روضة الطالبين وعمدة المفتين ط العلمية

روضة الطالبين - كتاب الاطعمة
فيه بابان.
الاول في حال الاختيار قال الاصحاب: ما يتأتى أكله من الجماد والحيوان، لا يمكن حصر أنواعه، لكن الاصل في الجميع الحل، إلا ما يستثنيه أحد أصول. الاول: نص الكتاب أو السنة على تحريمه، كالخنزير، والخمر، والنبيذ، والميتة، والدم، والمنخنقة، والموقوذة، والنطيحة، والحمر الاهلية. ويحل الحمار الوحشي، والخيل، والمتولد بينهما. وتحرم البغال وسائر ما

(2/537)


يتولد من مأكول وغيره، سواء كان الحرام من أصليه، الذكر أو الانثى. ويحرم أكل كل ذي ناب من السبا، وذي مخلب من الطائر. والمراد: ما يعدو على الحيوان ويتقوى بنابه، فيحرم الكلب، والاسد والذئب، والنمر، والدب، والفهد، والقرد، والفيل، والببر. قلت: هو الببر - بباءين موحدتين - الاولى مفتوحة، والثانية ساكنة، وهو حيوان معروف يعادي الاسد، ويقال له: الفرانق - بضم الفاء وكسر النون -. والله أعلم. واختار أبو عبد الله البوشنجي من أصحابنا مذهب مالك، فقال: يحل الفيل، وقال: لا يعدو من الفيلة إلا الفحل المغتلم، كالابل. والصحيح: تحريمه. ويحرم من الطير: البازي، والشاهين، والنسر، والصقر، والعقاب، وجميع جوارح الطير. فرع يحل الضب، والضبع، والثعلب، والارنب،

(2/538)


واليربوع. ويحرم ابن آوي، وابن مقرض على الاصح عند الاكثرين، وبه قطع المراوزة. ويحل الوبر، والدلدل على الاصح المنصوص. والهرة الاهلية حرام على الصحيح، وقال البوشنجي: حلال. والوحشية حرام على الاصح، وقال الخضري: حلال. ويحل السمور، والسنجاب، والفنك، والقماقم، والحواصل، على الاصح المنصوص. الثاني: الامر بقتله. قال أصحابنا: ما أمر بقتله من الحيوان، فهو حرام، كالحية، والعقرب والفأرة، والغراب، والحدأة، وكل سبع ضار، ويدخل في هذا، الاسد والذئب وغيرهما مما سبق. وقد يكون للشئ سببان، أو أسباب تقتضي تحريمه.

(2/539)


فرع تحرم البغاثة، والرخمة. وأما الغراب، فأنواع. منها: الابقع وهو فاسق محرم بلا خلاف. ومنها: الاسود الكبير، ويقال له: الغداف الكبير، ويقال: الغراب الجبلي، لانه يسكن الجبال، وهو حرام على الاصح، وبه قطع جماعة. ومنها: غراب الزرع، وهو أسود صغير يقال له: الزاغ، وقد يكون محمر المنقار والرجلين، وهو حلال على الاصح. ومنها: غراب آخر صغير أسود، أو رمادي اللون. وقد يقال له: الغداف الصغير، وهو حرام على الاصح، وكذا العقعق. الثالث: ما نهي عن قتله، فهو حرام فيحرم النمل، والنحل، والخطاف، والصرد، والهدهد على الصحيح في الجميع. ويحرم الخفاش قطعا، وقد يجري فيه الخلاف. ويحرم اللقلق على الاصح. فرع كل ذات طوق من الطير، حلال، واسم الحمام يقع على جميعها،

(2/540)


فيدخل في القمري، والدبسي، واليمام، والفواخت. وأدرج في هذا القسم، الورشان، والقطا، والحجل، وكلها من الطيبات. وما على شكل العصفور في حده، فهو حلال، ويدخل في ذلك الصعوة، والزرزور، والنغر، والبلبل، وتحل الحمرة، والعندليب على الصحيح فيهما. وتحل النعامة، والدجاج، والكركي، والحبارى. وفي البغبغاء والطاووس، وجهان. قال في التهذيب: أصحهما: التحريم. والشقراق. قال في التهذيب: حلال. وقال الصيمري: حرام. قال أبو عاصم: يحرم ملاعب ظله، وهو طائر يسبح في الجو مرارا، كأنه ينصب على طائر. قال: والبوم حرام كالرخم. والضوع حرام. وفي قول: حلال. وهذا يقتضي أن الضوع غير البوم، لكن في الصحاح: أن الضوع طائر من طير الليل من جنس الهام. وقال المفضل: هو ذكر البوم. فعلى هذا إن كان في الضوع قول، لزم إجزاؤه في البوم، لان الذكر والانثى من الجنس الواحد لا يفترقان. قلت: الضوع - بضاد معجمة مضمومة وواو مفتوحة وعين مهملة - والاشهر: أنه من جنس الهام. والله أعلم. قال أبو عاصم: النهاس حرام كالسباع التي تنهس. واللقاط، حلال، إلا ما استثناه النص، وأحل البوشنجي اللقاط بلا استثناء. قال: وما تقوت بالطاهرات، فحلال، إلا ما استثناه النص، وما تقوت بالنجس، فحرام. فرع أطلق مطلقون القول بحل طير الماء، فكلها حلال، إلا اللقلق، ففيه خلاف سبق. وحكي عن الصيمري: أنه لا يؤكل لحم طير الماء الابيض، لخبث لحمها. فصل الحيوان الذي لا يهلكه الماء، ضربان.

