روضة الطالبين وعمدة المفتين ط العلمية

روضة الطالبين - كتاب السير
هي جمع سيرة، وهي الطريقة، والمقصود: الكلام في الجهاد وأحكامه وفيه ثلاثة أبواب :
الأول : في وجوب الجهاد، وبيان فروض الكفايات، وفيه أطراف
الأول : في مختصر يتعلق بابتداء الأمر بالجهاد وغيره، قال الشافعي والاصحاب رحمهم الله: لما بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بالتبليغ والانذار بلا قتال، واتبعه قوم بعد قوم، وفرضت الصلاة بمكة، ثم فرض الصوم بعد الهجرة بسنتين، واختلفوا في أن الزكاة فرضت بعد الصوم أم قبله، ثم فرض الحج سنة ست، وقيل: سنة خمس، وكان القتال ممنوعا منه في أول الاسلام وأمروا بالصبر على أذى الكفار، فلما هاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة، وجبت الهجرة على من قدر، فلما فتحت مكة، ارتفعت الهجرة منها إلى المدينة، ونفي وجوب الهجرة من دار الحرب على ما سنذكره إن شاء الله تعالى، ثم أذن الله سبحانه وتعالى في القتال للمسلمين إذا ابتدأهم الكفار بقتال، ثم أباح القتال ابتداء، لكن في غير الاشهر الحرم، ثم أمر به من غير تقييد بشرط ولا زمان، ولم يعبد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صنما قط قال صاحب

(7/406)


البيان: كان متمسكا قبل النبوة بدين إبرهيم - صلى الله عليه وسلم -. قلت: تعرض الرافعي رحمه الله لهذه النبذ، ولم يذكر فيها ما يليق به ولا بهذا الكتاب، وأنا أشير إلى أصول مقاصدها بألفاظ وجيزة إن شاء الله تعالى، اتفقوا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعبد صنما قط، والانبياء قبل النبوة معصومون من الكفر، واختلفوا في العصمة من المعاصي، وأما بعد النبوة فمعصومون من الكفر، ومن كل ما يخل بالتبليغ، وما يزري بالمروءة، ومن الكبائر، واختلفوا في الصغائر فجوزها الاكثرون، ومنعها المحققون وقطعوا بالعصمة منها، وتأولوا الظواهر الواردة فيها، واختلفوا في أن نبينا - صلى الله عليه وسلم - هل كان قبل النبوة يتعبد على دين نوح وإبرهيم أم موسى أم عيسى، أم يتعبد لا ملتزما دين واحد من المذكورين، والمختار أنه لا يجزم في ذلك بشئ، إذ ليس فيه دلالة على عقل ولا ثبت فيه نص ولا إجماع، واختلف أصحابنا في شرع من قبلنا، هل هو شرع لنا إذا لم يرد شرعنا بنسخ ذلك الحكم ؟ والاصح أنه ليس بشرع لنا، وقيل: بلى، وقيل: شرع إبرهيم فقط، وبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وله أربعون سنة، وقيل: أربعون ويوم، فأقام في مكة بعد النبوة ثلاث عشرة سنة، وقيل: عشرا، وقيل: خمس عشرة، والصحيح الاول، ثم هاجر إلى المدينة، فأقام بها عشرا بالاجماع، ودخلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضحى يوم الاثنين لاثنتي عشرة خلت من شهر ربيع الاول، وتوفي - صلى الله عليه وسلم - ضحى يوم الاثنين لاثنتي عشرة خلت من شهر ربيع الاول سنة إحدى عشرة من الهجرة

(7/407)


ومنها ابتداء التاريخ، ودفن ليلة الاربعاء، وقيل: ليلة الثلاثاء، ومدة مرضه - صلى الله عليه وسلم - الذي توفي فيه اثنا عشر يوما، وقيل: أربعة عشر، وغسله علي والعباس والفضل وقثم وأسامة وشقران رضي الله عنهم، وكفن في ثلاثة أثواب بيض ليس فيها قميص ولا عمامة، وصلى عليه المسلمون أفرادا، بلا إمام، ودخل قبره علي

(7/408)


والعباس والفضل وقثم وشقران، ودفن في اللحد وجعل فيه تسع لبنات، ودفن في الموضع الذي توفي فيه، وهو حجرة عائشة، ثم دفن عنده أبو بكر، ثم عمر رضي الله عنهما، ولم يحج - صلى الله عليه وسلم - بعد الهجرة إلا حجة الوداع سنة عشر، وسميت حجة الوداع لانه ودع الناس فيها - صلى الله عليه وسلم -، واعتمر - صلى الله عليه وسلم - أربع عمر، واختلفوا هل فرض الحج سنة ست أو خمس أو تسع، وأول ما وجب الانذار والدعاء إلى التوحيد، ثم فرض الله تعالى من قيام الليل ما ذكره في أول سورة المزمل، ثم نسخه بما في أواخرها، ثم نسخه بإيجاب الصلوات الخمس ليلة الاسراء بمكة بعد النبوة بعشر سنين وثلاثة أشهر ليلة سبع وعشرين من رجب، وكان - صلى الله عليه وسلم - مأمورا بالصلاة إلى بيت المقدس مدة مقامه بمكة وبعد الهجرة ستة عشر شهرا أو سبعة عشر، ثم أمره الله تعالى باستقبال الكعبة. ذكر بعض الامور المشهورة بعد الهجرة على ترتيب السنين: السنة الاولى: فيها بنى - صلى الله عليه وسلم - مسجده ومساكنه، وآخى بين المهاجرين والانصار، وشرع الاذان وأسلم عبد الله بن سلام. السنة الثانية: فيها حولت القبلة إلى الكعبة، قال محمد بن حبيب الهاشمي: حولت في الظهر يوم الثلاثاء نصف شعبان، كان - صلى الله عليه وسلم - في أصحابه، فحانت صلاة الظهر في منازل بني سلمة، فصلى بهم ركعتين من الظهر في مسجد القبلتين إلى القدس، ثم أمر في الصلاة باستقبال الكعبة وهو راكع في الركعة الثانية، فاستدار واستدارت الصفوف خلفه - صلى الله عليه وسلم -، فأتم الصلاة، فسمي مسجد القبلتين، وفي شعبان منها فرض صوم رمضان، وفيها فرضت صدقة الفطر، وفيها كانت غزوة بدر في رمضان، وفي شوال منها تزوج عائشة، وفيها تزوج علي فاطمة.

(7/409)


السنة الثالثة: فيها غزوات وأربع سرايا، منها غزوة أحد يوم السبت السابع من شوال، ثم غزوة بدر الصغرى في هلال ذي القعدة، وفيها غزوة بني النضير، وحرمت الخمر بعد غزوة أحد، وتزوج حفصة، وتزوج عثمان أم كلثوم، وولد الحسن بن علي. الرابعة: فيها غزوة الخندق وذكرها جماعة في الخامسة، والصحيح أنها في الرابعة، ويقال لها: الاحزاب أيضا، وكان حصار الاحزاب المدينة خمسة عشر يوما ثم هزمهم الله تعالى، وفيها قصرت الصلاة ونزل التيمم، وتزوج أم سلمة. الخامسة: فيها غزوة ذات الرقاع في أول المحرم وبها صلى صلاة الخوف، وهي أول صلوات الخوف، ثم غزوة دومة الجندل، وغزوة بني قريظة. السادسة: غزوة الحديبية وبيعة الرضوان، وغزوة بني المصطلق، وكسفت الشمس، ونزل الظهار. السابعة: فيها غزوة خيبر، وتزوج أم حبيبة وميمونة وصفية، وجاءته مارية وبغلته دلدل، وقدم جعفر وأصحابه من الحبشة، وأسلم أبو هريرة، وعمرة القضاء. الثامنة: فيها غزوة مؤتة، وذات السلاسل، وفتح مكة في رمضان، وولد إبرهيم، وتوفيت زينب، وغزوة حنين والطائف، وفيها غلاء السعر، فقالوا: سعر لنا. التاسعة: فيها غزا تبوك، وحج أبو بكر رضي الله عنه بالناس، وتوفيت أم كلثوم والنجاشي، وتتابعت الوفود، ودخل الناس في دين الله أفواجا. العاشرة: فيها حجة الوداع، ووفاة إبرهيم، وإسلام جرير، ونزل اليوم أكملت لكم دينكم وغزواته - صلى الله عليه وسلم - بنفسه خمسة وعشرون غزوة، وقيل: سبع وعشرون، وسراياه ست وخمسون، وقيل غير ذلك. والله أعلم.
الطرف الثاني : في وجوب الجهاد قد يكون فرض كفاية، وقد يتعين كما سيأتي إن شاء الله تعالى، وهل كان فرض كفاية في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أم فرض عين ؟ فيه وجهان، أصحهما: فرض كفاية لقوله تعالى * (لا يستوي القاعدون) * الآية

(7/410)


وأما اليوم فهو ضربان، أحدهما: أن يكون الكفار مستقرين في بلدانهم، فهو فرض كفاية، فإن امتنع الجميع منه، أثموا، وهل يعمهم الاثم، أم يختص بالذين يدنوا إليه ؟ وجهان. قلت: الاصح أنه يأثم كل من لا عذر له كما سيأتي بيان الاعذار إن شاء الله تعالى. والله أعلم. وإن قام من فيه كفاية، سقط عن الباقين. وتحصل الكفاية بشيئين. أحدهما: أن يشحن الامام الثغور بجماعة يكافئون من بإزائهم من الكفار، وينبغي أن يحتاط بإحكام الحصون وحفر الخنادق ونحوهما، ويرتب في كل ناحية أميرا كافيا يقلده الجهاد وأمور المسلمين. الثاني: أن يدخل الامام دار الكفر غازيا بنفسه، أو بجيش يؤمر عليهم من يصلح لذلك، وأقله مرة واحدة في كل سنة، فإن زاد فهو أفضل، ويستحب أن يبدأ بقتال من يلي دار الاسلام من الكفار، فإن كان الخوف من الابعدين أكثر، بدأ بهم، ولا يجوز إخلاء سنة عن جهاد إلا لضرورة، بأن يكون في المسلمين ضعف وفي العدو كثرة، ويخاف من ابتدائهم الاستئصال، أو لعذر بأن يعز الزاد وعلف الدواب في الطريق، فيؤخر إلى زوال ذلك، أو ينتظر لحاق مدد، أو يتوقع إسلام قوم، فيستميلهم بترك القتال، هذا ما نصر عليه الشافعي، وجرى عليه الاصحاب رحمهم الله، وقال الامام: المختار عندي في هذا مسلك الاصوليين، فإنهم قالوا: الجهاد دعوة قهرية، فيجب إقامته بحسب الامكان حتى لا يبقى إلا مسلم أو مسالم، ولا يختص بمرة في السنة، ولا يعطل إذا أمكنت الزيادة، وما ذكره الفقهاء حملوه على العادة الغالبة، وهي أن الاموال والعدد لا تتأتى لتجهيز الجنود في السنة أكثر من مرة، ثم إن تمكن الامام من بث الاجناد للجهاد في جميع الاطراف، فعل، وإلا فيبدأ بالاهم فالاهم، وينبغي له أن يرعى النصفة بالمناوبة بين الاجناد في الاغزاء، ويسقط الوجوب في هذا الضرب بأعذار. منها: الصغر والجنون والانوثة، وللامام أن يأذن للمراهقين والنساء في الخروج، وأن يستصحبهم لسقي الماء ومداواة المرضى ومعالجة الجرحى، ولا يأذن للمجانين بحال، ولا جهاد على الخنثى.

(7/411)


ومنها: المرض، فلا جهاد على من به مرض يمنعه من القتال والركوب على دابة، ولا على من لا يمكنه القتال إلا بمشقة شديدة، ولا اعتبار بالصداع ووجع الضرس والحمى الخفيفة ونحوها. ومنها: العرج، فلا جهاد على من به عرج بين وإن قدر على الركوب ووجد دواب، وقيل: يلزمه الجهاد راكبا، والصحيح الاول، وسواء العرج في رجل أو رجليه، ولا اعتبار بعرج يسير لا يمنع المشي، ولا جهاد على أشل اليد، ولا من فقد معظم أصابعه بخلاف فاقد الاقل. ومنها: العمى، فلا جهاد على أعمى، ويجب على الاعور والاعشى وعلى ضعيف البصر إن كان يدرك الشخص، ويمكنه أن يتقي السلاح. ومنها: الفقر، فلا جهاد على من عجز عن سلاح وأسباب القتال، ويشترط أن يجد نفقة طريقه ذهابا ورجوعا، فإن لم يكن له أهل ولا عشيرة، ففي اشتراط نفقة الرجوع وجهان سبقا في الحج، فإن كان القتال على باب البلد، أو حواليه، سقط اشتراط نفقة الطريق، ويشترط وجدان راحلة إن كان سفره مسافة القصر، ويشترط كون جميع ذلك فاضلا عن نفقة من يلزمه نفقته، وسائر ما ذكرناه في الحج، وكل عذر يمنع وجوب الحج، يمنع وجوب الجهاد إلا أمن الطريق، فإنه شرط هناك ولا يشترط هنا، لان مبنى الغزو على ركوب المخاوف، هذا إن كان الخوف من طلائع الكفار، وكذا لو كان من متلصصي المسلمين على الصحيح، ولو بذل للفاقد ما يحتاج إليه، لم يلزمه قبوله، إلا أن يبذله الامام، فيلزمه أن يقبل ويجاهد، لان ما يعطيه الامام حقه، ولا يلزم الذمي الجهاد، والحاصل أن الجهاد لا يجب إلا على مسلم بالغ عاقل ذكر حر مستطيع، ولا جهاد على رقيق وإن أمره سيده، إذ ليس القتال من الاستخدام المستحق للسيد، ولا يلزمه الذب عن سيده عند خوفه على روحه إذا لم نوجب الدفع عن الغير، بل السيد في ذلك كالاجنبي، وللسيد استصحابه في سفر الجهاد وغيره ليخدمه ويسوس دوابه، والمدبر والمكاتب ومن بعضه حر لا جهاد عليهم

(7/412)


فرع مما يمنع وجوب الجهاد الدين، فمن عليه دين حال لمسلم أو ذمي ليس له أن يخرج في سفر جهاد أو غيره إلا بإذنه، وله أن يمنعه السفر لتوجه المطالبة به، والحبس إن امتنع، وإن كان معسرا، فليس له منعه على الصحيح، إذ لا مطالبة في الحال، ولو استناب الموسر من يقضي دينه من مال حاضر، فله الخروج، وإن أمره بالقضاء من مال غائب، فلا، ومتى أذن صاحب الدين، فله الخروج، ويلتحق بأصحاب فرض الكفاية، وفيه احتمال للامام، وإن كان الدين مؤجلا، فله أن يخرج في سفر لا يغلب فيه الخطر على ما سبق في التفليس، وهل لصاحب الدين منعه من سفر الجهاد ؟ فيه خمسة أوجه، أصحها: لا، والثاني: نعم، إلا أن يقيم كفيلا بالدين، والثالث: له المنع إن لم يخلف وفاء، والرابع: له المنع إن لم يكن من المرتزقة، والخامس: له ذلك إن كان الدين يحل قبل رجوعه، وركوب البحر كسفر الجهاد على الاصح. فرع من أحد أبويه حي، يحرم عليه الجهاد إلا بإذنه، أو بإذنهما إن كانا حيين مسلمين، ولا يحتاج إلى إذن كافر، والاجداد والجدات كالوالدين، وقيل: لا يشترط إذن الجد مع وجود الاب، ولا الجدة مع وجود الام، والاول أصح، وليس للوالد منع الولد من حجة الاسلام على الصحيح، وله المنع من حج التطوع، وأما سفره لطلب العلم، فإن كان لطلب ما هو متعين، فله الخروج بغير إذنهما، وليس لهما المنع، وإن كان لطلب ما هو فرض كفاية، بأن خرج لطلب درجة الفتوى في الناحية مستقل بالفتوى، فليس لهما المنع على الاصح، فإن لم يكن هناك مستقل، ولكن خرج جماعة، فليس لهما على المذهب، لانه لم يوجد في الحال من يقوم بالمقصود، والخارجون، فلا يظفرون بالمقصود، وإن لم يخرج معه أحد، لم يحتج إلى إذن، ولا منع لهما قطعا، لانه يدفع الاثم عن نفسه، كالفرض المتعين

(7/413)


عليه، وقيد بعضهم هذه الصورة بما إذا لم يمكنه التعلم في بلده، ويجوز أن لا يشترط ذلك، بل يكفي أن يتوقع في السفر زيادة فراغ أو إرشاد أستاذ أو غيرهما، كما لم يقيد الحكم في سفر التجارة بمن لم يتمكن منها ببلده، بل اكتفي بتوقع زيادة ربح، أو رواج، وأما سفر التجارة وغيره، فإن كان قصيرا، فلا منع منه بحال، وإن كان طويلا، نظر إن كان فيه خوف ظاهر، كركوب بحر أو بادية مخطرة، وجب الاستئذان على الصحيح، ولهما المنع، وإن كان الامن غالبا، فالاصح أنه لا منع ولا يلزمه الاستئذان، والولد الكافر في هذه الاسفار كالمسلم، بخلاف سفر الجهاد، فإنه متهم فيه، والرقيق كالحر على الصحيح لشمول معنى البر والشفقة. فرع من خرج للجهاد بإذن صاحب الدين أو الوالدين، ثم رجعوا عن الاذن، أو كان الابوان كافرين، فخرج ثم أسلما، ولم يأذنا، وعلم المجاهد

(7/414)


الحال، فإن لم يشرع في القتال، ولم يحضر الوقعة لزمه الانصراف إلا أن يخاف على نفسه أو ماله أو يخاف انكسار قلوب المسلمين، فلا يلزمه، فإن لم يمكنه الانصراف للخوف، وأمكنه أن يقيم في قرية في الطريق حتى يرجع الجيش، لزمه أن يقيم، وأوهم في الوسيط خلافا في وجوب الاقامة هناك، وحكى ابن كج قولا أنه لا يلزمه الانصراف، والمشهور الاول، وإن علم بعد الشروع في القتال، فأربعة أوجه، أصحها: تجب المصابرة، ويحرم الانصراف، والثاني: يجب الانصراف، والثالث: يتخير بين الانصراف والمصابرة، والرابع: يجب الانصراف إن رجع صاحب الدين دون الابوين إن رجع، لعظم شأن الدين ومن شرط عليه الاستئذان، فخرج بلا إذن، لزمه الانصراف ما لم يشرع في القتال، لان سفره سفر معصية إلا أن يخاف على نفسه أو ماله، فإن شرع في القتال، فوجهان مرتبان، وهذه الصورة أولى بوجوب الانصراف، لان أول الخروج معصية، ولو خرج عبد بغير إذن سيده، لزمه الانصراف ما لم يحضر الوقعة، فإن حضر، فلا، قال الروياني: يستحب الرجوع. فرع لو مرض من خرج للجهاد أو عرج، أو فني زاده، أو هلكت دابته، فله أن ينصرف ما لم يحضر الوقعة، وكذا الحكم لو كان العذر حاصلا وقت الخروج، فإن حضر الوقعة، فهل يلزمه الثبات أم له الرجوع ؟ وجهان، أصحهما: الثاني، قال الامام: والوجهان إذا لم يورث انصرافه فشلا في الجند، فإن أورثه، حرم الرجوع قطعا، وفي التهذيب في صورة موت الدابة يلزمه القتال راجلا إن أمكنه ذلك، وإلا فلا، وقيل: إذا انقطع عنه سلاحه، أو انكسر، لزمه القتال بالحجارة إن أمكنه. فرع حيث جوزنا الانصراف لرجوع الابوين أو صاحب الدين عن الاذن، أو لحدوث المرض ونحوه، فليس للسلطان حبسه، قال الشافعي رحمه الله: إلا أن يتفق ذلك لجماعة، ويخشى من انصرافهم خلل في المسلمين، ولو انصرف لذهاب نفقة، أو هلاك دابة، ثم قدر على النفقة والدابة في بلاد الكفار، لزمه الرجوع للجهاد، وإن كان فارق بلاد الكفر، لم يلزمه الرجوع، وعن نصه أن من خرج للجهاد، وبه عذر مرض وغيره، ثم زال عذره، وصار من أهل فرض الجهاد، لم يكن له الرجوع عن الغزو، وكذا لو حدث العذر، وزال قبل أن ينصرف.

(7/415)


فرع من شرع في قتال ولا عذر له، لزمه المصابرة، وعبر الاصحاب عن هذا بأن الجهاد يصير متعينا على من هو من أهل فرض الكفاية بالشروع، ولو اشتغل شخص بالتعلم، وأنس الرشد فيه من نفسه، هل يحرم عليه قطعه ؟ وجهان، أحدهما: نعم، فيلزمه الاتمام، قاله القاضي حسين، وأصحهما: لا، لان الشروع لا يغير حكم المشروع فيه بخلاف بالجهاد، فإن رجوعه يؤدي إلى التخذيل، وهل يجب إتمام صلاة الجنازة إذا شرع فيها ؟ وجهان، قال القفال: لا، وقال الجمهور: نعم، وهو الاصح، قال الغزالي: الاصح أن العلم وسائر فروض الكفاية تتعين بالشروع. الضرب الثاني: الجهاد الذي هو فرض عين، فإذا وطئ الكفار بلدة للمسلمين، أو أطلوا عليها، ونزلوا بابها قاصدين، ولم يدخلوا، صار الجهاد فرض عين على التفصيل الذي نبينه إن شاء الله تعالى، وعن ابن أبي هريرة وغيره أنه يبقى فرض كفاية، والصحيح الاول، فيتعين على أهل تلك البلدة الدفع بما أمكنهم، وللدفع مرتبتان. إحداهما: أن يحتمل الحال اجتماعهم وتأهبهم واستعدادهم للحرب، فعلى كل واحد من الاغنياء والفقراء التأهب بما يقدر عليه، وإذا لم يمكنهم المقاومة إلا بموافقة العبيد، وجب على العبيد الموافقة، فينحل الحجر عن العبيد حتى لا يراجعوا السادات، وإن أمكنهم المقاومة من غير موافقة العبيد، فوجهان، أصحهما: أن الحكم كذلك، لتقوى القلوب، وتعظم الشوكة، وتشتد النكاية، والثاني: لا ينحل الحجر عنهم للاستغناء عنهم، والنسوة إن لم تكن فيهن قوة دفاع لا يحضرن، وإن كان فعلى ما ذكرنا في العبيد، ويجوز أن لا يحوج المزوجة إلى إذن الزوج، كما لا يحوج إلى إذن السيد، ولا يجب في هذا النوع استئذان الوالدين وصاحب الدين. المرتبة الثانية: أن يتغشاهم الكفار، ولا يتمكنوا من اجتماع وتأهب، فمن وقف عليه كافر، أو كفار، وعلم أنه يقتل إن أخذ، فعليه أن يتحرك، ويدفع عن نفسه بما أمكن، يستوي فيه الحر والعبد، والمرأة والاعمى، والاعرج، والمريض، ولا تكليف على الصبيان والمجانين، وإن كان يجوز أن يقتل ويؤسر،

(7/416)


