روضة الطالبين وعمدة المفتين ط العلمية

روضة الطالبين - كتاب الوديعة
هي المال الموضوع عند أجنبي ليحفظه. واستودعته الوديعة: استحفظته إياها. ومن أودع وديعة يعجز عن حفظها، حرم عليه قبولها، وإن كان قادرا،

(5/285)


لكن لا يثق بأمانة نفسه، فهل يحرم قبولها، أم يكره ؟ وجهان. وإن قدر، ووثق بأمانة نفسه، استحب القبول. فإن لم يكن هناك غيره، فقد أطلق مطلقون أنه يتعين عليه القبول، وهو محمول على ما بينه السرخسي في الامالي، وهو أنه يجب أصل القبول دون أن يتلف منفعة نفسه وحرزه في الحفظ من غير عوض. فرع لا يصح إيداع الخمر ونحوها.
فصل الايداع، توكيل خاص، وأركانه، كأركانها أربعة: الحفظ، والعاقدان، والصيغة. فلا بد من صيغة من المودع دالة على الاستحفاظ، كقوله: استودعتك هذا المال، أو أودعتك، أو استحفظتك، أو أنبتك في حفظه، أو احفظه، أو هو وديعة عندك، أو ما في معناها. وفي اشتراط القبول باللفظ ثلاثة أوجه. أصحها: لا يشترط، بل يكفي القبض في العقار والمنقول. والثاني: يشترط. والثالث: يشترط إن كان بصيغة عقد، كأودعتك، ولا يشترط إن قال: احفظه، أو هو وديعة عندك. ولو قال: إذا جاء رأس الشهر، فقد أودعتك هذا، فقطع الروياني في الحلية بالجواز، والقياس تخريجه على الخلاف في تعليق الوكالة. ولو جاء بماله، ووضعه بين يدي غيره، ولم يتلفظ بشئ، لم يحصل الايداع. فلو قبضه الموضوع عنده، ضمنه. وكذا لو كان قد قال قبل ذلك: أريد أن أودعك، ثم جاء بالمال، فإن قال: هذا وديعتي عندك، أو احفظه، ووضعه بين

(5/286)


يديه، فإن أخذه الموضوع عنده، تمت الوديعة إن لم يشترط القبول لفظا. وإن لم يأخذه، نظر، إن لم يتلفظ، لم يكن وديعة، حتى لو ذهب وتركه، فلا ضمان عليه، لكن يأثم إن كان ذهابه بعدما غاب المالك. وإن قال: قبلت، أو ضعه، فوضعه، كان إيداعا، كما لو قبضه بيده، كذا قال البغوي. وقال المتولي: لا يكون وديعة ما لم يقبضه. وفي فتاوى الغزالي: أنه إن كان الموضع في يده، فقال: ضعه، دخل المال في يده، لحصوله في الموضع الذي هو في يده. وإن لم يكن، بأن قال: انظر إلى متاعي في دكاني، فقال: نعم، لم يكن وديعة. وعلى الاول، لو ذهب الموضوع عنده وتركه، فإن كان المالك حاضرا بعد، فهو رد للوديعة. وإن غاب المالك، ضمنه.
فصل لا يصح الايداع إلا من جائز التصرف. فلو أودع صبي أو مجنون مالا، لم يقبله، فإن قبله، ضمنه، ولا يزول الضمان إلا بالرد إلى الناظر في أمره. لكن لو خاف هلاكه في يده فأخذه على وجه الحسبة صونا له، لم يضمنه على الاصح. ولا يصح الايداع إلا عند جائز التصرف، فلو أودع مالا عند صبي، فتلف، لم يضمنه، إذ ليس عليه حفظه، فهو كما لو تركه عند بالغ من غير استحفاظ فتلف. وإن أتلفه الصبي، فقولان. ويقال: وجهان. أحدهما: لا ضمان، لان المالك سلطه عليه، فصار كما لو باعه أو أقرضه وأقبضه فأتلفه، فلا ضمان قطعا. وأظهرهما: يضمن، كما لو أتلف مال غيره من غير استحفاظ. ولا تسليط على

(5/287)


الاتلاف هنا، بخلاف البيع والقرض. ولو أودع ماله عند عبد فتلف عنده، فلا ضمان. وإن أتلفه، فهل يتعلق الضمان برقبته كما لو أتلف ابتداء، أم بذمته كما لو باعه ؟ فيه الخلاف المذكور في الصبي. وإيداع السفيه والايداع عنده، كايداع الصبي والايداع عنده. فرع استنبطوه من الخلاف المذكور في الصبي والعبد أصلا في الباب وهو أن الوديعة عقد برأسه، أم إذن مجرد ؟ إن قلنا عقد، لم يصمنه الصبي، ولم يتعلق برقبة العبد. وإق قلنا: إذن، فبالعكس وخرجوا عليه ولد الجارية المودعة، ونتاج البهيمة. إن قلنا: عقد، فالولد وديعة كالام، وإلا، فليس بوديعة، بل أمانة شرعية في يده يجب ردها في الحال، حتى لو لم يؤد مع التمكن، ضمن على الاصح، كذا قاله البغوي. وقال المتولي: إن قلنا: عقد، لم يكن وديعة، بل أمانة، اعتبارا بعقد الرن والاجارة، وإلا، فهل يتعدى حكم الام إلى الولد كالاضحية، أم لا كالعارية ؟ وجهان، والموافق لاطلاق الجمهور كون الوديعة عقدا.

(5/288)


فصل في أحكام الوديعة هي ثلاثة.
أحدها : الجواز من الجانبين، وتنفسخ بموت أحدهما أو جنونه أو إغمائه. ولو عزم المودع نفسه، فانعزاله وجهان، بناء على أن الوديعة إذن، أم عقد ؟ إن قلنا: إذن، فالعزل لغو، كما لو أذن للضيفان في أكل طعامه، فقال بعضهم: عزلت نفسي، يلغو قوله، وله الاكل بالاذن السابق. فعلى هذا، تبقى الوديعة بحالها. وإن قلنا: عقد، انفسخت وبقي المال في يده أمانة شرعية، كالريح تطير الثوب إلى داره، فعليه الرد عند التمكن وإن لم يطلب على الاصح. فإن لم يفعل، ضمن.
الحكم الثاني : أنها أمانة، فلا يضمن إلا عند التقصير، وأسباب التقصير تسعة. أحدها: أن يودعها المودع عند غيره بلا عذر من غير إذن المالك، فيضمن، سواء أودع عند عبده وزوجته وابنه، أو أجنبي. والكلام في تضمين المالك المودع الثاني قد سبق في بابي الرهن والغصب. وإن أودعها عند القاضي، فوجهان -

(5/289)


