روضة الطالبين وعمدة المفتين ط العلمية

روضة الطالبين - كتاب صلاة الخوف (1)
اعلم أن ليس المراد بهذه الترجمة أن الخوف يقتضي صلاة مستقلة، كقولنا: صلاة العيد، ولا أنه يؤثر في تغير قدر الصلاة، و (2) وقتها، كقولنا: صلاة السفر. وإنما المراد أنه يؤثر في كيفية إقامة الفرائض، [ بل في إقامتها بالجماعة ] (3)، واحتمال أمور فيها كانت لا تحتمل. ثم هو في الاكثر لا يؤثر في إقامة مطلق الفرائض، بل في إقامتها بالجماعة كما نفصله إن شاء الله تعالى. وقال المزني: صلاة الخوف منسوخة (4)، ومذهبنا: أنها باقية (5). وهي أربعة أنواع (6).
الأول : صلاة بطن نخل (7).

(1/555)


وهي: أن يجعل الامام الناس فرقتين. فرقة في وجه العدو، وفرقة يصلي بها (1) جميع الصلاة، سواء كنت (2) ركعتين، أو ثلاثا، أو أربعا، فإذا سلم بهم، ذهبوا إلى وجه العدو، وجاءت الفرقة الاخرى فصلى بهم تلك الصلاة مرة ثانية، تكون له نافلة ولهم فريضة. وإنما يندب إلى هذه الصلاة بثلاثة شروط: أن يكون العدو في غير القبلة، وأن يكون في المسلمين كثرة والعدو قليل، وأن يخاف هجومهم على المسلمين في الصلاة. وهذه الامور ليست شرطا للصحة، فإن الصلاة على هذا الوجه تجوز بغير خوف. وإنما المراد أن الصلاة هكذا إنما يندب إليها وتختار بهذه الشروط.
النوع الثاني : صلاة عسفان (3). وهي: أن يرتبهم الامام صفين ويحرم بالجميع، فيصلوا معه إلى أن ينتهي إلى الاعتدال عن ركوع الاولى، فإذا سجد، سجد معه الصف الثاني، ولم يسجد الصف الاول، بل يحرسونهم (4) قياما، فإذا قام الامام والساجدون، سجد أهل الصف الاول ولحقوه، وقرأ الجميع معه وركعوا واعتدلوا، فإذا سجد، سجد معه الصف الحارسون في الركعة الاولى، وحرس الآخرون، فإذا جلس للتشهد، سجدوا، ولحقوه وتشهدوا كلهم معه وسلم بهم. هذه الكيفية ذكرها الشافعي رحمه الله في (المختصر). واختلف الاصحاب، فأخذ كثيرون بها، منهم أصحاب القفال، وتابعهم الغزالي، وقالوا: هي منقولة عن فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن معه بعسفان (5)، وقال الشيخ أبو حامد ومن تابعه: ما ذكره الشافعي خلاف الثابت في السنة، فإن الثابت أن الصف الاول سجدوا معه في الركعة الاولى، والصف الثاني سجدوا معه الثانية، والشافعي عكس ذلك. قالوا: والمذهب ما ثبت في

(1/556)


الخبر، لان الشافعي رحمه الله قال: إذا رأيتم قولي مخالفا للسنة فاطرحوه (1). واعلم أن الشافعي لم يقل: إن الكيفية التي ذكرها هي صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بعسفان، بل قال: وهذا نحو صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بعسفان، فأشبه تجويزه كل واحد منهما. وقد صرح به الروياني وصاحب (التهذيب) وغيرهما. قلت: الصحيح المختار: جواز الامرين، وهو مراد الشافعي، فإنه ذكر الحديث كما ثبت في الصحيح، ثم ذكر الكيفية المذكورة، فأشار إلى جوازهما. والله أعلم. ثم المذهب الصحيح المنصوص المشهور: أن الحراسة في السجود خاصة (2)، وأن الجميع يركعون معه، وفيه وجه: أنهم يحرسون في الركوع أيضا، وهو شاذ منكر. قال أصحابنا: لهذه الصلاة ثلاثة شروط. أن يكون العدو في جهة القبلة، وأن يكون على جبل، أو مستو (3) من الارض لا يسترهم شئ عن أبصار المسلمين، وأن يكون في المسجد (4) كثرة، لتسجد طائفة وتحرس أخرى، ولا يمتنع أن يزيد على صفين، بل يجوز أن يرتبهم صفوفا كثيرة، ثم يحرس صفإن كما سبق، ولا يشترط أن يحرس جميع من في الصف، بل لو حرست فرقتان من صف واحد على المناوبة في الركعتين، جاز. فلو تولى الحراسة في الركعتين طائفة واحدة، ففي

(1/557)


