روضة الطالبين وعمدة المفتين ط العلمية

روضة الطالبين - كتاب الايلاء
فيه بابان.
الأول : في أركانه، وهي أربعة.

(6/203)


الأول : الحالف وله شروط. الاول: كونه زوجا، فلو قال لاجنبية: والله لا أطؤك تمحض يمينا فلو وطئها قبل النكاح أو بعده، لزمه كفارة يمين، ولا ينعقد الايلاء، حتى لو نكحها لا تضرب المدة. وفي التتمة وجه أنه إذا نكحها، صار مؤليا، لان اليمين باقية، والضرر حاصل، والصحيح الاول. ولو قال: إن تزوجتك فوالله لا وطئتك، فهو كتعليق الطلاق بالملك، ويصح الايلاء من الرجعية، ولا تحسب المدة عن الايلاء، فإذا رجع، ضربت المدة. الشرط الثاني: تصور الجماع، فمن جب ذكره، لا يصح إيلاؤه على المذهب. ومن آلى ثم جب، لا يبطل إيلاؤه على المذهب. ولو شل ذكره، أو قطع بعضه، وبقي دون قدر الحشفة، فهو كجب جميعه، والايلاء في الرتقاء، والقرناء، كإيلاء المجبوب. قال ابن الصباغ: لكن إذا صححناه، لا تضرب مدة الايلاء، لان الامتناع تسبب من جهتها، كما لو آلى من صغيرة، لا تضرب المدة حتى تدرك، وحكي قول قديم: أنه لا يصح الايلاء من الصغيرة والمريضة المضناة. الشرط الثالث: البلوغ والعقل. فرع سواء في صحة الايلاء، العبد والامة، والكافر وأضدادهم، ولا ينحل الايلاء بإسلام الكافر، وإذا ترافع إلينا ذميان وقد آلى، فإن أوجبنا الحكم بينهم، حكم بشرعنا، وإن لم نوجبه، لم يجبر الحاكم الزوج على الفيئة، ولا الطلاق، ولم تطلق عليه، بل لا بد من رضاه، لان الحكم على هذا القول إنما يجوز برضاهما، فإذا لم يرضيا، رددناهما إلى حاكمهم. فرع يصح إيلاء المريض والخصي، ومن بقي من ذكره قدر الحشفة،

(6/205)


والعربي بالعجمية، وعكسه، إذا عرف معنى اللفظ.
الركن الثاني : المحلوف به الامتناع من الوطئ بلا يمين، لا يثبت حكم الايلاء، وسواء كان هناك عذر أم لا، وإذا حلف لا يطؤها أكثر من أربعة أشهر، ثم طالبته بالوطئ بعد أربعة أشهر، فوطئ، لزمه كفارة اليمين على المذهب وهو الجديد وأحد قولي القديم. والثاني: لا كفارة، لقول الله تعالى: * (فإن فاؤوا فإن الله غفور رحيم) *. فإن وطئها قبل مضي المدة، فقيل: تجب الكفارة قطعا، لانه حنث باختياره من غير إلزام. وقيل: بطرد الخلاف، لانه بادر إلى ما يطالب به. ولو حلف أن لا يطأها أربعة أشهر فما دونها، ثم وطئ، لزمه الكفارة قطعا، لانه ليس بمؤل، وقيل: بطرد الخلاف، وهو بعيد. فصل هل يختص الايلاء باليمين بالله تعالى وصفاته ؟ فيه قولان. القديم: نعم. والجديد الاظهر: لا، بل إذا قال: إن وطئتك، فعلي صوم أو صلاة أو حج، أو فعبدي حر، أو فأنت طالق، أو فضرتك طالق، أو نحو ذلك، كان مؤليا، وشرط انعقاده بهذه الالتزامات أن يلزمه شئ لو وطئ بعد أربعة أشهر، فلو كانت اليمين تنحل قبل مجاوزة أربعة أشهر، لم تنعقد. فلو قال: إن وطئتك، فعلي أن أصلي هذا الشهر أو اصومه أو أصوم الشهر الفلاني، وهو ينقضي قبل مجاوزة أربعة أشهر من حين اليمين، لم ينعقد الايلاء، فلو قال: إن وطئتك، فعلي صوم شهر، أو الشهر الفلاني، وهو يتأخر عن أربعة أشهر، فهو مؤل، وكذا لو قال: إن وطئتك، فعلي صوم الشهر الذي أطأ فيه، ويلزمه صوم بقية ذلك الشهر إن أوجبنا في نذر اللجاج الوفاء بالملتزم. وفي قضاء اليوم الذي وطئ فيه، وجهان مأخوذان من الخلاف، فيمن نذر صوم اليوم الذي يقدم فيه زيد. ولو قال: فعلي صوم هذه السنة، فهو مؤل إن بقي من السنة أكثر من أربعة أشهر، وإلا فلا. ولو قال: إن وطئتك، فكل عبد يدخل في ملكي حر، فهو لغو، لان تعليق العتق بالملك لغو، وكذا لو قال: فعلي أن أطلقك، لانه لا يلزمه بالوطئ شئ. ولو قال: إن وطئتك، فأنت طالق إن دخلت الدار، أو فعبدي حر بعد سنة، فقال القاضي حسين والبغوي: هو مؤل، وقال الشيخ أبو محمد والامام: هو على الخلاف فيما

(6/206)


إذا قال: إن أصبتك، فوالله لا أصبتك، فيكون الراجح أنه لا يكون مؤليا في الحال، كما سيأتي إن شاء الله تعالى، وهذا أوجه. فرع في مسائل تتفرع على الجديد إحداها: قال: إن وطئتك، فعبدي حر، فمات العبد أو أعتقه، انحل الايلاء، فإن زال ملكه ببيع أو هبة ونحوهما، فكذلك، فإن ملكه بعد ذلك، ففي عود الايلاء قولا عود الحنث، ولو دبره أو كاتبه، لم ينحل الايلاء، لانه يعتق لو وطئها، وكذا لو علق بالوطئ عتق جارية ثم استولدها. الثانية: قال: إن وطئتك، فعبدي حر قبله بشهر، فإنما يصير مؤليا إذا مضى شهر من وقت تلفظه، لانه لو وطئها قبل تمام شهر، لم يعتق، وينحل الايلاء بذلك الوطئ، فإذا مضى شهر ولم يطأ، ضربت مدة الايلاء، ويطالب في الشهر الخامس، هكذا قالوه، ويجئ فيه وجه: أنه لو وطئ قبل الشهر، عتق كما سبق في نطيره من الطلاق، فعلى هذا يصير مؤليا في الحال. فإذا قلنا بالصحيح، فوطئ في مدة الايلاء أو بعد توجه المطالبة بالفيأة أو الطلاق، حكم بعتق العبد قبله بشهر، وإن طلقها حين طولب، ثم راجعها، ضربت المدة مرة أخرى. وإن جدد نكاحها بعد العدة، ففي عود الايلاء قولا عود الحنث، وإذا وطئها، حكم بعتق العبد قبله بشهر بلا خلاف، وإن وقع الوطئ على صورة الزنا، ولو باع العبد في الشهر الرابع، فإن وطئ قبل تمام شهر من وقت البيع، تبينا حصول العتق قبل البيع، وإن تم من وقت البيع شهر ولم يطأ، ارتفع الايلاء، لانه لو وطئ بعد ذلك، لم يحصل العتق قبله بشهر لتقدم البيع على شهر، هكذا ذكره الجمهور. وحكى الفوراني والمتولي وجها أنه يطالب بعد تمام أربعة أشهر من وقت اللفظ، لانه ربما يطلقها، والطلاق لا يستند. الثالثة: قال: إو وطئتك، فعبدي حر عن ظهاري، فإن كان قد ظاهر، صار مؤليا، لانه وإن لزمته كفارة الظهار، فعتق ذلك العبد بعينه، وتعجيل الاعتاق عن الظهار زيادة التزمها بالوطئ، ثم إذا وطئ في مدة الايلاء أو بعدها، فهل يعتق العبد عن الظهار ؟ وجهان. أصحهما: نعم، وطرد الخلاف في سائر التعليقات، كقوله: إن دخلت الدار، فأنت حر عن ظهاري، وأما إذا لم يكن ظاهر، فلا إيلاء

(6/207)