(2/541)


أحدهما: ما يعيش فيه، وإذا أخرج منه كان عيشه عيش المذبوح، كالسمك بأنواعه، فهو حلال. ولا حاجة إلى ذبحه كما سبق، وسواء مات بسبب ظاهر، كضغطة، أو صدمة، أو انحسار ماء، أو ضرب من الصياد، أو مات حتف أنفه. وأما ما ليس على صورة السموك المشهورة، ففيه ثلاثة أوجه. ويقال: ثلاثة أقوال. أصحها: يحل مطلقا، وهو المنصوص في الام، وفي رواية المزني واختلاف العراقيين، لان الاصح أن اسم السمك يقع على جميعها. والثاني: يحرم. والثالث: ما يؤكل نظيره في البر، كالبقر والشاء، فحلال، وما لا، كخنزير الما في كلبه، فحرام. فعلى هذا، ما لا نظير له، حلال. قلت: وعلى هذا لا يحل ما أشبه الحمار، وإن كان في البر حمار الوحش المأكول، صرح به صاحبا الشامل والتهذيب وغيرهما. والله أعلم. وإذا أبحنا الجميع، فهل تشترط الذكاة، أم تحل ميتته ؟ وجهان. ويقال: قولان. أصحهما: تحل ميتته. الضرب الثاني: ما يعيش في الماء وفي البر أيضا، فمنه طير الماء، كالبط، والاوز ونحوهما، وهي حلال كما سبق، ولا تحل ميتتها قطعا. وعد الشيخ أبو حامد والامام، وصاحب التهذيب من هذا الضرب، الضفدع، والسرطان، وهما محرمان على المشهور. وذوات السموم حرام قطعا. ويحرم التمساح على الصحيح، والسلحفاة على الاصح. واعلم أن جماعة استثنوا الضفدع من الحيوانات التي لا تعيش إلا في الماء، تفريعا على الاصح، وهو حل الجميع. وكذا استثنوا يوسف الحيات، والعقارب. ومقتضى هذا الاستثناء أنها لا تعيش إلا في الماء. ويمكن أن يكون منها نوع كذا، ونوع كذا. واستثنى القاضي الطبري، النسناس على ذلك الوجه أيضا. وامتنع الروياني وغيره من مساعدته. قلت: ساعده الشيخ أبو حامد. والله أعلم. الاصل الرابع: المستخبثات من الاصول المعتبرة في الباب، في التحليل

(2/542)


والتحريم، للاستطابة والاستخباث. ورآه الشافعي رحمه الله تعالى الاصل الاعظم الاعم، ولذلك افتتح به الباب والمعتمد فيه، قوله تعالى: * (يسألونك ماذا أحل لهم، قل أحل لكم الطيبات) *. وليس المراد بالطيب هنا، الحلال. ثم قال الائمة: ويبعد الرجوع في ذلك إلى طبقات الناس، وتنزيل كل قوم على ما يستطيبونه أو يستخبثونه، لانه يوجب اختلاف الاحكام في الحلال والحرام، وذلك يخالف موضوع الشرع، فرأوا العرب أولى الامم بأن يؤخذ باستطابتهم واستخباثهم، لانهم المخاطبون أولا، وهم جيل لا تغلب عليهم العيافة الناشئة من التنعم فيضيقوا المطاعم على الناس. وإنما يرجع من العرب، إلى سكان البلاد والقرى، دون أجلاف البوادي الذين يتناولون ما دب ودرج من غير تمييز. وتعتبر عادة أهل اليسار والثروة، دون المحتاجين، وتعتبر حالة الخصب والرفاهية، دون الجدب والشدة. وذكر جماعة: أن الاعتبار بعادة العرب الذي كانوا في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لان الخطاب لهم. ويشبه أن يقال: يرجع في كل زمان إلى العرب الموجودين فيه، فإن استطابته العرب، أو سمته باسم حيوان حلال، فهو حلال. وإن استخبثته، أو سمته باسم محرم، فحرام. فإن استطابته طائفة، واستخبثته أخرى اتبعنا الاكثرين. فأن استويا، قال صاحب الحاوي وأبو الحسن العبادي: تتبع قريش، لانهم قطب العرب. فإن اختلفت قريش ولا ترجيح، أو شكوا فلم يحكموا بشئ، أو لم نجدهم ولا غيرهم من العرب اعتبرناه بأقرب الحيوان شبها به. والشبه تارة يكون في الصورة، وتارة في طبع الحيوان من الصيانة والعدوان، وتارة في طعم اللحم. فإن استوى الشبهان، أو لم نجد ما يشبهه، فوجهان. أصحهما: الحل. قال الامام: وإليه ميل الشافعي رحمه الله تعالى. واعلم أنه إنما يراجع العرب في حيوان لم يرد فيه نص بتحليل ولا تحريم، ولا أمر بقتله، ولا نهي عنه. فإن وجد شئ من هذه الاصول، اعتمدناه ولم نراجعهم قطعا. فمن ذلك أن الحشرات كلها مستخبثة، ما يدرج منها وما يطير. فمنها: ذوات السموم والابر.

