روضة الطالبين وعمدة المفتين ط العلمية

روضة الطالبين - كتاب الأيمان
فيه ثلاثة أبواب :
الأول : في نفس اليمين وللأئمة عبارات في حقيقة اليمين، أجودها وأصوبها عن الانتقاض والاعتراض عبارة البغوي، قال: اليمين تحقيق الامر أو توكيده بذكر اسم الله تعالى أو صفة من صفاته. ويتعلق بالضبط مسائل إحداها: تنعقد اليمين على المستقبل والماضي، فإن حلف على ماض كاذبا وهو عالم، فهو اليمين الغموس، سميت غموسا، لانها تغمس صاحبها في الاثم أو في النار، وهي من الكبائر، وتتعلق بها الكفارة. فإن كان جاهلا، ففي وجوب الكفارة القولان: فيمن فعل المحلوف عليه ناسيا. الثانية: من سبق لسانه إلى لفظ اليمين بلا قصد، كقوله في حالة غضب أو لجاج أو عجلة أو صلة كلام: لا والله، وبلى والله، لا تنعقد يمينه، ولا يتعلق به

(8/3)


كفارة. ولو كان يحلف على شئ، فسبق لسانه إلى غيره.، فكذلك. وهذا كله يسمى: لغو اليمين. وإذا حلف وقال: لم أقصد اليمين صدق، وفي الطلاق والعتاق والايلاء لا يصدق في الظاهر، لتعلق حق الغير به. قال الامام في الفرق: جرت العادة بإجراء ألفاظ اليمين بلا قصد بخلاف الطلاق والعتاق، فدعواه فيها تخالف الظاهر، فلا يقبل. قال: فلو اقترن باليمين ما يدل على القصد، لم يقبل قوله على خلاف الظاهر. الثالثة: إذا قال غيره: اسألك بالله، أو أقسم عليك بالله، أو أقسمت عليك بالله: لتفعلن كذا، فان قصد به الشفاعة، أو قصد عقد اليمين للمخاطب، فليس بيمين في حق واحد منهما وإن قصد عقد اليمين لنفسه، كان يمينا على الصحيح، كأنه قال: أسألك ثم حلف. وقال ابن أبي هريرة: ليس بيمين وهو ضعيف. ويستحب للمخاطب إبراره، فإن لم يفعل وحنث الحالف، لزمه الكفارة، وإن أطلق ولم يقصد شيئا يحمل على الشفاعة قلت: يسن إبرار المقسم، كما ذكر للحديث الصحيح فيه، وهذا إذا لم يكن في الابرار مفسدة، بأن تضمن ارتكاب محرم، أو مكروه. ويكره السؤال بوجه

(8/4)


الله، ورد من سأل به، للحديث المعروف فيهما. والله أعلم. الرابع: يجوز تعقيب اليمين بالاستثناء وهو قوله: إن شاء الله تعالى، فإن عقب، لم يحنث بالفعل المحلوف عليه ولا كفارة، وهل نقول: انعقدت اليمين ؟ وجهان أحدهما: نعم، لكن المشيئة مجهولة فلا يحنث نقله الروياني، والثاني: لا، نقله البغوي. ويشترط أن يتلفظ بالاستثناء، وأن يقصد لفظه، ويصله باليمين، فلا يسكت بينهما إلا سكتة لطيفة لتذكر أو عي أو تنفس كما ذكرنا في الطلاق، وأن يقصد الاستثناء من أول اليمين، فلو قصده، في خلال اليمين، فوجهان سبقا في الطلاق، وممن صححه الداركى والقاضيان أبو الطيب والروياني، وممن منعه ابن القطان وابن المرزبان وابن كج. ولو قال: إن شاء الله، والله: لافعلن كذا، أو: لا أفعل كذا، صح الاستثناء، وكذا لو قدم الاستثناء، في الطلاق والعتاق، وكذا لو قال: لفلان علي إلا عشرة دراهم مائة درهم وفي هذه الصورة وجه ضعيف، وقال القاضي أبو الطيب: لو قال: إن شاء الله أنت طالق وعبدي حر، أو قال: 0 إن شاء الله أنت طالق عبدي حر، لم تطلق ولم يعتق، لان حرف العطف قد يحذف مع إرادة العطف. ومن هذا القبيل قولنا: التحيات المباركات الصلوات، وليكن هذا فيما إذا نوى صرف الاستثناء إليها جميعا، فإن أطلق فيشبه أن يجئ خلاف في أنه يختص بالجملة الاولى أم يعمهما ؟ ولو قال: أنت طالق وعبدي حر إن شاء الله فيجئ الخلاف في أنه يختص بالجملة الثانية أم يعمهما ؟

(8/5)


. قلت: الصحيح التعميم في الصورتين. والله أعلم. ولو قال: عبدي حر إن شاء الله، أو امرأتي طالق، ونوى صرف الاستثناء إليهما، صح ذكره ابن كج. وكما يجوز أن يقدم الاستثناء ويؤخره، يجوز أن يوسطه. ولو قال: والله لافعلن كذا إن لم يشأ الله أو إلا أن يشاء الله، ففيه خلاف كما سبق في نظيره في الطلاق، والاصح عند ابن كج في قوله: إلا أن يشاء الله أنه لا يحنث. وقال إبرهيم المروزي إن قال: والله لافعلن إلا أن يشاء الله ولم يفعل، حنث، وإن قال: والله لافعلن كذا إلا أن يشاء الله، فلم يفعل، لم يحنث، وإن فعل حنث. فرع قال: والله لادخلن هذه الدار اليوم إلا أن يشاء زيد، وقصد إلا أن يشاء أن لا أدخلها، فقد عقد اليمين على الدخول، فإن دخلها في ذلك اليوم أو لم

(8/6)


يدخل وشاء زيد أن لا يدخل، لم يحنث، وإن شاء أن يدخل فلم يدخل، حنث، وكذا لو لم يعرف مشيئة بأن جن، أو أغمي عليه حتى مضى اليوم، حنث هكذا نقله المزني عن النص، ولو قال: والله لا أدخل إلا أن يشاء زيد الدخول، فإن لم يدخل، لم يحنث، وإن دخل وقد شاء زيد دخوله قبل ذلك، لم يحنث أيضا، وإن كان شاء أن لا يدخل، حنث، ولا تغني مشيئة الدخول بعد ذلك، وإن لم يعرف مشيئته، فرواية الربيع عن الشافعي أنه لا يحنث، والروايتان مختلفتان والصورتان متشابهتان، وللاصحاب فيهما طريقان، أحدهما: القطع بالحنث، وحمل رواية الربيع على ما إذا لم يحصل اليأس من مشيئة، أو أنه رجع عنه ولم يعلم الربيع رجوعه. والثاني فيهما قولان: أظهرهما: يحنث، لان المانع من حنثه المشيئة وقد جعلناها، والثاني: لا، للشك. ولو قال: والله لادخلن إن شاء فلان، إن دخل، فاليمين معلقة بالمشيئة، فلا ينعقد قبلها ولا حكم للدخول قبلها، فإن شاء انعقدت، فان دخل بعده، بر، وإلا حنث. وينظر هل قيد الدخول بزمان أو أطلق ؟ وعند الاطلاق عمره وقت الدخول، فان مات قبله، حكمنا بالحنث قبل الموت، وإن شاء فلان أن لا يدخل أو لم يشأ شيئا، أو لم تعرف مشيئته، فلا حنث لان اليمين لم تنعقد، وكذا لو قال: والله لا أدخل إن شاء فلان أن لا أدخل، فلا تنعقد يمينه حتى يشاء فلان أن لا يدخل. الخامسة: الحلف بالمخلوق مكروه كالنبي والكعبة وجبريل والصحابة والآل. قال الشافعي رحمه الله: أخشى أن يكون الحلف بغير الله تعالى معصية. قال الاصحاب: أي حراما وإثما، فأشار إلى تردد فيه، قال الامام: والمذهب القطع بأنه ليس بحرام، بل مكروه. ثم من حلف بمخلوق لم تنعقد يمينه ولا كفارة في حنثه. قال الاصحاب: فلو اعتقد الحالف في المحلوف به من التعظيم ما يعتقده في الله تعالى كفر، وعلى هذا يحمل ما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من حلف بغير الله تعالى فقد كفر، ولو سبق لسانه إليه بلا قصد لم يوصف بكراهة، بل هو لغو يمين وعلى هذا يحمل ما ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم -

(8/7)


قال: أفلح وأبيه إن صدق. السادسة: إذا قال إن فعلت كذا، فأنا يهودي، أو نصراني، أو برئ من الله تعالى، أو من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو من الاسلام، أو من الكعبة، أو مستحل الخمر أو الميتة، لم يكن يمينا ولا كفارة في الحنث به، ثم إن قصد بذلك تبعيد نفسه عنه لم يكفر، وإن قصد به الرضا بذلك وما في معناه إذا فعله، فهو كافر في الحال. قلت: قال الاصحاب: وإذا لم يكفر في الصورة الاولى، فليقل: لا إله إلا الله محمد رسول الله ويستغفر الله، ويستدل بما ثبت في الصحيحين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من حلف فقال في حلفه: باللات والعزى، فليقل لا إله إلا الله. ويستحب أيضا لكل من تكلم بقبح أن يستغفر الله. وتجب التوبة من كل كلام قبيح محرم، وستأتي صفة التوبة إن شاء الله تعالى في كتاب الشهادات. وقد ذكرت في آخر كتاب الاذكار جملا كثيرة من حكم الالفاظ القبيحة، واختلاف أحوالها وطرق الخروج منها. والله أعلم.

(8/8)


السابعة: قال أهل اللسان: حروف القسم ثلاثة الباء والواو والتاء المثناة فوق، قالوا: والاصل الباء وهي من صلة الحلف، كأن القائل يقول: حلفت بالله، أو أقسمت بالله، أو آليت بالله، ثم لما كثر الاستعمال وفهم المقصود، حذف الفعل، ويلي الباء الواو، لان الباء تدخل على المضمر تقول: بك وبه لافعلن، كما تدخل في المظهر، والواو تختص بالمظهر فتأخرت، والتاء بعد الواو، لانها لا تدخل إلا على الله، فإذا قال بالله - بالباء الموحدة - لافعلن، فإن نوى اليمين، أو أطلق، فهي يمين لاشتهار الصبغة بالحلف لغة وشرعا. وحكى ابن كج خلافا فيما إذا أطلق، والمذهب أنه يمين، وبه قطع الاصحاب، وإن نوى غير ذلك اليمين بأن قال: أردت بالله وثقت، أو اعتصمت بالله أو أستعين أو أؤمن بالله ثم ابتدأت لافعلن، فالمذهب وبه قطع العراقيون والبغوي والروياني وغيرهم: أنه ليس بيمين، واستبعد الامام هذا وجعله زللا أو خللا من ناسخ. ونقل أنه لو نوى غير اليمين وادعى التورية لم يقيل فيما تعلق بحق ادمي، وهل يدين باطنا ؟ قبل: وجهان، وقال القاضي حسين: لا يدين قطعا، لان الكفارة تتعلق باللفظ المحرم الذي أظهر ما يخالفه، وأما قوله: والله، فالمذهب أنه كقوله: بالله على ما ذكرنا، وأشار بعضهم إلى القطع بأنه يمين بكل حال، ووجه المذهب أنه قد يريد به القائل والله المستعان ثم يبتدئ لافعلن، وليس في ذلك إلا لحن في الاعراب وسيأتي نظائره إن شاء الله تعالى. وأما إذا قال: تالله لافعلن بالمثناة فوق، فالمنصوص هنا وفي الايلاء أنه يمين، وعن نصه في القسامة أنه ليس

(8/9)


بيمين، وللاصحاب فيه طرق، أحدها: العمل بظاهر النص. والثاني: فيهما قولان، والثالث وهو المذهب وبه قال ابن سلمة وأبو إسحق وابن الوكيل: القطع بأنه يمين. قالوا: ورواية النص في القسامة مصحفة إنما هي بالياء المثناة تحت، لان الشافعي رحمه الله علل، فقال: لانه دعاء وهذا إنما يليق بالمثناة تحت. ثم قيل أراد إذا قال يا الله على النداء أو قيل أراد يا لله بفتح اللام على الاستغاثة، وهذا أشبه وأقرب إلى التصحيف، وقيل: ليست مصحفه، بل هي محمولة على ما إذا قال له القاضي: قل: بالله، فقال: تالله، فلا يحسب ذلك، لان اليمين يكون على وفق التحليف، وكذا لو قال: قل: بالله فقال: بالرحمن، لا تحسب يمينه. وعكسه لو قال: قل: الطرف الثاني: في كيفية كفارة اليمين، وهي مختصة باشتمالها على تخيير في الابتداء، وترتيب في الانتهاء، فيتخير الحالف بين أن يطعم عشرة مساكين، أو يكسوهم، أو يعتق رقبة، فإن اختار الاطعام، أطعم كل واحد مدا، والقول في جنس الطعام، وكيفية إخراجه، ومن يصرف إليه، وامتناع إخراج القيمة، وصرف الامداد العشرة إلى بعض، وسائر المسائل على ما سبق في الكفارات، وإن اختار الكسوة، كساهم على ما سنذكره إن شاء الله تعالى، وإن اختار الاعتاق، فلتكن الرقبة بالصفات المذكورة في الكفارات. ولو أطعم بعض العشرة، وكسا بعضهم، لم يجزئه، كما لا يجوز أن يعتق نصف رقبة، ويطعم أو يكسو خمسة، ولو أطعم عشرة، وكسا عشرة، وأعتق رقبة، أو أطعم ثلاثين مسكينا، أو كساهم عن ثلاث كفارات ولم يعين، أجزأه عنهن، فإن عجز عن الخصال الثلاث صام ثلاثة أيام، والقول فيما يحصل به العجز ذكرناه في الكفارات، ومن له أن يأخذ سهم الفقراء أو قال: قل: تالله بالمثناة فوق، فقال: بالله الموحدة، قال القفال: يكون يمينا، لانه أبلغ وأكثر استعمالا، ولو قال: قل: بالله، فقال: والله، قال الامام: فيه تردد، لان الباء والواو لا تكادان تتفاوتان، ولا يمتنع المنع للمخالفة. وهذا المعنى يجئ في مسألة القفال، وهذ الخلاف إذا قال: تالله ولم يقصد اليمين ولا غيرها، فإن نوى غير اليمين، فليس بيمين بلا خلاف، صرح به العراقيون والروياني وغيرهم. قلت: قال الدارمي: لو قال يا الله بالمثناة تحت، أو فالله بالفاء، أو أآلله بالاستفهام ونوى اليمين، فيمين، وإلا فلا. والله أعلم. فرع: لو قال: والله لافعلن برفع الهاء أو نصبها، كان يمينا، واللحن لايمنع الانعقاد، وقال القفال: في الرفع لا يكون يمينا إلا بالنية. فرع: لو حذف حرف القسم، فقال: الله لافعلن كذا بجر الهاء أو نصبها أو رفعها ونوى اليمين، فهو يمين، وإن لم ينو، فليس بيمين في الرفع على المذهب، ولا في الناصب على الصحيح، ولا في الجر على الاصح، لان الرفع يحتمل الابتداء فيبعد الحنث، ويقرب في الجر الاستعارة بالصلة الجارة ويليه النصب بنزع الجار. فرع: لو قال: بله فشداللام كما كانت وحذف الالف بعدها، فهو غير ذاكر لاسم الله تعالى ولا حالف، لان البلة هي الرطوبة، فلو نوى بذلك اليمين، فقال الشيخ أبو محمد والامام الغزالي: وهو يمين ويحمل حذف الالف على اللحن، لان

(8/10)


الكلمة تجري كذلك على ألسنة العوام أو الخواص. قلت: ينبغي أن لا يكون يمينا، لان اليمين لا يكون إلا باسم الله تعالى أو صفته، ولا يسلم أن هذا لحن، لان اللحن مخالفة صواب الاعراب، بل هذه كلمة أخرى (1) والله أعلم. الثامنة: في ضبط ما يحلف به، وفيه طريقان، إحداهما وهي أقصرهما: أن اليمين ينعقد إذا حلف بما مفهومه ذات الباري سبحانه وتعالى، أو صفة من صفاته، والثانية وهي أقرب إلى سياق " المختصر " (2): أنها لا تنعقد إلا حلف بالله، أو باسم من أسمائه، أو صفة من صفاته، وأراد بالقسم الاول أن يذكر ما يفهم منه ذات الله تعالى ولا يحتمل غيره من غير أن يأتي باسم مفرد، أو مضاف من أسمائه الحسنى، وذلك كقوله: والذي أعبده، أو أسحد له، أو أصلي له، والذي فلق الحبة، أو نفسي بيده، أو مقلب القلوب فتنعقد يمينه، سواء أطلق أو نوى الله سبحانه وتعالى أو غيره، وإذا قال قصدت غيره، لم يقبل ظاهرا قطعا، وكذا لا يقبل أيضا فيما بينه وبين الله على الصحيح المعروف في المذهب (3)، وحكي فيه وجه ضعيف. وأما القسم الثاني وهو الحلف بالأسماء، فالاسماء ثلاثة أنواع :
أحدها : ما يختص بالله تعالى ولا يطلق في حق غيره، كالله والاله، والرحمن ورب العالمين، ومالك يوم الدين، وخالق الخلق، والحي الذي لا يموت، والاول الذي ليس قبله شئ، والواحد الذي ليس كمثله شئ، فحكم الحلف به حكم

(8/11)


القسم الاول، وفي كتاب ابن كج: أنه ليس في الاسماء صريح في الحلف إلا بالله، وهذا غريب ضعيف.
النوع الثاني : ما يطلق في حق الله وفي حق غير الله تعالى، لكن الغالب استعماله في حق الله تعالى وأنه يقيد في حق غيره بضرب تقييد، كالجبار والحق والرب والمتكبر والقادر والقاهر، فإن حلف باسم منها ونوى الله تعالى أو أطلق فيمين، وإن نوى غير الله (تعالى) (1) فليس بيمين والخالق والرازق والرحيم من هذا النوع على الصحيح، وبه قطع الجمهور، وقيل من الاول. النوع الثالث : ما يطلق في حق الله تعالى وفي حق غيره ولا يغلب استعماله في أحد الطرفين كالحي والموجود والمؤمن والكريم والغني (2) وشبهها، فإن نوى به غير الله تعالى، أو أطلق فليس بيمين، وإن نوى الله تعالى، فوجهان: أحدهما يمين، وبع قطع صاحبا " المهذب " و " التهذيب "، وفي شرح الموفق به طاهر أن صاحب " التقريب " وأبا يعقوب قطعا به، ونقلاه عن شيوح الاصحاب، والثاني وهو الاصح وبه أجاب الشيخ أبو حامد وابن الصباغ وسائر العراقيين والامام والغزالي: لا يكون يمينا، لان اليمين إنما تنعقد باسم معظم، والاسماء التي تطلق في حق الخالق والمخلوق إطلاقا واحدا ليس لها حرمة ولا عظمة. قلت: الاصح أنه يمين، وبه قطع الرافعي في " المحرر " و صاحب " التنبه " والجرجاني وغيرهما من العراقيين لانه اسم يطلق على الله وقد نواه، وقولهم: ليس له حرمة مردود. والله أعلم. والسميع والبصير أو العليم والحكيم من هذا النوع، لا من الثاني على الاصح، فقد عد البغوي العالم من هذا النوع. واعلم أن ابن كح نقل وجها أن الحلف بأي اسم كان من الاسماء التسعة والتسعين المذكورة في الحديث صريح، ولا فرق بين بعضها وبعض، وهذا غريب، وأما القسم الثالث: فالحلف بالصفات. فمتكلم في صور:

(8/12)


