روضة الطالبين وعمدة المفتين ط العلمية

روضة الطالبين - كتاب الجعالة
هي أن يقول: من رد عبدي الآبق، أو دابتي الضالة، ونحو ذلك، فله كذا، وهي عقد صحيح للحاجة، وأركانه أربعة.
أحدها : الصيغة الدالة على الاذن في العمل بعوض يلتزمه، فلو رد آبقا أو ضالة بغير إذن مالكها، فلا شئ له، سواء كان الراد معروفا برد الضوال، أم لا.

(4/335)


ولو قال لزيد: رد آبقي ولك دينار، فرده عمرو، لم يستحق شيئا، لانه لم يشرط له. ولو رده عبد زيد، استحق زيد لان يد عبده يده. ولو قال: من رده فله كذا، فرده من لم يبلغه نداؤه، لم يستحق شيئا، لانه متبرع. فإن قصد التعوض لاعتقاده أن مثل هذا العمل لا يحبط، لم يستحق شيئا على المذهب، ولا أثر لاعتقاده. وعن الشيخ أبي محمد، تردد فيه. ولو عين رجلا فقال: إن رده زيد فله كذا، فرده زيد غير عالم بإذنه، لم يستحق شيئا. ولو أذن في الرد ولم يشرط عوضا، فلا شئ للراد على المذهب وظاهر النص، وفيه الخلاف السابق فيمن قال: اغسل ثوبي ولم يسم عوضا. فصل لا يشترط أن يكون الملتزم من يقع العمل في ملكه. فلو قال غير المالك: من رد عبد فلان فله كذا، استحقه الراد على القائل. ولو قال فضولي: قال فلان من رد عبدي فله كذا، لم يستحق الراد على الفضولي شيئا، لانه لم يلتزم. وأما المالك، فإن كذب الفضولي عليه، فلا شئ عليه. وإن صدق، قال البغوي: يستحق عليه. وكأن هذا فيما إذا كان المخبر ممن يعتمد قوله، وإلا، فهو كما لو رد غير عالم بإذنه. قلت: لو شهد الفضولي على المالك بإذنه، قال: فينبغي أن لا تقبل شهادته، لانه متهم في ترويج قوله. وأما قول صاحب البيان: مقتضى المذهب قبولها، فلا يوافق عليه. والله أعلم فرع سواء في صيغة المالك قوله: من رد عبدي، وقوله: إن رده إنسان، أو إن رددته، أو رده ولك كذا.
الركن الثاني : المتعاملان. فأما ملتزم الجعل، فيشترط أن يكون مطلق التصرف. وأما العامل، فيجوز أن يكون شخصا معينا، وجماعة، ويجوز أن لا

(4/336)


يكون معينا ولا معينين، وقد سبق بيانه في الركن الاول. ثم إذا لم يكن العامل معينا، فلا يتصور قبول العقد وإن كان لم يشترط قبوله، كذا قاله الاصحاب، وهو المذهب. وقال الامام: لا يمتنع أن يكون كالوكيل في القبول، ويشترط عند التعيين أهلية العمل في العامل.
الركن الثالث : العمل، فما لا تجوز الاجارة عليه من الاعمال لكونه مجهولا، تجوز الجعالة عليه للحاجة، وما جازت الاجارة عليه، جازت الجعالة أيضا على الصحيح. وقيل: لا، للاستغناء بالاجارة. ولو قال: من رد مالي فله كذا، فرده من كان في يده، نظر، إن كان في رده كلفة كالآبق، استحق الجعل. وإن لم يكن، كالدراهم والدنانير، فلا، لان ما لا كلفة فيه لا يقابل بالعوض. ولو قال: من دلني على مالي فله كذا، فدله من المال في يده، لم يستحق شيئا، لان ذلك واجب عليه شرعا، فلا يأخذ عليه عوضا. وان كان في يد غيره، فدله عليه، استحق، لان الغالب أنه يلحقه مشقة بالبحث عنه. وما يعتبر في العمل لجواز الاجارة، يعتبر في الجعالة، سوى كونه معلوما. قلت: فمن ذلك أنه لو قال: من أخبرني بكذا، فأخبره به إنسان، فلا شئ له، لانه لا يحتاج فيه إلى عمل، كذا صرح به البغوي وغيره. والله أعلم