صلاة هذه الطائفة وجهان. أصحهما: الصحة، وبه قطع جماعة. فرع: لو تأخر الحارسون أولا إلى الصف الثاني في الركعة الثانية، وتقدمت الطائفة الثانية ليحرسوا، جاز إذا لم تكثر أفعالهم، وذلك بأن يتقدم كل واحد من الصف الثاني خطوتين، ويتأخر كل واحد من الصف الاول خطوتين وينفذ كل واحد بين رجلين. وهل هذا التقدم أفضل، أم ملازمة كل واحد مكانه ؟ وجهان. قال الصيدلاني، والمسعودي، والغزالي، وآخرون: التقدم أفضل. وقال العراقيون: الملازمة أفضل. ولفظ الشافعي على هذا أدل، وهذا كله بناء على ما ذكره الشافعي: أن الصف الاول يحرس في الاول. فأما على اختيار أبي حامد: أن الصف الاول يسجدون في الاولى (1)، فإن في الركعة الثانية يتقدم الصف الثاني، ويتأخر الاول فتكون الحراسة في الركعتين ممن خلف الصف الاول، وكذلك ورد الخبر. قلت: ثبت في (صحيح مسلم) (2) تقدم الصف الثاني، وتأخر الاول. والله أعلم.
النوع الثالث : صلاة ذات الرقاع (3). وهي: تارة تكون في صلاة ذات ركعتين، إما الصبح، وإما مقصورة، وتارة في ذات ثلاث، أو أربع. فأما ذات ركعتين (4)، فيفرق الامام الناس فرقتين، فرقة في وجه العدو، وينحاز بفرقة إلى حيث لا يبلغهم سهام العدو، فيفتح بهم الصلاة ويصلي بهم ركعة. هذا القدر اتفقت عليه الروايات. وفيما يفعل بعد ذلك روايتان. إحداهما: أنه إذا قام الامام إلى الثانية، خرج المقتدون عن متابعته، وأتموا لانفسهم الركعة الثانية، وتشهدوا وسلموا وذهبوا إلى وجه العدو، وجاء (5) أولئك

(1/558)


فاقتدوا به في الثانية. ويطيل الامام القيام إلى لحوقهم، فإذا لحقوه، صلى بهم الثانية، فإذا جلس للتشهد قاموا وأتموا الثانية وهو ينتظرهم، فإذا لحقوه، سلم بهم. هذه رواية سهل بن أبي حيثمة (1) عن صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (2). وأما الثانية: فهي أن الامام إذا قام إلى الثانية، لا (3) يتم المقتدون به الصلاة، بل يذهبون إلى مكان إخوانهم وجاه العدو وهم في الصلاة فيقفون سكوتا، وتجئ تلك الطائفة فتصلي مع الامام ركعته الثانية. فإذا سلم، ذهبت إلى وجه العدو، وجاء الاولون إلى مكان الصلاة، وأتموا [ لانفسهم، وذهبوا إلى وجه العدو وجاءت الطائفة الاخرى إلى مكان الصلاة وأتموا ] (4). وهذه رواية ابن عمر (5). ثم إن الشافعي رحمه الله، اختار الرواية الاولى لسلامتها من كثرة المخالفة، ولانها أحوط لامر الحرب. وللشافعي قول قديم: أنه إذا صلى الامام بالطائفة الثانية الركعة الثانية، تشهد بهم وسلم، ثم هم يقومون إلى تمام صلاتهم، كالمسبوق، وقول آخر: أنهم يقومون إذا بلغ الامام موضع السلام ولم يسلم بعد. وهل تصح الصلاة على صفة رواية ابن عمر ؟ قولان. المشهور: الصحة، لصحة الحديث وعدم المعارض، ولا يصح قول الآخر: إنه منسوخ، فإن النسخ يحتاج إلى دليل. وإقامة الصلاة على الوجه المذكور ليست عزيمة لا بد منها، بل لو صلى بطائفة، وصلى غيره بالباقين، أو صلى بعضهم، أو كلهم منفردين، جاز قطعا، لكن كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يسمحون بترك فضيلة الجماعة، فأمر الله سبحانه وتعالى بترتبهم هكذا، لتحصل طائفة فضيلة التكبير معه، والاخرى فضيلة التسليم معه. وهذا النوع موضعه إذا كان العدو في غير جهة القبلة، أو فيها وبينهم وبين المسلمين حائل يمنع رؤيتهم لو هجموا.

(1/559)


فرع: الطائفة الاولى ينوون مفارقة الامام إذا قاموا معه إلى الثانية، وانتصبوا قياما. ولو فارقوه بعد رفع الرأس من السجود، جاز، والاول أولى. وأما الطائفة الثانية، فإذا قاموا إلى ركعتهم الثانية، لا ينفردون عن الامام، كذا قاله الجمهور. وفيه شئ يأتي إن شاء الله تعالى. فرع: إذا قام الامام إلى الثانية، هل يقرأ في انتظاره مجئ الطائفة الثانية، أم يؤخر ليقرأ معهم ؟ فيه ثلاث طرق. أصحها: على قولين. أظهرهما: يقرأ الفاتحة والسورة بعدها، فإذا جاؤوا قرأ من السورة (1) قدر الفاتحة وسورة قصيرة، ثم ركع. والثاني: لا يقرأ شيئا، بل يشتغل بما شاء من التسبيح، وسائر الاذكار. والطريق الثاني: يقرأ، قولا واحدا. والثالث: إن أراد قراءة سورة طويلة بعد الفاتحة، قرأ ومدها، وإن أراد قصيرة، انتظرهم. ولو لم ينتظرهم وأدركوه في الركوع، أدركوا الركعة. وهل يتشهد في انتظاره فراغ الثانية من ركعتهم إذا قلنا: يفارقونه، قبل التشهد ؟ فيه طرق. المذهب: أنه يتشهد، وقيل: فيه الطريقان الاولان في القراءة (2). قلت: قال أصحابنا: إذا قلنا: لا يتشهد، اشتغل في مدة الانتظار بالتسبيح وغيره من الاذكار، ويستحب للامام أن يخفف الاولى، ويستحب للطائفتين التخفيف فيما ينفردون به. والله أعلم. فرع: لو صلى الامام بهم هذه الصلاة في الامن هل تصح ؟ أما صلاة

