة الظهر. وهذا الخلاف، تفريع على إبطال ظهر غير المعذور إذا صلاها قبل فوات وقت الجمعة. فإن لم نبطلها، فالمعذور أولى. فرع: من لا عذر له، إذا صلى الظهر قبل فوات الجمعة، لم تصح ظهره على الجديد، وهو الاظهر، وتصح على القديم (1)، قال الاصحاب: القولان مبنيان على أن الفرض الاصلي يوم الجمعة ماذا ؟ فالجديد: أنه الجمعة. والقديم: أنه الظهر، وأن الجمعة بدل. ثم قال أبو إسحاق المروزي: لو ترك جميع أهل البلدة الجمعة، وصلوا الظهر، أثموا كلهم، وصحت ظهرهم على القولين. وإن الخلاف في ترك آحادهم الجمعة مع إقامتها بجماعة. والصحيح الذي قاله غيره: أنه لا فرق، وأن ظهرها لا تصح على الجديد، لانهم صلوها وفرض الجمعة متوجه إليهم. فإذا فرعنا على الجديد في أصل المسألة، فالامر بحضور الجمعة قائم. فإن حضرها، فذاك، وإن فاتت، قضى الظهر. وهل يكون ما فعله أولا باطلا، أم تنقلب نفلا ؟ فيه القولان في نظائره. وإن قلنا بالقديم، فالمذهب والذي قطع به الاكثرون: أن الامر بحضور الجمعة قائم أيضا. ومعنى صحة الظهر، الاعتداد بها

(1/545)


في الجمعة، بحيث لو فاتت الجمعة أجزأته. وقيل: في سقوط الامر بحضور الجمعة، قولان. وبهذا قطع إمام الحرمين، والغزالي. فإن قلنا: لا يسقط الامر، أو قلنا: يسقط، فصلى الجمعة، ففي الفرض منهما طريقان. أحدهما: الفرض أحدهما لا بعينه، ويحتسب الله تعالى بما شاء منهما. والطريق الثاني: فيه أربعة أقوال. أحدها: الفرض: الظهر. والثاني: الجمعة. والثالث: كلاهما فرض. والرابع: أحدهما لا بعينه، كالطريق الاول. هذا كله إذا صلى الظهر قبل فوات الجمعة. فإن صلاها بعد ركوع الامام في الثانية، وقبل سلامه، فقال ابن الصباغ: ظاهر كلام الشافعي بطلانها، يعني على الجديد. ومن أصحابنا من جوزها. وإذا امتنع أهل البلدة جميعا من الجمعة، وصلوا الظهر، فالفوات بخروج الوقت أو ضيقه، بحيث لا يسع إلا الركعتين.
الباب الثالث في كيفية إقامة الجمعة بعد شرائطها الجمعة ركعتان كغيرها في الاركان، وتمتاز بأمور مندوبة. أحدها: الغسل يوم الجمعة سنة، ووقته بعد الفجر على المذهب (1). وانفرد في (النهاية) بحكاية وجه: أنه يجزئ قبل الفجر كغسل العيد، وهو شاذ منكر. ويستحب تقريب الغسل من الرواح إلى الجمعة. ثم الصحيح: إنما يستحب لمن يحضر الجمعة والثاني: يستحب لكل أحد كغسل العيد. فإذا قلنا بالصحيح، فهو مستحب لكل حاضر، سواء من تجب عليه، وغيره. قلت: وفيه وجه: أنه إنما يستحب لمن تجب عليه وحضرها، ووجه لمن تجب عليه وإن لم يحضرها لعذر. والله أعلم. ولو أحدث بعد الغسل، لم يبطل الغسل، فيتوضأ.

(1/546)