(2/543)


ومنها: الوزغ وأنواعها، كحرباء الظهيرة والعظاء، وهي ملساء تشبه سام أبرص، وهي أحسن منه، الواحدة عظاة، وعظاية، فكل هذا حرام. ويحرم الذر، والفأر، والذباب، والخنفساء، والقراد، والجعلان، وبنات وردان، وحمار قبان، والديدان. وفي دود الخل والفاكهة وجه. وتحرم اللحكاء، وهي دويبة تغوص في الرمل إذا رأت إنسانا. ويستثنى من الحشرات، اليربوع، والضب، وكذا أم حبين، فإنها حلال على الاصح. ويستثنى من ذوات الابر، الجراد، فإنه حلال قطعا، وكذا القنفذ على الاصح. والصرارة حرام على الاصح كالخنفساء. فصل إذا وجدنا حيوانا لا يمكن معرفة حكمه من كتاب ولا سنة، ولا استطابة، ولا استخباث، ولا غير ذلك مما تقدم من الاصول، وثبت تحريمه في شرع من قبلنا، فهل يستصحب تحريمه ؟ قولان. الاظهر: لا يستصحب، وهو مقتضى كلام عامة الاصحاب، فإن استصحبناه، فشرطه أن يثبت تحريمه في شرعهم بالكتاب أو السنة، أو يشهد به عدلان أسلما منهم يعرفان المبدل من غيره. قال في الحاوي: فعلى هذا لو اختلفوا، اعتبر حكمه في أقرب الشرائع إلى الاسلام، وهي النصرانية. فإن اختلفوا، عاد الوجهان عند تعارض الاشباه. فصل يحرم أكل نجس العين، والمتنجس، كالدبس، والخل، واللبن والدهن. وسبق في كتاب الطهارة وجه: أن الدهن يطهر بالغسل، فعلى هذا إذا غسل، حل. فرع يكره أكل لحم الجلالة كراهة تنزيه على الاصح الذي ذكره أكثرهم، منهم العراقيون، والروياني وغيرهم وقال أبو إسحق والقفال: كراهة تحريم. ورجحه الامام، والغزالي، والبغوي. والجلالة: هي التي تأكل العذرة

(2/544)


والنجاسات، وسواء كانت من الابل، أو البقر، أو الغنم، أو الدجاج. ثم قيل: إن كان أكثر علفها النجاسة، فهي جلالة. وإن كان الظاهر أكثر، فلا. والصحيح: أنه لا اعتبار بالكثرة، بل بالرائحة والنتن. فإن وجد في عرقها وغيره ريح النجاسة، فجلالة، وإلا، فلا. وقيل: الخلاف فيما إذا وجدت رائحة النجاسة بتمامها، أو قربت الرائحة من الرائحة. فإن قلت الرائحة الموجودة، لم تضر. ولو حبست بعد ظهور النتن، وعلفت طاهرا فزالت الرائحة، ثم ذبحت، فلا كراهة فيها. ولو لم تعلف، لم يزل المنع يغسل اللحم بعد الذبح، ولا بالطبخ وإن زالت الرائحة به، وكذا لو زالت بمرور الزمان عند صاحب التهذيب. وقيل خلافه. وكما يمنع لحمها، يمنع لبنها وبيضها، ويكره الركوب عليها إذا لم يكن بينها وبين الراكب حائل. ثم قال الصيدلاني وغيره: إذا حرمنا لحمها فهو نجس، ويطهر جلدها بالدباغ، وهذا يقتضي نجاسة الجلد أيضا. وهو نجس إن ظهرت الرائحة فيه، وكذا إن لم تظهر على الاصح، كاللحم. ثم ظهور النتن وإن حرمنا به اللحم ونجسناه، فلا نجعله موجبا لنجاسة الحيوان في حياته، بل إذا حكمنا بالتحريم، كان كما لا يؤكل لحمه، لا يطهر جلده بالذكاة، ويطهر بالدباغ. فرع السخلة المرباة بلبن الكلبة، لها حكم الجلالة. ولا يحرم الزرع وإن كثر الزبل وسائر النجاسات في أصله، لانه لا يظهر فيه أثر النجاسة وريحها. قلت: وإذا عجن دقيقا بماء نجس وخبزه، فهو نجس يحرم أكله. ويجوز أن يطعمه لشاة وبعير ونحوهما، ونص عليه الشافعي رحمه الله تعالى، ونقله البيهقي في

(2/545)


