روضة الطالبين وعمدة المفتين ط العلمية

روضة الطالبين - كتاب الصيد والذبائح
الحيوان المأكول، إنما يصير مذكى بأحد طريقين. أحدهما: الذبح في الحلق واللبة، وذلك في الحيوان المقدور عليه. والثاني: العقر المزهق في أي موضع كان، وذلك في غير المقدور عليه. ثم الذبح والعقر أربعة أركان. الاول: الذابح، والعاقر يشترط كونه مسلما أو كتابيا. وتحل ذبيحة الكتابي،

(2/505)


سواء فيه ما يستحله الكتابي، وما لا. وحقيقة الكتابي تأتي في كتاب النكاح إن شاء الله. تعالى. وفي ذبيحة المتولد بين الكتابي والمجوسية، قولان، كمناكحته، والمناكحة والذبيحة، لا يفترقان، إلا أن الامة الكتابية، تحل ذبيحتها دون مناكحتها. ولو صاد مجوسي سمكة، حلت، لان ميتتها حلال. وكما تحرم ذبيحة المجوسي، والوثني، والمرتد، وغيرهم ممن لا كتاب له، يحرم صيده بسهم، أو كلب. ويحرم ما يشارك فيه مسلما. فلو أمرا سكينا على حلق شاة، أو قطع هذا بعض الحلقوم، وهذا بعضه، أو قتلا صيدا بسهم أو كلب، فهو حرام. ولو رميا سهمين، أو أرسلا كلبين، فإن سبق سهم المسلم أو كلبه، فقتل الصيد، أو أنهاه إلى حركة المذبوح، حل، كما لو ذبح مسلم شاة، ثم قدها المجوسي. وإن سبق ما أرسله المجوسي، أو جرحاه معا، أو مرتبا، ولم يذفف واحد منهما، فهلك بهما، أو لم يعلم أيهما قتله، فحرام. وقال صاحب البحر: متى اشتركا في إمساكه وعقره، أو في أحدهما، وانفرد واحد بالآخر، أو انفرد كل واحد بأحدهما، فحرام. ولو كان لمسلم كلبان معلم وغيره، أو معلمان، ذهب أحدهما بلا إرسال، فقتلا صيدا، فكاشتراك كلبي المسلم والمجوسي. ولو هرب الصيد من كلب المسلم، فعارضه كلب مجوسي، فرده عليه، فقتله كلب المسلم، حل، كما لو ذبح المسلم شاة أمسكها مجوسي. ولو جرحه مسلم أولا، ثم قتله مجوسي، أو جرحه جرحا غير مذفف، ومات بالجرحين، فحرام. فلو كان المسلم أثخنه بجراحته، فقد ملكه. ويلزم المجوسي قيمته له، لانه أفسده بجعله ميتة. ويحل ما اصطاده المسلم بكلب المجوسي، كالذبح بسكينه. قلت: لو أكره مجوسي مسلما على ذبح شاة، أو محرم حلالا على ذبح صيد، فذبح، حل، ذكره الشيخ إبرهيم المروزي في مسألة الاكراه على القتل. والله أعلم. فرع تحل ذبيحة الصبي المميز على الصحيح، وفي غير المميز

(2/506)


والمجنون والسكران، قولان. أحدهما: الحل، كمن قطع حلق شاة يظنه خشبة. والثاني: المنع، كنائم بيده سكين وقعت على حلقوم شاة. وصحح الامام، والغزالي، وجماعة، الثاني. وقطع الشيخ أبو حامد وصاحب المهذب بالحل. قلت: الاظهر: الحل. والله أعلم. قال صاحب التهذيب: فإن كان للمجنون أدنى تمييز، وللسكران قصد، حل قطعا. وتحل ذبيحة الاعمى قطعا لكن تكره. وفي صيده بالكلب والرمي، وجهان. أصحهما: لا يحل. ومنهم من قطع به. وقيل: عكسه. والاشبه: أن الخلاف مخصص بما إذا أخبره بصير الصيد، فأرسل السهم أو الكلب. وكذا صورها في التهذيب، وأطلق الوجهين جماعة، ويجريان في اصطياد الصبي والمجنون بالكلب والسهم. وقيل: يختصان بالكلب، وقطع بالحل في السهم كالذبح. فرع الاخرس، إن كان له إشارة مفهومة، حلت ذبيحته، وإلا، فكالمجنون، قاله في التهذيب: ولتكن سائر تصرفاته على هذا القياس. قلت: الاصح: الجزم بحل ذبيحة الاخرس الذي لا يفهم، وبه قطع الاكثرون. والله أعلم.
الركن الثاني : الذبيح. الحيوان ثلاثة أقسام.

(2/507)


الاول: ما لا يؤكل. والثاني: مأكول يحل ميته. والثالث: مأكول، لا يحل ميته. فالاول: ذبحه كموته. والثاني: كالسمك والجراد، ولا حاجة إلى ذبحه. وهل يحل أكل السمك الصغار إذا شويت ولم يشق جوفها ويخرج ما فيه ؟ فيه وجهان. وجه الجواز: عسر تتبعها، وعلى المسامحة بها جرى الاولون. قال الروياني: بهذا أفتي، ورجيعها طاهر عندي، وهو اختيار القفال. ولو وجدت سمكة في جوف سمكة، فهي حلال، كما لو ماتت حتف أنفها، بخلاف ما لو ابتلعت طائرا فوجد ميتا في جوفها، لا يحل. ولو تقطعت السمكة في جوف سمكة، وتغير لونها، لم تحل على الاصح، لانها كالروث والقئ. ويكره ذبح السمك، إلا أن يكون كبيرا يطول بقاؤه، فيستحب ذبحه على الاصح، إراحة له. وقيل: يستحب تركه ليموت بنفسه. ولو ابتلع سمكة حية، أو قطع فلقة منها، لم يحرم على الاصح، لكن يكره. قلت: وطردوا الوجهين في الجراد. ولو ذبح مجوسي سمكة، حلت. ولو قلى السمك قبل موته، فطرحه في الزيت المغلي وهو يضطرب، قال الشيخ أبو حامد: لا يحل فعله، لانه تعذيب. وهذا تفريع على اختياره في ابتلاع السمكة حية: أنه حرام. وعلى إباحة ذلك، يباح هذا. والله أعلم. أما القسم الثالث: فضربان، مقدور على ذبحه، ومتوحش. فالمقدور عليه: لا يحل إلا بالذبح في الحلق واللبة، كما سبق في كتاب الاضحية، وسواء الانسي والوحشي إذا ظفر به. وأما المتوحش، كالصيد، فجميع أجزائه مذبح ما دام متوحشا. فلو رماه بسهم، أو أرسل عليه جارحة، فأصاب شيئا من بدنه ومات، حل بالاجماع. ولو توحش إنسي، بأن ند بعير، أو شردت شاة، فهو كالصيد، يحل بالرمي إلى غير

(2/508)


مذبحه، وبإرسال الكلب عليه. ولو تردى بعير في بئر، ولم يمكن قطع حلقومه، فهو كالبعير الناد في حله بالرمي. وهل يحل بإرسال الكلب ؟ وجهان. أصحهما عند صاحب البحر: التحريم، واختار البصريون الحل. قلت: الاصح: تحريمه. وصححه أيضا الشاشي. والله أعلم. وليس المراد بالتوحش مجرد الافلات، بل متى تيسر اللحوق بعدو، أو استعانة بمن مسك الدابة، فليس ذلك توحشا، ولا يحل إلا بالذبح في المذبح. ولو تحقق الشرود، وحصل العجز في الحال، فقد أطلق الاصحاب: أن البعير كالصيد، لانه قد يريد الذبح في الحال، فتكليفه الصبر إلى القدر، يشق عليه. قال الامام: والظاهر عندي: أنه لا يلحق بالصيد بذلك، لانها حالة عارضة قريبة الزوال، لكن لو كان الصبر والطلب يؤدي إلى مهلكة أو مسبعة، فهو حينئذ كالصيد. وإن كان يؤدي إلى موضع لصوص وغصاب مترصدين، فوجهان. والفرق أن تصرفهم وإتلافهم متدارك بالضمان. والمذهب: ما قدمناه عن الاصحاب. ثم في كيفية الجرح المفيد للحل في الناد والمتردي، وجهان. أصحهما وبه أجاب الاكثرون: يكفي جرح يفضي إلى الزهوق كيف كان. والثاني: لا بد من جرح مذفف، واختاره القفال، والامام. فصل إذا أرسل سلاحا، كسهم، وسيف، وغيرهما، أو كلبا معلما على صيد، فأصابه، ثم أدرك الصيد حيا، نظر، إن لم يبق فيه حياة مستقرة، بأن كان قطع حلقومه ومريه، أو أجافه، أو خرق أمعاءه، فيستحب أن يمر السكين على حلقه ليريحه. فإن لم يفعل، وتركه حتى مات، فهو حلال، كما لو ذبح شاة فاضطربت أو عدت. وإن بقيت فيه حياة مستقرة، فله حالان. أحدهما: أن يتعذر ذبحه بغير تقصير من صائده حتى يموت، فهو حلال أيضا، للعذر.