سواء كان المالك حاضرا أو غائبا - أصحهما عند الجمهور: يضمن. فإن جوزنا الدفع إلى القاضي، لم يجب عليه القبول إن كان المالك حاضرا والدفع عليه متيسرا، وإن لم يكن كذلك، لزمه القبول على الاصح، لانه نائب الغائبين. وإذا حمل الغاصب المغصوب إلى القاضي، ففي وجوب القبول الوجهان، لكن هذا أولى بالمنع ليبقى مضمونا للمالك. ومن عليه دين لو حمله إلى القاضي، نظر، إن كان بحيث لا يجب على المالك قبوله، فالقاضي أولى، وإلا، فوجهان وأولى بالمنع وهو الاصح، لان الدين في الذمة لا يتعرض للتلف، وإذا تعين، تعرض له. وجميع ما ذكرناه هو فيما إذا استحفظ غيره وأزال يده ونظره عن الوديعة. أما إذا استعان به في حملها إلى الحرز، فلا بأس، كما لو استعان في سقي البهيمة وعلفها. قال القفال: وكذا لو كانت خزانته وخزانة ابنه واحدة فدفعها إلى ابنه ليضعها في الخزانة. وذكر الامام أن المودع إذا أراد الخروج لحاجاته، فاستحفظ من يثق به من متصليه، وكان يلاحظ المخزن في عوداته، فلا بأس. وإن فوض الحفظ إلى بعضهم، ولم يلاحظ الوديعة أصلا، ففيه تردد. وإن كان المخزن خارجا عن داره التي يأوي إليها، وكان لا يلاحظه، فالظاهر تضمينه. فرع هذا الذي ذكرناه، إذا لم يكن عذر. فإن كان، بأن أراد سفرا، فينبغي أن يردها إلى مالكها أو وكيله. فإن تعذر وصوله إليهما، دفعها إلى القاضي، وعليه قبولها. فإن لم يجد قاضيا، دفعها إلى أمين، ولا يكلف تأخير السفر. فإن ترك هذا الترتيب فدفعها إلى الحاكم أو أمين مع إمكان الدفع إلى المالك أو وكيله، ضمن، ويجئ في هذا الخلاف السابق. وإن دفع إلى أمين مع القدرة على الحاكم، ضمن على المذهب. ولو دفن الوديعة عند سفره، ضمن إن دفنها في

(5/290)


غير حرزه أو في حرزولم يعلم بها أمينا، أو أعلمه جيث لا يجوز الايداع عند الامين، أو حيث يجوز إأن الذي أعلمه لا يسكن الموضع. فإن سكنه، لم يضمن على الاصح. كذا فصله الجمهور، وجعل الامام في معنى السكنى، أن يراقبها من الجوانب، أو من فوق مراقبة الحارس. وقيل: إن الاعلام كالايداع سواء سكن الموضع، أم لا. ونقل صاحب المعتمد وغيره وجهين، في أن سبيل هذا الاعلام سبيل الاشهاد، أم الائتمان ؟ أصحهما: الثاني. فعلى الاول، لا بد من إعلام رجلين، أو رجل وامرأتين. وكما يجوز الايداع بعذر السفر كما تبين، فكذا سائر الاعذار، كما إذا وقع في البقعة حريق أو نهب أو غارة، أو خاف الغرق، وليكن في معناها إذا أشرف الحرز على الخراب ولم يجد حرزا ينقلها إليه. السبب الثاني: السفر بها، فإذا أودع حاضرا، لم يجز أن يسافر بها، فإن فعل، ضمن. وقيل: لا يضمن إذا كان الطريق امنا، أو سافر في البحر والغالب فيه السلامة، والصحيح الاول. ولو سافر بها لعذر، بأن جلا أهل البلد، أو وقع حريق، أو غارة، فلا ضمان بشرط أن يعجز عن ردها إلى المالك ووكيله والحاكم وعن ايداع أمين، ويلزمه السفر بها في هذه الحالة، وإلا، فهو مضيع. ولو عزم

(5/291)


على السفر في وقت السلامة، وعجز عن المالك ووكيله، والحاكم، والامين، فسافر بها، لم يضمن على الاصح عند الجمهور، لئلا ينقطع عن مصالحه وينفر الناس عن قبول الودائع. وشرط الجواز، أن يكون الطريق امنا، وإلا، فيضمن وهذا ظاهر في مسألة الوجهين. فأما عند الحريق ونحوه، فكان يجوز أن يقال: إذا كان احتمال الهلاك في الحضر أقرب منه في السفر، فله السفر بها. قال في الرقم: وإذا كان الطريق آمنا، فحدث خوف، أقام. ولو هجم قطاع الطريق، فألقى المال في مضيعة إخفاء له فضاع، ضمن. فرع إذا أودع مسافرا، فسافر بالوديعة، أو منتجعا، فانتجع بها، فلا ضمان، لان المالك رضي حين أودعه. السبب الثالث: ترك الايصاء، فإذا مرض المودع مرضا مخوفا، أو حبس للقتل، لزمه أن يوصي بها. فإن سكت عنها، ضمن، لانه عرضها للفوات، إذ الوارث يعتمد ظاهر اليد ويدعيها لنفسه، والمراد بالوصية: الاعلام والامر بالرد من غير أن يخرجها من يده، وهو مخير في هذه الحالة بين الايداع والاقتصار على الاعلام والامر بالرد. ثم يشترط في الوصية بها أمور. أحدها: أن يعجز عن الرد إلى المالك أو وكيله، وحينئذ يودع عند الحاكم أو يوصي إليه. فإن عجز. فيودع عند أمين، أو يوصي إليه. كذا رتب الجمهور، كما إذا أراد السفر. وفي التهذيب: أنه يكفيه الوصية وإن أمكن الرد إلى المالك، لانه لا يدري متى يموت. الثاني: أن يوصي إلى أمين. فإذا أوصى إلى فاسق، كان كما لو لم يوص، فيضمن، ولا بأس بأن يوصي إلى بعض ورثته، وكذد الايداع حيث يجوز أن يودع أمينا.

(5/292)


الثالث: أن يبين الوديعة ويميزها عن غيرها بإشارة إليها، أو ببيان جنسها وصفتها. فلو لم يبين الجنس، بل قال: عندي وديعة، فهو كما لو لم يوص. فرع لو ذكر الجنس فقال: عندي ثوب لفلان، نظر إن لم يوجد في تركته ثوب، فهل يضمن ؟ وجهان. أصحهما عند جماهير الاصحاب: يضمن، لتقصيره في البيان، فيضارب صاحب الوديعة بقيمتها مع الغرماء. وإن وجد في تركته أثواب، ضمن قطعا، لانه إذا لم يميز، فكأنه خلط الوديعة. وإن وجد ثوب واحد، ضمن أيضا على الاصح، ولا يدفع إليه الثوب الموجود. وقيل: يتعين الثوب الموجود، وبه قطع البغوي والمتولي. وفي أصل المسألة وجه: أنه إنما يضمن إذا قال: عندي ثوب لفلان وذكر معه ما يقتضي الضمان. فأما إذا اقتصر عليه، فلا ضمان. فرع قال الامام: إذا لم يوص أصلا، فادعى صاحب الوديعة أنه قصر، وقال الورثة: لعلها تلفت قبل أن ينسب إلى التقصير، فالظاهر براءة الذمة.

(5/293)


فرع جميع ما ذكرناه إذا تمكن من الايداع، أو الوصية، فإن لم يتمكن، بأن قتل غيلة، أو مات فجأة، فلا ضمان. فرع إذا مات ولم يذكر أن عنده وديعة، فوجد في تركته كيس مختوم، أو غير مختوم مكتوب عليه: وديعة فلان، أو وجد في جريدته: لفلان عندي كذا وديعة، لم يلزم الورثة التسليم بهذا لاحتمال أنه كتب هو أو غيره تلبيسا، أو اشترى الكيس وعليه الكتابة فلم يمحها، أو رد الوديعة بعد كتابتها في الجريدة ولم يمحها، وإنما يلزم التسليم، بإقراره أو إقرار المورث ووصية أو بينة. السبب الرابع: نقلها، فإذا أودعه في قرية، فنقل الوديعة إلى قرية أخرى، فإن كان بينهما مسافة القصر، ضمن، وكذا إن كان بينهما ما يسمى سفرا على الصحيح. وإن لم يسم سفرا، ضمن إن كان فيها خوف، أو كانت المنقول عنها أحرز، وإلا، فلا على الاصح. وحيث منعنا النقل، فذاك إذا لم يكن ضرورة. فإن وقعت ضرورة، فكما ذكرنا في المسافرة. وإذا أراد الانتقال بلا ضرورة، فالطريق ما سبق فيما إذا أراد السفر. والنقل من محلة إلى محلة، أو من دار إلى دار، كالنقل من قرية إلى قرية متصلتي العمارة، فإن كانت المنقول عنها أحرز، ضمن، وإلا، فلا. ولو نقل من بيت إلى بيت في دار واحدة، أو خان واحد، فلا ضمان. وإن كان الاول أحرز منهما، كان الثاني حرزا أيضا، قاله البغوي. وجميع مسائل الفصل فيما إذا أطلق الايداع، فأما إذا أمر بالحفظ في موضع

