روضة الطالبين وعمدة المفتين ط العلمية

روضة الطالبين - كتاب النذر
هو التزام شئ، وفيه فصلان.
أحدهما: في أركانه، وهي ثلاثة: الناذر، والمنذور، والصيغة. الاول: الناذر. وهو كل مكلف مسلم، فلا يصح نذر الصبي والمجنون. وفي نذر السكران، الخلاف في تصرفاته. ولا يصح نذر الكافر لى الصحيح. ويصح من السفيه المحجور عليه بفلس نذر القرب البدنية، ولا تصح المالية من السفيه. وأما المفلس، فإن التزم في ذمته ولم يعين مالا، صح نذره، ويؤديه بعد قضاء حقوق الغرماء. فإن عين مالا، بني على ما لو أعتق أو وهب، هل يوقف صحة تصرفه، أم يكون باطلا ؟ فإن أبطلناه، فكذا النذر. وإن توقفنا، توقف النذر، قاله في التتمة. قال: ولو نذر عتق المرهون، انعقد نذره. فإن نفذنا، عتقه في الحال، أو عند أداء المال، وإلا، فهو كمن نذر إعتاق من لا يملكه.

(2/559)


الركن الثاني: الصيغة. فلا يصح النذر إلا باللفظ. وفي قول قديم: تصير الشاة ونحوها هديا وأضحية بالنية وحدها، أو بها مع التقليد كما سبق في بابه. ثم النذر قسمان. أحدهما: نذر التبرر، وهو نوعان. أحدهما: نذر المجازاة، وهو أن يلتزم قربة في مقابلة حدوث نعمة، أو اندفاع بلية، كقوله: إن شفى الله مريضي، أو رزقني ولدا، فلله علي أعتاق، أو صوم، أو صلاة. فإذا حصل المعلق عليه، لزمه الوفاء بما التزم. ولو قال: فعلي، ولم يقل: فلله علي، فالصحيح: أنه كذلك. وقيل: لا بد من التصريح بذكر الله تعالى، وهو قريب من الخلاف في وجوب الاضافة إلى الله تعالى في نية الوضوء والصلاة. النوع الثاني: أن يلتزم ابتداء من غير تعليق على شئ، فيقول: لله علي أن أصلي أو أصوم أو أعتق، فقولان. وقيل: وجهان. أظهرهما: يصح، ويلزم الوفاء به. والثاني: لا يصح، ولا يلزمه شئ. فرع لو عقب النذر بالمشيئة فقال: لله علي كذا إن شاء الله تعالى، لم يلزمه شئ، كما هو في تعقيب الايمان، والطلاق، والعقود. ولو قال: لله علي كذا إن شاء زيد، لم يلزمه شئ وإن شاء زيد. القسم الثاني: نذر اللجاج والغضب، وهو أن يمنع نفسه من فعل، أو يحثها عليه بتعليق التزام قربة الفعل أو بالترك. ويقال فيه: يمين اللجاج والغضب. ويقال له أيضا: يمين الغلق. ويقال: نذر الغلق - بفتح العين المعجمة

(2/560)


واللام - فإذا قال: إن كلمت فلانا، أو دخلت الدار، أو إن لم أخرج من البلد، فإنه علي صوم شهر، أو صلاة، فلله أو حج، أو إعتاق رقبة، ثم كلمه، أو دخل، أو لم يخرج، ففيما يلزمه طرق. أشهرها: على ثلاثة أقوال. أحدها: يلزمه الوفاء بما التزم. والثاني: يلزمه كفارة يمين. والثالث: يتخير بينهما، وهذا الثالث هو الاظهر عند العراقيين، لكن الاظهر على ما ذكره صاحب التهذيب، والروياني، وإبرهيم المروذي، والموفق بن طاهر، وغيرهم، وجوب الكفارة. والطريق الثاني: القطع بالتخيير. والثالث: نفي التخيير، والاقتصار على القولين الاولين. والرابع: الاقتصار على التخيير وقول وجوب الكفارة، ونفي القول الاول. والخامس: الاقتصار على التخيير، ولزوم الوفاء، ونفي وجوب الكفارة. قلت: الاظهر: التخيير بين الجميع. والله أعلم. فإن قلنا بوجوب الكفارة، فوفى بما التزم، لم تسقط الكفارة على الاصح، فإن كان الملتزم من جنس ما تتأدى به الكفارة، فالزيادة على قدر الكفارة تقع تطوعا. وإن قلنا بالتخيير، فلا فرق بين الحج والعمرة، وسائر العبادات. وخرج قول: أنه يلزم الوفاء بهما خاصة، لعظم أمرهما، كما يلزمان بالشروع. فرع إذا التزم على وجه اللجاج إعتاق عبد بعينه، فإن قلنا: واجبه الوفاء بما التزم، أعتقه كيف كان. وإن قلنا: عليه كفارة يمين، فإن كان بحيث يجزئ في الكفارة، فله أن يعتقه أو يعتق غيره، أو يطعم، أو يكسو. وإن كان بحيث لا

(2/561)


يجزئ، واختار الاعتاق، أعتق غيره. وإن قلنا: يتخير، فإن اختار الوفاء، أعتقه كيف كان، وإن اختار التكفير، اعتبر في إعتاقه صفات الاجزاء. وإن التزم إعتاق عبيده، فإن أوجبنا الوفاء، أعتقهم. وإن أوجبنا الكفارة، أعتق واحدا، أو أطعم، أو كسا. وإن قال: إن فعلت كذا، فعبدي حر، وقع العتق إذا فعله بلا خلاف. فرع لو قال: إن فعلت كذا، فعلي نذر، أو فلله علي نذر، نص الشافعي رحمه الله: أنه يلزمه كفارة يمين، وبهذا قطع صاحب التهذيب وإبرهيم المروذي: وقال القاضي حسين وغيره: هذا تفريع على قولنا: تجب الكفارة. فأما إن أوجبنا الوفاء، فيلزمه قربة من القرب، والتعيين إليه، وليكن ما يعينه مما يلتزم بالنذر. وعلى قول التخيير: يتخير بين ما ذكرنا وبين الكفارة. ولو قال: إن فعلت كذا فعلي كفارة يمين، فالواجب كفارة على الاقوال كلها. ولو قال: فعلي يمين، أو فلله علي يمين، فالصحيح: أنه لغو، لانه لم يأت بنذر ولا صيغة يمين، وليست اليمين مما يثبت في الذمة. وقيل: يلزمه كفارة يمين إذا فعله. قال الامام: وعلى هذا، فالوجه: أن يجعل كناية ويرجع إلى نيته. ولو قال: نذرت لله لافعلن كذا، فإن نوى اليمين، فهو يمين. وإن أطلق، فوجهان. ولو عدد أجناس قرب فقال: إن دخلت فعلي حج، وعتق، وصدقة، فإن أوجبنا الوفاء، لزمه ما التزمه، وإن أوجبنا الكفارة، لزمه كفارة واحدة على المذهب. وعن الشيخ أبي محمد، احتمال في تعددها. ولو قال ابتداء: لله علي أن أدخل الدار اليوم، قال في التهذيب: المذهب: أنه يمين، وعليه كفارة يمين إن لم يدخل. وكذا لو قال لامرأته: إن دخلت الدار، فلله علي أن أطلقك، فهو كقوله: إن لاطلقنك، حتى إذا مات أحدهما قبل التطليق، لزمه كفارة يمين. ولو قال: إن دخلت الدار فلله علي أن آكل الخبز، فدخلها، لزمه كفارة يمين على الصحيح. وقيل: هو لغو. فرع لو قال ابتداء: مالي صدقة، أو في سبيل الله، ففيه أوجه. أحدها

(2/562)


وهو الاصح عند الغزالي، وقطع به القاضي حسين: أنه لغو، لانه لم يأت بصيغة التزام. والثاني: أنه كما لو قال: لله علي أن أتصدق بمالي، فيلزمه التصدق. والثالث: يصير ماله بهذا اللفظ صدقة، كما لو قال: جعلت هذه الشاة أضحية. وقال في التتمة: إن كان المفهوم من اللفظ في عرفهم معنى النذر، أو نواه، فهو كما لو قال: لله علي أن أتصدق بمالي أو أنفقه في سبيل الله، وإلا، فلغو. وأما إذا قال: إن كلمت فلانا، أو فعلت كذا، فمالي صدقة، فالمذهب الذي قطع به الجمهور ونص عليه الشافعي رحمه الله: أنه بمنزلة قوله: فعلي أن أتصدق بمالي، أو بجميع مالي. وطريق الوفاء: أن يتصدق بجميع أمواله. وإذا قال: في سبيل الله، يتصدق بجميع أمواله على الغزاة. وقال إمام الحرمين، والغزالي: يخرج هذا على الاوجه الثلاثة في الصورة الاولى. والمعتمد، ما نص عليه وقاله الجمهور. فرع الصيغة قد تتردد، فتحتمل نذر التبرر، وتحتمل نذر اللجاج، فيرجع فيها إلى قصد الشخص وإرادته، وفرقوا بينهما، بأنه في نذر التبرر يرغب في السبب، وهو شفاء المريض مثلا بالتزام المسبب، وهو القربة المسماة. وفي اللجاج، يرغب عن السبب لكراهته الملتزم. وذكر الاصحاب في ضبطه، أن الفعل، إما طاعة، وإما معصية، وإما مباح. والالتزام في كل واحد منهما، تارة يعلق بالاثبات، وتارة بالنفي. أما الطاعة، ففي طرف الاثبات يتصور نذر التبرر، بأن يقول: إن صليت، فلله علي صوم يوم، معناه: إن وفقني الله للصلاة، صمت. فإذا وفق لها، لزمه الصوم. ويتصور اللجاج، بأن يقال له: صل، فيقول: لا أصلي، وإن صليت فعلي صوم أو عتق، فإذا صلى، ففيما يلزمه، الاقوال والطرق السابقة. وأما في طرف النفي، فلا يتصور نذر التبرر، لانه لا بر في ترك الطاعة، ويدخله اللجاج، بأن يمنع من الصلاة، فيقول: إن لم أصل، فلله علي كذا، فإذا لم يصل، ففيما يلزمه الاقوال. وأما المعصية، ففي طرف النفي، يتصور نذر التبرر، بأن يقول: إن لم

(2/563)