(2/509)


والثاني: أن لا يتعذر ذبحه، فتركه حتى مات، أو تعذر بتقصيره، فمن صور الحال الاول، فمات، فهو حرام، كما لو تردى بعير فلم يذبحه حتى مات. فمن صور الحال الاول أن يشغل بأخذ الآلة وسل السكين، فيموت قبل إمكان ذبحه. ومنها: أن يمتنع بما فيه من بقية قوة، ويموت قبل قدرته عليه. ومنها: أن لا يجد من الزمان ما يمكن الذبح فيه. ومن صور الثاني: أن لا يكون معه آلة ذبح، أو تضيع آلته منه، فلو نشبت في الغمد، فلم يتمكن من إخراجها حتى مات، فهو حرام على الصحيح، لان حقه أن يستصحب غمدا يواتيه. وقال أبو علي بن أبي هريرة، والطبري: يحل. ولو غصبت الآلة، فالصيد حرام على الاصح. والثاني: تحل كما لو لم يصل إلى الصيد لسبع حائل حتى مات، قال الروياني: ولو اشتغل بطلب المذبح فلم يجده حتى مات، فهو حلال، لانه لا بد منه، بخلاف ما لو اشتغل بتحديد السكين، لانه يمكن تقديمه. ولو كان يمر ظهر السكين على حلقه غلطا، فمات، فحرام، لانه تقصير. ولو وقع الصيد منكسا، واحتاج إلى قلبه ليقدر على الذبح، فمات، أو اشتغل بتوجيهه إلى القبلة، فمات، فحلال. ولو شك بعد موت الصيد، هل تمكن من ذكاته فيحرم، أم لم يتمكن فيحل ؟ فقولان. أظهرهما: يحل. وهل يشترط العدو إلى الصيد إذا أصابه السهم أو الكلب ؟ وجهان. أحدهما: نعم، لانه المعتاد في هذه الحالة، لكن لا يكلف المبالغة بحيث يفضي إلى ضرر ظاهر. وأصحهما: لا، بل يكفي المشي. وعلى هذا، فالصحيح الذي قطع به الصيدلاني، وصاحب التهذيب وغيرهما: أنه لو كان يمشي على هينته، فأدركه ميتا، حل وإن كان لو أسرع لادركه حيا. وقال الامام: عندي أنه لا بد من الاسراع قليلا، لان الماشي على هينته، خارج عن عادة الطلب. فإن شرطنا العدو، فتركه، فصادف الصيد ميتا ولم يدر أمات في الزمن الذي يسع العدو، أم بعده، فينبغي أن يكون على القولين، فيما إذا

(2/510)


شك في التمكن من الذكاة. فرع لو رمى صيدا فقده قطعتين متساويتين أو متفاوتتين، فهما حلال. ولو أبان منه - بسيف أو غيره - عضوا، كيد ورجل، نظر، إن أبانه بجراحة مذففة ومات في الحال، حل العضو وباقي البدن. وإن لم يذففه فأدركه وذبحه، أو جرحه جرحا آخر مذففا، فالعضو حرام، لانه أبين من حي، وباقي البدن حلال. وإن أثبته بالجراحة الاولى، فقد صار مقدورا عليه، فتعين ذبحه، ولا تجزئ سائر الجراحات. ولو مات من تلك الجراحة بعد مضي زمن، ولم يتمكن من ذبحه، حل باقي البدن، ولم يحل العضو على الاصح لانه أبين من حي، فهو كمن قطع ألية شاة ثم ذبحها، لا تحل الالية قطعا. والثاني: تحل، لان الجرح كالذبح للجملة، فتبعها العضو. وإن جرحه جراحة أخرى والحالة هذه، فإن كانت مذففة، فالصيد حلال، والعضو حرام، وإلا، فالصيد حلال أيضا، والعضو حرام على الصحيح، لان الابانة لم تتجرد ذكاة للصيد.
الركن الثالث : آلة الذبح والاصطياد، هي ثلاثة أقسام. الاول: المحددات الجارحة بحدها من الحديد، كالسيف، والسكين، والسهم، والرمح، أو من الرصاص أو من النحاس أو الذهب أو الخشب المحدد، أو القصب أو الزجاج أو الحجر، فيحصل الذبح بجميعها، ويحل الصيد المقتول بها، إلا الظفر والسن وسائر العظام، فإنه لا يحل بها، سواء عظم الآدمي وغيره، المتصل والمنفصل.

(2/511)


وفي وجه: أن عظم المأكول تحصل الذكاة به، وهو شاذ ضعيف. ولو ركب عظما على سهم، وجعله نصلا له، فقتل به صيدا، لم يحل على المشهور. القسم الثاني: الآلات المثقلات، إذا أثرت بثقلها دقا أو خنقا، لم يحل الحيوان، وكذا المحدد إذا قتل بثقله، بل لا بد من الجرح. فيحرم الطير إذا مات ببندقة رمي بها، خدشته، أم لا، قطعت رأسه، أم لا. ولو وقع صيد في بئر محفورة له، فمات بالانصدام، أو الخنق بأحبولة منصوبة له، أو كان رأس الحبل بيده، فجره ومات الصيد، أو مات بسهم لا نصل فيه ولا حد له، أو بثقل السيف، أو مات الطير الضعيف بإصابة عرض السهم، أو قتل بسوط، أو عصا، فكله حرام. ولو ذبح بحديدة لا تقطع، لم يحل، لان القطع هنا بقوة الذابح وشدة الاعتماد، لا بالآلة. ولو خسق فيه العصا ونحوه، حكى الروياني: أنه إن كان محددا يمور مور السلاح، فهو حلال. وإن كان لا يمور إلا مستكرها، نظر، إن كان العود خفيفا قريبا من السهم، حل. وإن كان ثقيلا، لم يحل. فرع إذا لم يجرح الكلب الصيد، لكن تحامل عليه، فقتله بضغطته، حل على الاظهر. فرع إذا مات الصيد بشيئين: محرم، ومبيح، بأن مات بسهم وبندقة أصاباه من رام أو راميين، أو صيب الصيد طرف من النصل، فيجرحه ويؤثر فيه عرض السهم في مروره فيموت منهما، أو يرمي إلى صيد سهما فيقع على طرف سطح، ثم يسقط منه، أو على جبل فيتدهور منه، أو يقع في ماء، أو على شجر فينصدم بأغصانه، أو يقع على محدد من سكين وغيره، فكل هذ حرام.

(2/512)


ولو تدحرج المجروح من الجبل من جنب إلى جنب، حل، ولا يضر ذلك، لانه لا يؤثر في التلف. وإن أصاب السهم الطائر في الهواء فوقع على الارض ومات، حل، سواء مات قبل وصوله الارض أو بعده، لانه لا بد من الوقوع، فعفي عنه، كما لو كان الصيد قائما فأصابه السهم ووقع على جنبه وانصدم بالارض ومات، فإنه يحل. ولو زحف على قليلا بعد إصابة السهم، فهو كالوقوع على الارض، فيحل. ولو لم يجرحه السهم في الهواء، لكن كسر جناحه فوقع ومات، فحرام، لانه لم يصبه جرح يحال الموت عليه. ولو كان الجرح خفيفا لا يؤثر مثله، لكن عطل جناحه فسقط ومات، فحرام. ولو جرحه السهم في الهواء فوقع في بئر، إن كان فيها ماء، فقد سبق بيانه، وإلا، فهو حلال، وقعر البئر كالارض. والمراد: إذا لم تصادمه جدران البئر. ولو كان الطائر على شجرة فأصابه السهم فوقع على الارض ومات، حل. وإن وقع على غصن ثم على الارض، لم يحل. وليس الانصدام بالاغصان، أو بأحرف الجبل عند التدهور من أعلاه، كالانصدام بالارض، فإن ذلك الانصدام ليس بلازم ولا غالب، والانصدام بالارض، لازم. وللامام احتمال في الصورتين، لكثرة وقوع الطير على الشجر، والانصدام بطرف الجبل إذا كان الصيد فيه. فرع إذا رمي طير الماء، إن كان على وجه الماء فأصابه ومات، حل، والماء له كالارض. وإن كان خارج الماء، ووقع فيه بعد إصابة السهم، ففي حله وجهان ذكرهما في الحاوي. وقطع في التهذيب: بالتحريم. وفي شرح مختصر الجويني: بالحل. فلو كان الطائر في هواء البحر، قال في التهذيب: إن كان الرامي في البر، لم يحل. وإن كان في السفينة في البحر، حل. فرع جميع ما ذكرنا فيما إذا لم ينته الصيد بتلك الجراحة إلى حركة