ولو امتنع لقتل، جاز أن يستسلم، فإن المكاوحة والحالة هذه استعجال القتل، والاسر يحتمل الخلاص، ولو علمت المرأة أنها لو استسلمت امتدت الايدي إليها، لزمها الدفع وإن كانت تقتل، لان من أكره على الزنى لا تحل له المطاوعة لدفع القتل، فإن كانت لا تقصد بالفاحشة في الحال وإنما يظن ذلك بعد السبي، فيحتمل أن يجوز لها الاستسلام في الحال، ثم تدفع حينئذ، ولو كان في أهل البقعة كثرة، خرج بعضهم وفيهم كفاية، ففي تحتم المساعدة على الآخرين وجهان، أصحهما: الوجوب، لان الواقعة عظيمة، وأما غير أهل تلك الناحية، فمن كان منهم على دون مسافة القصر، فهو كبعضهم، حتى إذا لم يكن في أهل البلدة كفاية، وجب على هؤلاء أن يطيروا إليهم، وإن كان فيهم كفاية، ففي وجوب المساعدة عليهم الوجهان، ومن كان على مسافة القصر، إن لم يكن في أهل البلدة والذين يلونهم كفاية، وجب عليهم أن يطيروا إليهم، فإن طار إليهم من تحصل به الكفاية، سقط الحرج عن الباقين، وهذا معنى قول البغوي: إذا دخل الكفار دار الاسلام، فالجهاد فرض عين على من قرب، وفرض كفاية فيحق من بعد، وعلى هذا فحكم أهل الاعذار على ما ذكرناه في الضرب الاول وفيه وجه، أنه يجب على جميعهم المساعدة والمسارعة وليكن هذا في الاقربين ممن هو على مسافة القصر، وإن كان في أهل البلدة والذين يلونهم كفاية، فالاصح أنه لا يجب على الذين فوق مسافة القصر المساعدة، لانه يؤدي إلى إيجاب على جميع الامة، وفي ذلك حرج من غير حاجة، والثاني: يجب على الاقربين فالاقربين بلا ضبط حتى يصل الخبر بأنهم قد دفعوا وأخرجوا، وليس لاهل البلدة، ثم الاقربين فالاقربين إذا قدروا على القتال أن يلبثوا إلى لحوق الآخرين، ولا يشترط وجود المركوب فيمن دون مسافة القصر، وفيمن على مسافة القصر فما فوقها وجهان، أصحهما: الاشتراط، كالحج، والثاني: لا، لشدة الخطب، ويشترط فيمن فوق مسافة القصر ودونها وجود الزاد على الاصح، إذ لا استقلال بغير زاد، ولا معنى لالزامهم الخروج مع العلم بأنهم سيهلكون، ولو نزل الكفار على خراب، أو جبل في دار الاسلام بعيد

(7/417)


عن الاوطان والبلدان، ففي نزوله منزلة دخول البلدة وجهان أطلقهما الغزالي، والذي نقله الامام عن الاصحاب أنه ينزل منزلته، لانه من دار الاسلام، واختار هو المنع، لان الدار تشرف بسكن المسلمين، فإذا لم يكن مسكنا لاحد، فتكليف المسلمين التهاوي على المتالف بعيد. قلت: هذا الذي اختاره الامام ليس بشئ، وكيف يجوز تمكين الكفار من الاستيلاء على دار الاسلام مع إمكان الدفع. والله أعلم. فرع لو أسروا مسلما، أو مسلمين، فهل هو كدخول دار الاسلام ؟ وجهان، أحدهما: لا، لان إزعاج الجنود لواحد بعيد، وأصحهما: نعم، لان حرمته أعظم من حرمة الدار، فعلى هذا لا بد من رعاية النظر، فإن كانوا على قرب دار الاسلام، وتوقعنا استخلاص من أسروه لو طرنا إليهم، فعلنا، وإن توغلوا في بلاد الكفر ولا يمكن التسارع إليهم، وقد لا يتأتى خرقها بالجنود، اضطررنا إلى الانتظار، كما لو دخل منهم ملك عظيم الشوكة طرف بلاد الاسلام، لا يتسارع إليه آحاد الطوائف.
الطرف الثالث : في بيان فروض الكفاية
هي كثيرة مفرقة في أبوابها، كغسل الميت وتكفينه والصلاة عليه ودفنه، وكذا صلاة الجماعة والاذان والعيد إذا قلنا: إنهن فرض كفاية، وكذا التقاط المنبوذ وغير ذلك، وفروض الكفاية أمور كلية تتعلق بها مصالح دينية أو دنيوية لا ينتظم الامر إلا بحصولها، فيطلب الشارع تحصيلها، ولا يطلب تكليف واحد فواحد بها، بخلاف فرض العين، فإن كل واحد مكلف بتحصيله، وفروض الكفاية أقسام، منها ما يتعلق بأصل الدين، وهو إقامة الحجة العلمية، ومعناها أنه كما تجب إقامة الحجة القهرية بالسيف، يجب أن يكون في المسلمين من يقيم البراهين، ويظهر الحجج، ويدفع الشبهات، ويحل المشكلات، ومنها ما يتعلق بالفروع، كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمراد منه : الأمر بواجبات الشرع، والنهي عن محرماته، فهو فرض كفاية، فإن نصب لذلك رجل، تعين عليه بحكم الولاية، وهو المحتسب، ولقد أحسن أقضى القضاة الماوردي ترتيب الامر بالمعروف وتقسيمه، فجعله ثلاثة أضرب:

(7/418)


أحدها: ما يتعلق بحقوق الله تعالى، وهو نوعان، أحدهما: يؤمر به الجميع دون الافراد، كإقامة الجمعة حيث تجتمع شروطها، فإن كانوا عددا يرون انعقاد الجمعة بهم، والمحتسب لا يراه، فلا يأمرهم بما لا يجوزه، ولا ينهاهم عما يرونه فرضا عليهم، ويأمرهم بصلاة العيد، وهل هو واجب أم مستحب ؟ وجهان. قلت: الصحيح وجوب الامر، وإن قلنا: صلاة العيد سنة، لان الامر بالمعروف هو الامر بالطاعة، لا سيما ما كان شعارا ظاهرا. والله أعلم. النوع الثاني: يؤمر به الآحاد، مثل إن أخر بعض الناس الصلاة عن وقتها، فإن قال: نسيتها، حثه على المراقبة، ولا يعترض على من أخرها والوقت باق لاختلاف العلماء في فضل التأخير. الضرب الثاني: ما يتعلق بحق آدمي، وينقسم إلى عام، كالبلد إذا تعطل شربه، أو انهدم سوره، أو طرقه أبناء السبيل المحتاجون وتركوا معونتهم، فإن كان في بيت المال مال، لم يؤمر الناس بذلك، وإن لم يكن، أمر أهل المكنة برعايتها. وإلى خاص، كمطل المدين الموسر، فالمحتسب يأمره بالخروج عنه إذا استعداه صاحب الدين، وليس له الضرب والحبس. الثالث: الحقوق المشتركة، كأمر الاولياء بإنكاح الاكفاء، وإلزام النساء أحكام العدد، وأخذ السادة بحقوق الارقاء، وأصحاب البهائم بتعهدها، وأن لا يستعملوها فيما لا تطيق، وذكر في المنكرات أن من يغير هيئة عبادة، كجهره في صلاة سرية وعكسه، وزيادة في الاذان، يمنعه وينكر عليه، ومن تصدى للتدريس، أو الوعظ وليس هو من أهله، ولا يؤمن اغترار الناس به في تأويل أو تحريف، أنكر عليه المحتسب، وشهر أمره لئلا يغتر به، وإذا رأى رجلا واقفا مع امرأة في شارع يطرقه الناس، لم ينكر عليه، وإن كان في طريق خال، فهو موضع ريبة، فينكر ويقول: وإن كانت محرما لك، فصنها عن مواقف الريب، ولا ينكر في حقوق الآدميين، كتعديه في جدار جاره إلا باستعداء صاحب الحق، وينكر على من يطيل

(7/419)


الصلاة من أئمة المساجد المطروقة، وعلى القضاة إذا حجبوا الخصوم، وقصروا في النظر والخصومات، والسوقي الذي يختص بمعاملة النساء تختبر أمانته، فإن ظهرت منه خيانة، منع من معاملتهن، وهذا باب لا تتناهى صوره. قلت: الامر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية بإجماع الامة، وهو من أعظم قواعد الاسلام، ولا يسقط عن المكلف لكونه يظن أنه لا يفيد، أو يعلم بالعادة أنه لا يؤثر كلامه، بل يجب عليه الامر والنهي، فإن الذكرى تنفع المؤمنين، وليس الواجب عليه أن يقبل منه، بل واجبه أن يقول كما قال الله تعالى: * (ما على الرسول إلا البلاغ) * قالوا: ومن أمثلته: أن يرى مكشوف بعض عورته في حمام ونحو ذلك، ولا يشترط في الآمر والناهي كونه ممتثلا ما يأمر به، مجتنبا ما ينهى عنه، بل عليه الامر والنهي في حق نفسه، وفي حق غيره، فإن أخل بأحدهما، لم يجز الاخلال بالآخر، ولا يختص الامر والنهي بأصحاب الولايات والمراتب، بل ذلك ثابت لآحاد المسلمين وواجب عليهم، قال إمام الحرمين: والدليل عليه إجماع المسلمين، فإن غير الولاة في الصدر الاول كانوا يأمرون الولاة وينهونهم مع تقرير المسلمين إياهم وترك توبيخهم على التشاغل بذلك بغير ولاية، ويدل عليه قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في صحيح مسلم: من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم

(7/420)


يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه قال أصحابنا: وإنما يأمر وينهى من كان عالما بما يأمر به وينهى عنه، وذلك يختلف بحسب الاشياء، فإن كان من الواجبات الظاهرة، والمحرمات المشهورة، كالصلاة والصيام والزنى والخمر ونحوها، فكل المسلمين علماء بها، وإن كان من دقائق الاقوال والافعال، ومما يتعلق بالاجتهاد، لم يكن للعوام الابتداء بإنكاره، بل ذلك للعلماء، ويلتحق بهم من أعلمه العلماء بأن ذلك مجمع عليه، ثم العلماء إنما ينكرون ما أجمع على إنكاره، أما المختلف فيه فلا إنكار فيه، لان كل مجتهد مصيب، أو المصيب واحد ولا نعلمه، ولا إثم على المخطئ، لكن إن ندبه على جهة النصيحة إلى الخروج من الخلاف، فهو

(7/421)


حسن محبوب، ويكون برفق، لان العلماء متفقون على استحباب الخروج من الخلاف إذا لم يلزم منه إخلال بسنة ثابتة، أو وقوع في خلاف آخر، وذكر الماوردي خلافا في أن من قلده السلطان الحسبة، هل له حمل الناس على مذهبه فيما اختلف العلماء فيه إذا كان المحتسب مجتهدا أم ليس له تغيير ما كان على مذهب غيره ؟ والاصح أنه ليس له تغييره لما ذكرناه، ولم يزل الخلاف بين الصحابة والتابعين في الفروع، ولا ينكر أحد على غيره مجتهدا فيه، وإنما ينكرون ما خالف نصا، أو إجماعا، أو قياسا جليا. وأما صفة النهي عن المنكر ومراتبه، فضابطه قوله - صلى الله عليه وسلم -: فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه فعليه أن يغير بكل وجه أمكنه، ولا يكفي الوعظ لمن أمكنه إزالته باليد، ولا تكفي كراهة القلب لمن قدر على النهي باللسان، وقد سبق في كتاب الغصب صفة كسر الملاهي وجملة متعلقة بالمنكرات، وينبغي أن يرفق في التغيير بالجاهل وبالظالم الذي يخاف شره، فإن ذلك أدعى إلى قبول قوله، وإزالة المنكر، وإن قدر على من يستعين به ولم يمكنه الاستقلال، استعان ما لم يؤد ذلك إلى إظهار

(7/422)


سلاح وحرب، فإن عجز، رفع ذلك إلى صاحب الشوكة، وقد تقدم هذا في كتاب الصيال، فإن عجز عن كل ذلك، فعليه أن يكرهه بقلبه، قال أصحابنا وغيرهم: وليس للآمر والناهي البحث والتنقيب والتجسس واقتحام الدور بالظنون، بل إن رأى شيئا غيره، قال الماوردي: فإن غلب على ظن المحتسب أو غيره استسرار قوم بالمنكر بأمارة وآثار ظهرت، فذلك ضربان، أحدهما: أن يكون فيه انتهاك حرمة يفوت تداركها، بأن يخبره من يثق بصدقه أن رجلا خلا برجل ليقتله، أو بامرأة ليزني بها، فيجوز التجسس والاقدام على الكشف والانكار، والثاني: ما قصر عن هذه الرتبة، فلا يجوز فيه الكشف والتجسس. واعلم أنه لا يسقط الامر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا بأن يخاف منه على نفسه أو ماله، أو يخاف على غيره مفسدة أعظم من مفسدة المنكر الواقع. والله أعلم.
فصل ومن فروض الكفاية إحياء الكعبة بالحج في كل سنة، هكذا أطلقوه، وينبغي أن تكون العمرة كالحج، بل الاعتكاف والصلاة في المسجد الحرام، فإن التعظيم وإحياء البقعة يحصل بكل ذلك. قلت: لا يحصل مقصود الحج بما ذكر فإنه مشتمل على الوقوف والرمي والمبيت بمزدلفة ومنى، وإحياء تلك البقاع بالطاعات وغير ذلك. والله أعلم. ومنها: ما يتعلق بمصالح المعايش وانتظام أمور الناس، كدفع الضرر عن

(7/423)


المسلمين، وإزالة فاقتهم، كستر العورة، وإطعام الجائعين، وإغاثة المستغيثين في النائبات، فكل ذلك فرض كفاية في حق أصحاب الثروة والقدرة إذا لم تف الصدقات الواجبة بسد حاجاتهم، ولم يكن في بيت المال ما يصرف إليها، فلو انسدت الضرورة، فهل يكفي ذلك أم تجب الزيادة إلى تمام الكفاية التي يقوم بها من تلزمه النفقة ؟ حكى الامام فيه وجهين. قلت: قال الامام في كتابه الغياثي: يجب على الموسر المواساة بما زاد على كفاية سنة. وأما الحرف والصناعات وما به قوام المعايش، كالبيع والشراء والحراثة، وما لا بد منه حتى الحجامة والكنس، فالنفوس مجبولة على القيام بها، فلا تحتاج إلى حث عليها وترغيب فيها، لكن لو امتنع الخلق منها، أثموا وكانوا ساعين في إهلاك أنفسهم، فهي إذن من فروض الكفاية.
فصل ومن فروض الكفاية ما يتعلق بالدين، وبصلاح المعيشة، كتحمل الشهادة وأدائها، وإعانة القضاة على استيفاء الحقوق ونحو ذلك، وكتجهيز الموتى غسلا وتكفينا وصلاة ودفنا ونحو ذلك.
فصل من العلوم ما يتعين طلبه وتعلمه، ومنها فرض كفاية. فمن المتعين: ما يحتاج إليه لاقامة مفروضات الدين، كالوضوء والصلاة والصيام وغيرها، فإن من لا يعلم أركان الصلاة وشروطها لا يمكنه إقامتها، وإنما

(7/424)


يتعين تعلم الاحكام الظاهرة دون الدقائق والمسائل التي لا تعم بها بلوى، وإن كان له مال زكوي، لزمه تعلم ظواهر أحكام الزكاة، قال الروياني: هذا إذا لم يكن له ساع يكفيه الامر. قلت: الراجح أنه لا يسقط عنه التعلم بالساعي، إذ قد يجب عليه ما لا يعلمه الساعي. والله أعلم. ومن يبيع ويشتري ويتجر يتعين عليه معرفة أحكام التجارات، وكذا ما يحتاج إليه صاحب كل حرفة يتعين عليه تعلمه، والمراد الاحكام الظاهرة الغالبة دون الفروع النادرة والمسائل الدقيقة. وأما فرض الكفاية، فالقيام بعلوم الشرع فرض كفاية ويدخل في ذلك: التفسير والحديث على ما سبق في الوصية، ومنها: أن ينتهي في معرفة الاحكام إلى حيث يصلح للفتوى والقضاء كما سنذكره في أدب القاضي إن شاء الله تعالى، وهناك يتبين أن المجتهد في الشرع مطلقا يفتي، وأن المتبحر في مذهب بعض الائمة المجتهدين يفتي أيضا على الصحيح، ولا يكفي أن يكون في الاقليم مفت واحد، لعسر مراجعته، واعتبر الاصحاب فيه مسافة القصر، وكأن المراد أن لا يزيد ما بين كل مفتيين على مسافة القصر، وأما العلوم العقلية، فمنها ما هو فرض كفاية، كالطب والحساب المحتاج إليه، وقسمة الوصايا والمواريث، قال الغزالي: ولا يستبعد عد الطب والحساب من فروض الكفاية، فإن الحرف والصناعات التي لا بد للناس منها في معايشهم، كالفلاحة فرض كفاية، فالطب والحساب أولى، وأما أصول العقائد، فالاعتقاد المستقيم مع التصميم على ما ورد به القرآن والسنة فرض عين، وأما العلم المسمى علم الكلام، فليس بفرض عين، ولم يكن الصحابة رضي الله عنهم يشتغلون به، قال الامام: ولو بقي الناس على ما كانوا عليه في صفوة الاسلام لما أوجبنا التشاغل به، وربما نهينا عنه، فأما اليوم وقد ثارت البدع، فلا سبيل إلى تركها تلتطم، ولا بد من إعداد ما يدعى به إلى المسلك الحق، وتزال به الشبه، فصار الاشتغال بأدلة العقول فرض كفاية، فأما من

(7/425)


استراب في أصل من أصول الاعتقاد، فيلزمه السعي في إزاحته حتى تستقيم عقيدته. قلت: ولا يتعين تعلم كيفية الوضوء والصلاة وشبههما إلا بعد وجوب ذلك، فإن كان بحيث لو صبر إلى دخول الوقت لم يتمكن من إتمام تعلمها مع الفعل في الوقت، فهل يلزمه التعلم قبل الوقت ؟ تردد فيه الغزالي، والاصح: ما جزم به غيره أنه يلزمه، كما يلزم السعي إلى الجمعة قبل الوقت لمن بعد منزله، وإذا كان ما تعلق به الوجوب على الفور، كان تعلم كيفيته على الفور، وإن كان على التراخي، كالحج، فتعلم الكيفية على التراخي، وأما علم القلب [ وهو معرفة أمراض القلب ]، كالحسد والعجب والرياء وشبهها، فقد قال الغزالي: معرفة حدودها وأسبابها وطبها وعلاجها فرض عين وقال غيره: فيه تفصيل، ضمن زرق قلبا سليما من هذه الامراض المحرمة كفاه ذلك، ومن لم يسلم وتمكن من تطهير قلبه بغير تعلم العلم المذكور، وجب تطهره، وإن لم يتمكن إلا بتعلم، وحب، وقد سبق في كتاب الصلاة وجوب تعليم الصغار على أوليائهم، ومن فرض الكفاية، معرفة أصول الفقه والفقه، والنحو واللغة والتصريف، وأسماء الرواة، والجرح والتعديل، واختلاف العلماء واتفاقهم، وقد يكون من العلم مستحب، كالتبحر في أصول الادلة بالزيادة على القدر الذي يحصل به فرض الكفاية، وكتعلم العامي نوافل العبادات لغرض العمل، لا لما يقوم به المجتهدون من تمييز الفرض من النفل، فإن ذلك فرض كفاية في حقهم، قال صاحب الحاوي: وإنما يتوجه فرض الكفاية في العلم على من جمع أربعة شروط وهي: أن يكون مكلفا، وممن يتقلد القضاء، لا عبدا ولا امرأة، وأن يكون بليدا، وأن يقدر على الانقطاع إليه بأن تكون له كفاية، ويدخل الفاسق في الفرض ولا يسقط به، لانه لا تقبل فتواه للمستفتين، وفي دخول المرأة والعبد وجهان، لانهما أهل للفتوى دون القضاء. واعلم أن تعليم الطالبين، وإفتاء المستفتين فرض كفاية، فإن لم يكن من يصلح إلا واحدا وكان هناك جماعة، ولا يحصل الغرض إلا بكلهم، تعين عليهم، وإذا كان هناك غير المفتي، هل يأثم بالرد ؟ وجهان، أصحهما: لا، وينبغي أن

(7/426)


يكون المعلم كذلك، ويستحب الرفق بالمتعلم والمستفتي، فهذه أنواع العلوم الشرعية، ووراءها أشياء تسمى علوما، منها: محرم ومكروه ومباح، فالمحرم، كالفلسفة والشعوذة والتنجيم والرمل وعلوم الطبائعيين، وكذا السحر على الصحيح، فكل ذلك محرم، وتتفاوت دركات تحريمه. والمكروه: كأشعار المولدين المشتملة على الغزل والبطالة. والمباح: كأشعار المولدين التي ليس فيها سخف، ولا شئ مما يكره، ولا ينشط إلى الشر أو يثبط عن الخير ولا يحث عليه، أو يستعان به عليه. والله أعلم. فرع إذا تعطل فرض كفاية، أثم كل من علم به، وقدر على القيام به، وكذا من لم يعلم، وكان قريبا من الموضع يليق به البحث والمراقبة، قال الامام: ويختلف هذا بكبر البلد وصغره، وقد يبلغ التعطل مبلغا ينتهي خبره إلى سائر البلاد، فيجب عليهم السعي في التدارك، وفي الصورة دليل على أنه لا يجوز الاعراض والاهمال، ويجب البحث والمراقبة على ما يليق الحال. فرع إذا قام بالفرض جمع لو قام به بعضهم يسقط الحرج عن الباقين، كانوا كلهم مؤدين للفرض، ولا مزية للبعض على البعض، وإذا صلى على الجنازة جمع، ثم آخرون، كانت صلاة الآخرين فرض كفاية كالاولين. قلت: للقائم بفرض الكفاية مزية على القائم بفرض العين من حيث إنه أسقط الحرج عن نفسه وعن المسلمين، وقد قال إمام الحرمين في كتابه الغياثي: الذي أراه أن القيام بفرض الكفاية أفضل من فرض العين، لانه لو ترك المتعين، اختص هو بالاثم، ولو فعله، اختص بسقوط الفرض، وفرض الكفاية لو تركه، أثم الجميع، وفرض الكفاية لو فعله، سقط الحرج عن الجميع، وفاعله ساع في صيانة الامة عن المأثم، ولا يشك في رجحان من حل محل المسلمين أجمعين في القيام بمهم من مهمات الدين. والله أعلم.
فصل في السلام فيه مسائل :
الأولى : ابتداء السلام سنة مؤكدة،

(7/427)


فإن سلم على واحد، وجب عليه الرد، وإن سلم على جماعة، فالرد في حقهم فرض كفاية، فإن رد أحدهم، سقط الحرج عن الباقين، وإن رد الجميع، كانوا مؤدين للفرض، سواء ردوا معا أو متعاقبين، فإن امتنعوا كلهم، أثموا، ولو رد غير من سلم عليه، لم يسقط الفرض عمن سلم عليه، ويكون ابتداء السلام أيضا سنة على الكفاية، فإذا لقي جماعة آخرين، فسلم أحد هؤلاء على هؤلاء، كفى ذلك في إقامة أصل السنة. الثانية: لا بد من ابتداء السلام ورده من رفع الصوت بقدر ما يحصل به الاسماع، ويجب أن يكون الرد متصلا بالسلام الاتصال المشترط بين الايجاب والقبول في العقود، قال المتولي: لو ناداه من وراء حائط أو ستر، وقال: السلام عليك يا فلان، أو كتب كتابا وسلم عليه فيه، أو أرسل رسولا فقال: سلم على فلان، فبلغه الكتاب والرسالة، لزمه الرد، ولو سلم على أصم، أتى باللفظ لقدرته عليه، ويشير باليد ليحصل الافهام، فإن لم يضم الاشارة إلى اللفظ، لم يستحق الجواب، وكذا في جواب سلام الاصم، يجب الجمع بين اللفظ والاشارة، وسلام الاخرس بالاشارة معتد به، وكذا رده. الثالثة: صيغته، السلام عليكم، أو سلام عليكم، قال الامام: وكذا لو قال: عليكم السلام، وقال المتولي: عليكم السلام ليس بتسليم. قلت: الصحيح أنه تسليم يجب فيه الرد، كما قال الامام، وممن قال أيضا إنه تسليم أبو الحسن الواحدي من أصحابنا، ولكن يكره الابتداء به، نص على

(7/428)


كراهته الغزالي في الاحياء ويدل عليه الحديث الصحيح في سنن أبي داود والترمذي عن أبي جري بضم الجيم تصغير جرو رضي الله عنه، قال: قلت: عليك السلام يا رسول الله، قال: لا تقل: عليك السلام، فإن عليك السلام تحية الموتى. والله أعلم. ويستحب مراعاة صيغة الجمع، وإن كان المسلم عليه واحدا خطابا ولملائكته، ولو قال: السلام عليك وترك صيغة الجمع، حصل أصل السنة، وصيغة الجواب، وعليكم السلام، أو وعليك السلام للواحد، فلو ترك حرف العطف فقال: عليكم السلام، قال الامام: يكفي ذلك، ويكون جوابا، والافضل أن يدخل الواو، وقال المتولي: ليس بجواب. قلت: الصحيح المنصوص وقول الاكثرين أنه جواب. والله أعلم. ولو قال المجيب: وعليكم، قال الامام: الرأي عندنا أنه لا يكون جوابا، فإنه ليس فيه تعرض للسلام، ومنهم من جعله جوابا للعطف. ولو قال: عليكم بغير واو، فليس بجواب قطعا، وكمال السلام أن يقول: السلام عليكم ورحمة الله، وكمال الرد: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته. قلت: قد قال الماوردي وغيره: إن الافضل في الابتداء: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وفيه حديث حسن، ولو قال المجيب: السلام عليكم، أو سلام عليكم، كان جوابا، والالف واللام أفضل. والله أعلم.