أشرب الخمر، فلله علي كذا، ويقصد: إن عصمني الله من الشرب. ويتصور نذر اللجاج، بأن يمنع من شربها، ويقول: إن لم أشربها، فلله علي صوم أو صلاة. وفي طرف الاثبات لا يتصور إلا اللجاج، بأن يؤمر بالشرب، فيقول: إن شربت، فلله علي كذا. وأما المباح، فيتصور في طرفي النفي والاثبات فيه النوعان معا. فالتبرر في الاثبات: أن أكلت كذا، فلله علي صوم، يريد: أن يسره الله تعالى لي. واللجاج، أن يؤمر بأكله فيقول: إن أكلت، فلله علي كذا. والتبرر في النفي: إن لم آكل كذا، فلله علي صوم، يريد: إن أعانني الله تعالى على كسر شهوتي فتركته. واللجاج، أن يمنع من أكله فيقول: إن لم آكله، فلله علي كذا. وإن قال: إن رأيت فلانا، فعلي صوم. فإن أراد: إن رزقني الله رؤيته، فهو نذر تبرر. وإن ذكره لكراهته رؤيته، فهو لجاج. وفي الوسيط وجه في منع التبرر في المباح. فرع لا فرق في جميع ما ذكرناه، بين قوله: فعلي كذا، وبين قوله: فلله علي كذا، هذا هو الصحيح. وفي وجه: لا يلزمه شئ إذا لم يذكر الله تعالى. فرع لو قال: أيمان البيعة لازمة لي - قال أصحابنا: كانت البيعة في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمصافحة، فلما ولي الحجاج، رتبها أيمانا تشتمل على ذكر اسم الله تعالى، وعلى الطلاق، والاعتاق، والحج، وصدقة المال - فإن لم يرد القائل الايمان التي رتبها الحجاج، لم يلزمه شئ. وإن أرادها، نظر، إن قال: فطلاقها وعتاقها لازم لي وانعقدت يمينه بهما ولا حاجة إلى النية. وإن لم يصرح بذكرهما، لكن نواهما، فكذلك، لانهما ينعقدان بالكناية مع النية. وإن نوى اليمين بالله تعالى، أو لم ينو شيئا، لم تنعقد يمينه، ولا شئ عليه. فرع نص الشافعي رضي الله عنه، في نذر اللجاج، أنه لو قال: إن فعلت

(2/564)


كذا، فلله علي نذر حج إن شاء فلان، فشاء، لم يكن عليه شئ. قال في التتمة: هذا إذا غلبنا في اللجاج معنى في النذر. فإن قلنا: هو يمين، فهو كمن قال: والله لا أفعل كذا إن شاء زيد، وسيأتي في الايمان إن شاء الله تعالى أن من قال: والله لا أدخلها إن شاء فلان أن لا أدخلها. فإن شاء فلان، انعقدت يمينه عند المشيئة، وإلا، فلا. الركن الثالث: المنذور. الملتزم بالنذر: معصية، أو طاعة، أو مباح. فالمعصية، كنذر شرب الخمر، أو الزنا، أو القتل، أو الصلاة في حال الحدث، أو الصوم في حال الحيض، أو القراءة حال الجنابة، أو نذر ذبح نفسه أو ولده، فلا ينعقد نذره. فإن لم يفعل المعصية المنذورة، فقد أحسن، ولا كفارة عليه على المذهب، وبه قطع جمهور الاصحاب. وحكى الربيع قولا في وجوبها. واختاره الحافظ أبو بكر البيهقي، للحديث لا نذر في معصية، وكفارته كفارة يمين. قال الجمهور: المراد بالحديث، نذر اللجاج. قالوا: ورواية الربيع من كيسه. وحكى بعضهم الخلاف وجهين. قلت: هذا الحديث بهذا اللفظ، ضعيف باتفاق المحدثين، وإنما صح حديث عمران بن الحصين عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: لا نذر في معصية الله رواه مسلم، وحديث عقبة بن عامر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كفارة النذر كفارة اليمين رواه مسلم. والله أعلم.

(2/565)


وأما الطاعة فأنواع: أحدها: الواجبات، فلا يصح نذرها، لانها واجبة بإيجاب الشرع، فلا معنى لالتزامها، وذلك كنذر الصلوات الخمس، وصوم رمضان، وكذا لو نذر أن لا يشرب الخمر، ولا يزني. وسواء علق ذلك بحصول نعمة، أو التزمه ابتداء. وإذا خالف ما ذكره، ففي لزوم الكفارة ما سبق في قسم المعصية. وادعى صاحب التهذيب أن الظاهر هنا، وجوبها. النوع الثاني: العبادات المقصودة، وهي التي شرعت للتقرب بها. وعلم من الشارع الاهتمام بتكلف الخلق إيقاعها عبادة، كالصوم والصلاة والصدقة والحج والاعتكاف والعتق، فهذه تلزم بالنذر بلا خاف. قال الامام: وفروض الكفاية التي يحتاج في أدائها إلى بذل مال أو مقاساة مشقة، تلزم بالنذر أيضا، كالجهاد وتجهيز الموتى. ويجئ مما سنذكره إن شاء الله تعالى في نذر السنن الراتبة وجه: أنها لا تلزم. وعن القفال: أن من نذر الجهاد، لا يلزمه شئ. وفي صلاة الجنازة، والامر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وما ليس فيه بذل مال، ولا كبير مشقة، وجهان. أصحهما: لزومها بالنذر أيضا. فرع كما يلزم أصل العبادة بالنذر، يلزم الوفاء بالصفة المستحبة فيها إذا شرطت في النذر، كمن شرط في الصلاة المنذورة إطالة القيام، أو الركوع، أو السجود. أو شرط المشي في الحجة الملتزمة إذا قلنا: المشي في الحج أفضل من الركوب، فلو أفردت الصفة بالنذر، والاصل واجب شرعا، كتطويل القراءة والركوع والسجود في الفرائض، أو أن يقرأ في الصبح مثلا سورة كذا، أو أن يصلي الفرض

(2/566)


في جماعة، فالاصح: لزومها، لانها طاعة. والثاني: لا، لئلا تغير عما وضعها الشرع عليه. ولو نذر فعل السنن الراتبة، كالوتر، وسنة الفجر، والظهر، فعلى الوجهين. ولو نذر صوم رمضان في السفر، فوجهان. أحدهما وبه قطع في الوجيز، ونقله إبرهيم المروذي عن عامة الاصحاب: لا ينعقد نذره، وله الفطر، لانه التزام يبطل رخصة الشرع. والثاني، وهو اختيار القاضي حسين وصاحب التهذيب: انعقاده ولزوم الوفاء كسائر المستحبات. ويجري الوجهان، فيمن نذر إتمام الصلاة في السفر، إذا قلنا: الاتمام أفضل. ويجريان فيمن نذر القيام في النوافل، أو استيعاب الرأس بالمسح، أو التثليث في الوضوء أو الغسل، أو أن يسجد للتلاوة والشكر عند مقتضيهما. قال الامام: وعلى مساق الوجه، لو نذر المريض القيام في الصلاة وتكلف المشقة، أو نذر صوما، وشرط أن لا يفطر بالمرض، لم يلزم الوفاء، لان الواجب بالنذر لا يزيد على الواجب شرعا، والمرض مرخص. النوع الثالث: القربات التي لم تشرع لكونها عبادة، وإنما هي أعمال وأخلاق مستحسنة رغب الشرع فيها لعظم فائدتها. وقد يبتغى بها وجه الله تعالى، فينال الثواب فيها، كعيادة المرضى، وزيارة القادمين، وإفشاء السلام بين المسلمين، وتشميت العاطس. وفي لزومها بالنذر، وجهان. الصحيح: اللزوم. ويلزم

(2/567)


تجديد الوضوء بالنذر على الاصح. قال في التتمة: لو نذر الاغتسال لكل صلاة، لزمه الوفاء، وليبن هذا على أن تجديد الغسل، هل يستحب ؟ قال: ولو نذر الوضوء، انعقد نذره ولا يخرج عنه بالوضوء عن حدث، بل بالتجديد. قلت: جزم أيضا بانعقاد نذر الوضوء، القاضي حسين. وفي التهذيب وجه ضعيف: أنه لا يلزم. وقولهم: لا يخرج عن النذر إلا بالتجديد، معناه: بالتجديد حيث يشرع، وهو أن يكون قد صلى بالاول صلاة ما، على الاصح. والله أعلم. قال: ولو نذر أن يتوضأ لكل صلاة، لزم الوضوء لكل صلاة. وإذا توضأ لها عن حدث، لا يلزمه الوضوء لها ثانيا، بل يكفي الوضوء الواحد عن واجبي الشرع والنذر. قال: ولو نذر التيمم، لم ينعقد على المذهب. قال: ولو نذر أن لا يهرب من ثلاثة فصاعدا من الكفار، فإن علم من نفسه القدرة على مقاومتهم، انعقد نذره، وإلا، فلا. وفي كلام الامام: أنه لا يلزم بالنذر انكفاف قط، حتى لو نذر أن لا يفعل مكروها، لا ينعقد نذره. ولو نذر أن يحرم بالحج في شوال، أو من بلد كذا، لزمه على الاصح. وأما المباح فالذي لم يرد فيه ترغيب، كالاكل، والنوم، والقيام، والقعود، فلو نذر فعلها أو تركها، لم ينعقد نذره. قال الائمة: وقد يقصد بالاكل التقوي على العبادة، وبالنوم النشاط عند التهجد، فينال الثواب، لكن الفعل غير

(2/568)


مقصود، والثواب يحصل بالقصد الجميل. وهل يكون نذر المباح يمينا توجب الكفارة عند المخالفة ؟ فيه ما سبق في نذر المعاصي والفرض. وقطع القاضي بوجوب الكفارة في المباح، وذكر في المعصية وجهين، وعلق الكفارة باللفظ من غير حنث، وهذا لا يتحقق ثبوته. والصواب في كيفية الخلاف ما قدمناه. فرع لو نذر الجهاد في جهة بعينها، ففي تعيينها أوجه. قال صاحب التلخيص: يتعين، لاختلاف الجهات. وقال أبو زيد: لا يتعين، بل يجزئه أن يجاهد في جهة أسهل وأقرب منها. وقال الشيخ أبو علي: وهو الاصح الاعدل، لا يتعين، لكن يجب أن تكون التي يجاهد فيها كالمعينة في المسافة والمؤنة، وتجعل مسافات الجهات كمسافات مواقيت الحج. فرع يشترط في القربة المالية، كالصدقة، والتضحية، والاعتاق، أن يلتزمها في الذمة، أو يضيف إلى معين يملكه. فإن كان لغيره، لم ينعقد نذره قطعا، ولا كفارة عليه على المذهب، وبه قطع الجمهور، وذكر في التتمة في لزومها وجهين، وهو شاذ. قال في التتمة: لو قال: إن ملكت عبدا فلله علي أن أعتقه، انعقد نذره. قال: ولو قال إن ملكت عبد فلان فلله على ان اعتقه على الاظهر هذا ان قصد الشكر على حصول الملك، فإن قصد الامتناع من تملكه فهو نذر لجاج، ولو قال إن شفى الله مريضي، فكل عبد أملكه حر، أو فعبد فلان حر إن ملكته، لم ينعقد نذره قطعا، لانه لم يلتزم التقرب بقربة، لكنه علق الحرية بعد حصول النعمة بشرط، وليس هو مالكا في حال التعليق، فلغا، كما لو قال: إن ملكت عبدا أو عبد فلان، فهو حر، فإنه لا يصح قطعا. قال: ولو قال: إن شفى الله مريضي، فعبدي حر إن دخل الدار، انعقد، لانه

(2/569)


مالكه، وقد علقه بصفتين، الشفاء، والدخول. قال: ولو قال: إن شفى الله مريضي، فلله علي أن أشتري عبدا وأعتقه، انعقد. فرع قال: في التهذيب في باب الاستسقاء: لو نذر الامام أن يستسقي، لزمه أن يخرج في الناس ويصلي بهم. ولو نذره واحد من الناس، لزمه أن يصلي منفردا. وإن نذر أن يستسقي بالناس، لم ينعقد، لانهم لا يطيعونه. ولو نذر أن يخطب وهو من أهله، لزمه. وهل له أن يخطب قاعدا مع استطاعته القيام ؟ فيه خلاف كما سنذكره إن شاء الله تعالى في الصلاة المنذورة. فرع سئل الغزالي رحمه الله في فتاويه عما لو قال البائع للمشتري: إن خرج المبيع مستحقا، فلله علي أن أهبك ألف دينار، فهل يصح هذا النذر، أم لا ؟ وإن حكم حاكم بصحته، هل يلزمه ؟ فأجاب بأن الصاحات لا تلزم بالنذر، وهذا مباح، ولا يؤثر فيه قضاء القاضي، إلا إذا نقل مذهب معتبر في لزوم ذلك النذر. فرع قال بعضهم: لو نذر أن يكسو يتيما لم يخرج عن نذره باليتيم الذمي، لان مطلقه في الشرع للمسلم. قلت: ينبغي أن يكون فيه خلاف مبني على أنه يسلك بالنذر مسلك واجب الشرع، أو جائزه، كما لو نذر إعتاق رقبة. والله أعلم.
الفصل الثاني في أحكام النذر
إذا صح النذر، لزم الوفاء به. والمعتبر فيه: مقتضى ألفاظ الالتزام. والملتزمات أنواع.