السنن الكبير في باب نجاسة الماء الدائم عن نصه، واستدل له بحديث صحيح. وفي فتاوى صاحب الشامل: أنه يكره إطعام الحيوان المأكول نجاسة. وهذا لا يخالف ما نص عليه الشافعي في الطعام، لانه ليس بنجس العين. قال ابن الصباغ: ولا يكره أكل البيض المسلوق بماء نجس، كما لا يكره الوضوء بماء سخن بالنجاسة. والله أعلم. فصل الحيوان المأكول، إنما يحل إذا ذبح الذبح المعتبر ويستثنى السمك، والجراد، والجنين الذي يوجد ميتا في بطن المذكاة، فإنه حلال، سواء أشعر، أم لا. قال الشيخ أبو محمد في كتاب الفرق: إنما يحل إذا سكن في البطن عقيب ذبح الام، فأما لو بقي زمنا طويلا يضطرب ويتحرك، ثم سكن، فالصحيح: أنه حرام. ولو خرج الجنين في الحال وبه حركة المذبوح، حل. وإن خرج رأسه وفيه حياة مستقرة، قال القاضي حسين وصاحب التهذيب: لا يحل إلا بذبحه، لانه مقدور عليه. وقال القفال: يحل، لان خروج بعض الولد كعدم خروجه في العدة وغيرها. قلت: قول القفال أصح. والله أعلم. قال صاحب التهذيب: لو أخرج رجله، فقياس ما قاله القاضي: أن يخرج ليحل، كما لو تردى بعير في بئر. ولو وجدت مضغة لم تبن فيها الصورة، ولا تشكل الاعضاء، ففي حلها وجهان، بناء على وجوب الغرة فيها، وثبوت الاستيلاد. قلت: إذا ذكى الحيوان وله يد شلاء، هل تحل بالذكاة، أم هي ميتة ؟ وجهان. الصحيح: الحل. وقد ذكرهما الرافعي في باب القصاص في الاطراف. والله أعلم. فصل كسب الحجام حلال، هذا هو المذهب المعروف. وقال ابن

(2/546)


خزيمة: حرام على الاحرار، ويجوز أن يطعمه العبيد والدواب، وهذا شاذ. ولا يكره أكل كسب الحجام للعبيد، سواء كسبه حر أم عبد. ويكره للحر، سواء كسبه حر أم عبد. وللكراهة معنيان. أحدهما: مخالطة النجاسة. والثاني: دناءته. فعلى الثاني: يكره كسب الحلاق ونحوه. وعلى الاول: يكره كسب الكناس، والزبال، والدباغ، والقصاب، والخاتن. وهذا الذي أطلقه جمهور الاصحاب. ولا يكره كسب الفاصد على الاصح. وفي الحمامي، والحائك، وجهان. قلت: الاصح: لا يكره كسب الحائك. والله أعلم. وكره جماعة كسب الصواغ. فرع قال الماوردى: أصول المكاسب: الزراعة، والتجارة، والصنعة. وأيها أطيب ؟ فيه ثلاثة مذاهب للناس. أشبهها مذهب الشافعي: أن التجارة أطيب. قال: والاشبه عندي: أن الزراعة أطيب، لانها أقرب إلى التوكل.

(2/547)


قلت: في صحيح البخاري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ما أكل أحد طعاما قط، خيرا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود - صلى الله عليه وسلم -، كان يأكل من عمل يده فهذا صريح في ترجيح الزراعة، والصنعة، لكونهما من عمل يده، لكن الزراعة أفضلهما، لعموم النفع بها للآدمي وغيره، وعموم الحاجة إليها. والله أعلم. فصل كل ما ضر، كالزجاج، والحجر، والسم، يحرم. وكل طاهر لا ضرر فيه، يحل أكله، إلا المستقذرات الطاهرة كالمني والمخاط ونحوهما، فإنها محرمة على الصحيح، وإلا الحيوان الذي تبتلعه حيا، سوى السمك والجراد، فإنه يحرم قطعا، وكذا ابتلاع السمك والجراد على وجه كما سبق. وفي جلد الميتة المدبوغ خلاف سبق في الطهارة. ويجوز شرب دواء فيه قليل سم، إذا كان الغالب منه السلامة، واحتيج إليه. قال الامام: ولو تصور شخص لا يضره أكل السموم الظاهرة، لم تحرم عليه. وقال الروياني: النبات الذي يسكر وليس فيه شدة مطربة، يحرم أكله، ولا حد على آكله، ويجوز استعماله في الدواء وإن أفضى إلى السكر إذا لم يكن منه بد. وما يسكر مع غيره ولا يسكره بنفسه، إن لم ينتفع به في دواء وغيره، حرم أكله. وإن كان ينتفع به في الدواء، حل التداوي به.
الباب الثاني في حال الاضطرار
فيه مسائل. إحداها: للمضطر إذا لم يجد حلالا، أكل المحرمات، كالميتة، والدم، ولحم الخنزير، وما في معناها. والاصح: وجوب أكلها عليه، كما يجب دفع

(2/548)