(2/513)


المذبوح. فإن انتهى إليها بقطع الحلقوم والمرئ، أو غيره، فقد تمت ذكاته، ولا أثر لما يعرض بعده. فرع لو أرسل كلب في عنقه قلادة محددة، فجرح الصيد بها، حل كما لو أرسل سهما، قاله في التهذيب. وقد يفرق بأنه قصد بالسهم الصيد، ولم يقصده بالقلادة. القسم الثالث: الجوارح، فيجوز الاصطياد بجوارح السباع، كالكلب، والفهد، والنمر، وغيرها. وبجوارح الطير، كالبازي، والشاهين، والصقر. وفي وجه يحكى عن أبي بكر الفارسي: لا يجوز الاصطياد بالكلب الاسود، وهو شاذ ضعيف. والمراد بجواز الاصطياد بها: أن ما أخذته وجرحته وأدركه صاحبها ميتا، أو في حركة المذبوح، حل أكله. ويقوم إرسال الصائد وجرح الجارح في أي موضع كان، مقام الذبح في المقدور عليه. وأما الاصطياد بمعنى إثبات الملك، فلا يختص، بل يحصل بأي طريق تيسر. ثم يشترط لحل ما قتله الجوارح، كون الجارح معلما. فإن لم يكن معلما، لم يحل ما قتله. فإن أدرك وفيه حياة مستقرة، ذكاه كغيره. ويشترط في كون الكلب معلما، أربعة أمور. أحدها: أن ينزجر بزجر صاحبه، كذا أطلقه الجمهور، وهو المذهب. وقال

(2/514)


الامام: يعتبر ذلك في ابتداء الامر. فأما إذا انطلق واشتد عدوه، في اشتراطه وجهان. أصحهما يشترط. الثاني: أن يسترسل بإرساله. ومعناه: أنه إذا أغري بالصيد هاج. الثالث: أن يمسك الصيد فيحبسه على صاحبه، ولا يخليه. الرابع: أن لا يأكل منه على المشهور. وفي قول شاذ: لا يضر الاكل. هذا حكم الكلب، وما في معناه من جوارح السباع. وذكر الامام: أن ظاهر المذهب: أنه يشترط أيضا أن ينطلق بإطلاق صاحبه، وأنه لو انطلق بنفسه، لم يكن معلما. ورآه الامام مشكلا، من حيث أن الكلب على أي صفة كان، إذا رأى صيدا بالقرب منه وهو على كلب الجوع، يبعد انكفافه. وأما جوارح الطير، فيشترط فيها أن تهيج عند الاغراء أيضا. ويشترط ترك أكلها من الصيد أيضا على الاظهر. قال الامام: ولا يطمع في انزجارها بعد الطيران، ويبعد أيضا اشتراط انكفافها في أول الامر. ثم في الفصل مسائل. إحداها: الامور المشترطة في التعليم، يشترط تكررها ليغلب على الظن تأدب الجارحة. والرجوع في عدد ذلك إلى أهل الخبرة بالجوارح، على الصحيح الذي اقتضاه كلام الجمهور. وقيل: يشترط تكرره ثلاث مرات. وقيل: مرتين. الثانية: إذا ظهر أنه معلم، ثم أكل من صيد قبل قتله أو بعده، ففي حل ذلك الصيد قولان. أظهرهما: لا يحل. قال الامام: وددت لو فصل فاصل بين أن ينكف زمانا ثم يأكل، وبين أن يأكل

(2/515)


بنفس الاخذ، لكن لم يتعرضوا له. قلت: فصل الجرجاني وغيره فقالوا: إن أكل عقيب القتل، ففيه القولان، وإلا، فيحل قطعا. والله أعلم. فإذا قلنا بالتحريم، فلا بد من استئناف التعليم، ولا ينعطف التحريم على ما اصطاده من قبل. فإذا قلنا بالحل، فتكرر أكله وصار عادة له، حرم الصيد الذي أكل منه بلا خلاف. وفي تحريم الصيود التي أكل منها من قبل، وجهان، وقد ترجح منهما التحريم. قال في التهذيب: إذا أكل من الصيد الثاني، حرم، وفي الاول، الوجهان. وإذا أكل من الثالث، حرم، وفيما قبله، الوجهان. وهذا ذهاب إلى أن الاكل مرتين، يخرجه عن كونه معلما. وقد ذكرنا خلافا في تكرر الصفات التي يصير بها معلما، ويجوز أن يفرق بينهما بأن أثر التعليم في الحل، وأثر الاكل في التحريم، فعملنا بالاحتياط فيهما. وعلى هذا، لو عرفنا كونه معلما، لم ينعطف الحل على ما سبق بلا خلاف. وفي انعطاف التحريم، الخلاف المذكور. ولو لعق الكلب الدم، لم يضر على الفذهب. وأشار الامام إلى وجه ضعيف. ولو أكل حشوة الصيد، فطريقان. أصحهما: على قولي اللحم. والثاني: القطع بالحل، لانها غير مقصودة كالدم. ولو لم يسترسل عند الارسال، أو لم ينزجر عند الزجر، فينبغي أن يكون في تحريم الصيد وخروجه عن كونه معلما، الخلاف في الاكل

(2/516)


قال القفال: لو أراد الصائد أخذ الصيد منه فامتنع، وصار يقاتل دونه، فهو كالاكل. وجوارح الطير إذا أكلت منه، وقلنا: يشترط في التعليم تركها الاكل، فطريقان. أصحهما: طرد القولين كالكلب. والثاني: القطع بالحل. الثالثة: معض الكلب من الصيد نجس، يجب غسله سبعا مع التعفير كغيره. فإذا غسل، حل أكله، هذا هو المذهب. وقيل: إنه طاهر. وقيل: نجس يعفى عنه ويحل أكله بلا غسل. وقيل: نجس لا يطهر بالغسل، بل يجب تقوير ذلك الموضع وطرحه، لانه يتشرب لعابه، فلا يتخلله الماء. قال الامام: وهذا القائل، يطرد ما ذكره في كل لحم، وما في معناه بعضه الكلب، بخلاف موضع يناله لعابه بغير عض. وقيل: إن أصاب ناب الكلب عرقا نضاخا بالدم، سرى حكم النجاسة إلى جميع الصيد، ولم يحل أكله. قال الامام: هذا غلط، لان النجاسة وإن اتصلت بالدم، فالعرق وعاء حاجز بينه وبين اللحم، ثم الدم إذا كان يفور، امتنع غوص النجاسة فيه كالماء المتصعد من فواره، إذا وقعت نجاسة على أعلاه، لم ينجس ما تحته. فرع ذكرنا أن النمر والفهد، كالكلب في حل ما قتلاه. وهكذا نص عليه الشافعي والاصحاب. وذكر الامام: أن الفهد يبعد فيه التعلم، لانفته وعدم انقياده. فإن تصور تعلمه على ندور، فهو كالكلب. وهذا الذي قاله، لا يخالف ما قاله الشافعي والاصحاب. وفي كلام الغزالي ما يوهم خلاف هذا، وهو محمول على ما ذكره الامام، فلا خلاف فيه.
الركن الرابع : نفس الذبح وعقر الصيد.
أما نفس الذبح، فسبق في باب الاضحية.