(2/570)


الاول: الصوم، فإن أطلق التزامه فقال: لله علي صوم، أو أن أصوم، لزمه صوم يوم. ويجئ فيه وجه ضعيف: أنه يكفيه إمساك بعض يوم، بناء على أن النذر ينزل على أقل ما يصح من جنسه، وأن إمساك بعض اليوم صوم، وسنذكرهما إن شاء الله تعالى. ولو نذر صوم أيام وقدرها، فذاك. وإن أطلق ذكر الايام، لزمه ثلاثة. ولو قال: أصوم دهرا أو حينا، كفاه صوم يوم. فرع هل يجب تبييت النية في الصوم المنذور، أم تكفي نيته قبل الزوال ؟ يبنى ذلك على أنه إذا التزم عبادة بالنذر وأطلقها، فعلى أي شئ ينزل نذره ؟ فيه قولان مأخوذان من معاني كلام الشافعي رحمه الله. أحدهما: ينزل على أقل واجب من جنسه يجب بأصل الشرع، لان المنذور واجب، فجعل كواجب بالشرع ابتداء. والثاني: ينزل على أقل ما يصح من جنسه. وقد يقال: على أقل جائز الشرع، لان لفظ الناذر لا يقتضي التزام زيادة عليه. وهذا الثاني، أصح عند الامام، والغزالي، ولكن الاول أصح، فقد صححه العراقيون، والروياني، وغيرهم. فإن قلنا بالقول الاول، أوجبنا التبييت، وإلا، جوزناه بنية من النهار، هذا إذا أطلق نذر الصوم. فأما إذا نذر صوم يوم أو أيام، فصحته بنية النهار مع التنزيل على أقل ما يصح، تنبني على أصل آخر، وهو أن صوم التطوع إذا نواه نهارا، هل يكون صائما من وقت النية، أم من أول النهار ؟ وفيه خلاف سبق في بابه. والاصح: الثاني. فإن قلنا به، صح صوم الناذر بنية النهار، وإلا، وجب التبييت. وينبني على القولين في تنزيل النذر، مسائل. منها: لو نذر أن يصلي وأطلق، إن قلنا بالقول الثاني، فركعة، وإلا، فركعتان، وهو المنصوص. ومنها: جواز الصلاة قاعدا مع القدرة على القيام، فيه وجهان بناء عليهما. فلو نذر أن يصلي قاعدا، جاز القعود قطعا، كما لو صرح بنذر ركعة، أجزأته

(2/571)


قطعا. فإن صلى قائما، فهو أفضل. ولو نذر أن يصلي قائما، لزمه القيام قطعا. ولو نذر أن يصلي ركعتين، فصلى أربعا بتسليمة واحدة بتشهد أو بتشهدين، قطع صاحب التهذيب بجوازه. وفي التتمة: فيه وجهان. ويمكن بناؤه على الاصل السابق: إن نزلنا على واجب الشرع، لم يجزئه كما لو صلى الصبح أربعا، وإلا، أجزأه. وإن نذر أربع ركعات، فإن نزلنا على واجب الشرع، أمرناه بتشهدين. فإن ترك الاول، سجد للسهو، ولا يجوز أداؤها بتسليمتين. وان نزلنا على الجائز. تخير، إن شاء بتشهدين. ويجوز بتسلمتين، بل هو أفضل. قلت: الاصح: أنه يجوز بتسليمتين. والفرق بين هذه المسألة وباقي المسائل المخرجة على هذا الاصل عليه، وقوع الصلاة مثنى، وزيادة فضلها. والله أعلم. ولو نذر أن يصلي ركعتين على الارض مستقبلا القبلة، لم يجز فعلهما على الراحلة. ولو نذر فعلهما على الراحلة، فله فعلهما على الارض مستقبلا. وأن أطلق، فعلى أيهما يحصل ؟ فيه خلاف مبني على هذا الاصل. وأما لو نذر أن يتصدق، فإنه لا يحمل على خمسة دراهم، أو نصف دينار، بل يجزئه أن يتصدق بدانق ودونه مما يتمول، لان الصدقة الواجبة في الزكاة غير منحصرة في نصاب الذهب والفضة، بل تكون في صدقة الفطر وفي الخلطة. ومنها: إذا نذر إعتاق رقبة، فإن نزلنا على واجب الشرع، لزمه رقبة مؤمنة سليمة، وإلا، أجزأه كافرة معيبة. قال الداركي: الاول أصح. قلت: الاصح عند الاكثرين: الثاني. منهم المحاملي، وصاحبا التنبيه والمستظهري، وهو الراجح في الدليل. والله أعلم. فلو قيد فقال: لله علي إعتاق رقبة مؤمنة سليمة، لم تجزه الكافرة ولا المعيبة قطعا. ولو قال: كافرة، أو معيبة، أجزأته قطعا. ولو أعتق مسلمة، أو سليمة

(2/572)


، فقيل: لا تجزئه، والصحيح: أنها تجزئه، لانها أكمل، وذكر الكفر والعيب، ليس للتقرب، بل لجواز الاقتصار على الناقص، فصار كمن نذر التصدق بحنطة رديئة، يجوز له التصدق بالجيدة. ولو قال: علي أن أعتق هذا الكافر، أو المعيب، لم يجزئه غيره، لتعلق النذر بعينه. أما لو نذر أن يعتكف، فليس جنس الاعتكاف واجبا بالشرع، وقد سبق في بابه وجهان في أنه هل يشترط اللبث، أم يكفي المرور في المسجد مع النية ؟ والاول أصح. فعلى هذا لابد من لبث، ويخرج عن النذر بلبث ساعة، ويستحب أن يمكث يوما. وإن اكتفينا بالمرور، فللامام فيه احتمالان. أحدهما: يشترط لبث، لان لفظ الاعتكاف يشعر به. والثاني: لا، حملا له على حقيقته شرعا.
فصل إذا لزمه صوم يوم النذر، استحب المبادرة به، ولا تجب المبادرة، بل يخرج عن نذره بأي يوم كان ما يقبل الصوم، غير رمضان. ولو نذر صوم خميس ولم يعين، صام أي خميس شاء. فإذا مضى خميس ولم يصمه، استقر في ذمته، حتى لو مات قبل الصوم، فدي عنه. ولو عين في نذره يوما كأول خميس من الشهر، أو خميس هذا الاسبوع، تعين على المذهب، وبه قطع الجمهور، فلا يجوز الصوم قبله، وإذا تأخر عنه، صار قضاء، فإن أخر بلا ذر، أثم، وإن أخر بعذر سفر أو مرض، لم يأثم. وقال الصيدلاني وغيره: فيه وجهان. والثاني منهما: لا يتعين، كما لو عين مكانا، فعلى هذا يجوز الصوم قبله وبعده. ولو عين يوما من أسبوع، والتبس عليه، فينبغي أن يكون يوم الجمعة، لانه آخر الاسبوع، فإن لم يكن هو المعين، أجزأه وكان قضاء. ولو نذر صوم يوم مطلق من الاسبوع المعين، صام منه أي يوم كان. فرع اليوم المعين بالنذر وإن عيناه، لا يثبت له خواص رمضان من الكفارة بالفطر بالجماع فيه، ووجوب الامساك لو أفطر فيه، وعدم قبول صوم آخر من قضاء أو كفارة، بل لو صامه عن قضاء أو كفارة، صح بلا خلاف، كذا قاله الامام. وفي التهذيب وجه آخر: أنه لا ينعقد كأيام رمضان. فرع الخلاف السابق في أن اليوم المعين بالنذر، هل يتعين ؟ يجري مثله في الصلاة إذا عين لها في نذرها وقتا، وفي الحج إذا عين له سنة. وجزم صاحب

(2/573)


التهذيب بالتعيين، قال: لو نذر صلاة في وقت معين غير أوقات النهي، تعين، فلا يجوز قبله، ولا يجوز التأخير عنه، وإذا لم يصل فيه، وجب القضاء. ولو نذر أن يصلي ضحوة، صلى في ضحوة أي يوم شاء، فلو صلى في غير الضحوة، لم يجزه. ولو عين ضحوة، فلم يصل فيها، قضى أي وقت كان من ضحوة وغيرها. ولو عين للصدقة وقتا، قال الصيدلاني: يجوز تقديمها على وقتها بلا خلاف. فرع لو نذر صوم أيام، مثل أن قال: لله تعالى علي صوم عشرة أيام، فالقول في أن المبادرة تستحب ولا تجب، وفي أنه إذا عينها هل تتعين ؟ على ما ذكرناه في اليوم الواحد. ويجري الخلاف في تعين الشهر والسنة المعينين. وحيث لا نذكره نحن ولا الاصحاب، نقتصر على الصحيح. ويجوز صومها متتابعة ومتفرقة، لحصول الوفاء بالمسمى. وإن قيد النذر بالتتابع، لزمه. فلو أخل به، فحكمه حكم صوم الشهرين المتتابعين. ولو قيد بالتفريق، فوجهان. أحدهما: لا يجب التفريق، وأقربهما: أنه يجب، وبه قطع ابن كج، وصاحب التهذيب وغيرهما، لان التفريق معتبر في صوم التمتع. فعلى هذا، قالوا: لو صام عشرة متتابعة، حسبت له خمسة، ويلغى بعد كل يوم يوم. فرع لو نذر صوم شهر، نظر، إن عين كرجب أو شعبان، أو قال: أصوم شهرا من الآن، فالصوم يقع متتابعا لتعين أيام الشهر. وليس التتابع مستحقا في نفسه، حتى لو أفطر يوما، لا يلزمه الاستئناف. ولو فاته الجميع، لا يلزمه التتابع في قضائه كرمضان فلو شرط التتابع، فوجهان. أحدهما: لا يلزمه، لان شرط التتابع مع تعيين الشهر لغو. وأصحهما وبه قطع العراقيون: يجب، حتى لو أفسد يوما، لزمه الاستئناف. وإذا فات، قضاه متتابعا. وإن أطلق وقال: أصوم شهرا، فله التفريق والتتابع. فإن فرق، صام ثلاثين يوما. وإن تابع وابتدأ بعد مضي بعض الشهر الهلالي، فكذلك، وإن ابتدأ في أول الشهر وخرج ناقصا، كفاه.