منها: إذا قال: وحق الله (1) لافعلن كذا، فإن نوى به اليمين، فيمين، وإن نوى غيرها من العبادات وغيرها، فليس بيمين، وإن أطلق فوجهان، أحدهما: ليس بيمين، حكي عن المزني وأبي اسحاق، واختاره الامام والغزالي، والصحيح المنصوص الذي قطع به الجمهور أنه يمين، لانه غلب استعماله في اليمين، فتصير هذه القرينة صارفه للفظ إلى معنى استحقاق الالهية والعظمة وقال المتولي: ولو قال وحق الله بالرفع ونوى اليمين فيمين، وإن أطلق، فلا، وإن قاله بالنصب وأطلق فوجهان: والذي أجاب به البغوي المنع في النصب أيضا. ومنها: قوله وحرمة الله، وهو كقوله وحق الله، وقيل هو كقوله وعظمة الله، كما سنذكره إن شاء الله تعالى. ومنها: قوله وقدرة الله، وعلم الله، ومشيئة الله، وسمع الله، وبصر الله فهذه صفات قديمة، فإن نوى بها اليمين، أو أطلق انعقدت يمينه، وإن أراد بالعلم المعلوم، وبالقدرة المقد ورة قيل قوله، ولم يكن يمينا، لان للفاظ محتمل له، ولهذا يقال في الدعاء: اغفر علمك فينا، أي معلومك، ويقال: انظر إلى قدرة الله أي مقدورة، فيكون كقوله: ومعلوم الله، ومقدوره، وخلق الله، وذلك ليس بيمين، وبمثله أجاب الامام في: إحياء الله تعالى، وإن قال: وعظمة الله وكبرياء الله وعزته وجلاله وبقائه، فالحكم كما في العلم والقدرة، ولم يفرقوا بين الصفات المعنوية الزائدة على الذات وغيرها، هذا هو المذهب الذي قطع به الجمهور في هذه الصفات، وحكى الامام وجهان: ان الحلف بهذه الصفات كالحلف بالله. حتى لو قال أردت غير اليمين، لا يقبل ظاهرا، ووجها أنه إن أراد غير اليمين، يقبل في العلم والقدرة، للاحتمال المذكور، ولا يقبل في العظمة والجلال والكبرياء إذ لا يتخيل فيها مثل ذلك الاحتمال، وضعف هذا، وقال: قد يقال عاينت عظمة الله وكبرياءه، ويريد مثل ذلك، ومنها لو قال وكلام (2) الله، انعقدت يمينه، قال البغوي: وكذ لو قال: وكتاب الله وقرآن الله، قال ابراهيم المروذي: وكذا لو

(8/13)


قال: والقرآن أو والمثبت (1) في المصحف، قال المتولي: وإن حلف بالمصحف نطر، إن قال: وحرمة ما هو مكتوب فيه، فهو يمين، وكذا لو قال: وحرمة هذا المصحف، لان احترامه لما هو مكتوب فيه، وك ذا أراد الرق والجلد لم يكن يمينا. قلت: لم يتعرض لما إذا قال: والمصحف، وأطلق، وهو يمين، صرح به بعض الاصحاب، وبه أفتى الامام أبو القاسم الدولعي (2) خطيب دمشق، من متأخري أصحابنا، قال: لانه إنما يقصد به الحلف بالقرآن المكتوب ومذهب أصحابنا وغيرهم من أهل السنة أن القرآن مكتوب في المصاحف محفوظ في الصدور، ولا يقصد الحالف نفس الورق والمداد، ويؤيده أن الشافعي رضي الله عنه، استحسن التحليف بالمصحف، واتفق الاصحاب عليه، ولو لم ينعقد اليمين، به عند الاطلاق لم يحلف (3) به. والله أعلم. وقو قال: والقرآن، وأراد غير اليمين لم يكن يمينا، فقد يراد بالقرآن الخطبة والصلاة. التاسعة: ذا قال: اقسم بالله، أو أقسمت بالله، أو أحلف بالله، أو حلفت بالله فله أحوال: أحدها: أن يقول أردت بالاول الوعد بالحلف، وبالثاني الاخبار عن ماض، فيقبل باطنا، وأما في الظاهر، فإن علم له يمين ماضية قبل قوله في ارادتها بأقسمت وحلفت بلا خلاف، وإلا فالنص أنه يقبل أيضا قوله في إرادة الوعد والاخبار، وقال في الايلاء: إذا قال: أقسمت بالله لا وطئتك، ثم قال، أردت يمينا ماضية لم يقبل، وللاصحاب فيها ثلاثة طرق، المذهب في أن في الايلاء وسائر الايمان

(8/14)


قولين أظهرهما: القبو ل، لظهور الاحتمال، والثاني: المنع، لظهوره في الانشاء، والطريق الثاني: القطع بالمنع، وحمل ما ذكره هنا على القبول باطنا، والثالث: تقرير النصين، والفرق أن الايلاء متعلق حق المرأة، وحق الادمي مبني على المضايقة، وسائر الايمان واجبها الكفارة، وهي حق الله تعالى. الحال الثاني: أن يقول: أردت اليمين، فيكون يمينا قطعا. الحال الثالث: أن يطلق، فالمذهب عند الجمهور أنه يمين، وخالفهم الامام في الترجيح، وقيل: وجهان، وقيل: قولان، وقيل: أقسم صريح، بخلاف أقسمت، وهو ضعيف. قلت: لو قالت: آليت أو أؤلي، فهو كحلف أو أحلف، ذكره الدارمي، وهو ظاهر. والله أعلم. العاشرة: إذا قال أشهد بالله أو شهدت بالله، فإن نوى اليمين، فيمين، وإن أراد غير اليمين، فليس بيمين، وإن أطلق: فالمذهب أنه ليس بيمين، لتردد الصيغة، وعدم اطراد عرف شرغي أو لغوي، ونقل الامام هذا عن العراقيين، وبه قال ابن سلمة. فرع: لو قال أعزم بالله، أو عزمت بالله، لافعلن، فإن نوى غير اليمين، أو أطلق، فليس بيمين، وإن نوى اليمين فيمين. فرع (1): لو قال: أقسم أو أقسمت، أو أحلف أو حلف، أو اشهد أو شهدت، أو اعزم أو عزمت لافعلن كذا، ولم يقل بالله، لم يكن يمينا، وإن نوى اليمين، لانه لم يحلف باسم الله تعالى ولا بصفته. فرع: لو قال الملاعن في لعانه: أشهد بالله وكان كاذبا هل يلزمه الكفادة ؟ وجهان أصحهما: نعم، والخلاف شبيه بالخلاف في وجوب الكفارة على المؤلي إذا وطئ، قال الامام: والصورة مفروضة فيما إذا زعم أنه قصد اليمين أو أطلق، وجعلنا مطلقه يمينا، قال: ويمكن أن يجئ الخلاف وإن قصد غير اليمين، لان

(8/15)


ألفاظ اللعان معروضة عليه في مجلس الحكم، ولا أثر للتورية في مجلس الحكم. الحادية عشرة: إذا قال: واين الله، أو وايمن الله لافعلن كذا، فإن نوى اليمين فيمين، وإن أطلق فليس بيمين، على الاصح، لانه وإن كان مشهورا في اللغة فلا يعرفه إلا خواص الناس، قال الاصحاب: ولو قال: لاها الله ولم ينو اليمين فليس بيمين، وإن كان مستعملا في اللغة، لعدم اشتهاره. قلت: وقوله: واين الله بكسر الميم وضمها والضم أشهر، ولاها الله بالمد والقصر، وإن نوى بن اليمين كان يمينا قطعا. والله أعلم. الثانية عشرة: إذا قال: علي عهد الله وميثاقه وذمته وأمانته وكفالته لافعلن كذا، فإن نوى اليمين فيمين، والمراد من عهد الله استحقاقه لايجاب ما أوجبه علينا، أو تعبدنا (2) به، وإن أراد غير اليمين، كالعبادات، فليس بيمين، وإن أطلق فوجهان، قال أبو إسحاق: يمين للعاة الغالبة، والاصح المنع، لتردد اللفظ، وقد فسرت الامانة في قول الله تعالى: (إنا عرضنا الامانة) (3) بالعبادات وإذا أراد اليمين بهذه الالفاظ، انعقدت يمين واحدة، والجمع بين الالفاظ تأكيد، كقوله: والله الرحمن الرحيم لا يتعلق بالحنث فيها إلا كفارة واحدة، ولك أن تقول: إن قصد بكل لفظ يمينا، فليكن، كما لو حلف على الفعل الواحد مرارا. قلت: هذا الذي استدركه الرافعي رحمه الله صحيح موافق للنقل، قال الدارمي قال ابن القطان: إذا نوى التكرار، ففي تكرار الكفارة القولان فيمن حلف على الفعل الواحد مرارا، وطرده في قوله: والله الرحمن الرحيم. والله أعلم. أما إذا قال: وعهد الله، وميثاق الله، وأمانة الله، فقال المتولي: إن نوى اليمين فيمين، وإن أطلق فلا.

(8/16)


قلت: قد ذكر الرافعي نذر اللجاج والغضب في هذا الموضع، وقد قدمته في كتاب النذور. (والله أعلم) (1).
الباب الثاني : في كفارة اليمين (2) فيه ثلاثة أطراف :
الأول : في سبب الكفارة، وهي واجبة على من حنث، وفي سبب وجوبها وجهان: الصحيح عند الجمهور أنه اليمين والحنث جميعا (3) والثاني أنه اليمين فقط، ولكن الحنث شرط. فصل: يجوز التكفير قبل الحنث إن كفر بغير الصوم (4) ولم يكن الحنث معصية، ويستحب أن يؤخر التكفير عن الحنث، ليخرج من خلاف أبي حنيفة رحمه الله (5)، وإن كفر بالصوم فالصحيح المشهور أنه لا يجوز تقديمه على الحنث، وفيه وجه. وقول قديم أنه يجوز، وإن كان الحنث بمعصية بأن حلف لا يزني فهل يجزئه التكفير قبله ؟ وجهان: أصحهما عند الاكثرين نعم. ولو قال: أعتقت هذا العبد عن كفارة يميني إذا حنثت، عتق العبد عن الكفارة إذا حنث بخلاف ما لو قال: أعتقته عن الكفارة إذا حلفت، فإنه لا يجزئه عن الكفارة، لانه قدم التعليق على اليمين، وفي الصورة السابقة قدمه على الحنث فقط، ولو قال: إذا حنثت في يمني غذا، فهو حر عن كفارتي، فإن حنث غدا، عتق عن الكفارة، وإلا لم يعتق، لان المعلق عليه لم يوجد، ولو قال: أعتقته عن كفارة يميني إن حنثت، ثم بان أنه حنث، عتق عن الكفارة، وألا لم يعتق، ولو قال: أعتقته عن كفارة يميني إن حلفت وحنثت، فبان

(8/17)


حالفا قال البغوي: ينبغي ألا يجزئه، لانه شاك في اليمين، وفي الصورة السابقة الشك في الحنث، والتكفير قبل الحنث جائز، وعلى قياسه لو قال: هو حر عن ظهاري إن ظاهرت، فبان أنه ظاهر، ينبغي أن لا يجوز. فرع: أعتق عبدا عن الكفارة قبل الحنث، ثم ارتد العبد، أو مات قبل الحنث، لم يجزئه عن الكفارة، كما لو عجل الزكاة، ثم ارتد المدفوع إليه قبل تمام الحول، وتغير الحال في التكفير قبل الحنث كهو في تعجيل الزكاة، قال البغوي: ويحتمل أن يجزئه إذا ارتد أو مات، كما لو ماتت الشاة المعجلة قبل الحول. فرع: يجوز تقديم كفارة القتل على الزهوق بعد حصول الجرح، وتقديم جزاء الصيد على الزهوق بعد جرح الصيد، هذا هو المذهب، وقيل: فيهما الخلاف، في تقديم الكفارة على الحنث المحرم، لان سراية فعله كفعله، وهو حرام، وهذا ليس بشئ، قال الامام: وقياسه أن يقال: لو حلف (1) لا يقتل زيدا فجرحه وكفر عن اليمين قبل حصول الزهوق، ففي الاجزاء الوجهان. قال: وهو بعيد، ثم هذا في التكفير بالاعتاق، وأما الصوم فلا يقدم على الصحيح كما سبق، ولا يجوز تقديم كفارة بالاعتاق، وأما الصوم فلا يقدم على الصحيح كما سبق، ولا يجوز تقديم كفارة القتل على الجرح بحال لا في الادمي ولا في الصيد، وفيه احتمال لابن سلمة، تنزيلا للعصمة منزلة أحد السببين، وحكى ابن كج وجها في جواز التقديم على جرح الصيد، ووجها إنه إن كان يقتله مختارا بلا ضرورة لم يجز، وإن اضطر الصيد إليه جاز، والمذهب الاول. فرع: التكفير عن الظهار بالمال بعد الظهار وقبل العود جائز على المذهب وقيل: فيه الخلاف في الحنث المحرم وليس بشئ لان العود ليس بحرام، ويتصور التكفير بين الظهار والعود، فيما إذا ظاهر من رجعية، ثم كفر ثم راجع أو طلق بائنا وكفر ثم نكحها، وقلنا: يعود الحنث فيما إذا ظاهر مؤقتا وصححنا، وكفر وصار عائدا بالوطء، وفيما إذا ظاهر وارتدت الزوجة عقبه، فهذا ليس بتكفير قبل العود، بل هو تكفير مع العود، لان اشتغاله بالاعتاق عود والحكم الاجزاء أيضا.

(8/18)


فرع: لا يجوز تقديم كفارة الجماع في شهر رمضان، ولا في الحج والعمرة على الجماع، وقيل: يجوز لكفارة اليمين، والصحيح الاول، لان هذه الكفارة لا تنسب إلى الصوم والاحرام بل إلى الجماع، وتلك تنسب الى اليمين، وكذا لا يجوز تقديم فدية الحلق والتطيب واللبس عليها، فإن وجد سبب يجوز فعلها، بأن احتاج إلى الحقل أو التطيب لمرض أو اللبس لبرد جاز التقديم على الاصح. فرع: يجوز تعجيل المنذور إذا كان ماليا، بأن قال: إن شفى الله مريضي، أو رد غائبي، فلله علي أن أعتق أو أتصدق بكذا، فيجوز تقديم الاعتاق والتصدق على الشفاء ورجوع الغائب، وفي فتاوى القفال ما ينازع فيه. فرع: الحامل والمرضع إذا شرعتا في الصوم ثم أرادتا الافطار، فأخرجتا الفدية قبل الافطار جاز على الاصح، وعلى هذا ففي جواز تعجيل الفدية لسائر الايام وجهان: كتعجيل زكاة عامين.
فصل : تكره اليمين إلا إذا كانت في طاعة كالبيعة على الجهاد، ويستثنى أيضا الايمان الواقعة في الدعاوى، إذا كانت صادقة، فإنها لا تكره. قلت: وكذا لا يكره إذا دعت إليه حاجة كتوكيد كلام أو تعظيم أمره، كقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: " فوالله لا يمل الله حتى تملوا " وفي الحديث الاخر، " والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا " (1) وأشباهه في الصحيح كثيرة مشهورة. والله أعلم. ثم إن حلف على فعل واجب، أو ترك حرام، فيمينه طاعة، والاقامة عليها واجبة، والحنث معصية، وتجب به الكفارة، وإن حلف على ترك واجب، أو فعل حرام، فيمينه معصية، ويجب عليه أن يحنث ويكفر. وإن حلف على فعل نفل كصلاة تطوع، وصدقة تطوع، فالاقامة على ذلك طاعة، والمخالفة مكروهة، وإن حلف على ترك نفل، فاليمين مكروهة والاقامة عليها مكروهة، والسنة أن يحنث،

(8/19)


وعد الشيخ أبو حامد وجماعة من هذا القبيل، ما. ذا حلف لا يأكل طيبا، ولا يلبس ناعما، وقالوا: اليمين عليه مكروهة، لقول الله تعالى: (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق) (1) واختار القاضي أبو الطيب أنها يمين طاعة، لما عرف من اختيار السلف خشونة العيش، وقال ابن الصباغ: يختلف ذلك باختلاف أحوال الناس، وقصودهم وفراغهم للعبادة، وإشغالهم بالضيق والسعة، وهذا أصوب، وإن حلف على مباح، لا يتعلق به مثل هذا الغرض، كدخول دار، وأكل طعام، ولبس ثوب، وتركها، فله أن يقيم على اليمين، وله أن يحنث، وهل الافضل الوفاء باليمين ؟ أم الحنث ؟ أم يتخير بينهما ولا ترجيح كما كان قبل اليمين ؟ فيه أوجه، أصحها: الاول، وبه قال أبو علي الطبري، واختاره الصيدلاني، وابن الصباغ، والغزالي وغيرهم، لقول الله تعالى: (ولا تنقضوا الايمان بعد توكيدها) (2) ولما فيه من تعظيم اسم الله تعالى، وقد حصل مما ذكرناه أن اليمين لا تغير حال المحلوف عليه عما كان، وجوبا وتحريما وندبا وكراهة واباحة.
الطرف الثاني : في كيفية كفارة اليمين، وهي مختصة باشتمالها على تخيير في الابتداء، وترتيب في الانتهاء فيتخير الحالف بين أن يطعم عشرة مساكين، أو يكسوهم، أو يعتق رقية، فإن اختار الاطعام، أطعم كل واحد مدا، والقول في جنس الطعام، وكيفية اخراجه، وم يصرف إليه، وامتناع اخراج القيمة، وصرف الامداد العشرة إلى بعض، وسائر المسائل على ما سبق في الكفارات، وإن اختار الكسوة، كساهم على ما سنذكره إن شاء الله تعالى، وإن اختار الاعتاق، فلتكن الرقبة بالصفات المذكورة في الكفارات. ولو أطعم بعض العشرة، وكسا بعضهم، ولم يجره، كما لا يجوز أن يعتق نصف رقبة، أو أطعم ثلاثين مسكينا، أو كساهم عن ثلاث كفارات ولم يعين، اجزاء فإن عجر من الخصال الثلاث صام ثلاثة أيام، والقول فيما يحصل به العجر ذكرناه في الكفارات، ومن له أن يأخذ سهم الفقراء أو

(8/20)


المساكين من الزكوات، أو الكفارات، له أن يكفر بالصوم، لانه فقير في الاخذ، فكذا في الاعطاء، وقد يملك نصابا، ولا يفي دخله بخرجه، فيلزمه الزكاة وله أخذها والفرق بين البابين أنا لو أسقطنا الزكاة خلا النصاب عنها بلا بدل، وللتكفير بالمال بدل، وهو الصوم. وهل يجب التتابع في صوم الثلاثة ؟ قولان: أظهرهما: عند الاكثرين لا، قال الامام: وهو الجديد، فإن أوجبناه، فالفطر في اليوم الثاني أو الثالث بعذر المرض أو السفر على الخلاف في كفارة الظهار، والحيض هنا يقطع التتابع، لامكان الاحتراز عنه بخلاف الشهرين، وقيل: لا يقطعه كالشهرين، وقيل قولان: كالمرض، والمذهب الاول، فإن كانت لم تحض قط، فشرعت في الصوم، فابتدأها الحيض، فهو كالمرض. فرع تجب في الكسوة التمليك، والواجب ثوب قميص، أو سراويل، أو عمامة، أوجبة، أو قباء، أو مقنعة، أو إزار، أو رداء، أو طيلسان، لان الاسم يقع على كل هذا، وحكي قول: أنه يشترط ساتر العورة، بحيث تصح الصلاة فيه، فتختلف الحال بذكورة الآخذ وأنوثته، فيجزئ الازار إن أعطاه لرجل، ولا يجزئ إن أعطاه لامرأة، والمشهور الاول. قلت: ويجزئ المنديل، صرح به أصحابنا، والمراد به هذا المعروف الذي يحمل في اليد، وقد صرح الدارمي بأن كل واحد من المنديل والعمامة يجزئ. والله أعلم. وأما الثوب الصغير الذي يكفي لرضيع وصغير دون كبير، فإن أخذه الولي لصغير، جاز، لان صرف طعام الكفارة وكسوتها للصغار جائز كما في الزكاة، ويتولى الولي الاخذ، وإن أخذه كبير لنفسه، جاز على الاصح، وبه قال القاضي حسين، لانه لا يشترط أن يلبس الآخذ ما يأخذه، ولهذا يجوز أن يعطي الرجل كسوة المرأة، وعكسه، ولا يشترط المخيط، بل يجوز دفع الكرباس، ويستحب أن يكون جديدا، خاما كان أو مقصورا، فإن كان ملبوسا، نظر: إن تخرق أو ذهبت قوته لمقاربة الانمحاق، لم يجزئه، كالطعام المعيب، وإن لم ينته إلى ذلك الحد أجزأه، كالطعام العتيق، لا يجزئ المرقع إن رقع للتخرق والبلى، إن خيط في

(8/21)