الهلاك بأكل الحلال. والثاني: يباح فقط. الثانية: في حد الضرورة، لا خلاف أن الجوع القوي لا يكفي لتناول الحرام، ولا خلاف أنه لا يجب الامتناع إلى أن يشرف على الموت، فإن الاكل حينئذ لا ينفع. ولو انتهى إلى تلك الحالة، لم يحل له الاكل، فإنه غير مفيد. ولا خلاف في الحل إذا كان يخاف على نفسه لو لم يأكل من جوع أو ضعف عن المشي أو الركوب، وينقطع عن رفقته ويضيع، ونحو ذلك. فلو خاف حدوث مرض مخيف جنسه، فهو كخوف الموت. وإن خاف طول المرض، فكذلك على الاصح أو الاظهر. ولو عيل صبره وجهده الجوع، فهل يحل له المحرم، أم لا يحل حتى يصل إلى أدنى الرمق ؟ قولان. قلت: أظهرهما: الحل. والله أعلم. ولا يشترط فيما يخاف منه تيقن وقوعه لو لم يأكل، بل يكفي غلبة الظن. الثالثة: يباح للمضطر أن يأكل من المحرم ما يسد الرمق قطعا، ولا تحل الزيادة على الشبع قطعا. وفي حل الشبع، ثلاثة أقوال. ثالثها: إن كان قريبا من العمران، لم يحل، وإلا، فيحل. ورجح القفال وكثير من الاصحاب المنع. ورجح صاحب الافصاح والروياني وغيره، الحل. هكذا أطلق الخلاف أكثرهم. وفصل الامام، والغزالي، تفصيلا حاصله: إن كان في بادية وخاف إن ترك الشبع لا يقطعها

(2/549)


ويهلك، وجب القطع بأنه يشبع. وإن كان في بلد وتوقع الطعام الحلال قبل عود الضرورة، وجب القطع بالاقتصار على سد الرمق. وإن كان لا يظهر حصول طعام حلال، وأمكنه الرجوع إلى الحرام مرة بعد أخرى، إن لم يجد الحلال، فهو موضع الخلاف. قلت: هذا التفصيل، هو الراجح. والاصح من الخلاف: الاقتصار على سد الرمق. والله أعلم. الرابعة: يجوز له التزود من الميتة إن لم يرج الوصول إلى الحلال. وإن رجاه، قال في التهذيب وغيره: يحرم. وعن القفال: أن من حمل الميتة من غير ضرورة، لم يمنع ما لم يتلوث بالنجاسة. وهذا يقتضي جواز التزود عند الضرورة وأولى. قلت: الاصح: جواز التزود إذا رجا. والله أعلم. الخامسة: إذا جوزنا الشبع، فأكل ما سد رمقه، ثم وجد لقمة حلالا، لم يجز أن يأكل من المحرم حتى يأكلها، فإذا أكلها، هل له الاتمام إلى الشبع ؟ وجهان. وجه المنع: أنه باللقمة عاد إلى المنع، فيحتاج إلى عود الضرورة. قلت: الاصح: الجواز. والله أعلم. السادسة: لو لم يجد المضطر إلى طعام غيره وهو غائب أو ممتنع من البذل، فهل يقتصر على سد الرمق، أم له الشبع ؟ فيه طرق أصحها: طرد الخلاف كالميتة. والثاني: له الشبع قطعا. والثالث: ليس له قطعا. السابعة: المحرم الذي يضطر إلى تناوله قسمان، مسكر، وغيره، فيباح جميعه ما لم يكن فيه إتلاف معصوم، فيجوز للمضطر قتل الحربي والمرتد وأكله قطعا. وكذا الزاني المحصن، والمحارب، وتارك الصلاة على الاصح فهم. ولو كان له قصاص على غيره، ووجده في حالة اضطرار، فله قتله قصاصا، وأكله، وإن لم يحضره السلطان. وأما المرأة الحربية وصبيان أهل الحرب، ففي التهذيب: أنه لا يجوز

(2/550)


قتلهم للاكل وجوزه الامام، والغزالي، لانهم ليسوا بمعصومين. والمنع من قتلهم، ليس لحرمة أرواحهم، ولهذا لا كفارة فيهم. قلت: الاصح: قول الامام. والله أعلم. والذمي، والمعاهد، والمستأمن، معصومون، فيحرم أكلهم. ولا يجوز للوالد قتل ولده للاكل، ولا للسيد قتل عبده. ولو لم يجد إلا آدميا معصوما ميتا، فالصحيح حل أكله قال الشيخ إبرهيم المروذي: إلا إذا كان الميت نبيا، فلا يجوز قطعا. قال في الحاوي: فإذا جوزنا، لا يأكل منه إلا ما يسد الرمق، حفظا للحرمتين. قال: وليس له طبخه وشيه، بل يأكله نيئا، لان الضرورة تندفع بذلك، وطبخه هتك لحرمته، فلا يجوز الاقدام عليه، بخلاف سائر الميتات، فإن للمضطر أكلها نيئة ومطبوخة. ولو كان المضطر ذميا، والميت مسلما، فهل له أكله ؟ حكى فيه صاحب التهذيب وجهين. قلت: القياس: تحريمه. والله أعلم. ولو وجد ميتة ولحم آدمي، أكل الميتة وإن كانت لحم خنزير. وإن وجد المحرم صيدا ولحم آدمي، أكل الصيد. ولو أراد المضطر أن يقطع قطعة من فخذه أو غيرها ليأكلها، فإن كان الخوف منه كالخوف في ترك الاكل أو أشد، حرم، وإلا، جاز على الاصح، بشرط أن لا يجد غيره. فإن وجد، حرم قطعا. ولا يجوز أن يقطع لنفسه من معصوم غيره قطعا، ولا للغير أن يقطع من نفسه للمضطر. القسم الثاني: المسكر، والمذهب عند جمهور الاصحاب: أنه لا يحل شرب الخمر، لا للتداوي، ولا للعطش. وقيل: يجوز لهما. وقيل: لهذا دون

(2/551)