(7/429)


ولو تلاقى رجلان فسلم كل واحد على صاحبه، وجب على كل واحد منهما جواب الآخر، ولا يحصل الجواب بالسلام، وإن ترتب السلامان، قاله المتولي. قلت: قد قاله أيضا شيخه القاضي حسين، لكن أنكره الشاشي فقال: هذا يصلح للجواب، فإن كان أحدهما بعد الآخر كان جوابا، وإن كانا دفعة، لم يكن جوابا، هذا كلام الشاشي، وتفصيله حسن وينبغي أن يجزم به. والله أعلم. الرابعة: لو سلم عليه جماعة، فقال: وعليكم السلام، وقصد الرد عليهم جميعا، جاز، وسقط الفرض في حق الجميع، كما لو صلى على جنائز صلاة واحدة. الخامسة: السنة أن يسلم الراكب على الماشي، والماشي على الجالس، والطائفة القليلة على الكثيرة، ولا يكره ابتداء الماشي والجالس. قلت: وكذا لا يكره ابتداء الكثيرين بالسلام على القليل، وإن كان خلاف السنة، والسنة أن يسلم الصغير على الكبير، ثم هذا الادب فيما إذا تلاقيا، أو تلاقوا في الطريق، فأما إذا ورد على قاعد، أو قعود، فإن الوارد يبدأ، سواء كان صغيرا أو كبيرا، قليلا أو كثيرا. والله أعلم. السادسة: يكره أن يخص طائفة من الجمع بالسلام. السابعة: لا يلزم الصبي جواب السلام، لانه ليس مكلفا، ولو سلم على جماعة فيهم صبي، لم يسقط الفرض عنهم بجوابه. قلت: هذا هو الاصح وبه قطع القاضي والمتولي، وقال الشاشي: يسقط، كما يصح أذانه للرجال ويتأدي به الشعار، وهذا كالخلاف في سقوط الفرض بصلاته

(7/430)


على الميت. والله أعلم. ولو سلم صبي على بالغ، ففي وجوب الرد عليه وجهان بناء على صحة إسلامه. قلت: كذا ذكره القاضي والمتولي، والصحيح وجوب الرد، قال الشاشي: هذا البناء فاسد، وهو كما قال، واعلم أن السلام على الصبيان سنة. والله أعلم. الثامنة: سلام النساء على النساء، كسلام الرجال على الرجال، ولو سلم رجل على امرأة أو عكسه، فإن كان بينهما زوجية أو محرمية، جاز ووجب الرد، وإلا فلا يجب إلا أن تكون عجوزا خارجة عن مظنة الفتنة. قلت: وجاريته كزوجته، وقوله: جاز، ناقص، والصواب أنه سنة كسلام الرجل على الرجل، قاله أصحابنا، قال المتولي: ولو سلم على شابة، لم يجز لها الرد، ولو سلمت، كره له الرد عليها، ولو كان النساء جمعا، فسلم عليهن الرجل، جاز، للحديث الصحيح في ذلك. والله أعلم. التاسعة: في السلام بالعجمية ثلاثة أوجه، ثالثها: إن قدر على العربية، لم يجزئه. قلت: الصواب صحة سلامه بالعجمية إن كان المخاطب يفهمها، سواء قدر على العربية أم لا، ويجب الرد، لانه يسمى تحية وسلاما. والله أعلم. ومن لا يستقيم نطقه بالسلام، يسلم كيف أمكنه. العاشرة: في استحباب السلام على الفساق، ووجوب الرد على المجنون والسكران إذا سلما، وجهان، ولا يجوز ابتداء أهل الذمة بالسلام، فلو سلم

(7/431)


على من لم يعرفه، فبان ذميا، استحب أن يسترد سلامه، بأن يقول: استرجعت سلامي، تحقيرا له، وله أن يحيي الذمي بغير السلام، بأن يقول: هداك الله، أو أنعم الله صباحك، ولو سلم عليه ذمي، لم يزد في الرد على قوله: وعليك. قلت: ما ذكره من استحباب استرداد السلام من الذمي، ذكره المتولي، ونقله عن ابن عمر رضي الله عنهما، وقوله: أن يحيي الذمي بغير السلام، ذكره المتولي، وهذا إذا احتاج إليه لعذر، فأما من غير حاجة، فالاختيار أن لا يبتدئه بشئ من الاكرام أصلا، فإن ذلك بسط له وإيناس وملاطفة وإظهار ود، وقد قال الله تعالى: * (لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله) * وأما المبتدع، فالمختار أنه لا يبدأ بسلام إلا لعذر، أو خوفا من مفسدة، ولو مر على جماعة فيهم مسلمون، أو مسلم وكفار، فالسنة أن يسلم ويقصد المسلمين أو المسلم، ولو كتب كتابا إلى مشرك، وكتب فيه سلاما، فالسنة أن يكتب كما كتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى هرقل: سلام على من اتبع الهدى. والله أعلم. الحادية عشرة: قال المتولي: ما يعتاده الناس من السلام عند القيام ومفارقة القوم دعاء وليس بتحية، فيستحب الجواب عنه، ولا يجب. قلت: هذا الذي قاله المتولي قاله شيخه القاضي حسين، وقد أنكره الشاشي، فقال: هذا فاسد لان السلام سنة عند الانصراف، كما هو سنة عند القدوم، واستدل بالحديث الصحيح في سنن أبي داود والترمذي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا انتهى أحدكم إلى المجلس فليسلم، فإذا أراد أن يقوم فليسلم، فليست الاولى بأحق من الآخرة قال الترمذي: حديث حسن. والله أعلم.

(7/432)


الثانية عشرة: قال المتولي: يستحب لمن دخل دار نفسه أن يسلم على أهله، ولمن دخل مسجدا أو بيتا ليس فيه أحد أن يقول: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. قلت: يستحب أن يسمي الله تعالى قبل دخوله، ويدعو، ثم يسلم. والله أعلم. الثالثة عشرة: من سلم في حال لا يستحب فيها السلام، لم يستحق جوابا، فمن تلك الاحوال، أنه لا يسلم على من يقضي حاجته، ولا على من في الحمام، قال الشيخ أبو محمد والمتولي: لا يسلم على مشتغل بالاكل، ورأى الامام حمل ذلك على ما إذا كانت اللقمة في فمه وكان يمضي زمان في المضغ والابتلاع، ويعسر الجواب في الحال، أما إذا سلم بعد الابتلاع وقبل وضع لقمة أخرى، فلا يتوجه المنع، وأما المصلي، فأطلق الغزالي أنه لا يسلم عليه ولم يمنعه المتولي لكن قال إذا سلم عليه لم يرد عليه حتى يفرغ، ويجوز أن يجيب في الصلاة بالاشارة، نص عليه في القديم، وقيل: يجب، وقيل: يجب الرد باللفظ بعد الفراغ، والصحيح أنه لا يجب الرد مطلقا، فإن قال في الصلاة: عليكم السلام، بطلت، وإن قال: عليهم السلام، لم تبطل وقد سبق هذا في كتاب الصلاة، ولا منع من السلام على من هو في مساومة أو معاملة.

(7/433)


قلت: ومن الاحوال التي لا يسلم فيها حالة الاذان والاقامة والخطبة على خلاف وتفصيل سبق فيها، وأما المشتغل بقراءة القرآن، فقال أبو الحسن الواحدي المفسر من أصحابنا: الاولى ترك السلام عليه، قال: فإن سلم، كفاه الرد بالاشارة، وإن رد باللفظ، استأنف الاستعاذة، ثم يقرأ، وفيما قاله نظر، والظاهر أنه يسلم عليه ويجب الرد باللفظ، وأما الملبي في الاحرام فيكره السلام عليه، فإن سلم، رد عليه لفظا، نص عليه، وقد سبق في الحج، ولو سلم في هذه المواضع التي لا يستحق فيها جوابا، هل يشرع الرد ؟ فيه تفصيل، أما المشتغل بالبول والجماع ونحوهما، فيكره له الرد كما سبق في باب الاستطابة، وأما الاكل ومن في الحمام، فيستحب له الرد، وأما المصلي، فيسن له الرد إشارة كما سبق. والله أعلم. الرابعة عشرة: التحية بالطلبقة وهي: أطال الله بقاك، وحني الظهر، وتقبيل اليد لا أصل له في الشرع، لكن لا يمنع الذمي من تعظيم المسلم بها، ولا يكره تقبيل اليد لزهد وعلم وكبر سن، وتسن المصافحة، ويكره للداخل أن يطمع في قيام القوم، ويستحب لهم أن يكرموه، ويسن تشميت العاطس وهو سنة على

(7/434)


الكفاية كما سبق في ابتداء السلام، وإنما يسن إذا قال العاطس: الحمد لله، والتشميت أن يقول: يرحمك الله، أو يرحمك ربك، ويكرر التشميت إذا تكرر العطاس إلا أن يعلم أنه مزكوم، فيدعو له بالشفاء، ويسن للعاطس أن يجيب المشمت، فيقول: يهديكم الله، أو يغفر الله لكم، ولا يجب ذلك، وتسن عيادة المريض وزيارة القادم ومعانقته. قلت: قد اختصر الامام الرافعي الكلام في السلام وما يتعلق به، وقد جمعت فيه في كتاب الاذكار جملا نفيسة موضحة بدلائلها من الاحاديث الصحيحة مع آيات من القرآن العزيز، وضممت إليها مهمات متعلقة بما لا يستغني راغب في الخير عن معرفة مثلها، وقد خللت بعضها فيما سبق، وأنا أرمز إلى جملة من الباقي إن شاء الله تعالى، فمن ذلك، السنة أن يرفع صوته بالسلام رفعا يسمعه المسلم عليهم سماعا محققا، ولا يزيد رفعه على ذلك، وإذا شك في سماعهم، زاد في الرفع واستظهر، وإن سلم على أيقاظ عندهم نيام، خفض صوته بحيث يسمع الايقاظ ولا يوقظ النيام، ثبت ذلك في صحيح مسلم عن فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والاشارة بالسلام باليد ونحوها بلا لفظ خلاف الاولى، فإن جمع بين الاشارة واللفظ، فحسن وعليه يحمل حديث الترمذي وهو حديث حسن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ألوى بيده بالتسليم، ويستحب أن يرسل سلامه إلى من غاب عنه، ويلزم الرسول أن يبلغه، فإنه أمانة ويجب أداء الامانة، وقد سبق أنه يلزم المرسل إليه رد السلام على الفور، ويستحب أن يرد على المبلغ أيضا، فيقول: وعليه وعليك السلام ورحمه الله وبركاته، ولو سلم على إنسان، ثم لقيه على قرب، فالسنة أن يسلم عليه ثانيا وثالثا وأكثر، والسنة أن يبدأ بالسلام قبل كل كلام، والاحاديث الصحيحة وعمل الامة على وفق ذلك مشهور، وأما حديث السلام قبل الكلام فضعيف، ويستحب لكل واحد من المتلاقين أن

(7/435)


يحرص على الابتداء بالسلام للحديث الحسن أولى الناس بالله تعالى من بدأهم بالسلام ولو مشى في سوق، أو شارع يطرق كثيرا، ونحوه مما يكثر فيه المتلاقون، قال صاحب الحاوي: إنما يسلم هنا على بعض الناس دون بعض، لانه لو سلم على الجميع، تعطل عن كل مهم، وخرج به عن العرف، قال: ولو دخل على جماعة قليلة يعمهم سلام، اقتصر على سلام واحد عليهم، وما زاد من تخصيص بعضهم، فهو أدب، ويكفي أن يرد أحدهم، فإن زادوا، فأفضل، فإن كانوا جميعا لا ينتشر فيهم سلام واحد، كالجامع والمجلس الحفل، فسنة السلام أن يبدأ به إذا شاهدهم، ويكون مؤديا سنة السلام في حق من سمعه، ويدخل في فرض الكفاية في الرد كل من سمعه، فإن جلس فيهم، سقط عنه سنة السلام في حق من لم يسمع، وإن أراد الجلوس فيمن بعدهم ممن لم يسمعه فوجهان، أحدهما: أن سنة السلام حصلت بالسلام على أولهم، لانه جمع واحد، فإن أعاد السلام عليهم، كان أدبا، والثاني: أنها باقية لم تحصل، قال: فعلى الاول يسقط فرض الرد عن الاولين برد واحد من الآخرين، وعلى الثاني لا يسقط، ولعل الثاني أصح، ولا يترك السلام لكونه يغلب على ظنه أن المسلم عليه لا يرد. قال المتولي: وأما التحية عند خروجه من الحمام بقول: طاب حمامك ونحوه، فلا أصل له، وهو كما قال، فلم يصح في هذا شئ، لكن لو قال لصاحبه حفظا لوده: أدام الله لك هذا النعيم، ونحو ذلك من الدعاء، فلا بأس به إن شاء الله تعالى، وإذا ابتدأ المار فقال: صبحك الله بخير، أو بالسعادة، أو قواك الله، أو لا أوحش الله منك، أو نحو ذلك من ألفاظ أهل العرف، لم يستحق جوابا، لكن لو دعا له قبالته كان حسنا إلا أن يريد تأديبه وتأديب غيره لتخلفه وإهماله السلام. وإذا قصد باب إنسان وهو مغلق، فالسنة أن يسلم، ثم يستأذن فيقول: السلام عليكم، أأدخل، فإن لم يجبه أحد، أعاد ذلك ثانيا وثالثا، فإن لم يجبه أحد،

(7/436)


انصرف، وذكر صاحب الحاوي خلافا في تقديم السلام على الاستئذان وعكسه، واختار مذهبا ثالثا، فقال: إن وقعت عين المستأذن على صاحب البيت قبل دخوله، قدم السلام، وإن لم تقع عليه عينه، قدم الاستئذان، والصحيح المختار تقديم السلام، فقد صحت فيه أحاديث صريحة، وإذا استأذن بدق الباب ونحوه، فقيل: من أنت، فليقل: فلان ابن فلان، أو فلان الفلاني، أو المعروف بكذا وما أشبهه بحيث يحصل تعريف تام، ويكره أن يقتصر على قوله: أنا، أو الخادم، أو المحب، أو نحو ذلك مما لا يعرف به، والحديث الصحيح في ذلك مشهور، ولا بأس أن يصف نفسه بما يعرف به وإن تضمن تبجيلا له إذا لم يعرفه المخاطب إلا به، بأن يكني نفسه، أو يقول: القاضي فلان، أو الشيخ فلان أو نحوه. وأما قول الرافعي: إذا قال: أطال الله بقاءك إلى آخره، فيحتاج فيه إلى تتمات، فأما أطال الله بقاءك، فقد نص جماعة من السلف على كراهته، وأما حني الظهر فمكروه للحديث الصحيح في النهي عنه، ولا يغتر بكثرة من يفعله ممن ينسب إلى علم وصلاح. وأما القيام، فالذي نختاره أنه مستحب لمن فيه فضيلة ظاهرة من علم أو صلاح أو ولادة أو ولاية مصحوبة بصيانة، ويكون على جهة البر والاكرام لا للرياء والاعظام، وعلى هذا استمر عمل الجمهور من السلف والخلف، وقد جمعت جزءا في ذلك ضمنته أحاديث صحيحة وآثارا وأفعال السلف وأقوالهم الدالة لما ذكرته، وأجبت عما خالفها، وأما الداخل فيحرم عليه أن يحب قيامهم له، ففي الحديث

(7/437)


الحسن من أحب أن يمثل له الناس قياما، فليتبوأ مقعده من النار وهذا ظاهر في التحريم، وقد روي بألفاظ أوضحتها مع معناه وما يتعلق به في جزء الترخيص في القيام، وأما قوله: لا يمنع الذمي من تعظيم المسلم بها، فلا نوافق عليه. وأما تقبيل اليد، فإن كان لزهد صاحب اليد وصلاحه، أو علمه أو شرفه وصيانته ونحوه من الامور الدينية، فمستحب، وإن كان لدنياه وثروته وشوكته ووجاهته ونحو ذلك، فمكروه شديد الكراهة، وقال المتولي: لا يجوز، وظاهره التحريم، وأما تقبيله خد ولده الصغير وبنته الصغيرة وسائر أطرافه على وجه الشفقة والرحمة واللطف ومحبة القرابة، فسنة، والاحاديث الصحيحة فيه كثيرة مشهورة، وكذا قبلة ولد صديقه وغيره من الاطفال الذين لا يشتهون على هذا الوجه، وأما التقبيل بشهوة فحرام بالاتفاق، وسواء في ذلك الوالد وغيره، بل النظر إليه بالشهوة حرام على الاجنبي والقريب بالاتفاق، ولا بأس بتقبيل وجه الميت الصالح للتبرك. وسن تقبيل وجه صاحبه إذا قدم من سفر ونحوه، ومعانقته للحديث الصحيح فيهما، وأما المعانقة وتقبيل الوجه لغير القادم من سفر ونحوه، فمكروهان، صرح به البغوي وغيره للحديث الصحيح في النهي عنهما، وأما المصافحة، فسنة عند التلاقي، سواء فيه الحاضر والقادم من سفر، والاحاديث الصحيحة فيها كثيرة جدا، وأما ما اعتاده الناس من المصافحة بعد صلاتي الصبح والعصر، فلا أصل

(7/438)


لتخصيصه، لكن لا بأس به، فإنه من جملة المصافحة، وقد حث الشرع على المصافحة، وجعله الشيخ الامام أبو محمد ابن عبد السلام من البدع المباحة، ويستحب مع المصافحة البشاشة بالوجه والدعاء بالمغفرة وغيرها. ويسن زيارة الصالحين والاخوان والجيران والاصدقاء والاقارب وإكرامهم وبرهم وصلتهم، وضبط ذلك يختلف باختلاف أحوالهم ومراتبهم وفراغهم، وينبغي أن تكون زيارته على وجه يرتضونه وفي وقت لا يكرهونه، ويستحب أن يطلب من أخيه الصالح أن يزوره، وأن يكثر زيارته إذا لم يشق، وأما العاطس، فيسن له أن يقول: الحمد لله، وإن كان في صلاة قاله وأسمع نفسه، ولو قال: الحمد لله على كل حال، كان أفضل، ففيه حديث صحيح، ويسن بمن جاءه العطاس، أن يضع يده أو ثوبه ونحوه على وجهه، ويخفض صوته وتشميته إلى ثلاث مرات، فإن زاد، دعا له بالشفاء، ولا يشمته حتى يسمع تحميده، وأقل التشميت وجوابه أن يسمعه، ولو قال لفظا آخر غير الحمد لله، لم يشمت، ففي صحيح مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا عطس أحدكم فحمد الله تعالى، فشمتوه، فإن لم يحمد الله تعالى، فلا تشمتوه وهذا الحديث مما ينبغي حفظه وإشاعته، فإن كثيرا من الناس يتساهلون فيه، وإذا لم يحمد الله تعالى، يستحب لمن عنده أن يذكره الحمد، ولو سمع حمده بعض القوم، يشمته السامعون فقط، ولو عطس يهودي، فليقل: يهديكم الله، ولا يقل: يرحمكم الله، ففيه حديث صحيح، ولو تثاءب، فالسنة أن يرده

(7/439)


ما استطاع، وأن يضع يده على فمه، ثبت ذلك في صحيح مسلم، وسواء كان في صلاة أو غيرها، ويستحب إجابة من ناداه، بلبيك، وأن يقول لمن ورد عليه: مرحبا، وأن يقول لمن أحسن إليه: جزاك الله خيرا، أو حفظك الله ونحوهما، ويسن لمن أحب أخا له في الله تعالى أن يخبره أنه يحبه، وهذا الباب واسع جدا، وفيما ذكرته مقنع، وقد أوضحت جميع ذلك بدلائله الصحيحة المتظاهرة في كتاب الاذكار وفيه ما لا يستغنى عن مثله من أشباهه، وإنما بسطت هذا الفصل على خلاف العادة، لانه أحكام وسنن تدعو الحاجة إليها، ويكثر العمل بها، فهي أولى من نوادر المسائل التي لا تقع في العادة، وأسأل الله الكريم التوفيق للخيرات. والله أعلم.
الباب الثاني : في كيفية الجهاد وما يتعلق به، فيه أطراف
الأول : في قتال الكفار، وفيه مسائل: إحداها: يكره الغزو بغير إذن الامام أو الامير المنصوب من جهته، ولا يحرم، وإذا بعث سرية، أمر عليهم أميرا، ويأمرهم بطاعته، ويوصيه بهم، ويسن أن يأخذ البيعة عليهم أن لا يفروا، وأن يبعث الطلائع، ويتجسس أخبار الكفار، ويستحب خروجهم يوم الخميس أول النهار، وأن يعقد الرايات، ويجعل كل فريق تحت راية، ويجعل لكل طائفة شعارا حتى لا يقتل بعضهم بعضا بياتا، وأن يدخل دار الحرب بتعيينه الحرب، لانه أحوط وأهيب، وأن يستنصر بالضعفاء، وأن يدعو عند التقاء الصفي، وأن يكبر من غير إسراف في رفع الصوت، وأن يحرض الناس على القتال وعلى الصبر والثبات. الثانية: لا يقاتل من لم تبلغه الدعوة حتى يدعوه إلى الاسلام، وأما من بلغتهم

(7/440)


الدعوة، فيستحب أن يعرض عليهم الاسلام، ويدعوهم إليه، ويجوز بياتهم بغير دعاء، ثم الذين لا يقرون بالجزية، يقاتلون، وتسبى نساؤهم، وتغنم أموالهم حتى يسلموا، والذين تقبل منهم الجزية يقاتلون حتى يسلموا، أو يبذلوا الجزية. الثالثة: تجوز الاستعانة بأهل الذمة وبالمشركين في الغزو، ويشترط أن يعرف الامام حسن رأيهم في المسلمين، ويأمن خيانتهم، وشرط الامام والبغوي وآخرون شرطا ثالثا، وهو أن يكثر المسلمون بحيث لو خان المستعان بهم، وانضموا إلى الذين يغزوهم، لامكننا مقاومتهم جميعا، وفي كتب العراقيين وجماعة أنه يشترط أن يكون في المسلمين قلة، وتمس الحاجة إلى الاستعانة، وهذان الشرطان كالمتنافيين، لانهم إذا قلوا حتى احتاجوا لمقاومة فرقة إلى الاستعانة بالاخرى، فكيف يقاومونهما ؟ قلت: لا منافاة، فالمراد أن يكون المستعان بهم فرقة لا يكثر العدو بهم كثرة ظاهرة، وشرط صاحب الحاوي أن يخالفوا معتقد العدو، كاليهود مع النصارى، قال: وإذا خرجوا بشروطه، اجتهد الامير فيهم، فإن رأى المصلحة في تميزهم ليعلم نكايتهم، أفردهم في جانب الجيش بحيث يراه أصلح، وإن رآها في اختلاطهم بالجيش لئلا تقوى شوكتهم، فرقهم بين المسلمين. والله أعلم. ثم إن حضر الذمي بإذن الامام، استحق الرضخ، إلا أن يكون استأجره، فلا يستحق غير الاجرة، وإن نهاه عن الحضور، فحضر، فلا شئ له، وللامام تعزيزه إذا رآه، وإن لم ينهه، ولم يأذن له، لم يرضخ له على الاصح. الرابعة: يجوز الاستعانة بالعبد إذا أذن سيده، وأن يستصحب المراهقين إذا كان فيهم جلادة وغناء في القتال، وكذا لمصلحة سقي الماء، ومداواة الجرحى، ويستصحب النساء لمثل ذلك كما سبق، وفي جواز إحضار نساء أهل الذمة وصبيانهم قولان، أحدهما: نعم، كالمسلمين، والثاني: لا، إذا كان لا قتال فيهم ولا رأي ولا يتبرك بحضورهم.