(2/574)


فرع إذا نذر صوم سنة، فله حالان. أحدهما: أن يعين سنة متوالية، كقوله: أصوم سنة كذا، أو أصوم سنة من أول شهر كذا، أو من الغد فصيامها يقع متتابعا بحق الوقت، ويصوم رمضان عن فرضه، ويفطر العيدين، وكذا أيام التشريق، بناء على المذهب: أنه يحرم صومها، ولا يجب قضاؤها، لانها غير داخلة في النذر. وإذا أفطرت بحيض أو نفاس، ففي وجوب القضاء قولان، ويقال: وجهان. أظهرهما: لا يجب كالعيد، وبه قال الجمهور، وصححه أبو علي الطبري، وابن القطان، والروياني. ولو أفطر بالمرض، ففيه هذا الخلاف. ورجح ابن كج وجوب القضاء، لانه لا يصح أن تنذر صوم أيام الحيض، ويصح أن تنذر صوم أيام المرض. ولو أفطر بالسفر، وجب القضاء على المذهب، وقيل: على الخلاف، وبه قال ابن كج. وإذا أفطر بعض الايام بغير عذر، أثم ولزمه القضاء بلا خلاف. وسواء أفطر بعذر، أم بغيره، لا يلزمه الاستئناف. وإذا فات صوم السنة، لم يجب التتابع في قضائه كرمضان. هذا كله إذا لم يتعرض للتتابع. فإن شرط التتابع مع التعيين للسنة، فعلى الوجهين السابقين في الشهر. فإن قلنا: تجب رعايته فأفطر بغير عذر، وجب الاستئناف. وإن أفطرت بالحيض، لم يجب. والافطار بالسفر والمرض، له حكم الشهرين المتتابعين. فإن قلنا: لا يبطل التتابع، ففي القضاء الخلاف السابق. ولو قال: لله علي صوم هذه السنة، تناول السنة الشرعية، وهي من المحرم إلى المحرم فإن كان مضى بعضها، لم يلزمه إلا صوم الباقي. فإن كان رمضان باقيا، لم يلزمه قضاؤه عن

(2/575)


النذر، ولا قضاء العيدين. وفي التشريق والحيض والمرض، ما ذكرنا في جميع السنة. الحال الثاني: نذر صوم سنة وأطلق، نظر، إن لم يشرط التتابع، صام ثلاثمائة وستين يوما، أو اثني عشر شهرا بالهلال، وكل شهر استوعبه بالصوم فناقصه كالكامل. وإن انكسر شهر، أتمه ثلاثين. وشوال وذو الحجة منكسران بسبب العيد والتشريق، ولا يلزم التتابع. فإن صام سنة متوالية، قضى رمضان والعيدين والتشريق. ولا بأس بصوم يوم الشك عن النذر، وتقضي أيام الحيض، هذا الذي ذكرناه هو المذهب. وحكي وجه أنه لا يخرج عن نذره إلا بثلاثمائة وستين يوما. ووجه: أنه إذا صام من المحرم إلى المحرم، أو من شهر آخر إلى مثله، أجزاه، لانه يقال: صام سنة، ولا يلزمه قضاء رمضان والعيدين والتشريق. أما إذا شرط التتابع فقال: لله على أن أصوم سنة متتابعا، فيلزمه التتابع، ويصوم رمضان عن فرضه، ويفطر العيدين والتشريق. وهل يلزمه قضاؤها للنذر ؟ فيه طريقان. المذهب وهو المنصوص، وبه قطع الجمهور: أنه يلزمه القضاء على الاتصال بآخر المحسوب من السنة. والثاني: في وجوبه وجهان. أحدهما: لا يلزمه كالسنة المعينة، ثم يحسب بالشهر الهلالي وإن كان ناقصا. وإذا أفطر بلا عذر، وجب الاستئناف. وإن أفطرت بالحيض لم يجب الاستئناف. وفي السفر والمرض، ما ذكرنا في الشهرين المتتابعين. ثم في قضاء أيام الحيض والمرض، الخلاف المذكور في الحال الاول. وإذا نذر صوم شهر بعينه، فقضاء ما يفطره لمرض أو حيض، على ما سبق في السنة. وكذا لو نذرت صوم يوم معين، فحاضت، ففي وجوب القضاء القولان. ولو نذرت صوم يوم غير معين، فشرعت في صوم، فحاضت، لزمها القضاء. فرع لو نذر صوم ثلاثمائة وستين يوما، لزمه صوم هذا العدد، ولا يجب

(2/576)


التتابع. ولو قال: متتابعة، وجب التتابع، ويقضي لرمضان والعيدين والتشريق على الاتصال. وحكي وجه: أن التتابع يلغو هنا، وهو شاذ.
فصل من شرع في صوم تطوع فنذر إتمامه، لزمه إتمامه على الصحيح، ويجري الخلاف فيمن نذر أن يتم صوم كل يوم نوى فيه صوم النفل. وإذا أصبح ممسكا ولم ينو، فهو متمكن من صوم التطوع. فلو نذر أن يصوم، فقد أطلقوا في لزوم الوفاء قولين بناء على أن النذر ينزل على واجب الشرع، أم على ما يصح ؟ قال الامام: والذي أراه، اللزوم، قال: وقال الاصحاب: لو قال: علي أن أصلي ركعة واحدة، لم يلزمه إلا ركعة. ولو قال: علي أن أصلي كذا قاعدا، لزمه القيام عند القدرة إذا حملنا المنذور على واجب الشرع، وإنهم تكلفوا فرقا بينهما، قال: ولا فرق، فيجب تنزيلهما على الخلاف. فرع لو نذر صوم بعض يوم، لم ينعقد نذره على الاصح. وعلى الثاني، ينعقد وعليه صوم يوم كامل. وذكر في التتمة تفريعا على الانعقاد: أنه لو أمسك بقية نهاره عن النذر، أجزأه إن لم يكن أكل شيئا في أوله. فإن أكل، لا يجزئه على الصحيح. وقد سبق في كتاب الصوم وجه: أنه إذا نوى التطوع بعد الاكل، أجزأه. فعلى ذلك الوجه: يجزئه هذا عن نذره. ولو نذر أن يصلي بعض ركعة، ففي انعقاده وجهان كالصوم. ووجه الانعقاد: أنه قد يؤمر بفعل ما دون ركعة، ويثاب عليه، وهو ما إذا أدرك الامام بعد الركوع، حتى يدرك به فضيلة الجماعة في الركعة الاخيرة. قال في التتمة: فعلى هذا، يلزمه ركعة كاملة إن أراد أن يأتي بالمنذور منفردا. وإن اقتدى بإمام بعد الركوع في الركعة الاخيرة، خرج عن نذره، لانه أتى بما التزمه وهو قربة في نفسه. وقطع غيره، بأنه يلزمه ركعة مطلقا. ولو نذر ركوعا، لزمه ركعة باتفاق المفرعين. ولو نذر تشهدا، ففي التتمة: أنه يأتي بركعة يتشهد في آخرها، أو يقتدي بمن قعد للتشهد في آخر صلاته، أو يكبر ويسجد سجدة،

(2/577)


ويتشهد على طريقة من يقول: سجود التلاوة يقتضي التشهد، فيخرج به عن نذره. ولو نذر سجدة فردة، فطريقان. في التتمة: أن السجدة قربة، بدليل سجدتي التلاوة والشكر. فيكون في انعقاد نذره، الوجهان في نذر عيادة المريض، وتشميت العاطس. فإن قلنا: لا ينعقد، فالحكم كما في الركوع، والطريق الثاني: لا ينعقد نذر السجدة قطعا، وهو الاصح، وبه قطع الشيخ أبو محمد بناء على الاصح، أنها ليست قربة بلا سبب. فرع لو نذر أن يحج هذه السنة. وهو على مائة فرسخ، ولم يبق إلا يوم واحد، فالمذهب: أنه لا ينعقد نذره، ولا شئ عليه. وقيل: في لزوم كفارة بذلك خلاف سبق نظائره. وقيل: ينعقد نذره، ويقضي في سنة أخرى. فرع لو نذر أن يصوم اليوم الذي يقدم فيه فلان، ففي انعقاد نذره قولان أظهرهما عند الاكثرين: انعقاده. فعلى هذا، إن قدم ليلا، فلا صوم على الناذر، إذ لم يوجد يوم قدومه. ولو عنى باليوم الوقت، فالليل غير قابل للصوم، ويستحب أن يصوم الغد، أو يوما آخر. وإن قدم نهارا، فللناذر أحوال. أحدها: أن يكون مفطرا، فيلزمه أن يصوم عن نذره يوما. وهل نقول: لزمه بالنذر الصوم من أول اليوم، أم من وقت القدوم ؟ وجهان. ويقال: قولان. أصحهما: الاول، وبه قال ابن الحداد. وتظهر فائدة الخلاف في صور. منها: لو نذر اعتكاف اليوم الذي يقدم فيه فلان، فقدم نصف النهار. إن قلنا بالاول، اعتكف باقي اليوم وقضى ما مضى. قال الصيدلاني: وله أن يعتكف يوما مكانه. والظاهر: أنه يتعين. وإن قلنا بالثاني، اعتكف باقي اليوم، وليس عليه شئ آخر.

(2/578)


ومنها: إذا قال لعبده: أنت حر اليوم الذي يقدم فيه فلان، فباعه ضحوة، ثم قدم فلان في بقية يومه، فإن قلنا بالاول، بان بطلان البيع وحرية العبد، وبه قال ابن الحداد، وإن قلنا بالثاني، فالبيع صحيح، ولا حرية. هذا إذا كان قدوم فلان بعد تفرقهما عن المجلس ولزوم العقد. أما لو قدم قبل انقضاء الخيار، فيحصل العتق على الوجهين، لانه إذا وجدت الصفة المعلق عليها، والخيار ثابت، حصل العتق. ولو مات السيد ضحوة، ثم قدم فلان، لم يورث عنه على الوجه الاول، ويورث على الثاني. ولو أعتقه عن كفارته، ثم قدم، لم يجزه على الاول، ويجزئه على الثاني. ومنها: لو قال لزوجته: أنت طالق يوم يقدم فلان، فماتت، أو مات الزوج في بعض الايام، ثم قدم فلان في بقية ذلك اليوم، فإن قلنا بالاول، بان أن الموت بعد الطلاق، فلا توارث بينهما إن كان الطلاق بائنا، وإن قلنا بالثاني، لم يقع الطلاق. ولو خالعها في صدر النهار، ثم قدم فلان في آخره، فعلى الاول يتبين بطلان الخلع إن كان الطلاق بائنا، وعلى الثاني، يصح الخلع، ولا يقع الطلاق المعلق. الحال الثاني: أن يقدم فلان والناذر صائم عن واجب من قضاء أو نذر، فيتم ما هو فيه، ويصوم لهذا النذر يوما آخر. واستحب الشافعي رحمه الله، أن يعيد الصوم الواجب الذي هو فيه، لانه بان أنه صام يوما مستحق الصوم، لكونه يوم قدوم فلان. قال في التهذيب: في هذا دليل على أنه إذا نذر صوم يوم بعينه، ثم صامه عن نذر آخر أو قضاء، ينعقد، ويقضي نذر هذا اليوم. الحال الثالث: أنه يقدم وهو صائم تطوعا، أو غير صائم، لكنه ممسك، قال في التهذيب: ويكون ذلك قبل الزوال، فيبنى على أنه يلزمه الصوم من أول النهار، أم من وقت القدوم ؟ إن قلنا بالاول، لزمه صوم يوم آخر، ويستحب أن يمسك بقية النهار، وإن قلنا بالثاني، ففي التتمة: أنه يبنى على