الابتداء مرقعا لزينة وغيرها أجزأه، ولو كساه ثوبا لطيفا، مهلهل النسج غير بال في جنسه، لكن مثله إذا لبس لا يدوم، إلا بقدر ما يدوم الثوب البالي، قال الامام: يظهر أنه لا يجزئ لضعف النفع فيه، وأما الجنس فيجزئ المتخذ من صوف وشعر وقطن وكتان وقز وابريسم، سواء كان المدفوع إليه رجلا لا يحل له لبسه، أو امرأة، وفي الرجل وجه تضعيف، وسواء في كل جنس، الجيد والردئ والمتوسط، وللقاضي حسين احتمال في اشتراط الكسوة الغالبة في البلد، كالطعام، وفي الدرع والمكعب وهو المداس والنعل والجوارب والخف والقلنسوة والتبان وهو سراويل قصيرة لا تبلغ الركبة، فوجهان: أصحهما: المنع لعدم اسم الكسوة، والثاني: الاجزاء، لاطلاق اسم اللبس، ومنهم من قطع بالمنع في الخف والنعل والجوارب، ولا تجزئ المنطقة والخاتم قطعا، وكذا التكة على المذهب، وفي جمع الجوامع للروياني: طرد الخلاف فيها، قال الصيدلاني: ويجزئ قميص اللبد في بلد جرت عادة غالب الناس أو نادرهم بلبسه. قلت: قال الدارمي: فإن دفع ما لا يعتاد لبسه كجلود ونحوها، لم يجزئه. والله أعلم.
الطرف الثالث : فيمن تلزمه الكفارة، وهو كل مكلف حنث في يمينه، سواء فيه الحر والعبد، والمسلم والكافر، فإن مات قبل إخراجها، أخرجت من تركته. فصل العبد يكفر عن اليمين وغيرها بالصوم، لانه لا يملك على الاظهر، وإن قلنا يملك بتمليك سيده، فإن أطلق التمليك، لم يملك إخراج الكفارة بغير إذن سيده، وإن ملكه الطعام أو الكسوة ليخرجه في الكفارة، أو ملكه مطلقا ثم أذن له في ذلك، كفر بالاطعام أو الكسوة. وقد ذكرنا ذلك في الكفارات، وذكرنا أنه لو ملكه عبدا ليعتقه عن الكفارة لم يقع عن الكفارة على المذهب، وبناه الامام على أنه لو ملكه عبدا، وأذن في إعتاقه متبرعا، فلمن الولاء فيه ؟ أقوال. أحدها: للسيد، لقصور العبد عن استحقاق حقوق الولاء من الارث والولاية. والثاني، يوقف. فإن عتق العبد، بان أن الولاء له، وإن مات رقيقا، فلسيده. والثالث: للعبد، فعلى هذا، إن أذن له في الاعتاق عن الكفارة، وقع عنها، وثبت له الولاء، وإن قلنا الولاء للسيد، وقع العتق له على الاصح، وكأن الملك انقلب إليه، وفي وجه وقول: يقع

(8/22)


عن العبد، ويجزئه عن الكفارة، ويختص التعذر بالولاء، وإن قلنا بالتوقف في الولاء، فوجهان: قال القفال: تجزئ عن الكفارة، وقال الصيدلاني، والقاضي حسين: يتوقف في الوقوع عن الكفارة، تبعا للولاء، فإذا قلنا في هذه التفاريع، يقع العتق عن الكفارة فأذن السيد في الاعتاق في كفارة مرتبة، فهل له أن يكفر بالصوم لضعف ملكه ؟ فيه احتمالان للامام، لانه لا يعد موسرا، ولهذا ينفق على زوجته نفقة المعسر، وإن ملكه السيد أموالا عظيمة. ولو أعتق المكاتب عن كفارته بإذن سيده، وصححنا تبرعاته بإذن سيده، قال الصيدلاني: الذي ذكره الاصحاب أنه تبرأ ذمته عن الكفارة، وعندي أن الامر موقوف، فقد يعجز، فيرق، فيكون الولاء موقوفا، فيجب التوقف في الكفارة، ولو كفر السيد عن العبد باطعام، أو كسوة، أو إعتاق باذنه، فهو على الخلاف في أنه يملك بالتمليك بتفريعه، وإذا كفر بالصوم، فهل يستقبل به ؟ أم يحتاج إلى إذن السيد ؟ فيه خلاف وتفصيل، سبق في الكفارات. وحيث يحتاج، فللسيد منع الامة من الصوم، لانه يفوت الاستمتاع، والكفارة على التراخي، وله منع العبد عن الصوم إن كان يضعف به عن الخدمة، أو يناله ضرر، وإلا فلا منع على الاصح، وعلى هذا لا يمنعه من صوم التطوع، وصلاة التطوع، في مثل هذه الحالة في غير زمان الخدمة، كما لا يمنعه من الذكر، وقراءة القرآن، في تردداته، وحيث احتاج إلى الاذن، فصام بلا إذن، أجزأه، كما لو صلى الجمعة بلا إذن. ولو مات العبد، وعليه كفارة يمين، فللسيد أن يكفر عنه بالاطعام، وإن قلنا: لا يملك بالتمليك، لان التكفير عنه في الحياة يتضمن دخوله في ملكه، والتكفير بعد الموت لا يستدعي ذلك، ولانه ليس للميت ملك محقق، ولان الرق لا يبقى بعد الموت، فهو الحر سواء، هذا ما قطع به الاصحاب، وفيه احتمال للامام، فعلى الاول: لو أعتق عنه، لم يجزئه، على الاصح، لما ذكرنا من اشكال الولاء.
فصل في الحر يموت وعليه كفارة، فتخرج من تركته، سواء أوصى بها أم لا، وسبيلها سبيل الديون، وذكرنا في كتاب الوصية وجها: أنه إن أوصى بها،

(8/23)


حسبت من الثلث، ووجها: أنها من الثلث، وإن لم يوص، والصحيح الاول، وإذا وفت التركة بحقوق الله تعالى وحقوق الآدمي، قضيت جميعا، وإن لم تف، وتعلق بعضها بالعين، وبعضها بالذمة، قدم التعلق بالعين، سواء اجتمع النوعان، أو انفرد أحدهما، وإن اجتمعا، وتعلق الجميع بالعين أو الذمة، فهل يقدم حق الله تعالى ؟ أم الآدمي ؟ أم يستويان ؟ فيه ثلاثة أقوال، سبقت في مواضع، أظهرها الاول، ولا تجري هذه الاقوال في المحجور عليه بفلس، إذا اجتمع النوعان، بل تقدم حقوق الآدمي، وتؤخر حقوق الله تعالى، ما دام حيا، وإن كانت الكفارة مرتبة أعتق عنه الوارث، وكذا لو أوصى الوصي ويكون الولاء للميت، فإن تعذر الاعتاق، أطعم من التركة، وإن كانت كفارة تنجيز، جاز الاطعام والكسوة من التركة، وكذا الاعتاق على الاصح، والواجب من الخصال أقلها قيمة، فإن لم تكن تركة فتبرع أجنبي بالاطعام أو الكسوة عنه من مال نفسه، جاز على الاصح، فإن تبرع بهما الوارث، جاز على الصحيح، وقيل: لا، لبعد العبادات عن النيابة، وإن تبرع الاجنبي بالاعتاق في كفارة التنجيز، لم يصح على المذهب، لعلتين، إحداهما: سهولة التكفير بغير اعتاق، ولا يعتق لما فيه من عسر إثبات الولاء، والثانية: فيه إضرار بأقارب الميت، لانهم يؤاخذون بجناية عتيقه، فإن كان المعتق وارثا، جاز على العلة الثانية دون الاولى، وفي الكفارة المرتبة للوارث أن يتبرع بالاعتاق، وكذا للاجنبي على الاصح، بناء على العلة الاولى، وفي صوم الولي والاجنبي خلاف، سبق في الصيام، وإذا أوصى بأن يعتق عنه في كفارة التنجيز وزادت قيمة العبد على قيمة الطعام والكسوة، فثلاثة أوجه أضعفها: يتعين الاعتاق، وتحسب قيمة العبد من رأس المال، والثاني: تحسب قيمة العبد من الثلث، لان براءة الذمة تحصل بلزومها، فعلى هذا إن وفى الثلث بقيمة عبد مجزئ، أعتق عنه، وإلا بطلت الوصية، وعدل إلى الاطعام والكسوة، وهذا الوجه أصح، وهو ظاهر النص. والثالث: تحسب قيمة أقلها قيمة من رأس المال، والزيادة إلى تمام قيمة العبد من الثلث، فإن وفى ثلث الباقي مضموما إلى الاقل المحسوب من رأس المال بقيمة عبد، أعتق عنه، وإلا بطلت الوصية، وعدل إلى الاطعام والكسوة. فرع من بعضه حر وبعضه رقيق، إن كان معسرا، كفر بالصوم، وإن كان موسرا فوجهان، وإن شئت قلت: قولان، منصوص ومخرج. الصحيح المنصوص

(8/24)


لا يكفر بالصوم، بل يطعم ويكسو، والمذهب: أنه لا يكفر بالاعتاق لتضمنه الولاية والارث، وليس هو من أهلها، وقيل: في تكفيره بالعتق قولان، كاعتاق المكاتب باذن سيده عن كفارته، وهو ضعيف، وخرج المزني أنه يكفر بالصوم، وصوبه ابن سريج، وبالله التوفيق.
الباب الثالث : فيما يقع به الحنث الأصل المرجوع إليه في البر والحنث، اتباع مقتضى اللفظ الذي تعلقت به اليمين، وقد يتطرق إليه التقييد والتخصيص، بنية تقترن به، أو باصطلاح خاص، أو قرينة، والصور التي تدخل في الباب لا تتناهى، لكن تكلم الشافعي والاصحاب رحمهم الله في أنواع تغلب ويكثر استعمالها، ويقاس عليها غيرها، وفيه أنواع :
الأول : الدخول والمساكنة وفيه مسائل: إحداها: لو حلف لا يدخل الدار، حنث بالحصول في عرصة الدار، وأبنيتها من البيوت والغرف وغيرها، فإن صعد سطحها، بأن تسور جدارها، أو جاء من دار الجار لم يحنث، إن كان السطح غير محوط، ولا عليه سترة، فإن كان فوجهان، الاصح وظاهر النص: لا يحنث أيضا، كما لو حصل على الجدار، والثاني: إن كان التحويط من الجوانب الاربعة، حنث، وإن كان من جانب، فلا، وإن كان من الجانبين، أو ثلاثة، فوجهان مرتبان. هذا إذا لم يكن السطح مسقفا، فإن كان مسقفا كله أو بعضه حنث قطعا إذا كان يصعد إليه من الدار، لانه من أبنية الدار، ولو حلف ليخرجن من الدار، فهل يبر بصعود السطح، وجهان، أحدهما: لا، وبه قال الشيخ أبو محمد، لانه لا يعد خارجا حتى يفارق السطح، وأصحهما نعم، وبه قال القاضي حسين، لانه يصح أن يقال: ليس هو في الدار، وإذا لم يكن فيها كان خارجا ويؤيده: أن ابن الصباغ حكى عن الاصحاب، أنه: لو حلف لا يخرج من الدار، فصعد سطحها، حنث، ولا يخفى أنه ينظر في الخروج أيضا إلى كون السطح

(8/25)


محوطا أو غيره، ولو حلف لا يدخل، فدخل الطاق المضروب خارج الباب لم يحنث، على الاصح، لانه لا يقال: دخل الدار، والثاني: يحنث، لانه من الدار، ولهذا يدخل في بيعها، فلو دخل الدهليز خلف الباب، أو بين البابين حنث، لانه من الدار، وحكى الفوراني نصا ان داخل الدهليز لا يحنث، وحملوه على الطاق خارج الباب، وأشار الامام إلى إثباته قولا في الدهليز، وقال: لا يبعد أن يقال: دخل الدهليز ولم يدخل الدار، وجعل المتولي الدرب المختص بالدار أمام البيت، إذا كان داخلا في حد الدار، ولم يكن فيأولها باب كالطاق، قال: فإن كان عليه باب، فهو من الدار مسقفا كان أو غيره. فرع حلف لا يدخل الدار، وهو فيها، لا يحنث بالمكث، وحكي قول، ووجه أنه يحنث، والمشهور الاول، وعليه نص في حرملة، ولو حلف لا يخرج وهو خارج، لا يحنث بترك الدخول، وكذا لو حلف لا يتزوج وهو متزوج، أو لا يتطهر وهو متطهر، أو لا يتوضأ وهو متوضئ، فاستدام النكاح والطهارة والوضوء لا يحنث. ولو حلف لا يلبس وهو لابس، فلم ينزع، أو لا يركب وهو راكب فلم ينذل، حنث بالاستدامة، لانه يسمى لبسا وركوبا، ولهذا يصلح أن يقال: لبست شهرا وركبت ليلة، ولا يصح أن يقال: دخلت شهرا أو تزوجت شهرا، وإنما يقال: سكنت أو أقمت شهرا ولو حنث باستدامة اللبس ثم حلف لا يلبس، فاستدام، لزمه كفارة أخرى، لان اليمين الاولى انحلت بالاستدامة الاولى، وهذه يمين أخرى، وقد

(8/26)


حنث فيها، واستدامة القيام والقعود واستقبال القبلة قيام وقعود واستقبال، وهل استدامة التطيب بطيب ؟ وجهان: أصحهما: لا. ولهذا لو تطيب، ثم أحرم، واستدام، لا يلزمه الفدية، وذكر الوجهان: فيما لو حلف أن لا يطأ، وهو في خلال الوطئ، فلم ينزع، أو أن لا يصوم أو لا يصلي وهو شارع فيهما، فلم يترك، ويتصور ذلك في الصلاة إذا حلف ناسيا في الصلاة، فإن اليمين تنعقد، وإن حلف لا يغصب، لم يحنث باستدامة المغصوب في يده، ولو حلف لا يسافر وهو في السفر، فوقف، أو أخذ في العود في الحال، لم يحنث في العود، وكأن الصورة فيمن حلف على الامتناع عن ذلك السفر، وإلا فهو مسافر أيضا. فرع إذا حلف لا يدخل الدار، حنث بالحصول فيها، سواء دخلها من الباب أو من ثقب في الجدار، أو كان في الدار نهر خارج فطرح نفسه في الماء فحمله، أو سبح، أو ركب سفينة فدخلت السفينة الدار ونزل من السطح. وفي صورة السطح وجه ضعيف، وسواء دخلها راكبا أو ماشيا. ولو أدخل في الدار يده أو رأسه أو إحدى رجليه، لم يحنث، وكذا لو مد رجليه فأدخلهما الدار وهو قاعد خارجها، لم يحنث، وإنما يحنث إذا وضعهما في الدار واعتمد عليهما، أو حصل في الدار متعلقا بشئ. ولو حلف: لا يخرج، فأخرج يده أو رجله، أو رجليه وهو قاعد فيها، لم يحنث. ولو كان في الدار شجرة منشرة الاغصا، فتعلق ببعضها، فان حصل في محاذاة البنيان بحيث صارت محيطة به عالية عليه، حنث. وإن حصل في محاذاة سترة السطح، ففيه الوجهان. وإن كان اعلى من ذلك، لم يحنث. المسألة الثانية: حلف لا يدخل أو لا يسكن بيتا، فاسم البيت يقع على المبني من طين أو آجر ومدر وحجر، وعلى المتخذ من خشب وصوف ووبر وشعر وجلد وأنواع الخيام، فإن نوى نوعا منها، حمل عليه، وإن أطلق، حمل على أي بيت كان منها، إن كان الحالف بدويا، وإن كان قرويا فثلاثة أوجه. الاصح وظاهر النص: يحنث أيضا. والثاني: لا. والثالث: إن كانت قريته قريبة من البادية، حنث، وإلا فلا، ولا يحنث بدخول البيع، والكنائس، وبيوت الحمام، والغار في الجبل،

(8/27)


والكعبة، والمساجد، على المذهب لانها ليست للايواء والسكن، ولا يقع عليها اسم البيت إلا بتقييد، وخرج ابن سريج الجميع على قولين، وحكى المتولي في الكعبة والمساجد وجها. ولو دخل دهليز دار، أو صحنها، أو صفتها، لم يحنث على الصحيح. وعن القاضي أبي الطيب الميل إلى الحنث، لان جميع الدار بيت بمعنى الايواء. قلت: ولا يحنث بدخول بيت الرحى على الصحيح، ذكره الغزالي وغيره. والله أعلم. الثالثة: حلف لا يسكن هذه الدار، ولا يقيم فيها، وهو عند الحلف فيها، فمكث ساعة بلا عذر، حنث، وإذا مكث، فسواء أخرج أهله ومتاعه أم لا، لانه حلف على سكنى نفسه، لا أهله ومتاعه. فلو خرج وترك فيها أهله ومتاعه، لم يحنث. ولو حلف: لا يسكن دارا، فانتقل إليها بنفسه، دون أهله وماله، حنث. ولو مكث لعذر، بأن أغلق عليه الباب، أو منع من الخروج، أو - خاف على نفسه أو ماله لو خرج، أو كان مريضا، أو زمنا لا يقدر على الخروج، ولم يجد من يخرجه، لم يحنث. وإن مرض، وعجز بعد الحلف، ففي الحنث الخلاف في حنث المكره. وقد تخرج سائر الصور على ذلك الخلاف. فإن وجد المريض من يخرجه، فينبغي أن يأمره باخراجه، فإن لم يفعل، حنث. وإن مكث الحالف مشتغلا بأسباب الخروج، بأن انتهض لجمع المتاع، ويأمر أهله بالخروج، ويلبس ثوب الخروج، لم يحنث على الاصح، لانه لا يعد ساكنا، كما لو خرج في الحال ثم عاد لنقل متاع، أو زيارة أو عيادة أو عمارة، فإن الاصحاب قالوا: لا يحنث، لانه فارقها، وبمجرد العود لا يصير ساكنا. ولو احتاج إلى أن يبيت فيها ليلة لحفظ متاع، ففيه احتمالان لابن كج. والاصح عنده أنه لا يحنث. ولو خرج في الحال ثم اجتاز بها، بأن دخل من باب، وخرج من آخر، فقال القاضي حسين: الصحيح أنه

(8/28)


لا يحنث، وإن تردد فيها ساعة بلا غرض، حنث. وينبغي أن لا يحنث بالتردد، لانها لا تصير به مسكنا قال البغوي: ولو عاد مريضا مارا في خروجه، لم يحنث، وإن قعد عنده حنث، ولو خرج في الحال ثم دخل، أو كان خارجا حين حلف، ثم دخل لا يحنث بالدخول ما لم يمكث، فان مكث حنث، إلا أن يشتغل بحمل متاع كما في الابتداء. الرابعة: في الحلف على المساكنة. قال الشافعي رحمه الله: المساكنة: أن يكونا في بيت أو بيتين حجرتهما واحدة، ومدخلهما واحد. قال الشيخ أبو حامد: أراد بالحجرة: الصحن، فإن أقام كل واحد في دار، فلا مساكنة، سواء كانت الداران كبيرتين، أو صغيرتين، أو إحداهما كبيرة والاخرى صغيرة، كحجرة لطيفة بجنب دار، وسواء كانتا في درب نافذ أو غير نافذ. فإن سكنا في بيتين من خان كبير أو صغير، أو من دار كبيرة، فثلاثة أوجه. الاصح: لا مساكنة، سواء كان البيتان متلاصقين أو متفرقين، والثاني: بلى. والثالث: تثبت المساكنة في الدار دون الخان، لانها تعد مسكنا لواحد، والخان يبنى لسكني جماعة، ويشبه أن لا يشترط في الخان أن يكون على البيت باب وغلق، كالدور في الدرب، ويشترط في الدار الكبيرة أن يكون على كل بيت منها باب وغلق، فإن لم يكونا، أو سكنا في صفتين منها، أو في بيت وصفة، فهما متساكنان في العادة. ولو أقاما في بيتين من دار صغيرة، فهما متساكنان وإن كان لكل واحد باب وغلق، لمقاربتهما وكونهما في الاصل مسكنا واحدا بخلاف الخان الصغير، وهكذا فصل الاكثرون، ومنهم من أطلق وجهين في بيتي الدار، ولم يفرق بين الصغيرة والكبيرة، ورأى الاصح حصول المساكنة. وعلى هذا لو كان أحدهما في الدا، والآخر في حجرة منفردة المرافق وبابها في الدار، فلا مساكنة على الاصح، وبه قطع البغوي في حجرتين منفردتي المرافق في دار. والمرفق المستحم والمطبخ، والمرقى وغيرها، ولم يذكروا في الحجرة في الخان خلافا وإن كان المرقى في الخان. إذا تقرر هذا فقال: والله لا أساكن زيدا، فإما أن يقيد المساكنة ببعض

(8/29)