(4/337)


الركن الرابع : الجعل المشروط، وشرطه أن يكون معلوما كالاجرة، لعدم الضرورة إلى جهالته. فإن شرط مجهولا، بأن قال: من رد آبقي فله ثوب أو دابة، أو إن رددته فعلي أن أرضيك أو أعطيك شيئا، فسد العقد. وإذا رد، استحق أجرة المثل، وكذا لو جعل الجعل خمرا أو خنزيرا. ولو جعل الجعل ثوبا مغصوبا، قال الامام: يحتمل أن يكون فيه قولان كما لو جعل المغصوب صداقا، فيرجع في قول بأجرة المثل، وفي قول بقيمة المسمى. قال: ويحتمل القطع بأجرة المثل. ولو قال: من رد عبدي فله سلبه أو ثيابه، قال المتولي: إن كانت معلومة، أو وصفها بما يفيد العلم، استحق الراد المشروط، وإلا، فأجرة المثل. ولو قال: فله نصفه أو ربعه، فقد صححه المتولي، ومنعه أبو الفرج السرخسي. فصل لو قال: من رد لي عبدي من بلد كذا فله دينار، بني على الخلاف في صحة الجعالة في العمل المعلوم، فإن صححناها، فمن رده من نصف الطريق، استحق نصف الجعل، ومن رده من ثلثه، استحق الثلث. وإن رده من مكان أبعد، لم يستحق زيادة. ولو قال: من رد لي عبدين فله كذا، فرد أحدهما، استحق نصف الجعل. ولو قال: إن رددتما عبدي فلكما كذا، فرده أحدهما، استحق النصف، لانه لم يلتزم له أكثر من ذلك. وإن قال: إن رددتما لي عبدين، فرد أحدهما أحدهما، استحق الربع. فصل قال: من رد عبدي فله دينار، فاشترك جماعة، فالدينار مشترك بينهم. ولو قال لجماعة: إن رددتموه، فردوه، فكذلك، ويقسم بينهم على الرؤوس. ولو قال لزيد: إن رددته فلك دينار، فرده هو وغيره، فلا شئ لذلك الغير، لانه لم يلتزم له. وأما زيد، فإن قصد الغير معاونته إما بعوض وإما مجانا،

(4/338)


فله تمام الجعل، ولا شئ للغير على زيد، إلا أن يلتزم له أجرة ويستعين به. وإن قال: عملت للمالك، لم يكن لزيد جميع الدينار، بل له نصفه على الصحيح الذي قاله الاصحاب. ورأى الامام التوزيع على العمل أرجح. ولو شاركه إثنان في الرد، فإن قصدا إعانة زيت، فله تمام الجعل، وإن قصدا العمل للمالك، فله ثلثه. وإن قصد أحدهما إعانته، والآخر العمل للمالك، فله الثلثان. فان قيل: هل للعامل المعين أن يوكل بالرد غيره كما يستعين به ؟ وهل إذا كان النداء عاما يجوز أن يوكل من سمعه غيره في الرد ؟ قلنا: يشبه أن يكون الاول كتوكيل الوكيل، والثاني كالتوكيل بالاحتطاب والاستقاء. قلت: ولو قال: أول من يرد آبقي فله دينار، فرده إثنان، استحقا الدينار، وستأتي هذه المسألة إن شاء الله تعالى في آخر الطرف الثالث من الباب السادس في تعليق الطلاق. والله علم فرع قال لرجل: إن رددته فلك كذا، ولآخر: إن رددته فلك كذا، ولثالث: إن رددته فلك كذا، فاشتركوا في الرد، قال الشافعي رضي الله عنه: لكل واحد ثلث ما جعل له، اتفقت الاجعال أم اختلفت. قال المسعودي: هذا إذا عمل كل منهم لنفسه. أما لو قال أحدهم: أعنت صاحبي عملت لهما، فلا شئ له، ولكل منهما نصف ما شرط له. ولو قال إثنان: عملنا لصاحبنا، فلا شئ لهما، وله جميع المشروط. وقول الشافعي رضي الله عنه: لكل واحد الثلث، تصريح بالتوزيع على الرؤوس، فلو رده إثنان منهم، فلكل منهما نصف المشروط له، وإن أعان الثلاثة رابع في الرد، فلا شئ له. ثم إن قال: قصدت العمل للمالك، فلكل واحد من الثلاثة ربع المشروط له. وإن قال: أعنتهم جميعا، فلكل واحد منهم ثلث المشروط له كما لو لم يكن معهم غيرهم. وإن قال: أعنت فلانا، فله نصف