(7/441)


الخامسة: يمنع المخذل من الخروج في الجيش، فإن خرج، رده، فلو قاتل، لم يستحق شيئا، ولو قتل كافرا، لم يستحق سلبه، والمخذل من يخوف الناس، بأن يقول: عدونا كثير، وخيولنا ضعيفة، ولا طاقة لنا بهم، ونحو ذلك، وفي معناه المرجف والخائن، فالمرجف: من يكثر الاراجيف، بأن يقول: قتلت سرية كذا، أو لحقهم مدد للعدو من جهة كذا، أو لهم كمين في موضع كذا، والخائن: من يتجسس لهم، ويطلعهم على العورات بالمكاتبة والمراسلة، وحكى الروياني وجها، أنه يسهم للمخذل إذا لم ينهه الامام، ووجها أنه يرضخ له، والصحيح الذي قطع به الاصحاب، لا سهم ولا رضخ مطلقا. السادسة: لا يجوز أن يستأجر الامام ولا أحد الرعية مسلما للجهاد، لان إن لم يكن متعينا عليه، فمتى حضر الصف، تعين، ولا يجوز أخذ أجرة عن فرض العين، وعن الصيدلاني أنه يجوز للامام أن يستأجره، ويعطيه أجرة من سهم المصالح، والصحيح الاول، لكن الامام يرغب في الجهاد ببذل الاهبة والسلاح من بيت المال، أو من مال نفسه، فينال ثواب الاعانة، ويقع الجهاد عن المباشر، وكذا إذا بذل أهبته واحد من الرعية من ماله، قال الاصحاب: وما يدفع إلى المرتزقة من الفئ، وإلى المطوعة من الصدقات حقوقهم المرتبة، وليس أجرة، وجهادهم واقع عنهم، ولو أكره الامام جماعة على الخروج والجهاد، لم يستحقوا أجرة لما ذكرنا من وقوع الجهاد عنهم، وامتناع استئجارهم، هكذا أطلقوه، وقال البغوي: إن تعين عليهم الجهاد، فالحكم كذلك، وإلا فلهم الاجرة من حين أخرجهم إلى أن حضروا الوقعة، وأطلق مطلقون أنه لو عين الامام رجلا، وألزمه بغسل الميت ودفنه، لم يكن له أجرة، واستدرك الامام فقال: هذا إذا لم يكن للميت تركة، ولا في بيت المال اتساع، فإن كان له تركة، فمؤنة تجهيزه في تركته، وإلا ففي بيت المال إن اتسع، فيستحق المكره الاجرة، والتفصيلان حسنان، فليحمل عليهما الاطلاقان. وهل يجوز للامام استئجار عبيد المسلمين ؟ قال الامام: إن جوزنا استئجار الحر، فكذا العبد، وإلا فوجهان بناء على أنه لو وطئ الكفار دار المسلمين هل

(7/442)


يتعين على العبيد الجهاد ؟ إن قلنا: نعم، فهم من أهل فرض الجهاد، فإذا وافوا الصف، وقع الجهاد عنهم، فيكون استئجارهم كالاحرار، وإلا فيجوز استئجارهم، وإن أخرج الامام العبيد قهرا، لزمت أجرتهم من يوم الاخراج إلى أن يعود كل عبد إلى يد سيده، هكذا أطلقه البغوي وغيره، وينبغي أن يبنى ذلك على الوجهين إن قلنا: إنهم من أهل فرض الجهاد، فكالاحرار، أما الذمي فللامام أن يستعمله للجهاد بمال يبذله له، وهل طريقه الاجارة أم الجعالة ؟ وجهان، أحدهما: الجعالة، لجهالة العمل، وأصحهما: الاجارة، وتحتمل جهالة العمل، لان ا لمقصود القتال، ولو كان جعالة لجاز للذمي الانصراف متى شاء، وهو بعيد، وعلى هذا وجهان، أحدهما: لا يجوز أن يبلغ بالاجرة سهم راجل، وكان حاصل هذا الوجه الحكم بالانفساخ والرد إلى أجرة المثل إن بان زيادة الاجرة على سهم، وإلا ففي الابتداء لا يعلم سهم الراجل من الغنيمة، والصحيح أنه لا حجر في قدر الاجرة، كسائر الاجارات، وهل لآحاد المسلمين استئجار الذمي للجهاد ؟ وجهان، أصحهما: المنع، لان الآحاد لا يتولون المصالح العامة، وقد يكون في حضوره مفسدة يعلمها الامام دون الآحاد. فرع لو أخرج الامام أهل الذمة، استحب أن يسمي لهم أجرة، فإن ذكر شيئا مجهولا، بأن قال: نرضيكم، أو نعطيكم ما تستعينون به، وجبت أجرة المثل، وإن أخرجهم وحملهم على الجهاد كرها، وجبت أجرة المثل، وإن خرجوا راضين، ولم يسم لهم شيئا، فهذا موضع الرضخ، وفي محله أقوال سبقت في قسم الغنيمة، وأما الاجرة الواجبة، مسماة كانت أو أجرة المثل، فهل تؤدى من خمس الخمس سهم المصالح من هذه الغنيمة أو غيرها، أم من أصل الغنيمة، أم من أربعة أخماسها ؟ أوجه، أصحها: الاول، وهو نصه في المختصر وقطع به جماعة. فرع لو أخرجهم قهرا، ثم خلى سبيلهم قبل وقوفهم في الصف، أو هربوا ولم يقفوا، لم يجب لهم إلا أجرة الذهاب، وإن تعطلت منافعهم في الرجوع، لانهم يتصرفون حينئذ كيف شاؤوا، ولو وقف المقهورون ولم يقاتلوا، فهل لهم أجرة مدة الوقوف ؟ وجهان، أصحهما: لا، فعلى هذا إن لم يكن عليهم حبس وقهر، فلا شئ لهم، وإلا ففيه الخلاف في أن منفعة الحر هل تضمن بالحبس والتعطيل دون الاستيفاء ؟ ولو استأجر الذمي فلم يقاتل، ففي استحقاقه الوجهان.

(7/443)


السابعة: فيمن يمتنع قتله من الكفار في الحرب، فيكره للغازي قتل قريبه، فإن كان القريب محرما ازدادت الكراهة، فإن سمع أبا، أو قريبا آخر يذكر الله تعالى، أو رسوله - صلى الله عليه وسلم - بسوء، لم يكره قتله، ويحرم قتل نساء الكفار وصبيانهم والمجانين والخناثى، فإن قاتلوا، جاز قتلهم، ولو أسر منهم مراهق، وشككنا في بلوغه، كشفت عانته، فإن كان أنبت، حكم ببلوغه، وإلا فهو صبي، وقد سبق في كتاب الحجر قولان في أن الانبات بلوغ أم دليل بلوغ، فإن قال المأسور: استعجلت الشعر بالدواء، فإن قلنا: هو بلوغ، لم يقبل قوله، بل يحكم ببلوغه، وإن قلنا: دليل البلوغ وهو الاظهر، فيصدق بيمينه، ويحكم بالصغر، هكذا نص عليه وبه أخذ الاصحاب وذكروا فيه إشكالين، أحدهما: أن اليمين تعمل في النفي وهذه لاثبات الاستعجال، وأجيب بأنا فعلناه لحقن الدم، وقد يخالف القياس لذلك، ولهذا قبلنا جزية المجوس دون نكاحهم، والثاني: كيف يحلف من يدعي الصبى، فقال بعض الاصحاب: اليمين احتياط أو استظهار لا واجبة، وقال الجمهور: لا بد منها، لان الدليل الظاهر موجود، فلا يترك بمجرد قوله، وقد سبق في الحجر أن المعتبر الشعر الخشن دون اللين، وأن في إلحاق شعر الابط والوجه الخشن بالعانة وجهين، ونبات الشارب كاللحية، ولا أثر لاخضراره. الثامنة: في جواز قتل الراهب، شيخا كان أو شابا، والاجير والمحترف المشغول بحرفته، والشيخ الضعيف والاعمى والزمن، ومقطوع اليد والرجل قولان، أظهرهما: الجواز. وقيل: يقتل الاجير والمحترف قطعا، فإن كان فيهم من له رأي يستعين الكفار برأيه وتدبير الحرب، قتل قطعا، ثم الذي يفهم من كلام الاصحاب أنه لا فرق بين أن يحضر ذو الرأي في صف القتال، أو لا يحضر في أنه يجوز قتله، ولا بين أن يقدر على الاخرق منهم في صف القتال، أو يدخل بعض بلادهم، فيجده هناك في أن في قتله القولين، وفي السوقة طريقان، المذهب: القطع بقتلهم، والثاني: على القولين، فإن جوزنا قتل هؤلاء، جاز استرقاقهم، وسبي نسائهم وصبيانهم، واغتنام أموالهم، وإلا فالمذهب أنهم يرقون بنفس الاسر كالنساء، وقيل: قولان، كأسير إذا أسلم قبل الاسترقاق، ففي قول: يتقين رقه، وفي قول: للامام أن يرقه وأن يمن عليه، أو يفاديه، وقيل: لا يجوز استرقاقهم، بل يتركون ولا يتعرض لهم، ويجوز سبي نسائهم وصبيانهم على الاصح، وقيل: لا يجوز،

(7/444)


وقيل: يجوز سبي نسائهم دون صبيانهم، لانهم أبعاضهم، وأجرى بعضهم الخلاف في اغتنام الاموال، قال الامام: من منع اغتنام أموال السوقة، فقد قرب من خرق الاجماع، ولو ترهبت امرأة، ففي جواز سبيها وجهان بناء على قتل الراهب. فرع لا يجوز قتل رسول الكفار. التاسعة: يجوز للامام محاصرة الكفار في بلادهم، والحصون والقلاع، وتشديد الامر عليهم بالمنع من الدخول والخروج، وإن كان فيهم النساء والصبيان، واحتمل أن يصيبهم، ويجوز التحريق بإضرام النار ورمي النفط إليهم، والتغريق بإرسال الماء، ويبيتهم وهم غافلون، ولو تترسوا بالنساء والصبيان، نظر إن دعت

(7/445)


ضرورة إلى الرمي والضرب، بأن كان ذلك في حال التحام القتال ولو تركوا لغلبوا المسلمين، جاز الرمي والضرب، وإن لم تكن ضرورة، بأن كانوا يدفعون بهم عن أنفسهم واحتمل الحال تركهم، فطريقان. أصحهما: على قولين، أحدهما: يجوز رميهم، كما يجوز نصب المنجنيق على القلعة وإن كان يصيبهم، ولئلا يتخذوا ذلك ذريعة إلى تعطيل الجهاد، والثاني: المنع، وهذا أصح عند القفال، ومال إلى ترجيح الاول مائلون. والطريق الثاني: القطع بالجواز ورد المنع إلى الكراهة، وقيل: في الكراهة على هذا قولان، ولو تترسوا بهم في القلعة، فقيل: هذه الصورة أولى بالجواز، لئلا يتخذ ذلك حيلة إلى استبقاء القلاع لهم، وفي ذلك فساد عظيم، وقيل: قولان، وإن عجزنا عن القلعة إلا به. قلت: الراجح في الصورتين، الجواز. والله أعلم. ولو كان في البلدة أو القلعة مسلم، أو أسير، أو تاجر، أو مستأمن، أو طائفة من هؤلاء، فهل يجوز قصد أهلها بالنار والمنجنيق وما في معناهما ؟ فيه طرق، المذهب: أنه إن لم يكن ضرورة، كره ولا يحرم على الاظهر لئلا يعطلوا الجهاد بحبس مسلم فيهم، وإن كانت ضرورة، كخوف ضررهم، أو لم يحصل فتح القلعة إلا به، جاز قطعا، والطريق الثاني: لا اعتبار بالضرورة، بل إن كان ما يرمى به يهلك المسلم، لم يجز، وإلا فقولان، والثالث وبه أجاب صاحب الشامل: إن كان عدد المسلمين الذين فيهم مثل المشركين، لم يجز رميهم، وإن كان أقل، جاز، لان الغالب أنه لا يصيب المسلمين، والمذهب: الجواز، وإن علم أنه يصيب مسلما وهو نصه في المختصر لان حرمة من معنا أعظم حرمة ممن في أيديهم، فإن هلك منهم هالك، فقد رزق الشهادة، قاله أبو إسحاق، ولو رمى بشئ منها إلى القلعة، أو البلدة، فقتل مسلما، فإن لم يعلم أن فيها مسلما، لم يجب إلا الكفارة، وإن علم، وجبت الدية والكفارة، حكاه الروياني.

(7/446)


فرع لو تترس الكفار بمسلمين من الاسارى وغيرهم، نظر إن لم تدع ضرورة إلى رميهم واحتمل الحال الاعراض عنهم، لم يجز رميهم، فإن رمى رام، فقتل مسلما قال البغوي: هو كما لو قتل مسلما في دار الحرب، إن علمه مسلما لزمه القصاص، وإن ظنه كافرا فلا قصاص وتجب الكفارة، وفي الدية قولان، وإن دعت ضرورة إلى رميهم، بأن تترسوا بهم في حال التحام القتال وكانوا بحيث لو كففنا عنهم ظفروا بنا، وكثرت نكايتهم فوجهان، أحدهما: لا يجوز الرمي إذا لم يمكن ضرب الكفار إلا بضرب مسلم، لان غايته أن نخاف على أنفسنا، ودم المسلم لا يباح بالخوف بدليل صورة الاكراه، والثاني وهو الصحيح المنصوص، وبه قطع العراقيون: جواز الرمي على قصد قتال المشركين، ويتوقى المسلمين بحسب الامكان، لان مفسدة الاعراض أكثر من مفسدة الاقدام، ولا يبعد احتمال طائفة للدفع عن بيضة الاسلام ومراعاة للامور الكليات، فإن جوزنا الرمي، فرمى وقتل مسلما، فلا قصاص، فتجب الكفارة، وفي الدية طرق، أصحها وظاهر النص، وبه قال المزني وابن سلمة: إن علم أن المرمي مسلم، وجبت، وإلا فلا، والثاني قاله أبو إسحاق: إن قصده بعينه، وجبت، سواء علمه مسلما أم لا، وإلا فلا، والثالث: قولان مطلقا، والرابع قاله ابن الوكيل: إن علم أن هناك مسلما، وجبت، وإلا فقولان، وإن لم نجوز الرمي، فرمى وقتل، ففي وجوب القصاص طريقان، أحدهما قولان، كالمكره، والثاني: يجب قطعا، كالمضطر إذا قتل رجلا ليأكله، بخلاف المكره، فإنه ملجأ، ولان هناك من يحال عليه وهو المكره. ولو تترس الكفار بذمي أو مستأمن أو عبد، فالحكم في جواز الرمي والدية والكفارة كما ذكرنا، لكن حيث تجب دية، يجب في العبد قيمته، وفي التهذيب أنه لو تترس كافر بترس مسلم، أو ركب فرسه، فرماه مسلم فأتلفه، فإن كان في غير التحام، أو في التحام وأمكنه أن يتوقى الترس والفرس، ضمن، وإن لم يمكنه في الالتحام الدفع إلا بإصابته، فإن جعلناه كالمكره، لم يضمن، لان المكره في المال يكون طريقا في الضمان، وهنا لا ضمان على الحربي حتى يجعل المسلم طريقا، وإن جعلناه مختارا، لزمه الضمان. العاشرة: في حكم الهزيمة، إذا التقى الصفان، قد أطلق الغزالي أنه إن كان

(7/447)


في انهزامه كسر المسلمين، لم يجز الانهزام بحال، وإلا ففيه التفصيل الآتي إن شاء الله تعالى، ولم يتعرض الجمهور لذلك بل قالوا: إذا التقى الصفان، فله حالان، أحدهما: أن لا يزيد عدد الكفار على ضعف عدد المسلمين بل كانوا مثلي المسلمين أو أقل، فتحرم الهزيمة والانصراف إلا متحرفا لقتال، أو متحيزا إلى فئة، فالمتحرف: من ينصرف ليكمن في موضع، ويهجم، أو يكون في مضيق، فينصرف ليتبعه العدو إلى متسع سهل للقتال، أو يرى المصلحة في التحول إلى مضيق، أو يتحول من مقابلة الشمس والريح إلى موضع يسهل عليه القتال. والمتحيز إلى فئة: من ينصرف على قصد أن يذهب إلى طائفة يستنجد بها في القتال، وسواء كانت تلك الطائفة قليلة أو كثيرة، قريبة أو بعيدة، وقيل: يشترط قربها، والصحيح الاول، وعلى هذا هل يلزمه تحقيق عزمه بالقتال مع الفئة المتحيز إليها ؟ وجهان، أصحهما: لا، لان العزم مرخص، فلا حجر عليه بعد ذلك، والجهاد لا يجب قضاؤه، وفي كلام الامام، أن التحيز إنما يجوز إذا استشعر المتحيز عجزا محوجا إلى الاستنجاد لضعف المسلمين، ولعل ما حكيناه عن الغزالي أخذه من هذا، ولم يشترط الاصحاب ما ذكراه وكأنهم رأوا ترك القتال والانهزام في الحال مجبورا بعزمه، وكل واحد من التحرف والتحيز يتضمن العزم على العود إلى القتال، والرخصة منوطة بعزمه، ولا يمكن مخادعة الله تعالى في العزم، هذا الذي ذكرناه من تحريم الهزيمة إلا لمتحرف أو متحيز هو في حال القدرة، أما من عجز بمرض ونحوه، أو لم يبق معه سلاح، فله الانصراف بكل حال، ويستحب أن يولي متحرفا أو متحيزا، فإن أمكنه الرمي بالاحجار، فهل تقوم مقام السلاح ؟ وجهان. قلت: أصحهما: تقوم. والله أعلم. ولو مات فرسه وهو لا يقدر على القتال راجلا، فله الانصراف، ومن غلب على ظنه أنه إن ثبت قتل، هل له الانصراف ؟ وجهان، الصحيح: المنع، ثم المتحيز إلى فئة بعيدة لا يشارك الجيش فيما يغنمونه بعد مفارقته، ولا يبطل حقه مما غنموه قبل مفارقته، هكذا نص عليه، وبمثله أجاب في المتحرف، ومنهم من أطلق بأن المتحرف يشارك، ولعله فيمن لم يبعد، ولم يغب، والنص فيما إذا تحرف، ثم انقطع عن القوم قبل أن يغنموا، وهل يشارك المتحيز إلى فئة قريبة فيما غنموه بعد

(7/448)


مفارقته ؟ وجهان، أصحهما: نعم، لبقاء نصرته والاستنجاد به، فهو كالسرية القريبة تشارك الجيش فيما غنمه. الحالة الثانية: إذا زاد عدد الكفار على مثلي المسلمين، جاز الانهزام، وهل يجوز انهزام مائة من أبطالنا من مائتين، وواحد من ضعفاء الكفار ؟ وجهان، أصحهما: لا، لانهم يقاومونهم لو ثبتوا، وإنما يراعى العدد عند تقارب الاوصاف، والثاني: نعم، لان اعتبار الاوصاف يعسر، فتعلق الحكم بالعدد، ويجري الوجهان في عكسه، وهو فرار مائة من ضعفائنا من مائة وتسعة وتسعين من ضعفائهم، فإن اعتبرنا العدد، لم يجز، وإن اعتبرنا المعنى، جاز، وإذا جاز الفرار، نظر إن غلب على ظنهم أنهم إن ثبتوا ظفروا، استحب الثبات، وإن غلب على ظنهم الهلاك، ففي وجوب الفرار وجهان، وقال الامام: إن كان في الثبات الهلاك المحض من غير نكاية، وجب الفرار قطعا، وإن كان فيه نكاية فوجهان. قلت: هذا الذي قاله الامام هو الحق، وأصح الوجهين، أنه لا يجب، لكن يستحب. والله أعلم. فرع لقي مسلم مشركين، إن طلباه، فله الفرار، وإن طلبهما ولم يطلباه، فهل له أن يولي بعد ذلك ؟ وجهان، أصحهما: نعم، لان فرض الجهاد والثبات إنما هو في الجماعة، ولو ولى النساء، لم يأثمن، فلسن من أهل فرض الجهاد، نص عليه، كما لا إثم على صبي ومغلوب على عقله إذا وليا، ويأثم السكران، ولو قصد الكفار بلدا، فتحصن أهله إلى أن يجدوا قوة ومددا، لم يأثموا، إنما الاثم على من ولى بعد اللقاء. قلت: قال صاحبا " الحاوي " والبحر: تجوز الهزيمة من أكثر من المثلين، وإن كان المسلمون فرسانا والكفار رجالة، وتحرم الهزيمة من المثلين وإن كان المسلمون رجالة والكفار فرسانا، وهذا الذي قالاه فيه نظر، ويمكن تخريجه على الوجهين السابقين في أن الاعتبار بالمعنى أم بالعدد. والله أعلم.