(2/517)


وأما العقر الذي يبيح الصيد بلا ذكاة، فهو الجرح المقصود المزهق الوارد على حيوان وحشي. أما الجرح، فيخرج عنه الخنق والوقذ ونحوهما. وأما القصد، فله ثلاث مراتب. الاولى: قصد أصل الفعل الجارح. فلو كان في يده سكين، فسقط فانجرح به صيد، ومات، أو نصب سكينا أو منجلا أو حديدة فانعقر به صيد ومات أو كان في يده سكين فاحتكت بها شاة، فانقطع حلقومها، أو وقعت على حلقها فقطعته، فهي حرام. وحكي وجه عن أبي إسحق: أنه تحل الشاة في صورة وقوع السكين من يده، ولا شك أن الصيد في معناها، وهذا الوجه شاذ ضعيف. ولو كان في يده حديدة فحركها، وحكت الشاة أيضا حلقها بالحديدة فحصل انقطاع حلقها بالحركتين، فهي حرام. فرع إذا استرسل الكلب المعلم بنفسه، فقتل صيدا، فهو حرام. فلو أكل منه، لم يقدح ذلك في كونه معلما، بلا خلاف، وإنما يعتبر الامساك إذا أرسله صاحبه. ولو زجره صاحبه لما استرسل، فانزجر ووقف، ثم أغراه فاسترسل وقتل الصيد، حل بلا خلاف. وإن لم ينزجر ومضى على وجهه، لم يحل، سواء زاد عدوه وحدته، أم لا. فلو لم يزجره، بل أغراه، فإن لم يزد عدوه، فحرام. وكذا إذا زاد على الاصح. فإن كان الاغراء وزيادة العدو بعد ما زجره، فلم ينزجر، فعلى الوجهين، وأولى بالتحريم، وبه قطع العراقيون. ولو أرسل مسلم كلبا، فأغراه مجوسي فازداد عدوه، فإن قلنا في الصورة السابقة: لا ينفأما ينقطع الاسترسال، ولا يؤثر الاغراء، حل هنا. ولا يؤثر إغراء المجوسي. وإن قطعناه، وأحلنا على الاغراء، لم يحل هنا، كذا ذكر الجمهور هذا البناء. وقطع في التهذيب: بالتحريم. واختاره القاضي أبو الطيب، لانه قطع للاول أو مشاركة، وكلاهما يحرمه.

(2/518)


ولو أرسل مجوسي كلبا فأغراه مسلم، فازداد عدوه، فوجهان بناء على عكس ما تقدم، ومنهم من قطع بالتحريم. ولو أرسل مسلم كلبه، فزجره فضولي فانزجر، ثم أغراه فاسترسل، فأخذ صيدا، فلمن يكون الصيد ؟ وجهان. أصحهما: للغاصب. ولو زجره فلم ينزجر، فأغراه، أو لم يزجره، بل أغراه وزاد عدوه، وقلنا: الصيد للغاصب، خرج على الخلاف في أن الاغراء يوسف يقطع حكم الابتداء، أم لا ؟ إن قلنا: لا، وهو الاصح، فالصيد لصاحب الكلب، وإلا، فللغاصب الفضولي. قال الامام: ولا يمتنع تخريج وجه باشتراكهما. فرع لو أصاب السهم الصيد بإعانة الريح، وكان يقصر عنه لولا الريح، حل قطعا، لانه لا يمكن الاحتراز عن هبوبها، هكذا صرح به الاصحاب كلهم، وأبدى الامام فيه ترددا. ولو أصاب الارض أو انصدم بحائط ثم ازدلف وأصاب الصيد، أو أصاب حجرا فنبا عنه وأصاب الصيد أو نفذ فيه إلى الصيد، أو كان الرامي في نزع القوس فانقطع الوتر وصدم الفوق فارتمى السهم وأصاب الصيد، حل على الاصح. المرتبة الثانية: قصد جنس الحيوان، فلو أرسل سهما في الهواء، أو فضاء من الارض، لاختبار قوته، أو رمى إلى هدف، فاعترض صيد فأصابه وقتله، وكان لا يخطر له الصيد، أو كان يراه، ولكن رمى إلى الهدف. أو ذئب، ولا يقصد الصيد فأصابه، لم يحل على الاصح المنصوص، لعدم قصده. ولو كان يجيل سيفه فأصاب عنق شاة وقطع الحلقوم والمرئ من غير علم بالحال، فقطع الامام وغيره: بأنها ميتة قد يجئ في هذا الخلاف وأيضا الوجه المنقول فيما لو وقع السكين من يده. ولو أرسل كلبا حيث لا صيد، فاعترض صيد فقتله، لم يحل على المذهب.

(2/519)


وفي الكافي للروياني وغيره: فيه وجهان، ولو رمى ما ظنه حجرا، أو جرثومة، أو آدميا معصوما، أو غير معصوم، أو خنزيرا، أو حيوانا آخر محرما، فكان صيدا فقتله، أو ظنه صيدا غير مأكول فكان مأكولا، أو قطع في ظلمة ما ظنه ثوبا، فكان حلق شاة، فانقطع الحلقوم والمرئ، أو أرسل كلبا إلى شاخص يظنه حجرا، فكان صيدا، أو لم يغلب على ظنه شئ من ذلك، أو ذبح في ظلمة حيوانا يظنه محرما، فبان أنه ذبح شاة، حل جميع ذلك على الصحيح. ولو رمى إلى شاته الربيطة سهما جارحا، فأصاب الحلقوم والمرئ وفاقا، وقطعهما، ففي حل الشاة مع القدرة على ذبحها احتمال للامام، وقال: ويجوز أن يفرق بين أن يقصد المذبح بسهمه، وبين أن يقصد الشاة فيصيب المذبح. قلت: الارجح: الحل. والله أعلم. المرتبة الثالثة: قصد عين الحيوان، فإذا رمى صيدا يراه، أو لا يراه، لكن يحس به في ظلمة، أو من وراء حجاب، بأن كان بين أشجار ملتفة وقصده، حل، فإن لم يعلم به، بأن رمى وهو لا يرجو صيدا فأصاب صيدا، ففيه الخلاف السابق في المرتبة الثانية. وإن كان يتوقع صيدا فبنى الرمي عليه، بأن رمى في ظلمة الليل وقال: ربما أصبت صيدا فأصابه، فأوجه. أصحها: التحريم. والثاني: يحل. والثالث: إن توقعه بظن غالب، حل، وإن كان مجرد تجويز، حرم. ولو رمى إلى سرب من الظباء، أو أرسل كلبا فأصاب واحدة منها، فهي حلال قطعا. ولو قصد منها ظبية بالرمي، فأصاب غيرها، فأوجه. أصحها: الحل مطلقا. والثاني: التحريم. والثالث: إن كان حالة الرمي يرى المصاب حل، وإلا، فلا. والرابع: إن كان المصاب من السرب الذي رآه ورماه، حل، وإلا، فلا. ومنهم من قطع بالحل، وسواء عدل السهم عن الجهة التي قصدها إلى غيرها، أم لا. ولو رمى شاخصا يعتقده حجرا، وكان حجرا، فأصاب ظبية، لم تحل على الاصح، وبه قطع الصيدلاني وغيره. وإن كان الشاخص صيدا، ومال السهم عنه وأصاب

(2/520)


صيدا آخر، ففيه الوجهان، وأولى بالحل. ولو رمى شاخصا ظنه خنزيرا، وكان خنزيرا، أو صيدا فلم يصبه، وأصاب ظبية، لم يحل على الاصح فيهما، لانه قصد محرما. والخلاف فيما إذا كان خنزيرا أضعف. ولو رمى شاخصا ظنه صيدا، فبان حجرا أو خنزيرا، أو أصاب السهم صيدا، قال في التهذيب: إن اعتبرنا ظنه فيما إذا رمى ما ظنه حجرا، فكان صيدا، وأصاب السهم صيدا آخر، وقلنا بالتحريم، فهنا يحل الصيد الذي أصابه. وإن اعتبرنا الحقيقة، وقلنا بالحل هناك، حرم هنا. وأما إذا أرسل كلبا على صيد، فقتل صيدا أخر، فينظر، إن لم يعدل عن جهة الارسال، بل كان فيها صيود، فأخذ غير ما أغراه عليه، حل على الصحيح كما في السهم، وإن عدل إلى جهة أخرى، فأوجه. أصحها: الحل، لانه تعسر تكليفه ترك العدول، ولان الصيد لو عدل فتبعه، حل قطعا. والثاني: يحرم. والثالث وهو اختيار صاحب الحاوي: إن خرج عادلا عن الجهة، حرم، وإن خرج إليها ففاته الصيد، فعدل إلى غيرها وصاد، حل، لانه يدل على حذقه حيث لم يرجع خائبا. وقطع الامام بالتحريم إذا عدل وظهر من عدوله واختياره بأن امتد في جهة الارسال زمانا ثم ثار صيد آخر فاستدبر المرسل إليه وقصد الآخر. وأما كون الجرح مزهقا، فيخرج منه ما لو مات بصدمة أو افتراس سبع، أو أعان ذلك الجرح غيره على ما بينا في نظائره، فلا يحل. ولو غاب عنه الكلب والصيد، ثم وجده ميتا، لم يحل على الصحيح، لاحتمال موته بسبب آخر، ولا أثر لتضمخه بدمه، فربما جرحه الكلب وأصابته جراحة أخرى. وإن جرحه فغاب، ثم أدركه ميتا، فإن انتهى إلى حركة المذبوح بالجرح، حل، ولا أثر لغيبته. وإن لم ينته، فإن وجد في ماء، أو وجد عليه أثر صدمة أو جراحة أخرى، لم يحل. وإن لم يكن عليه أثر آخر، فثلاث طرق. أحدها: يحل قطعا. والثاني: يحرم قطعا. وأصحها على قولين. أظهرهما عند الجمهور من العراقيين وغيرهم: التحريم. وأظهرهما عند صاحب