ذاك. وقيل: بالعكس. فإذا جوزنا للعطش، فوجد خمرا وبولا، شرب البول، لان تحريمه أخف. كما لو وجد بولا وماء نجسا، شرب الماء، لان نجاسته طارئة. وما سوى المسكر من النجاسات، يجوز التداوي به كله على الصحيح المعروف. وقيل: لا يجوز. وقيل: لا يجوز إلا بأبوال الابل. وفي جواز التبخر بالند الذي فيه خمر، وجهان بسبب دخانه. قلت: الاصح: الجواز، لانه ليس دخان نفس النجاسة. والله أعلم. الثامنة: إذا وجد المضطر طعاما حلالا لغيره، فله حالان. أحدهما: أن يكون مالكه حاضرا. فإن كان مضطرا إليه، فهو أولى به، وليس للاول أخذه منه إذا لم يفضل عن حاجته، إلا أن يكون نبيا، فإنه يجب على المالك بذله له، فإن آثر المالك غيره على نفسه، فقد أحسن. قال الله تعالى: * (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة) *. وإنما يؤثر على نفسه مسلما. فأما الكافر، فلا يؤثره حربيا كان ذميا، وكذا لا يؤثر بهيمة على نفسه. وإن لم يكن المالك مضطرا، لزمه إطعام المضطر مسلما كان أو ذميا أو مستأمنا وكذا لو كان يحتاج إليه في ثاني الحال على الاصح. وللمضطر أن يأخذه قهرا أو يقاتله عليه وإن أتى القتال على نفس المالك، فلا ضمان فيه. وإن قتل المالك المضطر في الدفع عن طعامه، لزمه القصاص. وإن منعه الطعام فمات جوعا، فلا ضمان. قال في الحاوي: ولو قيل: يضمن، كان مذهبا. وهل القدر الذي يجب على المالك بذله، ويجوز للمضطر أخذه قهرا والقتال عليه ما يسد الرمق، أم قدر الشبع ؟ فيه قولان، بناء على القولين في الحلال من

(2/552)


الميتة. وهل يجب على المضطر الاخذ قهرا والقتال ؟ فيه خلاف مرتب على الخلاف في وجوب الاكل من الميتة، وأولى بأن لا يجب. قلت: المذهب: لا يجب القتال، كما لا يجب دفع الصائل وأولى. والله أعلم. وخصص صاحب التهذيب الخلاف بما إذا لم يكن عليه خوف في الاخذ قهرا. قال: فإن كان، لم يجب قطعا. فرع حيث أوجبنا على المالك بذله للمضطر، ففي الحاوي وجه: أنه يلزمه بذله مجانا، ولا يلزمه المضطر شئ، كما يأكل الميتة بلا شئ. والمذهب: أنه لا يلزمه البذل إلا بعوض، وبهذا قطع الجمهور. وفرقوا بينه وبين ما إذا خلص مشرفا على الهلاك بالوقوع في ماء أو نار، فإنه لا تثبت أجرة المثل، لان هناك يلزمه التخليص، ولا يجوز التأخير إلى تقرير الاجرة، وهنا بخلافه، وسوى القاضي أبو الطيب وغيره بينهما، فقالوا: إن احتمل الحال هناك موافقته على أجرة يبذلها أو يلتزمها، لم يلزم تخليصه حتى يلتزمها كما في المضطر. وإن لم يحتمل حال التأخير في صورة المضطر، فأطعمه، لم يلزمه العوض، فلا فرق بينهما. ثم إن بذل المالك طعامه مجانا، لزمه قبوله، ويأكله إلى أن يشبع، فإن بذله بالعوض، نظر، إن لم يقدر العوض، لزم المضطر قيمة ما أكل في ذلك الكان والزمان، وله أن يشبع، وإن قدره، فإن لم يفرد ما يأكله فالحكم كذلك. وإن أفرده، فإن كان المقدر ثمن المثل، فالبيع صحيح، وللمضطر ما فضل عن الاكل.

(2/553)


وإن كان أكثر والتزمه، ففيما يلزمه أوجه. أقيسها وهو الاصح عند القاضي أبي الطيب: يلزمه المسمى، لانه التزمه بعقد لازم. وأصحها عند الروياني: لا لزمه إلا ثمن المثل في ذلك الزمان والمكان، لانه كالمكره. والثالث، وهو اختيار صاحب الحاوي: إن كانت الزيادة لا تشق على المضطر ليساره، لزمته، وإلا، فلا. قال أصحابنا: وينبغي للمضطر أن يحتال في أخذه منه ببيع فاسد، ليكون الواجب القيمة قطعا، وقد يفهم من كلامهم، القطع بصحة البيع، وأن الخلاف فيما يلزم ثمنا. لكن الوجه: جعل الخلاف في صحة العقد لمعنى الاكراه، وأن المضطر هل هو مكره، أم لا ؟ وفي تعليق الشيخ أبي حامد ما يبين ذلك. وقد صرح به الامام، فقال: الشراء بالثمن الغالي للضرورة، هل يجعله مكروها حتى لا يصح الشراء ؟ وجهان أقيسهما: صحة البيع. قال: وكذا المصادر من جهة السلطان الظالم، إذا باع ماله للضرورة، ولدفع الاذى الذي يناله. والاصح: صحة البيع، لانه لا إكراه على البيع، ومقصود الظالم تحصيل المال من أي جهة كان، وبهذا قطع الشيخ إبرهيم المروذي، واحتج به لوجه لزوم المسمى في مسألة المضطر. فرع متى باع المالك بثمن المثل ومع المضطر مال، لزمه شراؤه، وصرف ما معه إلى الثمن، حتى لو كان معه إزار فقط، لزمه صرفه إليه إن لم يخف الهلاك بالبرد، ويصلي عاريا، لان كشف العورة أخف من أكل الميتة. ولهذا يجوز أخذ الطعام قهرا، ولا يجوز أخذ ساتر العورة قهرا وإن لم يكن معه مال، لزمه التزامه في ذمته، سواء كان له مال في موضع آخر، أم لا. ويلزم المالك في هذا الحال، البيع نسيئة. فرع ليس للمضطر الاخذ قهرا إذا بذل المالك بثمن المثل. فإن طلب أكثر، فله أن لا يقبل ويأخذه قهرا ويقاتله عليه. فإن اشتراه بالزيادة مع إمكان أخذه قهرا، فهو مختار في الالتزام، فيلزمه المسمى بلا خلاف.

