روضة الطالبين وعمدة المفتين ط العلمية

روضة الطالبين - كتاب إحياء الموات
إحياء الموات مستحب، وفيه ثلاثة أبواب.
الباب الأول : في رقاب الأرضين، وهي قسمان.
أحدهما : أرض الاسلام، ولها ثلاثة أحوال. أحدها: أن لا تكون معمورة في الحال، ولا من قبل، فيجوز تملكها بالاحياء، سواء أذن فيه الامام، أم لا، ويكفي فيه إذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الاحاديث المشهورة، ويختص ذلك بالمسلمين. فلو أحياها الذمي بغير إذن الامام، لم يملك قطعا، ولو أحيا بإذنه، لم يملك أيضا على الاصح، وقال الاستاذ أبو طاهر: يملك. فإذا قلنا بالصحيح، فكان له فيها عين مال، نقلها. فإن بقي بعد النقل أثر عمارة، قال ابن كج: إن أحياء رجل باذن الامام، ملكه، وإن لم يأذن، فوجهان. قلت: لعل أصحهما: الملك، إذ لا أثر لفعل الذمي. والله علم.

(4/344)


ولو ترك العمارة متبرعا، تولى الامام أخذ غلتها وصرفها في مصالح المسلمين، ولم يجز لاحد تملكها. فرع للذمي الاصطياد والاحتطاب والاحتشاش في دار الاسلام، لان ذلك يخلف، ولا يتضرر به المسلمون، بخلاف الارض، وكذا للذمي نقل التراب من موات دار الاسلام إذا لم يتضرر به المسلمون. فرع المستأمن كالذمي في الاحياء وفي الاحتطاب ونحوه، و الحربي ممنوع من جميع ذلك. الحال الثاني: أن تكون معمورة في الحال، فهي لملاكها، ولا مدخل فيها للاحياء. الحال الثالث: أن لا تكون معمورة في الحال وكانت معمورة قبل، فإن عرف مالكها، فهي له أو لوارثه، ولا تملك بالعمارة. وإن لم يعرف، نظر، إن كانت عمارة إسلامية، فهي لمسلم أو لذمي، وحكمها حكم الاموال الضائعة. قال الامام: والامر فيه إلى رأي الامام. فإن رأى حفظه إلى أن يظهر مالكه، فعل، وإن رأى بيعه وحفظ ثمنه، فعل، وله أن يستقرضه على بيت المال. هذا هو المذهب، وفيه خلاف سيأتي إن شاء الله تعالى قريبا.

(4/345)


وإن كانت عمارة جاهلية، فقولان. ويقال: وجهان. أحدهما: لا تملك بالاحياء، لانها ليست بموات. وأظهرهما: تملك كالركاز. وقال ابن سريج وغيره: إن بقي أثر العمارة أو كان معمورا في جاهلية قريبة، لم تملك بالاحياء، وإن اندرست بالكلية وتقادم عهدها، ملكت. ثم إن البغوي وآخرين عمموا هذا الخلاف، وفرعوا على المنع أنها إن أخذت بقتال فهي للغانمين، وإلا، فهي أرض للفيئ، قال الامام: موضع الخلاف إذا لم يعلم كيفية استيلاء المسلمين عليه ودخوله تحت يدهم، فأما إن علم، فإن حصلت بقتال، فللغانمين، وإلا، ففئ، وحصة الغانمين تلتحق بملك المسلم الذي لا يعرف. وطرد جماعة الخلاف، فيما إذا كانت العمارة الاسلامية ولم يعرف مالكها، وقالوا: هي كلقطة لا يعرف مالكها. والجمهور فرقوابين الجاهلية والاسلامية كما سبق.
القسم الثاني : أرض بلاد الكفار، ولها ثلاثة أحوال. أحدها: أن تكون معمورة، فلا مدخل للاحياء فيها، بل هي كسائر أموالهم فإذا استولينا عليها بقتال أو غيره، لم يخف حكمه. الحال الثاني: أن لا تكون معمورة في الحال ولا من قبل، فيتملكها الكفار بالاحياء. وأما المسلمون، فينظر، إن كان مواتا لا يذبون المسلمين عنه، فلهم تملكه بالاحياء، ولا يملك بالاستيلاء، لانه غير مملوك لهم حتى يملك عليهم. وإن ذبوا عنه المسلمين، لم يملك بالاحياء كالمعمور من بلادهم. فان استولينا عليه، ففيه أوجه. أصحها: أنه يفيد اختصاصا كاختصاص المتحجر، لان

(4/346)


الاستيلاء أبلغ منه. وعلى هذا فسيأتي إن شاء الله تعالى خلاف في أن التحجر (هل) يفيد جواز البيع ؟ إن قلنا: نعم، فهو غنيمة كالمعمور. وإن قلنا: لا، وهو الاصح، فالغانمون أحق بإحياء أربعة أخماسه، وأهل الخمس أحق بحياء خمسه. فإن أعرض الغانمون عن إحيائه، فأهل الخمس أحق به. ولو أعرض بعض الغانمين، فالباقون أحق. وإن تركه الغانمون وأهل الخمس جميعا، ملكه من أحياه من المسلمين. قلت: في تصور إعراض اليتامى والمساكين وابن السبيل، إشكال، فيصور في اليتامى أن أولياءهم لم يروا لهم حظا في الاحياء، ونحوه في الباقين. والله أعلم والوجه الثاني: أنهم يملكونه بالاستيلاء كالمعمور. والوجه الثالث: لا يفيد ملكا ولا اختصاصا، بل هو كموات دار الاسلام، من أحياه ملكه. الحال الثالث: أن لا تكون معمورة في الحال وكانت معمورة، فإن عرف مالكها، فكالمعمورة، وإلا، ففيه طريقة الخلاف وطريقة ابن سريج السابقتان في القسم الاول. فرع إذا فتحنا بلدة صلحا على أن تكون لنا ويسكنوا بجزية، فالمعمور منها فئ، ومواتها الذي كانوا يذبون عنه، هل يكون متحجرا لاهل الفئ ؟ وجهان. أصحهما: نعم. فعلى هذا، هو فئ في احال، أم يحبسه الامام لهم ؟ وجهان. أصحهما: الثاني، وإن صالحناهم على أن تكون البلدة لهم، فالمعمور لهم، والموا ت يختصون بإحيائه تبعا للمعمور، وعن القاضي أبي حامد وصاحب

(4/347)


التقريب: أنه إنما يجب علينا الامتناع عن مواتها إذا شرطناه في الصلح، والاول أصح. فرع قال البغوي: البيع التي للنصارى في دار الاسلام، لا تملك عليهم. فإن فنوا، فهو كما لو مات ذمي ولا وارث له، فتكون فيئا. فرع حريم المعمور لا يملك بالاحياء، لان مالك المعمور يستحق مرافقة، وهل نقول: إنه يملك تلك المواضع ؟ وجهان. أحدهما: لا، لان الملك بالاحياء ولم يحيها، وأصحهما: نعم، كما يملك عرصة الدار ببناء الدار، ولان الاحياء تارة يكون بجعله معمورا، وتارة بجعله تبعا للمعمور. ولو باع حريم ملكه دون الملك، لم يصح، قاله أبو عاصم، كما لو باع شرب الارض وحده. قال: ولو حفر اثنان بئرا على أن يكون نفس البئر لاحدهما وحريمها للآخر، لم يصح وكان الحريم لصاحب البئر، وللآخر أجرة عمله. فرع في بيان الحريم وهو المواضع القريبة التي يحتاج إليها لتمام الانتفاع، كالطريق ومسيل الماء ونحوهما، وفيه صور. إحداها: ذكرنا في الحال الثالث: إذا صالحنا الكفار على بلدة، لم يجز إحياء مواتها الذي يذبون عنه على الاصح، فهو من حريم تلك البلدة ومرافقها. الثانية: حريم القرى المحياة: ما حولها من مجتمع أهل النادي، ومرتكض الخل، ومناخ الابل، ومطرح الرماد والسماد، وسائر ما يعد من مرافقها. وأما مرعى البهائم، فقال الامام: إن بعد عن القرية، لم يكن من حريمها. وإن قرب ولم يستقل مرعى، ولكن كانت البهائم ترعى فيه الخوف من الابعاد،

(4/348)