ولا ظهار فيما بينه وبين الله تعالى، ولكنه مقر على نفسه بالظهار، فيحكم في الظاهر بأنه مظاهر ومؤل، ولا يقبل قوله: إن لم يكن مظاهرا، وإذا وطئ عاد في وقوع العتق عن الظهار في الظاهر الوجهان. ولو قال: إن وطئتك، فعبدي حر عن ظهاري إن ظاهرت، لم يكن مؤليا في الحال، فإن ظاهر، صار مؤليا، لان العتق يحصل حينئذ لو وطئ. وقيل: في كونه مؤليا في الحال قولان، لقربه من الحنث، كما لو قال لنسوة: والله لا جامعتكن، والمذهب الاول. قال المتولي: ولو قال: إن وطئتك، فعبدي حر إن ظاهرت، ولم يقل: عن ظهاري، كان مؤليا في الحال، فإذا قلنا بالمذهب، وهو أنه لا يصير مؤليا إلا إذا ظاهر، فوطئ في مدة الايلاء أو بعدها، حصل العتق لوجود الظهار، والوطئ متأخر عنه، ولا يقع هذا العتق عن الظهار باتفاق الاصحاب، ولم لا يقع ؟ قال أبو إسحق: لان تعليق العتق سبق الظهار، والعتق لا يقع عن الظهار إلا بلفظ يوجد بعده. وقال ابن أبي هريرة: لانه لا يقع خالصا عن الظهار، لتأدي حق الحنث به، فأشبه عتق القريب بنية الكفارة، والاول أصح عند الاصحاب، وبنوا على التعليلين ما لو قال: إن وطئتك، فعبدي حر عن ظهاري إن ظاهرت، وكان ظاهر ونسي، فيكون مؤليا في الحال، وإذا وطئ، عتق العبد عن الظهار على التعليل الاول دون الثاني. فرع قال: إن وطئتك، فلله علي أن أعتق عبدي هذا عن ظهاري، وكان ظاهر منها أو من غيرها ووجد العود، فهل يكون مؤليا ؟ يبنى على أن من في ذمته إعتاق رقبة فنذر على وجه التبرر أن يعتق العبد الفلاني عما هو عليه، هل يتعين ذلك العبد أم لا ؟ النص وقول الجمهور: يتعين، واختار المزني: أنه لا يتعين، وخرجه على أصل الشافعي رحمه الله، وعد الامام هذا قولا في المذهب وقال: تخريجه أولى من تخريج غيره. ونقل الامام أن القاضي حسينا قال: لو نذر صرف زكاته

(6/208)


إلى معينين من الاصناف، تعينوا، وأن الاكثرين قالوا: لا يتعينون، وفرقوا بقوة العتق، فإن قلنا: يتعين العبد المعين للاعتاق، صار مؤليا في الحال، وإلا فلا يكون مؤليا، فإن صححنا الايلاء، فطلق بعد المطالبة خرج عن موجب الايلاء، وكفارة الظهار في ذمته، فيعتق عنها ذلك العبد أو غيره. وإن وطئ في مدة الايلاء أو بعدها، لزمه ما يلزم في نذر اللجاج، فإن قلنا: كفارة يمين، نظر، إن أطعم أو كسا، فعليه الاعتاق عن الظهار، وإن أعتقه أو عبدا اخر عن اليمين، فعليه أيضا الاعتاق عن الظهار. وإن قلنا: عليه الوفاء بما سمى، أو خيرناه فاختار الوفاء وأعتق ذلك العبد عن ظهاره، خرج عن عهدة اليمين. وفي إجزائه عن الظهار وجهان. أصحهما: الاجزاء. المسألة الرابعة: قال: إن وطئتك، فأنت طالق أو فأنت ثلاثا، فيطالب بعد مضي المدة. وفيما يطالب به ؟ وجهان، أحدهما وبه قال ابن خيران: يطالب بالطلاق على التعيين، ويمنع الوطئ، والثاني وهو الصحيح المنصوص: يطالب بالفيئة، أو الطلاق، ولا يمنع من الوطئ بتعليق الطلاق، ويقال له: عليك النزع بمجرد تغييب الحشفة، فإن وطئ قبل المدة أو بعدها، ونزع بمجرد تغيب الحشفة، فذاك، وإن مكث، فلا حد على الصحيح، لان أول الوطئ مباح. وحكى ابن القطان وغيره وجها، أنه يجب الحد إذا علم تحريمه، ولا يجب المهر على المذهب، وفيه خلاف سبق في كتاب الصوم. وإن نزع ثم أولج، فلا حد إن كانت رجعية، وحكم المهر كما سبق في الرجعية. وإن كان علق به الطلاق الثلاث، فإن كانا جاهلين بالتحريم، بأن اعتقد أن الطلاق لا يقع إلا باستيعاب

(6/209)


الوطئ في المجلس، فلا حد للشبهة، ويجب المهر، ويثبت النسب والعدة. وإن كانا عالمين بالتحريم، فوجهان. أصحهما: يجب الحد، ولا مهر ولا نسب ولا عدة. والثاني: عكسه. وإن علم التحريم، وجهلته، فلا حد عليها ولها المهر، وكذا لو علمت ولم تقدر على دفع الزوج، وفي وجوب الحد عليه الوجهان، وإن جهل هو التحريم وعلمته وقدرت على الدفع، فالاصح أنه يلزمها الحد ولا مهر لها. فرع قال لغير المدخول بها: إن وطئتك، فأنت طالق، وقع بالوطئ طلقة رجعية، سواء قلنا: الطلاق المعلق بالصفة يقع بعدها أم معها. المسألة الخامسة: قال: إن وطئتك، فضرتك طالق، فهو مؤل عن المخاطب، ومعلق طلاق الضرة، فإن وطئ المخاطبة قبل مضي المدة أو بعدها، طلقت الضرة، وانحل الايلاء، وإن طلقها بعد المطالبة ولم يطأها، سقطت المطالبة ولم يطأها، وخرج عن موجب الايلاء، فإن راجعها بعد ذلك عاد حكم الايلاء، وهذا حكم كل إيلاء كما سيأتي إن شاء الله تعالى. وإن بانت فجدد نكاحها، ففي عود الايلاء أقوال عود الحنث، وهذا يشمل كل إيلاء، فإن قلنا: يعود، استؤنفت المدة من يوم النكاح، نص عليه القاضي أبو الطيب وغيره. وسواء قلنا: يعود الايلاء أم لا، فطلاق الضرة يبقى معلقا بوطئ المخاطبة، حتى لو وطئ المخاطبة بعد الرجعة أو التجديد، وقع بلا خلاف. وكذا لو وطئها وهي بائن زانيا، ولا يعود الايلاء لو نكحها بعد ذلك لانحلال اليمين بوطئ الزنا. ولو ماتت الضرة، انحل الايلاء، ولو طلقها، لم يرتفع الايلاء ولا المطالبة ما دامت في عدة الرجعية، لانه لو وطئ المخاطبة لطلقت، فإذا انقضت أو أبان الضرة، ابتدأ بخلع أو استيفاء عدد أو طلاق قبل الدخول، ارتفع الايلاء وسقطت المطالبة وإن كان ذلك بعد مضي مدة الايلاء، لانه لو وطئها بعد ذلك، لم يقع عليه طلاق. ثم إن وطئ المخاطبة، انحلت اليمين، ولا يعود إيلاؤها لو نكح الضرة، وإن نكح الضرة قبل أن يطأها، فعلى الخلاف في عود الحنث، فإن قلنا: لا يعود، لم يعد الايلاء، وإلا فيعود، وإذا أعدناه، فهل يستأنف المدة، أم يبني ؟ وجهان،

(6/210)


اختار الامام والغزالي البناء، وقطع البغوي وغيره بالاستئناف، وهو أصح. المسألة السادسة: قال لامرأتيه: إن وطئت إحداكما، فالاخرى طالق، فإما أن يعين بقلبه واحدة، وإما لا، فإن عين، فهو مؤل منها وحدها، لكن الامر في الظاهر مبهم، فيقال له بعد المدة: بين التي أردتها، فإن بين، فلها مطالبته بالفيأة أو الطلاق، والقول قوله بيمينه، أنه لم يرد الاخرى، وإن لم يبين وطالبتاه جميعا، قال له القاضي: فئ إلى التي آليت منها، أو طلقها، فإن امتنع، طلق القاضي إحداهما على الابهام، تفريعا على أن القاضي يطلق على المؤلي إذا امتنع، هكذا قاله ابن الحداد، واعترض عليه القفال، قال: لا يطلق القاضي إحداهما مبهمة، لانهما معترفتان بالاشكال، فدعواهما غير مسموعة، كما لو حضر رجلان عند القاضي، وقال: لاحدنا على هذا ألف درهم، وزاد المتولي فقال: هذا إذا جاءتا معا وادعتا كذلك، فلو انفردت كل واحدة، وقالت: آلى مني، فإن أقر بما قالتا، أخذ بموجب إقراره، وإن كذب الاولى، تعين الايلاء في الثانية. وقال كثير من الاصحاب: قول ابن الحداد صحيح، لحصول الضرر، فلا سبيل إلى إهمال الواقعة، ولا إلى طلاق معينة، فعلى هذا، إذا طلق القاضي، فقال الزوج: راجعت التي وقع عليها الطلاق، ففي صحة الرجعة وجهان سبقا في الرجعة، وبالصحة أجاب ابن الحداد، فعلى هذا تضرب المدة مرة أخرى، ويطلق القاضي

(6/211)