(7/449)


فصل المبارزة جائزة، ولو خرج كافر وطلبها، استحب الخروج إليه، وابتداء المبارزة، لا مستحب ولا مكروه، وقال ابن أبي هريرة: تكره، وأطلق ابن كج استحبابها، والصحيح الاول، وإنما تحسن المبارزة ممن جرب نفسه وعرف قوته وجرأته، فأما الضعيف الذي لا يثق بنفسه، فتكره له المبارزة ابتداء وإجابة، نص عليه، وفيه وجه: أنه يحرم، والصحيح الاول، ويستحب أن لا يبارز إلا بإذن الامير، فلو بارز بغير إذنه، جاز على الصحيح، وبه قطع الجمهور، لان التغرير بالنفس في الجهاد جائز، والثاني: يحرم، لان للامام نظرا في تعيين الابطال. فصل نقل رؤوس الكفار إلى بلاد الاسلام، فيه وجهان، أحدهما: لا يكره للارعاب، والثاني وهو الصحيح، وبه قطع العراقيون والروياني: يكره، ولم يتعرض الجمهور للفرق بين كافر فيه نكاية وغيره، وقال صاحب الحاوي: لا يكره، إن كان فيه نكاية، بل يستحب.
الطرف الثاني : في سبي الكفار واسترقاقهم، وفيه مسائل: إحداها: نساء الكفار وصبيانهم إذا وقعوا في الاسر، رقوا، وكان حكمهم حكم سائر أموال الغنيمة، فالخمس لاهل الخمس، والباقي للغانمين، والعبيد إذا وقعوا في الاسر، كانوا كسائر أموال الغنيمة، لا يتخير الامام فيهم، لان عبد الحربي مال له، واحتج له الشيخ أبو علي بأن عبد الحربي لو أسلم في دار الحرب، ولم يخرج، ولا قهر سيده، لا يزول ملك الحربي عنه، وإذا سباه المسلمون، كان عبدا مسلما، ولا يجوز المن عليه، ويسترق، ولولا أنه مال يخلى سبيله، كالحر، ولما جاز استرقاقه، هكذا ذكره ابن الحداد، وصرح بأنه ليس للامام قتل العبيد، ولا المن عليهم، وتابعه الاصحاب على هذا، وفي المهذب أنه لو رأى الامام قتله لشره وقوته، قتله وضمن قيمته للغانمين، وأما الرجال الاحرار الكاملون إذا أسروا، فالامام مخير بين أن يقتلهم صبرا بضرب الرقبة، لا بتحريق وتغريق، ولا يمثل

(7/450)


بهم، أو يمن عليهم بتخلية سبيلهم، أو يفاديهم بالرجال، أو بالمال، أو يسترقهم، ويكون مال الفداء ورقابهم إذا استرقوا، كسائر أموال الغنيمة، وليس هذا التخيير للتشهي، بل يلزم الامام أن يجتهد ويفعل من هذه الامور الاربعة ما هو الحظ للمسلمين، فإن لم يظهر له وجه الصواب في الحال وتردد، حبسهم حتى يظهر، وسواء في الاسترقاق كان الاسير كتابيا أو وثنيا، وقال الاصطخري: يحرم استرقاق الوثني، لانه لا يقر بالجزية، والصحيح الاول، وسواء كان الكافر من العرب، أو غيرهم على الجديد المشهور، وفي القديم لا يجوز استرقاق العرب، وهل يجوز استرقاق بعض شخص ؟ وجهان، أصحهما: نعم، قال البغوي: فإن منعناه، فضرب الرق على بعضه، رق كله، وكان يجوز أن يقال: لا يرق شئ، وإذا اختار الفداء، جاز بالمال سلاحا كان أو غيره، ويجوز بأسارى المسلمين، فيرد مشركا بمسلم، أو مسلمين، أو مشركين بمسلم، ويجوز أن يفديهم بأسلحتنا التي في أيديهم، ولا يجوز أن يرد أسلحتهم التي في أيدينا بمال يبذلونه، كما لا يجوز أن يبيعهم السلاح، وفي جواز ردها بأسارى المسلمين وجهان. فرع لو قتل مسلم أو ذمي الاسير قبل أن يرى الامام رأيه فيه، عزر ولا قصاص ولا دية، لانه لا أمان له وهو حر إلى أن يسترق، ولذلك يجوز أن يخلى سبيله، والاموال لا ترد إليهم بعد الاغتنام، ولو وقع في الاسر صبي أو امرأة، فقيل: وجبت القيمة، لانه صار مالا بنفس الاسر، ثم إن سبي الصبي وحده، فهو محكوم بإسلامه تبعا للسابي، ففيه قيمة عبد مسلم، وإن كان قاتله عبدا، لزمه القصاص. فرع لو أسر بالغ له زوجة، لم ينفسخ عقد نكاحه بالاسر، فإن فاداه الامام، أو من عليه، استمرت الزوجية، وإن استرقه، ارتفع النكاح حينئذ، وإن أسر صبي له زوجة، انفسخ النكاح بنفس أسره. فرع لو أسر كافر ومعه زوجته وصبيانه، يخير الامام فيه دونهم. المسألة الثانية: إذا أسلم الاسير وهو رجل حر مكلف قبل أن يختار الامام فيه

(7/451)


شيئا، عصم دمه، وهل يصير رقيقا بنفس الاسلام ؟ فيه طريقان، أصحهما: على قولين، أحدهما: نعم، لانه أسير محرم القتل فأشبه الصبي، وأظهرهما: لا يرق، بل للامام أن يسترقه، أو يمن، أو يفادي، والطريق الثاني: القطع بالتخيير، لانه كان ثابتا، فلا يزول، فإن اختار الفداء، فشرطه أن يكون له فيهم عز أو عشيرة يسلم بها ديته ونفسه، وسواء قلنا: يرق، أو يجوز إرقاقه، فأرقه، كان غنيمة، وكذا لو فاداه بمال، كان غنيمة، ولو أسلم قبل أسره والظفر به، عصم دمه وماله، سواء أسلم وهو محصور وقد قرب الفتح، أو أسلم في حال أمنه، وسواء أسلم في دار الحرب، أو الاسلام، ويعصم أيضا أولاده الصغار عن السبي، ويحكم بإسلامهم تبعا له، والحمل كالمنفصل، فلا يسترق تبعا لامه، وهل يعصم إسلام الجد ولد ابنه الصغير ؟ فيه أوجه، أصحها: نعم، والثاني: لا، والثالث: إن كان الابن ميتا، عصم، وإلا فلا، والمجنون من أولاده، كالصغير، فلو كان بلغ عاقلا، ثم جن، عصمه أيضا على الصحيح، ولو أسلمت المرأة قبل الظفر بها، عصمت نفسها ومالها وأولادها الصغار، وحكى الفوراني في الاولاد قولا، وهو شاذ مردود، وأما الاولاد البالغون العقلاء، فلا يعصمهم إسلام الاب لاستقلالهم بالاسلام، وهل يعصم إسلامه قبل الاسر زوجته عن الاسترقاق ؟ نص أنه يجوز استرقاقها، ونص أن المسلم لو أعتق كافرا، فالتحق بدار الحرب، لا يجوز استرقاقه، فقيل: فيهما قولان، أحدهما: لا تسترق زوجته ولا عتيقه لئلا يبطل حقه، كما لا يغنم ماله، والثاني: يسترقان لاستقلالهما، والمذهب تقرير النصين، لان الولاء لا يرتفع وإن تراضيا بخلاف النكاح، ويجري الخلاف في استرقاق حربية نكحها مسلم وهو في دار الحرب، فإن قلنا: لا يعصمها وكانت حاملا عند إسلامه، ففي جواز استرقاقها وجهان، أحدهما: المنع، لان الحمل محكوم بإسلامه، فلا تملك دونه كما لا تباع دونه، وأصحهما: نعم، لانها حربية، فأشبهت غيرها، وإذا استرقت، فإن كان قبل الدخول، انقطع النكاح في الحال، لانه زال ملكها عن نفسها، فملك الزوج أولى، ولانها صارت أمة كافرة، ولا يجوز إمساك أمة كافرة للنكاح، وقيل: يستمر النكاح وإن استرقت، حكاه صاحب التقريب والصحيح الاول، وإن كان بعد الدخول فوجهان، أصحهما: انقطاع النكاح، والثاني: يتوقف مدة العدة، فإن أعتقت، وأسلمت قبل انقضاء العدة، استمر النكاح، وكذا

(7/452)


لو أعتقت ولم تسلم، لان إمساك الحرة الكتابية للنكاح جائز، فلو أسلمت ولم تعتق، فإن كان الزوج ممن يجوز له نكاح الامة، فله إمساكها، وإلا ففي جواز إمساكها وجهان، ولو أسلم بعد ما استرقت زوجته الحامل، حكم بإسلام الحمل، ولم يبطل رقه، ولو أسلمت حامل تحت حربي، لم تسترق هي ولا ولدها، لانهما مسلمان. فرع لو استأجر مسلم دار حربي في دار الحرب، ثم غنمها المسلمون، أو استأجر حربيا رقيقا، أو حرا، فاسترق، لم تنقطع الاجارة، بل يبقى للمستأجر استحقاق المنفعة، لان منافع الاموال مملوكة ملكا تاما مضمونة، كأعيان الاموال بخلاف منفعة البضع، فإنها تستباح، ولا تملك ملكا تاما، ولهذا لا تضمن باليد، وقيل: في انقطاع الاجارة خلاف كانقطاع النكاح. فرع يجوز سبي منكوحة الذمي إذا كانت حربية، وينقطع به نكاحه، وأما سبي عتيقه واسترقاقه فيبنى على استرقاق عتيق المسلم، إن جوزناه، فهنا أولى، وإلا فوجهان، أصحهما: يجوز، لان الذمي لو التحق بدار الحرب، استرق، فعتيقه أولى، ولو أعتق ذمي عبدا، ثم نقض السيد العهد وصار حربيا، فالصحيح أن ولاءه على عتيقه لا يبطل، حتى لو عتق كان ولاؤه باقيا عليه، ولمعتقه أيضا الولاء على عتيقه، ولو ملك عتيقه، كان لكل واحد منهما الولاء على الآخر، وفي وجه يبطل باسترقاقه ولاؤه على عتيقه، كما يبطل ملكه على عبده. فرع إذا سبي الزوجان معا، أو سبي أحدهما، انفسخ النكاح، صغيرين كانا أو كبيرين، واسترق الزوج، وسواء كان قبل الدخول أو بعده، لقول الله تعالى: * (والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم) * ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: لا توطأ حامل حتى تضع ولم يفرق، ولان الرق يزيل ملكها عن نفسها، فعصمة النكاح أولى

(7/453)


بالزوال، وإن كان الزوجان رقيقين، فغنما، أو أحدهما، ففي انقطاع النكاح وجهان، سواء أسلما أم لا، أصحهما: لا ينقطع إذا لم يحدث رق، وإنما انتقل من شخص إلى شخص، فأشبه البيع وغيره، والثاني: ينقطع، لحدوث السبي، ولهذا لو سبيت مستولدة، صارت قنة، ومنهم من قطع بالاول. المسألة الثالثة: لو كان لمسلم على حربي دين، فاسترق، لم يسقط الدين، فلو كان الدين للسابي، ففي سقوطه الوجهان فيمن كان له دين على عبد غيره فملكه، وإذا لم يسقط، قضى من الغنيمة بعد استرقاقه ويقدم الدين على الغنيمة، كما يقدم على الوصية، وإن زال ملكه بالرق، كما أن الدين على المرتد يقضى من ماله، وإن أزلنا ملكه، ولان الرق كالموت والحجر، وكلاهما يعلق الدين بالمال، فإن غنم المال قبل استرقاقه، ملكه الغانمون، ولم يقض منه الدين، كما لو انتقل ملكه بوجه آخر، وإن غنم مع استرقاقه، فوجهان، أحدهما: يقدم الدين، كما يقدم في التركة، وأصحهما: تقدم الغنيمة، لتعلقها بالعين، كما يقدم حق المجني عليه على حق المرتهن، وليس من المعية أن يقع الاغتنام مع الاسر، لان المال يملك بنفس الاخذ، والرق لا يحصل بنفس الاسر في الرجال الكاملين، ولكن يظهر ذلك في النسوة، وفيما إذا وقع الاغتنام مع إرقاق الامام بعد الاسر، وإذا لم يوجد مال يقضي منه الدين، فهو في ذمته إلى أن يعتق، وهل يحل الدين المؤجل بالرق ؟ وجهان مرتبان على الخلاف في الحلول بالافلاس، وأولى بالحلول، لانه يشبه الموت من حيث إنه يزيل الملك، ويقطع النكاح، هذا إن كان الدين لمسلم، فإن كان لذمي، فمثله أجاب الامام، وقال: دين الذمي محترم، كعين ماله، وذكر البغوي فيه وجهين، وإن كان الحربي، واسترق المدين، فالمحكي عن القاضي حسين وهو الظاهر: سقوط الدين وفيه احتمال للامام، هذا إذا استرق من عليه الدين، أما إذا استرق من له الدين، فلا تبرأ ذمة المدين، بل هو كودائع الحربي المسبي، هذا لفظه في الوسيط ولم ينص والحالة هذه على حال من عليه الدين، وذكر الامام هذا

(7/454)


الجواب فيما إذا استقرض مسلم من حربي، أو اشترى منه شيئا والتزم الثمن ثم استرق المستحق، قال: لا يسقط، وفي التهذيب أنه لو كان لحربي على حربي دين، واسترق من أحدهما، سقط لزوال ملكه، قال: ولو قهر المدين رب الدين، سقط، لان الدار دار حرب، حتى إذا قهر العبد سيده يصير حرا ويصير السيد عبدا له، ولو قهرت أمرأة زوجها، ملكته، وانفسخ النكاح، وقد يفهم من هذه الجملة أنه إن كان دين المسترق على مسلم، طولب به، كما يطالب بودائعه، لانه ملتزم، وإن كان على حربي، سقط، لان المستحق زال ملكه، والحربي غير ملتزم حتى يطالب، ولو اقترض من حربي، أو التزم بالشراء ثمنا، ثم أسلما، أو قبلا الجزية، أو الامان، فالاستحقاق مستمر، وكذا يبقى مهر الزوجة إذا أسلما إن لم يكن خمرا ونحوه، ولو سبق المستقرض إلى الاسلام أو الامان، فالنص أن الدين يستمر، كما لو أسلما، ونص أنه لو ماتت زوجة حربي، فجاءنا مسلما، أو مستأمنا، فجاء ورثتها يطلبون مهرها، لم يكن لهم شئ، وللاصحاب طريقان، أحدهما: فيهما قولان، أظهرهما: يبقى الاستحقاق، وعلى هذا تبتنى قواعد نكاح المشركات، والثاني: المنع، لانه يبعد أن يمكن الحربي من مطالبة مسلم أو ذمي، والطريق الثاني: القطع بالقول الاول، وحمل النص الثاني على من أصدقها خمرا، وقبضته في الكفر، ولو أتلف حربي مالا على حربي، أو غصبه، ثم أسلما، أو أسلم المتلف، فوجهان، أصحهما: لا يطالبه بالضمان، لانه لم يلتزم شيئا، والاسلام يجب ما قبله، والاتلاف ليس عقدا يستدام، ولان الحربي لو قهر حربيا على ماله ملكه، والاتلاف نوع من القهر، ولان إتلاف مال الحربي لا يزيد على إتلاف مال المسلم، وهو لا يوجب الضمان على الحربي، والثاني: يطالب، لانه لازم عندهم، فكأنهم تراضوا عليه، ويزيد على هذا ما نقل عن القاضي حسين أن الحربي لو جنى على مسلم، فاسترق، فأرش الجناية في ذمته، قال الامام: هذا إخلال من ناقل، أو هفوة من القاضي. المسألة الرابعة: إذا سبيت امرأة وولدها الصغير، لم يفرق بينهما في القسمة، بل يقومهما، فإن وافقت قيمتهما نصيب أحد الغانمين، جعلهما له، وإلا اشترك فيهما اثنان، أو باعهما، وجعل ثمنهما في المغنم، فإن فرق بينهما في القسمة، ففي صحتها قولان كما سبق في البيع، فإن صححنا، فعن صاحب

(7/455)


الحاوي أن المتبايعين لا يقران على التفريق، بل يقال لهما: إن تراضيتما ببيع الآخر ليجتمعا في الملك، فذاك، وإلا فسخنا البيع، وقال ابن كج: يقال للبائع: يتطوع بتسليم الآخر، أو يفسخ البيع، فإن تطوع، فامتنع المشتري من القبول، فسخ البيع، ولو رضيت الام بالتفريق، لم يرتفع التحريم على الصحيح رعاية لحق الولد، وأم الام عند عدم الام كالام، فلو كان له أم وجدة، فبيع مع الام، فلا تحريم، وإن بيع مع الجدة، وقطع عن الام، حرم على الاظهر، والاب كالام على الاظهر أو الاصح، وفي الاجداد والجدات من جهة الاب أوجه، ثالثها: يجوز التفريق بينه وبين الاجداد دون الجدات، لانهن أصلح للتربية، ولا يحرم التفريق بينه وبين سائر المحارم، كالاخ والعم وغيرهما، على المذهب، وقيل: هم كالاب، ولو كان له أبوان، حرم التفريق بينه وبين الاب، ويجوز التفريق للضرورة، مثل أن تكون الام حرة، فيجوز بيع الولد، ولو كانت الام لواحد والولد لآخر، فلكل منهما بيع ملكه منفردا، وقد سبق في كتاب البيع أن التحريم هل ينتهي لسن التمييز أم يبقى إلى البلوغ ؟ قولان، أظهرهما: الاول.
الطرف الثالث : في إتلاف أموالهم إن احتاج المسلمون إلى إتلاف أموال الكفار، كتخريب بناء، وقطع شجر، ليكفوا عن القتال أو ليظفروا بهم، فلهم ذلك، وإن لم يحتاجوا، نظر إن لم يغلب على ظنهم حصول ذلك المال للمسلمين، جاز إتلافه مغايظة لهم وتشديدا عليهم، وإن غلب على الظن حصوله، كره الاتلاف، ولا يحرم على الاصح، هذا إذا دخل الامام دارهم مغيرا ولم يمكنه الاستقرار فيها، فأما إذا فتحها قهرا، فيحرم التخريب والقطع، لانها صارت غنيمة، وكذا لو فتحها صلحا على أن تكون لنا، أو لهم، ولو غنما أموالهم وانصرفنا، وخفنا الاسترداد، فإن كانت غير حيوان، جاز إتلافها، لئلا يأخذوها فيتقووا بها، وأما الحيوان، فإن قاتلونا عليه واحتجنا في القتال إلى عقره لدفعهم أو للظفر بهم، جاز، وإن غنمنا خيلهم وماشيتهم، ولحقونا وخفنا الاسترداد، أو ضعف بعضها، وتعذر سوقها، لم يجز عقرها وإتلافها، لكن تذبح للاكل، وإن خفنا أنهم يأخذون الخيل، ويقاتلوننا عليها، ويشتد الامر، جاز إتلافها، ولو لحقونا ومعنا نساؤهم وصبيانهم، وخفنا استردادهم، لم يجز قتلهم قطعا.

(7/456)


فرع لو ظفرنا بكتب لهم مما يحل الانتفاع به، كطب وشعر ولغة وحساب وتواريخ، فلها حكم سائر الاموال، فتباع أو تقسم، وما حرم الانتفاع به، ككتب الكفر والهجو والفحش المحض، لم يترك بحاله بل إن كان في رق أو كاغد ثخين وأمكن غسله، غسل، ثم هو كسائر الاموال، فإن لم يمكن، أبطلت منفعته بتمزيق، ثم الممزق كسائر الاموال، وعن القاضي أبي الطيب أنها تمزق أو تحرق، وضعفوا الاحراق لما فيه من التضييع، لان للمزق قيمة وإن قلت، وكتب التوراة والانجيل مما يحرم الانتفاع به، لانهم بدلوا وغيروا، وإنما نقرها في أيديهم كما نقر الخمر. فرع إذا دخلنا دارهم غزاة، قتلنا الخنازير، وأرقنا الخمور، وتحمل ظروفها إلا أن لا تزيد قيمتها على مؤنة حملها، فنتلفها، وإن وقع كلب ينتفع به للاصطياد أو للماشية والزرع، فحكى الامام عن العراقيين أن للامام أن يسلمه إلى واحد من المسلمين، لعلمه بحاجته إليه، ولا يحسب عليه، واعترض بأن الكلب منتفع به، فليكن حق اليد فيه لجميعهم، كما أن من مات وله كلب لا يستبد به بعض الورثة، والموجود في كتب العراقيين أنه إن أراده بعض الغانمين، أو أهل الخمس ولم ينازعه غيره، سلم إليه، وإن تنازعوا، فإن وجدنا كلابا وامكنت القسمة عددا، قسم، وإلا أقرع بينهم، وهذا هو المذهب وقد سبق في الوصية أنه تعتبر قيمتها عند من يرى لها قيمة، وتعتبر منافعها فيمكن أن يقال به هنا.
الطرف الرابع : في الاغتنام قد سبق في كتاب قسم الغنيمة أن الغنيمة: المال المأخوذ من الكفار بالقهر وإيجاف خيل وركاب، والفئ: ما حصل منهم بلا قتال، وإذا دخل واحد أو شرذمة دار الحرب مستخفين، وأخذوا مالا على صورة السرقة، فوجهان، أحدهما وبه قطع الغزالي، وادعى الامام أنه المذهب المعروف: أنه ملك من أخذه خاصة، والاصح الموافق لكلام الجمهور: أنه غنيمة مخمسة، وقد قال الاصحاب: لو غزت طائفة بغير إذن الامام متلصصين وأخذت مالا، فهو غنيمة مخمسة، وفي التهذيب أن الواحد إذا دخل دار الحرب، وأخذ مال حربي بقتال، أخذ منه الخمس، والباقي له، وإن أخذه على جهة السوم، ثم جحده، أو هرب، فهو له، ولا يخمس، وهذه الصورة قريبة من السرقة، والمأخوذ على صورة اختلاس كالمأخوذ على صورة

(7/457)


السرقة، وقال صاحب الحاوي: هو غنيمة، وعن أبي إسحق أنه فئ، لانه بغير إيجاف خيل، وليكن الوجه القائل باختصاص السارق والمختلس مخصوصا بما إذا دخل واحد أو نفر يسير دار الحرب، وأخذوا، فأما إذا أخذ بعض الجيش بسرقة أو اختلاس، فيشبه أن يكون غلولا، ويدل عليه أن الروياني نقل أن ما يهديه الكافر إلى الامام، أو إلى واحد من المسلمين والحرب قائمة، لا يملكه المهدى إليه بكل حال، وإذا لم يختص المهدى إليه بالهدية، فأولى أن لا يختص سارق بمسروق. فرع المال الضائع الذي يؤخذ في دارهم على هيئة اللقيطة، إن كان مما يعلم أنه للكفار، فالصحيح المنصوص الذي قطع به الجمهور: أنه غنيمة، لا يختص به الآخذ، وقال الامام والغزالي: هو لمن أخذه بناء على أن المسروق لمن أخذه، فإن أمكن كونه للمسلمين، بأن كان هناك مسلمون، أو أمكن أن يكون ضالة بعض الجيش، وجب تعريفه، ثم بعده يعود خلاف الجمهور والامام في أنه غنيمة أم للآخذ ؟ وأما صفة التعريف، فقال الشيخ أبو حامد: يعرفه يوما أو يومين، ويقرب منه قول الامام: يكفي بلوغ التعريف إلى الاجناد إذا لم يكن هناك مسلم سواهم، ولا ينظر إلى احتمال مرور التجار، وفي المهذب والتهذيب يعرفه سنة، ولفظ التهذيب: أنه لو وجد ضالة في دار الحرب لحربي، فهي غنيمة، فالخمس لاهله، والباقي له ولمن معه، ولو وجد ضالة لحربي في دار الاسلام، لم يختص هو بها، بل تكون فيئا، وكذا لو دخل صبي، أو امرأة منهم بلادنا، فأخذه رجل، يكون فيئا، وإن دخل منهم رجل، فأخذه مسلم، كان غنيمة، لان لاخذه مؤنة، وللامام الخيار فيه، فإن استرقه، كان الخمس لاهله، والباقي لمن أخذه بخلاف الضالة، لانها مال للكفار حصل في أيدينا بلا قتال. فرع المباحات التي لم يملكها أحد، كالحطب والحشيش والحجر والصيد البري والبحري، من أخذها، ملكها كدار الاسلام، قال الشافعي رضي الله عنه في المختصر: إلا أن يكون مصنوعا أو صيدا مقرطا أو موسوما، فلا يكون لمن أخذه، يعني إلا أن يكون حجرا مصنوعا بنقر أو نقش، أو منحوتا، والمقرط: في أذنه قرط، ويروى مقرطق، وهو الذي جز صوفه، وجعل على هيئة القرطق، فهذه الاحوال آثار للملك والدار للكفار، فالظاهر أنها كانت لهم، فتكون غنيمة، فإن أمكن كونها لمسلم، فهي كسائر الضوال يجب تعريفها كما سبق.