المواضع لفظا، بأن يقول: في هذا البيت، أو هذه الدار، وإما أن لا يقيد. الحالة الاولى: أن يقيد، فيحنث بتساكنهما في ذلك الموضع، فان كانا فيه عند الحلف، ففارق أحدهما الآخر، لم يحنث، وإن مكثا فيه بلا عذر، حنث. فإن بني بينهما حائل من طين أو غيره، ولكل واحد من الجانبين مدخل، أو أحدثا مدخلا، فوجهان، أحدهما: لا يحنث لاشتغاله برفع المساكنة، ورجحه البغوي. وأصحهما عند الجمهور: يحنث لحصول المساكنة إلى تمام البناء بغير ضرورة. فإن خرج أحدهما في الحال فبني الجدار، ثم عاد، ليحنث الحالف. ولا يخفى أنه لا بأس والحالة هذه بالمساكنة في موضع آخر. الحالة الثانية: أن لا يقيدها لفظا، فينظر، إن نوى موضعا معينا من بيت أو دار أو درب أو محلة أو بلد، فالمذهب، والذي قطع به الجمهور أن اليمين محمولة على ما نوى. وقيل: إن كانا يسكنان بيتا من دار متحدة المرافق، ونوى أن لا يساكنه، حملت اليمين عليه، وإن لم يكن كذلك، ولا جر ذكر تلك المساكنة، كقول صاحبه: ساكني في هذا البيت، لم يقبل قوله، وتحمل اليمين على الدار وفي البلد وجه أن اللفظ لا ينزل عليه، لانه لا يسمى مساكنة. وقيل: يجئ هذا الوجه في المحلة. وإن لم ينو موضعا، وأطلق المساكنة، حيث بالمساكنة في أي موضع كان، وحكى المتولي قولا أنه إذا أطلق وكل واحد منهما في دار وحجرة منفردة، حملت اليمين على الاجتماع الحاصل، فإن كانا في درب، فلا بدمن مفارقة أحدهما الدرب، وإن كانا في محلة فلا بد من مفارقة أحدهما المحلة، والمشهور الاول، فعلى هذا لو كانا عند الحلف في بيتين من خان، فلا مساكنة، ولا حاجة إلى مفارقة أحدهما الآخر، وعلى القول الشاذ يشترط مفارقته. وإن كانا في بيت من الخان، فهل يكفي مفارقة أحدهما ذلك البيت، أم يشترط مفارقته الخان ؟ فيه هذا الخلاف. ثم سواء نوى موضعا معينا أو أطلق، فالقول في أن استدامة المساكنة مساكنة، وفي الحائل المبني بينهما على ما سبق في

(8/30)


الحالة الاولى. والاعتبار بالانتقال بالبدن، دون الاهل والمال كما سبق.
النوع الثاني : ألفاظ الأكل والشرب، وفيه مسائل. الاولى: حلف، فقال: لا أشرب من ماء هذه الاداوة أو الجرة، حنث بما شرب من مائها من قليل أو كثير. ولو قال: لاشربن من مائها، بر بما شرب وإن قل. وإن قال: لا أشرب من ماء هذا النهر، أو لاشربن منه، فالحكم كالاداوة. ولو قال: لا أشرب من ماء هذه الاداوة أو الحب أو المصنع أو غيرها مما يمكن شرب جميعه ولو في مدة طويلة، لم يحنث إلا بشرب جميعه. ومتى بقي شئ منه، لم يحنث. قال في شرح مختصر الجويني: سوى البلل الذي يبقى في العادة. ولو قال: لاشربن ماء هذه الاداوة أو الحب، لم يبر إلا بشرب الجميع. ولو قال: لا أشرب ماء هذا النهر أو البحر أو البئر العظيمة، فهل يحنث بشرب بعضه ؟ وجهان: أحدهما: نعم، وبه قال ابن سريج، وابن أبي هريرة وأصحهما: لا، وبه قال أبو إسحق، وعامة الاصحاب، وصححه الشيخ أبو حامد، والقاضي أبو الطيب والروياني كمسألة الاداوة. قال القاضي: وينبغي أن يقال: لا تنعقد يمينه كما لو حلف: لا يصعد السماء، لان الحنث فيه غير متصور. ولو حلف ليشربن ماء هذا النهر أو البحر، فوجهان: أحدهما: يبر بشرب بعضه وإن قل، وأصحهما: لا يبر ببعضه، وعلى هذا هل يلزمه الكفارة في الحال أم قبيل الموت ؟ وجهان، أصحهما: الاول، لان العجز متحقق في الحال، وإنما يحسن الانتظار فيما يتوقع حصوله. وقيل: لا تنعقد اليمين أصلا، لان البر غير متصور، ولو حلف: ليصعدن السماء، ففي انعقاد يمينه وجهان، الاصح: الانعقاد، وعلى هذا فيحكم بالحنث في الحال، أم قبل الموت ؟ فيه الوجهان. ولو قال: لاصعدن السماء غدا، وفرعنا على انعقاد اليمين، فهل يحنث وتجب الكفارة في الحال، أم بعد مجئ الغد ؟ فيه الوجهان. ويشبه أن يرجح هنا الثاني. وعلى هذا، فهل يحنث قبيل غروب الشمس من الغد، أم قبل ذلك ؟ فيه خلاف سيأتي في نظيره إن شاء الله تعالى. ولو حلف: لا يصعد السماء، فهل ينعقد يمينه ؟ وجهان، أحدهما: نعم، وإن لم يتصور الحنث، كما لو حلف أنه فعل كذا أمس، وهو

(8/31)


صادق، وأصحهما: لا، بخلاف صورة الاستشهاد، لان الحلف هناك محتمل الكذب. فرع قال: لاشربن ماء هذه الاداوة، ولا ماء فيها، أو لاقتلن فلانا وهو ميت، فأربعة أوجه. أصحها: أنه يحنث وتجب الكفارة في الحال، والثاني: قبيل الموت، والثالث: لا تنعقد اليمين، والرابع: يحنث في القتل دون الشرب. ولو قال: لاقتلن فلانا وهو يظنه حيا وكان ميتا، ففي الكفارة خلاف بناء على يمين الناسي. فرع قال القاضي أبو الطيب: قال الاصحاب: لو قال: والله لا آكل خبز الكوفة، أو خبز بغداد، لم يحنث بأكل بعضه، إلا أن ينوي غير ذلك. فرع قال: لاشربن ماء هذه الاداوة. فانصب قبل أن يشرب، أو مات الحالف، نظر، إن كان بعد الامكان، حنث. وإن كان قبله، فقولان كالمكره. ولو قال: لاشربن منه، فصبه في حوض، ثم شرب منه من موضع يعلم أنه وصل إليه، بر، وإن حلف: لا يشرب منه، فصبه في حوض وشرب منه، حنث. وكذا لو حلف: لا يشرب من لبن هذه البقرة، فخلط بلبن غيرها، بخلاف ما لو حلف: لا يأكل هذه التمرة، فخلطها بصبرة، لا يحنث إلا بأكل جميع الصبرة، والفرق ظاهر. فرع حلف: لا يشرب ماء فراتا أو من ماء فرات، حمل على الماء العذب من أي موضع كان. وإن قال: من ماء الفرات، حمل على النهر المعروف. ولو قال: لا أشرب ماء الفرات، أو لا أشرب من ماء الفرات، فسواء أخذ الماء بيده، أو في إناء فشرب أو كرع فيه، حنث. ولو قال: لا أشرب من ماء نهر كذا، فشرب من ساقية تخرج منه، أو من بئر محفورة بقرب النهر، يعلم أن ماءها منه، حنث. ولو قال: لا أشرب من نهر كذا، ولم يذكر الماء، فشرب من ساقية بخرج منه، حنث على الاصح، كما لو أخذ الماء في إناء. ولو حلف: لا يشرب من هذه الجرة أو غيرها مما وعتاد الشرب منه، فجعل ماءه في كوز وشربه، لم يحنث.

(8/32)


المسألة الثانية: قال: لا آكل هذين الرغيفين، أو لا ألبس هذين الثوبين، لم يحنث إلا بأكلهما أو لبسهما سواء لبسهما معا، أو لبس أحدهما ونزعه، ثم لبس الآخر. وكذا لو قال: لا أكلتهما أو لا لبستهما، لم يبر إلا بأكلهما ولبسهما. ولو قال: لا أكلم زيدا وعمرا، ولا آكل اللحم والعنب، لم يحنث إلا إذا أكلهما، أو كلمهما، إلا إذا نوى غير ذلك، لان الواو العاطفة تجعلهما كشئ واحد، فكأنه قال: لا آكلهما، ولو قال: لا أكلم زيدا ولا عمرا، ولا آكل اللحم ولا العنب، حنث بكل واحد منهما، وهما يمينان تنحل إحداهما بالحنث في الاخرى. فلو قال: لا أكلم أحدهما، أو قال: واحدا منهما، ولم يقصد واحدا منهما بعينه، فيحنث إذا كلم أحدهما، وتنحل اليمين، ولا يحنث بكلام الآخر. قال المتولي: وكذا في الاثبات إذا قال: لالبسن هذا الثوب الثوب، وهذا فهما يمينان، لوجود حرف العطف، ولكل واحد حكمها، وفي هذا توقف. ولو أوجب حرف العطف كونهما يمينين، لا كما لو قال: لا ألبسهما، لاوجب في قوله: لا أكلم زيدا وعمرا ولا آكل اللحم والعنب كونهما يمينين، لا كما لو قال: لا أكلم هذين ولا آكل هذين. فرع قال: لا آكل هذا الرغيف، لم يحنث بأكل بعضه. ولو قال: لآكلنه، لم يبر إلا بأكل جميعه. فلو بقي في الصورة الاولى ما يمكن التقاطه وأكله، لم يحنث، كما لو قال: لا آكل ما على هذا الطبق من التمر، فأكل ما عليه إلا تمرة، لا يحنث وإن جرت العادة بترك بعض الطعام للاحتشام من استيفائه أو لغير ذلك. وكذا لو قال: لآكلن هذه الرمانة، فترك حبة، لم يبر، وإن قال: لا آكلها، فترك حبة، لم يحنث. المسألة الثالثة: إذا حلف: لا يأكل الرأس أو الرؤوس، أو لا يشتريها، حمل على التي تميز عن الابدان وتباع مفردة، وهي رؤوس الابل والبقر والغنم. وفي رؤوس الابل وجه شاذ عن ابن سريج، فطرده ابن أبي هريرة في البقر والغنم. وقيل: إن كان في بلد لا تباع فيه إلا رؤوس الغنم، لم يحنث إلا بغيرها، والصحيح الاول، وبه قطع الجمهور، فإن أكل رأس طير، أو حوت، أو ظبي، أو صيد آخر، لم يحنث على المشهور. فإن كانت رؤوس الصيد والحيتان تباع مفردة

(8/33)


في بلد، حنث بأكلها هناك. وهل يحنث بأكلها في غير ذلك البلد ؟ وجهان رجح الشيخ أبو حامد والروياني المنع، والاقوى الحنث، وهو أقرب إلى ظاهر النص. وهل يعتبر نفس البلد الذي يثبت فيه العرف، أم كون الحالف من أهله ؟ وجهان. هذا كله عند الاطلاق. وقال المتولي: فإن قصد أن لا يأكل ما يسمى رأسا، حنث برأس السمك والطير. وإن قصد نوعا خاصا، لم يحنث بغيره. فرع حلف: لا يأكل البيض، حمل على ما يزايل بايضه وهو حي، لانه المفهوم، فلا يحنث ببيض السمك والجراد، ويحنث ببيض الدجاج، والنعام، والاوز، والعصافير، وقيل: لا يحنث إلا ببيض الدجاج، وقيل: بالدجاج والاوز. وقال الامام: الطريقة المرضية أنه لا يحنث إلا بما يفرد بالاكل في العادة، دون بيض العصافير والحمام ونحوها، والمذهب الاول. ولا يحنث بأكل خصية الشاة، لانها لا تفهم عند الاطلاق. وإن خرجت البيضة وهي منعقدة من الدجاجة، فأكلها، حنث، وإن أخرجت بعد موتها، فأكلها، فوجهان. قلت: الاصح الحنث. والله أعلم. المسألة الرابعة: حلف لا يأكل الخبز، حنث بأي خبز كان، سواء فيه خبز البر، والشعير، والذرة، والباقلاء، والارز، والحمص، لان الجميع خبز، ولا يضر كونه غير معهود بلده، كما لو حلف: لا يلبس ثوبا، حنث بأي ثوب كان وإن لم يكن معهود بلده وذكر السرخسي وجها أنه لا يحنث بخبز الارز إلا في طبرستان، وبه قطع الغزالي، ونسبه إلى الصيدلاني، وهي نسبة باطلة، وغلط في النقل، بل الصواب الذي قطع به الاصحاب في جميع الطرق أنه يحنث به كل أحد، وقد صرح بذلك الصيدلاني أيضا. قال المتولي: ويحنث بخبز البلوط أيضا، ويحنث بأكل الاقراص والرغفان وخبز الملة والمشحم وغيره، وسواء أكله على هيئته أو جعله ثريدا. لكن لو صار في المرقة كالحسو، فتحساه، لم يحنث،

(8/34)


وسواء ابتلعه بعد مضغ، أو ابتلعه على هيئته، فيحنث في الحالين، وإن مضغه ولم يبتلعه، لم يحنث، سواء أدرك طعمه أم لا. ولو أكل جوز نيقا، فوجهان حكاهما البغوي، أحدهما: يحنث، لانه لو نزع منه الحشو صار خبزا، والاصح: المنع. قلت: والرقاق والبقسماط والبسيسة.... والله أعلم. المسألة الخامسة: حلف: لا يأكل اللحم أو لا يشتريه، لم يحنث بشحم البطن وشحم العين. والاصح: أنه لا يحنث بشحم الظهر والجنب، وهو الابيض الذي لا يخالطه الاحمر، لانه لحم سمين. ولهذا يحمر عند الهزال. ولو حلف: لا يأكل الشحم، حنث بشحم البطن، ولا يحنث باللحم قطعا، ولا بشحم الظهر على الاصح. وعن الشيخ أبي زيد وجه ثالث: أنه إن كان الحالف عربيا، فشحم الظهر شحم في حقه، لانهم يعدونه شحما، وإن كان عجميا، فهو لحم في حقه. وفي شحم العين وجهان. ويدخل في اليمين على اللحم لحم النعم، والوحش، والطير المأكول كله. وفيما لا يؤكل كالميتة، والخنزير، والذئب، والحمار، وغيرها وجهان، رجح الشيخ أبو حامد والروياني المنع، والقفال وغيره الحنث. قلت: المنع أقوى. والله أعلم. ولا يحنث بأكل السمك على الصحيح. والصحيح أن الالية ليست بلحم

(8/35)


ولا شحم. وقيل: لحم. وقيل: شحم، والسنام كالالية. ولو حلف على الالية، لم يحنث بالسنام، وكذا العكس. ولو حلف على الدسم، تناول شحم الظهر والبطن والالية والسنام والادهان كلها، والمذهب أنه لا يدخل في اللحم الامعاء والطحال والكرش والكبد والرئة، ولا يدخل المخ قطعا وقد يجئ فيه الخلاف، ولا يدخل القلب على الاصح، ويحنث بأكل لحم الرأس والخد واللسان والاكارع على المذهب، وقيل: وجهان. فرع حلف: لا يأكل لحم بقر، حنث بلحم الجاموس وبالبقر الاهلي والوحشي. وقيل: في الوحشي وجهان وهو ضعيف. ولو حلف لا يركب الحمار، فركب حمار الوحش، فوجهان بناء على أن الحمارين جنس في الربا أم جنسان وقد سبق في الربا وجهان في أن الجراد هل هو من جنس اللحوم ويمكن أن يخرج عليهما الحنث بأكله في يمين اللحم. قلت: الصواب الجزم بعدم الحنث، لعدم اطلاق الاسم لغة وعرفا. والله أعلم. فرع حلف: لا يأكل ميتة، لم يحنث بالمذكاة وإن حلها الموت للعرف. وهل يحنث بأكل السمك ؟ وجهان، أحدهما: نعم للحديث أحلت لنا ميتتان وأصحهما: لا، للعرف، كما لو حلف: لا يأكل دما، لا يحنث بالكبد والطحال. المسألة السادسة: حلف: لا يأكل الزبد، لا يحنث بأكل السمن. ولو حلف: لا يأكل السمن، لا يحنث بالزبد على الاصح، لاختلاف الاسم والصفة. ولو حلف على الزبد والسمن، لا يحنث باللبن، ويدخل في اللبن لبن الانعام

(8/36)


والصيد والحليب والرائب والماست والشيراز والمخيض، وتوقف بعضهم في الشيراز. قال القاضي أبو الطيب: لا معنى لتوقفه، وفي المخيض وجه ضعيف، فإن أكل الزبد، فثلاثة أوجه، أصحها وبه قطع ابن الصباغ: إن كان اللبن ظاهرا فيه، حنث، وإن كان مستهلكا فلا. ولا يحنث بالسمن والجبن والمصل والاقط. وقال أبو علي ابن أبي هريرة، والطبري: يحنث بكل ما يستخرج من اللبن، والصحيح الاول. فرع حلف: لا يأكل السمن، لا يحنث بالادهان، ولو حلف على الدهن: لم يحنث بالسمن على الاصح. السابعة: حلف: لا يأكل الجوز، قال الغزالي: يحنث بالجوز الهندي، قال: ولو حلف لا يأكل التمر، لم يحنث بالهندي، لان الجوز الهندي قريب من الجوز المعروف طبعا وطعما، بخلاف التمر الهندي. وقطع البغوي بأنه لا يحنث بالهندي في الصورتين، وكذا لو حلف: لا يأكل البطيخ لا يحنث بالهندي. ولو حلف: لا يأكل الخيار، لا يحنث بهذا الذي يقال له: خيار شنبر. الثامنة: كما أن الاعيان أجناس مختلفة الاسماء والصفات، كذلك الافعال أجناس مختلفة، ولا يتناول بعضها بعضا، فالشرب ليس بأكل، وكذا العكس، فإذا

(8/37)


حلف: لا يأكل، فشرب ماء أو غيره، أو حلف: لا يشرب، فأكل طعاما، لا يحنث. واللبن والخل وباقي المائعات إذا حلف لا يأكلها، فأكلها بخبز، حنث، أو شربها لم يحنث. وإن حلف: لا يشربها، فالحكم بالعكس. ولو حلف: لا يأكل سويقا، فاستفه، أو تناوله بملعقة أو باصبع مبلولة، حنث. ولو ماثه في الماء وشربه، لم يحنث. ولو حلف: لا يشرب السويق، فالحكم بالعكس. ولو كان السويق خاثرا، بحيث يؤخذ بالملاعق، فتحساه، ففيه خلاف، والاصح أنه ليس بشرب. ولو قال: لا أطعم أو لا أتناول، دخل في اليمين الاكل والشرب جميعا. فرع حلف: لا يأكل السكر، حنث بنفس السكر، دون ما يتخذ منه، إلا إذا نوى. وكذا الحكم في التمر والعسل. ثم إن ابتلع السكر بلا مضغ، فقد أكله، كما لو أكل الخبز على هيئته، وإن مضغه وازدرده ممضوغا، حنث أيضا، وإن وضعه في فمه فذاب ونزل، لم يحنث على الاصح، وبه قطع المتولي والبغوي، كما أنه لا يسمى أكلا للسكر. فرع حلف: لا يأكل العنب والرمان، لم يحنث بأكل عصيرهما وشربه. ولو امتصهما، ورمى الثفل، لم يحنث أيضا، لانه ليس آكلا. حلف: لا يأكل السمن، فأكله وهو جامد وحده، حنث، وإن شربه ذائبا، لم يحنث على الصحيح، وإن أكله بخبز وهو جامد أو ذائب، حنث على الصحيح، وخالف فيه الاصطخري. وإن جعله في عصيدة أو سويق، فالنص أنه يحنث ونص أنه لو حلف: لا يأكل خلا، فأكله سكباجا، لا يحنث، فقال الجمهور: ليس ذلك باختلاف، بل إن كان السمن ظاهرا في العصيدة والسويق يرى جرمه، حنث وهذا مراده بنص السمن، وكذا حكم الخل إذا كان ظاهرا بلونه، وطعمه، بأن أكل مرقة وهي حامضة وإن كان السمن أو الخل مستهلكا، لم يحنث. وهذا مراده بنص الخل. وصوروا ذلك فيما إذا أكل لحم السكباج أو ما فيه من سلق وغيره،