(1/560)


الامام، ففيها طريقان. أحدهما: صحيحة قطعا، وقال الاكثرون: في صحتها قولان، لانه ينتظرهم بغير عذر. وأما الطائفة الاولى ففي صحة صلاتها القولان فيمن فارق بغير عذر. وأما الطائفة الثانية: فإن قلنا: صلاة الامام تبطل، بطل اقتداؤهم، وإلا، انعقد، ثم تبنى صلاتهم إذا قاموا إلى الثانية على خلاف يأتي أنهم منفردون بها، أم في حكم الاقتداء ؟ إن قلنا بالاول، ففيها قولان مبنيان على أصلين. أحدهما: الانفراد بغير عذر، والثاني: الاقتداء بعد الانفراد. وإن قلنا: بالثاني، بطلت صلاتهم، لانهم انفردوا بركعة وهم في القدوة. ولو فرضت الصلاة في الامن على رواية ابن عمر، بطلت صلاة المأموين قطعا. فرع: إذا صلى المغرب في الخوف، جاز أن يصلي بالطائفة الاولى ركعة، وبالثانية ركعتين، وعكسه. وأيهما أفضل ؟ فيه قولان، أظهرهما: بالاولى ركعتين (1)، ومنهم من قطع به. فإن قلنا: بالاولى ركعة، فارقته إذا قام إلى الثانية، وتتم لنفسها، كما ذكراه في ذات الركعتين. وإن قلنا: بالاولى ركعتين، جاز أن ينتظر الثانية في التشهد الاول، وجاز أن ينتظرهم في القيام الثالث. وأيهما أفضل ؟ قولان. أظهرهما (2): الانتظار في القيام. وعلى هذا هل يقرأ الفاتحة، أم يصبر إلى لحوق الطائفة الثانية ؟ فيه الخلاف المتقدم. فرع: إذا كانت صلاة الخوف رباعية، بأن كانت في الحضر، أو أرادوا الاتمام في السفر، فينبغي للامام أن يفرقهم فرقتين، ويصلي بكل طائفة ركعتين، ثم هل الافضل أن ينتظر الثانية في التشهد الاول، أم في القيام الثالث ؟ فيه الخلاف المتقدم في المغرب. ويتشهد بكل طائفة بلا خلاف. فلو فرقهم أربع فرق، وصلى بكل فرقة ركعة، بأن صلى بالاولى ركعة، ثم فارقته (3)، وصلت ثلاثا وسلمت، وانتظر قائما فراغها وذهابها ومجئ الثانية، ثم صلى بالثانية الثانية، وانتظر جالسا في التشهد الاول، أو قائما في الثالثة، وأتموا لانفسهم، ثم صلى بالثالثة الثالثة،

(1/561)


وانتظروا في قيام الرابعة، وأتموا لانفسهم، ثم صلى بالرابعة الرابعة، وانتظرهم في التشهد، فأتموا وسلم بهم، ففي جوازه قولان. أظهرهما: الجواز، فعلى هذا قال إمام الحرمين: شرطه الحاجة، فإن لم تكن حاجة، فهو كفعلهم في حال الاختيار. وعلى هذا القول تكون الطائفة الرابعة، كالثانية في ذات الركعتين، فيعود الخلاف في أنهم يفارقونه قبل التشهد، أو يتشهدون معه، أو يقومون بعد سلام الامام إلى ما عليهم، وتتشهد الطائفة الثانية معه على الاصح. وعلى الثاني تفارقه قبل التشهد، وعلى هذا القول تصح صلاة الامام والطائفة الرابعة، وفي الطوائف الثلاث القولان فيمن فارق الامام بغير عذر. وأما إذا قلنا: لا يجوز ذلك، فصلاة الامام باطلة. قال جمهور الاصحاب: تبطل بالانتظار الواقع في الركعة الثالثة، وهو ظاهر نص الشافعي رحمه الله، وقال ابن سريج: بالواقع في الرابعة. فعلى قول الجمهور: وجهان. أحدهما: تبطل بمعنى الطائفة الثانية. والثاني: بمعنى قدر ركعة من انتظاره الثاني. وأما صلاة المأمومين، فصلاة الطائفة الاولى والثانية صحيحة، لانهم فارقوه قبل بطلان صلاته، وصلاة الرابعة باطلة، إن علمت بطلان صلاة الامام، وإلا فلا. والثالثة كالرابعة على قول الجمهور، وكالاولين على قول ابن سريج. قلت: جزم الامام الرافعي بصحة صلاة الطائفة الاولى والثانية على هذا القول، وليس هو كذلك، بل فيهما القولان فيمن فارق بغير عذر، كما قلنا في الطوائف الثلاث على قول صحة صلاة الامام. وهذا لا بد منه، وصرح به جماعة من أصحابنا. وحكى القاضي أبو الطيب وصاحب (الشامل) وآخرون وجها ضعيفا أن المبطل للطائفة الرابعة أن تعلم أنه انتظار رابع وإن جهلت كونه مبطلا. والله أعلم. ولو فرقهم في المغرب ثلاث فرق، وصلى بكل فرقة ركعة، وقلنا: لا يجوز ذلك، فصلاة جميع الطوائف صحيحة عند ابن سريج. وأما عند الجمهور، فتبطل الثالثة إن علموا بطلان صلاة الامام. وإذا اختصرت الرباعية، قلت (1): ففيها أربعة أقوال. أظهرها: صحة صلاة الامام والقوم جميعا. والثاني: صحة صلاة الامام، والطائفة الرابعة فقط. والثالث: بطلان صلاة الامام وصحة صلاة الطائفة الاولى