(5/294)


معين، فسنذكره إن شاء الله تعالى. السبب الخامس: التقصير في دفع المهلكات، فيجب على المودع دفع المهلكات على المعتاد. فلو أودعه، فله أحوال. أحدها: أن يأمره بالعلف والسقي، فعليه رعاية المأمور. فإن امتنع حتى مضت مدة يموت مثلها في مثلها، فإن ماتت، ضمنها، وإلا، فقد دخلت في ضمانه. وإن نقصت، ضمن نصفها. وتختلف المد بإختلاف الحيوانات. وإن ماتت قبل مضي هذه المدة، لم يضمن إن لم يكن بها جوع وعطش سابق. وإن كان وهو عالم به، ضمن، وإلا، فلا على الاصح. فإن ضمناه، فيضمن الجميع، أم بالقسط ؟ وجهان، كما لو استأجر بهيمة فحملها أكثر مما شرط. الثانية: أن ينهاه عن العلف والسقي، فيعصي إن ضيعها لحرمة الروح. والصحيح الذي قاله الجمهور، أنه لا ضمان، وضمنه الاصطخري. الثالثة: أن لا يأمره ينهاه، فيلزم القيام بهما، لانه التزم حفظها. ثم الكلام في أمرين. أحدهما: المودع لا يلزمه العلف من ماله، فإن دفع إليه المالك علفها، فذاك. ولو قال: اعلفها من مالك، فهو كقوله: اقض ديني. والاصح الرجوع عليه. فإن لم يذكر شيئا، راجع المالك أو وكيله ليستردها، أو يعطي علفها. فإن لم يظفر بهما، رفع الامر إلى الحاكم ليقترض عليه، أو يبيع جزءا منها، أو يؤجرها ويصرف الاجرة في مؤنتها. والقول فيه وفي تفاريعه، كما سبق في هرب الجمال وعلف الضالة ونفقة اللقيط ونحوها. الامر الثاني: إن علفها وسقاها في داره، أو اصطبله، حيث تعلف وتسقى دوابه. فقد وفى بالحفظ. وإن أخرجها من الموضع، فإن كان يفعل كذلك مع دوابه لضيق وغيره، فلا ضمان. وإن كان ليسقي دوابه فيه، فقد قال الشافعي رضي الله عنه في المختصر: وإن أخرجها إلى غير داره وهو يسقي في داره، ضمن. وقال

(5/295)


الاصطخري بظاهره وأطلق وجوب الضمان. وقالت طائفة. هذا إذا كان الموضع أحرز. فإن تساويا، فلا ضمان. وقال أبو إسحق واخرون: هذا إذا كان في الاخراج خوف. فإن لم يكن، لم يضمن، لاطراد العادة، وهذا هو الاصح. ثم إن تولى السقي والعلف بنفسه - أو أمر به صاحبه وغلامه وهو حاضر لم تزل يده - فذاك، وإن بعثها على يد صاحبه ليسقيها، أو أمره بعلفها وأخرجها من يده، فإن لم يكن صاحبها أمينا، ضمن، وإلا، فلا على الاصح، للعادة. قال في الوسيط: والوجهان فيمن يتولى بنفسه في العادة، فأما غيره، فلا يضمن قطعا. فرع إذا كان النهي عن العلف لعلة تقتضيه، كالقولنج، فعلفها قبل زوال العلة فماتت، ضمن. فرع العبد المودوع، كالبهيمة في الاحوال المذكورة. ولو أودعه نخيلا، فوجهان. أحدهما: سقيها كسقي الدابة. والثاني: لا يضمن بترك السقي إذا لم يأمره به. فرع ثياب الصوف التي يفسدها الدود، يجب على المودع نشرها وتعريضها للريح. بل يلزمه لبسها إذا لم يندفع إلا بأن تلبس وتعبق بها رائحة الآدمي، فإن لم يفعل ففسدت، ضمن، سواء أمره المالك أو سكت. فإن نهاه عنه، فامتنع حتى فسدت، كره ولا يضمن. وأشار في التتمة إلى أنه يجئ فيه وجه الاصطخري. ولو كان الثوب في صندوق مقفل، ففتح القفل ليخرجه وينشره، قال البغوي: لا يضمن على الاصح. هذا كله إذا علم المودع. فإن لم يعلم، بأن كان

(5/296)


في صندوق أو كيس مشدود ولم يعلمه المالك، فلا ضمان. السبب السادس: الانتفاع. فالتعدي باستعمال الوديعة والانتفاع بها، كلبس الثوب، وركوب الدابة، خيانة مضمنة. فإن كان هناك عذر، بأن لبس لدفع الدود كما سبق، أو ركب الدابة حيث يجوز إخراجها للسقي وكانت لا تنقاد إلا بالركوب، فلا ضمان. وإن انقادت من غير ركوب فركب، ضمن. ولو أخذ الدراهم ليصرفها إلى حاجته، أو الثوب ليلبسه، أو أخرج الدابة ليركبها، ثم لم يستعمل، ضمن، لان الاخراج على هذا القصد خيانة. ولو نوى الاخذ لنفسه فلم يأخذ، لم يضمن على الصحيح وقول الاكثرين، وضمنه ابن سريج. ويجري الخلاف، فيما لو نوى أن لا يرد الوديعة بعد طلب المالك. وقيل: يضمن هنا قطعا، لانه يصير ممسكا لنفسه، قاله القاضي أبو حامد والماوردي. ويجري الوجهان، فيما إذا كان الثوب في صندوق غير مقفل فرفع رأسه ليأخذ الثوب ويلبسه، ثم بدا له. ولو كالصندوق مقفلا والكيس مختوما، ففتح القفل وفض الختم ولم يأخذ ما فيه، فوجهان. أحد هما: لا يضمن ما فيه، وانما يضمن الختم الذي تصرف فيه. وأصحهما: يضمن ما فيه، لانه هتك الحرز. وعلى هذا، ففي ضمان الكيس والصندوق وجهان، لانه لم يقصد الخيانة في الظرف. ولو خرق الكيس نظر، إن كان الخرق تحت موضع الختم، فهو كفض الختم. وإن كاق فوقه، لم يضمن إلا نقصان الخرق. ولو أودعه شيئا مدفونا فنبشه، فهو كفض الختم. ولا يلتحق بالفض وفتح القفل حل الخيط الذي يشد به رأس الكيس، أو رزمة الثياب، لان القصد منه المنع من الانتشار، لا أن يكون مكتوما عنه. وعن الحاوي وجهان فيما إذا كانت عنده دراهم فوزنها - أودعها - أو ثياب فذرعها ليعرف طولها، أنه هل يضمن ؟ ويشبه أن يجئ هذا الخلاف في حل الشد. قلت: ليس هو مثله. والله أعلم.