(8/38)


ومنهم من أطلق وجهين أو قولين فيهما. فرع حلف: لا يأكل أو لا يشرب، لا يحنث بمجرد الذوق، ولو حلف: لا يذوق، فأكل أو شرب، حنث على الصحيح، لتضمنهما الذوق. وإن أدرك طعم الشئ بالمضغ والامساك في الفم، ثم مجه ولم ينزل إلى حلقه، فوجهان. أحدهما: لا يحنث، كما لا يفطر. وأصحهما: يحنث، لان الذوق إدراك الطعم. ولو حلف: لا يأكل ولا يشرب ولا يذوق، فأوجر في حلقه حتى صار في جوفه، لم يحنث. ولو قال: لا أطعم كذا فأوجره، حنث، لان معناه: لا جعلته لي طعاما. التاسعة: حلف لا يأكل الفاكهة، حنث بأكل العنب، والرمان، والرطب، والتفاح، والسفرجل، والكمثرى، والمشمش، والخوخ، والاجاص، والاترج، والنارنج، والليمون، والنبق، والموز، والتين، ولا يحنث بالقثاء والخيار والباذنجان والجزر، ويحنث بالبطيخ على الاصح، وبه قال ابن سريج، لان له نضجا وإدراكا، ويدخل في اسم الفاكهة الرطب واليابس، كالتمر والزبيب والتين اليابس، ومفلق الخوخ والمشمش، وهل يحنث بلب الفستق والبندق وغيرهما ؟ وجهان أصحهما: نعم، لانه يعد من يابس الفاكهة، كذا قاله الجمهور، وقالوا: لو حلف لا يأكل الثمار، حنث بالرطب دون اليابسات. وقال المتولي: لا يحنث باليابس في يمين الفاكهة أيضا. والصحيح: الاول. العاشرة: حلف: لا يأكل البيض، ثم حلف: ليأكلن ما في كم زيد، فإذا هو بيض، فجعله في الناطف وأكله كله، لا يحنث في واحدة من اليمينين، ولا بد من أكل جميعه. فرع يتعلق بهذا النوع: الرطب ليس بتمر، والعنب ليس بزبيب، وعصير

(8/39)


العنب ليس بعنب، وعصير التمر ودبسه ليس س بتمر، والسمسم ليس بشيرج، وكذا العكوس. والرطب ليس ببسر ولا بلح. ولو حلف: لا يأكل الرطب، فأكل المنصف، نظر، إن أكل النصف الذي أرطب، حنث قطعا، وإن أكل الجميع، حنث على الصحيح، وخالف فيه الاصطخري، وأبو علي الطبري. وإن أكل النصف الذي لم يرطب، لم يحنث، ولو حلف: لا يأكل البسر، فأكل المنصف، ففيه هذا التفصيل، والحكم بالعكس. ولو حلف: لا يأكل بسرة ولا رطبة، فأكل منصفا، لم يحنث. ولو حلف: لا يأكل طعام، تناول اللفظ القوت والادام والفاكهة والحلواء. وفي الدواء وجهان. ولو حلف: لا يأكل قوتا، حنث بأكل ما يقتات من الحبوب، ويحنث بالتمر والزبيب واللحم إن كان ممن يقتاتها، وحلا فوجهان. ولو حلف: لا يأكل إداما، حنث بكل ما يؤتدم به، سواء كان مما يصطبغ به، كالخل والدبس والشيرج والزيت والسمن والمربى، أو لا يصطبغ به كاللحم والجبن والبقل والبصل والفجل والثمار، وكذا التمر والملح على الصحيح فيهما. واسم الماء يتناول العذب والملح، ومياه الابار والانهار، وكذا ماء البحر، وفيه احتمال للشيخ أبي حامد. فلو حلف: لا يشرب الماء، لم يحنث بأكل الجمد والثلج، ويحنث بشرب مائهما. ولو حلف: لا يأكل الجمد والثلج، لم يحنث بشرب مائهما. والثلج ليس بجمد، وكذا العكس. ولو حلف: لا يأكل مما طبخه زيد، فالاعتبار فيه بالايقاد إلى الادراك، أو وضع القدر في التنور بعد سجره، فان أوقد زيد تحته حتى أدرك، أو وضعها في التنور فأكل منه، حنث، سواء وجد نصب القدر وتقطيع اللحم، وصب الماء عليه، وجمع التوابل، وسجر التنور منه، أو من غيره. ولو أوقد، أو

(8/40)


وضع في التنور مع غيره، لم يحنث، لانه لم ينفرد بالطبخ، وكذا لو أوقد هذا ساعة، وهذا ساعة. قال الامام: ولو جلس الحاذق بالطبخ قريبا، واستخدم صبيا في الايقاد، وقلل أو كثر ففيه تردد، إذ يضاف الطبخ هنا إلى الاستاذ. ولو قال: لا آكل ما خبزه فلان، فالاعتبار بالصاقه إلى التنور، لا بالعجن وسجر التنور وتقطيع الرغفان وبسطها. قلت: ولو حلف: لا يأكل ثريدا، لم يحنث بخبز غير مثرود في مرق. والله أعلم.
النوع الثالث : في العقود وفيه مسائل: إحداها: حلف: لا يأكل طعاما اشتراه زيد، أو من طعام اشتراه زيد، أو لا يلب ثوبا اشتراه زيد، لم يحنث بما ملكه بإرث أو هبة أو وصية، أو رجع إليه برد بعيب أو بإقالة وإن جعلنا الاقالة بيعا، لانه لا يسمى بيعا عند الاطلاق، وكذا لا يحنث بما خلص له بالقسمة وإن جعلناها بيعا. ويحنث بما ملكه بالتولية والاشراك والسلم، لانها بيوع، ولا يحنث بما ملكه بالصلح على الصحيح، وبه قطع الصيدلاني والبغوي والمتولي والروياني وغيرهم. ولو قال: لا أدخل دارا اشتراها زيد، لم يحنث بدار ملك بعضها بالشفعة. ولا يحنث بم اشتراه لزيد وكيله، ويحنث بما اشتراه زيد لغيره بوكالة أو ولاية. ولو اشتراه زيد ثم باعه، فأكله، حنث، لانه موصوف بأن زيدا اشتراه. وكذا لو باع بعضه وأكل من ذلك البعض ولو أكل طعاما اشتراه زيد وعمرو، لم يحنث على الصحيح. وقيل: يحنث، لانه

(8/41)


ما من جزء إلا وقد ورد عليه شراء زيد، وهذا اختيار القاضي أبي الطيب. وقيل: إن أكل النصف فما دونه، لم يحنث، وإن أكل أكثر منه، حنث، لانا تتحقق أنه أكل مما اشتراه زيد، ثم لم يفرق الجمهور بين قوله: لا آكل من طعام اشتراه زيد، وقوله: طعاما اشتراه زيد. وخص البغوي الاوجه بما إذا قال: من طعام اشتراه زيد، وقطع بعدم الحنث فيما إذا قال: طعاما اشتراه زيد، قال: إلا أن يريد أن لا يأكل طعامه أو من طعامه، فيحنث بالمشترك. ولو اشترى زيد طعاما، وعمرو طعاما، وخلطا، فأكل الحالف من المختلط، فثلاثة أوجه. أحدها: لا يحنث وإن أكل الجميع، وبه قال ابن أبي هريرة، لانه لا يمكن الاشارة إلى شئ منه بأنه اشتراه زيد. والثاني، وهو قول الاصطخري، واختاره القاضي أبو الطيب: إن أكل أكثر من النصف، حنث، وإلا، فلا، وهو عند استواء القدرين. والثالث، وهو الاصح، وبه قال أبو إسحق: أنه إن أكل قليلا يمكن أن يكون مما اشتراه عمرو، كعشر حبات من الحنطة، وعشرين حبة، لم يحنث، وإن أكل قدرا صالحا، كالكف والكفين، حنث، لانا نتحقق أن فيه مما اشتراه زيد. فرع قال: لا أسكن دارا لزيد، فسكن دارا له فيها حصة قليلة، أو كثيرة، لا يحنث. نص عليه في الام. فرع في تعليقة ابرهيم المروذي: أنه لو حلف: لا يأكل طعام زيد، فأكل مشتركا بينه وبين غيره، حنث، وقد سبق عن البغوي ما يوافقه، قال: ولو حلف لا يلبس ثوب زيد، أو لا يركب دابته، فلبس أو ركب مشتركا، لم يحنث. المسألة الثانية: حلف لا يشتري أو لا يبيع، فوكل من باع واشترى له، أو لا يضرب عبده، فأمر من ضربه، أو حلف الامير أو القاضي: لا يضرب، فأمر الجلاد فضرب، لم يحنث، وذكر الربيع أن الحالف إن كان ممن لا يتولى البيع والشراء، أو الضرب بنفسه كالسلطان، أو كان الفعل المحلوف عليه لا يعتاد الحالف

(8/42)


فعله، أو لا يجئ منه، كالبناء والتطيين، حنث إذا أمر به. فمنهم من جعل هذا قولا آخر، وأثبت قولين، والمذهب القطع بأنه لا يحنث، والامتناع من جعله قولا، ولو حلف: لا يزوج، أو لا يطلق، أو لا يعتق، فوكل وعقد الوكيل، فكالتوكيل في البيع. ولو فوض الطلاق إلى زوجته، فطلقت نفسها، لم يحنث على المذهب. وحكي قول أنه يحنث هنا وإن لم يحنث في التوكيل، لانه فوضه إلى من لا يملكه، وكأنه هو المطلق. فلو قال: إن فعلت كذا، أو إن شئت، فأنت طالق، ففعلت، أو شاءت، حنث، لان الموجود منها مجرد صفة، وهو المطلق. ولو حلف: لا يتزوج، أو لا ينكح، فوكل من قبل له نكاح امرأة، فهل يحنث ؟ وجهان حكاهما المتولي. أحدهما: لا، كالبيع، وبه قطع الصيدلاني، والغزالي. والثاني: نعم، لان الوكيل هنا سفير محض، ولهذا يجب تسمية الموكل، وبه قطع البغوي. ولو قبل لغيره نكاحا، فمقتضى الوجه الاول الحنث، ومقتضى الثاني المنع. ولو حلف: لا يبيع ولا يشتري، فتوكل لغيره فيهما، حنث على الاصح، وهو الذي أطلقه جماعة، وقيل: لا يحنث، وقيل: إن صرح بالاضافة إلى الموكل، لم يحنث، وإن نواه ولم يصرح، حنث. ولو قال: لا أكلم عبدا اشتراه زيد، لم يحنث بتكليم عبد اشتراه وكيله. ولو قال: لا أكلم امرأة تزوجها زيد، فكلم من تزوجها لزيد وكيله، ففيه الوجهان، فيما لو حلف: لا يتزوج، فتزوج وكيله له. ولو حلف: لا يكلم زوجة زيد، حنث بتكليم من تزوجها بنفسه أو بوكيله بلا خلاف. واعلم أن كل هذه الصور فيمن أطلق ولم ينو، فأما إن نوى أن لا يفعل ولا يفعل بإذنه، أو لا يفعل ولا يأمر به، فيحنث إذا أمر به ففعل، هكذا أطلقوه مع قولهم: إن اللفظ حقيقة لفعل نفسه، واستعماله في المعنى الآخر مجاز. وفي هذا استعمال اللفظ في الحقيقة والمجاز جميعا، وهو بعيد عند أهل الاصول، والاولى أن يؤخذ معنى مشترك بين الحقيقة والمجاز جميعا، فيقال: إذا نوى أن لا يسعى في

(8/43)


تحقيق ذلك الفعل، حنث بمباشرته، وبالامر به، لشمول المعنى وإرادة هذا المعنى إرادة المجاز فقط. قلت: هذا الذي ذكره الرافعي حسن، والاول صحيح على مذهب الشافعي، وجمهور أصحابنا المتقدمين في جواز إرادة الحقيقة والمجاز بلفظ واحد. والله أعلم. فرع حلف: لا يحلق رأسه، فأمر غيره، فحلقه، فقيل: يحنث للعرف. وقيل: فيه الخلاف، كالبيع. ولو حلف: لا يبيع من زيد، فباع من وكيله، أو وكل من باع من زيد، لم يحنث. ولو حلف: لا يبيع لزيد مالا، فباع ماله بإذنه أو بإذن الحاكم بحجر، أو امتناع الحاكم، حنث. وإن باع بغير إذن، لم يحنث، لفساد البيع. فلو وكل زيد وكيلا في بيع ماله، وأذن له في التوكيل، فوكل الوكيل الحالف وهو لا يعلم، نص في الام أنه لا يحنث، وهو تفريع على أحد القولين في حنث الناسي. وقال المتولي: إن كان أذن لوكيله أن يوكل عنه، حنث، لانه باع لزيد يعني إذا علم، أو قلنا: يحنث الناسي، وإن كان أذن له في التوكيل عن نفسه، فباع، لم يحنث، لانه لم يبع لزيد، بل لوكيله وإن أطلق الاذن في التوكيل، فعلى الخلاف في أن من يوكله وكيل الموكل، أم وكيل الوكيل ؟ ولو قال: لا يبيع لي زيد مالا، فوكل الحالف رجلا في البيع، وأذن له في التوكيل، فوكل الوكيل زيدا، فباع، حنث الحالف، سواء علم زيد أم لم يعلم، لان اليمين منعقدة على نفي فعل زيد، وقد فعله زيد باختياره. المسألة الثالثة: حلف لا يبيع، فباع بيعا فاسدا، أو لا يهب، فوهب هبة فاسدة، لم يحنث، وتنزل ألفاظ العقود على الصحيح. هذا إذا أطلق اليمين، فإن أضاف العقد إلى مالا يقبله، بأن حلف: لا يبيع الخمر، أو المستولدة، أو مال زوجته، أو غيرها بغير إذن، ثم أتى بصورة البيع، فإن مقصوده أن لا يتلفظ بلفظ العقد مضافا إلى ما ذكره، حنث، وإن أطلق، لم يحنث، لان البيع هو السبب

(8/44)


المملك، وذلك لا يتصور في الخمر، أو المستولدة، أو مال زوجته، أو غيرها بغير إذن، ثم أتى بصورة يحنث بصورة البيع، وهو وجه لغيره حكاه صاحب التقريب والصحيح الاول، وسيأتي خلاف إن شاء الله تعالى في أنه هل يتعين حمل لفظ العبادات كصوم وصلاة على الصحيح ؟ ولا خلاف أنه لو حلف أن لا يحج، يحنث بالفاسد، لانه منعقد يجب المضي فيه كالصحيح. ولو حلف لا يبيع بيعا فاسدا، لم يحنث بالبيع الفاسد، ذكره الصيدلاني والروياني. وقال الامام: الوجه عندنا أنه يحنث. الرابعة: إذا حلف لا يهب، حنث بكل تمليك في الحياة خال عن العوض، كالهبة والصدقة والرقبى والعمرى، لانها أنواع خاصة من الهبة، وقيل: لا يحنث بما سوى الهبة. وقيل: يحنث بالرقبى والعمرى دون الصدقة، حكاه المتولي، ووجهه بأن الهبة والصدقة تختلفان اسما ومقصودا وحكما. أما الاسم، فلان من تصدق على فقير لا يقال: وهب له، وأما ا المقصود، فلان الصدقة للتقرب إلى الله تعالى، والهبة لاكتساب المودة. وأما الحكم، فلان النبي - صلى الله عليه وسلم - كان لا يأكل الصدقة، ويأكل الهبة والهدية. هذا في صدقة التطوع، أما إذا أدى الزكاة، أو صدقة الفطر، فلا يحنث، كما لو أدى دينا. وعن القفال ترديد جواب فيه، والمذهب الاول. ولا يحنث بالاعارة، إذ لا تمليك فيها، ولا بالوصية، لانها تمليك بعد الموت، والميت لا يحنث ولا بالضيافة. وقال ابن القطان: يحنث بالوصية. وفي الضيافة وجه حكاه المتولي بناء على أن الضيف يملك ما يأكله، والصحيح الاول في المسألتين. ولا يحنث بالوقف عليه إن قلنا: الملك فيه للواقف، أو لله تعالى، وهو المذهب، وإن قلنا للموقوف عليه، حنث. وقيل: فيه خلاف. ولو قال الحالف لرجل: وهبتك كذا فلم يقبل لم يحنث على الصحيح، لان العقد لم يتم قال ابن سريج: يحنث، لانه يقال: وهبه كذا، فلم يبل، وخرج على هذا الخلاف فيما إذا أعمره أو أرقبه، ولم نصحح العقدين. ولو تم الايجاب والقبول في الهبة، لكن لم تقبض، فوجهان، أصحهما عند المتولي: يحنث لان الهبة حصلت، والمتخلف الملك. وعند البغوي: لا يحنث، لان مقصود الهبة ليحصل.

(8/45)


قلت: الاصح لا يحنث، وصححه آخرون غير البغوي، منهم الرافعي في المحرر. والله أعلم. فرع حلف: لا يتصدق، فتصدق فرضا أو نفلا، يحنث، لشمول الاسم، وسواء تصدق على فقير أو غني. وقال المتولي: لو دفع إلى ذمي لا يحنث، لانه لا قربة فيه، وهذا ممنوع، ويحنث بالاعتاق دون الاعارة والضيافة، وفي الهبة وجهان. أحدهما: يحنث بها كعكسه. وأصحهما، لا. والصدقة والهبة تتداخلان تداخل العموم والخصوص، فكل صدقة هبة، ولا ينعكس. ولو وقف، فقد أطلق المتولي أنه يحنث، وقال غيره: يبنى على الاقوال في ملك الوقف لمن هو ؟ إن قلنا: للواقف، لم يحنث. وإن قلنا: لله تعالى، حنث، وإن قلنا: للموقوف عليه، فوجهان، كالهبة. فرع حلف: لا يبر فلانا، دخل في اليمين جميع التبرعات من الهبة والهدية والاعارة والضيافة والوقف وصدقة التطوع، فيحنث بأيها وجد ولو كان المحلوف عليه عبده، فأعتقه، حنث، وكذا لو كان عليه دين، فأبرأه، ولا يحنث بأن يدفع إليه الزكاة. ولو حلف: لا يعتق عبدا فكاتبه، وعتق بالاداء، لم يحنث، ذكره ابن القطان. ولو حلف: لا يضمن لفلان مالا، فكفل بدن مديونه، لم يحنث . الخامسة: حلف: لا مال له، حنث بكل مال حتى ثياب بدنه، وداره التي يسكن فيها، وعبده الذي يخدمه، ولا يختص بنوع من المال إلا أن ينويه، ولو كان له دين حال على ملئ مقر، حنث، كالوديعة. قال المتولي: وخرج فيه وجه من قوله القديم: لا زكاة في الدين، والمذهب الاول، وإن كان مؤجلا أو على معسر، أو جاحد، حنث على الاصح، لانه ثابت في الذمة يصح الابراء منه. وقيل: في الجاحد وجه ثالث: إن كان له مغضوب بينة، حنث قطعا، وإلا، فلا. ولو كان له عبد آبق، أو مال ضالة، أو مفصوب، أو مسروق، وانقطع خبرها، ففي الحنث وجهان، لتعارض أصل بقائها، وعدم الحنث. ولو كان الغاصب حاضرا،

(8/46)


والمالك قادر على الانتنزاع منه، أو على بيعه ممن يقدر على انتزاعه، حنث قطعا، ذكره المتولي. ولو كان له مدبر أو معلق عتقه بصفة أو مال أو وصى به، حنث، لانها باقية على ملكه، ولا يحنث بالمكاتب على الاصح. ويقال: الاظهر، وقيل: قطعا، ويحنث بأم الولد على الاصح، لان رقبتها له، وله منافعها، وأرش الجناية عليها. ولو كان يملك منفعة بوصية أو إجارة، لم يحنث على الصحيح، ولا يحنث بالموقوف إن قلنا: الملك فيه لله تعالى أو للواقف، وإن قلنا: له، فكالمستولدة. ولو كان قد جنى عليه خطأ أو عمدا، أو عفا على مال، حنث، وإن كانت الجناية عمدا، ولم يقتص ولم يعف، قال في البيان يحتمل أن يبنى على أن موجب العمد ماذا ؟ إن قلنا: القود، لم يحنث، وإن قلنا: القود أو المال، حنث، وقد يتوقف في هذا. قلت: الصواب الجزم بأن لا حنث. والله أعلم. وكون المال مرهونا لا يمنع الحنث، وكذا عدم استقرار الملك. وقال ابن القطان: لا يحنث بالاجرة المقبوضة إذا لم تنقض المدة، وغلطه ابن كج. فرع حلف لا ملك له، حنث بالآبق والمغصوب، وإن كان له زوجة، قال المتولي: يبنى على أن النكاح هل هو عقد تمليك، أو عقد حل ؟ فإن قلنا: تمليك، حنث. قلت: المختار أنه لا حنث إذا لم تكن نية، لانه لا يفهم منه الزوجة، وينبغي أن لا يحنث بالكلب والسرجين وغيرهما من النجاسات، ولا بالزيت النجس إذا لم نجز بيعه. ولو حلف: لا رقيق له، أو لا عبد له، أو لاأمة له، وله مكاتب، لم يحنث على المنصوص، وهو المذهب، ويحنث بمدبر قطعا. والله أعلم.
الرابع : في الاضافات والصفات، وفيه مسائل: إحداها: حلف لا يدخل دار زيد أو بيته، أو لا يلبس ثوبه، أو لا يركب