(2/521)


التهذيب: التحليل، وتسمى هذه: مسألة الانماء. قلت: الحل أصح دليلا. وصححه أيضا الغزالي في الاحياء: وثبتت فيه الاحاديث الصحيحة، ولم يثبت في التحريم شئ، وعلق الشافعي الحل على صحة الحديث. والله أعلم.
فصل تستحب التسمية عند الذبح، وعند إرسال الكلب والسهم. وقد سبق بيان ذلك، وما يتفرع عليه، في باب الاضحية.
فصل في بيان ما يملك به الصيد
يملك بطرق. منها: أن يضبطه بيده، ولا يعتبر قصد التملك في أخذه بيده، حتى لو أخذ صيدا لينظر إليه، ملكه. ولو سعى خلف صي فوقف الصيد للاعياء، لم يملكه حتى يأخذه بيده. ومنها: أن يجرحه جراحة مذففة، أو يرميه فيثخنه ويزمنه، فيملكه، وكذا إن كان طائرا فكسر جناحه، فعجز عن الطيران والعدو جميعا. ويكفي للتملك إبطال شدة العدو وصيرورته بحيث يسهل لحاقه. ولو جرحه فعطش فثبت، لم يملكه إن كان العطش لعدم الماء. وإن كان لعجزه عن الوصول إلى الماء، ملكه، لان عجزه بالجراحة. ومنها: وقوعه في شبكة منصوبة له. فلو طرده طارد فوقع في الشبكة، فهو لصاحب الشبكة، لا للطارد. وفي الحاوي: أنه لو وقع في شبكة ثم تقطعت فأفلت الصيد، فإن كان ذلك بقطع الصيد الواقع، عاد مباحا، فيملكه من صاده، وإلا، فهو باق على ملك صاحب الشبكة، فلا يملكه غيره. وقال الغزالي في

(2/522)


الوسيط في باب النثر: لو وقع في شبكته فأفلت، لم يزل ملكه على الصحيح. ومنها: إذا أرسل كلبا فأثبت صيدا، ملكه، فلو أرسل سبعا آخر فعقره وأثبته، قال في الحاوي: إن كان له يد على السبع، ملكه كإرسال الكلب، وإلا، فلا. وإن أفلت الصيد بعد ما أخذه الكلب، ففي البحر: أن بعض الاصحاب قال: إن كان ذلك قبل أن يدركه صاحبه، لم يملكه، وإلا، فوجهان، لانه لم يقبضه، ولا زال امتناعه. قلت: أصحهما: لا يملكه. والله أعلم. ومنها: إذا ألجأه إلى مضيق لا يقدر على الانفلات منه، ملكه. وذلك بأن يدخله بيتا ونحوه. وقد يرجع جميز هذا إلى شئ واحد، فيقال: سبب ملك الصيد إبطال امتناعه، وحصول الاستيلاء عليه، وذلك يحصل بالطرق المذكورة. فرع لو توحل صيد بمزرعته وصار مقدورا عليه فوجهان. أحدهما: يملكه كما لو وقع في شبكته. وأصحهما: لا، لان لا يقصد بسقي الارض الاصطياد. قال الامام: الخلاف فيما إذا لم يكن سقى الارض بما يقصد به توحل الصيود، فإن كان يقصد، فهو كنصب الشبكة. ولم يتعرض الروياني لمزرعة الشخص، بل قال: لو توحل وهو في طلبه، لم يملكه، لان الطين ليس من فعله. فلو كان هو أرسل الماء في الارض، ملكه، لان الوحل حصل بفعله، فهو كالشبكة. ويشبه أن يرجع هذا إلى ما ذكره الامام من قصد الاصطياد بالسقي. ولو وقع صيد في أرضه وصار مقدورا عليه، أو عشش طائر فيها وباض وفرخ، وحصلت القدرة على البيض والفرخ، لم يملكه على الاصح، وبه قطع في التهذيب وقال: لو حفر حفرة لا للصيد، فوقع فيها صيد، لم يملكه. وإن حفر للصيد، ملك ما وقع فيه. ولو أغلق باب الدار لئلا يخرج، ملكه، قال الامام: قال الاصحاب: إذا

(2/523)


قلنا: لا يملكه صاحب الدار، فهو أولى بتملكه، وليس لغيره أن يدخل ملكه ويأخذه. فإن فعل، فهل يملكه ؟ وجهان كمن تحجر مواتا وأحياه غيره، هل يملكه ؟ وهذه الصورة أولى بثبوت الملك، لان التحجر، للاحياء، ولا يقصد ببناء الدار تملك الصيد الواقع فيها. ولو قصد ببناء الدار، تعشيش الطائر، فعشش فيها طير، أو وقعت الشبكة من يده بغير قصد، فتعقل بها صيد، فوجهان، لانه وجد في الاولى قصد، لكنه ضعيف. وفي الثانية: حصل استيلاء بملكه، لكن بلا قصد. والاصح: أنه يملك في الاولى. دون الثانية. فرع لو اضطر سمكة إلى بركة صغيرة، أو حوض صغير على شط نهر، ملكها كما سبق فيمن ألجأ صيدا إلى مضيق. والصغير ما يسهل أخذها منه. فلو دخلت بنفسها، عاد الخلاف فيما إذا دخل الصيد ملكه. فإن قلنا بالاصح: إنه لا يملك بالدخول، فسد منافذ البركة، ملكها، لانه تسبب إلى ضبطها. ولو اضطرها إلى بركة واسعة يعسر أخذ السمكة منها، أو دخلتها السمكة فسد منافذها، لم يملكها، لكن يثبت له اختصاص كالمتحجر. فرع لو دخل بستان غيره وصاد فيه طائرا، ملكه الصائد بلا خلاف. فصل من ملك صيدا، ثم أفلت منه، لم يزل ملكه عنه. ومن أخذه، لزمه رده إليه، وسواء كان يدور في البلد وحوله، أو التحق بالوحوش. ولو أرسله مالكه، لم يزل عنه ملكه على الاصح المنصوص كما لو سيب دابته، ولا يجوز ذلك، لانه يشبه سوائب الجاهلية، لانه قد يختلط بالمباح فيصاد. وقيل: يزول.

(2/524)


وقيل: إن قصد بإرساله التقرب إلى الله تعالى، زال، وإلا، فلا. فإن قلنا: يزول، عاد مباحا، فمن صاده ملكه، وإن قلنا: لا يزول، لم يجز لغيره أن يصيده إذا عرفه. فإن قال عند الارسال: أبحته لمن أخذه، حصلت الاباحة، ولا ضمان على من أكله، لكن لا ينفذ تصرفه فيه. وإذا قلنا بالوجه الثالث، فأرسله تقربا إلى الله تعالى، فهل يحل اصطياده لرجوعه إلى الاباحة، أم لا، كالعبد المعتق ؟ وجهان. قلت: الاصح: الحل، لئلا يصير في معنى سوائب الجاهلية. والله أعلم. ولو ألقى كسرة خبز معرضا، فهل يملكها من أخذها ؟ فيه وجهان مرتبان على إرسال الصيد. وأولى بأن لا يملك، بل تبقى على ملك الملقي، لان سبب الملك في الصيد، اليد، وقد أزالها. قال الامام: هذا الخلاف في زوال الملك، وما فعله إباحة للطاعم في ظاهر المذهب، لان القرائن الظاهرة، تكفي الاباحة. هذا لفظ الامام، ويوضحه ما نقل عن الصالحين من التقاط السنابل.