(5/297)


فرع إذا صارت الوديعة مضمونة على المودع بانتفاع أو إخراج من الحرز أو غيرهما من وجوه التقصير، ثم ترك الخيانة ور الوديعة إلى مكانها، لم يبرأ ولم تعد أمانته. فلو ردها إلى المالك ثم أودعه ثانيا، فلا شك في عود أمانته. فلو لم يردها، بل أحدث له المالك استئمانا فقال: أذنت لك في حفظها، أو أودعتكها، أو استأمنتك، أو أبرأتك من الضمان، فوجهان. ويجوز أن يقال: قولان. أصحهما: يصير أمينا ويبرأ. ولو قال في الابتداء: أودعتك، فإن خنت ثم تركت الخيانة، عدت أمينا لي، فخان ثم ترك الخيانة، قال المتولي: لا يعود أمينا بلا خلاف، لانه إسقاط ما لم يجب، وتعليق للوديعة. فرع قال: خذ هذه وديعة يوما، وغير وديعة يوما، فهو وديعة أبدا. ولو قال: وديعة يوما، وعارية يوما، فهو وديعة في اليوم الاول، وعارية في اليوم الثاني، ثم لا تعود وديعة أبدا، حكاه الروياني في كتابه البحر عن اتفاق الاصحاب. فصل إذا خلط الوديعة بمال نفسه، وفقد التمييز، ضمن، وإن خلطها بمال آخر للمالك، ضمن أيضا على الاصح، لانه خيانة. ولو أودعه دراهم فأنفق منها درهما، ثم رد مثله إلى موضعه، لا يبرأ من ضمانه، ولا يملكه المالك إلا بالدفع إليه، ثم إن كان المردود غير متميز عن الباقي، صار الجميع مضمونا، لخلطه الوديعة بمال نفسه. فإن تميز، فالباقي غير مضمون، وإن لم ينفق الدرهم المأخوذ، ورده بعينه، لم يبرأ من ضمان ذلك الدرهم، ولا يصير الباقي مضمونا عليه إن تميز ذلك الدرهم عن غيره، وإلا، فوجهان. ويقال: قولان. أحدهما: يصير الباقي مضمونا لخلطه المضمون بغيره. وأصحهما: لا، لان هذا الخلط كان حاصلا قبل الاخذ. فعلى هذا، لو كانت الجملة عشرة فتلفت، لم يلزمه إلا درهم، ولو تلفت خمسة، لزمه نصف درهم. هذا كله إذا لم يكن على الدراهم

(5/298)


ختم ولا قفل، أو كان وقلنا: مجرد الفتح والفض لا يقتضي الضمان. أما إذا قلنا: يقتضيه وهو الاصح، فبالفض والفتح يضمن الجميع. فرع إذا أتلف بعض الوديعة، ولم يكن له اتصال بالباقي، كأحد الثوبين، لم يضمن إلا المتلف. وإن كان له اتصال، كتحريق الثوب، وقطع طرف العبد والبهيمة، نظر إن كان عاملا، فهو جان على الكل، فيضمن الجميع. وإن كان مخطئا، ضمن المتلف، ولا يضمن الباقي على الاصح. السبب السابع: المخالفة في الحفظ. فإذا أمره بحفظها على وجه مخصوص، فعدل إلى وجه آخر وتلفت، فإن كان التلف بسبب الجهة المعدول إليها، ضمن، وكانت المخالفة تقصيرا. وإن تلفت بسبب آخر، فلا ضمان. هذه جملة السبب، ولتفصيلها صور. إحداها: أودعه مالا في صندوق وقال: لا ترقد، فرقد عليه، نظر، إن خالف بالرقود، بأن انكسر رأس الصندوق بثقله، أو تلف ما فيه، ضمن، وإلا، فإن كان في بيت محرز، أو في صحراء فأخذه لص، فلا ضمان على الصحيح، لانه زاده خيرا. وإن كان في صحراء وأخذه لص من جان الصندوق، ضمن على الاصح. وإنما يظهر هذا، إذا سرق من جانب لو لم يرقد عليه لرقد هناك، وقد تعرض بعضهم لهذا القيد. ولو قال: لا تقفل عليه، فأقفل، أو لا تقفل إلا قفلا، فأقفل قفلين، أو لا تغلق باب البيت، فأغلقه، فلا ضمان على الصحيح. ولو أمره بدفنها في بيته وقال: لا تبن، فبنى، فهو كما لو قال: لا ترقد عليه، فرقد، ثم هو عند الاسترداد منقوص غير مغروم على المالك، كما لو نقل الوديعة عند الضرورة لا يرجع بالاجرة على المالك، لانه متطوع، نص عليه في عيون المسائل. (الصورة) الثانية: أودعه دراهم أو غيرها وقال: اربطها في كمك، فأمسكها، نقل المزني: أنه لا ضمان. ونقل الربيع: أنه يضمن. وللاصحاب ثلاثة طرق. أحدها: إطلاق قولين. والثاني: أنه إن لم يربطها في الكم واقتصر على الامساك، ضمن، وإن أمسك باليد بعد الربط، لم يضمن، والثالث وهو أصحها: إن تلفت

(5/299)


بأخذ غاصب، فلا ضمان، لان اليد أحرز بالنسبة إليه. وإن سقطت بنوم أو نسيان، ضمن، لانها لو كانت مربوطة لم تضع بهذا السبب، فالتلف حصل بالمخالفة. ولفظ النص في عيون المسائل مصرح بهذا التفصيل. ولو لم يربطها في الكم وجعلها في جيبه، لم يضمن، لانه أحرز، إلا إذا كان واسعا غير مزرور. وفي وجه ضعيف: يضمن، بالعكس يضمن قطعا. أما إذا امتثل فربطها في كمه، فلا يكلف معه الامساك باليد، ثم ينظر إن جعل الخيط الرابط خارج الكم فأخذها الطرار، ضمن، لان فيه إظهار الوديعة وتنبيه الطرار، لانه أسهل عليه في قطعه وحله. وإن ضاع بالاسترسال وانحلال العقدة، لم يضمن إذا كان قد احتاط في الربط، لانها إذا انحلت بقيت الدراهم في الكم. وإن جعل الخيط الرابط داخل الكم، انعكس الحكم. فإن أخذها الطرار، لم يضمن. وإن ضاعت بالاسترسال، ضمن، لان العقدة إذا انحلت تناثرت الدراهم، هكذا قاله الاصحاب، وهو مشكل، لان المأمور به مطلق الربط. فإذا أتى به، وجب أن لا ينظر إلى جهات التلف، بخلافما إذا عدل عن المأمور به إلى غيره فحصل به التلف. فرع لو أودعه دراهم في سوق أو طريق، ولم يقل: اربطها في كمك، ولا امسكها في يدك، فربطها في الكم وأمسكها باليد، فقد بالغ في الحفظ. وكذا لو جعلها في جيبه وهو ضيق، أو واسع مزرور. فإن كان واسعا غير مزرور، ضمن، لسهولة تناولها باليد. ولو أمسكها بيده ولم يربطها، لم يضمن إن تلفت بأخذ غاصب، ويضمن إن تلفت بغفلة أو نوم. فلو ربطها ولم يمسكها بيده، فقياس ما سبق أن ينظر إلى كيفية الربط وجهة التلف. ولو وضعها في الكم ولم يربطها فسقطت، فان كانت خفيفة لا يشعر بها، ضمن، لتفريطه في الاحراز، وإن كانت ثقيلة يشعر بها، لم يضمن، ذكره في المهذب وقياس هذا، يلزم طرده فيما سبق من صور الاسترسال كلها. ولو وضعها في كور عمامته ولم يشد، ضمن. فرع أودعه في سوق وقال: احفظها في بيتك، فينبغي أن يمضي إلى بيته ويحفظها فيه. فإن أخر من غير عذر، ضمن. وإن أودعه في البيت وقال:

(5/300)


احفظها في البيت فربطها في الكم وخرج بها، صارت مضمونة عليه. وكذا لو لم يخرج بها وربطها في الكم مع إمكان إحرازها في الصندوق ونحوه، وإن كان ذلك لقفل تعذر فتحه ونحوه. لم يضمن. قال في المعتمد: وإن شدها في عضده وخرج بها، فإن كان الشد مما يلي الاضلاع، لم يضمن، لانه أحرز من البيت، وإن كان من الجانب الآخر، ضمن، لان البيت أحرز منه. وفي تقييدهم الصورة بما إذا قال: احفظها في البيت، إشعار بأنه لو أودعه في البيت ولم يقل شيئا، يجوز له أن يخرج بها مربوطة، ويشبه أن يكون الرجوع إلى العادة. الصورة الثالثة: إذا عين للوديعة مكانا فقال: احفظها في هذا البيت أو في هذه الدار، فأما أن يقتصر عليه، وإما أن ينهاه مع ذلك عن النقل، فإن اقتصر عليه فنقلها إلى ما دونه في الحرز، ضمن على الصحيح وإن كان المنقول إليه حرزا لمثلها. وإن نقلها إلى بيت مثل الاول، لم يضمن، إلا أن يتلف بسبب النقل، كانهدام البيت المنقول إليه، فيضمن، لان التلف حصل بالمخالفة. والسرقة من المنقول إليه كالانهدام، قاله البغوي والمتولي. وفي كلام الغزالي ما يقتضي إلحاق السرقة والغصب بالموت، وكذا صرح به بعضهم. وإن نهاه فقال: احفظ في هذا البيت ولا تنقلها، فإن نقلها من غير ضرورة، ضمن، لصريح المخالفة من غير حاجة، سواء كان المنقول إليه أحرز أو لم يكن. قال الاصطخري: إن كان أحرز من الاول أو مثله، لم يضمن، والصحيح الاول. وإن نقل لضرورة غارة، أو غرق، أو حريق، أو غلبة لصوص، لم يضمن وإن كان المنقول إليه حرزا لمثلها. ولا بأس بكونه دون الاول إذا لم يجد أحرز منه. ولو ترك النقل والحالة هذه، ضمن على الاصح، لان الظاهر أنه أراد بالنهي تحصيل الاحتياط. ولو قال: لا تنقلها وإن حدثت ضرورة، فإن لم ينقلها، لم يضمن على الصحيح، كما لو قال: أتلف مالي، فأتلفه، لا يضمن، وإن نقل، لم يضمن على الاصح، لانه قصد الصيانة. وحيث قلنا: لا يجوز النقل إلا لضرورة، فاختلفا في وقوعها، فإن عرف هناك ما

(5/301)


يدعيه المودع، صدق بيمينه، وإلا، طولب بالبينة، فإن لم تكن بينة، صدق المالك بيمينه. وحكى أبو الفرج الزاز وجها، أن ظاهر الحال يغنيه عن اليمين، ثم ذكر الائمة أن جميع هذا فيما إذا كان البيت أو الدار المعينة للمودع. أما إذا كان للمالك، فليس للمودع إخراجها من ملكه بحال، إلا أن تقع ضرورة. الصورة الرابعة: إذا نقلها من ظرف إلى ظرف، كخريطة إلى خريطة، وصندوق إلى صندوق، فالمتلخص من كلام الاصحاب على اضطرابه، أنه إن لم يجر فتح قفل ولا فض ختم ولا خلط، ولم يعين المالك ظرفا، فلا ضمان لمجرد النقل، سواء كانت الصناديق للمودع أو للمالك. وإذا كانت للمالك، فحصولها في يد المودع قد يكون بجهة كونها وديعة أيضا. إما فارغة، وإما مشغولة بالوديعة، وقد تكون بجهة العارية. وإن جرى شئ من ذلك، فالفض والفتح والخلط، سبق أنها مضمنة. وإن عين ظرفا، نظر، إن كانت الظروف للمالك، فوجهان. أحدهما: يضمن. وأصحهما: لا، لانهما وديعتان، وليس فيه إلا حفظ أحدهما في حرز والاخرى في آخر. فعلى هذا إن نقل إلى ما دون الاول، ضمن، وإلا، فلا. وإن كانت الظروف للمودع، فهي كالبيوت بلا خلاف. الصورة الخامسة: قال: احفظ وديعتي في هذا البيت، ولا تدخل إليها أحدا، أو لا تستعن على حفظها بالحارسين، فخالف، فإن حصل التلف بسبب المخالفة، بأن سرقها الذين أدخلهم، أو الحارسون، ضمن. وإن سرق غيرهم أو وقع حريق، فلا ضمان. (الصورة) السادسة: أودعه خاتما وقال: اجعله في خنصرك، فجعله في بنصره، فهو أحرز، لكن لو انكسر لغلظها، أو جعله في الانملة العليا، ضمن. وإن قال: اجعله في البنصر، فجعله في الخنصر، فإن كان لا ينتهي إلى أصل البنصر، فالذي فعله أحرز، ولا ضمان. وإن كان ينتهي إليه، ضمن. وإن

(5/302)


أودعه الخاتم ولم يقل شيئا، فإن جعله في غير الخنصر، لم يضمن، الا أن غير الخنصر في حق المرأة كالخنصر. وإن جعله في الخنصر، ففيه احتمالان عن القاضي حسين وغيره. أحدهما: يضمن، لانه استعمال. والثاني: إن قصد الحفظ، لم يضمن. وإن قصد الاستعمال، ضمن وفي الرقم للعبادي: أنه إن جعل فصه إلى ظهر الكف، ضمن. وإلا، فلا. قلت: المختار أنه يضمن مطلقا، إلا إذا قصد الحفظ. والله أعلم. (الصورة) السابعة: أودعه وقال: لا تخبر بها، فخالف، فسرقها من أخبره، أو من أخبره من أخبره، ضمن. ولو تلفت بسبب آخر، لم يضمن. وقال العبادي: لو سأله رجل فقال: هل عندك لفلان وديعة ؟ فأخبره، ضمن، لان كتمها من حفظها. السبب الثامن: التضييع، لان المودع مأمور بحفظها في حرز مثلها بالتحرز عن أسباب التلف. فلو أخر إحرازها مع التمكن، أو جعلها في مضيعها، أو في غير حرز مثلها، ضمن. ولو جعلها في أحرز من حرز مثلها، ثم نقلها إلى حرز مثلها، فلا ضمان. ثم هنا صور. (الصورة) الاولى: إذا أعلم بالوديعة من يصادر المالك ويأخذ أمواله، ضمنها. بخلاف ما إذا أعلمه غير المودع، لانه لم يلتزم الحفظ. ولو أعلم المودع اللصوص بالوديعة، فسرقوها، إن عين الموضع، ضمن، وإلا، فلا. كذا فصله البغوي. (الصورة) الثانية: ضيع بالنسيان، ضمن على الاصح، ويؤيده نص الشافعي رضي الله عنه في عيون المسائل، أنه لو أودعه إناء من قوارير، فأخذه المودع بيده

(5/303)