(2/554)


والخلاف السابق إنما هو فيمن عجز عن الاخذ قهرا. فرع لو أطعمه المالك ولم يصرح بالاباحة، فالاصح: أنه لا عوض عليه، ويحمل على المسامحة المعتادة في الطعام. ولو اختلفا فقال: أطعمتك بعوض فقال: بل مجانا، فهل يصدق المالك لانه أعرف بدفعه، أم المضطر لبراءة ذمته ؟ وجهان. أصحهما: الاول. ولو أوجر المالك المضطر قهرا، أو أوجره وهو مغمى عليه، فهل يستحق القيمة ؟ وجهان. أحسنهما: يستحق، لانه خلصه من الهلاك، كمن عفا عن القصاص، ولما فيه من التحريض على مثل ذلك. فرع كما يجب بذل المال لابقاء الآدمي المعصوم، يجب بذله لابقاء البهيمة المحترمة،، وإن كان ملكا للغير. ولا يجب البذل للحربي، والمرتد، والكلب العقور. ولو كان لرجل كلب غير عقور جائع، وشاة، لزمه ذبح الشاة لاطعام الكلب. قال في التهذيب: وله أن يأكل من لحمها، لانها ذبحت للاكل. الحال الثاني: أن يكون المالك غائبا، فيجوز للمضطر أكل طعامه ويغرم له القيمة. وفي وجوب الاكل وقدر المأكول، ما سبق من الخلاف. وإن كان الطعام لصبي أو مجنون، والولي غائب، فكذلك. وإن كان حاضرا، فهو في ما لهما ككامل الحال في ماله، وهذه إحدى الصور التي يجوز فيها بيع مال الصبي نسيئة. المسألة التاسعة: إذا وجد المضطر ميتة، وطعام الغير وهو غائب، فثلاثة أوجه. ويقال: أقوال. أصحها: يجب أكل الميتة. والثاني: الطعام. والثالث: يتخير بينهما، وأشار الامام، إلى أن هذا الخلاف مأخوذ من الخلاف في اجتماع حق الله تعالى وحق الآدمي. وإن كان صاحب الطعام حاضرا، فإن بذله بلا عوض، أو بثمن مثله، أو بزيادة يتغابن الناس بمثلها ومعه ثمنه، أو رضي بذمته، لزمه

(2/555)


القبول. وإن لم يبعه إلا بزيادة كبيرة، فالمذهب الذي قطع به العراقيون والطبريون وغيرهم: أنه لا يلزمه شراؤه، لكن يستحب، وإذا لم يلزمه الشراء، فهو كما لو لم يبذله أصلا. وإذا لم يبذله، لا يقاتله عليه المضطر إن خاف من المقاتلة على نفسه، أو خاف إهلاك المالك في المقاتلة، بل يعدل إلى الميتة. وإن كان لا يخاف لضعف المالك وسهولة دفعه، فهو على الخلاف المذكور فيما إذا كان غائبا. وقال في التهذيب: يشتريه بالثمن الغالي، ولا يأكل الميتة. ثم يجئ الخلاف، في أنه يلزمه المسمى، أو ثمن المثل ؟ قال: وإذا لم يبذل أصلا، وقلنا: طعام الغير أولى من الميتة، يجوز أن يقال: يقاتله ويأخذه قهرا. العاشرة: لو اضطر محرم ولم يجد إلا صيدا، فله ذبحه وأكله، ويلزمه الفدية. وإن وجد صيدا وميتة، فالمذهب: أنه يلزمه أكل الميتة. وفي قول: الصيد. وفي قول أو وجه: يتخير. وقيل: يأكل الميتة قطعا. ولو وجد المحرم لحم صيد ذبح، وميتة، فإن ذبحه حلال لنفسه، فهذا مضطر وجد ميتة، وطعام الغير، وإن ذبحه هذا المحرم قبل إحرامه، فهو واجد طعاما حلالا لنفسه، فليس مضطرا. وإن ذبحه في الاحرام، أو ذبحه محرم آخر، فأوجه. أصحها: يتخير بينهما. والثاني: تتعين الميتة. والثالث: الصيد. ولو وجد المحرم صيدا، وطعام الغير، فهل يتعين الصيد، أم الطعام، أم يتخير ؟ فيه ثلاثة أوجه، أو أقوال، سواء جعلنا الصيد الذي يذبحه المحرم ميتة، أم لا. وإن وجد صيدا، وميتة، وطعام الغير، فسبعة أوجه. أصحها: تتعين الميتة. والثاني: الطعام. والثالث: الصيد. والرابع: يتخير بينها. والخامس: تخير بين الطعام والميتة. والسادس: يتخير بين الصيد والميتة. والسابع: يتخير بين الصيد والطعام. فرع إذا لم نجعل ما ذبحه المحرم من الصيد ميتة، فهل على المضطر قيمة ما يأكل منه ؟ وجهان، بناء على القولين في أن المحرم، هل يستقر ملكه على الصيد. الحاديه عشرة لو وجد ميتتين، احداهما من جنس المأكول، دون الاخرى أو احداهما طاهره في الحياه دون الاخرى كشاه، وحمار أو كلب فهل يتخير بينهما، ام تتعين الشاه ؟ وجهان.