(1/562)


والثانية. والفرق في حق الثالثة والرابعة بين أن يعلموا بطلان صلاة الامام، أم لا. والرابع: صحة الثالثة لا محالة، والباقي، كالقول الثالث وهو قول ابن سريج. قلت: وقول خامس: وهو بطلان صلاة الجميع. ولو فرقهم فرقتين فصلى بفرقة ركعة، بالثانية ثلاثا، أو عكسه. قال أصحابنا: صحت صلاة الامام وجميعهم بلا خلاف، وكانت مكروهة، ويسجد الامام والطائفة الثانية سجود السهو، للمخالفة بالانتظار في غير موضعه. هكذا صرح به أصحابنا. ونقله صاحب (الشامل) عن نص الشافعي رحمه الله قال: وهذا يدل على أنه إذا فرقهم أربع فرق. وقلنا: لا تبطل صلاتهم، فعليهم سجود السهو. وقال صاحب (التتمة): لا خلاف في هذه الصورة أن الصلاة مكروهة، لان الشرع ورد بالتسوية بين الطائفتين قال: وهل تصح صلاة الامام، أم لا ؟ إن قلنا: إذا فرقهم أربع فرق تصح، فهنا أولى، وإلا، فقد انتظر في غير موضعه، فيكون كمن قنت في غير موضعه. قال: وأما المأمومون، فعلى التفصيل فيما إذا فرقهم أربع فرق، وهذا الذي قاله شاذ، والصواب قدمناه عن نص الشافعي والاصحاب. والله أعلم. فرع: لو كان الخوف في بلد وحضرت صلاة الجمعة، فالمذهب والمنصوص: أن لهم يصلوها على هيئة صلاة ذات الرقاع، وقيل: في جوازها قولان. وقيل: وجهان. ثم للجواز شرطان. أحدهما: أن يخطب بجميعهم، ثم يفرقهم فرقتين، أو يخطب بفرقة، ويجعل منها مع كل واحد من الفرقتين أربعين فصاعدا. فأما لو خطب بفرقة وصلى بأخرى، فلا يجوز. والثاني أن تكون الفرقة الاولى أربعين فصاعدا، فلو نقصت عن الاربعين، لم تنعقد الجمعة. ولو نقصت الفرقة الثانية عن أربعين، فطريقان. أحدهما: لا يضر. والثاني: أنه كالخلاف في الانفضاض. قلت: الاصح: لا يضر، وبه قطع البندنيحي (1). والله أعلم. أما لو خطب بهم، ثم أراد أن يصلي بهم صلاة عسفان، فهي أولى بالجواز من صلاة ذات الرقاع. ولا تجوز كصلاة بطن نخل، إذ لا تقام جمعة بعد جمعة.

(1/563)


فرع: صلاة ذات الرقاع أفضل من صلاة بطن نخل على الاصح، لانها أعدل بين الطائفتين، ولانها صحيحة بالاتفاق. وتلك صلاة مفترض خلف متنفل، وفي صحته خلاف للعلماء (1). والثاني - وهو قول أبي إسحاق -: بطن النخل أفضل، لتحصل لكل طائفة فضيلة الجماعة بالتمام. فرع: إذا سها بعض المأمومين في صلاة ذات الرقاع على الرواية المختارة، نظر، إن سهت الطائفة الاولى في الركعة الاولى، فسهوها محمول، لانها مقتدية، وسهوها في الثانية غير محمول، لانقطاعها عن الامام. وفي ابتداء الانقطاع وجهان. أحدهما: من الانتصاب قائما. والثاني: من رفع الامام رأسه من السجود الثاني، فعلى هذا لو رفع رأسه وهم بعد في السجود فسهوا، فغير محمول. ولك أن تقول: قد نصوا على أنهم ينوون المفارقة عند رفع الرأس، أو الانتصاب، فلا معنى للخلاف في ابتداء الانقطاع، بل ينبغي أن تقتصر على وقت نية المفارقة. وأما الطائفة الثانية، فسهوها في الركعة الاولى غير محمول، وفي الثانية محمول على الاصح، ويجري الوجهان في المزحوم في الجمعة إذا سها في وقت تخلفه، وأجروهما فيمن صلى منفردا، فسها ثم اقتدى وتممها مأموما وجوزناه، واستبعد الامام هذا، وقال: الوجه: القطع بأن حكم السهو لا يرتفع بالقدوة اللاحقة. هذا إذا قلنا: الطائفة الثانية يقومون للركعة الثانية إذا جلس الامام للتشهد، فأما إذا قلنا بالقديم: إنهم يقومون بعد سلامه، فسهوهم في الثانية غير محمول قطعا، كالمسبوق. أما إذا سها الامام، فينظر، إن سها في الركعة الاولى، لحق سهوه الطائفتين، فالاولى تسجد إذا تمت صلاتهم، فلو سها بعضهم في ركعته الثانية، فهل يقتصر على سجدتين، أم يسجد أربعا ؟ فيه الخلاف المتقدم في بابه، والاصح سجدتان. والطائفة الثانية يسجدون مع الامام في آخر صلاته. وإن سها في الركعة