ليحرزه في منزله، فأصابه شئ من غير فعله فانكسر، لم يضمن، ولو أصابه بفعله مخطئا أو عامدا قبل أن يصل إلى البيت أو بعدما وصله، فهو ضامن. والخطأ والنسيان يجريان مجرى واحدا، ولانهم قالوا: لو انتفع بوديعة ثم ادعى غلطا وقال: ظننته ملكي، لا يصدق مع أنه احتمال قريب، فدل على أن الغلط لا يدفع الضمان. (الصورة) الثالثة: إذا أخذ الظالم الوديعة قهرا، فلا ضمان على المودع، كما لو سرقت منه. وإن أكرهه حتى يسلمها بنفسه، فللمالك مطالبة الظالم بالضمان، ولا رجوع له إذا غرم، وله أيضا مطالبة المودع على الاصح، ثم يرجع على الظالم، وهما كالوجهين في أن المكره على إتلاف مال الغير، هل يطالب ؟ ومهما طالبه الظالم بالوديعة، لزمه دفعه بالانكار والاخفاء والامتناع ما قدر. فإن ترك الدفع مع القدرة، ضمن. وإن أنكر فحلفه، جاز له أن يحلف لمصلحة حفظ الوديعة، ثم تلزمه الكفارة على المذهب. وإن أكرهه على الحلف بطلاق أو عتاق، فحاصله التخيير بين الحلف وبين الاعتراف والتسليم. فإن اعترف وسلم، ضمن على المذهب، لانه فدى زوجته بالوديعة. وإن حلف بالطلاق، طلقت زوجته على المذهب، لانه فدى الوديعة بزوجته. السبب التاسع: الجحود. فإذا قال المودع: لا وديع لاحد عندي، إما ابتداء، وإما جوابا لسؤال غير المالك، فلا ضمان، سواء جرى ذلك بحضرة المالك أو في غيبته، لان إخفاءها أبلغ في حفظها. وإن طلبها المال ك فجحدها، فهو خائن ضامن. وإن لم يطلبها، بل قال: لي عندك وديعة، فسكت، ليضمن. وإن أنكر، لم يضمن أيضا على الاصح، لانه قد يكون في الاخفاء غرض صحيح

(5/304)


، بخلاف ما بعد الطلب. فلو جحد ثم قال: كنت غلطت أو نسيت، لم يبرأ إلا أن يصدقه المالك. فرع من أنكر وديعة ادعيت، صدق بيمينه. فلو أقام المدعي بينة بالابداع، أو اعترف بها المدعى عليه، طولب بها. فإن ادعى ردها أو تلفها قبل الجحود أو بعده، نظر في صيغة جحوده. فإن أنكر أصل الايداع، لم تقبل دعواه الرد، لتناقض كلامه وظهور خيانته. وأما في دعوى التلف، فيصدق، لكنه كالغاصب فيضمن. وهل يتمكن من تحليف المالك ؟ وهل تسمع بينته على ما يدعيه من الرد أو التلف ؟ وجهان. أصحهما: نعم، لاحتمال أنه نسي فصار كمن ادعى وقال: لا بينة لي، ثم جاء ببينة تسمع. فعلى هذا، لو قامت بينة بالرد أو الهلاك قبل الجحود، سقطت المطالبة. وإن قامت بالهلاك بعد الجحود، ضمن، لخيانته. وقد حكينا في ألفاظ المرابحة إذا قال: اشتريت بمائة، ثم قال: بمائة وخمسين، أن الاصحاب فرقوا بين أن لا يذكر وجها محتملا في الغلط، وبين أن يذكره، ولم يتعرضوا لمثله هنا، والتسوية بينهما متجهة. وإن كانت صيغة جحوده: لا يلزمني تسليم شئ إليك، أو مالك عندي وديعة أو شئ، صدق في دعوى الرد والتلف، لانها لا تناقض كلامه الاول. فإن اعترف بأنه كان باقيا يوم الجحود، لم يصدق في دعوى الرد إلا ببينة. وإن ادعى الهلاك، فكالغاصب إذا ادعاه. والمذهب أنه يصدق بيمينه ويضمن.
الحكم الثالث من أحكام الوديعة: ردها عند بقائها، فإذا كانت الوديعة باقية، لزم المودع ردها إذا طلبها المالك، وليس المراد أنه يجب عليه مباشرة الرد وتحمل مؤنته، بل ذلك على المالك، وإنما على المودع رفع اليد والتخلية بين المالك وماله، فإن أخر من غير عذر، دخلت الوديعة في ضمانه. وإن كان هناك عذر يعسر قطعه، بأن طالبه في جنح الليل والوديعة في خزانة لا يتأتى فتح بابها في الوقت، أو كان مشغولا بصلاة أو قضاء الحاجة، أو في حمام أو على طعام فأخر حتى يفرغ، أو

(5/305)


كان ملازما لغريم يخاف هربه، أو كان المطر واقعا والوديعة في البيتفأخر حتى ينقطع ويرجع إلى البيت، وما أشبه ذلك، فله التأخير قطعا. فلو تلفت الوديعة في تلك الحال، فقطع المتولي بأنه لا ضمان، لعدم تقصيره، وهذا مقتضى كلام البغوي أيضا. ولفظ الغزالي في الوسيط يشعر بتفصيل، وهو أنه إن كان التأخير لتعذر الوصول إلى الوديعة، فلا ضمان. وإن كان لعسر يلحقه، أو غرض يفوته، ضمن. قلت: الراجح أنه لا يضمن مطلقا، وصرح به كثيرون. والله أعلم. فرع قال المودع: لا أرد حتى تشهد أنك قبضتها، فهل له ذلك ؟ فله ثلاثة أوجه سبق ذكرها في كتاب الوكالة ووجه رابع، أنه إن كان المالك أشهد بالوديعة عند دفعها، فله ذلك، وإلا، فلا. فرع يشترط كون المردود عليه أهلا للقبض. فلو حجر عليه بسفه، أو كان نائما فوضعها في يده، لم يجز. فرع أودعه جماعة مالا، وذكر أنه مشترك بينهم، ثم جاء بعضهم يطلبه، لم يكن للمودع القسمة ولا تسليم الجميع، بل يرفع الامر إلى الحاكم ليقسمه ويدفع إليه نصيبه. فرع قال له: ردها على فلان وكيلي، فطلب الوكيل فلم يرد، فهو كما لو طلب المالك فلم يرد، لكن له التأخير ليشهد المدفوع إليه على القبض، لانه لو أنكر، صدق بيمينه. وإن لم يطلب الوكيل، فإن لم يتمكن من الرد، لم تصر مضمونة، وإلا، فوجهان، لانه لما أمره بالدفع إلى وكيله، عزله، فيصير ما في يده كالامانة الشرعية، مثل الثوب تطيره الريح إلى داره. وفيها وجهان. أحدهما: تمتد إلى المطالبة. وأصحهما: تنتهي بالتمكن من الرد. قال ابن كج: ويجري الوجهان فيمن وجد ضالة وهو يعرف مالكها. وذكر إمام الحرمين في الاساليب، أنه لو قال: رد الوديعة على من قدرت عليه من وكلائي هؤلاء ولا تؤخر، فقدر على الرد على بعضهم، وأخر ليرد على غيره، فهو ضامن عاص بالتأخير، وأنه لو لم يقل: ولا تؤخر، يضمن بالتأخير، وفي العصيان وجهان. وإنه لو قال: ردها على من شئت

(5/306)