(2/525)


قلت: الاصح: أنه يملك الكسرة والسنابل ونحوها، ويصح تصرفه فيها بالبيع وغيره، وهذا ظاهر أحوال السلف، ولم يحك أنهم منعوا من أخذ شيئا من ذلك، من التصرف فيه. والله أعلم. فرع لو أعرض عن جلد ميتة، فأخذ غيره ودبغه، ملكه على المذهب، لانه لم يكن مملوكا للاول، وإنما كان له اختصاص ضعيف زال بالاعراض. فرع من صاد صيدا عليه أثر ملك، بأن كان موسوما، أو مقرطا، أو مخضوبا، أو مقصوص الجناح، لم يملكه، لانه يدل على أنه كان مملوكا فأفلت، ولا ينظر إلى احتمال أنه صاده محرم، ففعل به ذلك ثم أرسله، فإنه تقدير بعيد. فرع لو صاد سمكة في جوفها درة مثقوبة، لم يملك الدرة، بل تكون لقطة. وإن كانت غير مثقوبة، فهي له مع السمكة. ولو اشترى سمكة فوجد في جوفها ذرة غير مثقوبة، فهي للمشتري. وإن كانت مثقوبة، فهي للبائع إن ادعاها، كذا قال في التهذيب. ويشبه أن يقال: الدرة لصائد السمكة، كالكنز الموجود في الارض يكون لمحييها.
فصل إذا تحول بعض حمام برجه إلى برج غيره. فإن كان المتحول ملكا للاول، لم يزل ملكه عنه، ويلزم الثاني رده. فإن حصل بينهما بيض أو فرخ، فهو تبع للانثى دون الذكر. ولو ادعى تحول حمامه إلى برج غيره، لم يصدق إلا ببينة، والورع أن يصدقه، إلا أن يعلم كذبه. وإن كان المتحول مباحا دخل برج الاول، فعلى الخلاف السابق في دخول الصيد ملكه. فإن قلنا بالاصح: إنه لا يملكه، فللثاني أن يتملكه ومن دخل برجه حمام وشك هل هو مباح، أم مملوك ؟ فهو أولى به، وله التصرف فيه، لان الظاهر أنه مباح. ولو تحقق أنه اختلط بملكه ملك غيره،

(2/526)


وعسر التمييز، ففي التهذيب: أنه لو اختلطت حمامة واحدة بحماماته، فله أن يأكل بالاجتهاد واحدة واحدة حتى تبقى واحدة. كما لو اختلطت ثمرة الغير بثمره. والذي حكاه الروياني: أنه ليس له أن يأكل واحدة منها حتى يصالح ذلك الغير أو يقاسمه. ولهذا قال بعض مشايخنا: ينبغي للمتقي أن يجتنب طير البروج، وأن يجتنب بناءها. ونقل الامام وغيره: أنه ليس لواحد منهما التصرف في شئ منها ببيع أو هبة لثالث، لانه لا يتحقق الملك. ولو باع أحدهما أو وهب للآخر، صح على الاصح، وتحتمل الجهالة للضرورة. ولو باعا الحمام المختلط كله أو بعضه لثالث، ولا يعلم كل واحد منهما عين ماله، فإن كان الاعداد معلومة كمائتين ومائة، والقيمة متساوية، ووزعا الثمن على أعدادهما، صح البيع باتفاق الاصحاب، وإن جهلا العدد، لم يصح، لانه لا يعلم كل واحد حصته من الثمن. فالطريق أن يقول كل واحد: بعتك الحمام الذي لي في هذا البرج بكذا، فيكون الثمن معلوما. ويحتمل الجهل في المبيع للضرورة. قال في الوسيط: لو تصالحا على شئ، صح البيع واحتمل الجهل بقدر المبيع، ويقرب من هذا، ما أطلق في مقاسمتهما. واعلم أن الضرورة قد تجوز المسامحة ببعض الشروط المعتبرة في العقود، كالكافر إذا أسلم على أكثر من أربع نسوة ومات قبل الاختيار، يصح اصطلاحهن على القسمة بالتساوي أو بالتفاوت مع الجهل بالاستحقاق، فيجوز أن تصح القسمة هنا أيضا بحسب تراضيهما، ويجوز أن يقال: إذا قال كل منهما: بعت مالي من حمام هذا البرج بكذا، والاعداد مجهولة، يصح أيضا مع الجهل بما يستحق كل واحد منهما، والمقصود أن ينفصل الامر بحسب ما يتراضيان عليه ولو باع أحدهما جميع حمام البرج بإذن الآخر، فيكون أصيلا في البعض ووكيلا في البعض، جاز، ثم يقتسمان الثمن. فرع لو اختلطت حمامة مملوكة، أو حمامات بحمامات مباحة محصورة، لم يجز الاصطياد منها.

(2/527)


ولو اختلطت بحمام ناحية، جاز الاصطياد في الناحية. ولا يتغير حكم ما لا يحصر في العادة باختلاط ما يحصر به. وإن اختلط حمام أبراج مملوكة لا يكاد يحصر بحمام بلدة أخرى مباحة، ففي جواز الاصطياد منها وجهان. أصحهما: يجوز، وإليه ميل معظم الاصحاب. قلت: من أهم ما يجب معرفته، ضبط العدد المحصور، فإنه يتكرر في أبواب الفقه وقل من بينه، قال الغزالي في الاحياء في كتاب الحلال والحرام: تحديد هذا غير ممكن، وإنما يضبط بالتقريب. قال: فكل عدد لو اجتمع في صعيد واحد، يعسر على الناظر عدهم بمجرد النظر، كالالف ونحوه، فهو غير محصور. وما سهل كالعشرة والعشرين، فهو محصور وبين الطرفين أوساط متشابهة تلحق بأحد الطرفين بالظن. وما وقع فيه الشك، استفتي فيه القلب. والله أعلم. فرع إذا انثالت حنطته على حنطة غيره، أو انصب مائعه في مائعه، وجهلا قدرهما، فليكن الحكم فيهما على ما ذكرنا في الحمام المختلط. فرع لو ملك الماء بالاستقاء، ثم انصب في نهر، لم يزل ملكه منه، ولا يمنع الناس من الاستقاء، وهو في حكم اختلاط المحصور بغير محصور. قلت: ولو اختلط درهم حرام، أو درهم بدراهمه ولم تتميز، أو دهن بدهن، أو نحو ذلك، قال الغزالي في الاحياء وغيره من أصحابنا: طريقه: أن يفصل قدر الحرام فيصرفه إلى الجهة التي يحب صرفه إليها، ويبقى الباقي له يتصرف فيه بما أراد. والله أعلم.
فصل في الاشتراك والازدحام على الصيد وله أربعة أحوال. الاول: أن يتعاقب جرحان من اثنين. فالاول منهما إن لم يكن مذففا ولا مزمنا، بل بقي على امتناعه، وكان الثاني مذففا أو مزمنا، فالصيد للثاني، ولا شئ على الاول بجراحته. وإن كان جرح الاول مذففا، فالصيد للاول، وعلى الثاني أرش ما نقص من لحمه وجلده. وإن كان جرح الاول مزمنا، فله الصيد به، وينظر في الثاني، فإن ذفف بقطع

(2/528)


الحلقوم والمرئ، فهو حلال للاول، وعلى الثاني ما بين قيمته مذبوحا ومزمنا. قال الامام: وإنما يظهر التفاوت إذا كان فيه حياة مستقرة، فإن كان متألما، بحيث لو لم يذبح لهلك، فما عندي أنه ينقص منه بالذبح شئ. وإن ذفف الثاني لا بقطع الحلقوم والمرئ، أو لم يذفف ومات بالجرحين، فهو ميتة. وكذا الحكم لو رمى إلى صيد فأزمنه، ثم رمى إليه ثانيا وذفف لا بقطع المذبح، ويجب على الثاني كمال قيمة الصيد مجروحا إن ذفف. فإن جرح بلا تذفيف، ومات بالجرحين، ففيما يجب عليه كلام له مقدمة نذكرها أولا، وهي: إذا جنى رجل على عبد أو بهيمة، أو صيد مملوك قيمته عشرة دنانير، جراحة أرشها دينار، ثم جرحه آخر جراحة أرشها دينار أيضا، فمات بالجرحين، ففيما يلزم الجارحين، أوجه. أحدها: يجب على الاول خمسة دنانير، وعلى الثاني أربعة ونصف، لان الجرحين سريا وصارا قتلا، فلزم كل واحد نصف قيمته يوم جنايته، قاله ابن سريج، وضعفه الائمة، لان فيه ضياع نصف دينار على المالك. والثاني، قاله المزني، وأبو إسحق، والقفال: يلزم كل واحد خمسة. وعلى هذا لو نقصت جناية الاول دينارا، والثاني دينارين، لزم الاول أربعة ونصف، والثاني خمسة ونصف، ولو نقصت جناية الاول دينارين، والثاني دينارا، انعكس، فيلزم الاول خمسة ونصف، والثاني أربعة ونصف. وضعفوا هذا الوجه، لانه سوى بينهما مع اختلاف قيمته حال جنايتهما. والوجه الثالث، حكاه الامام عن القفال أيضا: يلزم الاول خمسة ونصف، والثاني خمسة، لان جناية كل واحد نقصت دينارا، ثم سرتا، والارش يسقط إذا صارت الجناية نفسا، فيسقط عن كل واحد نصف الارش، لان الموجود منه نصف القتل. واعترض عليه، بأن فيه زيادة الواجب على المتلف. وأجاب القفال، بأن الجناية قد تنجر إلى إيجاب زيادة، كمن قطع يدي عبد فقتله آخر، وأجيب عنه،

(2/529)