(2/579)


جواز نذر صوم بعض يوم. إن جوزناه، نوى إذا قدم، وكفاه ذلك، ويستحب أن يعيد يوما كاملا للخروج من الخلاف. وإن لم نجوزه، فلا شئ عليه، ويستحب أن يقضي. وقال في التهذيب: إن قلنا: يلزم الصوم من وقت القدوم، فهنا وجهان. أصحهما: يلزمه صوم يوم آخر. والثاني: يلزمه إتمام ما هو فيه، ويكون أوله تطوعا، وآخره فرضا. كمن دخل في صوم تطوع، ثم نذر إتمامه، يلزمه الاتمام. هذا إذا كان صائما عن تطوع، وإن لم يكن صائما، نوى، ويصوم بقية النهار إن كان قبل الزوال. أما إذا تبين للناذر أن فلانا يقدم غدا، فنوى الصوم من الليل، ففي إجزائه عن نذره وجهان. أصحهما: يجزئه، وبه قطع الاكثرون، لانه بنى النية على أصل مظنون. وخص صاحب التتمة الوجهين بما إذا قلنا: يلزم الصوم من أول اليوم، قال: فإن قلنا باللزوم من وقت القدوم، لم يجزه. الحال الرابع: أن يقدم فلان يوم العيد، أو في رمضان، فهو كما لو قدم ليلا.
فصل إذا نذر صوم يوم الاثنين أبدا، لزمه الوفاء، تفريعا على الصحيح: أن الوقت المعين للصوم يتعين. ولو نذر صوم اليوم الذي يقدم فيه فلان أبدا، فقدم يوم الاثنين، ففي انعقاد نذر ذلك اليوم الخلاف السابق، وسائر الاثانين تلزمه كما لو نذر صوم الاثانين. ولا يجب قضاء الاثانين الواقعة في رمضان، لكن لو وقع فيه خمسة أثانين، ففي قضاء الخامس قولان - وكذا لو وقع يوم عيد في يوم الاثنين - أظهرهما: لا قضاء كالاثانين في رمضان، وأيام التشريق كالعيد، بناء على المذهب: أنها لا تقبل الصوم. ولو صدر هذا النذر من امرأة، وأفطرت في بعض الاثانين بحيض أو نفاس، فالمذهب: أن القضاء على القولين كالعيد، وبه قطع

(2/580)


الاكثرون. وقيل، يجب قطعا، لان واجبه شرعا يقضى، فكذا بالنذر. ثم الطريقان فيما إذا لم يكن لها عادة غالبة، فإن كانت، فعدم القضاء فيما يقع في عادتها أظهر، وقطع به بعضهم. وقيل: خلافه، لان العادة قد تختلف. ولو أفطر الناذر بعض الاثانين بالمرض، فالمذهب: وجوب القضاء، وبه قطع قاطعون، وقيل: هو على الخلاف فيمن نذر سنة بعينها. ولو لزمه صوم شهرين متتابعين عن كفارة، قدم صوم الكفارة على الاثانين، سواء تقدم وجوب الكفارة، أو تأخر، لانه يمكن قضاء الاثانين. ولو عكس، لم يتمكن من الكفارة، لفوات التتابع. ثم إن لزمت الكفارة بعد نذر الاثانين، قضى الاثانين الواقعة في الشهرين، لانه أدخل على نفسه صوم الشهرين بعد النذر وإن لزمت الكفارة قبله، فوجهان. وقيل: قولان. أصحهما عند صاحب التهذيب وطائفة من العراقيين: يجب القضاء، ويحكى عن رواية الربيع. والثاني: لا، وهو الاصح عند القاضيين أبي الطيب، وابن كج، وإمام الحرمين، والغزالي. قلت: الثاني: أصح. والله أعلم. ولو نذر أن يصوم شهرا متتابعا، أو شهرين، أو أسبوعا، ثم نذر الاثانين، فإن لم يعين الشهر، أو الشهرين، فهو كما لو لزمته الكفارة، ثم نذر الاثانين. وإن عين، ففي التتمة: أنه يبنى على أنه إذا عين وقتا للصوم، هل يجوز أن يصوم فيه عن قضاء، أو نذر آخر ؟ وقد سبق فيه الخلاف. فإن جوزناه، فهو كما لو لم يعين. وإن لم نجوزه، فحكم ذلك الشهر حكم رمضان، وبهذا قطع صاحب التهذيب. وقال أيضا: إذا صادف نذران زمانا معينا، فيحتمل أن يقال: لا ينعقد النذر الثان، وطرد هذا الاحتمال فيما إذا قال: إن قدم زيد، فلله علي أن أصوم اليوم التالي لقدومه، وإن قدم عمرو، فلله علي أن أصوم أول خميس بعد قدومه، فقدما معا يوم الاربعاء. ونقل أنه يصوم عن أول نذر نذره، ويقضي يوما للنذر الثاني. وفي تعليق الشيخ أبي حامد وغيره: أنه لو نذر أن يصوم أول خميس بعد شفاء مريضه، ونذر أن يصوم اليوم الذي يقدم فيه فلان، فشفي المريض، وأصبح الناذر في أول الخميس

(2/581)


صائما، فقدم فيه فلان، يقع صوما عما نواه، والنذر للآخر. فإن قلنا: لا ينعقد، فلا شئ عليه. وإن قلنا: ينعقد، قضى عنه يوما آخر.
فصل إذا نذر صوم الدهر، انعقد نذره، ويستثنى عنه أيام العيد، وأيام التشريق، وقضاء رمضان. وكذا لو كان عليه كفارة حال النذر. فلو لزمه كفارة بعد النذر، فالمذهب: أنه يصوم عنها ويفدي عن النذر. وقال في التتمة: يبنى على أنه يسلك بالنذر مسلك واجب الشرع، أم جائزة ؟ إن قلنا بالاول، لم يصم عن الكفارة، ويصير كالعاجز عن جميع الخصال، وإن قلنا بالثاني، صام عن الكفارة. ثم إن لزمت بسبب هو فيه مختار، لزمه الفدية، وإلا، فلا. ولو أفطر في رمضان بعذر أو غيره، لزمه القضاء، ويقدمه على النذر، كما يقدم الاداء. ثم أن أفطر بعذر، فلا فدية. وإن تعدى، لزمته. ولو أفطر يوما، فلا سبيل إلى قضائه، لاستغراق العمر. ثم إن كان بعذر مرض، أو سفر، فلا فدية. وإن تعدى، لزمته. قال الامام: ولو نوى في بعض الايام قضاء يوم أفطره متعديا، فالوجه: أنه يصح وإن كان الواجب غير ما فعل، ثم يلزمه المد لما ترك من الاداء في ذلك اليوم. وينبغي أن يكون في صحته الخلاف السابق في أن الزمن المعين لصوم النذر، هل يصح فيه غيره لان أيام عمره متعينة للنذر ؟ قال الامام: وهل يجوز أن يصوم عن المفطر المتعدي وليه في حياته تفريعا على أنه يصوم عن الميت وليه ؟ الظاهر: جوازه، لتعذر القضاء منه. وفيه احتمال من جهة أنه قد يطرأ عذر يجوز ترك الصوم له، ويتصور تكلف القضاء منه، وقد يستفاد مما ذكره الامام: أنه إذا سافر، قضى ما أفطر فيه متعديا، وينساق النظر إلى أنه هل يلزمه أن يسافر ليقضى ؟ فصل لو نذر صوم يوم العيد، لم ينعقد، كما لو نذرت صوم يوم الحيض. ولو نذر صوم أيام التشريق، لم ينعقد على المذهب. وإذا جوزنا على وجه صومها لغير المتمتع، ففي انعقادها وجهان، كنذر الصلاة في وقت الكراهة. والاصح: أنه لا ينعقد نذر صوم يوم الشك، ولا الصلاة في الاوقات المكروهة. النوع الثاني من الملتزمات: الحج، والعمرة. الحج والعمرة، يلزمان بالنذر، فإذا نذرهما ماشيا، فهل يلزمه المشي، أم له الركوب ؟ فيه قولان. أظهرهما: الاول، وهما مبنيان على أن الحج ماشيا أفضل،

(2/582)


أم راكبا ؟ فيه ثلاثة أقوال. أظهرها: المشي أفضل. والثاني: الركوب أفضل. والثالث: هما سواء. وقال ابن سريج: هما سواء ما لم يحرم. فإذا أحرم، فالمشي أفضل. قال الغزالي في الاحياء: من سهل عليه المشي، فهو أفضل في حقه، ومن ضعف وساء خلقه لو مشى، فالركوب أفضل. فان قلنا المشى افضل لزمه النذر وان قلنا الركوب أو سوينا لم يلزمه المشى بالنذر قلت: الصواب: أن الركوب أفضل وإن كان الاظهر لزوم المشي بالنذر، لانه مقصود. والله أعلم. ويتفرع على لزوم المشي مسائل. إحداها: لو صرح بابتداء المشي من دويرة أهله إلى الفراغ، هل يلزمه المشي قبل الاحرام ؟ وجهان. أصحهما: نعم، فلو أطلق الحج ماشيا، فإن قلنا: لا يلزمه المشي من دويرة أهله مع التصريح به، فهنا أولى، وإلا، فوجهان. أصحهما: يلزمه من وقت الاحرام، سواء أحرم من الميقات أو قبله، وبهذا قطع جماعة. وبنى صاحب التتمة الوجهين على أنه من أين يلزمه الاحرام ؟ فعن أبي إسحاق: من دويرة أهله. وعن غيره: من الميقات. فعلى الاول: يمشي من دويرة أهله. وعلى الثاني: من الميقات. ولو قال: أمشي حاجا، فالصحيح أنه كقوله: أحج ماشيا. ومقتضى كل واحد منهما، اقتران الحج والمشي. وفيه (وجه) أن قوله: أمشي حاجا، يقتضي أن يمشي من مخرجه إلى الحج. الثانية: في نهاية المشي طريقان. المذهب: أنه يلزمه المشي حتى يتحلل التحللين، وبهذا قطع الجمهور، وهو المنصوص، وله الركوب بعد التحللين وإن بقي عليه الرمي أيام منى. والطريق الثاني: فيه وجهان حكاهما الامام. أحدهما: هذا. والثاني: له الركوب بعد التحلل الاول. وأما العمرة، فليس لها إلا بحلل واحد، فيمشي حتى يفرغ منها. والقياس: أنه إذا كان يتردد في خلال أعمال النسك لغرض تجارة وغيرها، فله أن يركب، ولم يذكروه.