فعن الشيخ أبي علي، خلاف فيه، والاصح عند الامام: أنه ليس بحريم. وأما ما يستقل مرعى وهو قريب، فينبغي أن يقطع بأنه حريم. وقال البغوي: مرعى البهائم حريم للقرية مطلقا. فرع المحتطب كالمرعى. الثالثة: حريم الدار في الموات: مطرح التراب والرماد والكناسات والثلج، والممر في الصوب الذي فتح إليه الباب، وليس المراد منه استحقاق الممر في قبالة الباب على امتداد الموات، بل يجوز لغيره إحياء ما في قبالة الباب إذا أبقي الممر له، فان احتاج إلى انعطاف وازورار، فعل. فرع عد جماعة منهم ابن كج فناء الدار من حريمها. وقال ابن الصباغ: عندي أن حيطان الدار لا فناء لها ولا حريم. فلو أراد محي أن يبني بجنبها، لم يلزمه أن يبعد عن فنائها، لكن يمنع مما يضر الحيطان كحفر بئر بقربها. الرابعة: البئر المحفورة في الموات، حريمها الموضع الذي يقف فيه

(4/349)


النازح، وموضع الدولاب ومتردد البهيمة إن كان الاستقاء بهما، ومصب الماء، والموضع الذي يجتمع فيه لسقي الماشية والزروع من حوض ونحوه، والموضع الذي يطرح فيه ما يخرج منه، وكل ذلك غير محدود، وإنما هو بحسب الحاجة، كذا قاله الشافعي والاصحاب رضي الله عنهم. وفي وجه: حريم البئر: قدر عمقها من كل جانب، ولم ير الشافعي رضي الله عنه التحديد، وحمل اختلاف روايات الحديث في التحديد، على اختلاف القدر المحتاج إليه. وبهذا يقاس حريم النهر المحفور في الموات. وأما القناة فأبارها لا يستقى منها حتى يعتبر به الحريم، فحريمها: القدر الذي لو حفر فيه لنقص ماؤها، أو خيف منه انهيار وانكباس، ويختلف ذلك بصلابة الارض ورخاوتها. وفي وجه: أن حريمها حريم البئر التي يستقى منها، ولا يمنع من الحفر إذا جاوزه وإن نقص الماء، وبهذا الوجه قطع الشيخ أبو حامد ومن تابعه. والقائلون به، قالوا: لو جاء آخر وتنحى عن المواضع المعدودة حريما، وحفر بئرا ينقص ماء الاول، لم يمنع منه، وهو خارج عن حريم البئر. والاصح: أنه ليس لغيره الحفر حيث ينقص ماءها، كماليس لغيره التصرف قريبا من بنائه بما يضر به، بخلاف ما إذا حفر بئرا في ملكه، فحفر جاره بئرا في ملكه فنقص ماء الاول، فانه يجوز. قال ابن الصباغ: والفرق أن الحفر في الموات ابتداء تملك، فلا يمكن منه إذا تضرر الغير، وهنا كل واحد متصرف في ملكه. وعلى هذا، فذلك الموضع داخل في حريم البئر أيضا. واعلم أن ما حكمنا بكونه حريما، فذلك إذا انتهى الموات إليه. فان كان هناك ملك قبل تمام حد الحريم، فالحريم إلى حيث ينتهي الموات. فرع كل ما ذكرناه في حريم الاملاك، مفروض فيما إذا كان الملك محفوفا بالموات، أو متاخما له من بعض الجوانب. فأما الدار الملاصقة للدار، فلا حريم لها، لان الاملاك متعارضة، وليس جعل موضع حريما لدار، أولى من جعله حريما لاخرى، وكل واحد من الملاك يتصرف في ملكه على العادة، ولا ضمان عليه إن أقضى إلى تلف. فإن تعدى، ضمن. والقول في تصرف المالكين المتجاوزين

(4/350)


بما يجوز وما لا يجوز، وبماذا يتعلق الضمان، منه ما سبق في كتاب الصلح، ومنه ما سيأتي إن شاء الله تعالى في خلال الديات. فرع لو اتخذ داره المحفوفة بالمساكن حماما، أو اصطبلا، أو طاحونة، أو حانوته في صف العطارين حانوت حداد أو قصار على خلاف العادة، ففيه وجهان. أحدهما: يمنع، للاضرار. وأصحهما: الجواز، لانه متصرف في خالص ملكه، وفي منعه إضرار به. وهذا إذا احتاط وأحكم الجدران بحيث يليق بما يقصده، فإن فعل ما الغالب فيه ظهور الخلل في حيطان الجار، فالاصح: المنع، وذلك مثل أن يدق الشئ في داره دقا عنيفا تتزعزع منه الحيطان، أو حبس الماء في ملكه بحيث تنتشر منه النداوة إلى حيطان الجار. ولو اتخذ داره مدبغة، أو حانوته مخبزة حيث لا يعتاد، فان قلنا: لا يمنع في الصورة السابقة، فهنا أولى، وإلا ففيه تردد للشيخ أبي محمد. واختار الروياني في كل هذا، أن يجتهد الحاكم فيها، ويمنع إن ظهر له التعنت وقصد الفساد. قال: وكذلك القول في إطالة البناء ومنع الشمس والقمر. فرع لو حفر في ملكه بئر بالوعة وفسد بها ماء بئر جاره، فهو مكروه، لكن لا يمنع منه، ولا ضمان عليه بسببه على الصحيح، وخالف فيه القفال. فرع لا يمنع من إحياء ما وراء الحريم، قرب، أم بعد، وسواء أحياه أهل العمران، أم غيرهم. فرع موات الحرم يملك بالاحياء، كما أن معموره يملك بالبيع والهبة. وهل تملك أرض عرفات بالاحياء كسائر البقاع، أم لا، لتعلق حق الوقوف بها ؟ وجهان. إن قلنا: تملك، ففي بقاء حق الوقوف فيما ملك وجهان. إن قلنا: يبقى، فذاك مع اتساع الباقي، أم بشرط ضيقه على الحجيج ؟ وجهان. واختار

(4/351)


الغزالي، الفرق بين أن يضيق الموقف فيمنع، أو، لا، فلا. والاصح: المنع مطلقا، وهو أشبه بالمذهب، وبه قطع المتولي، وشبهها بما تعلق به حق المسلمين عموما وخصوصا، كالمساجد والطرق والرباطات، ومصلى العيد خارج البلد. قلت: وينبغي أن يكون الحكم في أرض منى ومزدلفة، كعرفات، لوجود المعنى. والله علم.
فصل الشارع في إحياء الموات متحجر ما لم يتمه، وكذا إذا أعلم عليه علامة للعمارة، من نصب أحجار، أو غرز خشبات، أو قصبات، أو جمع تراب، أو خط خطوط، وذلك لا يفيد الملك، بل يجعله أحق به من غيره. وحكى ابن القطان وجها: أنه يملك به، وهو شاذ ضعيف، والتفريع على الصحيح. قلت: قال أصحابنا: إذا مات المتحجر، انتقل حقه إلى ورثته. ولو نقله إلى غيره، صار الثاني أحق به. والله أعلم وينبغي للمتحجر أن لا يزيد على قدر كفايته، وأن لا يتحجر ما لا يمكنه القيام بعمارته. فإن خالف، قال المتولي: فلغيره أن يحيي ما زاد على كفايته، وما زاد على ما يمكنه بعمارته. وقال غيره: لا يصح تحجره أصلا، لان ذلك القدر غير متعين. قلت: قول المتولي أقوى. والله أعلم وينبغي أن يشتغل بالعمارة عقيب التحجر. فان طالت المدة ولم يحي، قال له

(4/352)