بأن قاطع اليدين لا شركة له في القتل، والقتل يقطع أثر القتل، ويقع موقع الاندمال، وهنا بخلافه. والوجه الرابع، قال أبو الطيب بن سلمة: يلزم كل واحد نصف قيمته يوم جنايته، ونصف الارش، لكن لا يزيد الواجب على القيمة، فيجمع ما لزمهما تقديرا، وهو عشرة ونصف، ويقسم القيمة وهي عشرة على العشرة والنصف، ليراعي التفاوت بينهما، فتبسط أنصافا، فتكون أحدا وعشرين، فيلزم الاول أحد عشر جزءا من أحد وعشرين جزءا من شرة، ويلزم الثاني عشرة من أحد وعشرين من عشرة، وفيه ضعف، لافراد أرش الجناية عن بدل النفس. والوجه الخامس، عن صاحب التقريب وغيره، واختاره الامام، والغزالي: يلزم الاول خمسة ونصف، والثاني أربعة ونصف، لان الاول لو انفرد بالجرح والسراية، لزمه العشرة، فلا يسقط عنه إلا ما يلزم الثاني، والثاني إنما جنى على نصف ما يساوي تسعة، وفيه ضعف أيضا. والوجه السادس، قاله ابن خيران، واختاره صاحب الافصاح، وأطبق العراقيون على ترجيحه: أنه يجمع بين القيمتين، فيكون تسعة عشر، فيقسم عليه ما فوتا وهو عشرة، فيكون على الاول عشرة أجزاء من تسعة عشر جزءا من عشرة، وعلى الثاني تسعة أجزاء من تسعة عشر جزءا من عشرة. أما إذا كان الجناة ثلاثة، وأرش كل جناية دينار والقيمة عشرة، فعلى طريقة المزني: يلزم كل واحد منهم ثلاثة وثلث. وعلى الوجه الثالث: يلزم الاول أربعة، منها ثلاثة وثلث هي ثلث القيمة، وثلثان وهما ثلثا الارش. ويلزم الثاني ثلاثة وثلثان، ثلاثة منها ثلث القيمة يوم جنايته، وثلثان هما ثلث الارش، ويلزم الثالث، ثلاثة، منها ديناران وثلث هي ثث القيمة يوم جنايته، وثلثان هما ثلثا الارش، فالجملة عشرة وثلثان. وعلى الوجه الرابع: توزع العشرة على عشرة وثلثين. وعلى الخامس: يلزم الاول أربعة وثلث، والثاني ثلاثة، والثالث ديناران وثلثان. وعلى السادس: تجمع القيم، فتكون سبعة وعشرين، فتقسم العشرة عليها.

(2/530)


أما إذا جرح مالك العبد أو الصيد جراحة، وأجنبي أخرى، فينظر في جناية المالك، أهي الاولى، أم الثانية ؟ وتخرج على الاوجه، فتسقط حصته وتجب حصة الاجنبي. وعن القاضي أبي حامد: أن المذكور في الجنايتين على العبد، هو فيما إذا لم يكن للجناية أرش مقدر، فإن كان، فليس العبد فيها كالبهيمة والصيد المملوك، حتى لو جنى على عبد غيره جناية ليس لها أرش مقدر، وقيمته مائة، فنقصته الجناية عشرة، ثم جنى آخر جناية لا أرش لها، فنقصت عشرة أيضا، ومات العبد منهما، فعلى الاول خمسة وخمسون، وعلى الثاني خمسون يدفع منها خمسة إلى الاول. قال: فلو قطع رجل يد عبد قيمته مائة، ثم قطع آخر يده الاخرى، لزم الاول نصف أرش اليد وهو خمسة وعشرون، ونصف قيمته يوم جنايته وهو خمسون، ولزم الثاني نصف أرش اليد، وهو خمسة وعشرون، ونصف القيمة يوم جنايته وهو أربعون، فالجملة مائة وأربعون جميعها للسيد، لان الجناية التي لها أرش مقدر، يجوز أن يزيد واجبها على قيمة العبد، كما لو قطع يديه فقتله آخر. هذا بيان المقدمة، ونعود إلى مسألة الصيد فنقول: إذا جرح الثاني جراحة غير مذففه، ومات الصيد بالجرحين، نظر، إن مات قبل أن يتمكن الاول من ذبحه، لزم الثاني تمام قيمته مزمنا، لانه صار ميتة بفعله، بخلاف ما لو جرح شاة نفسه، وجرحها آخر وماتت، فإنه لا يجب على الثاني إلا نصف القيمة، لان كل واحد من الجرحين هناك حرام، والهلاك حصل بهما، وهنا فعل الاول اكتساب وذكاة. ثم مقتضى كلامهم أن يقال: إذا كان الصيد يساوي عشرة غير مزمن، وتسعة مزمنا، لزم الثاني تسعة. واستدرك صاحب التقريب فقال: فعل الاول وإن لم يكن إفسادا، فيؤثر في الذبح وحصول الزهوق قطعا، فينبغي أن يعتبر فيقال: إذا كان غير مزمن يساوي عشرة، ومزمنا تسعة، ومذبوحا ثمانية، لزمه ثمانية ونصف، فإن الدرهم أثر في فواته الفعلان، فيوزع عليهما. قال الامام: وللنظر في هذا مجال، ويجوز أن يقال: المفسد يقطع أثر فعلي الاول من كل وجه. والاصح: ما ذكره صاحب التقريب. وإن تمكن من ذبحه فذبحه، لزم الثاني أرش جراحته إن نقص بها، وإن لم يذبحه وتركه حتى مات، فوجهان. أحدهما: لا شئ على الثاني سوى أرش النقص، لان الاول مقصر بترك الذبح. وأصحهما: يضمن زيادة على الارش، ولا

(2/531)


يكون تركه الذبح مسقطا للضمان، كما لو جرح رجل شاته فلم يذبحها مع التمكن، لا يسقط الضمان. فعلى هذا فيما يضمن وجهان، قال الاصطخري: كمال قيمته مزمنا، كما لو ذفف، بخلاف ما إذا جرح عبده أو شاته وجرحه غيره أيضا، لان كل واحد من الفعل هناك إفساد، والتحريم حصل بهما، وهنا الاول إصلاح. والاصح وقول جمهور الاصحاب: لا يضمن جميع القيمة، بل هو كمن جرح عبده وجرحه غيره، لان الموت حصل بهما، وكلاهما إفساد. أما الثاني، فظاهر. وأما الاول، فلان ترك الذبح مع التمكن، يجعل الجرح وسرايته إفسادا. ولهذا لو لم يوجد الجرح الثاني فترك الذبح، كان الصيد ميتة. فعلى هذا تجئ الاوجه في كيفية التوزيع على الجرحين، فحصة الاول تسقط، وحصة الثاني تجب. الحال الثاني: إذا وقع الجرحان معا، نظر إن تساويا في سبب الملك، فالصيد بينهما، وذلك بأن يكون كل واحد مذففا، أو مزمنا لو انفرد، أو أحدهما مزمنا، والآخر مذففا، وسواء تفاوت الجرحان صغيرا وكبيرا، أو تساويا، أو كانا في المذبح، أو غيره، أو أحدهما فيه، والآخر في غيره. وإن كان أحدهما مذففا، أو مزمنا لو انفرد والآخر غير مؤثر، فالصيد لمن ذفف أو أزمن، ولا ضمان على الثاني، لانه لم يجرح ملك الغير. ولو احتمل أن يكون الازمان بهما أو بأحدهما، فالصيد بينهما في ظاهر الحكم، ويستحب أن يستحل كل واحد الآخر تورعا. ولو علمنا أن أحدهما مذفف، وشككنا هل للآخر أثر في الازمان والتذفيف، أم لا ؟ قال القفال: هو بينهما. فقيل له: لو جرح رجل جراحة مذففة، وجرحه أخر جراحة لا ندري أهي مذففة، أم لا ؟ فمات، فقال: يجب القصاص عليهما. قال الامام: هذا بعيد، والوجه تخصيص القصاص بصاحب المذففة. وفي الصيد، يسلم نصفه لمن جرحه مذففا، ويوقف نصفه بينهما إلى التصالح أو تبين الحال. فإن لم يتوقع بيان، جعل النصف الآخر بينهما نصفين. الحال الثالث: إذا ترتب الجرحان، وأحدهما مزمن لو انفرد، والآخر مذفف وارد على المذبح، ولم يعرف السابق، فالصيد حلال. فإن اختلفا وادعى كل واحد أنه جرحه أولا وأزمنه، وأنه له، فلكل واحد تحليف الآخر. فإن حلفا، فالصيد بينهما، ولا شئ لاحدهما على الآخر. فإن حلف أحدهما فقط، فالصيد له، وله على الناكل أرش ما نقص بالذبح. ولو ترتبا، وأحدهما مزمن، والآخر مذفف في

(2/532)