قلت: وكذا لو أجنب بجماع أو غيره، لا يبطل، فيغتسل للجنابة. والله أعلم. قال الصيدلاني، وعامة الاصحاب: إذا عجز عن الغسل لنفاد الماء بعد الوضوء، أو لقروح (1) في بدنه، تيمم وجاز الفضيلة. قال إمام الحرمين: هذا الذي قالوه، هو الظاهر، وفيه احتمال. ورجح الغزالي هذا الاحتمال. فرع: من الاغسال المسنونة، أغسال الحج، وغسل العيدين، ويأتي في مواضعها إن شاء الله تعالى. وأما الغسل من غسل الميت، ففيه قولان. القديم: أنه واجب، وكذا الوضوء من مسه. والجديد: استحبابه، وهو المشهور. فعلى هذا، غسل الجمعة، والغسل من غسل الميت، آكد الاغسال المسنونة، وأيهما آكد ؟ قولان. الجديد: الغسل من غسل الميت آكد. والقديم: غسل الجمعة وهو الراجح عند صاحب (التهذيب)، والروياني، والاكثرين. ورجح صاحب (المهذب) وآخرون الجديد. وفي وجه: هما سواء. قلت: الصواب، الجزم بترجيح غسل الجمعة، لكثرة الاخبار الصحيحة فيه. وفيها الحث العظيم عليه، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: (غسل الجمعة واجب) (2) وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (من جاء منكم إلى الجمعة فليغتسل) (3). وأما الغسل من غسل الميت، فلم يصح فيه شئ أصلا (4). ثم من فوائد الخلاف، ولو حضر إنسان معه ماء، يدفعه لاحوج

(1/547)


الناس وهناك رجلان، أحدهما يريده لغسل الجمعة، والآخر للغسل من غسل الميت. والله أعلم. وأما الكافر إذا أسلم، فإن كان وجب عليه غسل بجنابة، أو حيض، لزمه الغسل ولا يجزئه غسله في الكفر على الاصح، كما سبق في موضعه. وإلا، استحب له الغسل للاسلام. وقال ابن المنذر: يجب. ووقت الغسل، بعد الاسلام على الصحيح، وعلى الوجه الضعيف: يغتسل قبل الاسلام. قلت: هذا الوجه غلط صريح، والعجب ممن حكاه، فكيف بمن قاله، وقد أشبعت القول في إبطاله، والشناعة على قائله في (شرح المهذب) وكيف يؤمر بالبقاء على الكفر ليفعل غسلا لا يصح منه ؟ ! والله أعلم. ومن الاغسال المسنونة، الغسل للافاقة من الجنون والاغماء. وقد تقدم في باب الغسل حكاية وجه في وجوبهما. والصحيح: أنهما سنة. ومنها: الغسل من الحجامة، والخروج من الحمام. ذكر صاحب (التلخيص) عن القديم استحبابهما، والاكثرون لم يذكروهما. قال صاحب (التهذيب): قيل: المراد بغسل الحمام، إذا تنور. قال: وعندي أن المراد به أن يدخل الحمام فيعرق، فيستحب أن لا يخرج غير غسل.

(1/549)


قلت: وقيل: الغسل من الحمام، هو أن يصب عليه ماء عند إرادته الخروج تنظفا، كما اعتاده الخارجون منه. والمختار: الجزم باستحباب الغسل من الحجامة والحمام. فقد نقل صاحب (جمع الجوامع) في منصوصات الشافعي أنه قال: أحب الغسل من الحجامة والحمام، وكل أمر غير الجسد، وأشار الشافعي، إلى أن حكمته، أن ذلك يغير الجسد ويضعفه، والغسل يشده وينعشه. قال أصحابنا: يستحب الغسل لكل اجتماع، وفي كل حال تغير رائحة البدن (1). والله أعلم. الامر الثاني: استحباب البكور إلى الجامع، والساعة الاولى أفضل من الثانية، ثم الثالثة فما بعدها. وتعتبر الساعات من طلوع الفجر على الاصح. وعلى الثاني: من طلوع الشمس. والثالث: من الزوال. ثم، ليس المراد على الاوجه بالساعات الاربع والعشرين، بل ترتيب الدرجات، وفضل السابق على الذي يليه، لئلا يستوي في الفضيلة رجلان جاءا في طرفي ساعة. والامر الثالث: التزين، فيستحب التزين للجمعة، بأخذ الشعر، والظفر، والسواك، وقطع الرائحة الكريهة، ويلبس أحسن الثياب، وأولاها البيض. فإن لبس مصبوغا، فما صبغ غزله، ثم نسج كالبرد، لا ما صبغ منسوجا. ويسحب أن يتطيب بأطيب ما عنده، ويستحب أن يزيد الامام في حسن الهيئة، ويتعمم، ويرتدي. ويستحب لكل من قصد الجمعة، المشي على سكينة ما لم يضق الوقت، ولا يسعى إليها، ولا إلى غيرها من الصلوات، ولا يركب في جمعة، ولا عيد، ولا جنازة، ولا عيادة مريض، إلا لعذر. وإذا ركب، سيرها على سكون. الامر الرابع: يستحب أن يقرأ في الركعة الاولى من صلاة الجمعة بعد (الفاتحة): سورة (الجمعة). وفي الثانية: (المنافقين) (2). وفي قول قديم: إنه يقرأ في الاولى: (سبح اسم ربك الاعلى). وفي الثانية: (هل أتاك حديث الغاشية).