(7/458)


فصل للغنيمة أحكام، أحدها: يجوز التبسط بتناول أطعمتها، وبعلف الدواب قبل القسمة بلا عوض، فيحتاج إلى بيان جنس المأخوذ، والمنفعة المعتبرة، والاخذ ومكان الاخذ، أما جنسه، فهو القوت وما يصلح به القوت، واللحم والشحم وكل طعام يعتاد أكله على العموم، ولعلف الدواب التبن والشعير وما في معناهما، وذكر الامام فيما ليس بقوت، ولكن يؤكل غالبا، كالفواكه، وجهين، وقطع الجمهور بجواز التبسط في الجميع، وأما الفانيد والسكر والادوية التي تندر الحاجة إليها، ففيها أوجه، الصحيح وبه قال الجمهور: لا تباح لندور الحاجة، فإن احتاج إليها مريض منهم، أخذ قدر حاجته بقيمته، وينبغي أن يقال: يراجع أمير الجيش فيه، والثاني: تباح للحاجة بلا عوض، والثالث: أن ما لا يؤكل إلا تداويا، يحسب عليه، وما يكون للتداوي وغيره، لا يحسب عليه، وأما المنفعة المعتبرة، فمنفعة الاكل والشرب والعلف، وفي جواز أخذ الشحم والدهن لتوقيح الدواب، وهو مسحها بالمذاب، وهو المغلي ولجربها وجهان، أحدهما: الجواز، كعلفها، والاصح المنصوص: المنع، كالمداواة، وعلى الاول ينبغي أن يجوز الادهان بها، ولا يجوز إطعام البزاة والصقور منها بخلاف الدواب المحتاج إليها للركوب والحمل. ولا يجوز أخذ سائر الاموال ولا الانتفاع بها، كلبس ثوب وركوب دابة، فلو خالف، لزمته الاجرة، كما تلزمه القيمة إذا أتلف بعض الاعيان، فإن احتاج لة رد وغيره، قال الروياني: يستأذن الامام ويحسب عليه، ويجوز أن يأذن في لبسه بالاجرة مدة الحاجة، ثم يرده إلى المغنم، ولا يجوز استعمال السلاح إلا أن يضطر إليه في القتال، فإذا انقضت الحرب، رده إلى المغنم، ويجوز ذبح الحيوان المأكول للحمه، كتناول الاطعمة، وقيل: لا يجوز، لندور الحاجة إليه، والصحيح الاول، ثم قال الجماهير: لا فرق بين الغنم وسائر الحيوانات المأكولة، وأشار الامام إلى تخصيص الذبح بالغنم، وصرح به الغزالي، والصواب الاول. ثم ما يذبح يجب رد جلده إلى المغنم، إلا ما يؤكل مع اللحم، ويحرم على الذابح أن يتخذ من جلده سقاء أو حذاء أو شراكا، فإن فعل، وجب رد المصنوع كذلك ولا شئ له في الصنعة، بل إن نقص، لزمه الارش، وإن استعمله، لزمه الاجرة ومتى ذبح ما يجوز ذبحه، هل تلزمه قيمته لندور الحاجة ؟ وجهان، الصحيح:

(7/459)


المنع، كالاطعمة، ودعوى الندور ممنوعة. أما الاخذ وقدر المأخوذ، فيجوز أخذ العلف والطعام لمن يحتاج إليه، فلو كان معه ما يغنيه عنهما، هل له الاخذ ؟ وجهان، أحدهما: لا، لاستغنائه، وأصحهما: نعم، لاطلاق الاحاديث، وكل من أخذ، فليأخذ كفايته، ولا بأس باختلاف قدر ما يأخذون بحسب الحاجة، قال البغوي: ولهم التزود لقطع مسافة بين أيديهم، ولو أكل فوق حاجته، لزمه قيمته، نص عليه، ولو كان معه دابتان فأكثر، فله أخذ علفهن، وفي وجه لا يأخذ إلا علف واحدة، كما لا يسهم إلا لفرس، والصحيح الاول، ولو أخذ غانم فوق حاجته، وضيف به غانما أو غانمين، جاز، وليس فيه إلا أنه تولى إصلاح الطعام لهم وليس له أن يضيف به غير الغانمين، فإن فعل، لزم الآكل الضمان، ويكون المضيف كمن قدم طعاما مغصوبا إلى ضيف فأكله، فينظر أعلم الحال أم جهله، والحكم ما سبق في كتاب الغصب، ولو أتلف بعض الغانمين من طعام الغنيمة شيئا، كان كإتلافه مالا آخر، فيلزمه رد القيمة إلى المغنم، لانه لم يستعمله في الوجه المسوغ شرعا، وما يأخذه لا يملكه بالاخذ، لكن أبيح له الاخذ، كالضيف، ذكره الامام. ولو لحق الجيش مدد بعد انقضاء القتال وحيازة المال، هل لهم التبسط في الاطعمة ؟ وجهان، أصحهما: المنع، وبه قطع البغوي، ووجه الجواز مظنة الحاجة وعزة الطعام هناك، ومن دخل من الغانمين دار الاسلام وقد فضل مما أخذه شئ، ففي وجوب رده إلى المغنم ثلاثة أقوال، أظهرها: يجب، لزوال الحاجة والمأخوذ متعلق حق الجميع، والثاني: لا، لاباحة الاخذ، والثالث: إن كان قليلا لا يبالى به، ككسر الخبز وبقية التبن في المخالي، لم يرد، وإلا فيرد، ومتى وجب الرد، فإن لم تقسم الغنيمة، رده إلى المغنم، وإن قسمت، رده إلى الامام، فإن أمكن قسمته كما قسمت الغنيمة، فعل، وإن لم يكن لنزارة ذلك القدر ولتفرق الغانمين، قال الصيدلاني: يجعل في سهم المصالح، أما مكان الاخذ والتبسط، فهو دار الحرب، فإذا انتهوا إلى عمران دار الاسلام، وتمكنوا من الشراء، أمسكوا، ولو خرجوا عن دار الحرب، ولم ينتهوا إلى عمران دار الاسلام فوجهان،

(7/460)


أصحهما: جواز التبسط، لبقاء الحاجة، والثاني: المنع، لان مظنة الحاجة دار الحرب فنياط الحكم به وعكسه، ولو وجدوا سوقا في دار الحرب: وتمكنوا من الشراء، فقد طرد الغزالي فيه الوجهين لانعكاس الدليلين، وقطع الامام بالجواز وقال: لم أر أحدا منع التبسط بهذا السبب، ونزلوا دار الحرب في إباحة الطعام منزلة السفر في الرخص، فإنها وإن ثبتت لمشقة السفر، فالمرفه الذي لا كلفة عليه يشارك فيها، وذكر أنه لو كان لجماعة من الكفار معنا مهادنة، وكانوا لا يمتنعون من مبايعة من يطرقهم من المسلمين، فالظاهر وجوب الكف عن أطعمة المغنم في دارهم، لانها وإن لم تكن مضافة إلى دار الاسلام، فهي في قبضة الامام بمثابة دار الاسلام فيما نحن فيه للتمكن من الشراء منهم. فرع ليس للغانم أن يقرض ما أخذه من الطعام والعلف لغير الغانمين ولا أن يبيعه، فإن فعل، لزم الآخذ رده إلى المغنم، فلو أقرضه غانما آخر فوجهان، الصحيح عند الجمهور وهو المنصوص: أن للمقرض مطالبة المقترض بعينه أو بمثله من المغنم، لا من خالص ماله، لانه إذا أخذه صار أحق به، ولم تزل يده عنه إلا ببدل. والثاني وهو قول الشيخ أبي حامد، ورجحه الامام: أنه لا مطالبة، ولا يلزمه الرد، لان الآخذ من جملة المستحقين، وإذا حصل في يده، فكأنه أخذه بنفسه، والوجهان متفقان أنه ليس قرضا محققا، لان الآخذ لا يملك المأخوذ حتى يملكه لغيره، فعلى الاول: لو رد عليه من خالص ملكه، لم يأخذه المقرض، لان غير المملوك لا يقابل بالمملوك حتى إذا لم يكن في المغنم طعام آخر، سقطت المطالبة، وإذا رد من المغنم، الاول أحق به لحصوله في يده، وعلى هذا إذا دخلوا دار الاسلام، انقطعت حقوق الغانمين عن أطعمة المغنم، فيرد المستقرض على الامام، وإذا دخلوا دار الاسلام وقد بقي عين المستقرض في يد المقترض، بني على أن الباقي من طعام المغنم هل يجب رده إلى المغنم ؟ إن قلنا: نعم، رده إلى المغنم، وإلا، فإن جعلنا للقرض اعتبارا، رده إلى المقرض، وإلا لم يلزمه شئ. فرع لو باع غانم ما أخذه لغانم آخر، فهذا إبدال مباح بمباح، وهو كإبدال الضيفان لقمة بلقمة، وكل واحد منهما أولى بما صار إليه، ولو تبايعا صاعا

(7/461)


بصاعين، لم يكن ذلك ربا، لانه ليس بمعاوضة محققة. فرع مقتضى ما تكرر أن المأخوذ مباح للغانم غير مملوك أنه لا يجوز له أن يأكل طعام نفسه، ويصرف المأخوذ إلى حاجة أخرى بدلا عن طعامه، كما لا يتصرف الضيف فيما قدم إليه إلا بالاكل. فرع قال الامام: لو قل الطعام، واستشعر الامير الازدحام والتنازع فيه، جعله تحت يده، وقسمه على المحتاجين على قدر حاجاتهم، وله أن يمنع من معه كفايته مزاحمة المحتاجين. الحكم الثاني: سقوط حق الغانمين بالاعراض وفيه مسائل: إحداها: يسقط حق الغانم بالاعراض عن الغنيمة، وتركها قبل القسمة، لان المقصود الاعظم من الجهاد إعلاء الدين، والذب عن الملة، والغنيمة تابعة، فمن أعرض عنها، فقد محض عمله للمقصود الاعظم، ولو قال أحدهم: وهبت نصيبي للغانمين، فإن أراد الاسقاط، سقط حقه، وإن أراد التمليك، فوجهان، أصحهما عند صاحب الشامل: الصحة، وبه قال أبو إسحق، وأقواهما: المنع وبه قال ابن أبي هريرة، وأما بعد القسمة فيستقر الملك، ولا يسقط بالاعراض، كسائر الاملاك، ولو أفرز الخمس، ولم يقسم الاخماس الاربعة فوجهان، ويقال: قولان، الاصح المنصوص: يصح الاعراض، لانه لم يتعين حقه، والثاني خرجه ابن سريج: لا يصح، لان حقهم تميز عن الجهات العامة، فصار كمال مشترك، ولو قال: اخترت الغنيمة، هل يمنع ذلك من صحة الاعراض وجهان، أشبههما: نعم، ولو أعرض جميع الغانمين فوجهان، أصحهما: يصح إعراضهم، فيصرف الجميع إلى مصرف الخمس، لان المعنى المصحح للاعراض يشمل للواحد والجمع، وأما أصحاب الخمس فغير ذوي القربى جهات عامة لا يتصور فيها

(7/462)


إعراض، وفي صحة إعراض ذوي القربى وجهان، أحدهما: نعم، كالغانم، وأصحهما: لا، لانهم يستحقونه بلا عمل، فأشبه الارث، ولو كان من الغانمين محجور عليه بفلس، صح إعراضه، لان اختيار التملك كالاكتساب، فلا يلزمه، ولان الاعراض يمحض جهاده للآخرة، فلا يمنع منه، ولو أعرض محجور عليه بسفه، قال الامام: ففي صحة إعراضه تردد، ولعل الظاهر: المنع، فلو فك حجره قبل القسمة، صح إعراضه، ولا يصح إعراض صبي عن الرضخ، ولا إعراض وليه، فإن بلغ قبل القسمة، صح إعراضه، ولا يصح إعراض العبد عن رضخه، ويصح إعراض سيده، لانه حقه، ولا يصح إعراض مستحق السلب عنه على الاصح، لانه متعين كالوارث، وكنصيبه بعد القسمة. فرع من أعرض من الغانمين، قدر كأنه لم يحضر، وضم نصيبه إلى المغنم، وقيل: يضم إلى الخمس خاصة، والصحيح الاول، ولو مات غانم ولم يعرض، انتقل حقه إلى ورثته، فإن شاؤوا طلبوا، أو أعرضوا. المسألة الثانية: في وقت ملك الغانمين الغنيمة ثلاثة أوجه، أصحها: لا يملكون إلا بالقسمة، لكن لهم أن يتملكوا بين الحيازة والقسمة، لانهم لو ملكوا لم يصح إعراضهم، كمن احتطب، ولان للامام أن يخص كل طائفة بنوع من المال، ولو ملكوا، لم يصح إبطال حقهم عن نوع بغير رضاهم، والثاني: يملكون بالحيازة والاستيلاد التام، لان الاستيلاد على ما ليس بمعصوم من المال سبب للملك،. ولان ملك الكفار زال بالاستيلاد، ولو لم يملكوا، لزال الملك إلى غير مالك، لكنه ملك ضعيف يسقط بالاعراض، والثالث: موقوف، فإن سلمت الغنيمة حتى قسموها، بان أنهم ملكوا بالاستيلاد، وإلا فإن تلفت، أو أعرضوا، تبينا عدم الملك، فعلى هذا قال الامام: لا نقول بان بالقسمة أن حصة كل واحد بعينها، صارت ملكه بالاستيلاد، بل نقول: إذا اقتسموا، بان أنهم ملكوا الغنيمة ملكا مشاعا، ثم بالقسمة تميزت الحصص، وقيل: يتعين بالقسمة أن كل واحد ملك حصته على التعين، وهو ضعيف. واعلم أن في كلام الاصحاب تصريحا بأن

(7/463)


الغانمين وإن لم يملكوا الغنيمة، فمن قال منهم: اخترت ملك نصيبي، ملكه، وقد ذكرنا هذا في كتاب الزكاة، فإذا الاعتبار باختيار التملك لا بالقسمة، وإنما تعتبر القسمة لتضمنها اختيار التملك. فرع ذكروا هنا وفي كتاب الزكاة أن للامام أن يقسم الغنيمة قسمة تحكم، فيخص بعضهم ببعض الانواع وببعض الاعيان، وحينئذ فقولنا: تملك بالقسمة، معناه في غالب الامر، وهو إذا رضي الغانم بالقسمة، أو قبل ما عينه له الامام، فأما إذا رد، فينبعي أن يصح رده، وذكر البغوي فيه خلافا، فقال: إذا أفرز الامام الخمس، وأفرز نصيب كل واحد منهم، أو أفرز لكل طائفة شيئا معلوما، فلا يملكونه قبل اختيار التملك على الاصح، حتى لو ترك بعضهم حقه، صرف إلى الباقين. فرع لو سرق بعض الغانمين من الغنيمة قبل إفراز الخمس، لم يقطع، حرا كان أو عبدا، لان له حقا في خمس الخمس وفي الاخماس الاربعة، وإن سرق بعد إفراز الخمس، نظر إن سرق منه، فلا قطع، وإن سرق من الاخماس قدر نصيبه أو أكثر ولم تبلغ الزيادة نصابا، فلا قطع، وكذا إن بلغته على الاصح، لان حقه متعلق بجميع الغنيمة لجواز إعراض الباقين، فيكون الجميع له، وعلى كل حال يسترد المسروق، وإن تلف، فبدله، ويجعل في المغنم، ولو غل من الغنيمة بعض الغانمين، عزر، وإن سرق غير الغانمين، نظر إن كان له في الغانمين ولد أو والد أو عبد، فهو كسرقة الغانم، وإلا فإن سرق قبل إفراز الخمس، فهو كسرقته مال بيت المال، لان فيه مالا لبيت المال، وإن سرق بعد إفراز الخمس، فإن سرق من الاخماس الاربعة، قطع، وإن سرق من الخمس قبل إخراج خمسه، أو سرق من خمس المصالح بعد إفرازه، فهو سرقة مال بيت المال، وإن سرق من أربعة أخماسه، لم يقطع إن كان من أهل استحقاقها، وإلا فيقطع على الاصح، ووجه المنع أنه يجوز أن يصير منهم. فرع لو وطئ أحد الغانمين جارية من الغنيمة قبل القسمة، فلا حد عليه، وفي قول قديم، يحد، والمشهور الاول، لان له شبهة، لكن يعزر إن كان عالما، وإن كان جاهلا لقرب عهده بالاسلام نهي عنه، ويعرف حكمه، وإذا لم يجب الحد، وجب المهر، ثم ينظر إن كان الغانمون محصورين يتيسر ضبطهم،

(7/464)


ففي قدره وجهان، أحدهما: كل المهر، والصحيح المنصوص: أنه يغرم منه حصة الخمس وحصة غيره من الغانمين وتسقط حصته، وفي قول: إن وقعت الجارية في حصة الواطئ، فلا شئ عليه، وخرج الامام وجها أنها إن وقعت في حصته غيره، وجب له المهر، والمذهب ما سبق عن المنصوص، وإن كان الغانمون غير محصورين، ومعناه أن يعسر ضبطهم لكثرتهم، نظر إن أفرز الامام الخمس، وعين لكل طائفة شيئا، وكانت الجارية معينة لمخصوصين، فإن وطئ بعضهم بعد اختيارهم تملكها، فهذا وطئ جارية مشتركة، فيغرم من المهر قسط شركائه، وإن وطئ قبل اختيارهم التملك، فقيل: هو كما بعد الاختيار، والمذهب أنه كما لو كانوا محصورين في الاصل، إلا أنه لا يخمس المهر هنا، بل يوزع عليهم، فيسقط قسط الواطئ، ويلزمه قسط الباقين، وإن لم يفرز الامام، ولا عين شيئا، غرم الواطئ كل المهر، وضم إلى المغنم، وقسم بين الجميع، فيعود إلى الواطئ حصته، ولا يكلف الامام أن يضبطهم ويعرف حصته لما فيه من المشقة بخلاف ما لو كانوا محصورين وسهل الضبط، قال الامام: وليكن هذا الذي ذكره الاصحاب مخصوصا بما إذا طابت نفس الواطئ بغرم الجميع، فإن قال: أسقطوا حصتي، فلا بد من إجابته. قلت: ظاهر كلام الاصحاب خلاف قول الامام، ويحتمل أخذ هذا القدر منه وإن كان يستحقه للمصلحة العامة والمشقة الظاهرة، ولئلا يقدم بعض المستحقين في الاعطاء على بعض. والله أعلم. أما إذا أحبلها، فحكم الحد والمهر ما ذكرنا، ويزيد أمور. منها: الاستيلاد، فإن كان موسرا، ففي نفوذه في نصيبه طريقان، المذهب أنه لا ينفذ، وبه قطع العراقيون وكثير من غيرهم، فعلى هذا إن ملك الجارية بسهمه، أو بسبب آخر في وقت، ففي نفوذ الاستيلاد قولان يطردان في نظائره، الاظهر: النفوذ، وبه قطع البغوي، وقال صاحب الحاوي: إن كانوا محصورين، ولم يغنموا غير تلك الجارية، نفذ الاستيلاد في حصته قطعا بخلاف ما إذا كان في الغنيمة غيرها، فإنه يحتمل أن يجعل الامام الجارية لغيره، وإذا ثبت

(7/465)


استيلاد نصيبه، سرى ليساره إلى الباقي، وهل تحصل السراية بنفس العلوق، أم بأداء قيمة نصيب الشريك ؟ قولان موضعهما كتاب العتق، قال الامام والغزالي: ويحصل اليسار بحصته من المغنم لغيرها، فإن لم تف حصته من غير تلك الجارية بالقيمة، سرى بقدر الحصة، وكان يمكن أن يخرج ذلك على أن الملك في الغنيمة هل يحصل قبل القسمة ؟ إن قلنا: لا، لم يكن موسرا يدل عليه أن الامام ذكر أن الحكم بغناه موقوف على أن لا يعرض ويستقر ملكه، فإن أعرض، تبينا أنه لم يكن غنيا، ولا تقول: حق السراية يلزمه أن يتملك، لان التملك كابتداء كسب، ومتى حكمنا بالاستيلاد في الحال، أو بعد وقوعه في حصته، لزمه القيمة، ثم هو في سقوط حصته، وأخذ الجميع بحسب انحصار القوم، وعدم انحصارهم على ما ذكرنا في المهر، وإن لم نحكم بالاستيلاد، فإن تأخرت القسمة حتى وضعت، جعلت في المغنم ودخلت في القسمة فإن دخلها نقص بالولادة لزمه الارش، وأما قبل الوضع، فهي حامل بحر وبيع الحامل بحر لا يصح على الاصح كما سبق في البيع، وإذا جعلنا القسمة بيعا، لم يكن ادخالها في القسمة فهل تقوم عليه وتؤخذ من قيمتها وتجعل في المغنم لانه بالاحبال حال بين الغانمين وبينها بيعا وقسمة أم تسلم إليه بحصته إن احتملتها أم يجوز ادخالها في القسمة للضرورة ؟ فيه خلاف أم إذا كان معسرا، فإن كانوا محصورين أو غير محصورين وأفرز الامام الجارية لطائفة ففي ثبوت الاستيلاد في حصته الخلاف المذكور في حصته المسر فإن أثبتنا فلا سراية وإن كانوا غير محصورين ولم يفرزها فلا استيلاد في الحال فإن وقعت في حصته، ثبت الاستيلاد حينئذ، وإن حصل له بعضها، ثبت في ذلك البعض. ومنها: الولد، وهو حر نسيب، وهل تلزمه قيمته ؟ يبنى على أن الجارية هل

(7/466)


تقوم عليه ؟ إن قلنا: نعم، فلا، لانها ملكه حين الولادة، وإن قلنا: لا، فنعم، لانه منع رقه بوطئه، ثم حكم قيمة الولد حكم المهر، هذا إذا كان موسرا وثبت في حصته ولم يسر، فهل ينعقد الولد حرا كله أم قدر حصته حر والباقي رقيق ؟ قولان أو وجهان، أحدهما: كله حر، لان الشبهة تعم الجارية، وحرية الولد تثبت بالشبهة وإن لم يثبت الاستيلاد، ولهذا لو وطئ جارية غيره وهو يظنها أمته أو زوجته الحرة، انعقد الولد حرا وإن لم يثبت الاستيلاد، ووجه الثاني أنه تبع للاستيلاد وهو متبعض بخلاف الشبهة فإنها ناشئة من ظن لا يتبعض، فعلى هذا لو ملك باقي الجارية بعد ذلك بقي الرق فيه، لانها علقت في غير ملكه برقيق، وإن قلنا: جميعه حر، ففي ثبوت الاستيلاد في باقيها إذا ملكه قولان، لانه أولدها حرا في غير ملك، وهذا الخلاف في تبعيض حرية الولد يجري فيما إذا أولد أحد الشريكين المشتركة وهو معسر، فإن قلنا: جميعه حر، لزم المستولد قيمة حصة الشركاء من الولد، وهذا هو الاصح، وكذا قاله القاضي أبو الطيب والروياني وغيرهما، وسواء في ترجيح حرية جميعه استيلاد أحد الغانمين واستيلاد أحد الشريكين، وسئل القاضي حسين عمن أولد امرأة، نصفها حر، ونصفها رقيق بنكاح أو زنى، كيف حال الولد ؟ فقال: يمكن تخريجه على الوجهين في ولد المشتركة من الشريك المعسر، ثم استقر جوابه على أنه كالام حرية ورقا، قال الامام: وهذا هو الوجه، لانه لا سبب لحريته إلا حرية الام فيتقدر بها، ثم ما ذكرناه من ثبوت الاستيلاد في حصة المعسر، والخلاف في حال الولد موضعه ما إذا انحصر المستحقون، فإن لم ينحصروا، فقال البغوي: إن قلنا عند الانحصار: كل الولد حر، أخذ منه قيمته، وجعلت في المغنم، وقسم على الجميع، وإن قلنا: الحر بعضه، كان كله هنا رقيقا، ثم الامام يجتهد حتى تقع الام والولد في حصة الواطئ، فإن وقعا فيها، فهي أم ولد والولد حر، وإن وقع البعض، ثبت الاستيلاد بقدره، وعتق من الولد بقدر ما يملك، هذا كلام البغوي، ولك أن تقول: قد سبق أن للامام أن يقسم الغنيمة قسمة تحكم، ولا يشترط رضى الغانمين ولا الاقراع، وحينئذ فلا حاجة إلى سعي واجتهاد، بل ينبغي أن يقال: يوقعهما في حصته، أو يوقع بعضهما. وقوله: وعتق من الولد بقدر ما ملك ينبغي أن يجئ فيه الخلاف في أن الولد يعتق كله أو بالحصة، فلعله فرعه على وجه التبعيض أو أراد أن قدر الحصة

(7/467)


يعتق قطعا وفي الباقي الخلاف، وجميع ما ذكرنا إذا كان الاستيلاد قبل القسمة واختيار التملك، وسواء كان قبل إفراز الخمس أم بعده، وقبل القسمة بين الغانمين إذا كانت الجارية من الاخماس الاربعة، فلو كان بعد القسمة وبعد اختيار التملك، فهو كوطئ جاريته أو جارية غيره أو مشتركة، ولا يخفى حكمه، ولو كان بعد القسمة وقبل اختيار التملك، فهو كما قبل القسمة، وفيه وجه أنهم إن كانوا محصورين، أو أفرزت الجارية لطائفة محصورين، فهو كما بعد القسمة واختيار التملك، وقد سبق نظيره، ولو وطئ أحدهم بعد إفراز الخمس جارية من الخمس، فكوطئ الاجنبي، ولو وطئ أجنبي جارية من الخمس، أو قبل إفراز الخمس، ففي وجوب الحد وجهان، أصحهما: يجب، كوطئ جارية بيت المال بخلاف ما لو سرق مال بيت المال، لانه يستحق فيه النفقة دون الاعفاف، والثاني: لا، لانه لمصالح المسلمين، وإن وطئ الاجنبي جارية من الاخماس الاربعة، حد إلا أن يكون له في الغانمين ولد. المسألة الثالثة: إذا أسر من يعتق على بعض الغانمين، ورق بنفس الاسر أو بإرقاقه، فالنص أنه لا يعتق قبل القسمة، واختيار التملك، ونص فيما لو استولد بعض الغانمين جارية من المغنم أنه يثبت الاستيلاد كما سبق، فقيل: فيهما قولان بناء على أن الغنيمة تملك بالحيازة أم لا ؟ إن قلنا: نعم، نفذ، أو غرم القيمة وجعلت في المغنم، وإلا فلا، وقيل: بتقرير النصين، لقوة الاستيلاد، ولهذا ينفذ استيلاد المجنون واستيلاء جارية ابنه دون الاعتاق، وسواء ثبت الخلاف أم لا، فالمذهب منع العتق في الحال، فإن وقع في نصيبه، واختار تملكه، أو وقع بعضه واختاره، عتق عليه ونظر إلى يساره وإعساره في تقويم الباقي، وقال صاحب الحاوي: إن انحصروا، أو لم يكن في الغنيمة غير قريبه، ملك حصته، وإن لم يختر التملك، وعلى هذا لا يقوم عليه الباقي، لانه دخل في ملكه بغير اختياره، ولو أعتق بعض الغانمين عبدا منها، ففي ثبوت العتق في الحال ما ذكرنا من عتق القريب، كذا نقله البغوي وغيره، وقال صاحب الحاوي: لا يعتق بحال بخلاف عتق القريب، فإنه يثبت بلا اختيار وهو أقوى مما يثبت باختيار، ولهذا يعتق على المحجور عليه قريبه إذا ملكه، ولو أعتق، لم ينفذ.