(1/564)


الثانية، لم يلحق سهوه الطائفة الاولى، وتسجد الثانية معه في آخر صلاته. ولو سها في انتظاره إياهم، فهل يلحقهم ذلك السهو ؟ فيه الخلاف المتقدم في أنه هل يحمل سهوهم والحالة هذه ؟ فرع: هل يجب حمل السلاح في صلاة ذات الرقاع، وعسفان، وبطن نخل ؟ فيه طرق. أصحها: على قولين. أظهرهما: يستحب (1). والثاني: القطع بالاستحباب. والثالث: بالايجاب. والرابع: أن ما يدفع به عن نفسه، كالسيف والسكين يجب، وما يدفع به عن نفسه وغيره، كالرمح والقوس (2)، لا يجب. وللخلاف شروط. أحدها طهارة المحمول، فالنجس كالسيف الذي عليه دم، أو سقي سما نجسا، والنبل المريش بريش ما لا يؤكل لحمه، أو بريش ميتة، لا يجوز حمله. الثاني: أن لا يكون مانعا بعض أركان الصلاة، فإن كان كالبيضة المانعة من مباشرة الجبهة، لم يحمل بلا خلاف (3). الثالث: أن لا يتأذى به أحد، كالرمح في وسط القوم فيكره. الرابع: أن يخاف من وضع السلاح خطر على سبيل الاحتمال (4)، فأما إذا تعرض للهلاك ظاهرا لو تركه، فيجب الاخذ قطعا (5). واعلم أن الاصحاب ترجموا المسألة بحمل السلاح (6). قال إمام الحرمين: وليس الحمل متعينا، بل لو وضع

(1/565)


السيف عن يديه، وكان مد اليد إليه في السهولة، كمدها إليه وهو محمول، كان ذلك في حكم الحمل قطعا (1). قال ابن كج: يقع السلاح على السيف، والسكين، والقوس، والرمح، والنشاب ونحوها. فأما الترس والدرع، فليس بسلاح. وإذا أوجبنا حمل السلاح فتركه، لم تبطل صلاته قطعا (2). قلت: ويجوز ترك السلاح للعذر بمرض، أو أذى من مطر أو غيره (3). قال في (المختصر): أكره أن يصلي صلاة الخوف، يعني صلاة ذات الرقاع بأقل من ثلاثة، وفي وجه: العدو ثلاثة، والثلاثة أقل الطائفة. ولو صلى بواحد واحد، جاز. والله أعلم.
النوع الرابع : صلاة شدة الخوف. فإذا التحم القتال ولم يتمكنوا من تركه بحال، لقلتهم، وكثرة العدو، أو اشتد الخوف وإن لم يلتحم القتال، فلم يأمنوا أن يركبوا أكتافهم، لو (4) ولوا عنهم، أو انقسموا، صلوا بحسب الامكان، وليس لهم التأخير عن الوقت. ويصلون ركبانا ومشاة، ولهم ترك استقبال القبلة إذا لم يقدروا عليها، ويجوز اقتداء (5) بعضهم ببعض مع اختلاف الجهة، كالمصلين حول الكعبة وفيها. قلت: قال أصحابنا: وصلاة الجماعة في هذه الحالة أفضل من الانفراد، كحالة الامن (6). والله أعلم.

(1/566)