منهم، فلم يرد على واحد ليرد على آخر، لا يعصي، وفي الضمان وجهان. فرع هل يجب على المودع الاشهاد عند الدفع إلى الوكيل ؟ وجهان جاريان فيما لو دفع إليه مالا ابتداء وأمره بايداعه، أصحهما عند البغوي: يجب، كما لو أمره بقضاء دينه يلزمه الاشهاد، وأصحهما عند الغزالي: لا، لان قول المودع مقبول في الرد والتلف، فلا يغني الاشهاد، لان الودائع حقها الاخفاء، بخلاف قضاء الدين. فإذا قلنا: يجب، فالحكم كما ذكرناه في كتاب الوكالة: أنه إن دفع في غيبة الموكل من غير إشهاد، ضمن. وإن دفع بحضرته، لم يضمن على الاصح.
فصل طالبه المالك بردها، فادعى التلف بسبب خفي كالسرقة، صدق بيمينه. وإن ادعاه بسبب ظاهر كالحريق والغارة والسيل، فإن لم يعرف ما ادعاه بتلك البقعة، لم يقبل قوله في الهلاك به. وإن عرف بالمشاهدة أو الاستفاضة، نظر، إن عرف عمومه، صدق بلا يمين. وإن لم يعرف عمومه، واحتمل أنه لم يصب الوديعة، صدق باليمين. وإن لم يذكر سبب التلف، صدق بيمينه، ولا يكلف بيان سببه. وإذا نكل المودع عن اليمين، حلف المالك على نفي العلم بالتلف واستحق، وعد المتولي موت الحيوان والغصب من الاسباب الظاهرة. وفي التهذيب إلحاق الغصب والسرقة، وهو الاقرب. فصل إذا ادعى رد الوديعة على الذي ائتمنه وهو المالك، صدق بيمينه. فإن مات قبل الحلف، ناب عنه وارثه وانقطعت المطالبة بحلفه. وإن ادعى الرد على غير من ائتمنه، لم يقبل إلا ببينة. وتفصيله بصور. إحداها: إذا مات المالك، لزم المودع الرد على ورثته. حتى لو تلف في يده

(5/307)


بعد التمكن من الرد، ضمن على الاصح. فإن لم يجد الورثة، رد إلى الحاكم. وقيد في العدة هذا الجواب بما إذا لم تعلم الورثة بالوديعة، أما إذ علموا، فلا يجب الرد إلا بعد طلبهم. ولو طالبه الوارث فقال: رددته على المالك، أو تلف في يدي في حياته، صدق بيمينه. وإن قال: رددته عليك، فأنكر، فالمصدق الوارث. وإن قال: تلف في يدي قبل تمكني من الرد، فهل المصدق الوارث كدعوى الرد ؟ أم المودع لان الاصل براءته ؟ وجهان. قلت: ينبغي أن يكون الثاني أصح. والله أعلم. (الصورة) الثانية: مات المودع، فعلى وارثه ردها. فإن تلفت في يده بعد التمكن، ضمن على الاصح. فإن كان المالك غائبا، سلمها إلى الحاكم. فلو تنازعا، فقال وارث المودع: رد عليك مورثي، أو تلفت في يده، قال المتولي: لم يقبل إلا ببينة. وقال البغوي: يصدق بيمينه، وهو الوجه، لان الاصل عدم حصولها في يده. ولو قال: رددتها عليك، فالمصدق المالك. ولو قال: تلفت في يدي قبل التمكن، فعلى الوجهين. (الصورة) الثالثة: لو قال من طيرت الريح ثوبا إلى داره: رددت على المالك، وادعاه الملتقط، لم يصدق إلا ببينة. (الصورة) الرابعة: إذا أراد المودع سفرا، فأودعها أمينا، فادعى الامين تلفها، صدق. وإن ادعى الرد المالك، لم يقبل، لانه لم يأتمنه. وإن ادعى الرد

(5/308)


على المودع، صدق، لانه أمينه. كذا ذكره الغزالي والمتولي، وهذا ذهاب إلى أن للمودع إذا عاد من السفر أن يستردها، وبه صرح العبادي وغيره. وحكي عن الامام أن اللائق بمذهب الشافعي رحمه الله، منعه من الاسترداد، بخلاف المودع يسترد من الغاصب على وجه، لانه من الحفظ المأمور به. ولو كان المالك عين أمينا فقال: إذا سافرت فاجعلها عند فلان، ففعل، فالحكم بالعكس، إن ادعى الرد على المالك، صدق. وإن ادعاه على المودع الاول، لم يصدق. (الصورة) الخامسة: قال المودع للمالك: أودعتها عند وكيلك فلان بأمرك، فللمالك أحوال. أحدها: ينكر الاذن، فيصدق بيمينه. فإذا حلف، نظر إن كان فلان مقرا بالقبض والوديعة باقية، ردها على المالك. فإن غاب المدفوع إليه، فللمالك تغريم المودع. فإذا قدم، أخذها وردها على المالك واسترد البدل. وإن كانت تالفة، فللمالك تغريم أيهم شاء، وليس لمن غرم الرجوع على صاحبه لزعمه أن المالك ظالم بما أخذ. وإن كان فلان منكرا، صدق بيمينه، واختص الغرم بالمودع. (الحالة) الثانية: يعترف بالاذن وينكر الدفع، فوجهان. أحدهما: يصدق المودع وتجعل دعوى الرد على وكيل المالك كدعواه على المالك. وأصحهما: تصديق المالك، لانه يدعي الرد على من لم يأتمنه. ولو وافق فلان المودع وقال: تلفت في يدي، لم يقبل قوله على المالك، بل يحلف المالك ويغرم المودع. (الحالة) الثالثة: يعترف بالاذن والدفع معا، لكنه يقول: لم تشهد، والمدفوع إليه منكر، فيبنى على وجوب الاشهاد على الايداع. فإن لم نوجبه، فليس له تغريمه. وإن أوجبناه، فعلى الخلاف السابق في الوكالة في نظير هذه الصورة. ولو اتفقوا جميعا على الدفع إلى الامين، وادعى الامين ردها على المالك، أو تلفها في يده، صدق بيمينه. هذا إذا عين المالك الامين، أما لو قال: أودعها أمينا، ولم يعينه،

(5/309)


فادعى الامين التلف، صدق. وإن ادعى الرد على المالك، فالمصدق المالك، لانه لم يأتمنه، كذا ذكروه. ولو قيل: أمين أمينه أمينه، كما تقول على رأي: وكيل وكيل وكيله، لم يبعد. قلت: بل هو بعيد، والفرق ظاهر.
فصل في يده مال، جاء رجلان ادعى كل أنه مودعه، فجوابه يفرض بصيغ. إحداها: أن يكذبهما ويقول: المال لي، فيحلف لكل أنه لا يلزمه تسليمه إليه. (الصيغة) الثانية: أن يقر لاحدهما بعينه، فيعطاه، وهل يحلف للآخر ؟ يبنى على أنه لو أقر لزيد بشئ، ثم أقر به لعمرو، هل يغرم لعمرو ؟ إن قلنا: لا، فلا. وإن قلنا: نعم، عرضت اليمين عليه. فإن حلف، سقطت دعوى الآخر. وإن نكل، حلف الآخر. ثم هل يوقف المال بينهما إلى أن يصطلحا، أم يقسم بينهما كما لو أقر لهما، أم يغرم المدعى عليه القيمة له ؟ فيه ثلاثة أوجه عن ابن سريج، قال ابن الصباغ: المذهب هو الثالث. (الصيغة) الثالثة: قال: هو لكما، فهو كمال في يد شخصين يتداعيانه. فإن حلف أحدهما، قضي له، ولا خصومة للآخر مع المودع، لنكوله. وإن نكلا أو حلفا، جعل بينهما، وحكم كل واحد منهما في النصف الآخر كالحكم في الجميع في حق غير المقر له، وقد بيناه. (الصيغة) الرابعة: قال: هو لاحدكما وقد نسيت عينه، فإن ضمنا المودع بالنسيان،