مرة أخرى على الابهام، وهكذا إلى أن يستوفي الثلاث، والاصح أن الرجعة لا تصح على الابهام، بل تبين المطلقة، ثم يراجعها إن شاء. فلو وطئ إحداهما قبل البيان، قال الشيخ أبو علي: لا يحكم بطلاق الاخرى، لانا لا ندري أن التي نواها هي الموطوءة أم الاخرى، ويبقى الامر بالبيان كما كان. فإن قال: أردت الاخرى، لم تطلق واحدة منهما، وتطالبه الاخرى بالفيأة أو الطلاق. فإن وطئها، طلقت الموطوءة الاولى، وإن قال: أردت الايلاء من الموطوءة، طلقت الاخرى، وخرج عن موجب الايلاء، هذا إذا عين بقلبه إحداهما، فإن لم ينو معينة، فالذي ذكره الشيخ أبو علي والبغوي، أنه يكون مؤليا منهما جميعا، لان أية واحدة وطئها طلقت الاخرى، ولحقه الضرر. ويشبه أن يقال: تكون مؤليا من واحدة، ويؤمر بالتعيين. كما في الطلاق، وسيأتي مثله إن شاء الله تعالى فيما لو قال لنسوة: لا جامعت واحدة منكن، ولم ينو، ثم ذكر الشيخ أبو علي بناء على جوابه، أنه إذا طولب بالفيأة أو الطلاق، فوطئ إحداهما، طلقت الاخرى وتخلص من الايلائين، ولو طلق إحداهما، لم يسقط حكم الايلاء في الثانية، لان بالوطئ تنحل اليمين، ولا تنحل بالطلاق. حتى لو وطئ التي لم يطلقها، وقعت طلقة أخرى على التي طلقها إذا كانت في عدة الرجعة. ولو قال: كلما وطئت إحداكما، فالاخرى طالق، ووطئ

(6/212)


بعد المطالبة إحداهما، طلقت الاخرى وتخلص عن الايلاء في حق الموطوءة، ولا يتخلص بالكلية في حق الاخرى وإن سقطت المطالبة في الحال بوقوع الطلاق، لان اللفظ يقتضي التكرار، فإذا راجعها، عاد فيها الايلاء. وحكى ابن الصباغ كلام ابن الحداد ثم قال: ومن الاصحاب من قال: يكون مؤليا منهما جميعا، قال: وهذا أصح. ولم يفرق بين ما إذا عين واحدة بقلبه، وما إذا لم يعين، ولا وجه لكونه مؤليا منهما مع تعيين واحدة بقلبه بحال. المسألة السابعة: سبق أن المؤلي من علق بالوطئ مانعا منه، من حنث في يمين، أو عتق أو طلاق ونحوها، فلو لم يتعلق الحنث بالوطئ، بل كان مقربا منه، فقولان، المشهور وهو الجديد، وأخرى قولي القديم: لا يكون مؤليا. والثاني من قولي القديم: يكون مؤليا، فإذا قال لاربع نسوة: والله لا أجامعكن، لم يحنث إلا بجماعهن كلهن، وإذا وطئهن، لزمه كفارة واحدة، لان اليمين واحدة. ولو مات بعضهن قبل الوطئ، انحلت اليمين، لانه تحقق امتناع الحنث، ولا نظر إلى تصور الايلاج بعد الموت، فإن اسم الوطئ يقع مطلقة على ما في الحياة. وقيل: إن البر والحنث، يتعلقان بوطئ الميتة. وأشار بعضهم إلى وجه فارق بين ما قبل الدفن وبعده، ولا أثر لموت بعضهن بعد الوطئ، قال الامام: والذي أراه أن الوطئ في الدبر كهو في القبل في حصول الحنث. قلت: هذا الذي قاله الامام متفق عليه، صرح به جماعات من أصحابنا، وقد نقله صاحب الحاوي والبيان عن الاصحاب في القاعدة التي قدمتها، أن الاصحاب قالوا: الوطئ في الدبر كهو في القبل، إلا في سبعة أحكام أو خمسة، ليست اليمين منها. والله أعلم.

(6/213)


ولو طلقهن أو بعضهن قبل الوطئ، لم تنحل اليمين، بل تجب الكفارة بالوطئ بعد البينونة وإن كان زنا، هذا حكم اليمين، وأما الايلاء، ففيه طرق، المذهب منها: لا يكون مؤليا في الحال، فإن وطئ ثلاثا منهن، صار مؤليا من الرابعة. وفي قول: يكون مؤليا من الجميع في الحال. فعلى المذهب: لو مات بعضهن قبل الوطئ، ارتفع حكم الايلاء على الصحيح، لحصول اليأس من الحنث. ولو مات بعضهن بعد الوطئ، لم يرتفع، ولو طلق بعضهن قبل الوطئ أو بعده، فكذلك، حتى لو أبان ثلاثا منهن ووطئهن في البينونة زانيا، صار مؤليا من الباقية. ولو أبان واحدة قبل الوطئ، ووطئ الثلاث في النكاح، ثم نكح المطلقة، ففي عود الايلاء قولا عود الحنث، وحكم اليمين باق قطعا، حتى لو وطئها، لزمه الكفارة. وإذا قلنا بالضعيف: إنه مؤل في الحال، ضربنا المدة، ولجميعهن المطالبة بعد المدة. فإن وطئهن أو طلقهن، تخلص من الايلاء، وإن وطئ بعضهن، ارتفع الايلاء في حق من وطئها، ولا يرتفع في حق المطلقة، بل إذا راجعها ضربت المدة ثانيا. فرع قال للنسوة الاربع: والله لا أجامع كل واحدة منكن، قال الاصحاب: يكون مؤليا من كل واحدة، ويتعلق بوطئ كل واحدة الحنث ولزوم الكفارة، قالوا: تضرب المدة في الحال، فإذا مضت، فلكل واحدة المطالبة بالفيئة أو الطلاق، فإن طلقهن، سقطت المطالبة، فإن راجعهن، ضربت المدة ثانيا، وإن طلق بعضهن، فالباقيات على مطالبتهن. وإن وطئ إحداهن، انحلت اليمين في حق الباقيات، وارتفع الايلاء فيهن على الاصح عند الاكثرين. وقيل: لا تنحل ولا ترتفع، وجعلوا على هذا الخلاف ما لو قال: والله لا كلمت واحدا من

(6/214)


هذين الرجلين ونظائره، هذا كلام الاصحاب، ولك أن تقول: إن أراد بقوله: لا أجامع كل واحدة تخصيص كل واحدة بالايلاء على وجه لا يتعلق بصواحبها، فالوجه بقاء الايلاء في الباقيات، وإلا فينبغي أن يكون حكم هذه الصورة حكم قوله: والله لا أجامعكن على ما سبق. فرع قال: والله لا أجامع واحدة منكن، فله ثلاثة أحوال. أحدها: أن يريد الامتناع عن كل واحدة، فيكون مؤليا منهن كلهن، ولهن المطالبة بعد المدة، فإن طلق بعضهن، بقي الايلاء في حق الباقيات، وإن وطئ بعضهن، حصل الحنث، لانه خالف قوله: لا أطأ واحدة منكن، وتنحل اليمين، ويرتفع الايلاء في حق الباقيات. الحال الثاني: أن يقول: أردت الامتناع عن واحدة منهن لا غير، فيقبل قوله، لاحتمال اللفظ. وقال الشيخ أبو حامد: لا يقبل، للتهمة، والصحيح الاول، ثم قد يريد معينة، وقد يريد مبهمة، فإن أراد معينة، فهو مؤل منها، ويؤمر بالبيان كما في الطلاق، فإذا بين، وصدقه الباقيات، فذاك، فإن ادعت غير المعينة أنه أرادها، وأنكر، صدق بيمينه، فإن نكل، حلفت المدعية، وحكم بأنه مؤل منها أيضا، فلو أقر في جواب الثانية أنه نواها، وأخذناه بموجب الاقرارين، وطالبناه بالفيئة أو الطلاق، ولا يقبل رجوعه عن الاولى، وإذا وطئهما في صورة إقراره، تعددت الكفارة، وإن وطئهما في صورة نكوله ويمين المدعية لم تتعدد الكفارة، لان يمينها لا تصلح لالزامه الكفارة. ولو ادعت واحدة أولا، أنك أردتني، فقال: ما أردتك أو ما آليت منك، وأجاب بمثله الثانية والثالثة، تعينت الرابعة للايلاء، وإن أراد واحدة مبهمة، أمر بالتعيين. وقال السرخسي: ويكون مؤليا من إحداهن لا على التعيين، فإذا عين واحدة، لم يكن لغيرها المنازعة، ويكون ابتداء المدة من وقت اليمين، أم من وقت التعيين ؟ وجهان بناء على الخلاف في الطلاق المبهم إذا عينه، هل يقع من اللفظ أم من التعيين ؟ وإن لم يعين، ومضت أربعة أشهر فقالوا: تطالب إذا طلبن بالفيئة أو الطلاق، وإنما يعتبر طلبهن كلهن ليكون طلب المؤلي منها حاصلا، فإن امتنع،

(6/215)