وإنما يعفى عن ترك استقبال القبلة إذا كان بسبب العدو (1)، فلو انحرف عن القبلة بجماح الدابة، وطال الزمان، بطلت صلاته. وإذا لم يتمكن من إتمام الركوع والسجود، اقتصروا على الايماء بهما وجعلوا السجود أخفض من الركوع، ولا يجب على الماشي استقبال القبلة في الركوع ولا السجود، ولا التحرم، ولا وضع الجبهة على الارض، فإنه يخاف الهلاك، بخلاف المتنفل في السفر، ويجب الاحتراز عن الصياح بكل حال بلا خلاف (2)، فإنه لا حاجة إليه، ولا بأس بالاعمال القليلة، فانها محتملة في غير الخوف، ففيه أولى. وأما الافعال الكثيرة، كالطعنات، والضربات المتوالية، فهي مبطلة إن لم يحتج إليها (3)، فإن احتاج، فثلاثة أوجه. أصحها عند الاكثرين وبه قال ابن سريج، والقفال: لا تبطل. والثاني: تبطل. حكاه العراقيون عن ظاهر النص. والثالث: تبطل إن كان في شخص واحد، ولا تبطل في أشخاص، وعبر بعضهم عن الاوجه بالاقوال. فرع: لو تلطخ سلاحه بالدم (4)، فينبغي أن يلقيه (5)، أو يجعله في قرابه تحت ركابه إلى أن يفرغ من صلاته إن احتمل الحال ذلك، فإن احتاج إلى إمساكه، فله إمساكه (6)، ثم هل يقضي نقل إمام الحرمين عن الاصحاب، أنه يقضي (7) لندور عذره ثم منعه، وقال: تلطخ السلاح بالدم من الاعذار العامة في حق المقاتل، ولا سبيل إلى تكليفه تنحية السلاح، فتلك النجاسة ضرورية في حقه كنجاسة

(1/567)


المستحاضة في حقها، ثم جعل المسألة على قولين مرتبين على القولين فيمن صلى في موضع تنجس، وهذه الصورة أولى بعدم القضاء لالحاق الشرع القتال بسائر مسقطات القضاء في سائر المحتملات، كاستدبار القبلة، والايماء بالركوع والسجود. فرع: تقام صلاة العيدين، والكسوفين في شدة الخوف، لانه يخاف فوتهما، ولا تقام صلاة الاستسقاء (1). فرع: تجوز صلاة شدة الخوف في كل ما ليس بمعصية (2) من أنواع القتال، ولا تجوز في المعصية، فتجوز في قتال الكفار، ولاهل العدل في قتال البغاة، وللرفقة (3) في قطاع الطريق، ولا تجوز للبغاة والقطاع، ولو قصد نفس رجل، أو حريمه، أو نفس غيره، أو حريمه، وأشغل بالدفع، صلى هذه الصلاة. ولو قصد ماله، نظر، إن كان حيوانا، فكذلك، وإلا فقولان. أظهرهما: جوازها. والثاني: لا. أما إذا ولوا ظهورهم الكفار منهزمين، فننظر، إن كان يحل لهم ذلك بأن يكون في مقابلة كل مسلم أكثر من كافرين، أو كان متحرفا لقتال، أو متحيزا إلى فئة، جازت هذه الصلاة، وإلا فلا، لانه معصية. ولو انهزم الكفار وتبعهم المسلمون، بحيث لو ثبتوا وأكملوا الصلاة، فاتهم العدو، لم تجز هذه الصلاة، وإن خافوا كمينا أو كرتهم، جازت. فرع: الرخصة في هذا النوع لا تختص بالقتال، بل يتعلق بالخوف مطلقا. فلو هرب في سيل (4)، أو حريق ولم يجد معدلا عنه، أو هرب من سبع، فله صلاة شدة الخوف. والمديون المعسر العاجز عن بينة الاعسار ولا يصدقه المستحق، ولو ظفر به حبسه، له أن يصليها هاربا، على المذهب. وحكي عن (الاملاء) أن من طلب لا ليقتل، بل ليحبس أو يؤخذ منه شئ: لا يصليها. ولو كان عليه قصاص

(1/568)


يرجو العفو عنه (1) إذا سكن الغضب، قال الاصحاب: له أن يهرب ويصلي صلاة شدة الخوف في هربه، واستبعد الامام جواز هربه بهذا التوقع. فرع: المحرم إذا ضاق وقت وقوفه (2)، وخاف فوت الحج، إن صلى متمكنا، فيه أوجه للقفال. أحدها: يؤخر الصلاة ويحصل الوقوف، لان قضاء الحج صعب. والثاني: يصلي صلاة شدة (3) الخوف فيحصل الصلاة والحج. والثالث: تجب الصلاة على الارض مستقرا، ويفوت الحج، لعظم حرمة الصلاة، ولا يصلي صلاة الخوف، لانه محصل لا هارب، ويشبه أن يكون هذا الوجه أوفق لكلام الائمة. قلت: هذا الوجه ضعيف، والصواب الاول، فإنا جوزنا تأخير الصلاة لامور لا تقارب المشقة فيها هذه المشقة، كالتأخير للجمع. والله أعلم. فرع: لو رأوا سوادا إبلا أو شجرا، فظنوه عدوا، فصلوا صلاة شدة الخوف، فبان الحال، وجب القضاء على الاظهر (4)، ثم قيل: القولان فيما إذا أخبرهم بالعدو ثقة وغلط. فإن لم يكن إلا ظنهم، وجب القضاء قطعا. وقيل: القولان فيما إذا كانوا في دار الحرب لغلبة الخوف، فإن كانوا في دار الاسلام، وجب القضاء قطعا. والمذهب جريان القولين في جميع الاحوال. ولو تحققوا العدو، فصلوا صلاة شدة الخوف، ثم بان أنه كان دونهم حائل من خندق، أو ماء، أو نار (5)، أو بان أنه كان بقربهم حصن يمكنهم التحصن به، أو ظنوا أن بإزاء كل مسلم أكثر من مشركين، فصلوها منهزمين، ثم بان خلاف ذلك، فحيث أجرينا في الصورة السابقة القولين (6)، جريا في هذه ونظائرها، وقيل: يجب القضاء هنا