(4/339)


المشروط له، ولكل واحد من الآخرين ربع المشروط له. وعلى هذا القياس لو قال: أعنت فلانا وفلانا، فلكل واحد منهما ربع المشروط له وثمنه، وللثالث ربع المشروط له. ولو قال لواحد: إن رددته فلك دينار، وقال لآخر: إن رددته فلك ثوب، فرداه، فللاول نصف دينار، وللثاني نصف أجرة المثل. قلت: ولو قال المعين للثلاثة مثلا في الصورة السابقة: أردت أن آخذ الجعل من المالك، لم يستحق شيئا، وكان لكل من الثلاثة ربع المشروط له. والله علم.
فصل في أحكام الجعالة فمنها : الجواز، فلكل واحد من المالك والعامل فسخها قبل تمجم العمل، فأما بعد تمام العمل، فلا أثر للفسخ، لان الدين لزم. ثم إن اتفق الفسخ قبل الشروع في العمل، فلا شئ للعامل. وإن كان بعده، فان فسخ العامل، فلا شئ له، لانه امتنع باختياره ولم يحصل غرض المالك. وإن فسخ المالك، فوجهان. أحدهما: لا شئ للعامل كما لو فسخ بنفسه. والصحيح، أنه يستحق أجرة المثل لما عمل، وبهذا قطع الجمهور، وعبروا عنه بأنه ليس له الفسخ حتى يضمن للعامل أجرة مثل ما عمل. ولو عمل العامل شيئا بعد الفسخ، لم يستحق شيئا إن علم بالفسخ. فان لم يعلم، بني على الخلاف في نفوذ عزل الوكيل في غيبته قبل علمه. فرع تنفسخ الجعالة بالموت، ولا شئ للعامل لما عمله بعد موت المالك. فلو قطع بعض المسافة، ثم مات المالك فرده إلى وارثه، استحق من المسمى بقدر عمله في الحياة. فرع ومن أحكامها: جواز الزيادة والنقص في الجعل، وتغير جنسه قبل الشروع في العمل. فلو قال: من رد عبدي، فله عشرة. ثم قال: من رده فله

(4/340)


خمسة أو بالعكس، فالاعتبار بالنداء الاخير. والمذكور فيه هو الذي يستحقه الراد، لكن لو لم يسمع الراد النداء الاخير، قال الغزالي: يحتمل أن يقال: يرجع إلى أجرة المثل. وأما بعد الشروع في العمل، ففي كلام صاحب المهذب وغيره تقييد جواز الزيادة والنقص بما قبل العمل، وفي كلام الغزالي قبل الفراغ. فالظاهر، أنه في أثناء العمل يؤثر في الرجوع إلى أجرة المثل، لان النداء الاخير فسخ للاول، والفسخ في أثناء العمل يقتضي أجرة المثل. فرع ومن أحكامها، توقف استحقاق الجعل على تمام الجعل على تمام العمل. فلو سعى في طلب الآبق، فرده فمات في باب دار المالك قبل أن يسلمه إليه، أو هرب، أو عضب، أو تركه العامل فرجع، فلا شئ للعامل، لانه لم يرد. قلت: ومنه لو خاط نصف الثوب فاحترق، أو تركه، أو بنى بعض الحائط فانهدم، أو تركه، فلا شئ للعامل، قاله أصحابنا. والله أعلم فرع إذا رد الآبق، لم يكن له حبسه لاستيفاء الجعل، لان الاستحقاق بالتسليم، ولاحبس قبل الاستحقاق. فرع قال: إن علمت هذا الصبي، أو إن علمتني القرآن، فلك كذا، فعلمه البعض، وامتنع من تعليم الباقي، فلا شئ له، وكذا إن كان الصبي بليدا لا يتعلم، لانه كمن طلب العبد فلم يجده. ولو مات الصبي في أثناء التعليم، استحق أجرة ما علمه، لوقوعه مسلما بالتعليم، بخلاف رد الآبق، وإن منعه أبوه من التعلم فله أجرة المثل لما علمه.