السلطان: أحي أو ارفع يدك عنه. فان ذكر عذرا واستمهله، أمهله مدة قريبة يستعد فيها للعمارة. والنظر في تقديرها إلى رأي السلطان، ولا تتقدر بثلاثة أيام على الاصح، فإذا مضت ولم يشتغل بالعمارة، بطل حقه. وليس لطول المدة الواقعة بعد التحجر حد معين، وإنما الرجوع فيه إلى العادة. قال الامام: وحق المتحجر يبطل بطول الزمان وتركه العمارة وإن لم يرفع الامر إلى السلطان ولم يخاطبه بشئ، لان التحجر ذريعة إلى العمارة، وهي لا تؤخر عن التحجر إلا بقدر تهيئة أسبابها، ولهذا لا يصح تحجر من لا يقدر على تهيئة الاسبا ب، كمن يتحجر ليعمر في السنة القابلة، وكفقير يتحجر ليعمر إذا قدر، فوجب إذا أخر وطال أن يعود مواتا كما كان، هذا كلام الامام. وحكى الشيخ أبو حامد مثله عن أبي إسحق، ثم قال: عندي أنه لا يبطل إلا بالرفع إلى السلطان ومخاطبته. فرع لو بادر أجنبي قبل أن يبطل حق المتحجر، فأحيا ما تحجره، ملكه المحيي على الاصح المنصوص، لانه حقق سبب الملك وإن كان ظالما، كما لو دخل في سوم أخيه واشترى. والثاني: لا يملك، لئلا يبطل حق غيره. والثالث: أنه إن انضم إلى التحجر إقطاع السلطان، لم يملك المحيي، وإلا، فيملك. والرابع: إن أخذ المتحجر في العمارة، لم يملك المبادر، وإلا، فيملك. وشبهوا المسألة الخلاف فيما إذا عشش الطائر في ملكه وأخذ الفرخ غيره، هل يملكه ؟ قلت: والاصح أيضا أنه يملكه. وكذا لو توحل ظبي في أرضه، أو وقع الثلج فيها، ونحو ذلك، وقد سبقت مسائل تتعلق بهذا في كتاب الصيد. والله أعلم فرلو باع المتحجر ما تحجره، وقلنا بالصحيح: إنه لا يملك، لم يصح بيعه عند الجمهور. وقال أبو إسحق وغيره: يصح، وكأنه يبيع حق الاختصاص. وعلى هذا لو باع فأحياه في يد المشتري رجل، وقلنا: يملك، فهل يسقط الثمن، أم لا، لحصول التلف بعد القبض ؟ وجهان. قلت: أصحهما: الثاني. وإذا قلنا: لا يصح البيع، فأحياه المشتري قبل

(4/353)


الحكم بفسخ البيع، فهل يكون له، أم للبائع ؟ فيه وجهان حكاهما الشاشي، والصحيح: الاول. والله أعلم فرع لا قطاع الامام مدخل في الموات، وفائدته مصير المقطع أحق باحيائه كالمتحجر. وإذا طالت المدة، أو أحياه غيره، فالحكم كما سبق في المتحجر، ولا يقطع إلا لمن يقدر على الاحياء، وبقدر ما يقدر عليه.
فصل في بيان الإحياء
قال الاصحاب: المعتبر ما يعد إحياء في العرف، ويختلف باختلاف يقصد به. وتفصيله بمسائل. إحداها: إذا أراد المسكن، اشترط التحويط بالآجر أو اللبن أو الطين أو القصب أو الخشب بحسب العادة، ويشترط أيضا تسقيف البعض ونصب الباب على الصحيح فيهما. الثانية: إذا أراد زريبة للدواب، أو حضيرة فيها الثمار أو يجمع فيها الحطب أو الحشيش، اشترط التحويط، ولا يكفي نصب سعف وأحجار من غير بناء، لان المتملك لا يقتصر على مثله في العادة، وإنما يفعله المجتاز. ولو حوط البناء في طرف، واقتصر للباقي على نصب الاحجار والسعف، حكى الامام عن القاضي، أنه (يكفي)، وعن شيخه: المنع. ولا يشترط التسقيف هنا. وفي تعليق الباب، الخلاف السابق. أحدها: جمع التراب. الثالثة: إذا أراد مزرعة، اشترط أمور حواليه لينفصل المحيا عن غيره. وفي معناه: نصب قصب وحجر وشوك، ولا حاجة إلى التحويط. وقال الشيخ أبو حامد: عندي إذا

(4/354)


صارت الارض مزرعة بماء سيق إليها، فقد تم الاحياء وإن لم يجمع التراب حولها. الثاني: تسوية الارض بطم المنخفض وكسح المستعلي وحراثتها وتليين ترابها، فان لم يتيسر ذلك إلا بماء يساق إليها، فلا بد منه لتتهيأ للزراعة. الثالث: ترتيب ماء لها بشق ساقية من نهر، أو بحفر بئر أو قناة وسقيها، هل يشترط ذلك ؟ أطلق جماعة اشتراطه، والاصح ما ذكره ابن كج وغيره: أن الارض إن كانت بحيث يكفي لزراعتها ماء السماء، لم يشترط السقي وترتيب ماء على الصحيح. وإن كانت تحتاج إلى ماء يساق إليها، اشترط تهيئة ماء من عين أو بئر أو غيرهما. وإذا هيأه، نظر، إن حفر له الطريق ولم يبق إلا إجراء الماء، كفى، ولم يشترط الاجراء، ولا سقي الارض. وإن لم يحفر بعد، فوجهان. وأما أرض الجبال التي لا يمكن سوق الماء إليها ولا يصيبها إلا ماء السماء، فمال صاحب التقريب إلى أنه لا مدخل للاحياء فيها، وبه قال القفال وبنى عليه: أما إذا وجدنا شيئا من تلك الارض في يد إنسان، لم نحكم بأنه ملكه، ولا نجوز بيعه وإجارته. ومن الاصحاب من قال: يملك بالحراثة وجمع التراب على الاطراف، واختاره القاضي حسين. ولا تشترط الزراعة، لحصول الملك في المزرعة على الاصح، لانها استيفاء منفعة وهو خارج عن الاحياء، وكما لا يشترط في الدار أن يسكنها. المسألة الرابعة: إذا أراد بستانا أو كرما، فلا بد من التحويط، والرجوع فيما يحوط به إلى العادة، قاله ابن كج. وقال: فان كانت عادة البلد بناء جدار، اشترط البناء. وإن كان عادتهم التحويط بالقصب والشوك وربما تركوه أيضا كما في البصرة وقزوين، اعتبرت عادتهم، وحينئذ يكفي جمع التراب حواليه كالمزرعة. والقول في سوق الماء إليه كما سبق في المزرعة. ويعتبر غرس الاشجار على المذهب، وبه قطع الجمهور. وقيل: لا يعتبر إذا لم يعتبر الزرع في المزرعة. والفرق عل المذهب، أن اسم المزرعة يقع على الارض قبل الزرع، بخلاف البستان قبل الغرس، ولان الغرس يدوم فألحق بأبنية الدار، بخلاف الزرع.

(4/355)


فرع طرق الاصحاب متفقة على أن الاحياء يختلف باختلاف ما يقصده المحيي من مسكن وحظيرة وغير هما. وذكر الامام شيئين. أحدهما: أن القصد إلى الاحياء هل يعتبر لحصول الملك ؟ فقال: ما لا يفعله في العادة إلا المتملك كبناء الدار واتخاذ البستان، يفيد الملك وإن لم يوجد قصد. وما يفعله المتملك وغيره، كحفر البئر في الموات، وكزراعة قطعة من الموات اعتمادا على ماء السماء، إن انضم إليه قصد، أفاد الملك، وإلا، فوجهان. وما لا يكتفي به المتملك، كتسوية موضع النزول، وتنقيته عن الحجارة، لا يفيد الملك. وإن قصده شبه ذلك بالاصطياد بنصب الاحبولة في مدارج الصيود يفيد ملك الصيد. وإغلاق الباب إذا دخل الصيد الدار على قصد التملك، يفيد الملك. ودونه وجهان. وتوحل الصيد في أرضه التي سقاها، لا يفيد الملك وإن قصده. الشئ الثاني: إذا قصد نوعا وأتي بما يقصد به نوع آخر، أفاد الملك، حتى إذا حوط البقعة يملكها وإن قصد المسكن، لانه مما يملك به الزريبة لو قصدها. قال الامام الرافعي رحمه الله تعالى: أما الكلام الاول، فمقبول لا يلزم (منه) مخالفة الاصحاب، بل إن قصد شيئا اعتبرنا في كل مقصود ما فصلوه، وإلا، نظرنا فيما أتى به وحكمنا بما ذكره. وأما الثاني، فمخالفته لما ذكره الاصحاب صريحة، لما فيه من الاكتفاء بأدنى العمارات أبدا. فرع إذا حفر بئرا في الموات للتملك، لم يحصل الاحياء ما لم يصل إلى الماء. وإذا وصل، كفى إن كانت الارض صلبة، وإلا، فيشترط أن تطوى. وقال الامام: لا حاجة إليه. وفي حفر القناة، يتم الاحياء بخروج الماء وجريانه. ولو حفر نهرا ليجري الماء فيه على قصد التملك، فإذا انتهى رأس النهر الذي يحفره إلى النهر القديم، وجرى الماء فيه، ملكه، كذا قاله البغوي وغيره. وفي التتمة: أن الملك لا يتوقف على إجراء الماء فيه، لانه استيفاء منفعة كالسكون في الدار. قلت: هذا الثاني، أقوى. والله أعلم