طلق القاضي واحدة على الابهام، ومنع منهن إلى أن يعين المطلقة، وإن فاء إلى واحدة أو ثنتين، أو ثلاث، أو طلق، لم يخرج عن موجب الايلاء. وإن قال: طلقت التي آليت منها، خرج عن موجب الايلاء، لكن المطلقة مبهمة، فعليه التعيين، هذا هو المذهب في الحال الذي نحن فيه، ووراءه شيئان. أحدهما: قال المتولي: إذا قال: أردت مبهمة، قال عامة الاصحاب: تضرب المدة في حق الجميع، فإذا مضت، ضيق الامر عليه في حق من طالب منهن، لانه ما من امرأة إلا ويجوز أن يعين الايلاء فيها، وظاهر هذا أنه مؤل من جميعهن، وهو بعيد. الثاني: حكى الغزالي وجها، أنه لا يكون مؤليا من واحدة منهن، حتى يبين إن أراد معينة، أو يعين إن أراد مبهمة، لان قصد الاضرار حينئذ يتحقق. وحكى الامام هذا الوجه عن الشيخ أبي علي على غير هذه الصورة، فقال: روى وجها: أنه إذا قال: أردت واحدة، لا يؤمر بالبيان، ولا بالتعيين، بخلاف إبهام الطلاق، لان المطلقة خارجة عن النكاح، فإمساكها منكر، بخلاف الايلاء. الحال الثالث: أن يطلق اللفظ، فلا ينوي تعميما ولا تخصيصا، فهل يحمل على التعميم، أم على التخصيص بواحدة ؟ وجهان. أصحهما: الاول، وبه قطع البغوي وغيره. المسألة الثامنة: قال: والله لا أجامعك سنة إلا مرة، فقولان، أظهرهما وهو الجديد، وأحد قولي القديم: لا يكون مؤليا في الحال، لانه لا يلزمه بالوطئ الاول شئ، فإن وطئها، نظر، إن بقي من السنة أكثر من أربعة أشهر، فهو مؤل من يومئذ، وإن بقي أربعة فأقل، فهو حالف وليس بمؤل، والقول الثاني: يكون مؤليا في الحال، فيطالب به بعد مضي المدة. فإن وطئ، فلا شئ عليه، لان الوطأة الاولى مستثناة، وتضرب المدة ثانيا إن بقي من السنة مدة الايلاء، وعلى هذا القياس لو قال: لا أجامعك إلا عشر مرات، أو عددا آخر، فعلى الاظهر: لا يكون مؤليا في الحال، وإنما يكون مؤليا إذا وطئ ذلك العدد وبقي من السنة مدة الايلاء، وعلى الضعيف: يكون مؤليا في الحال، ولو قال: إن أصبتك، فوالله لا أصبتك، فقيل: بإجراء القولين في كونه مؤليا في الحال، والمذهب: القطع بالمنع. والفرق أن هناك عقد اليمين في الحال، واستثنى وطأة، وهنا اليمين غير

(6/216)


منعقد في الحال، وإنما ينعقد إذا أصابها، وإثبات الايلاء قبل اليمين ممتنع، ويجري الخلاف فيما لو قال: إن وطئتك، فوالله لا دخلت الدار. ولو قال: والله لا أجامعك سنة إلا يوما، فهو كقوله: إلا مرة. ولو قال: لا أجامعك في السنة إلا مرة، فتعريف السنة بالالف واللام يقتضي السنة العربية التي هو فيها، فإن بقي منها مدة الايلاء، ففيه القولان، كما لو قال: سنة، وإلا فلا إيلاء قطعا. فرع قال: لا أجامعك سنة إلا مرة، فمضت سنة ولم يطأ، فهل تلزمه كفارة لاقتضاء اللفظ الوطئ، أم لا، لان المقصود منع الزيادة ؟ وجهان حكاهما ابن كج. قلت: أصحهما: لا كفارة. والله أعلم. فلو وطئ في هذه الصورة، ونزع، ثم أولج ثانيا، لزمه كفارة بالايلاج الثاني، لانه وطئ جديد، هذا هو الصحيح، وفي وجه: لا كفارة، لانه وطئ واحد عند أهل العرف. فصل قال: والله لا جامعتك، ثم قال لضرتها: أشركتك معها، أو أنت شريكتها أو مثلها، ونوى الايلاء، لم يصر مؤليا من الثانية، لان اليمين إنما تكون باسم الله تعالى أو صفته، حتى لو قال به: لافعلن كذا، وقال: أردت بالله تعالى، لم ينعقد يمينه، ولو ظاهر منها ثم قال للضرة: أشركتك معها، صار مظاهرا من الثانية أيضا على الاصح. وإن آلى منها بالتزام طلاق أو عتاق، وقال للضرة: أشركتك معها، سألناه، فإن قال: أردت أن الاولى لا تطلق إلا إذا أصبت الثانية مع إصابة الاولى وجعلتها شريكتها في كون إصابتها شرطا لطلاق الاولى، لم يقبل. وإذا وطئ الاولى، طلقت، وإن قال: أردت أني إذا أصبت الاولى طلقت الثانية أيضا، قبل، لان الطلاق يقع بالكناية، فإذا وطئ الاولى، طلقتا، وفي الحالتين لا يكون

(6/217)


مؤليا من الثانية. وإن قال: أردت تعليق طلاق الثانية بوطئها بنفسها، كما علقت طلاق الاولى بوطئها، ففي صحة هذا التشريك وجهان. أصحهما: الصحة، وبه قال الشيخ أبو حامد، والقاضي أبو الطيب وغيرهما، فعلى هذا، يكون مؤليا من الثانية، إذا قلنا: ينعقد الايلاء بغير اسم الله تعالى، ويجري هذا التفصيل، فيما لو علق طلاق امرأة بدخول الدار وسائر الصفات، ثم قال لاخرى: أشركتك معها، ولو قال: إن دخلت الدار، فأنت طالق، لا بل هذه، وأشار إلى امرأة أخرى، فإن قصد أن يطلق الثانية إذا دخلت الاولى الدار، طلقتا جميعا بدخول الاولى، سواء قصد ضم الثانية إلى الاولى، أو قصد طلاق الثانية عند دخول الاولى. وإن قال: أردت تعليق طلاق الثانية بدخول نفسها، ففي قبوله وجهان، كما ذكرنا في لفظ الاشراك في اليمين. واختار القفال منهما: أنه لا يقبل، ويحمل على تعليق طلاقها بدخول الاولى، حتى إذا دخلت، طلقتا جميعا. قال: ولو علق طلاق واحدة بدخول الدار، وقال لاخرى: أشركتك معها، وقلنا: لا يصح التشريك، لم تطلق بدخول الدار. فرع قال رجل لآخر: يميني في يمينك، قال البغوي وغيره: إن أراد أنه إذا حلف الآخر صرت حالفا، لم يصر حالفا بحلف الآخر، سواء حلف بالله تعالى أم بالطلاق. وإن كان الآخر قد طلق زوجته، أو حنث في يمين الطلاق، فقال: أردت أن امرأتي طالق كامرأته، طلقت: وإن أراد متى طلق امرأته طلقت امرأتي، فإذا طلق الآخر، طلقت هذه. فصل ذكرنا في كتاب الطلاق، أنه إذا قال: أنت علي حرام، ونوى الطلاق، أو الظهار، وقع ما نوى، وأنه لو نوى تحريم عينها، لزمه كفارة يمين. وأن الصحيح وجوب تلك الكفارة في الحال. وفي وجه: إنما يجب إذا وطئها، وأنه على هذا الوجه يكون مؤليا، وأنه لو قال: أردت به الامتناع من الوطئ، ففي قبوله وجهان. أحدهما: يكون مؤليا في الحال، وأصحهما: لا يكون مؤليا، لان اليمين بالله تعالى لا تنعقد إلا باسم معظم، فعلى هذا يلزمه الكفارة في الحال إذا قلنا: إن مطلق هذه اللفظة يوجبها. ولو قال: أردت بقولي: أنت علي حرام إن وطئتك، فأنت علي حرام، لم يقبل منه على المذهب، وبه قطع الجمهور، لانه يريد تأخير الكفارة، وهذا اللفظ يقتضي وجوبها في الحال. وفي التتمة أنه مبني على أن

(6/218)