(8/47)


دابته، قال الاصحاب: مطلق الاضافة إلى من يملك مقتضى ثبوت الملك، ولهذا لو قال: هذه الدار لزيد، كان إقرارا بملكه. فلو قال: أردت أنها مسكنه، لا يقبل، وقد تضاف الدار والبيت إلى الانسان بجهة أنها مسكنه، لكنه مجاز، ولهذا يصح نفي الاضافة مع إثبات السكنى، فيقال: هذه الدار ليست ملك زيد، لكنها مسكنه. إذا عرف هذا فلا يحنث الحالف بدخول دار يسكنها زيد بإجارة أو إعارة أو غصب، إلا أن يقول أردت المسكن، ويحنث بدخول دار يملكها وإن لم يسكنها، إلا أن يقول: أرد ت مسكنه. ولو حلف: لا يدخل مسكن فلان، حنث بدخول مسكنه المملوك والمستأجر. وفي المغصوب وجهان، لانه لا يملك سكناه. قلت: أصحهما: الحنث. والله أعلم. وفي دخول داره التي لا يسكنها أوجه، أصحهما: لا يحنث، والثالث: إن كان سكنه ولو يوما، حنث، وإلا، فلا، ولو أراد مسكنه المملوك، لم يحنث بغيره بحال. فرع حلف: لا يدخل دار زيد، وقد وقف زيد على غيره دارا، قال المتولي: إن قلنا: الوقف ملك للواقف، حنث بدخولها، وإلا فلا. وإن دخل دارا موقوفة على زيد، فإن قلنا: الوقف ملك للموقوف عليه، حنث، وإلا، فلا. ولو دخل دارا لمكاتب زيد، لم يحنث. فرع حلف: لا يدخل دار المكاتب، حنث بدخولها على الصحيح، لانه مالك نافذ التصرف. المسألة الثانية: حلف: لا يدخل دار زيد، فباعها زيد، ثم دخلها، لم يحنث، لانه لم يدخل دار زيد، وكذا لو قال: لاأكلم عبد فلان أو أجيره أو زوجته، فكلم بعد زوال ملكه عن العبد وانقطاع الاجارة والنكاح، أو قال: لا أكلم سيد هذا العبد، أو زوج هذه ا المرأة، فكلم بعد زوال الملك والنكاح، لم يحنث. فلو اشترى زيد بعد ما باعها دارا أخرى، قال الصيدلاني: إن قال: أردت الاولى بعينها، لم يحنث بدخول الثانية، وإن قال: أردت أي دار تكون في ملكه، حنث بالثانية دون الاولى، وإن قال: أردت أي دار جرى عليها ملكه، حنث بأيتها دخل.

(8/48)


هذا كله إذا قال: دار زيد ولم يعين، فأما إذا قال: لا أدخل دار زيد هذه، فباعها زيد، ثم دخلها، فيحنث على الصحيح، لانه عقد اليمين على عين تلك الدار، ووصفها باضافة قد تزول، فغلب التعيين كما لو قال: لا أكلم زوجة زيد هذه، أو عبده هذا، فكلمهما بعد الطلاق والعتق، يحنث. ولو قال: لا آكل لحم هذه البقرة، وأشار إلى شاة، فإنه يحنث بأكل لحمها، فيجئ فيها الخلاف فيما لو قال: بعتك هذه البقرة وهي شاة، لان العقود يراعى فيه شروط وتعبدات لا يعتبر مثلها في الايمان. ولو حلف: لا يكلم زيدا هذا، فبدل اسمه، واشتهر بالاسم المبدل، ثم كلمه، حنث اعتبارا بالتعيين. الثالثة: حلف: لا يدخل هذه الدار من هذا الباب، فدخلها من موضع آخر عتيق أو محدث، وذلك الباب بحاله، لم يحنث، فلو قلع الباب، وحول إلى منفذ آخر من تلك الدار، فثلاثة أوجه، أصحها: تحمل اليمين على المنفذ الاول، لانه المحتاج إليه في الدخول، فإن دخل منه، حنث، وإن دخل من المنفذ المحول إليه، لم يحنث. والثاني: يحمل على الباب المتخذ من الخشب ونحوه، لان اللفظ له حقيقة، فيحنث بدخول المنفذ المحول إليه دون الاول. والثالث: يحمل عليهما لان الاشارة وقعت إليهما، فلا يحنث بدخول منفذ آخر، وإن نصب عليه ذلك الباب، ولا بدخول المنفذ الاول، هذا إذا أطلق. فإن قال: أردت بعض هذه المحامل، حمل عليه، وارتفع الخلاف، ولو قلع الباب، ولم يحول إلى موضع آخر، حنث بدخول ذلك المنفذ على الاصح ويعبر عن الخلاف بأن الاعتبار بالمنفذ، أم بالباب المنصوب عليه ؟ قال المتولي: بناء عليه لو قال: لا أدخل هذا الباب، وقلنا: تنعقد اليمين على الباب المنصوب. فنقل إلى دار أخرى، فدخلها منه، حنث، والمذهب أنه لا يحنث إلا أن يريد: لا أدخل منه حيث نصب. ولو قال: لا أدخل باب هذه الدار، ولا أدخل هذه الدار من بابها، ففتح باب جديد، فدخلها منه، حنث على الاصح. ولو قال: لاأدخلها من بابها، فتسلق ونزل من السطح، لم يحنث.

(8/49)


الرابعة: حلف: لا يركب دابة عبد زيد، ولا يدخل داره، لا يحنث بالدابة والدار المجعولين باسم العبد، إلا أن يريد: فإن ملكه السيد دابة أو دارا، بني على أنه هل يملك ؟ إن قلنا: نعم، حنث، وإلا، فلا. هذا هو الصحيح، وقول الجمهور. وقال ابن كج: لا يحنث وإن قلنا: يملك لان ملكه ناقص، والسيد متمكن من إزالته، فكأنه بينه وبينه، وصار كمن حلف لا يركب دابة زيد وركب مشتركة بينه وبين غيره. ولو حلف: لا يركب دابة زيد، فركب دابة كها زيد لعبده، إن قلنا: لم يملك، لم يحنث، وإلا فيحنث. ولو حلف: لا يركب دابة العبد، فعتق وركب دابة يمكها، فقطع الغزالي بالحنث، وابن كج بالمنع إذا لم يكن له بينة، لانه إنما يركب دابة حر. وينبغي أن يقال: إن قال: لا أركب دابة هذا، حنث، وإن قال: دابة عبد، فلا، وإن قال: دابة هذا العبد، فليكن على خلاف يأتي إن شاء الله فيما لو حلف لا يكلم هذا العبد، فعتق، ثم كلمه. ولو قال: لا أركب سرج هذه الدابة، فركب السرج المعروف بها، حنث وإن كان على دابة أخرى، ويقرب من هذا ما إذا حلف على دار أو خان منسوب، فيحمل على التعريف، كخان أبي يعلى عندنا، وكدار العقيقي بدمشق. المسألة الخامسة: حلف: لا ألبس ثوبا من به فلان علي، أو ما من به علي، فلبس ثوبا وهبه له، أو أوصى له به، حنث. ولو لبس ما باعه اياه بمحاباة، لم يحنث، لان المنة في نقص الثمن لا بالثوب. وكذا لو باعه ثوبا ثم أبرأه من ثمنه، فلبسه، أو أبدل الموهوب، أو الموصى به بغيره، أو باعه واشترى بثمنه ثوبا فلبسه، لم يحنث، لان الايمان تبنى على الالفاظ، لا على القصود التي لا يحتملها اللفظ، ولهذا لو من عليه رجل، فحلف: لا يشرب له ماء من عطش، فشربه من غير عطش، أو أكل له طعاما، أو لبس له ثوبا، لا يحنث، لان اللفظ لا يحتمله، وإن كان يقصد في مثل هذا الوضع الامتناع من جميع هذا. السادسة: حلف: لا يلبس من غزل فلانة، أو ثوبا من غزلها، فلبس ثوبا خيط بغزلها، لم يحنث وإن لبس ثوبا سداه من غزلها، واللحمة من غيره، فإن

(8/50)


كان قال: لا ألبس ثوبا من غزلها، لم يحنث. وإن قال: لا ألبس من غزلها، حنث، بخلاف الخيط، فإنه لا يوصف بأنه ملبوس. فرع يراعى مقتضى اللفظ في هاتين المسألتين ونظائرهما في تناول الماضي والمستقبل أو أحدهما، فإذا قال: لا ألبس ما من به علي، فإنما يحنث بلبس ما تقدمت المنة به بالهبة وغيرها، ولا يحنث بما يمن به فيما بعد. وإذا قال: لا ألبس ما غزلته فلانة، فإنما يحنث بما غزلته من قبل دون ما تغزله فيما بعد. ولو قال: لا ألبس ما يمن به، أو ما تغزله، حنث بما تحدث المنة به وغزله دون ما سبق. ولو قال: لا ألبس من غزلها، دخل فيه الماضي والمستقبل. السابعة: حلف: لا يلبس ثوبا، حنث بلبس القميص والرداء والسراويل والجبة والقباء ونحوها، وسواء المخيط وغيره، والقطن والكتان والصوف والابريسم، وسواء لبسه على الهيئة المعتادة أو بخلافها، بأن ارتدى أو اتزر بالقميص، أو تعمم بالسراويل، ولا يحنث بلبس الجلود وما يتخذ منها، ولا بلبس الحلي والقلنسوة، ولا بوضع الثوب على الرأس، ولا بأن يفرشه ويرقد عليه. ولو تدثر به، لم يحنث على الاصح، لانه لا يسمى لبسا، ولو قال: لا ألبس حليا، حنث بالسوار والخلخال والطوق والدملج، وخاتم الذهب والفضة،

(8/51)


ولا يحنث بالمتخذ من شبه أو حديد، ويحنث بمخنقة اللؤلؤ والجواهر وإن لم يكن فيها ذهب، ولا يحنث بتقلد السيف المحلى. وفي المنطقة المحلاة وجهان، أصحهما: أنها من حلي الرجل، ويحنث بلبس الخرز والسبج إن كان الحالف من قوم يعتادون التحلي بهما، كأهل السواد. وفي غيرهم وجهان، كما لو حلف غير البدوي: لا يدخل بيتا، فدخل بيت شعر. ولو حلف: لا يلبس شيئا، حنث بلبس الثياب والحلي والقلنسوة والجلود وفي الدرع والخف والنعل والجوشن وجهان. أصحهما: يحنث، وقد يطرد الخلاف في الحلي والقلنسوة. ولو قال: لا ألبس قميصا، فارتدى أو اتزر بقميص، حنث على الاصح، ولو فتقه وقطعه وارتدى، أو اتزر به، لم يحنث، لفوات اسم القميص. ولو قال: لا ألبس هذا القميص، فارتدى به أو اتزر، أو قال: لا ألبس هذا الرداء، فاتزر به، أتعمم، حنث على الصحيح، لتعلق اليمين بعين القميص. ولو قال: لا ألبس هذا الثوب، وكان المحلوف عليه قميصا أو رداء، ففتقه واتخذ منه نوعا آخر، بأن جعل القميص رداء، أو الرداء جبة أو تككا، أو الخف نعلا، ثم لبس المتخذ، حنث على الاصح، إلا أن ينوي لا يلبسه ما دام على تلك الهيئة. فلو لم يذكر الثوب، بل قال: لا ألبس هذا القميص، أو هذا الرداء، ففتقه، واتخذ منه نوعا آخر ولبسه، ففيه الوجهان، لكن الاصح هنا: لا يحنث، كما سيأتي في نظائره إن شاء الله تعال. فإن قلنا: لا يحنث، فأعاد الهيئة الاولى، ففي الحنث الوجهان في الدار تعاد بعد الانهدام بذلك النقص. ولو كان قال في يمينه: لا ألبس هذا القميص، أو الثوب قميصا، أو هذا الثوب أو الرداء رداء، فإن تقمص بالقميص، أو ارتدى بالرداء، حنث، وإن اتزر بالقميص أو تعمم بالرداء، لم يحنث. وكذا لو اتخذ من القميص غير قميص، ومن الرداء غير رداء، ثم لبسهما، ولو قال: لا ألبسه وهو قميص، فارتدى به، أو تعمم أو اتزر، حنث، لانه لبس وهو قميص، وإن اتخذ منه غير القميص ولبسه، لم يحنث. فرع الوجهان فيمن قال: لا ألبس هذا القميص، فاتخذ منه غيره ولبسه،

(8/52)


يجريان في صور. منها: لو أشار إلى صبرة حنطة، وقال: لا آكل هذه، حنث بأكلها على هيئتها، وبأكلها بعد الطحن والعجن والخبز والطبخ. ولو قال: لا آكل حنطة، لم يحنث بالخبز والعجين والدقيق والسويق، ويحنث بأكل الحنطة نيئة ومقلية ومطبوخة ومبلولة. ولو قال: لا آكل هذه الحنطة، حنث بأكلها نيئة فقط، ومطبوخة، وهل يحنث بأكل دقيقها وسويقها وعجينها وخبزها ؟ وجهان. أصحهما: لا، وبه قطع بعضهم، لزوال اسم الحنطة، فصار كما لو زرعها وأكل حشيشها. أو قال: لا آكل هذا البيض، فصار فرخا فأكله، فلو قال: لا آكل من هذه الحنطة، فكذلك الحكم، إلا أن هنا يحنث بأكل بعضها. وحكي وجه أنه إذا قال: من هذه الحنطة، حنث بأكل كل ما يتخذ منها. ولو قال: لا آكل هذا الدقيق، فأكل عجينه أو خبزه، أو هذا العجين، فأكل خبزه، فعلى الخلاف. ومنها: لو قال: لا آكل هذا الحيوان، فذبحه وأكله، حنث، لان الحيوان هكذا يؤكل، وهو كما لو حلف: لا يلبس هذا الغزل، فلبس ثوبا نسج منه، حنث. ولو قال: لا آكل لحم هذه السخلة أو الخروف، فصار كبشا فذبحه وأكله، فمن قال في مسألة الحنطة: يحنث، قال هنا: يحنث، ومن قال هناك: لا يحنث، قال هنا: وجهان، أصحهما: لا يحنث، ويجري الوجهان فيما لو قال: لا أكلم هذا الصبي، فكلمه بعد مصيره شابا، أو هذا الشاب فكلمه بعد مصيره شيخا. ومنها: لو قال: لا أكلم هذا وأشار إلى عبد فعتق، ثم كلمه، حنث، ولو قال: لا أكلم هذا العبد، فعتق، فهو كمسألة السخلة. ومنها: لو قال: لا آكل هذا الرطب، فصار تمرا، أو هذا البسر فصار رطبا، أو العنب فصار زبيبا، أو لا أشرب هذا العصير، فصار خمرا، أو هذا الخمر فصار خلا، أو لا آكل هذا التمر، فاتخذ منه عصيدة، ثم أكل أو شرب، ففيه هذا الخلاف، وذكر الصيدلاني أن الشافعي رحمه الله نص على عدم الحنث في مسألة الحنطة والتمر، وعلى الحنث في الصبي والسخلة. فقيل: قولان: وقيل: بتقرير النصين. والفرق من وجهين: أحدهما: أن مسألة الحنطة والتمر تبدل الاسم، وفي السخلة والصبي تبدل الصفة، وتبدل الصفة لا يسقط الحنث، والثاني: أن التبدل

(8/53)


في الاول بمعالجة، بخلاف الثاني. فرع حلف: لا يلبس الخاتم، فجعله في غير الخنصر من أصابعه، فعن المزني في الجامع أنه لا يحنث، وتابعه البغوي، وقاسه على ما لو حلف: لا يلبس القلنسوة، فجعلها في رجله، والذي حكاه الروياني عن الاصحاب أنه يحنث. الثامنة: حلف: لا يخرج فلان إلا بإذنه، فأذن بحيث لم يسمح المأذون له، ولم يعلم وخرج، فطريقان: المذهب المنصوص والذي قطع به الجمهور: لا يحنث، لان الاذن والرضى قد حصل. وقيل وجهان، وقيل: قولان منصوص ومخرج: انه يحنث، وهو مخرج من مسألة عزل الوكيل. وعلى هذا الخلاف ما لو قال لزوجته: إن خرجت بغير إذني، فأنت طالق، فأذن وخرجت وهي جاهلة بالاذن، فينبغي أن يشهد على الاذن ليثبته عند التنازع. فإن لم تكن بينة، فهي المصدقة بيمينها في إنكار الاذن. وفي كتاب ابن كج أن الزوج هو المصدق، كما لو أنكر أصل التعليق. ثم قال الشافعي رحمه الله: الورع أن يحنث نفسه، وليس معناه أن يعدها مطلقة من غير أن يطلقها، لانا حكمنا بأنها زوجته، فكيف تنكح غيره ؟ بل إن كان علق الطلاق الثلاث، فالورع أن يطلقها ثلاثا، وإن كان المعلق طلقة رجعية، وأراد إمساكها، راجعها، وإلا، طلقها لتحل للازواج، فإن راجعها، ثم طلقها طلقتين، فالورع أن لا ينكحها إلا بعد زوج، وإذا نكحها بعد زوج، كانت عنده بطلقة، فإن طلقها، لم تحل إلا بزوج، لانه لم يقع عليها بالخروج شئ، وقد طلقها بعده ثلاثا، والزوج الثاني قبل استيفاء الثلاث لا أثر له. فرع حلف: لا يخرج فلان بغير إذنه، أو إلا بإذنه، فخرج بغير إذنه، حنث، وإن خرج بإذنه، لم يحنث. وعلى التقديرين تنحل اليمين حتى لو خرج بعد ذلك بإذن أو بغير إذن، لم يحنث. وكذا لو قال لزوجته: إن خرجت بغير إذني أو إلا بإذني فأنت طالق، إن خرجت بغير إذنه، طلقت، وإن خرجت بالاذن، لم تطلق، وتنحل اليمين على التقديرين. وكذا الحكم لو قال: إن خرجت حتى آذن لك، أو إلى أن آذن لك أو إلا أن آذن لك، فأنت طالق. وحكي قول أو وجه وهو

(8/54)


اختيار المزني والقفال، أنه لا تنحل اليمين بخروجها بالاذن، كما لو قال: إن خرجت لابسة للحرير، فأنت طالق، فخرجت غير لابسة، لا تنحل اليمين، حتى لو خرجت بعده لابسة طلقت، والمذهب الاول، وهو المنصوص، لان اليمين تعلقت بخرجة واحدة، وهي الاولى. قال البغوي: ومقتضى هذا أنه لو قال: إن خرجت غير لابسة للحرير أو لابسة، فأنت طالق، فخرجت لابسة تنحل اليمين، وهذه يخالف قول الغزالي: لو قال إن خرجت بلا خف، فأنت طالق، فخرجت بخف، لا تنحل اليمين، وفرق بينه وبيمسألة الاذن بفرق ضعيف، فالوجه التسوية بين الصورتين، كما ذكره البغوي. ولو قال: كلما خرجت، أو كل وقت خرجت بغير إذني، فأنت طالق، فخرجت مرة بالاذن، لم تنحل اليمين، لانها صيغة تكرار. فلو قال: أذنت لك في الخروج كلما أرد ت، أغناه ذلك عن تجديد الاذن لكل خرجة. ولو قال: متى خرجت، أو متى ما، أو مهما، أو أي وقت، أو أي حين، فالحكم كما لو قال: إن خرجت، لان هذه الصيغ لا تقتضي التكرار. وفي الرقم للعبادي: إلحاق متى ما، ومهما بكلما وهو خلاف نصه في الام. ولو قال: إن خرجت أبدا إلا بإذني، فأنت طالق، لم يلزم التكرار أيضا، بل معناه في أي وقت خرجت، قريب أم بعيد وإذا علق الطلاق كما صورنا، ثم أذن لها في الخروج، ثم رجع عن الاذن، وخرجت بعده، نص في الام أنها لا تطلق، لان الاذن قد وجد، فزال حكم اليمين، والمنع بعده لا يفيد. ورأى أبو بكر الفارسي والمحققون تنزيل النص على ما إذا قال في التعليق: حتى آذن لك، لانه جعل إذنه غاية اليمين، وقد حصل الاذن، فأما إذا قال: بغير إذني أو إلا بإذني، فإذا رجع، ثم خرجت، فهذا خروج بغير إذن، وهو أول ما وجد بعد اليمين، فيقع الطلاق. ومنهم من قال: قوله: إلا بإذني محتمل أيضا للغاية، فيحمل عليها. ولو قال: إن خرجت بغير إذني لغير عيادة، فأنت طالق، فخرجت لعيادة، ثم عرضت حاجة فاشتغلت بها، لم تطلق. وإن خرجت لعيادة وغيرها. فالمذكور في الشامل منسوبا إلى نصه في الام أنه لا يحنث، وذكر البغوي أنه الاصح. ويشبه أن يقال: إن كان المقصود بقوله لغير عيادة ما هو بمعزل عنها، لم يحنث، وهذا هو السابق إلى الفهم منه، وإن كان المقصود ما يغايره في الحقيقة، فمجموع العيادة والحاجة الاخرى يغاير مجرد العيادة.