(4/356)


فصل في الحمى هو أن يحمي بقعة من الموات لمواش بعينها، ويمنع سائر الناس الرعي فيها، وكان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يحمي لخاصة نفسة، ولكنه لم يفعله - صلى الله عليه وسلم -، وإنما حمى النقيع لا بل الصدقة ونعم الجزية وخيل المجاهدين. قلت: النقيع بالنون عند الجمهور، وهو الصواب. وقيل: بالباء الموحدة، وبقيع الغرقد بالباء قطعا. والله أعلم وأما غير رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فليس للآحاد الحمى قطعا، ولا للائمة لانفسهم، وفي حماهم لمصالح المسلمين، قولان. أظهرهما: الجواز. وقيل: يجوز قطعا. فإذا جوزناه، فهل يختص بالامام الاعظم، أم يجوز أيضا لولاته في النواحي ؟ وجهان حكاهما ابن كج وغيره. أصحهما: الثاني. وسواء حمى لخيل المجاهدين، أم لنعم الجزية والصدقة، والضوال، ومال الضعفاء عن الابعاد في طلب النجعة، ثم لا يحمي إلا الاقل الذي لا يبين ضرره على الناس ولا يضيق الامر عليهم، ثم ما حماه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، نص فلا ينقض ولا يغير بحال، هذا هو المذهب. وقيل: إن بقيت الحاجة التي حمى لها، لم يغير. وإن زالت، فوجهان. أصحهما: المنع، لانه تغيير المقطوع بصحته باجتهاد. وأما حمى غيره - صلى الله عليه وسلم -، فإذا ظهرت المصلحة في تغييره، جاز نقضه ورده إلى ما كان على الاظهر رعاية للمصلحة. وفي قول: لا يجوز كالمقبرة والمسجد. وقيل: يجوز للحامي نقض حماه، ولا يجوز لمن بعده من الائمة، وإذا جوزنا نقضه، فأحياه رجل باذن الامام، ملكه وكان الاذن في الاحياء نقضا. وإن استقل المحيي، فوجهان. ويقال: قولان منصوصان. أصحهما: المنع، لما فيه من الاعتراض على تصرف الامام وحكمه.

(4/357)


قلت: بقيت من الحمى مسائل مهمة. منها: لو غرس أو بنى أو زرع في النقيع، نقضت عمارته، وقلع زرعه وغرسه، ذكره القاضي أبو حامد في جامعه. منها: أن الحمى ينبغي أن يكون عليه حفاظ من جهة الامام أو نائبه، وأن يمنع أهل القوة من إدخال مواشيهم، لا يمنع الضعفاء، ويأمره الامام بالتلطف بالضعفاء من أهل , الماشية، كما فعل عمر رضي الله عنه. قال القاضي أبو حامد: فان كان للامام ماشية لنفسه، لم يدخلها الحمى، لانه من أهل القوة. فان فعل فقد ظلم المسلمين. ومنها: لو دخل الحمى من هو من أهل القوة، فرعى ماشيته، قال أبو حامد: فلا شئ عليه، ولا غرم ولا تعرير، ولكن يمنع من الرعي، ونقل ابن كج أيضا عن نص الشافعي رضي الله عنه أنه لا غرم عليه، وليس هذا مخالفا لما ذكرناه في كتاب الحج، أن من أتلف شيئا من شجر النقيع أو حشيشه ضمنه على الاصح. ومنها: أن عامل الصدقات إذا كان يجمعها في بلد، هل له أن يحمي موضعا لا يتضرر به أهل البلد ليرعاها فيه ؟ قال أبو حامد: قيل: له ذلك، ولم يذكر خلافه. وقال ابن كج: إن منعنا حمى الامام، فذا أولى، وإلا، فقولان. ومنها: لا يجوز للامام أن يحمي الماء المعد لشرب خيل الجهاد وإبل الصدقة والجزية وغيرها بلا خلاف، ذكره الشيخ نصر في تهذيبه. قال أصحابنا: إذا حمى الامام، وقلنا: لا يجوز حماه، فهو على أصل الاباحة، من أحياه، ملكه. ومنها: أنه يحرم على الامام وغيره من الولاة أن يأخذ من أصحاب المواشي عوضا عن الرعي في الحمى أو الموات، وهذا لا خلاف فيه، وقد نص عليه الماوردي في الاحكام وقاله آخرون. والله أعلم

(4/358)


الباب الثاني : في المنافع المشتركة وغيرها بقاع الارض إما مملوكة، وإما محبوسة على الحقوق العامة كالشوارع والمساجد والمقابر والرباطات، وإما منفكة عن الحقوق العامة والخاصة، وهي الموات. أما المملوكة، فمنفعتها تتبع الرقبة. وأما الشوارع، فمنفعتها الاصلية: الطروق. ويجوز الوقوف والجلوس فيها لغرض الاستراحة والمعاملة ونحوهما، بشرط أن لا يضيق على المارة، سواء أذن فيه الامام، أم لا، وله أن يظلل على موضع جلوسه بما لا يضر بالمارة من ثوب وبارية ونحوهما. وفي بناء الدكة، ما ذكرناه في كتاب الصلح. ولو سبق اثنان إلى موضع، فهل يقرع بينهما، أم يقدم الامام أحدهما ؟ وجهان. أصحهما: الاول. وفي ثبوت هذا الارتفاق لاهل الذمة وجهان حكاهما ابن كج، وهل لاقطاع فيه مدخل ؟ وجهان. أصحهما عند الجمهور: نعم، وهو المنصوص، لان له نظرا فيه، ولهذا يزعج من أضر جلوسه. وأما إذا تملك شئ من ذلك، فلا سبيل إليه بحال. وحكي وجه في الرقم للعبادي، وشرح مختصر الجويني لابن طاهر، أن للامام أن يتملك من الشوارع ما فضل عن حاجة الطروق، والمعروف الاول.

(4/359)


قلت: وليس للامام ولا غيره من الولاة أن يأخذ ممن يرتفق بالجلوس والبيع ونحوه في الشوارع عوضا بلا خلاف. والله علم فرع من جلس في موضع من الشارع، ثم قام عنه، إن كان جلوسه لاستراحة وشبهها، بطل حقه. وإن كان لحرفة ومعاملة، فان فارقه على أن لا يعود لتركه الحرفة، أو لقعوده في موضع آخر، بطل حقه أيضا. وإن فارقه على أن يعود فالمذهب ما ضبطه الامام والغزالي: أنه إن مضى زمن ينقطع فيه الذين ألفوا معاملته، بطل. وإن كان دونه، فلا. وسواء فارق بعذر سفر ومرض، أو بلا عذر، فعلى هذا لا يبطل حقه بالرجوع في الليل إلى بيته، وليس لغيره مزاحمته في اليوم

(4/360)