(5/310)


فهو ضامن، وإلا، نظر، إن صدقاه، فلا خصومة لهما معه، وإنما الخصومة بينهما. فإن اصطلحا في شئ، فذاك، وإلا، فيجعل المال كأنه في أيديهما يتداعيانه، هذا هو الصحيح. وقيل: هو كمال في يد ثالث يتداعيانه، لانه لم يثبت لاحدهما يد. فعلى الاول، لو أقام كل واحد منهما بينة، أو حلفا أو نكلا، فهو بينهما. وإن أقام أحدهما بينة أو حلف، ونكل صاحبه، قضي له. وعلى الثاني، لو أقام كل بينة، فعلى الخلاف في تعارض البينتين. وإن نكلا أو حلفا، وقف المال بينهما. وسواء قلنا بالاول أم بالثاني، هل يترك المال في يد المدعى عليه إلى أن تنفصل خصومتهما، أم ينزع منه ؟ فيه قولان. أظهرهما: الثاني، وبه قطع البغوي وغيره. قال المتولي: والقولان فيما إذا طلب أحدهما الانتزاع والآخر الترك، أما إذا اتفقا على أحد الامرين، فيتبع الحاكم رأيهما. أما إذا كذباه في دعوى النسيان وادعيا علمه، فهو المصدق بيمينه، ويكفيه يمين واحدة على نفي العلم، لان المدعى شئ واحد وهو علمه. وهل للحاكم تحليفه على نفي العلم إذا لم يدعه الخصمان ؟ وجهان. ثم إذا حلف، فالحكم كما إذا صدقاه في النسيان. وقيل: ينتزع المال من يده هنا وإن لم ينتزع هناك، لانه خائن عندهما بدعوى النسيان، وإن نكل، ردت اليمين عليهما. فإن نكلا، فالمال مقسوم بينهما أو موقوف حتى يصطلحا على ما سبق. وإن حلف أحدهما فقط، قضي له. وإن حلفا، فقولان. ويقال: وجهان. أحدهما: يوقف حتى يصطلحا. وأظهرهما: يقسم، لانه في أيديهما. وعلى هذا، يغرم القيمة وتقسم بينهما أيضا، لان كل واحد منهما أثبت بيمين الرد كل العين، ولم يأخذ إلا نصفها. هذا هو الصحيح الاشهر فيما إذا نكل المودع. وقيل: لا يغرم القيمة مع العين إذا حلفا. وقيل: لا ترد اليمين عليهما بنكوله، بل يوقف بناء على أنهما لو حلفا وقف المال بينهما، فلا معنى لعرض اليمين. وإذا رددنا اليمين، فهل يقرع بينهما ؟ أم يبدأ الحاكم بمن رأى ؟ وجهان، أصحهما الثاني، حكاه السرخسي في الامالي. وإذا حلفا وقسم بينهما العين والقيمة، فإن لم ينازع أحدهما الآخر، فلا كلام. وإن نازعه وأقام أحدهما البينة أن جميع العين له، سلمناها إليه ورددنا القيمة إلى المودع. وإن لم يكن بينة، ونكل صاحبه عن

(5/311)


اليمين فحلف واستحق العين، رد نصف القيمة الذي أخذه، ولا يرد الناكل ما أخذه، لانه استحقه بيمينه على المودع، ولم يعد إليه المبدل، ونكوله كان مع صاحبه، لا مع المودع. وصرح في الوسيط بأن الناكل لا يرد، سواء سلمت العين بالبينة أو باليمين. فرع ادعى اثنان غصب مال في يده، كل يقول: غصبته مني، فقال: غصبته من أحدكما ولا أعرفه، حلف لكل منهما على البت أنه لم يغصبه. فإذا حلف لاحدهما، تعين المغصوب للثاني، فلا يحلف له. (الحالة) الخامسة: قال: هو وديعة عندي ولا أدري أهو لكما، أم لاحدكما، أم لغير كما ؟ وادعيا علمه، فحلف على نفي علمه، ترك في يده حتى تقوم بينة، وليس لاحدهما تحليف الآخر، لانه لم يثبت لواحد منهما يد ولا استحقاق، بخلاف الصورة السابقة.
فصل في مسائل منثورة إحداها: تعدى في الوديعة، ثم بقيت في يده مدة، لزمه أجرة مثلها. (المسألة) الثانية: في فتاوى القفال، أنه لو ترك حماره في صحن خان وقال للخاني: احفظه كيلا يخرج، فكان الخاني ينظره، فخرج في بعض غفلاته، فلا ضمان، لانه لم يقصر في الحفظ المعتاد. (المسألة) الثالثة: المودع إذا وقع في خزانته حريق، فبادر إلى نقل الامتعة، وقدم أمتعته على الوديعة، فاحترقت الوديعة، لم يضمن، كما لو لم يكن فيها إلا ودائع فأخذ في نقلها فاحترق ما تأخر نقله. (المسألة) الرابعة: لو ادعى ابن المالك موت أبيه، وعلم المودع بذلك، وطلب الوديعة، فله تحليف المودع على نفي العلم. فإن نكل، حلف المدعي.

(5/312)


(المسألة) الخامسة: مات المالك وطلب الوارث الوديعة، فامتنع المودع ليفحص هل في التركة وصية ؟ فهو متعد ضامن. (المسألة) السادسة: من وجد لقطة وعلم مالكها فلم يخبره حتى تلفت، ضمن، وكذا قيم الصبي والمسجد إذا كان في يده مال فعزل نفسه ولم يخبر الحاكم حتى تلف المال في يده، ضمن، وهذا كما قدمنا أنه يجب الرد عند التمكن أو هو هو. (المسألة) السابعة: من صور تعدي الامناء، أن لا يبيع قيم الصبي أوراق فرصاده حتى يمضي وقتها، فيلزمه الضمان، وليس من التعدي أن يؤخر لتوقع زيادة فيتفق رخص، وكذا قيم المسجد في أشجاره، وهذا شبيه بتعريض الثوب الذي يفسده الدود للريح، وهذه المسائل سوى الاولى في فتاوى القفال. (المسألة) الثامنة: بعث رسولا إلى حانوته، ودفع خاتمه معه علامة وقال: رده علي إذا قبضت المأمور بقبضه، فقبضه ولم يرد الخاتم، ووضعه في حرزه، فلا ضمان، ذكره العبادي في الزيادات كأن المعنى أنه ليس عليه الرد ولا مؤنته وإنما التخلية. (المسألة) التاسعة: في فتاوى القاضي حسين، أن الثياب في مسلخ الحمام إذا سرقت، والحمامي جالس في مكانه مستيقظ، فلا ضمان عليه. وإن نام أو قام من مكانه، ولا نائب له هناك، ضمن. ويجب على الحمامي الحفظ إذا استحفظ. وإن لم يستحفظ، حكى القاضي عن الاصحاب، أنه لا يجب عليه الحفظ، قال: وعندي يجب، للعادة. (المسألة) العاشرة: عن بعضهم: لو أودعه قبالة وقال له: لا تدفعها إلى زيد حتى

(5/313)


يعطيك دينارا، فدفعها إليه قبل أن يعطيه، فعليه قيمة القبالة مكتوبة، الكاغد وأجرة الوراق. قلت: ومن مسائل الباب قال أصحابنا: لو أكرهه على قبول وديعة وحفظها، فأخذها، لم تكن مضمونة عليه كما لو قبضها مختارا وأولى. ولو تعين عليه قبول وديعة، فلم يقبلها، وتلفت، فهو عاص، ولا ضمان، لانه لم يلتزم الحفظ. والله أعلم.

(5/314)