(2/583)


الثالثة: لو فاته الحج، لزمه القضاء ماشيا. وإذا تحلل في سنة الفوات بأعمال عمرة، هل يلزمه المشي في تلك الاعمال ؟ قولان: أظهرهما عند الاكثرين: لا يلزمه، لانه خرج بالفوات عن أن يجزئه عن نذره. ولو فسد الحج بعد الشروع فيه، فهل يجب المشي في المضي في فاسده ؟ فيه القولان. الرابعة: لو ترك المشي بعذر، بأن عجز، فحج راكبا، وقع حجه عن النذر. وهل عليه جبر المشي الفائت بإراقة الدم ؟ قولان. أحدهما: لا، كما لو نذر الصلاة قائما، فعجز، صلى قاعدا ولا شئ عليه. وأظهرهما: اعم. فعلى هذا، يلزمه شاة على المشهور. وفي قول: بدنة، وإن ترك المشي مع القدرة، فحج راكبا، فقد أساء. وفيه قولان: القديم. لا تبرأ ذمته من حجه، بل عليه القضاء، لانه لم يأت به على صفته الملتزمة. والاظهر: أنه تبرأ ذمته. فعلى هذا، هل يلزمه الدم ؟ قولان، أو وجهان. أظهرهما: نعم. وهل هو شاة، أم بدنة ؟ فيه الخلاف السابق. فرع من نذر حجا، استحب أن يبادر إليه في أول سني الامكان. فإن مات قبل الامكان، فلا شئ عليه كحجة الاسلام. وإن مات بعده، أحج عنه من ماله ؟ وإن عين في نذره سنة، تعينت على الصحيح كالصوم، فلو حج قبلها، لم يجزئه. ولو قال: أحج في عامي هذا، وهو على مسافة يمكن الحج منها في ذلك العام، لزمه الوفاء تفريعا على الصحيح. فإن لم يفعل مع الامكان، صار دينا في ذمته يقضيه بنفسه. فإن مات ولم يقض، أحج عنه من ماله. وإن لم يمكنه، قال في التتمة: إن كان مريضا وقت خروج الناس، ولم يتمكن من الخروج معهم، أو لم يجد رفقة، وكان الطريق مخوفا لا يتأتى للآحاد سلوكه، فلا قضاء عليه، لان المنذور حج في تلك السنة، ولم يقدر عليه، وكما لا تستقر حجة الاسلام والحالة هذه. ولو صده عدو أو سلطان بعد ما أحرم حتى مضى العام، قال الامام: إذا امتنع عليه الاحرام للعدو، فالمنصوص: أنه لا قضاء. وخرج ابن سريج قولا: أنه يجب، وبه قال المزني. كما لو قال: أصوم غدا، فأغمي عليه حتى مضى الغد، يجب القضاء. والمذهب: الاول. ولو منعه عدو أو سلطان وحده، أو منعه رب الدين وهو لا يقدر على وفائه، لم يلزمه القضاء على الاظهر. ولو منعه المرض بعد الاحرام، فالمذهب وجوب القضاء، وبه قطع الجمهور، ولا ينزل منزلة الصد،

(2/584)


لانه يتحلل بالصد ولا يتحلل بالمرض. وحكى الامام عن الاصحاب، تخريجه على الخلاف في الصد، وكذلك حكى الخلاف فيما إذا امتنع الحج في ذلك العام بعد الاستطاعة. وإذا رأيت كتب الاصحاب، وجدتها متفقة على أن الحجة المنذورة في ذلك، كحجة الاسلام، إن اجتمعت في العام الذي عينه شرائط فرض الحج، وجب الوفاء واستقر في الذمة، وإلا، فلا. والنسيان وخطأ الطريق والضلال فيه، كالمرض. ولو كان الناذر معضوبا وقت النذر، أو طرأ العضب ولم يجد المال حتى مضت السنة المعينة، فلا قضاء عليه. ولو نذر صلاة، أو صوما أو اعتكافا في وقت معين، فمنعه عما نذر عدو أو سلطان، لزمه القضاء، بخلاف الحج، لان الواجب بالنذر، كالواجب بالشرع، وقد يجب الصوم والصلاة مع العجز، فلزما بالنذر. والحج لا يجب إلا بالاستطاعة. فرع إذا نذر حجات كثيرة، انعقد نذره، ويأتي بهن على توالي السنين بشرط الامكان. فإن أخر، استقر في ذمته ما أخره. فإذا نذر عشر حجات، ومات بعد خمس سنين أمكنه الحج فيهن، قضي من ماله خمس حجات. ولو نذرها المعضوب، ومات بعد سنة وكان يمكنه أن يحج عن نفسه الحجج العشر في تلك السنة، قضيت من ماله. وإن لم يف ماله إلا بحجتين أو ثلاث، لم يستقر إلا المقدور عليه. فرع من نذر الحج، لزمه أن يحج بنفسه، إلا أن يكون معضوبا فيحج عن نفسه. فرع لو نذر الحج راكبا، فإن قلنا: المشي أفضل، أو سوينا بينهما، فإن شاء مشى، وإن شاء ركب. وإن قلنا: الركوب أفضل، لزمه الوفاء. فإن مشى، فعليه دم. وقال صاحب التهذيب: عندي أنه لا دم، لانه عدل إلى أشق الامرين. ولو نذر أن يحج حافيا، فله لبس النعلين، ولا شئ عليه. فرع يخرج الناذر عن حج النذر بالافراد، وبالتمتع، وبالقران. وإذا نذر القران، فقد التزم النسكين. فإن أتى بهما مفردين، فقد أتى بالافضل، وخرج عن

(2/585)


نذره. وإن تمتع، فكذلك وإن نذر الحج والعمرة مفردين، فقرن، أو تمتع وقلنا بالمذهب: إن الافراد أفضل، فهو كما لو نذر الحج ماشيا وقلنا: المشي أفضل، فحج راكبا. فرع من نذر أن يحج، وعليه حجة الاسلام، لزمه للنذر حجة أخرى، كما لو نذر أن يصلي، وعليه صلاة الظهر، يلزمه صلاة أخرى. النوع الثالث: إتيان المساجد. فإذا قال: لله علي أن أمشي إلى بيت الله الحرام، أو آتيه، أو أمشي إلى البيت الحرام، لزمه إتيانه على المذهب. وقيل: في لزومه قولان. ولو قال: أمشي إلى بيت الله، أو آتيه، ولم يقل: الحرام، فوجهان، أو قولان. أحدهما: يحمل على البيت الحرام. وأصحهما: لا ينعقد نذره، إلا أن ينوي البيت الحرام. ولو قال: أمشي إلى الحرام، أو المسجد الحرام، أو إلى مكة، أو ذكر بقعة أخرى من بقاع الحرم، كالصفا، والمروة، ومسجد الخيف، ومنى، ومزدلفة، ومقام إبرهيم، وقبة زمزم، وغيرها، فهو كما لو قال: إلى بيت الله الحرام. حتى لو قال: آتي دار أبي جهل، أو دار الخيزران، كان الحكم كذلك، لشمول حرمة الحرم في تنفير الصيد وغيره. ولو نذر أن يأتي عرفات، فإن أراد التزام الحج وعبر عنه بشهود عرفة، أو نوى أن يأتيها محرما، انعقد نذره بالحج. فإن لم ينو ذلك، لم ينعقد نذره، لان عرفات من الحل، فهو كبلد آخر. وعن ابن أبي هريرة: أنه إن نذر إتيان عرفات يوم عرفات، لزمه أن يأتيها حاجا. وقيد في التتمة هذا الوجه بما إذا قال ذلك يوم عرفة بعد الزوال. وعن القاضي حسين: الاكتفاء بأن يحصل له شهودها يوم عرفة، وربما قال بهذا الجواب على الاطلاق. والصحيح، ما قدمناه. ولو قال: آتي مر

(2/586)


الظهران، أو بقعة أخرى قريبا من الحرم، لم يلزمه شئ قطعا، وسواء في لزوم الاتيان، لفظ المشي، والاتيان، والانتقال، والذهاب، والمضي، والمصير، والمسير، ونحوها. ولو نذر أن يمس بثوبه حطيم الكعبة، فهو كما لو نوى إتيانها. ولو نذر أن يأتي مسجد المدينة، أو المسجد الاقصى، ففي لزوم إتيانهما قولان. قال في البويطي: يلزم، وقال في الام: لا يلزم، ويلغو النذر. وهذا هو الاظهر عند العراقيين والروياني وغيرهم. التفريع: إن قلنا بالمذهب: إنه يلزم إتيان المسجد الحرام بالتزامه، قال الصيدلاني وغيره: إن حملنا النذر على الواجب شرعا، لزمه حج أو عمرة، وهذا نص الشافعي رحمه الله في المسألة، وهو المذهب. وإن قلنا: لا يحمل على الواجب، بني على أصل آخر، وهو أن دخول مكة هل يقتضي الاحرام بحج أو عمرة، أم لا ؟ إن قلنا: نعم، فإذا أتاه، لزمه حج أو عمرة. وإن قلنا: لا، فهو كمسجد المدينة والاقصى، ففيه القولان في أنه هل يلزم إتيانه ؟ وإذا لزم، فتفريعه كتفريع المسجدين. أما إذا أوجبنا إتيان مسجد المدينة والاقصى، فهل يلزمه مع الاتيان شئ آخر ؟ وجهان. أحدهما: لا، إذ لم يلتزمه. وأصحهما: نعم، إذ الاتيان المجرد ليس بقربة. فعلى هذا فيما يلزمه أوجه. أحدها: يتعين أن يصلي في المسجد الذي أتاه. قال الامام: الذي أراه أنه لا يلزمه ركعتان، بل يكفيه ركعة قولا واحدا. وذكر ابن الصباغ والاكثرون: أنه يصلي ركعتين. قال ابن القطان: وهل يكفي أن يصلي فريضة، أم لا بد من صلاة زائدة ؟ وجهان بناء على وجهين فيمن نذر أن يعتكف شهرا بصوم، فهل يكفيه أن يعتكف في رمضان ؟ والوجه الثاني: يتعين أنه يعتكف فيه ولو ساعة، لان الاعتكاف أخص القربات بالمسجد. والثالث وهو الاصح: يتخير بينهما، وبه قطع في التهذيب. وقال الشيخ أبو علي: يكفي في مسجد المدينة أن يزور قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -. وتوقف فيه الامام من جهة أن الزيارة لا تتعلق بالمسجد وتعظيمه. قال: وقياسه أنه لو تصدق في المسجد، أو

(2/587)


صام يوما، كفاه. والظاهر: الاكتفاء بالزيارة. وإذا نزلنا المسجد الحرام منزلة المسجدين، وأوجبنا ضم قربة إلى الاتيان، ففي تلك القربة أوجه. أحدها: الصلاة. والثاني: الحج أو العمرة. والثالث: يتخير. قال الامام: ولو قيل: يكفي الطواف، لم يبعد. ثم مهما قال: أمشي إلى بيت الله الحرام، لم يكن له الركوب على الاصح، بل يلزمه المشي كما سبق فيما إذا قال: أحج ماشيا. والوجه الآخر: يمشي من الميقات. وذكر القاضي أبو الطيب وكثير من العراقيين: أنه لا خلاف بين الاصحاب أنه يمشي من دويرة أهله. لكن يحرم من دويرة أهله، أم من الميقات ؟ وجهان. قال أبو إسحق: من دويرة أهله. وقال صاحب الافصاح: من الميقات، وهو الاصح. ولو قال: أمشي إلى مسجد المدينة، أو الاقصى، وأوجبنا الاتيان، ففي وجوب المشي وجهان. أصحهما: الوجوب. ولو كان لفظ الناذر الاتيان، أو الذهاب، أو غيرهما مما سوى المشي، فله الركوب بلا خلاف. وأما إذا نذر إتيان مسجد آخر سوى الثلاثة، فلا ينعقد نذره، إذ ليس في قصدها قربة، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد... الحديث. قال الامام: كان شيخي يفتي بالمنع من شد الرحال إلى غير هذه

(2/588)


المساجد الثلاثة، وربما كان يقول: يحرم. قال: والظاهر أنه ليس فيه تحريم ولا كراهة، وبه قال الشيخ أبو على، ومقصود الحديث، تخصيص القربة بقصد المساجد الثلاثة. قال الشيخ أبو علي واعلم أنه سبق في الاعتكاف، أن من عين بنذره مسجد المدينة، أو الاقصى للاعتكاف، تعين على الاظهر. والفرق: أن الاعتكاف عبادة في نفسه، وهو مخصوص بالمسجد، فإذا كان للمسجد فضل، فكأنه التزم فضيلة في العبادة الملتزمة، والاتيان بخلافه، ويوضحه: أنه لا خلاف في أنه لو نذر إتيان سائر المساجد، لم يلزمه، وفي مثله في الاعتكاف خلاف. فرع إذا نذر الصلاة في موضع معين، لزمه الصلاة لا محالة، ثم إن عين المسجد الحرام، تعين للصلاة الملتزمة. وإن عين مسجد المدينة أو الاقصى، فطريقان. قال الاكثرون: في تعيينه القولان في لزوم الاتيان. وقطع المراوزة بالتعين، والتعيين هنا أرجح كالاعتكاف، وإن عين سائر المساجد والمواضع، لم يتعين. وإذا عين مسجد المدينة أو الاقصى للصلاة، وقلنا بالتعيين، فصلى في المسجد الحرام، خرج عن نذره على الاصح، بخلاف العكس. وهل تقوم الصلاة في أحدهما مقام الصلاة في الآخر ؟ وجهان. قلت: فيه وجه ثالث: أنه يقوم مسجد المدينة مقام الاقصى، دون عكسه.