الثاني، وكذا الاسواق التي تقام في كل أسبوع، أو في كل شهر مرة، إذا اتخذ فيها مقعدا، كان أحق به في النوبة الثانية. وقال الاصطخري: إذا رجع ليلا، فمن سبقه أحق. وقال طائفة منهم القاضي وابن الصباغ: إن جلس باقطاع الامام، لم يبطل بقيامه. وإن استقل وترك فيه شيئا من متاعه، بقي حقه، وإلا، فلا. وإذا قلنا بالاول، فأراد غيره الجلوس فيه مدة غيبته القصيرة إلى أن يعود، فان كان لغير معاملة، لم يمنع قطعا، وإلا، لم يمنع أيضا على الاصح. قلت: وإذا وضع الناس الامتعة وآلات البناء ونحو ذلك في مسالك الاسواق والشوارع ارتفاقا لينقلوها شيئا بعد شئ، منعوا منه إن أضر بالمارة إضرارا ظاهرا، وإلا، فلا، ذكره الماوردي في الاحكام السلطانية. والله أعلم فرع يختص الجالس أيضا بما حوله بقدر ما يحتاج إليه لوضع متاعه ووقوف معامليه، وليس لغيره أن يقعد حيث يمنع رؤية متاعه أو وصول المعاملين إليه، أو يضيق عليه الكيل أو الوزن والاخذ والعطاء. قلت: وليس له منع من قعد لبيع مثل متاعه إذا لم يزاحمه فيما يختص به من المرافق المذكورة. والله أعلم فرع الجوال الذي يقعد كل يوم في موضع من السوق، يبطل حقه بمفارقته.
فصل وأما المسجد، فالجلوس فيه يكون لاغراض. منها: أن يجلس ليقرأ عليه القرآن أو الحديث أو الفقه ونحوها، أو ليستفتى. قال أبو عاصم العبادي والغزالي: حكمه كمقاعد الاسواق، لان له غرضا في ملازمته ذلك الموضع ليألفه الناس. وقال الماوردي: متى قام بطل حقه وكان السابق أحق به، والاول أشبه بمأخذ الباب. قلت: هذا المنقول عن الماوردي، حكاه في الاحكام السلطانية عن

(4/361)


جمهور الفقهاء. وعن مالك رضي الله عنه: أنه أحق، فمقتضى كلامه: أن الشافعي وأصحابه، من الجمهور رضي الله عنهم. والله أعلم ومنها: أن يجلس للصلاة، فلا اختصاص له في صلاة أخرى. وأما الصلاة الحاضرة، فهو أحق. فان فارق بغير عذر، بطل حقه فيها أيضا. وإن كان بعذر، فإن فارق لقضاء حاجة، أو تجديد وضوء، أو رعاف، أو إجابة داع ونحوها، لم يبطل اختصاصه على الصحيح، للحديث الصحيح، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا قام أحدكم من مجلسه - في المسجد - فهو أحق به إذا عاد إليه، ولا فرق على الوجهين بين أن يترك إزاره، أم لا، ولا بين أن يطرأ العذر بعد الشروع في الصلاة، أو قبله، وإن اتسع الوقت. ومنها: الجلوس للبيع والشراء والحرفة، وهو ممنوع منه. قلت: ومنها: الجلوس للاعتكاف، وينبغي أن يقال: له الاختصاص بموضعه ما لم يخرج من المسجد إن كان اعتكافا مطلقا. وإن نوى إعتكاف أيام، فخرج لحاجة جائزة، ففي بقاء اختصاصه إذا رجع احتمال، والظاهر بقاؤه، ويحتمل أن يكون على الخلاف فيما إذا خرج المصلي لعذر. ومنها: الجالس لاستماع الحديث والوعظ، والظاهر أنه كالصلاة فلا يختص فيما سوى ذلك المجلس ولا فيه إن فارقه بلا عذر، ويختص إن فارق بعذر على المختار. ويحتمل أن يقال: إن كان له عادة بالجلوس بقرب كبير المجلس، وينتفع الحاضرون بقربه منه لعلمه ونحو ذلك، دام اختصاصه في كل مجلس بكل حال. وأما مجلس الفقيه في موضع معين حال تدريس المدرس في المدرسة أو المسجد،

(4/362)


فالظاهر فيه دوام الاختصاص، لاطراد العرف، وفيه احتمال. والله أعلم فرع يمنع الناس من استطراق حلق القراء والفقهاء في المسجد توقيرا لها. فرع قال الامام: لا شك في انقطاع تصرف الامام وإقطاعه عن بقاع المسجد، فإن المساجد لله تعالى، ويخدشه شيئان. أحدهما: ذكر الماوردي، أن الترتب في المسجد للتدريس والفتوى كالترتب للامامة، فلا يعتبر إذن الامام في مساجد المحال، ويعتبر في الجوامع وكبار المساجد إذا كانت عاد البلد فيه الاستئذان، فجعل لاذن الامام أثر. الثاني: عند الشيخ أبو حامد وطائفة رحاب المسجد مع مقاعد الاسواق فيما يقطع للارتفاق بالجلوس فيه للبيع والشراء، وهذا كما يقدح في نفي الاقطاع، يخالف المعروف في المذهب في المنع من الجلوس في المسجد للبيع والشراء، إلا أن يراد بالرحاب: الافنية الخارجة عن حد المسجد. قلت: قال الماوردي في الاحكام: إن حريم الجوامع والمساجد، إن كان الارتفاق به مضرا بأهل المساجد، منع منه، ولم يجز للسلطان الاذن فيه، وإلا، جاز. وهل يشترط فيه إذن السلطان ؟ وجهان. والله أعلم.
فصل الرباطات المسبلة في الطرق وعلى أطراف البلاد، من سبق إلى موضع منها صار أحق به، وليس لغيره إزعاجه، سواء دخل باذن الامام، أم بغيره، ولا يبطل حقه بالخروج لشراء طعام ونحوه، ولا يشترط تخليفه نائبا له في الموضع، ولا أن يترك متاعه، لانه قد لا يجد أمينا. فان ازدحم اثنان ولا سبق، فعلى ما سبق في مقاعد الاسواق. وكذا الحكم في المدارس والخوانق إذا نزلها من هو (من) أهلها. وإذا سكن بيتا منها مدة، ثم غاب أياما قليلة، فهو أحق إذا عاد. وإن طالت غيبته، بطل حقه. قلت: والرجوع في الطول إلى العرف. ولو أراد غيره النزول فيه في مدة غيبة الاول على أن يفارقه إذا جاء الاول، فينبغي أن يجوز قطعا، أو يكون على الوجهين

(4/363)


السابقين في الموضع من الشارع. ويجوز لغير سكان المدرسة من الفقهاء والعوام دخولها، والجلوس فيها، والشرب من مياهها، والاتكاء والنوم فيها، ودخول سقايتها، ونحو ذلك مما جرى العرف به. وأما سكنى غير الفقهاء في بيوتها، فان كان فيه نص من الواقف بنفي أو إثبات، اتبع، وإلا، فالظاهر منعه، وفيه احتمال في بلد جرت به العادة. والله أعلم فرع النازلون في موضع من البادية، أحق به وبما حواليه بقدر ما يحتاجون إليه لمرافقهم، ولا يزاحمون في الوادي الذي سرحوا إليه مواشيهم، إلا أن يكون فيه كفاية للجميع، وإذا رحلوا، بطل اختصاصهم وإن بقي أثر الفساطيط ونحوها. قلت: ولو أرادت طائفة النزول في موضع من البادية للاستيطان، قال الماوردي: إن كان نزولهم مضرا بالسابلة، منعهم السلطان قبل النزول أو بعده. وإن لم يضر، راعى الاصلح في نزولهم ومنعهم ونقل غيرهم إليها. فان نزلوا بغير إذنه، لم يمنعهم، كما لا يمنع من أحيا مواتا بغير إذنه، ودبرهم بما يراه صلاحا لهم، وينهاهم عن إحداث زيادة إلا بإذنه. والله أعلم.
فصل المرتفق بالشارع والمساجد، إذا طال مقامه هل يزعج ؟ وجهان. أصحهما: لا، لانه أحد المرتفقين وقد سبق. والثاني: نعم. لتميز المشترك من المملوك. وأما الربط الموقوفة، فإن عين الواقف مدة المقام، فلا مزيد عليها، وكذا لو وقف على المسافرين. وإن أطلق الواقف، نظر إلى الغرض الذي بنيت له، وعمل بالمعتاد فيه، فلا يمكن من الاقامة في ربط المارة إلا لمصلحتها، أو لخوف يعرض، أو أمطار تتواتر، وفي المدرسة الموقوفة على طلبة العلم، يمكن من الاقامة إلى إتمام غرضه. فإن ترك التعلم والتحصيل، أزعج. وفي الخانقاه، لا يمكن هذا الضبط، ففي الازعاج إذا طال مقامه ما سبق في الشوارع.