للامام أن يأمره بإخراج الكفارة، فأما إن قلنا: ليس له الامر بإخراج الكفارة، فلا يتعرض له. ورأى صاحب الشامل والتتمة، أن يؤاخذ بموجب الايلاء لاقراره بأنه مؤل. فرع قال: إن جامعتك، فأنت علي حرام، فإن أراد الطلاق أو الظهار، كان مؤليا إذا فرعنا على الجديد، وإن أراد تحريم عينها، أو طلق وقلنا: مطلقه يوجب الكفارة، فمؤل، وإن قلنا: لا يوجبها، فلا. فصل الايلاء يقبل التعليق، فإذا قال: إن دخلت الدار، فوالله لا أجامعك، صار مؤليا عند دخول الدار. ولو قال: والله لا أجامعك إن شئت، وأراد تعليق الايلاء بمشيئتها، اشترط في كونه مؤليا مشيئتها، وتعتبر مشيئتها على الفور على الاصح، كما يعتبر في الطلاق على الفور على المذهب، وإنما اختلف الترجيح، لان الطلاق في معنى التمليك، فتأكد اشتراط الفور كالبيع، ولو علق لا على سبيل خطابها، بأن قال: والله لا أجامع زوجتي إن شاءت، أو قال لاجنبي: والله لا أجامع زوجتي إن شئت، لم يعتبر الفور على الاصح. ولو قال: إن شاء فلان، أو قال لها: متى شئت، لم يعتبر الفور قطعا، وكل هذا كما سبق في الطلاق. فأما إذا أراد تعليق فعل الوطئ بمشيئتها، كأنه قال: لا أجامعك إن شئت أن لا أجامعك، فلا يكون مؤليا، كما لو قال: لا أجامعك إلا برضاك، لانها متى رغبت فوطئها لا يلزمه شئ. قال الامام: ولو قال: لا أجامعك متى شئت، وأراد أني أجامعك إذا أردت أنا، لم يكن مؤليا، لانه تصريح بمقتضى الشرع، قال: فإن أطلق، ففي تنزيله على تعليق الايلاء وجهان. ولو قال: لا أجامعك إلا أن تشائي، أو ما لم تشائي، وأراد الاستثناء عن اليمين، أو تعليقها، ففي التهذيب وغيره، أنه يكون مؤليا، لانه حلف وعلق رفع اليمين بالمشيئة. فإن شاءت أن يجامعها على الفور، ارتفع الايلاء، وإن لم تشأ أو شاءت بعد وقت المشيئة، فالايلاء بحاله، وكذا الحكم لو قال: لا أجامعك حتى يشاء زيد، فإن شاء أن يجامعها قبل مدة الايلاء أو بعدها، ارتفعت اليمين، وإن لم يشأ المجامعة حتى مضت مدة الايلاء، سواء شاء أن لا يجامعها، أم لم يشأ شيئا، فهل يكون مؤليا لحصول الاضرار في المدة ؟ فيه وجهان

(6/219)


سيأتيان إن شاء الله تعالى في نظائرها. وإن مات زيد قبل المشيئة، صار مؤليا، ثم إن قلنا: في حال حياته إذا مضت المدة بلا مشيئة يجعل مؤليا، فهنا تحسب المدة من وقت اللفظ، فإن مات زيد بعد تمامها، توجهت المطالبة في الحلال. وإن قلنا هناك: لا يجعل مؤليا، ضربت المدة من وقت الموت. ولو قال: لا أجامعك إن شئت أن أجامعك، فإنما يصير مؤليا إذا شاءت أن يجامعها. وفي اعتبار الفور، ما سبق، وإذا أطلق قوله: إن شئت، حملناه على عدم مشيئته المجامعة، كما سبق، لانه السابق إلى الفهم. فصل سواء في الايلاء حالة الرضى والغضب. فصل قال: إن وطئتك فأنا زان، أو فأنت زانية، لم يكن مؤليا، ولا يصير بوطئها قاذفا. قال السرخسي: ويلزمه التعزير، كما لو قال: المسلمون كلهم زناة، ولزوم التعزير لا يجعله مؤليا، لانه يتعلق بنفس اللفظ.
الركن الثالث : المدة، فإن حلف على الامتناع أبدا، أو أطلق، فهو مؤل، وإن قيد بزمان، فهو قسمان. أحدهما: أن يقدر الزمان، فإن كان أربعة أشهر فما دونها، فليس بمؤل، والذي جرى منه يمين أو تعليق كما يجري في سائر الافعال، وإن كان أكثر من أربعة أشهر، كان مؤليا. قال الامام: ويكفي في كونه مؤليا أن يزيد على أربعة أشهر أقل قليل، ولا يعتبر أن تكون الزيادة بحيث تتأتى بالمطالبة في مثلها. فإذا كانت الزيادة لحظة لطيفة، لم تتأت المطالبة لانها إذا مضت تنحل اليمين، ولا مطالبة بعد انحلال اليمين. وفائدة كونه مؤليا في هذه الصورة، أنه يأثم لايذائها، وقطع طمعها في الوطئ في المدة المذكورة. ولو حلف لا يجامعها أربعة أشهر، ثم أعاد اليمين بعد مضي تلك المدة، وهكذا مرات، فلا يكون مؤليا قطعا. ولو وصل اليمين فقال: والله لا أجامعك أربعة أشهر، فإذا مضت فوالله لا أجامعك أربعة أشهر، وهكذا مرارا، فليس بمؤل على الاصح. قال الامام: وهل يأثم الموالي بين هذه الايمان كما ذكرنا، فيما إذا زادت اليمين على أربعة أشهر بلحظة لطيفة، يحتمل أن لا يأثم لعدم الايلاء، ويحتمل أن يأثم إثم الايذاء والاضرار، لا إثم المؤلين. قلت: الراجح تأثيمه. والله أعلم.

(6/220)


فرع قال: والله لا أجامعك خمسة أشهر، فإذا مضت، فوالله لا أجامعك سنة، فلها المطالبة بعد مضي أربعة أشهر بموجب اليمين الاولى، فإن أخرت المطالبة حتى يمضي الشهر الخامس، فلا مطالبة بموجب تلك اليمين، لانحلالها، وإن طالبته في الخامس، ففاء إليها، خرج عن موجب الايلاء الاول، فإذا مضى الخامس، استحقت مدة الايلاء الثاني. وإن طلق، سقطت عنه المطالبة في الحال، فإن راجعها في الشهر الخامس، لم تضرب المدة في الحال، لان الباقي من مدة اليمين الاولى قليل، فإذا انقضى الخامس، ضربت المدة للايلاء الثاني. ولو وطئها بعد الرجعة في باقي الشهر، انحلت اليمين وتلزمه الكفارة على المذهب، وإن قلنا: إن المؤلي إذا فاء لا كفارة عليه. وإن راجعها بعد الشهر الخامس، نظر، إن راجع بعد سنة من مضي الخامس، فلا إيلاء، لانقضاء المدتين وانحلال اليمين، وإن راجع قبل تمام السنة، فإن بقي أربعة أشهر فأقل، فلا إيلاء، وإن بقي أكثر، عاد الايلاء، وضربت المدة في الحال. ولو جدد نكاحها بعد البينونة، ففي عود الايلاء حنث يعود لو راجعها، خلاف عود الحنث، وتبقى اليمين ما بقي شئ من المدة، وإن لم يعد الايلاء، حتى لو راجع، وقد بقي من السنة أقل من أربعة أشهر، فوطئها في تلك البقية، لزمه الكفارة، ولو عقد اليمين على مدتين تدخل إحداهما في الاخرى بأن قال: والله لا أجامعك خمسة أشهر، ثم قال: والله لا أجامعك سنة، فإذا مضت أربعة أشهر، فلها المطالبة، فإن فاء انحلت اليمينان، وإذا أوجبنا الكفارة، فالواجب كفارة، أم كفارتان ؟ فيه خلاف يجري في كل يمينين يحنث الحالف فيهما بفعل واحد، بأن حلف لا يأكل خبزا، وحلف لا يأكل طعام زيد، فأكل خبزه، وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى، وإن طلقها ثم راجعها، أو جدد نكاحها، فإن بقي من السنة أربعة أشهر أو أقل، لم يعد الايلاء، وتبقى اليمين. وإن بقي أكثر من أربعة أشهر، عاد الايلاء في الرجعية، وفي التجديد خلاف عود الحنث، هذا هو الصحيح المعروف في المذهب. وفي التتمة أن السنة تحسب بعد انقضاء الاشهر الخمسة، فيكون كالصورة السابقة، ولو قال: إذا مضت خمسة أشهر، فوالله لا أجامعك، كان مؤليا بعد مضي الخمسة. القسم الثاني: أن ييد الامتناع عن الوطئ بمستقبل لا يتعين وقته، فينظر، إن كان المعلق به مستحيلا، كقوله: حتى تصعدي السماء، أو تطيري، أو كان أمرا

(6/221)