(2/589)


وهذا هو الاصح، ونص عليه في البويطي. والله أعلم. وذكر الامام، أنه لو قال: أصلي في مسجد المدينة، فصلى في غيره ألف صلاة، لم يخرج عن نذره، كما لو نذر ألف صلاة، لا يخرج عن نذره بصلاة واحدة في مسجد المدينة وإن شيخه كان يقول: لو نذر صلاة في الكعبة، فصلى في أطراف المسجد، خرج عن نذره. فرع قد سبق أن المذهب في نذر المشي إلى بيت الله الحرام، أنه يجب قصده بالحج أو العمرة. فلو قال في نذره: أمشي إلى بيت الله الحرام بلا حج ولا عمرة، فوجهان. أحدهما: ينعقد نذره ويلغو قوله: بلا حج ولا عمرة. والثاني: لا ينعقد، ثم إذا أتاه، فإن أوجبنا إحراما لدخول مكة، لزمه حج أو عمرة. وإن قلنا: لا، فعلى ما ذكرنا في مسجد المدينة والاقصى. قلت: أصحهما: ينعقد. والله أعلم. فرع لو قال: أصلي الفرائض في المسجد. قال في الوسيط: يلزمه إذا قلنا: صفات الفرائض تفرد بالالتزام. فرع قال القاضي ابن كج: إذا نذر أن يزور قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، فعندي أنه يلزمه الوفاء وجها واحدا. ولو نذر أن يزور قبر غيره، فوجهان. فرع قال في التتمة: لو قال: أمشي، ونوى بقلبه حاجا أو معتمرا، انعقد النذر إلى ما نوى، وإن نوى إلى بيت الله الحرام، جعل ما نواه كأنه تلفظ به. النوع الرابع: الهدايا والضحايا. إذا نذر ذبح حيوان، ولم يتعرض لهدي ولا أضحية، بأن قال: لله علي أن أذبح هذه البقرة، أو أنحر هذه البدنة، فإن قال مع ذلك: وأتصدق بلحمها، أو نواه، لزمه الذبح والتصدق. وإن لم يقله ولا نواه، فوجهان. أحدهما: ينعقد نذره، ويلزمه الذبح والتصدق. وأصحهما: لا ينعقد. ولو نذر أن يهدي بدنة أو شاة إلى مكة، أو أن يتقرب بسوقها إليها ويذبحها ويفرق لحمها على فقرائها، لزمه الوفاء، ولو لم يتعرض للذبح وتفرقة اللحم، لزمه الذبح بها أيضا. وفي تفرقة اللحم بها وجهان. أحدهما: لا تجب تفرقته بها إلا أن ينوي،

(2/590)


بل له أن يفرق في موضع آخر. وأصحهما: الوجوب. ولو نذر أن يذبح خارج الحرم ويفرق اللحم في الحرم على أهله. قال في التتمة: الذبح خارج الحرم لا قربة فيه، فيذبح حيث شاء، ويلزمه تفرقة اللحم، وكأنه نذر أن يهدي إلى مكة لحما. ولو نذر أن يذبح بمكة ويفرق اللحم على فقراء بلد آخر، وفى بما التزم. ولو قال: لله علي أن أنحر أو أذبح بمكة، ولم يتعرض للفظ القربة والتضحية، ولا التصدق باللحم، ففي انعقاد نذره وجهان. أصحهما: الانعقاد، وبه قطع الجمهور. وعلى هذا في وجوب التصدق باللحم على فقرائها الوجهان السابقان. ولو نذر الذبح بأفضل بلد، كان كنذر الذبح بمكة، فإنها أفضل البلاد. ولو نذر الذبح أو النحر ببلدة أخرى ولم يقل مع ذلك: وأتصدق على فقرائها، ولا نواه، فوجهان، أو قولان. أصحهما وهو نصه الام: لا ينعقد. والثاني: ينعقد. فإن قلنا: ينعقد لو تلفظ مع ذلك بالتصدق أو نواه، فهل يتعين التصدق باللحم، على فقرائها، أم يجوز نقله إلى غيرهم ؟ فيه طريقان. المذهب: أنهم يتعينون. وقيل: فيه خلاف مأخوذ من نقل الصدقة. فإن قلنا: لا يتعينون، لم يجب الذبح بتلك البلدة، بخلاف مكة، فإنها محل ذبح الهدايا. وإن قلنا: يتعينون، فوجهان. أحدهما: لا يحب الذبح بها، بل لو ذبح خارجها ونقل اللحم إليها طريا، جاز، وبهذا قطع صاحب التهذيب وجماعة. والثاني: تتعين إراقة الدم بها كمكة، وبهذا قطع العراقيون وحكوه عن نصه في الام. ولو قال: أضحي ببلد كذا، وأفرق اللحم على أهلها، انعقد نذره، ويغني ذكر التصدق، ونيته. وجعل الامام وجوب التفرقة على أهلها وجوب الذبح بها على الخلاف السابق. قال: ولو اقتصر على قوله: أضحي بها، فهل يتضمن ذلك تخصيص التفرقة بهم ؟ وجهان. الصحيح الذي جرى عليه الائمة: أنه تجب التفرقة والذبح بها. وفي فتاوى القفال: أنه لو قال: إن شفى الله مريضي، فلله علي أن أتصدق بعشرة على فلان، فشفاه الله تعالى، لزمه التصدق عليه. فإن لم يقبل، لم يلزمه شئ. وهل لفلان مطالبته بالتصدق بعد الشفاء ؟ يحتمل أن يقال: نعم، كما لو نذر إعتاق عبد معين إن شفي، فشفي، له المطالبة بالاعتاق، وكما لو وجبت الزكاة والمستحقون في البلد محصورون، لهم المطالبة. فصل إذا قال: لله علي أن أضحي ببدنة أو أهدي بدنة. قال الامام:

(2/591)


البدنة في اللغة: الابل، ثم الشرع قد يقيم مقامها بقرة، أو سبعا من الغنم. وقال الشيخ أبو حامد وجماعة: اسم البدنة يقع على الابل والبقر والغنم جميعا. ثم له حالان. أحدهما: أن يطلق التزام البدنة، فله إخراجها من الابل. وهل له العدول إلى بقرة أو سبع من الغنم ؟ فيه ثلاثة أوجه. أحدها: لا. والثاني: نعم. والصحيح المنصوص: أنه إن وجدت الابل، لم يجز العدول، وإلا جاز. الحال الثاني: أن يقيد فيقول: علي أن أضحي ببدنة من الابل أو ينويها، فلا يجزئه غير الابل إذا وجدت بلا خلاف، فإن عدمت، فوجهان. أحدهما: يصبر إلى أن يجدها ولا يجزئه غيرها. والصحيح المنصوص: أن البقرة تجزئه بالقيمة. فإن كانت قيمة البقرة دون قيمة البدنة من الابل، فعليه إخراج الفاضل. وفي وجه: لا تعتبر القيمة كما في حالة الاطلاق. والصحيح: الاول. واختلفوا في كيفية إخراج الفاضل، ففي الكافي للقاضي الروياني: أنه يشتري به بقرة أخرى إن أمكن، وإلا، فهل يشتري به شقصا، أو يتصدق به على المساكين ؟ وجهان. وفي تعليق الشيخ أبي حامد: أنه يتصدق به. وقال المتولي: يشارك إنسانا في بدنة أو بقرة، أو يشتري به شاة. وإذا عدل إلى الغنم في هذه الحالة، اعتبرت القيمة أيضا. ثم نقل الروياني في جمع الجوامع: أنه إذا لم يجد الابل في حالة التقييد، يتخير بين البقرة والغنم، لان الاعتبار بالقيمة. والذي ذكره ابن كج والمتولي: أنه لا يعدل إلى الغنم مع القدرة على البقرة، لانها أقرب. ولو وجد ثلاث شياه بقيمة البدنة، فوجهان. أصحهما: لا تجزئه، بل عليه ان يتم السبع من عنده. والثاني: تجزئه لوفائهن بالقيمة، قاله أبو الحسين النسوي من أصحابنا شيخ كان في زمن أبي إسحق وابن خيران. ولو نذر شاة، فجعل بدلها بدنة، جاز. وهل يكون الكل فرضا ؟ وجهان. فرع في الصفات المعتبرة في الحيوان المنذور مطلقا فإذا قال: لله علي أن أهدي بعيرا، أو بقرة، أو شاة، فهل يشترط فيه السن المجزئ في الاضحية والسلامة من العيوب ؟ قولان بناء على أن مطلق النذر يحمل على أقل ما وجب من ذلك الجنس، أو على أقل ما يتقرب به. والاول: أظهر. ولو قال:

(2/592)