(4/364)


الباب الثالث : في الاعيان الخارجة من الارض فيه طرفان.
الطرف الأول : في المعادن، وهي البقاع التي أودعها الله تعالى شيئا من الجواهر المطلوبة، وهي قسمان، ظاهرة، وباطنة. فالظاهرة: هي التي يبدو جوهرها بلا عمل، وإنما السعي والعمل لتحصيله. ثم تحصيله قد يسهل، وقد يكون فيه تعب، وذلك كالنفط وأحجار الرحى، والبرام، والكبريت، والقطران، والقار، والمومياء، وشبهها، فلا يملكها أحد بالاحياء والعمارة، وإن زاد بها النيل. ولا يختص بها أيضا المتحجر، وليس للسلطان إقطاعها، بل هي مشتركة بين الناس كالمياه الجارية، والكلا، والحطب. ولو حوط رجل على هذه المعادن وبنى عليها دارا أو بستانا، لم يملك البقعة، لفساد قصده. وأشار في الوسيط إلى خلاف فيه. والمعروف، الاول. وإذا ازدحم اثنان على معدن ظاهر، وضاق المكان، فالسابق أولى. ثم قال الجمهور: يقدم بأخذ قدر حاجته، ولم يبينوا أنها حاجة يوم أو سنة. قال الامام: والرجوع فيه إلى العرف، فيأخذ ما تقتضيه العادة لامثاله. وإذا أراد الزيادة على ما يقتضيه حق السبق، فهل يزعج أم يأخذ ما شاء ؟ وجهان أصحهما عند الاصحاب: يزعج. فأما إذا جاءا معا، فالاصح أنه يقرع بينهما. والثاني: يجتهد الامام ويقدم من

(4/365)


يراه أحوج وأحق. والثالث: ينصب من يقسم الحاصل بينهما. وقال العراقيون: الاوجه فيما إذا كانا يأخذان للحاجة. فإن كانا يأخذان للتجارة، يهايأ بينهما. فإن تشاحا في الابتداء، أقرع بينهما. والاشهر: إطلاق الاوجه. وعلى مقتضى قول العراقيين: إذا كان أحدهما تاجرا والآخر محتاج، يشبه أن يقدم المحتاج. فرع من المعادن الظاهرة، الملح الذي ينعقد من الماء، وكذا الجبلي إن كان ظاهرا لا يحتاج إلى حفر وتنحية تراب، والجص، والمدر، وأحجار النورة. وفي بعض شروح المفتاح عد الملح الجبلي من المعادن الباطنة. وفي التهذيب عد الكحل والجص منهما، وهما محمولان على ما إذا أحوج إظهارهما إلى حفر. ولو كان بقرب الساحل بقعة، لو حفرت وسيق الماء إليها ظهر فيها الملح، فليست هي من المعادن الظاهرة، لان المقصود منها يظهر بالعمل، فللامام إقطاعها، ومن حفرها وساق الماء إليها، وظهر الملح، ملكها كما لو أحيا مواتا. القسم الثاني: المعادن الباطنة، وهي التي لا يظهر جوهرها إلا بالعمل والمعالجة، كالذهب، والفضة، والفيروزج، والياقوت، والرصاص، والنحاس، والحديد، وسائر الجواهر المبثوثة في طبقات الارض. وتردد الشيخ أبو محمد، في أن حجر الحديد ونحوه، من الباطنة، أم الظاهرة، لان ما فيها من الجوهر باد ؟ والمذهب أنه باطن، لان الحديد لا يستخرج منه إلا بعلاج، وليس البادي على الحجر عين الحديد، وإنما هو في مخيلته. ولو أظهر السيل قطعة ذهب، أو أتى بها، التحقت بالمعادن الظاهرة. إذا ثبت هذا، فالمعدن الباطن هل يملك بالحفر والعمل ؟ قولان، لتردده بين الموات والمعدن الظاهر، أظهرهما: لا، رجحه الشافعي والاصحاب رضي الله عنهم. فإن قلنا: يملك، فذاك إذا قصد التملك وحفر حتى ظهر النيل. فأما قبل الظهور، فهو كالمتحجر، وهذا كما إذا حفر بئرا في الموا ت على قصد التملك، ملكها إذا

(4/366)


وصل إلى الماء. وإذا اتسع الحفر ولم يوجد النيل إفي الوسط، أو في بعض الاطراف، لم يقصر الملك على موضع النيل، بل يملك أيضا مما حواليه مما يليق يحريمه، وهو قدر ما يقف فيه الاعوان والدواب. ومن جاوز ذلك وحفر، لم يمنع وإن وصل إلى العروق. ويجوز للسلطان أن يقطعه كالموات. وإن قلنا: لا يملك، فالسابق إلى موضع منه أحق به، لكن إذا طال مقامه، ففي إزعاجه ما ذكرناه في المعادن الظاهرة. وقيل: لا يزعج هنا قطعا، لان هناك يمكن الاخذ دفعة فلا حاجة حلى الاطالة، وهنا لا يحصل إلا بمشقة فقدم السابق. ولو ازدحم اثنان، فعلى الاوجه التي هناك. وفي جواز إقطاعها على هذا القول، قولان. أحدهما: المنع كالمعادن الظاهرة. وأظهرهما: الجواز، ولا يقطع إلا قدرا يتأتى للمقطع العمل عليه والاخذ منه. وعلى القولين، يجوز العمل في المعدن الباطن والاخذ منه بغير إذن الامام، فإنه إما كالمعدن الظاهر، وإما كالموات. فرع لو أحيا مواتا، ثم ظهر فيه معدن باطن، ملكه بلا خلاف، لانه بالاحياء ملك الارض بأجزائها إن لم يعلم بها معدنا. فإن علم واتخذ عليه دارا، فطريقان. أحدهما: على القولين السابقين. والثاني: القطع بالملك. وأما البقعة المحياة، فقال الامام: ظاهر المذهب، أنها لا تملك، لان المعدن لا يتخذ دارا ولا مزرعة، فالقصد فاسد. وقيل: يملكها. وكأن ما ذكرناه من الخلاف في المعادن الظاهرة عن الوسيط مأخوذ من هذا. فرع مما يتفرع على القولين في المعدن الباطن، أنه إذا عمل عليه في الجاهلية، هل يملك ؟ وهل يجوز إقطاعه ؟ إن قلنا: يملك بالحفر والعمل، فهو ملك للغانمين، وإلا، ففي جواز إقطاعه القولان السابقان. فرع مالك المعدن الباطن، لا يصح منه بيعه على الصحيح، لان مقصوده النيل، وهو متفرق في طبقات الارض، مجهول القدر والصفة، فهو كبيع قدر مجموع من تراب المعدن وفيه النيل، وهو باطل. وحكى الامام وجها في جوازه،

(4/367)


لان المبيع رقبة المعدن والنيل فائدته. فرع لو تملك معدنا باطنا، فجاء غيره واستخرج منه نيلا بغير إذنه، لزمه رده، ولا أجرة له. ولو قال المالك: اعمل فيه واستخرج النيل لي، ففعل، ففي استحقاقه الاجرة الخلاف فيمن قال: اغسل ثوبي فغسل. ولو قال: اعمل فما استخرجته فهو لك، أو قال: استخرج لنفسك، فالحاصل لمالك المعدن، لانه هبة مجهول. وكان يمكن تشبيهه بباحة ثمار البستان، ولكن المنقول الاول. وفي استحقاقه الاجرة، وجهان، لكونه عمل لنفسه، لكن لم يقع له، ولا هو متبرع، وبثبوتها قال ابن سريج. قلت: ثبوتها أصح. والله أعلم، ولو قال: اعمل فما استخرجته فهو بيننا مناصفة، أو قال: فلك منه عشرة دراهم، لم يصح، لان الاول أجرة مجهولة، والثاني: قد لا يحصل هذا القدر.
الطرف الثاني : في المياه، وهي قسمان. أحدهما: المباحة النابعة في موضع لا يختص بأحد، ولا صنع للآدميين في إنباطه وإجرائه كالفرات وجيحون وسائر أودية العالم والعيون في الجبال وسيول الامطار، فالناس فيها سواء، فإن حضر اثنان فصاعدا، أخذ كل ما ش‍ اء. فإن قل الماء أو ضاق المشرع، قدم السابق. فإن جاءا معا، أقرع. وإن أراد واحد السقي وهناك محتاج للشرب، فالشارب أولى. قاله المتولي، ومن أخذ منه شيئا في إناء أو جعله في حوض، ملكه ولم يكن لغيره مزاحمته فيه، كما لو احتطب. وفي النهاية وجه: أنه لا يملكه، لكنه أولى به من غيره. والصحيح: الاول، وبه