(4/341)


فصل إذا جاء بآبق وطلب الجعل، فقال المالك: ما شرطت جعلا، أو شرطته على عبد آخر، أو ما سعيت في رده بل هو جاء بنفسه، فالقول قول المالك، لان الاصل عدم الشرط وبراءته. ولو اختلفا في قدر المشروط، تحالفا، وللعامل أجرة المثل. وكذا لو قال المالك: شرطته على رد عبدين، فقال الراد: بل الذي رددته فقط. فرع قال: من رد عبدي إلى شهر، فله كذا، قال القاضي أبو الطيب: لا يصح، لان تقدير المدة يخل بمقصود العقد، فربما لا يجده فيها فيضيع عمله ولا يحصل غرض المالك، كما لا يجوز تقدير مدة القراض. فرع قال: بع عبدي هذا، أو إعمل كذا، ولك عشرة دراهم، ففي بعض التصانيف أنه إن كان العمل مضبطا مقدرا، فهو إجارة. وإن احتاج إلى تردد، أو كان غير مضبوط، فهو جعالة. فرع لم أجده مسطورا يد العامل على ما يقع في يده إلى أن يرده يد أمانة. فلو رفع يده عن الدابة وخلاها في مضيعة، فهو تقصير مضمن، ونفقة العبد والدابة مدة الرد، يجوز أن تكون كما ذكرنا في مستأجر الجمال إذا هرب الجمال وخلاها عنده، ويجوز أن يقال: ذاك للضرورة، وهنا أثبت العامل يده مختارا، فليتكلف المؤنة، ويؤيد هذا العادة. قلت: عجب قول الامام الرافعي في نفقة المردود: لا أعلمه مسطورا، وأنه يحتمل أمرين، وهذا قد ذكره القاضي ابن كج في كتابه التجريد وهو كثير النقل عنه، فقال: إذا أنفق عليه الراد، فهو متبرع عندنا. وهذا الذي قاله، ظاهر جار على القواعد. وقول الرافعي: وخلاها في مضيعة، لا حاجة إلى التقييد بالمضيعة، فحيث خلاها، يضمن. والله أعلم فرع قال: إن أخبرتني بخروج زيد من البلد، فلك كذا، فأخبره، ففي فتاوى القفال: أنه إن كان له غر ض في خروجه، استحق، وإلا، فلا، وهذا

(4/342)


يقتضي كونه صادقا، وينبغي أن ينظر، هل يناله تعب، أم لا ؟ قلت: ومما يتعلق بالباب، وتدعو إليه الحاجة، ما ذكره القاضي حسين وغيره، وهو مما لا خلاف فيه، أنه لو كان رجلان في بادية ونحوها، فمرض أحدهما، وعجز عن السير، لزم الآخر المقام معه، إلا أن يخاف على نفسه، فله تركه. وإذا أقام، فلا أجرة له. وإذا مات، أخذ هذا الرجل ماله وأوصله إلى ورثته، ولا يكون مضمونا، قال القاضي: وكذا لو غشي عليه، قال: وأما وجوب أخذ هذا المال، فإن كان أمينا، ففيه قولان كاللقطة. وعندي، أن المذهب هنا الوجوب. ومنها: ما ذكره ابن كج، قال: إذا وجدنا عبيدا أبقوا، فالمذهب أن الحاكم يحبسهم انتظارا لصاحبهم. فان لم يجئ لهم صاحب، باعهم الحاكم وحفظ ثمنهم. فإذا جاء صاحبهم، فليس له غير الثمن. وإذا سرق الآبق، قطع كغيره. والله علم

(4/343)