أضحي ببعير، أو بقرة، ففيه مثل هذا الخلاف. قال الامام: وبالاتفاق لا يجزئ الفصيل، لانه لا يسمى بعيرا، ولا العجل إذا ذكر البقرة، ولا السخلة إذا ذكر الشاة. ولو قال: أضحي ببدنة أو أهدي بدنة، جرى الخلاف. ورأى الامام هذه الصورة أولى باشتراط السن والسلامة. ولو قال: لله علي هدي، أو أن أهدي ولم يسم شيئا، ففيه القولان إن حملنا على أقل ما يتقرب به من جنسه، خرج عن نذره بكل منحة حتى الدجاجة والبيضة وكل ما يتمول، لوقوع الاسم عليه. وعلى هذا، فالصحيح: أنه لا يجب إيصاله مكة، وصرفه إلى فقرائها، بل يجوز التصدق به على غيرهم. وينسب هذا القول إلى الاملاء والقديم. وإن حملنا على أقل ما يجب من جنسه، حمل على ما يجزئ في الاضحية، وينسب هذا إلى الجديد. وعلى هذا يجب إيصاله مكة، فإن محل الهدي الحرم. وفيه وجه ضعيف: أنه لا يجب إلا أن يصرح به. فرع ولو نذر ولو قال: علي أن أهدي الهدي، حمل على المعهود الشرعي بلا خلاف. فرع ولو نذر أن يهدي مالا معينا، وجب صرفه إلى مساكين الحرم. وفيه وجه ضعيف: أنهم لا يتعينون. ثم ينظر، إن كان المعين من النعم، بأن قال: أهدي هذه البدنة أو الشاة، وجب التصدق بها بعد الذبح، ولا يجوز التصدق بها حية، لان في ذبحها قربة، ويجب الذبح في الحرم على الاصح. وعلى الثاني: يجوز أن يذبح خارج الحرم، بشرط أن ينقل اللحم إليه قبل أن يتغير. وإن كان من غير النعم وتيسر نقله إلى الحرم، بأن قال: أهدي هذه الظبية، أو الطائر، أو الحمار، أو الثوب، وجب حمله إلى الحرم. وأطلق مطلقون: أن مؤنة النقل على الناذر، فإن لم يكن له مال، بيع بعضه لنقل الباقي. وأستحسن ما حكي عن القفال: أنه إن قال: أهدي هذا، فالمؤنة عليه، وإن قال: جعلته هديا، فالمؤنة فيه، يباع بعضه. لكن مقتضى جعله هديا، أن يوصل كله الحرم، فيلتزم مؤنته، كما لو قال: أهدي. ثم إذا بلغ الحرم، فالصحيح: أنه يجب صرفه إلى مساكين الحرم. لكن لو نوى صرفه إلى تطييب الكعبة، أو جعل الثوب سترا لها، أو قربة أخرى هناك، صرفه إلى ما نوى. وفيه وجه: أنه وإن أطلق، فله صرفه إلى ما يرى. ووجه أضعف منه: أن الثوب الصالح للستر، يحمل عليه عند الاطلاق. قال الامام: قياس المذهب والذي صرح به الائمة: أن ذلك المال المعين، يمتنع بيعه

(2/593)


وتفرقة ثمنه، بل يتصدق بعينه، وينزل تعيينه منزل تعيين الاضحية والشاة في الزكاة، فيتصدق بالظبية والطائر وما في معناهما حيا، ولا يذبحه، إذ لا قربة في ذبحه. ولو ذبحه فنقصت القيمة، تصدق باللحم وغرم ما نقص. وفي التتمة وجه آخر ضعيف: أنه يذبح. وطردهما فيما إذا أطلق ذكر الحيوان وقلنا: لا يشترط أن يهدي ما يجزئ في الاضحية. أما إذا نذر إهداء بعير معيب، فهل يذبحه ؟ وجهان. أحدهما: نعم، نظرا إلى جنسه. وأصحهما: لا، لانه لا يصلح للتضحية كالظبية. أما إذا كان المال المعين مما لا يتيسر نقله، كالدار، والارض، والشجر، وحجر الرحى، فيباع وينقل ثمنه فيتصدق به على مساكين الحرم. قال في التهذيب: ويتولى الناذر البيع والنقل بنفسه. فرع في مسائل من الام لو قال: أنا أهدي هذه الشاة نذرا، لزمه أن يهديها، إلا أن تكون نيته: إني سأحدث نذرا، أو سأهديها. ولو نذر أن يهدي هديا، ونوى بهيمة، أو جديا، أو رضيعا، أجزأه. والقولان السابقان فيما إذا أطلق نذر الهدي، ولم ينو شيئا. ولو نذر أن يهدي شاة عوراء، أو عمياء، أو ما لا يجوز التضحية به، أهداه، ولو أهدى تاما، كان أفضل.
فصل في مسائل منثورة
إحداها: إذا نذر الصوم في بلد، لم يتعين، بل له أن يصوم حيث شاء، سواء عين مكة أو غيرها. وفي وجه شاذ: إذا عين الحرم، اختص به. الثانية: ستر الكعبة وتطييبها من القربات، سواء سترها بالحرير وغيره. ولو نذر سترها وتطييبها، صح نذره. وإذا نذر أن يجعل ما يهديه في رتاج الكعبة وطيبها، قال إبرهيم المروذي: ينقله إليها ويسلمه إلى القيم ليصرفه في الجهة المذكورة، إلا أن يكون ند نص في نذره أنه يتولى ذلك بنفسه. ولو نذر تطييب مسجد المدينة، أو الاقصى، أو غيرهما من المساجد، ففيه تردد للامام. ومال الامام إلى تخصيصه بالكعبة، والمسجد الحرام. الثالثة: نقل القاضي ابن كج وجهين فيمن قال: إن شفى الله مريضي، فلله علي أن أعجل زكاة مالي، هل يصح نذره ؟ ووجهين فيمن قال: إن شفى الله مريضي، فلله علي أن أذبح عن ولدي، هل يلزمه الذبح عن ولده، لان الذبح عن

(2/594)


الاولاد مما يتقرب به ؟ ووجهين فيما إذا قال: إن شفى الله مريضي، فلله علي أن أذبح ابني، فإن لم يجز فشاة مكانه، هل يلزمه ذبح شاة ؟ ووجهين فيما إذا نذر النصراني أن يصلي أو يصوم، ثم أسلم، هل يلزمه أن يصلي صلاة شرعنا وصومه ؟ قلت: الاصح في الصورة الثانية: الصحة. وفي الباقي: البطلان. والله أعلم. الرابعة: في فتاوى القفال: أنه لو نذر أن يضحي بشاة، ثم عين شاة لنذره، فلما قدمها للذبح صارت معيبة، لا تجزئ. ولو نذر أن يهدي شاة، ثم عين شاة، وذهب بها إلى مكة، فلما قدمها للذبح تعيبت، أجزأته، لان الهدي ما يهدى إلى الحرم، وبالوصول إليه حصل الاهداء، والتضحية لا تحصل إلا بالذبح. الخامسة: قال صاحب التقريب: لو قال: إن شفى الله مريضي، فلله علي أن أشتري بدرهم خبزا وأتصدق به، لا يلزمه الشراء، بل يلزمه أن يتصدق بخبز قيمته درهم. السادسة: لو قال: إن شفى الله مريضي، فلله على رجلي حج ماشيا، صح نذره، إلا أن يريد إلزام الرجل حاجة. ولو قال: على نفسي أو رقبتي، صح. السابعة: إذا نذر إعتاق رقبة وكان عليه رقبة عن كفارة، فأعتق رقبتين، ونواهما عن الواجب، أجزأه وإن لم يعين، كما لو كان عليه كفارتان مختلفتان. الثامنة: لو نذر صلاتين، لم يخرج عن نذره بأربع ركعات بتسليمة واحدة. التاسعة: لو قال: إن شفى الله مريضي، فلله علي أن أتصدق بشئ، صح نذره، ويتصدق بما شاء من قليل وكثير. ولو قال: فعلي ألف، ولم يعين شيئا باللفظ ولا بالنية، لم يلزمه شئ. العاشرة: ولو نذر صوم شهر، ومات قبل إمكان الصوم، يطعم عنه عن كل يوم مد، بخلاف ما لو لزمه قضاء رمضان لمرض، أو سفر، ومات قبل إمكان القضاء، لا يطعم عنه، لان المنذور مستقر بنفس النذر، قاله القفال، وبنى على هذا: أنه لو

(2/595)


حلف وحنث في يمينه وهو معسر فرضه الصيام، فمات قبل الامكان، يطعم عنه. وأنه لو نذر حجة، ومات قبل الامكان، يحج عنه، وهذا بخلاف ما قدمناه في الحج. الحادية عشرة: قال القفال: من التزم بالنذر أن لا يكلم الآدميين، يحتمل أن يقال: يلزمه، لانه مما يتقرب به، ويحتمل أن يقال: لا، لما فيه من التضييق والتشديد، وليس ذلك من شرعنا، كما لو نذر الوقوف في الشمس. قلت: الاحتمال الثاني أصح. واعلم أنه ثبت في صحيحي البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن النذر. وفي فتاوى القاضي حسين: أنها لو كانت تلد أولادا ويموتون، فقالت: إن عاش لي ولد، فلله علي عتق رقبة، قال: يشترط للزوم العتق أن يعيش لها ولد أكثر مما عاش أكبر أولادها الموتى، وإن قلت تلك الزيادة. وقال العبادي: متى ولدت حيا، لزمها العتق وإن لم يعش أكثر من ساعة، لانه عاش. والاول: أصح. وأنه لو نذر التضحية بهذه الشاة على أن لا يتصدق بلحمها، لا ينعقد. وأنه لو قال: إن شفى الله مريضي، فلله علي أن أتصدق بدينار، فشفى، فاراد التصدق به على ذلك المريض وهو فقير، فان كان لا يلزمه نفقه، جاز، والا، فلا. وانه لو قال إن شفى الله مريضي، فلله علي أن أتصدق على ولدى أو على زيد وزيد موسر يلزمه الوفا لان الصدقة على الغنى جائزه وقربه وإنه لو نذر صوم سنه معينه ثم قال ان شفى الله مريضي، فلله علي أن أصوم الاثانين من هذه السنة. قال: لا ينعقد نذر الثاني، لان الزمان مستحق لغيره. وقال العبادي: ينعقد ويلزمه القضاء. قيل له: لو كان له عبد فقال: إن شفى الله مريضي، فلله علي عتقه، ثم وفي فتاوى القاضي حسين: أنها لو كانت تلد أولادا ويموتون، فقالت: إن عاش لي ولد، فلله علي عتق رقبة، قال: يشترط للزوم العتق أن يعيش لها ولد أكثر مما عاش أكبر أولادها الموتى، وإن قلت تلك الزيادة. وقال العبادي: متى ولدت حيا، لزمها العتق وإن لم يعش أكثر من ساعة، لانه عاش. والاول: أصح. وأنه لو نذر التضحية بهذه الشاة على أن لا يتصدق بلحمها، لا ينعقد. وأنه لو قال: إن شفى الله مريضي، فلله علي أن أتصدق بدينار، فشفى، فاراد التصدق به على ذلك المريض وهو فقير، فان كان لا يلزمه نفقه، جاز، والا، فلا. وانه لو قال إن شفى الله مريضي، فلله علي أن أتصدق على ولدى أو على زيد وزيد موسر يلزمه الوفا لان الصدقة على الغنى جائزه وقربه وإنه لو نذر صوم سنه معينه ثم قال ان شفى الله مريضي، فلله علي أن أصوم الاثانين من هذه السنة. قال: لا ينعقد نذر الثاني، لان الزمان مستحق لغيره. وقال العبادي: ينعقد ويلزمه القضاء. قيل له: لو كان له عبد فقال: إن شفى الله مريضي، فلله علي عتقه، ثم قال: إن قدم زيد، فعلي عتقه، قال: ينعقدان، فإن وقعا معا، أقرع بينهما، هذا آخر المنقول من فتاوى القاضي.

(2/596)


ومما يحتاج إليه: إذا نذر زيتا، أو شمعا، أو نحوه ليسرج به في مسجد أو غيره، إن كان بحيث ينتفع به - ولو على الندور - مصل هناك أو نائم أو غيرهما، صح ولزم. وإن كان يغلق ولا يتمكن أحد من الدخول والانتفاع به، لم يصح. ولو وقف شيئا ليشترى من غلته زيت أو غيره ليسرج به في مسجد أو غيره، فحكمه في الصحة ما ذكرناه في النذور. والله أعلم. انتهى الجزء الثاني ويليه الجزء الثالث واوله " كتاب البيع "

(2/597)