غير المذبح، ولم يعرف السابق، فالمذهب: أن الصيد حرام، لاحتمال تقدم الازمان، فلا يحل بعده إلا بقطع الحلقوم والمرئ. وقيل: فيه قولان، كمسألة الانماء السابقة. ووجه الشبه: اجتماع المبيح والمحرم. والفرق على المذهب: أنه يقدم هناك جرح يحال عليه. فإن ادعى كل وإحد أنه أزمنه أولا، وأن الآخر أفسده، فلكل واحد تحليف الآخر. فإن حلفا، فذاك. وإن حلف أحدهما، لزم الناكل قيمته مزمنا. ولو قال الجارح أولا: أزمنته أنا، ثم أفسدته بقتلك، فعليك القيمة. وقال الثاني: لم تزمنه، بل كان على امتناعه إلى أن رميته فأزمنته أو ذففته. فإن اتفقا على عين جراحة الاول، وعلمنا أنه لا يبقى امتناع معها، ككسر جناحه، وكسر رجل الممتنع بعدوه، فالقول قول الاول بلا يمين، وإلا، فقول الثاني، لان الاصل بقاء الامتناع. فإن حلف، فالصيد له، ولا شئ عليه للاول، وإن نكل، حلف الاول، واستحق قيمته مجروحا بالجراحة الاولى، ولا يحل الصيد، لانه ميتة بزعمه. وهل للثاني أكله ؟ وجهان. قال القاضي الطبري: لا، لان إلزامه القيمة حكم بأنه ميتة. وقيل: نعم، لان النكول في خصومة الآدمي لا تغير الحكم فيما بينه وبين الله تعالى. ولو علمنا أن الجراحة المذففة سابقة على التي لو انفردت لكانت مزمنة، فالصيد حلال. فإن قال كل واحد: أنا ذففته، فلكل تحليف الآخر. فإن حلفا، كان بينهما. وإن حلف أحدهما، فالصيد له، وعلى الآخر ضمان ما نقص. فرع قال الشافعي رضي الله عنه في المختصر: لو رماه الاول والثاني، ولم يدر أجعله الاول ممتنعا، أم لا، جعلناه بينهما نصفين. واعترض عليه فقيل: ينبغي أن يحرم هذا الصيد، لاجتماع ما يقتضي الاباحة والتحريم. وبتقدير الحل، ينبغي أن لا يكون بينهما، بل لمن أثبته. واختلف في الجواب، فقيل: النص محمول على ما إذا أصاب المذبح، فيحل، سواء أصابه الاول أو الثاني، أو على ما إذا رمياه ولم يمت، ثم أدركه

(2/533)


أحدهما، فذكاه، ثم اختلفا فيه. وإنما كان بينهما، لانه في أيديهما. وقد يجعل الشئ لاثنين، وإن كنا نعلمه في الباطن لاحدهما، كمن مات عن ابنين، مسلم ونصراني، وادعى كل واحد أنه مات على دينه. وحمل أبو إسحق النص على ظاهره فقال: إذا رمياه مات، ولم يدر أثبته الاول، أم الثاني، كان الاصل بقاؤه على امتناعه إلى أن عقره الثاني، فيكون عقره ذكاة، ويكون بينهما لاحتمال الاثبات من كليهما ولا مزية. وقيل: في حله قولان، كمسألة الانماء. الحال الرابع: إذا ترتب الجرحان وحصل الازمان بمجموعهما، وكل واحد لو انفرد لم يزمن، فالاصح عند الجمهور: أن الصيد للثاني. وقيل: بينهما، ورجحه الامام، والغزالي فإن قلنا: إنه للثاني، أو كان الجرح الثاني مزمنا لو انفرد، فلا شئ على الاول بسبب جرحه. فلو عاد بعد إزمان الثاني، وجرحه جراحة أخرى، نظر، إن أصاب المذبح، فهو حلال، وعليه للثاني ما نقص من قيمته بالذبح، وإلا حرم، وعليه إن ذفف، قيمته مجروحا بجراحته الاولى، وجراحة الثاني، وكذا إن لم يذفف ولم يتمكن الثاني من ذبحه، فإن تمكن وترك الذبح، عاد الخلاف السابق فعلى أحد الوجهين ليس على الاول إلا أرش الجراحة الثانية، لتقصير المالك، وعلى أصحهما: لا يقصر الضمان عليه. وعلى هذا، ففي وجه: عليه نصف القيمة. وخرجه جماعة على الخلاف فيمن جرح عبدا مرتدا فأسلم فجرحه سيده، ثم عاد الاول وجرحه ثانية ومات منهما وفيما يلزمه وجهان. أحدهما: ثلث القيمة. والثاني: ربعها، قاله القفال. فعلى هذا، يجب هنا ربع القيمة. وعن صاحب التقريب: أنه تعود في التوزيع الاوجه السابقة. واختار الغزالي وجوب تمام القيمة. والمذهب: التوزيع، كما سبق. فرع الاعتبار في الترتيب والمعية بالاصابة، لا بابتداء الرمي.

(2/534)


فصل في مسائل منثورة إحداها: وقع بعيران في بئر، أحدهما فوق الآخر، فطعن الاعلى، فمات الاسفل بثقله، حرم الاسفل. فإن نفذت الطعنة فأصابته أيضا، حلا جميعا. فإن شك، هل مات بالثقل، أو الطعنة النافذة، وقد علم أنها أصابته قبل مفارقة الروح ؟ حل. وإن شك، هل أصابته قبل مفارقة الروح، أم بعدها ؟ قال صاحب التهذيب في الفتاوى: يحتمل وجهين بناء على العبد الغائب المنقطع خبره، هل يجزئ إعتاقه عن الكفارة. الثانية: رمى غير مقدور عليه فصار مقدورا عليه، ثم أصاب غير المذبح، لم يحل. ولو رمى مقدورا عليه فصار غير مقدور عليه فأصاب مذبحه، حل. الثالثة: أرسل سهمين فأصابا معا، حل. وإن أصاب أحدهما بعد الآخر. فإن أزمنه الاول ولم يصب الثاني المذبح، لم يحل. وإن أصابه، حل وإن لم يزمنه الاول، وقتله الثاني، حل. وكذا لو أرسل كلبين، فأزمنه الاول، وقتله الثاني، لم يحل، قطع المذبح، أم لا ؟ وكذا لو أرسل سهما وكلبا، إن أزمنه السهم ثم أصابه الكلب، لم يحل. وإن أزمنه الكلب، ثم أصاب السهم المذبح، حل. الرابعة: صيد دخل دار إنسان وقلنا بالصحيح: إنه لا يملكه، فأغلق أجنبي الباب، لا يملكه صاحب الدار، ولا الاجنبي، لانه متعد لم يحصل الصيد في يده، بخلاف ما لو غصب شبكة واصطاد بها. الخامسة: لو أخذ الكلب المعلم صيدا بغير إرسال، ثم أخذه أجنبي من فيه، ملكه الآخذ على الصحيح، كما لو أخذ فرخ طائر من شجرته. وغير المعلم إذا أرسله صاحبه فأخذ صيدا، فأخذه غيره من فيه وهو حي، وجب أن يكون للمرسل، ويكون إرساله كنصب شبكة تعقل بها الصيد. ويحتمل خلافه، لان للكلب اختيارا. السادسة: تعقل الصيد بالشبكة، ثم قلعها وذهب بها، فأخذه إنسان، نظر، إن كان يعدو ويمتنع مع الشبكة، ملكه الآخذ، وإن كان ثقل الشبكة يبطل امتناعه، بحيث يتيسر أخذه، فهو لصاحب الشبكة لا يملكه غيره.

(2/535)


السابعة: إذا أرسل كلبه فحبس صيدا، فلما انتهى إليه، أفلت، فهل يملكه من أخذه، أم هو ملك الاول بالحبس ؟ وجهان. قلت: أصحهما: يملكه الآخذ. والله أعلم. الثامنة: رجلان أقام كل واحد منهما بينة أنه اصطاد هذا الصيد، ففيه القولان في تعارض البينتين. التاسعة: رجل في يده صيد، فقال آخر: أنا اصطدته، فقال صاحب اليد: لا علم لي بذلك. قال ابن كج: لا يقنع منه بهذا الجواب، بل يدعيه لنفسه أو يسلمه إلى مدعيه. قلت: لو أخبر فاسق أو كتابي أنه ذكى هذه الشاة، قبلناه، لانه من أهله، ذكره في التتمة. ولو وجد شاة مذبوحة، ولم يدر أذبحها مسلم، أو كتابي، أم مجوسي ؟ فإن كان في البلد مجوس ومسلمون، لم يحل، للشك في الذكاة المبيحة. والله أعلم.

(2/536)