(7/468)


فرع لو كان الغانمون طائفة يسيرة، ووقع في الغنيمة من يعتق عليهم جميعا، لم يتوقف العتق إلا على اختيارهم التملك، ويجئ وجه أنه لا حاجة إلى الاختيار، وإذا اختاروا جميعا، لم يفرض فيه تقديم بعض على بعض. فرع دخل مسلم دار الحرب منفردا، وأسر أباه، أو ابنه البالغ، لم يعتق منه شئ في الحال، لانه لا يصير رقيقا بنفس الاسر، فإن اختار الامام قتله أو المن أو الفداء، فذاك، وإن اختار تملكه، نظر إن لم يختر الآسر التملك، لم يعتق على الصحيح، وإن اختار، صار له أربعة أخماسه، فيعتق عليه، ويقوم الخمس لاهل الخمس إن كان موسرا، ولو أسر أمه، أو بنته البالغة، رقت بنفس الاسر، فإذا اختار الآسر التملك، كان الحكم ما ذكرنا، وألحق ابن الحداد الابن الصغير بالام، وهو هفوة عند الاصحاب، لان المسلم يتبعه ولده الصغير في الاسلام، فلا يتصور منه سبيه، ولو أسر أباه في القتال، زاد النظر في أن الاسير إذا رق هل يكون من السلب ؟ وفيه خلاف سبق في الغنائم. الحكم الثالث في حكم الارض: أرض الكفار وعقارهم تملك بالاستيلاد، كما تملك المنقولات، وأما مكة ففتحت صلحا، هذا مذهب الشافعي والاصحاب رحمهم الله، وقال صاحب الحاوي: عندي أن أسفلها دخل خالد بن الوليد رضي الله عنه عنوة، وأعلاها فتح صلحا، والصحيح الاول، فدورها وعراصها المحياة مملوكة، كسائر البلاد، فيصح بيعها ولم يزل الناس يتبايعونها، وأما سواد العراق، فقال أبو إسحق: فتح صلحا، والصحيح المنصوص أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه فتحه عنوة، وقسمه بين الغانمين، ثم استطاب قلوبهم واسترده،

(7/469)


واختلف الاصحاب فيما فعله بأرضه على وجهين، الصحيح الذي قاله الاكثرون، ونص عليه في كتاب الرهن، وفي سير الواقدي: أنه وقفها على المسلمين وآجره لاهله، والخراج المضروب عليه أجرة منجمة تؤدى كل سنة، والثاني وبه قال ابن سريج: أنه باعه لهم والخراج ثمن منجم، فعلى هذا يجوز رهنه وهبته وبيعه، وعلى الصحيح: لا يجوز ذلك، ويجوز لاهله إجارته بالاتفاق مدة معلومة، ولا تجوز إجارته مؤبدا على الاصح بخلاف إجارة عمر رضي الله عنه مؤبدا، فإنها احتملت لمصلحة كلية، ولا يجوز لغير سكانه أن يزعج ساكنا ويقول: أنا استغله وأعطي الخراج، لانه ملك بالارث المنفعة أو الرقبة، هذا حكم الارض التي تزرع وتغرس، فأما ما في حد السواد من المساكن والدور، فالمذهب جواز بيعها، لان أحدا لم يمنع شراءها، وهل يجوز لمن في يده الارض تناول ثمر أشجارها ؟ إن قلنا: الارض مبيعة، فكذا الشجر والثمر، وإن قلنا: مستأجرة، فوجهان، أحدهما: يجوز له تناولها للحاجة، ويحتمل ذلك كما يحتمل التأييد، وأصحهما: المنع، بل الامام يصرفها وأثمانها إلى مصالح المسلمين. وأما حد السواد، فأطلق جماعة أنه من عبادان إلى حديثة الموصل طولا، ومن عذيب القادسية إلى حلوان عرضا، وهو بالفراسخ مائة وستون فرسخا طولا، وثمانون عرضا، وفي هذا الاطلاق تساهل لما قد علم أن أرض البصرة كانت سبخة أحياها عثمان بن أبي العاصي وعتبة بن غزوان رضي الله عنهما بعد فتح العراق، وهي داخلة في هذا الحد ولا بد من استثنائها، وقد أطلق البغوي أن البصرة لا تدخل في حكم السواد وإن كانت داخلة في حده، وقال صاحب الحاوي: حضرت الشيخ أبا حامد وهو يدرس في تحديد السواد فأدخل فيه البصرة ثم أقبل علي وقال: هكذا تقول ؟ قلت: لا إنما كانت مواتا أحياها المسلمون، فأقبل على أصحابه وقال: علقوا ما يقول، فإن أهل البصرة أعرف بها، ولكن في إطلاق استثناء البصرة تساهل أيضا، والصحيح ما أورده صاحب المهذب وغيره أن البصرة ليس لها حكم السواد

(7/470)


إلا في موضع من شرقي دجلتها يسمى الفرات، وموضع من غربي دجلتها يسمى نهر الصراة. فرع ما يؤخذ من خراج هذه الارض يصرفه الامام في مصالح المسلمين الاهم فالاهم، ويجوز صرفه إلى الفقراء والاغنياء من أهل الفئ وغيرهم، وقدر الخراج في كل سنة على كل جريب شعير درهمان، وجريب الحنطة أربعة دراهم، وجريب الشجر وقصب السكر ستة، والنخل ثمانية، والكرم عشرة، وقيل: النخل عشرة، والزيتون اثنا عشر درهما. فرع لو رأى الامام اليوم أن يقف أرض الغنيمة كما فعل عمر رضي الله عنه، جاز إذا استطاب قلوب الغانمين في النزول عنها بعوض أو بغير عوض، فإن امتنع بعضهم، فهو أحق بماله، وكذا المنقولات والصبيان والنساء لا يجوز رد شئ منها إلى الكفار إلا بطيب أنفس الغانمين، لانهم ملكوها، قال الامام: وليس للامام أن يأخذ الارض قهرا وإن كان يعلم أنهم يتوانون بسببها في الجهاد، ولكن يقهرهم على الخروج إلى الجهاد بحسب الحاجة.
الباب الثالث : في ترك القتال والقتل بالأمان قد تقتضي المصلحة الامان لاستمالته إلى الاسلام، أو إراحة الجيش، أو ترتيب أمرهم، أو للحاجة إلى دخول الكفار، أو لمكيدة وغيرها، وينقسم إلى عام وهو ما تعلق بأهل اقليم أو بلد، وهو عقد الهدنة، ويختص بالامام وولاته، وسيأتي في بابه إن شاء الله تعالى، وإلى خاص وهو ما تعلق بآحاد، ويصح من الولاة والآحاد، والباب معقود لهذا وفيه مسائل: إحداها: إنما يجوز لآحاد المسلمين أمان كافر، أو كفار محصورين، كعشرة ومائة، ولا يجوز أمان ناحية وبلدة، وفي البيان أنه يجوز أن يؤمن واحد أهل قلعة، ولا شك أن القرية الصغيرة في معناها، وعن الماسرجسي أنه لا يجوز أمان واحد لاهل قرية وإن قل عدد من فيها، والاول أصح، وضابطه أن لا ينسد به باب

(7/471)


الجهاد في تلك الناحية، فإذا تأتى الجهاد بغير تعرض لمن أمن، نفذ الامان، لان الجهاد شعار الدين والدعوة القهرية، وهو من أعظم مكاسب المسلمين، ولا يجوز أن يظهر بأمان الآحاد انسداده أو نقصان يحس، قال الامام: ولو أمن مائة ألف من الكفار، فكل واحد لم يؤمن إلا واحدا، لكن إذا ظهر انسداد أو نقصان، فأمان الجميع مردود، ولك أن تقول: إن أمنوهم معا فرد الجميع ظاهر، وإن أمنوهم متعاقبين، فينبغي أن يصح أمان الاول فالاول إلى ظهور الخلل، على أن الروياني ذكر أنه لو أمن كل واحد واحدا، جاز، وإن كثروا حتى زادوا على عدد أهل البلدة. قلت: المختار أنه يصح أمان المتعاقبين إلى أن يظهر الخلل، وهو مطاد الامام. والله أعلم. وسواء كان الكافر المؤمن في دار الحرب، أو في حال القتال أو الهزيمة، أو عند مضيق، بل يصح الامان ما دام الكافر ممتنعا، فأما بعد الاسر، فلا يجوز للآحاد أمانه ولا المن عليه، ولو قال واحد من المسلمين: كنت أمنته قبل هذا، لم يقبل بخلاف ما لو أقر بأمان من يجوز أمانه في الحال، فإنه يصح، ولو قال جماعة: كنا أمناه، لم يقبل أيضا لانهم يشهدون على فعلهم، ولو قال واحد: كنت أمنته، وشهد به اثنان، قبلت شهادتهما.
فرع في جواز عقد المرأة استقلالا وجهان. الثانية : يصح الامان من كل مسلم مكلف مختار، فيصح أمان العبد المسلم وإن كان سيده كافرا، والمرأة والخنثى، والفقير والمفلس، والمحجور عليه بسفه، والمريض والشيخ الهرم، والفاسق وفي الفاسق وجه ضعيف، ولا يصح أمان كافر وصبي ومجنون ومكره، وفي الصبي المميز وجه كتدبيره. الثالثة: ينعقد الامان بكل لفظ يفيد الغرض، صريح أو كناية، فالصريح: أجرتك، أو أنت مجار، أو أمنتك، أو أنت آمن، أو في أماني، أو لا بأس عليك، أو لا خوف عليك، أو لا تخف، أو لا تفزع، أو قال بالعجمية: مترس، وقال

(7/472)


صاحب الحاوي: لا تخف، لا تفزع. كناية. والكناية، كقوله: أنت على ما تحب، أو كن كيف شئت، وتنعقد بالكتابة والرسالة، سواء كان الرسول مسلما أو كافرا، وبالاشارة المفهمة من قادر على العبارة. وبناء الباب على التوسعة. فأما الكافر المؤمن فلا بد من علمه وبلوغ خبر الامان إليه، فإن لم يبلغه، فلا أمان، فلو بدر مسلم فقتله، جاز وإذا خاطبه بالامان، أو بلغه الخبر، فرده، بطل، وإن قبل، أو كان قد استجار من قبل، تم الامان، ولا يشترط قبوله لفظا، بل تكفي الاشارة والامارة المشعرة بالقبول، فإن كان في القتال، فينبغي أن يترك القتال، فلو سكت، فلم يقبل ولم يرد، قال الامام: فيه تردد، والظاهر: اشتراط قبوله، وبه قطع الغزالي، واكتفى البغوي بالسكوت، ولو قال الكافر: قبلت أمانك، ولست أؤمنك فخذ حذرك، قال الامام: هو رد للامان، لان الامان لا يثبت في أحد الطرفين دون الآخر، ويصح تعليق الامان بالاعذار، ولو أشار مسلم إلى كافر في القتال، فانحاز إلى صف المسلمين، وتفاهما الامان، فهو أمان، وإن قال الكافر: ظننت أنه يؤمنني، وقال المسلم: لم أرده، فالقول قول المسلم ولا أمان، ولكن لا يغتال، بل يلحق بمأمنه، وكذا لو دخل بأمان صبي أو مجنون أو مكره، وقال: ظننت صحته، أو ظننته بالغا، أو عاقلا، أو مختارا، ولو قال: علمت أنه لم يرد الامان، فقد دخل بلا أمان، وكذا لو قال: علمت أنه كان صبيا وأنه لا أمان للصبي، ولو مات المسلم المشير قبل البيان، فلا أمان ولا اغتيال.
فرع ما ذكرناه من اعتبار صيغة الأمان هو فيما إذا دخل الكافر بلادنا بلا سبب، فلو دخل رسولا، فقد سبق أن الرسول لا يتعرض له، ولو دخل ليسمع الذكر، وينقاد للحق إذا ظهر له، فكذلك، وقصد التجارة لا يفيد الامان، ولكن لو رأى الامام مصلحة في دخول التجار، فقال: من دخل تاجرا، فهو آمن، جاز، ومثل هذا الامان لا يصح من الآحاد، ولو قال: ظننت أن قصد التجارة يفيد الامان، فلا أثر لظنه ويغتال إذ لا مستند له، ولو سمع مسلما يقول: من دخل تاجرا، فهو آمن، فدخل وقال: ظننت صحته، فالاصح أنه لا يغتال. الرابعة: شرط الامان أن لا يزيد على أربعة أشهر، وفي قول: يجوز ما لم يبلغ سنة، فلو زاد على الجائز، بطل الزائد، ولا يبطل في الباقي على الاصح

(7/473)


تخريجا من تفريق الصفقة، قال الروياني: وإذا أطلق حمل على أربعة أشهر، ويبلغ بعدها المأمن، ويشترط أن لا يتضرر به المسلمون، فلو أمن جاسوسا، أو طليعة لم ينعقد الامان، قال الامام: وينبغي أن لا يستحق تبليغ المأمن، لان دخول مثله خيانة، فحقه أن يغتال، ولو أمن آحادا على مدارج الغزاة، وعسر بسببه مسير العسكر واحتاجوا إلى نقل الزاد، فهو مردود للضرر، ولا يشترط لانعقاد الامان ظهور المصلحة، بل يكفي عدم المضرة. الخامسة: إذا انعقد الامان، صار المؤمن معصوما عن القتل والسبي، فلو قتل، قال الامام: الوجه عندنا أنه يضمن بما يضمن به الذمي، وهو لازم من جهة المسلمين، فليس للامام نبذه، فإن استشعر منه خيانة، نبذه، لان المهادنة تنبذ بذلك، فأمان الآحاد أولى وهو جائز من جهة الكافر ينبذه متى شاء، ولا يتعدى الامان إلى ما خلفه بدار الحرب من أهل ومال، وأما ما معه منهما، فإن تعرض له، اتبع الشرط، وإلا فلا أمان فيه على الاصح، لقصور اللفظ. السادسة: الاسير في أيدي الكفار إذا أمن بعضهم مكرها، لم يصح، وإن أمنه مختارا، لم يصح أيضا على الاصح، لانه مقهور في أيديهم، وقال الامام: إن أمن من هو في أسره، لم يصح، لانه كالمكره معه، وإن أمن غيره، ففيه الوجهان، فإن أبطلنا، فهل يصح ويلزم في حق الآمن ؟ وجهان، أصحهما: المنع.
فرع المسلم إن كان ضعيفا في دار الكفر لا يقدر على إظهار الدين، حرم عليه الاقامة هناك، وتجب عليه الهجرة إلى دار الاسلام، فإن لم يقدر على الهجرة، فهو معذور إلى أن يقدر، فإن فتح البلد قبل أن يهاجر، سقط عنه الهجرة، وإن كان يقدر على إظهار الدين، لكونه مطاعا في قومه، أو لان له هناك عشيرة يحمونه، ولم يخف فتنة في دينه، لم تجب الهجرة، لكن تستحب، لئلا يكثر

(7/474)


سوادهم، أو يميل إليهم، أو يكيدوا له، وقيل: تجب الهجرة، حكاه الامام، والصحيح الاول. قلت: قال صاحب الحاوي: فإن كان يرجو ظهور الاسلام هناك بمقامه، فالافضل أن يقيم، قال: وإن قدر على الامتناع في دار الحرب والاعتزال، وجب عليه المقام بها، لان موضعه دار إسلام، فلو هاجر، لصار دار حرب، فيحرم ذلك، ثم إن قدر على قتال الكفار ودعائهم إلى الاسلام، لزمه، وإلا فلا. والله أعلم.
فرع الأسير المقهور متى قدر على الهرب، لزمه، ولو أطلقوا أسيرا بلا شرط، فله أن يغتالهم قتلا وسبيا وأخذا للمال، وإن أطلقوه على أنه في أمان منهم وهم في أمان منه، حرم عليه اغتيالهم، وإن أطلقوه على أنه في أمان منهم، ولم يستأمنوه، فالصحيح المنصوص أن الحكم كذلك، وعن ابن أبي هريرة: أن له اغتيالهم، ولو تبعه قوم بعد خروجه، فله قصدهم وقتلهم في الدفع بكل حال، ولو أطلقوه وشرطوا عليه أن لا يخرج من دارهم، لزمه الخروج وحرم الوفاء بالشرط، فإن حلفوه أن لا يخرج، فإن حلف مكرها، خرج ولا كفارة، لانه لم تنعقد يمينه، ولا طلاق عليه إن حلفوه بالطلاق، وإن حلف ابتداء بلا تحليف ليتوثقوا به ولا يتهموه بالخروج، نظر إن حلف بعدما أطلقوه، لزمه الكفارة بالخروج، وإن حلف وهو محبوس أن لا يخرج إذا أطلق، فالاصح أنه ليس يمين إكراه، قال البغوي: ولو قالوا: لا نطلقك حتى تحلف أن لا تخرج، فحلف، فأطلقوه، لم يلزمه كفارة بالخروج، ولو حلفوه بالطلاق، لم يقع، كما لو أخذ اللصوص رجلا وقالوا: لا نتركك حتى تحلف أنك لا تخبر بمكاننا، فحلف، ثم أخبر بمكانهم، لا يلزمه الكفارة، لانه يمين إكراه، وليكن هذا تفريعا على أن التخويف بالحبس إكراه. قلت: ليس هو كالتخويف بالحبس، فإنه يلزمه هنا الهجرة والتوصل إليها بما أمكنه. والله أعلم.

(7/475)


وعلى الاحوال لا يغتالهم، لانهم أمنوه، ولو كان عندهم عين مال لمسلم، فأخذها عند خروجه ليردها على مالكها، جاز، فإن شرطوا الامان في ذلك المال، فهل يصير مضمونا عليه ؟ فيه طريقان، أحدهما: أنه على القولين فيما إذا أخذ المغصوب من الغاصب ليرده على مالكه، وعن القفال: القطع بالمنع، لانه لم يكن مضمونا على الحربي بخلاف المغصوب. ولو شرطوا عليه أن يعود إليهم بعد الخروج إلى دار الاسلام، حرم عليه العود، ولو شرطوا أن يعود، أو يبعث إلينم مالا فداء، فالعود حرام وأما المال، فإن شارطهم عليه مكرها، فهو لغو، وإن صالحهم مختارا، لم يجب بعثه، لانه التزام بغير حق، لكن يستحب، وفي قول: يجب، لئلا يمتنعوا من إطلاق الاسارى، وفي قول قديم: يجب بعث المال، أو العود إليهم، والمشهور الاول، وبه قطع الجمهور، قال صاحب البيان: والذي يقتضي المذهب أن المبعوث إليهم استحبابا أو وجوبا لا يملكونه، لانه مأخوذ بغير حق، ولو اشترى منهم الاسير شيئا ليبعث إليهم ثمنه، أو اقترض، فإن كان مختارا، لزمه الوفاء، وإن كان مكرها، فثلاث طرق، المذهب والمنصوص: أن العقد باطل، ويجب رد العين، كما لو أكره مسلم مسلما على الشراء، والثاني: الصحة ويلزم الثمن، لان المعاملة مع الكفار يتساهل فيها، والثالث: قولان، الجديد: البطلان، والقديم: أنه مخير بين رد العين ورد الثمن، ولو لم يجر لفظ بيع، بل قالوا: خذ هذا، وابعث كذا من المال، فقال: نعم، هو كالشراء مكرها، ولو أعطوه شيئا ليبيعه في دار الاسلام، ويبعث إليهم ثمنه، فهو وكيل يجب عليه ما على الوكيل.