(1/569)


قطعا. قال صاحب (التهذيب): ولو صلوا في هذه الاحوال صلاة عسفان، اطرد القولان. ولو صلوا صلاة ذات الرقاع - فإن جوزناها في حال الامن - فهنا أولى، وإلا جرى القولان (1). فرع: لو كان يصلي متمكنا على الارض مستقبل القبلة، فحدث خوف في أثناء الصلاة فركب، فطريقان. أحدهما: على قولين. أحدهما: تبطل صلاته فيستأنف. والثاني: لا تبطل فيبني. والطريق الثاني وهو المذهب (2): أنه إن لم يكن مضطرا إلى الركوب وكان يقدر على القتال وإتمام الصلاة راجلا، فركب احتياطا، وجب الاستئناف. وإن اضطر بنى. وعلى هذا: إن قل فعله في ركوبه، بنى بلا خلاف، وإن كثر، فعلى الوجهين في العمل الكثير للحاجة. أما إذا كان يصلي راكبا صلاة شدة الخوف، فأمن ونزل، فنص الشافعي أنه يبني وهو المذهب (3). وقيل: إن حصل في نزوله فعل قليل، بنى، وإن كثر، فعلى الوجهين. قال صاحب (الشامل) وغيره: يشترط في بناء النازل أن لا يستدبر القبلة في نزوله، فإن استدبر، بطلت صلاته. قلت: صرح أيضا القاضي أبو الطيب وصاحب (المهذب) وآخرون بأنه إذا استدبر القبلة في نزوله، بطلت صلاته. وهذا متفق عليه. واتفقوا على أنه إذا لم يستدبرها، بل انحرف يمينا وشمالا، فهو مكروه لا تبطل صلاته، وعلى أنه إذا أمن، وجب النزول في الحال، فإن أخر، بطلت (4). والله أعلم.

(1/570)


باب ما يجوز لبسه للمحارب وغيره وما لا يجوز
يجوز للرجل لبس الحرير (1) في حال مفاجأة (2) القتال إذا لم يجد غيره (3)، وكذلك يجوز أن يلبس منه ما هو وقاية القتال، كالديباج (4) الصفيق الذي لا يقوم غيره مقامه (5)، وفي وجه: يجوز اتخاذ القباء ونحوه، مما يصلح في الحرب من الحرير، ولبسه فيها على الاطلاق، لما فيه من حسن الهيئة وزينة الاسلام، كتحلية السيف، والصحيح تخصيصه بحالة الضرورة. فرع: للشافعي رحمه الله (6) تعالى نصوص مختلفة في جواز استعمال الاعيان النجسة. فقيل في أنواع استعمالها كلها قولان. والمذهب: التفصيل، فلا يجوز في الثوب والبدن إلا للضرورة، ويجوز في غيرهما إن كانت نجاسة مخففة، فإن كانت مغلظة - وهي نجاسة الكلب والخنزير - فلا. وبهذا الطريق قال أبو بكر الفارسي (7) والقفال وأصحابه. فلا يجوز لبس جلد الكلب والخنزير في حال الاختيار، لان الخنزير لا يجوز الانتفاع به في حياته بحال، وكذا الكلب، إلا في أغراض مخصوصة، فبعد موتهما أولى. ويجوز الانتفاع بالثياب النجسة ولبسها في غير الصلاة ونحوها، فإن فاجأته حرب، أو خاف على نفسه لحر، أو برد، ولم يجد غير جلد الكلب والخنزير، جاز لبسهما. وهل يجوز لبس جلد الشاة الميتة، وسائر الميتات في حال الاختيار ؟ وجهان. أصحهما: التحريم. ويجوز أن يلبس هذه الجلود فرسه وأداته، ولا يجوز استعمال جلد الكلب والخنزير في ذلك ولا غيره، ولو

(1/571)


جلل كلبا، أو خنزيرا. بجلد كلب، أو خنزير، جاز على الاصح، لاستوائهما في غلظ النجاسة (1). وأما تسميد الارض بالزبل، فجائز. قال إمام الحرمين: ولم يمنع منه أحد. وفي كلام الصيدلاني ما يقتضي الخلاف فيه (2) ويجوز الاستصباح بالدهن النجس على المشهور (3)، وسواء نجس بعارض، أو كان نجس العين، كودك الميتة، ودخان النجاسة، نجس على الاصح (4)، فإن نجسناه عفي عن

(1/572)