(2/556)


قلت: ينبغي أن يكون الراجح ترك الكلب، والتخيير بين الثانيه عشره: ليس بين الباقي. والله أعلم. الثانية عشرة: ليس للعاصي بسفره أكل الميتة حتى يتوب على الصحيح. وسبق بيانه في صلاة المسافر. الثالثة عشرة: نص الشافعي رضي الله عنه: أن المريض إذا وجد مع غيره طعاما يضره ويزيد في مرضه، جاز له تركه وأكل الميتة، ويلزم مثله لو كان الطعام له. وعد هذا من أنواع الضرورة، وكذا التداوي كما سبق. وسبق أيضا في أول الكتاب، بيان الانتفاع بالنجاسات. ولو تنجس الخف بخرزه بشعر الخنزير، فغسل سبعا إحداهن بتراب، طهر ظاهره دون باطنه، وهو موضع الخرز. وقيل: كان الشيخ أبو زيد يصلي في الخف النوافل دون الفرائض، فراجعه القفال فيه فقال: الامر إذا ضاق اتسع، أشار إلى كثرة النوافل. قلت: بل الظاهر أنه أراد أن هذا القدر مما تعم به البلوى، ويتعذر أو يشق الاحتراز منه، فعفي عنه مطلقا. وإنما كان لا يصلي فيه الفريضة احتياطا لها، وإلا، فمقتضى قوله العفو فيهما. ولا فرق بين الفريضة والنفل في اجتناب النجاسة ومما يدل على صحة ما تأولته، أن القفال قال في شرحه التلخيص: سألت أبا زيد عن الخف يخرز بشعر الخنزير، هل تجوز الصلاة فيه ؟ فقال: الامر إذا ضاق اتسع، قال القفال: مراده أن بالناس حاجة إلى الخرز به، فللضرورة جوزنا ذلك. والله أعلم.
فصل في مسائل تتعلق بالاطعمة
إحداها: قال الشيخ إبرهيم المروذي في تعليقه وردت أخبار في النهي عن أكل الطين، ولا يثبت شئ منها، وينبغي أن نحكم بالتحريم إن ظهرت المضرة فيه. قلت: قطع صاحب المهذب وغيره بتحريم أكل التراب. والله أعلم. الثانية: يكره أن يأكل من الطعام الحلال فوق شبعه، ويكره أن يعيب الطعام. ويستحب أن يأكل من أسفل الصحفة، وأن يقول بعد الفراغ: الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه.

(2/557)


الثالثة: إذا استضاف مسلم لا اضطرار به مسلما، استحب له ضيافته، ولا تجب. والاحاديث الواردة في الباب، محمولة على الاستحباب. الرابعة: من مر بثمر غيره أو زرعه، لم يجز له أن يأخذ منه، ولا يأكل بغير إذن صاحبه، إلا أن يكون مضطرا، فيأكل ويضمن. وحكم الثمار الساقطة من الاشجار، حكم سائر الثمار إن كانت داخل الجدار. فإن كانت خارجه، فكذلك إن لم تجر عادتهم بإباحتها، فإن جرت بذلك، فهل تجري العادة المطردة مجرى الاباحة ؟ وجهان. قلت: الاصح: تجري. والمختار: أنه يجوز أكل الانسان من طعام قريبه وصديقه بغير إذنه إذا غلب على ظنه أنه لا يكره ذلك، فإن تشكك، فحرام بلا خلاف. ويستحب ترك التبسط في الاطعمة المباحة، فإنه ليس من أخلاق السلف، هذا إذا لم تدع إليه حاجة، كقرى الضيف، والتوسعة على العيال في الاوقات المعروفة. والسنة: اختيار الحلو من الاطعمة، وتكثير الايدي على الطعام، والتسمية في أوله. فإن نسي وتركها في أوله، أتى بها في أثناء الاكل. ويستحب الجهر بها ليذكره غيره، ويستحب الحديث الحسن على الاكل وقد بقيت آداب تتعلق بالاكل، أخرتها إلى باب الوليمة لكونه أليق بها. والله أعلم.

(2/558)