يستبعد في الاعتقادات حصوله في أربعة أشهر، وإن كان محتملا كقوله: حتى ينزل عيسى ابن مريم - صلى الله عليه وسلم -. أو حتى يخرج الدجال، أو يأجوج ومأجوج، أو تطلع الشمس من مغربها، أو بأمر يعلم تأخره عن أربعة أشهر، كقوله: حتى يقدم فلان، أو أدخل مكة والمسافة بعيدة لا تقطع، في أربعة أشهر، فهو مؤل. فلو قال في مسألة القدوم: ظننت المسافة قريبة، فهل يصدق بيمينه ؟ ذكر فيه الامام احتمالين، والاقرب تصديقه. وفي شرح مختصر الجويني للموفق بن طاهر، أن في التعليق بنزول عيسى ابن مريم - صلى الله عليه وسلم -، وما في معناه، لا يقطع بكونه مؤليا في الحال، ولكن ينتظر، فإذا مضت أربعة أشهر، ولم يوجد المعلق به تبينا أنه كان مؤليا ومكناها من المطالبة، والصحيح المعروف الاول، وإن كان المعلق به مما يتحقق وجوده قبل أربعة أشهر، كذبول البقل وجفاف الثوب، وتمام الشهر، أو يظن، كمجئ المطر في وقت غلبة الامطار، ومجئ زيد من القرية، وعادته المجئ للجمعة، أو مجئ القافلة وعادتها غالبا المجئ كل شهر، فليس بإيلاء، وإنما هو عقد يمين، فإن كان المعلق به مما لا يستبعد حصوله في أربعة أشهر، ولا يظن، كقوله: حتى يدخل زيد الدار، أو أمرض، أو يمرض فلان، أو يقدم وهو على مسافة قريبة، وقد تقدم، وقد لا يحكم بكونه مؤليا في الحال، فإن مضت أربعة أشهر، ولم يوجد المعلق به، فوجهان، أحدهما: ثبت الايلاء، وتطالبه، لحصول الضرر، وتبين طول المدة، وأصحهما: لا، لانه لم يتحقق قصد المضارة أولا، وأحكام الايلاء منوطة به لا بمجرد الضرر بالامتناع من الوطئ، ولهذا لو امتنع بلا يمين، لم يكن مؤليا. ولو وطئ قبل وجود المعلق به، وجبت الكفارة بلا خلاف، ولو وجد المعلق به قبل الوطئ، ارتفعت اليمين بلا خلاف. فرع قال: لا أجامعك حتى أموت، أو تموتي، أو قال: عمري أو عمرك، فهو مؤل لحصول اليأس مدة العمر. ولو قال: حتى يموت فلان، فمؤل

(6/222)


على الاصح عند الاكثرين. فرع قال: لا أجامعك حتى تفطمي ولدك، نقل المزني أن الشافعي رحمه الله قال: يكون مؤليا، قال: وقال في موضع آخر: لا يكون مؤليا، واختاره، فأوهم أن في المسألة قولين، وبه قال ابن القطان. وقال الجمهور: لا خلاف في المسألة، ولكن ينظر إن أراد وقت الفطام، فإن بقي أكثر من أربعة أشهر إلى تمام الحولين، فمؤل، وإلا فلا، وإن أراد فعل الفطام، فإن كان الصبي لا يحتمله إلا بعد أربعة أشهر لصغر أو ضعف بنية، فمؤل، وإن كان يحتمله لاربعة أشهر فما دونها، فهو كالتعليق بدخول الدار ونحوه، والنصان محمولان على الحالين. فرع قال: لا أجامعك حتى تحبلي، فإن كانت صغيرة أو آيسة، فهو مؤل، وإلا فكالتعليق بالقدوم من مسافة قريبة ودخول الدار. فرع إذا علق بالقدوم أو الفطام، ولم يحكم بكونه مؤليا، فمات المعلق بقدومه قبل القدوم، أو الصبي قبل الفطام، فهو كقوله: حتى يشاء فلان فمات قبل المشيئة، وقد ذكرناه. فرع قال: والله لا أجامعك، ثم قال: أرد ت شهرا، دين، ولم يقبل ظاهرا.
الركن الرابع : المحلوف عليه، وهو ترك الجماع، فالحلف بالامتناع عن سائر الاستمتاعات، ليس بإيلاء، والالفاظ المستعملة في الجماع ضربان، صريح، وكناية، فمن الصريح لفظ النيك، وقوله: لا أغيب في فرجك ذكري، أو حشفتي، أو لا أدخل، أو أولج ذكري في فرجك، أو أجامعك بذكري، وللبكر: لا أفتضك بذكري. فلو قال في شئ من هذا أردت غير الجماع، لم

(6/223)


يدين، لانه لا يحتمل غيره، ولفظ الجماع والوطئ أيضا صريحان، لكن لو قال: أردت بالجماع الاجتماع، وبالوطئ الوطئ بالقدم، دين، وقيل: إنهما كنايتان، وهو شاذ مردود. ولو قال للبكر: لا أفتضك ولم يقل: بذكري، فهو صريح، فإن قال: لم أرد الجماع، لم يقبل ظاهرا وهل يدين ؟ وجهان. الاصح: نعم. قال الامام: ولو قال: أردت به الضم والالتزام، لم يدين على الاصح والمباشرة، والمضاجعة، والملامسة، والمس، والافضاء، والمباعلة، والافتراش، والدخول بها، والمضي إليها، كنايات على الجديد، وصرائح في القديم، والغشيان، والقربان، والاتيان عند الجمهور على القولين. وقيل: كنايات قطعا. والاصابة صريح عند الجمهور. وقيل: على القولين. وقوله: لا يجمع رأسي ورأسك وساد، أو لا يجتمعان تحت سقف كناية قطعا. وقوله: لابعدن عنك، كناية، ويشترط فيه نية الجماع والمدة جميعا، ومثله قوله: لاسوءنك، ولاغيظنك، أو لتطولن غيبتي عنك، فهو كناية في الجماع والمدة. ولو قال: ليطولن تركي لجماعك، أو لاسوءنك في الجماع، فهو صريح في الجماع كناية في المدة. ولو قال: لا أغتسل عنك، سألناه ؟ فإن قال: أردت لا أجامعها، فمؤل، وإن قال: أردت الامتناع من الغسل، أو أردت أني لا أمكث حتى أنزل، واعتقد أن الجماع بلا إنزال لا يوجب الغسل. أو أني أقدم على وطئها وطئ غيرها فيكون الغسل عن الاولى لحصول الجنابة بها، قبلناه، ولم يكن مؤليا. ولو قال: لا أجامعك في الحيض أو النفاس، أو الدبر، فليس بمؤل، بل هو محسن. ولو قال: لا أجامعك إلا في الدبر، فمؤل، ولو قال: لا أجامعك إلا في الحيض أو النفاس، قال السرخسي: لا يكون مؤليا، لانه لو جامع فيه حصلت الفتنة. وقال البغوي في الفتاوي: هو مؤل، وكذا لو قال: إلا في نهار رمضان، أو إلا في المسجد. ولو

(6/224)


قال: لا جامعتك جماع سوء، فليس بمؤل، كما لو قال: لا جامعتك في هذا البيت، أو لا جامعتك من القبل. ولو قال: لا أجامعك إلا جماع سوء، فإن أراد: لا أجامعها إلا في الدبر، أو فيما دون الفرج، أو لا أغيب جميع الحشفة، فمؤل، وإن أراد الجماع الضعيف، فليس بمؤل، ولو حلف لا يجامع بعضها، فكما سيأتي في الظهار إن شاء الله تعالى.
الباب الثاني : في أحكام الايلاء وفيه أربعة اطراف.
الأول : في ضرب المدة، فالايلاء يقتضي ضرب المدة وهي أربعة أشهر بنص القرآن الكريم، وهي حق للزوج، كالاجل حق للمدين، وتحسب من وقت الايلاء، ولا يحتاج إلى ضرب القاضي، وسواء كان الزوجان حرين، أو رقيقين، أو حرا ورقيقا. فصل فيما يمنع احتساب المدة ابتداء أو دواما قد سبق أنه إذا آلى من رجعية، صح، وتحسب المدة من وقت الرجعة، لا من وقت اليمين، ولو آلى من زوجته ثم طلقها رجعيا، انقضت المدة لجريانها إلى البينونة، فلو راجعها استؤنفت المدة، لان الاضرار إنما يحصل بالامتناع المتوالي في نكاح سليم، وحكى المتولي وجها أنه يبنى عليها تخريجا مما إذا راجع المطلقة ثم طلقها قبل وطئ، فإنها تبنى على قول. ولو ارتد أحدهما بعد الدخول في المدة، انقطعت المدة، ولا يحتسب زمان الردة منها، لانها تؤثر في قطع النكاح كالطلاق، فإذا أسلم المرتد منهما، استؤنفت المدة، هذا هو المذهب، وبه قطع الجماهير. وفي ردة الزوج وجه أنه إذا أسلم، يبني، وفي وجه حكاه السرخسي، أن ردته لا تمنع الاحتساب، كمرضه وسائر الاعذار. ولو وجد النكاح بعد أن بانت الرجعية، أو كان الطلاق بائنا، أو بعد البينونة بالردة والاضرار، أو بردة قبل الدخول، وقلنا: يعود الايلاء، استؤنفت المدة. ولو طلقها بعد مدة الايلاء طلقة رجعية بمطالبتها، أو ابتداء ثم راجعها، عاد الايلاء، وتستأنف المدة إن كانت اليمين على التأبيد، أو كانت مؤقتة وقد بقي من

(6/225)