قليله، والذي يصيبه في الاستصباح قليل، لا ينجس غالبا. فصل فيما يجوز لبسه في حال الاختيار وما لا يجوز ؟ ويحرم على الرجل والخنثى لبس الحرير والديباج، ويجوز للنساء. وفي تحريمه على الخنثى احتمال. والقز كالحرير، على المذهب. ونقل الامام الاتفاق عليه. وحكي في إباحته وجهان. وفي المركب من الحرير وغيره طريقان. المذهب والذي قطع به الجمهور: أنه إن كان الحرير أكثر وزنا، حرم، وإن كان غيره أكثر، لم يحرم، وإن استويا، لم يحرم على الاصح. والطريق الثاني قاله القفال: إن ظهر الحرير، حرم وإن قل وزنه، وإن استتر، لم يحرم وإن كثر وزنه. فرع: يجوز لبس المطرف والمطرز بالديباج، بشرط الاقتصار على عادة التطريف، فإن جاوزها، حرم، ويشرط (1) أن لا يجاوز الطراز قدر أربع أصابع، فإن جاوز، حرم (2). الترقيع بالديباج، كالتطريز. ولو خاط ثوبا بإبريسم، جاز لبسه، بخلاف الدرع المنسوجة بقليل الذهب، فإنه حرام لكثرة الخيلاء فيه. ولو حشا القباء أو الجبة بالحرير، جاز على الصحيح المنصوص الذي قطع به الجمهور (3). ولو كانت بطانة الجبة حريرا، حرم لبسها. فرع: تحريم الحرير على الرجال لا يختص باللبس، بل افتراشه، والتدثر به، واتخاذه سترا، وسائر وجوه الاستعمال، حرام. وفي وجه شاذ: يجوز للرجال الجلوس على الحرير، وهو منكر وغلط، ويحرم على النساء افتراش الحرير على الاصح.

(1/573)


قلت: الاصح، جواز افتراشهن، وبه قطع العراقيون، والمتولي، وغيره. والله أعلم. وهل للولي إلباس الصبي الحرير ؟ فيه أوجه. أصحها: يجوز قبل سبع سنين، ويحرم بعدها، وبه قطع البغوي. والثاني: يجوز مطلقا. والثالث: يحرم مطلقا. قلت: الاصح الجواز مطلقا، كذا صححه المحققون، منهم الرافعي في (المحرر) وقطع به الفوراني. قال صاحب (البيان): هو المشهور. ونص الشافعي والاصحاب: على تزيين الصبيان يوم العيد بحلي الذهب، والمصبغ، ويلحق به الحرير (1). والله أعلم. فرع: يجوز لبس الحرير في موضع الضرورة - كما قلنا - إذا فاجأته الحرب، أو احتاج لحر، أو برد، ويجوز للحاجة كالجرب. وفيه وجه: أنه لا يجوز، وهو منكر. ويجوز لدفع القمل في السفر، وكذا في الحضر على الاصح. قلت: قال أصحابنا: يجوز لبس الكتان، والقطن، والصوف، والخز، وإن كانت نفيسة غالية الاثمان، لان نفاستها بالصنعة. قال صاحب (البيان): يحرم على الرجل لبس الثوب المزعفر. ونقل البيهقي وغيره عن الشافعي رحمه الله: أنه نهى الرجل عن [ المزعفر، وأباح له المعصفر. قال البيهقي: والصواب إثبات نهي الرجل عن ] (2) المعصفر أيضا، للاحاديث الصحيحة فيه. قال: وبه قال الحليمي. قال: ولو بلغت أحاديثه الشافعي، لقال بها، وقد أوصانا بالعمل

(1/574)


بالحديث الصحيح. قال الشيخ أبو الفتح نصر المقدسي (1): يحرم تنجيد البيوت بالثياب المصورة وبغير المصورة، سواء فيه الحرير وغيره، والصواب في غير الحرير والمصور الكراهة دون التحريم (2) (3). قال صاحب (التهذيب): ولو بسط فوق الديباج ثوب قطن وجلس عليه، أو جلس على جبة محشوة بالحرير، جاز، ولو حشا المخدة بإبريسم، جاز استعمالها على الصحيح، كما قلنا في الجبة. قال إمام الحرمين: وظاهر كلام الائمة أن من لبس ثوبا ظهارته وبطانته قطن، وفي وسطه حرير منسوج، جاز. قال: وفيه نظر. ويكره أن يمشي في نعل واحدة، أو خف واحد، ويكره أن يتنعل قائما. والمستحب في لبس النعل وشبهه، أن يبدأ باليمين، ويبدأ بخلع اليسار، ولا يكره لبس خاتم الرصاص والحديد والنحاس على الصحيح، وبه قطع في (التتمة). ويجوز لبس خاتم الفضة للرجل في يمينه (4)، يساره، كلاهما سنة، لكن اليمين أفضل على الصحيح المختار. ويجوز للرجال والنساء لبس الثوب الاحمر والاخضر وغيرهما من المصبوغات بلا كراهة، إلا ما ذكرنا في المزعفر والمعصفر للرجال. قال صاحب (التتمة) و (البحر): يكره لبس الثياب الخشنة لغير غرض شرعي، ويحرم إطالة الثوب عن الكعبين للخيلاء، ويكره لغير الخيلاء، ولا فرق في ذلك بين حال الصلاة وغيرها، والسراويل والازار في حكم الثوب. وله لبس العمامة بعذبة وبغيرها، وحكم إطالة عذبتها حكم إطالة

(1/575)


الثوب. فقد روينا في (سنن أبي داود) والنسائي وغيرهما بإسناد حسن (2)، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (الاسبال في الازار والقميص والعمامة، من جر شيئا خيلاء لم ينظر الله إليه (يوم القيامة). والله أعلم.

(1/576)