(8/55)


قلت: الصواب الجزم بأنه لا يحنث. والله أعلم. وإن قال: إن خرجت إلا لعيادة، فينبغي أن يحنث، لانه يصدق أن يقال: لم تخرج للعيادة بل لها ولغيرها.
النوع الخامس : في الكلام وفيه مسائل: إحداها: إذا قال: والله لا أكلمك فتنح عني، أو قم أو اخرج، أو شتمه، أو زجره، حنث، سواء عقب هذا لليمين متصلا أم فصله، لانه كلمه. وقيل: لا يحنث إذا وصله، لان المقصود به تأكيد اليمين، والصحيح الاول. ولو كتب إليه كتابا أو أرسل رسولا، فقولان: الجديد: لا يحنث، ومنهم من قطع به، وقيل: القديم إنما هو إذا نوى بيمينه المكاتبة. وقيل: القولان في الغائب، فإن كان معه في المجلس، لم يحنث قطعا، والمذهب طردهما في كل الاحوال. ويجريان في الاشارة بالرأس والعين، ولا فرق على الجديد بين إشارة الاخرس والناطق، وإنما أقيمت إشارة الاخرس في المعاملات مقام النطق للضرورة. فرع هجران المسلم فوق ثلاثة أيام، فلو كاتبه أو راسله، فهل يزول الاثم ؟ نظر إن كانت مواصلتهما قبل الهجران بالمكاتبة أو المراسلة، ارتفع الاثم، وإلا فإن تعذر الكلام لغيبة أحدهما، فكذلك، وإلا، فوجهان بناء على القولين الجديد والقديم، حتى لو حلف أن يهاجره، فهل يحنث بالمكاتبة والمراسلة ؟ فيه هذا الخلاف. وأطلق ابن أبي هريرة أنه يرتفع الاثم بالمكاتبة والمراسلة، ثم لا يخفى أن المكاتبة إنما ترفع الاثم إذا خلت عن الايذاء والايحاش، وإلا، فهو كما

(8/56)


لو كلمه بالشتم والايذاء، فإنه لا تزول به المهاجرة، بل هو زيادة وحشة، وتأكيد للمهاجرة، ولا وحنث بمثل هذه المكاتبة إذا حلف على المهاجرة. قلت: تحريم المهاجرة فوق ثلاثة أيام إنما هو فيما إذا كانت المهاجرة لحظوظ النفوس وتعنتات أهل الدنيا، فأما إذا كان المهجور مبتدعا أو مجاهرا بالظلم والفسوق، فلا تحرم مهاجرته أبدا، وكذا إذا كان في المهاجرة مصلحة دينية، فلا تحريم، وعلى هذا يحمل ما جرى للسلف من هذا النوع، والاصح أنه لا يزول التحريم بالمكاتبة والمراسلة، قال صاحب البيان: وينبغي أن تكون الاشارة والرمز كالمكاتبة كما قلنا في الحنث. والله أعلم. فرع حلف: لا يكلمه، ثم سلم عليه، حنث، لان السلام كلام، وأن يسلم على قوم هو فيهم، فإن قصده بالسلا حنث. قال في البيان ويجئ أن لا يحنث على قول من قال: إذا حلف لا يأكل السمن، فأكله مع غيره، لا يحنث وإن استثنى لفظا، لم يحنث، وإن استثناه بالنية، لم يحنث أيضا على المذهب. وإن أطلق، حنث على الاظهر. ولو سلم من صلاته، والمحلوف عليه من المأمومين، ففيه هذا التفصيل. ولو صلى الحالف خلف المحلوف عليه، فسبح لسهوه، أو فتح عليه القراءة، لم يحنث، ولو قرأ آية، فهم المحلوف عليه منها مقصوده، فإن قصد القراءة، لم يحنث، وإلا، فيحنث. المسألة الثانية: حلف: لا يتكلم حنث بترديد الشعر مع نفسه، لان الشعر كلام، ولا يحنث بالتسبيح والتهليل والتكبير والدعاء على الصحيح، لان اسم الكلام عند الاطلاق ينصرف إلى كلام الادميين في محاوراتهم. وقيل: يحنث، لانه يباح للجنب، فهو كسائر الكلام، ولا يحنث بقراءة القرآن.

(8/57)


قلت: قال القفال في شرح التلخيص: لو قرأ التوراة الموجودة اليوم، لم يحنث، لانا نشك أن الذي قرأه مبدل أم لا. والله أعلم. الثالثة: حلف: ليثنين على الله أحسن الثناء، فطريق البر أيقول: لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك زاد ابرهيم المروزي في آخره: فلك الحمد حتى ترضى فصور المتولي المسألة فيما لو قال: لاثنين على الله تعالى بأجل الثناء، أو أعظمه، وزاد في أول الذكر سبحانك ولو قال: لاحمدن الله بمجامع الحمد، وقال المتولي: بأجل التحاميد، فطريق البر أن يقول: الحمد لله حمدا يوافي نعمه ويكافئ مزيده ولو قال: لاصلين على النبي - صلى الله عليه وسلم - أفضل الصلاة عليه، فطريق البر أن يقول: اللهم صل على الله محمد وعلى آل محمد كلما ذكره الذاكرون وكلما سها عن ذكره الغافلون. ذكره ابرهيم المروذي. قلت: أما الصورتان الاوليان، فذكرهما جماعة من متأخري الخراسانيين، وليس لهما دليل يعتمد. ومعنى يوافي نعمه أي: يلاقيها، فتحصل معه، ويكافئ مزيده بهمزة في آخره، أي: يساوي مزيد نعمه ومعناه: يقوم لشكر ما زاد من النعم والاحسان. وأما مسألة الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقد ذكرها عن ابرهيم المروزي وحده، وقد يستأنس لذلك بأن الشافعي رحمه الله كان يستعمل هذه العبارة، ولعله أول من استعملها، ولكن الصواب والذي ينبغي أن يجزم به أن أفضل ما يقال عقيب التشهد في الصلاة: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما

(8/58)


صليت على إبرهيم إلى آخره، فقد ثبت في الصحيح أنهم قالوا يا رسول الله: كيف نصلي عليك، فقال: قولوا: اللهم صل على محمد إلى آخره. والله أعلم. فصل حلف: لا يصلي، فهل يحنث بالتحرم بالصلاة أم لا يحنث حتى يركع ؟ أم حتى يفرغ من الصلاة ؟ فيه أوجه: أصحها الاول. ولو أفسدها بعد الشروع، حنث على الاول، ولا يحنث على الثالث، ولا على الثاني إن لم يكن ركع، ولا يجئ الثاني إذا صلى على جنازة. ولو أحرم مع إخلاله ببعض الشروط، لم يحنث، لانه لم يصل لعدم انعقادها. ولو حلف: ما صليت وقد أتى بصورة صلاة فاسدة، لم يحنث ولو لم يجد ماء ولا ترابا، وصلى، حنث، لانها صلاة إلا أن يريد الصلاة المجزئة. ولو قال: لا أصلي صلاة، لا يحنث حتى يفرغ. قلت: وينبغي أن لا يحنث بسجود الشكر والتلاوة والطواف، ويحنث بالصلاة بالايماء، حيث يحكم بصحتها. والله أعلم. ولو حلف: لا يصوم، فهل يحنث بأن يصبح صائما، أو بأن ينوي صوم التطوع قبل الزوال، أم لا يحنث حتى يتم ؟ فيه الخلاف. وإذا قلنا: لا يحنث إ بالفراغ، فهل نتبين استناد الحنث إلى الاول فيه وجهان.
النوع السادس : في تأخير الحنث وتقديمه وفيه مسائل:

(8/59)


إحداها: حلف: ليأكلن هذا الطعام غدا، فلا يخفى البر إن أكل غدا، والحنث إن أخره عن الغد مع الامكان. فلو تلف الطعام قبل الغد بنفسه، أو بإتلاف أجنبي، فقد فات البر بغير اختياره، فيخرج حنثه على قولي المكره، والاظهر أنه لا يحنث. ويقال: إنه المنصوص، فإن قلنا: يحنث، فهل يحنث في الحال الحصول اليأس، أم بعد مجئ الغد ؟ فيه قولان أو وجهان، فقطع ابن كج بالثاني. قال المتولي: وفائدة الخلاف أنه لو كان معسرا يكفر بالصوم، جاز أن ينوي صوم الغد عن كفارته إن قلنا: يحنث قبل الغد. قلت: ومن فوائده لو مات الحالف قبل مجئ الغد أو أعسر، وقلنا: يعتبر في الكفارة حال الوجوب. والله أعلم. فإن قلنا: لا يحنث قبل مجئ الغد، فهل يحنث إذا مضى من الغد زمن إمكان الاكل أم قبيل غروب الشمس ؟ وجهان. قال البغوي: أصحهما الاول ولو مات الحالف قبل مجئ الغد، فقيل: هو كتلف الطعام، فيكون على الخلاف، والمذهب القطع بأن لا حنث، وهو الذي يقتضي كلام ابن كج والبغوي وغيرهما، لانه لم يبلغ زمن البر والحنث. ولو مات بعد مجئ الغد وقبل امكان الاكل، فهو كتلف الطعام بعد مجئ الغد على ما سنذكره إن شاء الله تعالى من التفصيل، وقطع المتولي بأن لا حنث. أما إذا تلف الطعام أو بعضه بعد مجئ الغد، فينظر، إن كان قبل التمكن من الاكل، فهو كتلف الطعام قبل الغد، وفيه الخلاف. وإن تلف بعد التمكن، أو مات الحالف بعد التمكن، فالمذهب الحنث، لانه تمكن من البر، فصار كما لو قال: لآكلن هذا الطعام، وتمكن من أكله ولم يأكله حتى تلف، فإنه يحنث قطعا. فعلى

(8/60)


هذا هل يحنث في الحال، أم قبل غروب الشمس ؟ فيه الوجهان. ولو أتلف الحالف الطعام قبل الغد بأكله أو بغيره، أو أتلف بعضه، حنث، وهل يحنث في الحال، أم بعد مجئ الغد ؟ فيه الخلاف، هما لو تلف. ولو قال: لآكلن هذا الطعام قبل غد، فتلف قبل الغد وبعد التمكن، حنث. وهل يكون حنثه في الحال، أم إذا جاء أول الغد ؟ وجهان حكاهما الصيدلاني. ولو قال: لآكلنه اليوم، فيقاس بما ذكرناه في الغد. الثانية: قال: والله لاقضين حقك، ومات قبل القضاء، نظر، إن تمكن من القضاء فلم يفعل، حنث. وإن مات قبل التمكن، فعلقولي الاكراه، كذا نقله البغوي والمروزي وغيرهما، وقطع المتولي بأنه لا يحنث ولو قال: لاقضين حقك غدا، ومات قبل مجئ الغد أو بعد مجيئه وقبل التمكن، فمن أثبت القولين إذا لم يقيد بالغد، أثبتهما هنا، ومن قطع بالمنع، قطع بالمنع هنا أيضا. ولو مات بعد التمكن جاء الطريقان المذكوران في مسألة الطعام وموت صاحب الحق: لا يقتضي الحنث، لا عند الاطلاق، ولا عند التقييد بالغد، لامكان القضاء بالدفع إلى الورثة. ولو قال: لاقضينك حقك غدا، فهو كقوله: لآكلن هذا الطعام غدا، فطريق البر والحنث ظاهر، وموت صاحب الحق هنا كتلف الطعام. فإن مات قبل مجئ الغد أو بعده وقبل التمكن من القضاء، فعلى قولي الاكراه، وإن مات بعد التمكن، ففيه الطريقان السابقان. فإن حنثناه، فهل يحنث في الحال أم بعد مجئ الغد ؟ فيه القولان. وموت الحالف والحالة هذه قبل مجئ الغد وبعده على ما ذكرنا في مسألة الطعام. فإن حنثناه، فلا يستبعد كون وقت الحنث دخل وهو ميت، لان السبب هو اليمين، وكانت في الحياة، وهو كما لو حفر بئرا متعديا، فتلف بها إنسان بعد موته، يجب الضمان والكفارة في ماله. وإن قضاه قبل مجئ الغد، فقد فوت البر، فيحنث إلا أن يريد أنه لا يؤخر القضاء عن الغد، وهو كإتلاف الطعام قبل الغد ولو أبرأه صاحب الحق في هذه الصور. فإن قلنا: الابراء يحتاج إلى القبول، فقبل، حنث لتفويته البر باختياره، إلا أن يريد باليمين: لا يمضي

(8/61)


الغد، وحقه باق عليه. وإن لم يقبل، لم يحنث، لبقاء الحق عليه وإمكان قضائه. وإن قلنا: لا يحتاج الابراء إلى قبول، سقط الدين. وفي الحنث قولا الاكراه، لفوات البر بغير اختياره. والهبة في العين والصلح عن الدين، كالابراء إذا قلنا: إنه يحتاج إلى القبول. ولو قال: لاقضينك حقك غدا إلا أن تشاء أن أؤخره، فإن قضاه غدا، بر، سواء شاء صاحب الحق أم لا. وإن لم يقضه في الغد، فإن شاء صاحبه تأخيره قبل مضي الغد، لم يحنث، وإن لم يشأ، حنث. وكذا لو قال: إلا أن يشاء زيد أن أؤخره، إلا أنه إذا مات صاحب الحق قبل مجئ الغد، فالحنث على قولي الاكراه، وإن مات بعده وبعد التمكن، ففيه الطريقان. وإن مات زيد قبل الغد أو في أثنائه ولم يعلم مشيئته، لم يحنث في الحال، لامكان القضاء بعد موته، فإذا غربت الشمس ولم يقض، حنث حينئذ. ولو قال: لاقضينك ك حقك إلى الغد إلا أن تشاء تأخيره، فينبغي أن يقدم القضاء على طلوع الفجر من الغد، فإن لم يفعل ولم يشأ صاحب الحق تأخيره، حنث. فرع حلف: ليطلقن زوجته غدا، فطلقها اليوم، نظر إن لم يستوف الثلاث، فالبر ممكن، وإن استوفاه، فقد فوت البر، فيحنث، وكذا لو كان عليه صلاة عن نذر، فحلف ليصلينها غدا، فصلاها اليوم، حنث. الثالثة: قال: لاقضين حقك عند رأس الهلال، أو مع رأس الهلال، أو عند الاستهلال، أو مع رأس الشهر، فهذه الالفاظ تقع على أول جزء من الليلة الاولى من الشهر، ولفظتا عند ومع تقتضيان المقارنة. فإن قضاه قبل ذلك أو بعده، حنث، فينبغي أن يعد المال ويترصد ذلك الوقت فيقضيه فيه، وحكى الامام والغزالي وجها أن له فسخه في الليلة الاولى ويومها، لان اسم رأس الهلال والشهر يقع عليهما والصحيح الاول. وإذا أخذ في الكيل أو الوزن عند رؤية الهلال، وتأخر الفراغ لكثرة المال، لم يحنث، وبمثله أجيب فيما لو ابتدأ حينئذ بأسباب القضاء ومقدماته، كحمل الميزان. ولو أخر القضاء عن اليلة الاولى للشك في الهلال ، فبان كونها من الشهر، ففي الحنث قولا حنث الناسي والجاهل. ولو قال: لاقضين

(8/62)


حقك أول الشهر، فهو كقوله: عند رأس الشهر. ولو قال: أول اليوم، فينبغي أن يشتغل بالقضاء عند طلوع الفجر. ولو قال: لاقضين حقك إلى رأس الشهر، أو إلى رمضان، فالاصح أنه يشترط تقديم القضاء على رأس الشهر، وعلى رمضان. وقيل: هو كقوله عند رأس الشهر. فرع لو قال: لاقضين حقك إلى حين، لم يختص ذلك بزمان مقدر، بل يقع على القليل والكثير، كما سبق في كتاب الطلاق، فيكون كقوله: لاقضين حقك، فمتى قضاه، بر، وإنما يحنث إذا مات قبل القضاء مع التمكن. ولو قال: إلى زمان أو دهر أو حقب، أو أحقاب، فكذلك، وجميع العمر مهلة له. ولو قال: لا أكلمك حينا أو دهرا أو زمانا أو حقبا، بر بأدنى زمان، ولو قال: أنت طالق بعد حين، طلقت إذا مضى لحظة. والفرق أن قوله: طالق بعد حين تعليق، فيتعلق بأول ما يسمى حينا. وقوله: لاقضين حقك، وعد، والوعد لا يختص بأول ما يقع عليه الاسم ولو قال: لاقضين حقك إلى مدة قريبة أو بعيدة، لم يتقدر أيضا، وهو كالحين. فلو قال: إلى أيام، فوجهان. قال القاضي أبو الطيب والصيدلاني والبغوي وغيرهم: يحمل على ثلاثة أيام إذا لم يكن نية. وقال آخرون، منهم المحاملي: هو كالحين، لانه يقع على القليل والكثير. يقال: أيام العدل، وأيام الفتنة، فلا يتقدر. قلت: الاول أصح، لانه المفهوم عند الاطلاق. وأما أيام الفتنة ونحوه، فتخرج بالقرينة. والله أعلم.
النوع السابع : في الخصومات ونحوها فيه مسائل: إحداها: حلف لا يرى منكرا إلا رفعه إلى القاضي، فله أحوال. إحداها : أن يعين القاضي فيقول: إلى القاضي فلان، فإذا رأى منكرا، لا يلزمه المبادرة بالدفع إليه، بل له مهلة مدة عمره وعمر القاضي، فمتى رفعه إليه، بر، ولا يشترط في الرفع أن يذهب إليه مع صاحب المنكر، بل يكفي أن يحضر وحده عند القاضي، ويخبره أو يكتب إليه بذلك، أو يرسل رسولا بذلك فيخبره، أو يكتب به كتابا (إليه)، فإن لم يرفعه إليه حتى مات أحدهما بعد التمكن، حنث، فإن لم يتمكن من الرفع لمرض أو حبس، أو جاء إلى باب القاضي فحجب، ففيه قولا حنث

(8/63)