(1/550)


قلت: عجب من الامام الرافعي رحمه الله، كيف جعل المسألة ذات قولين، قديم وجديد ؟ ! والصواب: أنهما سنتان. فقد ثبت كل ذلك في (صحيح مسلم) (1) من فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكان يقرأ هاتين في وقت، وهاتين في وقت. ومما يؤيد ما ذكرته، أن الربيع رحمه الله، وهو راوي الكتب الجديدة قال: سألت الشافعي رحمه الله عن ذلك، فذكر أنه يختار (الجمعة) و (المنافقين) ولو قرأ (سبح) و (هل أتاك) كان حسنا. والله أعلم. فلو نسي سورة (الجمعة) في الاولى، قرأها مع (المنافقين) في الثانية، ولو قرأ (المنافقين) في الاولى، قرأ (الجمعة) في الثانية. قلت: ولا يعيد (المنافقين) في الثانية. وقوله: لو نسي (الجمعة) في الاولى، معناه: تركها، سواء كان ناسيا، أو عامدا، أو جاهلا. والله أعلم. فرع: ينبغي للداخل أن يحترز عن تخطي رقاب الناس (2) إلا إذا كان إماما، أو كان بين يديه فرجة لا يصلها بغير تخط. ولا يجوز أن يقيم أحدا ليجلس موضعه، ويجوز أن يبعث من يأخذ له موضعا، فإذا جاء ينحي المبعوث. وإن فرش لرجل ثوب، فجاء آخر، لم يجز أن يجلس عليه، وله أن ينحيه ويجلس مكانه. قال في (البيان): ولا يرفعه، لئلا يدخل في ضمانه. ويستحب لمن حضر قبل الخطبة أن يشتغل بذكر الله عزوجل. وقراءة القرآن، والصلاة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويستحب الاكثار منها يوم الجمعة، وليلة الجمعة. ويكثر الدعاء يومها، رجاء أن يصادف ساعة الاجابة. قلت: اختلف في ساعة الاجابة على مذاهب كثيرة (3). والصواب منها: ما

(1/551)


ثبت في (صحيح مسلم) (1) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: هي ما بين أن يجلس الامام إلى أن تقضى الصلاة (2). والله أعلم. ويستحب قراءة سورة (الكهف) يومها وليلتها. ولا يصل صلاة الجمعة بصلاة، بل يفصل بالتحول إلى مكان، أو بكلام ونحوه. فرع: يكره البيع بعد الزوال (3)، وقبل الصلاة. فإذا ظهر الامام على المنبر، وشرع المؤذن في الاذان، حرم البيع. ولو تبايع اثنان أحدهما من أهل فرض الجمعة دون الآخر، أثما جميعا (4). ولا يكره البيع قبل الزوال. وإذا حرم فباع، صح بيعه.

(1/552)


قلت: غير البيع من الصنائع والعقود وغيرها في معنى البيع (1). ولو أذن قبل جلوس الامام على المنبر، لم يحرم البيع. وحيث حرمنا البيع، فهو في حق من جلس له في غير المسجد. أما إذا سمع النداء، فقام يقصد الجمعة، فبايع في طريقه وهو يمشي، أو قعد في الجامع وباع، فلا يحرم. صرح به صاحب (التتمة) وهو ظاهر، لان المقصود أن لا يتأخر عن السعي إلى الجمعة، لكن البيع في المسجد مكروه يوم الجمعة وغيره، على الاظهر. والله أعلم. فرع: لا بأس على العجائز حضور الجمعة (2) إذا أذن أزواجهن، ويحترزن عن الطيب والتزين. قلت: يكره أن يشبك بين أصابعه، أو يعبث حال ذهابه إلى الجمعة وانتظاره لها، وكذلك سائر الصلوات. قال الشافعي في (الام) والاصحاب: إذا قعد إنسان في الجامع في موضع الامام، أو في طريق الناس، أمر بالقيام. وكذا لو قعد ووجهه إلى الناس والمكان ضيق، أمر بالتحول (3)، وإلا فلا. قال في (البيان): وإذا قرأ الامام في الخطبة (إن الله وملائكته يصلون على النبي...) (4). جاز للمستمع أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ويرفع بها صوته (5). والله أعلم.

(1/553)