وقت اليمين مدة الايلاء. ولو ارتد أحد الزوجين بعد مضي المدة، ثم أسلم قبل انقضاء العدة، عاد الايلاء، وتستأنف المدة أيضا، وألحق البغوي العدة عن وطئ الشبهة بالطلاق

(6/226)


بالرجعي، وبالردة في منع الاحتساب ووجوب الاستئناف عند انقضائها. فرع ما يمنع الوطئ من غيره، أن يحل بملك النكاح، إن وجد في الزوج، لم يمنع احتساب المدة، بل تضرب المدة مع اقتران المانع بالايلاء. ولو طرأ في المدة، لم يقطعها، بل تطالب بالفيأة بعد أربعة أشهر إذا كان العذر إيلاء يوم المطالبة، وسواء في ذلك المانع الشرعي، كالصوم، والاعتكاف، والاحرام، والحسي، كالمرض، والحبس، والجنون، وإن كان المانع فيها، فقد يكون حسيا وشرعيا، فالحسي، كالنشوز والصغر الذي لا يحتمل معه الوطئ، والمرض المضني المانع من الوطئ، فإن قارن ابتداء الايلاء، لم تبتدئ المدة حتى تزول، وإن طرأ في المدة، قطعها، هذا هو المذهب في الطرفين، وحكى المزني قولا في حبسه: أنه يمنع احتساب المدة، فغلطه جمهور الاصحاب في النقل، وصدقه بعضهم، وحمله على ما إذا حبسته هي. وقيل: هو محمول على ما إذا حبس ظلما، وحق هذا القائل، أن يطرده في المرض، وما لا يتعلق باختياره من الموانع، وقد مال الامام إلى هذا فقال: كان يحتمل أن يصدق المزني في النقل، ويقال فيه وفي نص المرض: إنهما على قولين بالنقل والتخريج. وعن صاحب التقريب أن البويطي حكى قولا أن الموانع الطارئة فيها لا تمنع الاحتساب لحصول قصد المضارة ابتداء. فإذا قلنا بالمذهب، فطرأ فيها مانع في المدة، ثم زال، استأنفت المدة على الصحيح المنصوص الذي قطع به الجمهور. وقيل: تبني. ولو طرأت هذه الموانع بعد تمام المدة، وقبل المطالبة، وزالت بعد، فلها المطالبة، ولا تفتقر إلى

(6/227)


استئناف المدة، لانه وجدت المضارة في المدة على التوالي، وقيل: تستأنف وهو غلط، نسبه الامام إلى بعض الضعفة، وجنونها يمنع احتساب المدة إن كانت تمنع التمكين، وإلا فلا. أما المانع الشرعي فيها، فإن كان صوما أو اعتكافا مفروضين، يمنع الاحتساب، ويجب الاستئناف إذا زال، وإن كانا تطوعين، لم يمنعا الاحتساب، لانه متمكن من وطئها، هذا هو الصحيح الذي قطع به الاصحاب في الطرق، وعن الشيخ أبي محمد، أن العذر الشرعي لا يمنع الاحتساب، ولا يقطع المدة، وهو ضعيف، والحيض لا يمنع الاحتساب قطعا، وكذا النفاس على الاصح.
الطرف الثاني : في كيفية المطالبة، فلها المطالبة بأن يفئ أو يطلق، وما لم تطلب، لا يؤمر الزوج بشئ، ولا يسقط حقها بالتأخير. ولو تركت حقها ورضيت، ثم بدا لها، فلها العود إلى المطالبة ما لم تنقض مدة اليمين، لان الضرر متجدد وتختص المطالبة بالزوجة، فليس لولي المراهقة والمجنونة المطالبة، وحسن أن يقول الحاكم للزوج: اتق الله بالفيأة أو الطلاق، وإنما يضيق عليه إذا بلغت أو أفاقت وطلبت، وليس لسيد الامة أيضا مطالبة، لان الاستمتاع حقها. فرع إذا وجد مانع من الجماع بعد مضي المدة المحسوبة، نظر أهو فيها، أم في الزوج ؟ فإن كان فيها، بأن كانت مريضة لا يمكن وطؤها، أو محبوسة لا يمكنه الوصول إليها، أو حائضا أو نفساء، أو محرمة، أو صائمة، أو معتكفة عن فرض، لم يثبت لها المطالبة بالفيأة لا فعلا ولا قولا، لانه معذور. وإن كان المانع فيه، فهو طبعي وشرعي، فالطبعي، بأن يكون مريضا لا يقدر على الوطئ، أو يخاف منه زيادة العلة، أو بطء البرء، فيطالب بالفيأة باللسان، أو بالطلاق إن لم يفئ، والفيأة باللسان أن يقول: إذا قدرت فئت. واعتبر الشيخ أبو حامد أن يقول مع ذلك: ندمت على ما فعلت، وإذا استمهل الفيأة باللسان، لم يمهله بحال، فإن الوعد هين متيسر، ثم إذا زال المانع، يطالب (بالفيأة) بالوطئ أو بالطلاق، تحقيقا لفيئة اللسان، ولا يحتاج هذا الطلب إلى استئناف مدة، وإن كان محبوسا ظلما، فكالمريض، وإن حبس في دين يقدر على أدائه، أمر بالاداء أو الفيئة بالوطئ، أو الطلاق، وأما الشرعي، فكالصوم والاحرام والظهار قبل التكفير، ففيه طريقان.

(6/228)


المذهب منهما، أنه مبني على أن الزوج لو أراد وطأها وهناك مانع شرعي، هل بلزمها التمكين ؟ وفيه تفصيل حاصله (أنه) إن كان المانع يتعلق بهما كالطلاق الرجعي، أو يختص بها كالحيض والصوم والاحرام، لم يلزمها، بل يحرم عليها التمكين، وإن اختص به كصومه وإحرامه، فوجهان. أحدهما: يلزمها التمكين، لانه لا مانع فيها، وليس لها منع ما عليها من الحق. وأصحهما: المنع، لانه موافقة على الحرام وإعانة عليه. وإن كان التحريم بسبب الظهار، فهل هو كالطلاق الرجعي، أم كصومه ؟ وجهان. فإذا قلنا: يجوز التمكين، فلها المطالبة بالوطئ أو الطلاق. فإن أراد الوطئ فامتنعت، سقط حقها من الطلب، وإن قلنا: بالمنع، فوجهان، أحدهما: يقنع منه بفيأة اللسان، وأصحهما وبه قطع ابن الصباغ: يطالب بالطلاق إزالة للضرر عنها، بخلاف المانع الطبعي، لان الوطئ هناك متعذر، وهنا ممكن، وهو المضيق على نفسه. والطريق الثاني: أن يقال له: ورطت نفسك بالايلاء، فإن وطئت عصيت وفسدت عبادتك، وإن لم تطأ، ولم تطلق، طلقناها عليك، كمن غصب دجاجة ولؤلؤة فابتلعتها، يقال له: إن ذبحتها غرمتها، وإلا غرمت اللؤلؤة. ولو قال في صورة الظهار: أمهلوني حتى أكفر، نظر إن كان يكفر بالصوم، لم يمهل، وإن كان بالعتق والطعام، فعن أبي إسحق: يمهل ثلاثة أيام. وفي التهذيب: يوما أو نصف يوم، ويمكن أن يكون بحسب تيسر المقصود، وهذا إذا لم تطل مدة الامهال. فإن طالت لفقد الرقبة أو مصرف الطعام، لم يمهل، كذا قاله المتولي. وعلى كل حال، لو وطئ مع التحريم، خرج عن موجب الايلاء، واندفعت المطالبة.
الطرف الثالث : ما به المطالبة. قد تكرر أن المؤلي بعد المدة، يطالب بالفيئة أو الطلاق، والمقصود الفيأة، لكنه يطالب بالطلاق إن لم يفئ. قال الامام: وليس لها أن توجه الطلب نحو الفيأة وحدها، بل يجب أن تكون المطالبة مترددة، فإن لم يفئ وأبى أن يطلق، فقولان، أظهرهما وهو الجديد وأحد قولي القديم واختيار المزني: أنه يطلقها القاضي طلقة. والثاني، لا يطلق عليه، بل يحبسه ويعزره حتى يفئ أو يطلق. ولو لم يصرح بالامتناع، بل استمهل ليفئ، أمهل بلا خلاف قدر ما يتهيأ لذلك الشغل، فإن كان صائما، أمهل حتى يفطر، أو جائعا، فحتى يشبع، أو ثقيلا من الشبع، فحتى يخف، أو غلبه النعاس، فحتى يزول. ويحصل

(6/229)