(4/368)


قطع الجمهور. وإن دخل شئ منه ملك إنسان بسيل، فليس لغيره أخذه ما دام فيه، لامتناع دخول ملكه بغير إذنه. فلو فعل، فهل يملكه، أم للمالك استرداده ؟ وجهان. أصحهما: الاول. فإذا خرج من أرضه، أخذه من شاء. فرع إذا أراد قوم سقي أرضيهم من مثل هذا الماء، فإن كان النهر عظيما يفي بالجميع، سقى من شاء متى شاء. وإن كان صغيرا، أو كان الماء يجري من النهر العظيم في ساقية غير مملوكة، بأن انخرقت بنفسها، سقى الاول أرضه، ثم يرسله إلى الثاني، ثم الثاني إلى الثالث. وكم يحبس الماء في أرضه ؟ وجهان، الذي عليه الجمهور: أنه يحبسه حتى يبلغ الكعبين. والثاني: يرجع في قدر السقي إلى العادة والحاجة. وقد قال الماوردي: ليس التقدير بالكعبين في كل الازمان والبلدان، لانه مقدر بالحاجة، والحاجة تختلف وباختلاف الارض، باختلاف ما فيها (من) زرع وشجر، وبوقت الزراعة، ووقت السقي. وحكي وجه عن الداركي: أن الاعلى لا يقدم على الاسفل، لكن يسقون بالحصص، وهذا غريب باطل. ولو كانت أرض الاعلى بعضها مرتفعا، وبعضها منخفضا، ولو سقيا معا لزاد الماء في المنخفضة على الحد المستحق، أفرد كل بعض بالسقي بما هو طريقه. قلت: طريقه أن يسقي المنخفض حتى يبلغ الكعبين، ثم يسده، ثم يسقي المرتفع. والله أعلم

(4/369)


مإذا سقى الاول، ثم احتاج إلى السقي مرة أخرى، مكن منه على الصحيح فلو تنازع اثنان أرضاهما متحاذيتان، أو أرادا شق النهر من موضعين متحاذيين يمينا وشمالا، فهل يقرع، أو يقسم بينهما، أو يقدم الامام من يراة ؟ فيه ثلاثة أوجه حفاها العبادي. قلت: أصحها: يقرع. والله أعلم ولو أراد رجل إحياء موات وسقيه من هذا النهر، نظر، إن ضيق على السابقين، منع، لانهم استحقوا أرضهم بمرافقها، والماء من أعظم مرافقها، وإلا، فلا منع. فرع عمارة حافات هذه الانهار، من وظائف بيت المال. فرع يجوز أن يبني عليها من شاء قنطرة لعبور الناس إن كان الموضع مواتا. وأما (ما) بين العمران، فهو كحفر البئر في الشارع لمصلحة المسلمين. ويجوز بناء الرحى عليها إن كان الموضع ملكا له أو مواتا محضا. وإن كان بين الارض المملوكة، وتضرر الملاك، لم يجز، وإلا، فوجهان. أحدهما: المنع كالتصرف في سائر مرافق العمارات. وأصحهما: الجواز، كاشراع الجناح في السكة النافذة.
فصل هذا الذي سبق، إذا لم تكن الانهار والسواقي مملوكة. أما إذا كانت مملوكة، بأن حفر نهرا يدخل فيه الماء من الوادي العظيم، أو من النهر المنخرق منه، فالماء باق على إباحته، لكن مالك النهر أحق به كالسيل يدخل ملكه، فليس لاحد مزاحمته لسقي الارضين. وأما للشرب والاستعمال وسقي الدواب، فقال الشيخ أبو عاصم والمتولي: ليس له المنع، ومنهم من أطلق أنه لا يدلي أحد فيه دلوا، ويجوز لغيره أن يحفر فوق نهره نهرا إن لم يضيق عليه. وإن ضيق، فلا، فان اشترك جماعة في الحفر، اشتركوا في الملك على قدر عملهم، فإن شرطوا أن يكون النهر بينهم على قدر ملكهم من الارض، فليكن عمل كل واحد

(4/370)


على قدر أرضه. فإن زاد واحد متطوعا، فلا شئ له على الباقين. وإن زاد مكرها، أو شرطوا له عوضا، رجع عليهم بأجرة ما زاد، وليس للا على حبس الماء على الاسفل، بخلاف ما إذا لم يكن النهر مملوكا. وإذا اقتسموا الماء بالايام والساعات، جاز، ولكل واحد الرجوع متى شاء، لكن لو رجع بعدما استوفى نوبته وقبل أن يستوفي الشريك، ضمن له أجرة مثل نصيبه من النهر للمدة التي أجرى فيها الماء. وإن اقتسموا الماء نفسه، فعلى ما سنذكره في القناة المشتركة. ولو أرادوا قسمة النهر وكان عريضا، جاز، ولا يجري فيها الاجبار كما في الجدار الحائل. ولو أراد الشركاء الذين أرضهم أسفل توسيع فم النهر، لئلا يقصر الماء عنهم، لم يجز إلا برضى الاولين، لان تصرف الشريك في المشترك لا يجوز إلا برضى الشريك، ولانهم قد يتضررون بكثرة الماء. وكذا لا يجوز للاولين تضييق فم النهر إلا برضى الآخرين، وليس لاحد منهم بناء قنطرة أو رحى عليه، ولا غرس شجرة على حافته إلا برضى الشركاء. ولو أراد أحدهم تقديم رأس الساقية التي يجري فيها الماء إلى أرضه، أو تأخيره، لم يجز، بخلاف ما لو قدم باب داره إلى رأس السكة المنسدة، لانه يتصرف هناك في الجدار المملوك، وهنا في الحافة المشتركة. ولو كان لاحدهم ماء في أعلى النهر، فأجراه في النهر المشترك برضى الشركاء ليأخذه من الاسفل ويسقي به أرضه، فلهم الرجوع متى شاؤوا، لانه عارية، وتنقية هذا النهر وعمارته يقوم بها الشركاء بحسب الملك. وهل على كل واحد عمارة الموضع المتسفل عن أرضه ؟ وجهان. أحدهما: لا، وبه قطع ابن الصباغ، لان المنفعة فيه للباقين. والثاني: نعم، وهو الاصح عند العبادي، لاشتراكهم وانتفاعهم به. فرع كل أرض أمكن سقيها من هذا النهر، إذا رأينا لها ساقية منه ولم نجد لها شربا من موضع آخر، حكمنا عند التنازع بأن لها شربا منه. ولو تنازع الشركاء في النهر في قدر أنصبائهم، فهل يجعل على قدر الارضين لان الظاهر أن الشركة بحسب الملك، أم بالسوية لانه في أيديهم ؟ وجهان، وبالاول قال الاصطخري رحمه الله تعالى. قلت: هو أصحهما. والله أعلم فرع لو صادفنا نهرا تسقى منه أرضون، ولم ندر أنه حفر أم انخرق،

(4/371)


حكمنا بأنه مملوك، لانهم أصحاب يد وانتفاع، فلا يقدم بعضهم على بعض. وأكثر هذه المسائل يشتمل عليها كتاب المياه للعبادي رحمه الله تعالى. القسم الثاني: المياه المختصة ببعض الناس، وهي مياه الآبار والقنوات. واعلم أن البئر يتصور حفرها على أوجه. أحدها: الحفر في المنازل للمارة. والثاني: الحفر في الموات على قصد الارتفاق لا للتملك، كمن ينزل في الموات فيحفر للشر ب وسقي الدواب. والثالث: الحفر بنية التملك. والرابع: الحفر الخالي عن هذه القصود. فأما المحفورة للمارة، فماؤها مشترك بينهم، والحافر كأحدهم، ويجو الاستقاء منها للشرب، وسقي الزروع، فان ضاق عنهما، فالشرب أولى. وأما المحفورة للارتفاق دون التملك، فالحافر أولى بمائها إلى أن يرتحل، لكن ليس له منع ما فضل عنه عن محتاج إليه للشرب إذا استقى بدلو نفسه، ولا منع مواشيه، وله منع غيره من سقي الزرع به. وفيه احتمال للامام، لانه لم يملكه، والاختصاص يكون بقدر الحاجة، وبهذا قطع المتولي، فحصل وجهان. قلت: الاول هو الصحيح المعروف. والله أعلم ويعتبر في الفاضل الذي يجب بذله، أن يفضل عن نفسه وماشيته وزرعه. قال الامام: وفي المزارع احتمال على بعد. قلت: المراد: الفاضل الذي يجب بذله لماشية غيره. أما الواجب بذله لعطش آدمي محترم، فلا يشترط فيه أن يفضل عن المزارع والماشية. والله أعلم وإذا ارتحل المرتفق، صارت البئر كالمحفورة للمارة، فان عاد، فهو كغيره.