(7/476)


السابعة: إذا بارز مسلم كافرا بإذن الامام، أو بغير إذنه وقلنا بالاصح: إنه يجوز، وشرط المتبارزان أن لا يعين المسلمون المسلم، ولا الكفار الكافر إلى انقضاء القتال وجب الوفاء بالشرط، ولم يجز لمن في الصف الاعانة، ثم إن هرب أحدهما، أو قتل المسلم، جاز للمسلمين قصد الكافر، لان الامان كان إلى انقضاء القتال وقد انقضى، فإن شرط الامان إلى العود إلى الصف، وفى به، فإن ولى المسلم عنه، فتبعه ليقتله، أو ترك قتال المسلم وقصد الصف، فلهم قتله لنقضه الامان، ولو أثخن، جاز قتله أيضا لانقطاع القتال، وإذا قصد قتل المثخن، منع، وقيل: فإن شرط له التمكين منه، فهو شرط باطل، لما فيه من الضرر، وهل يفسد به أصل الامان ؟ وجهان، ولو خرج المشركون لاعانة المشرك، خرج المسلمون لاعانة المسلم، فإن كان الكافر استنجدهم، جاز قتله معهم، وكذا لو خرجوا بغير استنجاده فلم يمنعهم، وإن خرجوا بغير إذنه، ومنعهم، فلم يمتنعوا، جاز قتلهم ولم يجز التعرض له، هذا كله إذا شرطا الامان، فإن لم يشرط، ولكن اطردت عادة المتبارزين بالامان، فهو كالمشروط على الاصح، فإن لم يشرط، ولم تجر عادة، فللمسلمين قتله.
فرع لو أثخن المسلم الكافر، فهل يجوز قتله أم يترك ؟ وجهان، نقلهما ابن كج، وينبغي أن يقال: إن شرط الامان إلى انقضاء القتال، جاز قتله، وإن شرط أن لا يتعرض للمثخن، وجب الوفاء بالشرط. الثامنة: مسألة العلج، وهو الكافر الغليظ الشديد، سمي به لانه يدفع بقوته عن نفسه، ومنه سمي العلاج لدفعه الداء وصورتها أن يقول كافر للامام: أدلك على قلعة كذا على أن تعطيني منها جارية كذا، فيعاقده الامام، فيجوز وهي جعالة بجعل مجهول غير مملوك احتملت للحاجة، ولو قال الامام ابتداء: إن دللتني على هذه القلعة، فلك منها جارية كذا، فكذلك الحكم، وسواء كانت المعينة حرة أم أمة لان الحرة ترق بالاسر، ولو شرط العلج أو الامام جارية مبهمة، جاز على الصحيح، ويشترط كون الجعل مما يدل عليه العلج، فلو قال: أعطيك جارية مما عندي، أو ثلث مالي، لم يصح كونه مجهولا كسائر الجعالات، ولو قال مسلم: أدلك على أن تعطيني منها جارية كذا، أو ثلث ما فيها، فوجهان، أصحهما عند الامام:

(7/477)


لا يجوز، لان فيه أنواع غرر، فلا تحتمل مع المسلم الملتزم للاحكام بخلاف الكافر، فإن الحاجة تدعو إليه، لانه أعرف بقلاعهم وطرقهم غالبا، والثاني: يجوز، وبه قال العراقيون للحاجة، فقد يكون المسلم أعرف وهو أنصح، ولان العقد متعلق بالكفار، قال الامام: والوجهان مفرعان على تجويز استئجار المسلم للجهاد، وإلا فلا تصح هذه المعاملة مع مسلم، ولا يستحق أجرة المثل، ثم إذا فتحنا القلعة بدلالة العلج، وظفرنا بالجارية، سلمناها إليه، ولا حق فيها لغيره، وإن دلنا، وفتحناها بغير دلالته، لم يستحقها على الاصح، وإن لم نفتحها، فإن علق الشرط بالفتح، فلا شئ له، وإلا فأوجه، أصحها: لا يستحق شيئا، والثاني: يستحق أجرة المثل، والثالث: يرضخ له، والرابع: إن كان القتال ممكنا والفتح متوقعا قريبا، استحق، وإن لم يتوقع إلا باحتمال نادر، فلا، أما إذا قاتلنا، فلم نظفر، فلا شئ له على المذهب، ولو تركناها، ثم عدنا، ففتحناها بدلالته، فله الجارية على الصحيح، وإن فتحناها بطريق آخر، فلا شئ له على الصحيح، ولو فتحها طائفة أخرى بالطريق الذي دلنا عليه، فلا شئ له عليهم، لانه لم يجر معهم شرط.
فرع إذا لم يكن في القلعة تلك الجارية، فلا شئ له، وكذا لو كانت وماتت قبل الشرط، وإن ماتت بعد الشرط، فالمذهب أنها إن ماتت بعد الظفر، وجب بدلها، لانها حصلت في يد الامام، فتلفت من ضمانه، وإن ماتت قبل الظفر، فلا شئ له، وقيل: قولان في الحالين، فإن قلنا: يجب البدل، فما البدل ؟ بناه الامام على مقدمة في جعل الجعالة، فقال: إذا جعل الجعل عينا، كثوب وعبد، وتمم العامل العمل والعين تالفة، فإن تلفت قبل إنشاء العمل، نظر إن علم العامل تلفها، فلا شئ له، لان المعاقدة كانت مقصورة على تلك العين، فإذا عمل عالما بتلفها، كان كالمتبرع، وإن جهل، فله أجرة المثل لعدم التبرع، وإن تلفت بعد العمل، نظر إن لم يطالبه العامل بتسليمها، فهل يرجع بقيمة العين أو أجرة المثل ؟ قولان بناء على أن الجعل المعين مضمون ضمان العقد، أم ضمان اليد ؟ وفيه قولان، كالصداق، قال الامام: ولا يبعد عندي القطع بأن الجعل يضمن ضمان العقد، لانه ركن في الجعالة وليس الصداق ركنا في النكاح، وإن تلف بعد المطالبة وامتناع الجاعل من التسليم، فإن قلنا بضمان اليد، فالحكم كما سبق، وإن قلنا:

(7/478)


ضمان العقد، فقال القاضي حسين: التلف بعد الامتناع كإتلاف الجاعل، فيكون في قول: كتلفه بآفة فينفسخ العقد ويرجع العامل بأجرة المثل، وفي قول: كإتلاف الاجنبي، فيتخير العامل بين الفسخ والاجارة إذا عرفت المقدمة، فبدل الجارية حيث حكمنا به هو أجرة المثل إن قلنا بضمان العقد، وقيمتها إن قلنا بضمان اليد، هكذا قال الامام، ولكن الاظهر من قولي الصداق وجوب مهر المثل، والموجود لجمهور الاصحاب هنا قيمة الجارية، ثم محل الخلاف إذا كانت جارية معينة، فإن كانت مبهمة ومات كل من فيها من الجواري، وأوجبنا البدل، فيجوز أن يقال: يرجع بأجرة المثل قطعا، لتعذر تقويم المجهول، ويجوز أن يقال: تسلم إليه قيمة من تسلم إليه قبل الموت، ثم البدل الواجب هل يجب في مال المصالح أم في أصل الغنيمة ؟ فيه الخلاف المذكور في الرضخ.
فرع إذا شرط جارية مبهمة ولم يوجد إلا جارية، سلمت إليه، وإن وجد جوار، فللامام التعيين، ويجبر العلج على القبول، لان المشروط جارية وهذه جارية، كما أن للمسلم إليه أن يعين ما شاء بالصفة المشروطة، ويجبر المستحق على القبول، ولو شرط جارية معينة، فلم يجد فيها شيئا سوى تلك الجارية، فهل تسلم إليه ؟ وجهان، أصحهما: نعم، وفاء بالشرط، والثاني: لا، لان سعينا حينئذ يكون للعلج خاصة، والخلاف فيما إذا لم يمكن أن يتملك القلعة، ويديم اليد عليها، لكونها محفوفة ببلاد الكفر، فإن أمكن، وجب الوفاء قطعا. فرع لو وجدنا الجارية مسلمة، نظر إن أسلمت قبل الظفر وهي حرة، لم يجز استرقاقها، وعن ابن سريج أن قولا أنها تسلم إلى العلج، لانه استحقها قبل الاسلام، والمذهب الاول، وإن أسلمت بعد الظفر، فإن كان الدليل مسلما، وصححنا هذه المعاقدة معه، أو كافرا وأسلم، سلمت إليه، وإلا فيبنى على شراء الكافر عبدا مسلما، إن جوزناه، سلمناها إليه، ثم يؤمر بإزالة الملك، وإن لم نجوزه، لم تسلم إليه، وإذا لم تسلم إليه بعد الاسلام، ففي وجوب بدلها طريقان، أحدهما: طرد الخلاف في الموت، لاشتراكهما في تعذر التسليم، والثاني: القطع بالوجوب، والمذهب وجوب البدل، وإن ثبت الخلاف وهو فيما إذا أسلمت بعد الظفر أظهر منه فيما إذا أسلمت قبله، لانها إذا أسلمت بعده تكون مملوكة.

(7/479)


فرع جميع ما ذكرناه فيما إذا فتحت عنوة، فإن فتحت صلحا، نظر إن كانت الجارية المشروطة خارجة عن الامان، بأن كان الصلح على أمان صاحب القلعة وأهله ولم تكن الجارية من أهله، سلمت إلى العلج، وإن كانت داخلة في الامان، أعلمنا صاحب القلعة بشرطنا مع العلج وقلنا له: إن رضيت بتسليمها إليه، غرمنا لك قيمتها وأمضينا الصلح، وتكون القيمة من بيت المال، قاله البغوي، وفي الشامل أنها على الخلاف في الرضخ، وإن لم يرض، راجعنا العلج، فإن رضي بقيمتها أو بجارية أخرى، فذاك، وإلا قلنا لصاحب القلعة: إن لم تسلمها، فسخنا الصلح، ونبذنا عهدك، فإن امتنع، رددناه إلى القلعة، واستأنفنا القتال، هذا هو الصحيح، وبه قطع الجمهور، وعن أبي إسحق أن الصلح في الجارية فاسد، لانها مستحقة. فرع لو كان الامام نازلا بجنب قلعة وهو لا يعرفها فقال: من دلني على قلعة كذا، فله منها جارية، فقال له علج: هي هذه التي أنت عندها، قال ابن كج: المذهب أنه يستحق تلك الجارية إذا فتحت، كما لو قال: من جاءني بعبدي الآبق، فله كذا، فجاء به إنسان من البلد. المسألة التاسعة: إذا دخل كافر دار الاسلام بأمان أو ذمة، كان ما معه من المال والاولاد في أمان، فإن شرط الامان في المال والاهل، فهو تأكيد ولا أمان لما خلفه بدار الحرب، فيجوز اغتنام ماله وسبي أولاده هناك، وعن صاحب الحاوي أنه إن قال: لك الامان، ثبت الامان في ذريته وماله، وإن قال: لك الامان في نفسك، لم يثبت في الذرية والمال، وأطلق الجمهور قالوا: وقد يفترق المالك والمملوك في الدمان، ولهذا لو دخل مسلم دار الحرب بأمان، فبعث معه حربي مالا لشراء متاع، كان ماله في أمان حتى يرده، وإن لم يكن المالك في أمان، وكذا لو بعثه مع ذمي دخل دار الحرب بأمان، وفي قول: لا يكون مع الذمي في أمان، لان أمان الذمي باطل، والمشهور الاول، لان الحربي اعتقد صحته، فوجب رده إليه، ولو دخل حربي دارنا بأمان أو ذمة أو لرسالة فنقض العهد ولحق بدار الحرب، ومن أسباب النقض أن يعود ليتوطن هناك، فلا يسبى أولاده عندنا، وإن مات فأبلغوا، فإذا بلغوا وقبلوا الجزية، تركوا، وإلا

(7/480)


بلغوا المأمن، وما خلفه عندنا من وديعة ودين من قرض أو غيره، فهو في أمان لا يتعرض له ما دام حيا، هذا هو الصحيح، وفيه وجه أنه ينتقض الامان في ماله لانتقاضه في نفسه، لانه يثبت في المال تبعا، ووجه ثالث: أنه إذا لم يتعرض للامان في ماله، حصل الامان فيه تبعا، فينتقض فيه تبعا، وإن ذكره في الامان لم ينتقض، قال الامام: فإذا قلنا بالصحيح، فللكافر أن يدخل دار الاسلام من غير تجديد أمان لتحصيل ذلك المال، والدخول له يؤمنه، كالدخول لرسالة وسماع كلام الله تعالى، ولكن ينبغي أن يعجل في تحصيل غرضه، ولا يعرج على غيره، وكذا لا يكرر العود لاخذ قطعة من المال في كل مرة، فإن خالف، تعرض للقتل والاسر، وهذا الذي ذكره الامام محكي عن ابن الحداد، وقال غيره: ليس له الدخول، وثبوت الامان في المال لا يوجب ثبوته في النفس، وإن قلنا: لا يبقى الامان في ماله كان فيئا، قال الامام: والخلاف في ماله المخلف بعد التحاقه بدار الحرب فأما إذا فارق المال ولم يلتحق بعد بدار الحرب، فالوجه الجزم ببقاء الامان، ويحتمل طرد الخلاف، وإذا نبذ المستأمن العهد، وجب تبليغه المأمن، ولا يتعرض لما معه بلا خلاف، هذا حكم ما تركه في حياته، فلو مات هناك أو قتل وقلنا بالصحيح، وهو بقاء الامان فيه في حياته، فقولان، أحدهما: يكون فيئا، وأظهرهما: أنه لوارثه، فإن لم يكن وارث، فهو فئ قطعا، ولو مات عندنا، فقيل بطرد القولين، والمذهب: القطع برده إلى وارثه، لانه مات والامان باق في نفسه، فكذا في ماله، وهناك انتقض في نفسه، فكذا في ماله، فإن كان وارثه حربيا، فعلى الخلاف في أن الذمي والحربي هل يتوارثان ؟ ولو خرج المستأمن إلى دار الحرب غير ناقض للعهد بل لرسالة أو تجارة ومات هناك، فهو كموته في دار الاسلام، ولو التحق بدار الحرب ناقضا للعهد، فسبي واسترق، بني على ما إذا مات، فإن قلنا: إذا مات يكون لوارثه، وقف، فإن عتق، فهو له، وإن مات رقيقا فقولان، أحدهما: يصرف إلى وارثه كما لو مات حرا، وأظهرهما: يكون فيئا، لان الرقيق لا يورث، وإن قلنا: إذا مات يكون فيئا، فهنا قولان، أحدهما: هذا، والثاني وبه قطع ابن الصباغ: يوقف لاحتمال أن يعتق ويعود بخلاف الموت، فإن عتق، سلم إليه، وإلا فهو فئ على الاصح، وقيل: للسيد، قال الامام: وإذا صرفناه إلى الورثة، احتمل أن يصرف إليهم إرثا، ولا يلزم الكفار، تفضيل شرعنا في منع التوريث من رقيق، ويحتمل أن

(7/481)


لا يصرف إليهم إرثا، بل لانهم أخص به، وإذا قلنا بالتوريث، فهل يرثون إذا مات أم يستند استحقاق الورثة إلى ما قبل جريان الرق ؟ فيه احتمالان للامام، وإذا قلنا: الصرف إلى الورثة، فلهم دخول الاسلام لطلب ذلك المال بغير أمان، ويجئ فيه الوجه السابق في صاحب المال. فرع دخل مسلم دار الحرب بأمان، فاقترض منهم شيئا، أو سرق وعاد إلى دار الاسلام، لزمه رده، لانه ليس له التعرض له إذا دخل بأمان. العاشرة: إذا حاصرنا قلعة أو بلدة، فنزلوا على حكم الامام، جاز، وكذا لو نزلوا على حكم غيره، وشرطه كونه مسلما ذكرا حرا مكلفا عدلا، لانه ولاية حكم، كالقضاء، لكن يجوز أن يكون أعمى، لان المقصود هنا الرأي، فهو كالشهادة بالاستفاضة تصح من الاعمى، وأطلقوا أنه يشترط كونه عالما، وربما قالوا: فقيها، وربما قالوا: مجتهدا، قال الامام: ولا أظنهم شرطوا أوصاف الاجتهاد المعتبرة في المفتي، ولعلهم أرادوا التهدي إلى طلب الصلاح وما فيه النظر للمسلمين، ويكره أن يكون الحكم حسن الرأي في الكفار، ويجوز أن ينزلوا على حكم اثنين، أو على حكم من يختاره الامام، أو من يتفقون عليه مع الامام، ولا يجوز على حكم من يختارونه إلا إذا شرطوا الاوصاف المشروطة، ولو استنزلهم على أن يحكم فيهم بكتاب الله تعالى، كره ذلك، لان هذا الحكم ليس منصوصا في كتاب الله تعالى فيحصل منه اختلاف، هكذا ذكره الروياني، قال البغوي: ولو استنزلهم على أن ما يقضي الله تعالى فيهم ينفذه، لم يجز، لانهم لا يعرفون الحكم فيهم وإذا نزلوا على حكم اثنين، فليتفقا على الحكم، فإن اختلفا، لم ينفذ إلا أن تتفق الطائفتان على حكم، ولو مات أحد الحكمين، أو نزلوا على حكم واحد، فمات قبل الحكم، أو نزلوا على حكم من لا يجوز حكمه، ردوا إلى القلعة إلى أن يرضوا بحكم حاكم في الحال، ولا يجوز للحاكم أن يحكم إلا بما فيه الحظ للمسلمين من القتل والاسترقاق والمن والفداء، وحكى الروياني وجها، أنه لا يجوز الحكم بالمن على جميعهم، واستغربه، ولو حكم بما يخالف الشرع، كقتل النساء والصبيان، لم ينفذ، ولو حكم بقتل المقاتلة وسبي الذرية وأخذ الاموال، جاز. وتكون الاموال غنيمة، لانها مأخوذة بالقهر، وإن حكم باسترقاق من أسلم منهم، وقتل من أقام منهم

(7/482)


على الكفر، أو باسترقاق من أسلم، ومن أقام على الكفر، جاز، وينفذ حكم الحاكم على الامام، فلا يجوز أن يزيد على حكمه في التشديد، ويجوز أن ينقص منه ويسامح، فإذا حكم بغير القتل، فليس له القتل، وإن حكم بالقتل، فله المن، وليس له الاسترقاق على الاصح، لانه ذل مؤبد، وإن حكم بالاسترقاق، فليس له المن إلا برضى الغانمين، لانه صار مالا لهم، وإن حكم بقبول الجزية، فهل يجبرون عليه ؟ وجهان، أصحهما: نعم، لانه حكمه وقد التزموه، فإن قلنا: لا يجبرون، بلغوا المأمن، وإن قلنا: يجبرون، فامتنعوا، فهم كأهل الذمة إذا امتنعوا من بذل الجزية بعد قبولها، وسيأتي الخلاف فيه إن شاء الله تعالى، وطرد الوجهان فيما لو حكم بالمفاداة، ومن أسلم منهم قبل الحكم، حقن دمه وماله، ولم يجز استرقاقه بخلاف الاسير فإنه في قبضة الامام، ومن أسلم بعد الحكم بالقتل، امتنع قتله، فإن كان قد حكم بقتل الرجال وسبي النساء والذرية، لم يندفع بإسلام الرجال إلا قتلهم، وهل يجوز استرقاق المحكوم بقتله إذا أسلم ؟ نقل الروياني وغيره أنه لا يجوز، لانهم لم ينزلوا على هذا الشرط فيطلقهم، ولا يفاديهم بمال، ويجئ على تجويز استرقاقه لو لم يسلم أنه يجوز استرقاقه بعد الاسلام أيضا، ولو حكم بالارقاق، فأسلم المحكوم عليه قبل الارقاق جاز أرقاقه، على الاصح. فرع حاصرنا قلعة، فصالح زعيمها على أمان مائة شخص منهم، صح للحاجة، ويعين الزعيم مائة، فإن عد مائة وأغفل نفسه، جاز قتله.
فصل في مسائل منثورة تتعلق بكتاب السير إذا أسلم كافر وقد لزمه كفارة يمين أو ظهار أو قتل، ففي سقوطها عنه وجهان، نقلهما الشيخ أبو علي، أصحهما: المنع، كالدين، والثاني: نعم، لان الاسلام يجب ما قبله، قال الامام: هذا ضعيف هادم للقواعد. قلت: ولو وجب على ذمي حد زنى فأسلم، نقل ابن المنذر في الاشراف عن نص الشافعي رحمه الله أنه يسقط عنه الحد، وحكاه عن مالك أيضا، ورواية عن

(7/483)


أبي حنيفة، وقال أبو ثور: لا يسقط. والله أعلم. ولو استولى الكفار على أموال المسلمين، لم يملكوها سواء أحرزوها بدار الحرب أم لا، وسواء العقار وغيره، وإذا أسلموا والمال في أيديهم، لزمهم رده إلى أصحابه، وإن غنمه طائفة من المسلمين، لزمهم رده إلى صاحبه، فإن ظهر الحال بعد القسمة، رده من وقع في سهمه، ويعوضه الامام من بيت المال، فإن لم يكن في بيت المال شئ، أعاد القسمة، ونص أنه لو أحرز مشرك جارية مسلم وأولدها، ثم ظفر المسلمون بهم، فالجارية والولد للمسلم، فإن أسلم الواطئ، أخذ مالكها منه المهر وقيمة الولد، قال ابن سريج: هذا محمول على ما إذا وطئ وأولد بعد إسلامه، فيلزمه المهر، والولد حر للشبهة، ولو أسرت مسلمة، فنكحها حربي، أو أصابها بلا نكاح، فأولدها، ثم ظفرنا بهم، لم يسترق أولادها، لانهم مسلمون بإسلامها، ويلحقون الناكح للشبهة، ونص أن جارية المسلم لو استولى عليها كفار، ثم عادت إلى مالكها، فلا استبراء عليه، لان ملكه لم يزل، لكن يستحب، ولو أسرنا قوما، فقالوا: نحن مسلمون أو أهل ذمة، صدقوا بأيمانهم إن وجدوا في دار الاسلام، وإن وجدوا في دار الحرب، لم يصدقوا، ولو دخل حربي دارنا بأمان،

(7/484)


فاشترى عبدا مسلما، وخرج به إلى دار الحرب، فظفر به المسلمون، فإن قلنا: يصح الشراء، فهو غنيمة، وإلا فهو لبائعه، ويلزمه رد الثمن على المستأمن. فرع نص في حرملة، أنه لو أهدى مشرك إلى الامير، أو إلى الامام هدية والحرب قائمة، فهي غنيمة بخلاف ما لو أهدى قبل أن يرتحلوا عن دار الاسلام، فإنه للمهدى إليه. فرع فداء الامير الاسير مستحب، فلو قال مسلم لكافر: أطلق أسيرك ولك علي ألف، فأطلقه، لزمه الالف، ومتى فدى أسيرا بمال بغير سؤال الاسير، لم يرجع عليه به، ولو قال الاسير: افدني بكذا على أن ترجع علي، ففعل، رجع عليه، وكذا لو لم يشرط الرجوع على الاصح، ولو قال الاسير للكافر: أطلقني على كذا، ففعل، أو قال له كافر: افتد نفسك بكذا، ففعل، لزمه ما التزم، والمال الذي فدى الاسير به إذا استولى عليه المسلمون، هل يكون غنيمة أم يرد إلى الفادي ؟ وجهان: قلت: قد سبق عن صاحب البيان أن مقتضى المذهب أنه يرد وهو أصح. والله أعلم. فرع دخل مسلم دار الحرب، فوجد مسلمة أسروها، لزمه إخراجها إن أمكنه. فرع سبق أنه إذا اقتصر في الامان على قوله: أمنتك، هل يتعدى إلى ما معه من أهل ومال ؟ وجهان، وإن تعرض له، تعدى قطعا، وفي البحر تفصيل حسن، حكاه أو بعضه عن الحاوي وهو أنه إن أطلق الامان، دخل فيه ما يلبسه من ثياب، وما يستعمله في حرفته من آلات، وما ينفقه في مدة الامان للعرف الجاري بذلك، ومركوبه إن كان لا يستغني عنه، ولا يدخل غير ذلك، وإن بذل له الامان على نفسه وماله، فالمال أيضا في أمان إن كان حاضرا، سواء أمنه الامام أو غيره، وإن كان غائبا، لم يصح الامان فيه إلا من الامام أو نائبه بالولاية العامة،

(7/485)


وكذلك الذراري يفرق فيهم بين الحاضرين والغائبين، قال: ولو قال: أمنتك في جميع بلاد الاسلام، كان آمنا في جميعها، سواء أمنه الامام أو غيره، وإن قال: أمنتك في بلد كذا، كان آمنا فيه، وفي الطريق إليه من دار الحرب لا غير، وإن أطلق، نظر إن أمنه الامام، كان آمنا في جميع بلاد الاسلام، وإن أمنه والي الاقليم، كان آمنا في محل ولايته، وإن أمنه أحد الرعية، اختص الامان بالموضع الذي يسكنه المؤمن، بلدة كانت أو قرية، وبالطريق إليه من دار الحرب، وإنما يكون آمنا في الطريق إذا اجتاز بقدر الحاجة، قال: وإذا كان الامان مقدرا بمدة، فإن كان مخصوصا ببلد، فله استيفاء المدة بالاقامة فيه، وله الامان بعدها إلى أن يرجع إلى مأمنه، وإن كان عاما في جميع البلاد، انقضى أمانه بمضي تلك المدة، ولا أمان له بعدها للعود، لان ما يتصل من بلاد الاسلام بدار الحرب من محل أمانه، فلا يحتاج إلى مدة الانتقال من موضع الامان وبالله التوفيق.

(7/486)