التهيؤ والاستعداد في مثل هذه الاحوال بقدر يوم فما دونه. وهل يمهل ثلاثة أيام ؟ قولان، ويقال: وجهان. أظهرهما عند الجمهور: لا. وإذا أمهل، فطلق القاضي عليه في مدة الامهال، لم يقع طلاقه إن وجدت الفيأة في مدة المهلة، وإن مضت المدة بلا فيأة، لم يقع أيضا على الصحيح. فرع ذكر ابن كج، أنه لو طلق القاضي عليه، فبان أنه وطئ أو طلق قبل تطليق القاضي، لم ينفذ طلاق القاضي. ولو وقع طلاق الزوج والقاضي معا، نفذ الطلاقان، لان كل واحد فعل ماله فعله. وقيل: لا يقع تطليق القاضي. فرع آلى ثم غاب، أو آلى وهو غائب، تحسب المدة، ولها أن توكل من يطالبه. فإذا مضت المدة، رفعه وكيلها إلى قاضي البلد الذي فيه الزوج وطالبه ويأمره القاضي بالفيأة باللسان في الحال، لان المانع حسي وبالمسير، أو يحملها إليه، أو الطلاق إن لم يفعل ذلك، فإن لم يفئ باللسان، أو فاء به ولم يرجع إليها، ولا حملها إليه حتى مضت مدة الامكان، ثم قال: أرجع الآن، لم يمكن، ويطلق عليه القاضي إذا طلب وكيلها على الاظهر، وعلى القول القديم: يحبسه ليطلق، ويعذر في التأخير لتهيئة أهبة السفر، ولخوف الطريق إلى أن يزول الخوف. ولو غاب عنها بعد مطالبته بالفيأة أو الطلاق، لم يرض منه بفيأة اللسان، ولا يمهل. ذكره أبو الفرج السرخسي. فرع لو طولب فادعى التعيين والعجز عن الفيأة، نظر، إن لم يدخل بها في ذلك النكاح، سواء كانت ثيبا أو بكرا، أو ادعى العجز عن الافتضاض، فوجهان. أحدهما وهو ظاهر النص، وبه قطع في الوجيز: إذا صدقته أو كذبته فحلف على العجز، لا يطالب بالوطئ، بل يطالب بفيأة اللسان، فإن فاء، ضربت مدة التعنين إن طلبتها. فإن وطئ في المدة، فذاك، وإلا أمضى حكم التعنين. والثاني: يتعين عليه الطلاق، لانه متهم في تأخير حقها وضررها، وإن كان دخل بها في ذلك النكاح، لم تسقط المطالبة، لان التعنين بعد الوطئ لا يعتبر، فتظهر تهمته.
الطرف الرابع : فيما تحصل به الفيأة، وهو تغيب الحشفة في القبل خاصة،

(6/230)


فلو استدخلت ذكره، لم تنحل يمينه. فلو وطئ بعده، لزمته الكفارة. وهل تحصل به الفيأة ويرتفع حكم الايلاء ؟ وجهان، أصحهما: نعم، وبه قطع كثيرون، ولو وطئها مكرها، ففي وجوب الكفارة القولان فيمن فعل المحلوف عليه ناسيا أو مكرها. فإن أوجبناها، انحلت اليمين وارتفع الايلاء، وإلا ففي انحلال اليمين وجهان يجريان في كل يمين وجد المحلوف عليه بإكراه أو نسيان، أصحهما: عدم الانحلال، وهو الاوفق لكلام الائمة، وبه قطع الشيخ أبو حامد، والقاضي أبو الطيب، لاختلال الفعل. فإن حكمنا بالانحلال، حصلت الفيأة وارتفع الايلاء، وإلا فوجهان، أصحهما: كذلك، وبه أجاب البغوي وغيره. والمسألة مفرعة على أنه يتصور إكراهه على الوطئ وهو الراجح. فرع لو وطئها المؤلي في المدة أو بعدها وهو مجنون، فطريقان. قطع العراقيون بأنه لا يحنث، ولا تنحل اليمين، ولا كفارة، والثاني، وبه قطع المتولي والبغوي: أن في وجوب الكفارة قولين كالناسي، لان المجنون ملحق بالمخطئ في كفارة القتل، فكذا كفارة اليمين، فعلى هذا إن أوجبنا الكفارة، انحلت اليمين، وإلا فعلى الوجهين في المكره، فكيف كان، فالمذهب أنه لا يحنث، ولا تجب الكفارة، ولا تنحل اليمن، وهل يسقط حقها من الفيأة بالوطئ في الجنون ؟ وجهان. أحدهما: لا، بل تطالبه بعد الافاقة من غير استئناف مدة، وقيل: لا بد من استئنافها بعد الافاقة، وأصحهما: نعم، لانها وصلت إلى حقها، كما لو رد المجنون الوديعة إلى صاحبها، ولان وطئ المجنون كوطئ العاقل في تقرير المهر والتحليل، وتحريم الربيبة وسائر الاحكام. فرع لو آلى من إحدى امرأتيه بعينها، ووطئها وهو يظنها الاخرى، قال البغوي: يخرج عن الايلاء، وفي الكفارة القولان في الناسي. فصل سبق في فصل التعنين، أن الزوجين إذا اختلفا في الوطئ، فالقول قول النافي إلا في مواضع. أحدها: إذا ادعى العنين الوطئ بعد المدة أو فيها. الثاني: إذا ادعى مثل ذلك في الايلاء، فالقول قوله في الموضعين، فإذا حلف ثم طلقها وقال: هذا طلاق رجعي (فلي الرجعة) وهي على إنكار الوطئ والعدة، قال ابن

(6/231)


الحداد والجمهور: القول قولها، ولا يمكن من الرجعة عملا بقياس الخصومات، وإنما قبلنا قوله في الوطئ للضرورة، وتعذر البينة. وقيل: له الرجعة. الموضع الثالث: طلق زوجته وولدت ولدا يلحقه ظاهرا، وقالت: وطئتني فلي كل المهر، فقال: لم أطأ، فلك نصفه، فالمذهب والمنصوص في رواية المزني وغيره، أن القول قولها بيمينها. ونقل الربيع قولا آخر، أن القول قوله بيمينه، فقيل:

(6/232)


قولان، وقيل: بالاول قطعا، ورواية الربيع من كيسه، وقيل: إن اختلفا قبل ظهور الولد وحكمنا بالنصف، لم يعتبر الحكم بالولد، وإن اختلفا بعد ظهوره وما الزوج، أوجبنا جميع المهر ولا يقبل قول الورثة. فرع اختلفا في أصل الايلاء وفي انقضاء مدته، فهو المصدق بيمينه، ولو اعترفت بالوطئ بعد المدة وأنكر، فلا مطالبة لها، فلو رجعت وقالت: لم يطأني، لم يسمع قولها، لانها أقرت بوصول حقها إليها، فلا يقبل رجوعها، ذكره المتولي. فصل قال: والله لا أجامعك، ثم أعاد ذلك مرتين فأكثر، نظر، إن أطلق في المرتين، أو قيد بمدة واحدة كسنة وسنة، فإن قال: أردت بالثاني تأكيد الاول، قبل، وكانت اليمن واحدة، سواء اتحد المجلس أم تعدد، طال الفصل أم لا، وفي وجه ضعيف: إذا طال الفصل، لا يقبل، ويكون يمينا أخرى، ويجري هذا الخلاف فيما لو كرر تعليق الطلاق بصفة، والصحيح قبول التأكيد أيضا. وإن قال: أردت الاستئناف، فهما يمينان، وإن أطلق، فهل يحمل على التأكيد، أم الاستئناف ؟ قولان. قال المتولي: إن اتحد المجلس، فالاظهر يحمل على التأكيد، وإن تعدد، فعلى الاستئناف لبعد التأكيد مع اختلاف المجلس. وإن اختلفت المدة المقيد بها، كقوله: والله لا أجامعك خمسة أشهر، ثم قال: والله لا أجامعك سنة، فالاصح أنه كاتحادها. وقيل: يمينان بكل حال، فإذا لم نحكم

(6/233)


بالتعدد، لم يجب الوطئ إلا كفارة، وإذا حكمنا بالتعدد، تخلص بالطلاق عن الايمان كلها، وتنحل اليمين بوطأة واحدة، وفي تعدد الكفارة قولان. أظهرهما عند الجمهور: لا يجب إلا كفارة واحدة، والثاني، تتعدد بتعدد الايمان، وقيل: تتحد قطعا، وقيل: تتعدد قطعا. فصل آلى من زوجته الرقيقة، ثم ملكها، ثم باعها أو أعتقها، ثم نكحها، ففي عود الايلاء الخلاف في عود الحنث، وكذا لو آلى عبد من زوجته ثم ملكته وأعتقته ونكحته، فعلى الخلاف. وهل الخلاف العائد كالبينونة بالثلاث أم بما دونها ؟ وجهان. فصل في فتاوى البغوي، أن القاضي إذا طالب المؤلي بالفيأة أو الطلاق فامتنع منهما، وطلبت المرأة من القاضي أن يطلق عليه، لم يشترط حضوره في تطليق القاضي. ولو شهد عدلان أن زيدا آلى، ومضت المدة وهو ممتنع من الفيأة أو الطلاق، لم يطلق عليه، بل لا بد من الامتناع بين يديه، كما في العضل، فلو تعذر إحضاره بتمرد أو توار أو غيبة، حكم عليه بالعضل بشهادة الشهود، وبالله التوفيق.

(6/234)