(4/372)


وأما المحفورة للتملك وفي ملك، فهل يكون ماؤها ملكا ؟ وجهان. أصحهما: نعم، وبه قال ابن أبي هريرة، وهو المنصوص في القديم، وحرملة، لانه نماء ملكه، كالثمرة واللبن، ويجري الخلاف فيما إذا انفجرت عين في ملكه. فإن قلنا: لا يملك، فنبع وخرج منه، ملكه من أخذه. وإن قلنا بالاصح: لا يملكه الآخذ، ولو دخل رجل ملكه وأخذه، ففي ملكه الوجهان. وسواء قلنا: يملك، أم لا، فلا يجب على صاحب البئر بذل الفاضل عن حاجته لزرع غيره على الصحيح، ويجب بذله للماشية على الصحيح. وللوجوب شروط. أحدها: أن لا يجد صاحب الماشية ماء مباحا. والثاني: أن يكون هناك كلا يرعى، وإلا، فلا يجب على المذهب. وقال المتولي: فيه وجهان. الثالث: أن يكون الماء في مستقره، فأما الماء الموجود في إناء، فلا يجب بذل فضله على الصحيح. ثم عابروا السبيل، يبذل لهم ولمواشيهم. وفيمن أراد الاقامة في الموضع وجهان، لانه لا ضرورة (به) إلى الاقامة. قلت: الاصح: الوجوب كغيره. وإذا وجب البذل، مكن الماشية من حضور البئر بشرط أن لا يكون على صاحب الماء ضرر في زرع ولا ماشية. فان لحقه ضرر بورودها، منعت، لكن يجوز للرعاة استقاء فضل الماء لها، قاله الماوردي. والله أعلم وهل يجب البذل للرعاة كما يجب للماشية ؟ وجهان حكاهما ابن كج. أصحهما: يجب، لان البذل لسقاة الناس رعاة كانوا أو غيرهم، أولى من البذل للماشية، على أن الامام نقل في المنع من الشرب على الاطلاق وجهين إذا قلنا: مملوك. وإذا أوجبنا البذل، هل يجوز أن يأخذ عليه عوضا كاطعام المضطر ؟ وجهان، الصحيح: لا، للحديث (الصحيح) ان النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع فضل

(4/373)


الماء. قلت: قال الماوردي: لو كان هناك ماءان مملوكان لرجلين، لزمهما البذل. فان اكتفت الماشية ببذل أحدهما، سقط الفرض عن الآخر، قال: وإذا لم توجد شروط وجوب البذل، جاز لمالكه أخذ ثمنه إذا باعه مقدرا بكيل أو وزن، ولا يجوز، بيعه مقدرا بري الماشية ولا الزرع. والله أعلم وأما المحفورة بلا قصد، ففيها وجهان. أصحهما: لا اختصاص له بمائها، والناس كلهم فيه سواء. والثاني: يختص بقدر حاجته، كما أن الاحياء يفيد الملك وإن لم يقصده.
فصل حكم القنوات حكم الآبار في ملك مياهها وفي وجوب البذل وغيرهما، إلا أن حفرها لمجرد الارتفاق لا يكاد يقع ومتى اشترك المتملكون في الحفر، اشتركوا في الملك بحسب اشتراكهم في العمل أو الارتفاق كما ذكرنا في النهر المملوك، ثم لهم قسمة الماء بأن تنصب خشبة مستوية الاعلى والاسفل في عرض النهر، ويفتح فيها ثقب متساوية، أو متفاوتة على قدر حقوقهم، ويجوز أن تكون الثقب متساوية مع تفاوت الحقوق، إلا أن صاحب الثلث يأخذ ثقبة، والآخر ثقبتين، وسوق كل واحد نصيبه في ساقية إلى أرضه، وله أن يدير رحى بما صار له، ولا يشق أحد منهم ساقية قبل المقسم، ولا ينصب عليه رحى، وإن اقتسموا بالمهايأة، جاز أيضا. وقد يكون الماء قليلا ينتفع به إلا كذلك، ولكل واحد الرجوع كما ذكرنا في البئر، هذا هو الصحيح المعروف. وقيل: تلزم المهايأة ليثق كل واحد بالانتفاع. وقيل: لا تصح القسمة بالمهايأة، لان الماء يقل ويكثر، وتختلف فائدة السقي بالايام. قلت: لو أراد أحدهم أن يأخذ نصيبه من الماء ويسقي به أرضا ليس لها رسم شرب من هذا النهر، منع منه، لانه يجعل شربا لم يكن. والله أعلم

(4/374)


فرع الذين يسقون أضهم من الاودية المباحة، لو تراضوا بمهايأة، وجعلوا للاولين أياما، وللآخرين أياما، فهذه مسامحة من الاولين بتقدم الآخرين، وليست بلازمة والظاهر: أن من رجع من الاولين، مكن من سقي أرضه.
فصل في بيع الماء أما المحرز في إناء أو حوض، فبيعه صحيح على الصحيح، وقد سبق فيه الوجه، وليكن عمق الحوض معلوما، ولا يجوز بيع ماء البئر والقناة فيهما لانه مجهول، ويزيد شيئا فشيئا فيختلط فيتعذر التسليم. وإن باع منه آصعا، فإن كان جاريا، لم يصح، إذ لا يمكن ربط العقد بمقدار. وإن كان راكدا وقلنا: إنه غير مملوك، لم يصح. وإن قلنا: مملوك، فقال القفال: لا يصح أيضا، لانه يزيد فيختلط المبيع. والاصح: الجواز كبيع صاع من صبرة. وأما الزيادة، فقليلة، فلا تضر، كما لو باع القت في الارض بشرط القطع، وكما لو باع صاعا من صبرة وصب عليها صبرة أخرى، فإن البيع بحاله، ويبقى البيع ما بقي صاع من الصبرة. ولو باع الماء مع قراره، نظر، إن كان جاريا فقال: بعتك هذه القناة مع مائها، أو إن لم يكن جاريا وقلنا: إن الماء لا يملك، لم يصح البيع في الماء، وفي القرار قولا تفريق الصفقة، وإلا، فيصح. ولو باع بئر الماء وأطلق، أو باع دارا فيها بئر ماء، جاز. ثم إن قلنا: يملك، فالموجود حال البيع يبقى للبائع، وما يحدث، للمشتري. قال البغوي: وعلى هذا لا يصح البيع حتى يشترط أن الماء الظاهر للمشتري، لئلا يختلط الماءان. وإن قلنا: لا يملك، فقد أطلقوا أن المشتري أحق بذلك الماء. وليحمل على ما نبع بعد البيع، فأما ما نبعقبله، فلا معنى لصرفه إلى المشتري. قلت: هذا التأويل الذي قاله الامام الرافعي فاسد، فقد صرح الاصحاب بأن المشتري على هذا الوجه أحق بالماء الظاهر، لثبوت يده على الدار، وتكون يده كيد البائع في ثبوت الاختصاص به. والله أعلم ولو باع جزءا شائعا من البئر أو القناة، جاز، وما ينبع مشترك بينهما، إما اختصاصا مجردا، وإما ملكا.

(4/375)


فرع سقى أرضه بماء مملوك لغيره، فالغلة لصاحب البذر وعليه قيمة الماء. ولو استحل صاحب الماء، كان الطعام أطيب. قلت: ومما يتعلق بالكتاب، ما ذكره صاحب العدة: أنه لو أضرم نارا في حطب مباح بالصحراء، لم يكن له منع من ينتفع بتلك النار، فلو جمع الحطب، ملكه، فإذا أضرم فيه النار، فله منع غيره منها. والله أعلم

(4/376)