المكره. ولو بادر بالرفع، فمات القاضي قبل وصوله إليه فطريقان. قال الشيخ أبو حامد: فيه القولان، وقال أبو إسحق والقاضي أبو الطيب: لا يحنث قطعا وهو المذهب لانه لم يتمكن. ولو مات الحالف في صورة المبادرة قبل وصوله إلى القاضي، قال المتولي: لا كفارة بلا خلاف. فلو عزل ذلك القاضي، فإن كان نيته أن يرفع إليه وهو قاض، أو تلفظ به لم يبر بالرفع إليه وهو معزول، ولا يحنث. وإن كان تمكن، لانه ربما ولي ثانيا، واليمين على التراخي. فإن مات أحدهما قبل أن يولى، تبينا الحنث، وإن نوى غير ذلك القاضي، وذكر القضاء تعريفا له، بر بالرفع إليه وهو معزول. وإن أطلق، فهل يبر بالرفع إليه وهو معزول ؟ وجهان: أصحهما: نعم، كما لو قال: لا أدخل دار زيد هذه فباعها، فإنه يحنث به تغليبا للعين، فلا يحنث هنا تغليبا للعين. الثانية: أن يقول: إلا رفعته إلى قاض، فيبر بالرفع إلى أي قاض كان في ذلك البلد وغيره. الثالثة: يقول: إلا رفعته إلى القاضي، ولا يعين أحدا بلفظه ولا بنيته، فهل يختص بقاضي البلد ؟ وجهان أحدهما: لا، بل يبر بالرفع إلى أي قاض كان، والصحيح اختصاصه بقاضي البلتد حملا له على المعهود. وهل يتعين قاضي البلد في الحال، لانه المعهود، أم يقوم مقامه من ينصب بعده ؟ وجهان ويقال: قولان أصحهما: الثاني، حتى لو عزل الاول وولي غيره يبر بالرفع إلى الثاني دون الاول. فإذا قلنا: يتعين قاضي البلد في الحال، فالحكم كما ذكرنا في الحالة الاولى، وعلى هذا الوجه، هل الاعتبار بحال اليمين، أم بحال رؤية المنكر ؟ وجهان أصحهما: الاول. ولو كان في ا لبلد قاضيان، وجوزناه، فيرفع إلى من شاء منهما. ولو رأى المنكر بين يدي القاضي المرفوع إليه، قال في الوسيط: لا معنى للرفع إليه وهو يشاهده. وقال المتولي: إنما يحصل البر بأن يخبره به. ولو رأى المنكر بعد اطلاع القاضي عليه، فوجهان، أحدهما أنه فات البر بغير اختياره، فيكون على القولين، وأصحهما وبه أجاب البغوي: أنه يبر بالاخبار وصورة الرفع في الاحوال الثلاث. ولو لم ير الحالف منكرا حتى مات، فلا شئ عليه، وفي حال تعيين القاضي. ولو لم ير منكرا حتى مات القاضي، فكذلك لا شئ عليه. ولو رآه بعد

(8/64)


عزله، فإن نوى الرفع إليه في حال القضاء، فلا شئ عليه. وإن قصد عينه، فليخبره. ولو حلف: لا يرفع منكرا إلى القاضي فلان، حنث بالرفع إليه وهو قاض. فلو رفع بعد العزل، عاد التفصيل المذكور. وإن قال: إلى القاضي، فهل يحمل على قاضي البلد حينئذ، أم يحنث بالرفع إلى من ينصب بعد عزله ؟ فيه الخلاف السابق. المسألة الثانية: حلف: لا يفارق غريمه حتى يستوفي حقه منه، ففي المسألة نظران، أحدهما: في حقيقة المفارقة، والقول فيها على ما سبق في افتراق المتبايعين عن المجلس، والرجوع إلى العادة. فإن فارق الحالف قبل الاستيفاء مختارا، حنث، وإن كان ناسيا أو مكرها، فعلى القولين في الناسي والمكره. ولو فارقه الغريم وفر منه، فقيل قولان كالمكره، والمذهب القطع بأنه لد يحنث سواء تمكن من التعلق به ومنعه أو من متابعته أم لا، بل لو كانت مفارقته بإذن الحالف، لم يحنث، لانه حلف على فعل نفسه، فلا يحنث بفعل الغريم. وقال ابن كج: يحنث إن أذن له. وقال الصيدلاني: يحنث إن أمكنه منعه فلم يفعل. وقال القاضى حسين: يحنث إن أمكنه متابعته، لانه بالمقام مفارق، والصحيح الاول: ولو كانا يتماشيان، فمشى الغريم، ووقف الحالف، فذكر الغزالي أنه لا يحنث، لان الفارقة حصلت بحركة الغرم، لا بسكون الحالف، والصحيح الذي أجاب به القاضي حسين وصاحباه المتولي والبغوي أنه إذا مضى أحدهما في مشيه ووقف الآخر، حنث الحالف، لانه إن وقف الغريم، فقد فارقه الحالف بمشيه، وإن وقف الحالف فقد فارقه بالوقوف لان الحادث هو الوقوف، فنسب المفارقة إليه بخلاف ما إذا كانا ساكنين، فابتدأ الغريم بالمشي، لان الحادث هناك المشي، وحيث قلنا: لا حنث بمفارقة الغريم. فلو فارق الحالف مكانه بعد ذلك، لم يحنث. أما إذا قال: لا تفارقني حتى استوفي منك حقي أو حتى توفيني حقي، فاليمين منعقدة على فعل الغريم. فإن فارقه الغريم مختارا، حنث الحالف، سواء كانت مفارقته بإذنه أم دون إذنه. وقيل: إن فر منه، ففي حنثه القولان في المكره، والمذهب الاول، لان اليمين على فعله، وهو مختار في الفرار. فإن فارقه ناسيا أو مكرها، خرج الحنث على القولين. ونقل البغوي طريقا قاطعا بالحنث، وأن الاختيار إنما يعتبر في فعل الحالف، والمذهب الاول. ولو فر الحالف من الغريم، لم يحنث، ويجئ وجه

(8/65)


أنه إن أمكن الغريم متابعته فلم يفعل، حنث. ولو قال: لا افترقت أنا وأنت حتى أستوفي، أو لا تفترق لا أنا ولا أنت حتى أستوفي فاليمين على فعل كل منهما، فأيهما فارق الآخر مختارا، حنث الحالف. فإن فارق ناسيا أو مكرها، ففيه الخلاف. ولو قال: لا افترقنا حتى أستوفي، أو لا نفترق، فوجهان: أحدهما: لا يحنث حتى يفارق كل واحد منهما الآخر. وأصحهما: يحنث بمفارقة أحدهما الآخر، لانه يقال: افترقا. فرع النظر الثاني في استيفاء الحق، فإذا قال: لا أفارقك حتى أستوفي حقي منك، ثم أبرأه وفارقه، حنث، لانه فو ت البر باختياره، وهل يحكم بالحنث بنفس الابراء، أم بعد المفارقة ؟ يجئ فيه الخلاف السابق في نظائره. ولو أفلس الغريم، فمنعه الحاكم من ملازمته ففارقه، ففيه قولا حنث المكره. وإن فارقه باختياره، حنث. وإن كان تركه واجبا كما لو قال: لا أصلي الفرض، حنث. ولو أحاله الغريم على رجل، أو أحال هو على الغريم غريما له عليه دين، ثم فارقه، فطريقان: أحدهما: البناء على أن الحوالة استيفاء أم اعتياض ؟ إن قلنا: استيفاء، لم يحنث، والمذهب القطع بالحنث بكل حال، لانه ليس استيفاء حقيقة وحيث جعلناها استيفاء، فمعناه أنها كالاستيفاء في الحكم، لكن لو نوى أنه لا يفارقه وعليه حق، لم يحنث. ولو أخذ عوضا عن حقه، وفارقه، حنث إلا أن ينوي ما ذكرنا، وسواء كانت قيمة العوض مثل حقه، أو أقل أو أكثر، لانه لم يستوف حقه، وإنما استوى بدله. وإن استوفى حقمن وكيل الغريم، أو من أجنبي تبرع به، وفارقه، حنث إن كان قال: حتى أستوفي حقي منك، ولا يحنث إن اقتصر على قوله: حتى أستوفي حقي. ولو استوفى ثم فارقه، ثم وجد ما إستوفاه ناقصا، لم يحنث إن كان من جنس حقه، فإن لم يكن من جنسه، بأن كان حقه الدراهم، فخرج

(8/66)


المأخوذ نحاسا أو مغشوشا، فإن كان عالما بالحال، حنث، وإلا، فعلى قولي الناسي والجاهل. فرع حلف الغريم: ليقضين حقه قبل أن يفارقه، أو لا يفارقه حتى يقضي حقه، فالقول في مفارقته مختارا أو مكرها وفي الحوالة والمصالحة وغيرها على قياس ما سبق. ولو حلف: لا يعطيه حقه، فأعطاه مكرها أو ناسيا، فهو على الخلاف. ولو قال: لا يأخذ ولا يستوفي، فأخذ، حنث، سواء كان المعطي مكرها أو مختارا. فلو كان الآخذ مكرها، ففيه الخلاف. المسألة الثالثة: حلف على الضرب، تعلقت اليمين بما يسمى ضربا، ولا يكفي وضع اليد والسوط ورفعهما، ولا العض والقرص ونتف الشعر. وفي الوكز واللكز واللطم وجهان، أصحهما: أنه ضرب، ولا يشترط الايلام، ولهذا يقال: ضربه ولم يؤلمه، بخلاف الحد والتعزير، فإنه يعتبر فيهما الايلام، لان المقصود بهما الزجر، ولا يحصل إبإيلام، واليمين تتعلق بالاسم. وحكي وجه ضعيف أنه يشترط الايلام، وقد سبق فكتاب الطلاق. قلت: ولو ضرب ميتا، لم يحنث، ولو ضرب مغمى عليه أو مجنونا أو سكران، حنث، لانه محل للضرب بخلاف الميت ذكره المتولي. والله أعلم. فرع حلف: ليضربن عبده مائة خشبة، أو ليجلدنه مائة سوط، فإن شد مائة سوط وضربه بها، فقد وفى بموجب اللفظ، وإن ضربه بعثكال عليه مائة شمراخ ضربة واحدة، حصل البر إن تحقق أن الجميع أصاب بدنه. وفي المراد بإصابة الجميع وجهان، أصحهما: أنه لا يشترط أن يلاقي جميع القضبان بدنه أو ملبوسه، بل يكفي أن ينكبس بعضها على بعض، بحيث يناله ثقل الجميع، ولا يضر كون البعض حائلا بين بدنه وبين البعض، كالثياب وغيرها، مما لا يمنع

(8/67)


تأثر البشرة بالضرب. والثاني: لا يكفي الانكبا س، بل يشترط ملاقاة الجميع بدنه أو ملبوسه، وإن تيقن أنه لم يصبه الجميع، لم يبر. وإن شك في ذلك، فالنص أنه لا يحنث. ونص أنه لو حلف: ليدخلن الدار اليوم إلا أن يشاء زيد، فلم يدخل، ومات زيد ولم يعلم هل شاء أم لا: أنه يحنث، فقيل بتقرير النصين، والفرق أن الضرب سبب ظاهر في الانكباس، وفي مسألة المشيئة لا أمارة لها، والاصل عدمها. وقيل: فيهما قولان. والمذهب: أنه لا يحنث هنا، ويحنث في مسألة المشيئة. قلت: هكذا صور الجمهور مسألة الخلاف فيما إذا شك، وذكر الدارمي وابن الصباغ والمتولي أنه إذا شك، حنث، وإنما لا يحنث على المنصوص إذا غلب على ظنه إصابة الجميع، وهذا حسن، لكن الاول أصح، لان بعد هذا الضرب شك في الحنث، والاصل عدمه قال أصحابنا: وإذا قلنا: لا يحنث، فالورع أن يحنث نفسه، فيكفر عن يمينه. والله أعلم. ولو حلف: ليضربنه مائة مرة فضربه مرة بالعثكال أو بالمائة المشدودة، لم يبر، لانه لم يضربه إلا مرة. ولو حلف: ليضربنه مائة ضربة، لم يبر أيضا على الاصح. ولو حلف: ليضربنه بالسوط، لم يبر بالعصا والشماريخ، لانه ليس بسوط. ولو قال: مائة سوط، فالصحيح أنه لا يبر بعثكال عليه مائة شمراخ، وإنما يبر بأن يجمع مائة سوط ويشدها ويضربه بها دفعة، أو خمسين ويضربه دفعتين، أو سوطين ويضربه بهما خمسين مرة، بشرط أن يعلم إصابة الجميع على ما سبق وقيل: يبر بالعثكال، كما في لفظ الخشبة. فصل في حنث الناسي والجاهل والمكره. فإذا وجد القول أو الفعل المحلوف عليه على وجه الاكراه أو النسيان أو الجهل، سواء كان الحلف بالله تعالى أو بالطلاق، فهل يحنث ؟ قولان، أظهرهما: لا يحنث. وممن صححه أبو حامد القاضي والشيخ وابن كج والروياني وغيرهم. وقال ابن سلمة: لا حنث قطعا. وقيل: الناسي أولى بالحنث من المكره. وقيل: عكسه. وقيل: الجاهل أولى

(8/68)


بالحنث من الناسي. وقال القفال: يحنث في الطلاق دون اليمين، وهو ضعيف، فالمذهب ما سبق. فإذا قلنا: لا حنث، لمتنحل اليمين على الاصح. ولو حلف: لا يدخل الدار طائعا ولا مكرها ولا ناسيا، حنث مع الاكراه والنسيان. ولو حلف: لا يدخل فانقلب ب في نومه وحصل في الدار، لم يحنث، ولو حمل قهرا وأدخل، فقيل: قولان كالمكره والمذهب القطع بأنه لا يحنث، لان اليمين على دخوله، ولم يدخل، وإنما أدخل، ولهذا لا تنحل اليمين والحالة هذه بلا خلاف. ولو حمل بغير إذنه، لكن قدر على الامتناع، فلم يمتنع، لم يحنث على الصحيح، لانه لم يدخل بل أدخل. ولو حمل بأمره. حنث كما لو ركب دابة ودخل. واعلم أنه لا فرق في أصل المسألة بين أن يعلق على فعله أو فعل غيره، فإذا وجد بالاكراه أو النسيان، ففيه الخلاف، هذا هو المذهب، وفيه شئ سبق في مسألة الحلف على مفارقة الغريم. ومن صور الفعل جاهلا أن يدخل دارا لا يعرف أنها المحلوف عليها، أو حلف: لا يسلم على زيد، فسلم عليه في ظلمة ولا يعلم أنه زيد. فصل حلف: لا يسلم على زيد، فسلم على قوم هو فيهم، ولم يعلم أنه فيهم، ففي الحنث قولا حنث الناسي والجاهل، وإن علم أنه فيهم ونوى السلام عليه معهم، حنث، وفيه ما حكينا عن البيان فيما لو حلف لا يكلمه، فسلم على قوم هو فيهم وقصده، فأما إستثناه بلفظه فقال: السلام عليكم إلاعلى زيد، فلا يحنث. وإن استثناه بنيته، لم يحنث أيضا على المذهب. وإن أطلق، حنث على الاظهر. ولو حلف: لا يدخل على زيد، فدخل على قوم هو فيهم فاستثنا بقلبه، وقصد الدخول على غيره، حنث على المذهب. والفرق بينه وبين السلام، أن الدخول فعل لا يدخله الاستثناء، فلا ينتظم أن يقول: دخلت عليكم إلا على فلان، ويصح أن يقول: سلام عليكم إلا على فلان. ولو دخل بيتا فيه زيد، ولم يعلم أنه فيه، ففي حنثه قولا الجاهل والناسي. ولو كان في جماعة ولم يعلم به فأولى بعدم الحنث، وإن دخل لشغل، ولم يعلم أنه في البيت، فأولى بعدم

(8/69)


الحنث لانضمام قصد الشغل إلى الجهل. قال الامام: نص الشافعي رحمه الله في هذه الصورة أنه لا يحنث، وخرج الربيع قولا، وجعله كالناسي. ولو علم أنه في البيت، وقصد الدخول لشغل، فقيل: يحنث قطعا. وقيل: هو كما لو دخل على قوم هو فيهم واستثناه بقلبه ولو كان الحالف في بيت، فدخل عليه زيد، فإن خرج الحالف في الحال، لم يحنث، وإلا، فقيل: لا يحنث، وقيل: فيه خلاف بناء على أن استدامة الدخول هل هي دخول ؟ وأجاب ابن الصباغ عن هذا بأن الاستدامة إن جعلت دخولا كانا كالداخلين معا، فلا يكون أحدهما داخلا على الآخر. قلت: الذي قاله ابن الصباغ حسن، والمذهب أنه لا يحنث. قال القاضي أبو الطيب: ونص عليه في الام. والله أعلم. فصل في أصول تتعلق بالكتاب لا تنعقد يمين صبي، ولا مجنون ولا مكره وفي السكران الخلاف فطلاقه، وتنعقد يمين الكافر. ومن حلف: لا يدخل الدار، ثم قال: أردت شهرا أو يوما. فإن كانت اليمين بطلاق أو عتاق، لم تقبل في الحكم، ويدين، ويلحق بهما الايلاء، لتعلق حق الآدمي به. وإن كانت بالله تعالى، ولم يتعلق بها حق آدمي، قبل قوله ظاهرا وباطنا، لانه أمين في حقوق الله تعالى. ولو حلف: لا يكلم أحدا، ثم قال: أردت زيدا، أو من سوى زيد، أو لا يأكل طعاما، ونوى طعاما بعينه، تخصصت اليمين بما نوى، فلا يحنث بغيره. فرع قال الشيخ أبو زيد رحمه الله: لا أدري على ماذا بنى الشافعي رحمه الله مسائل الايمان، إن اتبع اللغة، فمن حلف لا يأكل الرؤوس ينبغي أن يحنث برؤوس الطير والسمك، وإن اتبع العرف، فأهل القرى لا يعدون الخيام بيوتا. وقد قال الشافعي: لا فرق بين القروي والبدوي. واعلم أن الشافعي تتبع مقتضى اللغة تارة، وذلك عند ظهورها وشمولها، وهو الاصل، وتارة يتبع العرف إذا استمر واطرد. فرع اللفظ الخاص في اليمين لا يعمم بالسبب والنية والعام، وقد يتخصص. مثال الاول، إذا من عليه رجل بما نال منه فقال: والله لا أشرب لك ماء من عطش، انعقدت اليمين على الماء من عطش خاصة. فلا يحنث بطعامه وثيابه،

(8/70)


وإن نوى أنه لا ينتفع بشئ منه، وإن كانت المنازعة بينهما تقتضي ما نواه. وإنما تؤثر النية إذا احتمل اللفظ ما نوى بجهة يتجوز بها، وعند مالك رحمه الله يحنث بكل ما ينتفع به من ماله. قال الشيخ أبو حامد: وسبب الخلاف أن الاعتبار عندنا باللفظ، ويراعى عمومه وإن كان السبب خاصا، وخصوصه وإن كان السبب عاما، وعنده الاعتبار بالسبب دون اللفظ. وأما تخصيص العام فتارة يكون بالنية كما ذكرنا فيما إذا قال: والله لا أكلم أحدا ونوى زيدا. وتارة بعرف الاستعمال، كما في قوله: لا آكل الرؤوس، وتارة بعرف الشرع كما يحمل قوله: لا أصلي على الصلاة الشرعية. فرع يعتبر اللفظ بحقيقته، وقد يصرف إلى المجاز بالنية، كما لو قال: لا أدخل دار زيد، وقال: أردت ما يسكنه دون ما يملكه، فيقبل في اليمين بالله تعالى، ولا يقبل في الحكم إذا حلف بطلاق وعتاق ذكره ابن الصباغ وغيره، وتارة لكون المجاز متعارفا وكون الحقيقة بعيدة، ومثله القاضي حسين بما إذا حلف: لا يأكل من هذه الشجرة، تحمل اليمين على الاكل من ثمرها دون الورق والاغصان، وإن كانت الحقيقة متعارفة، مثل أن يقول: لا آكل من هذه الشاة، يحمل على لحمها، فلا يحنث بلبنها ولحم ولدها. فرع قال ابن كج: لو قال: والله لا دخلت الدار، والله لا دخلت الدار ونوى التأكيد، فهو يمين واحد، وإن نوى بالثاني يمينا أخرى، أو أطلق، فهل يلزمه بالحنث كفارة أم كفارتان ؟ وجهان. قلت: الاصح كفارة. والله أعلم. وإن قال: والله لا دخلت الدار، لادخلت الدار، لا دخلت الدار، فإن نوى التأكيد، فيمين واحدة، وكذا إن أطلق، أو نوى الاستئناف على المذهب. فرع قال الحليمي: اليمين المعقودة على المملو ك المضاف يعتمد المالك دون المملوك، والمعقودة على غير المملوك المضاف يعتمد المضاف دون المضاف إليه، فإذا حلف لا يكلم عبيد فلان ولا عبد له، ثم ملك عبيدا وكلمهم، حنث.

(8/71)


ولو حلف لا يكلم، بنيه ولا ابن له، ثم ولد له بنون فكلمهم، لم يحنث، لانهم لم يكونوا موجودين وقت اليمين. فرع حلف: لا يكلم الناس، ذكر ابن الصباغ وغيره، أنه يحنث إذا كلم واحدا، كما إذا قال: لا آكل الخبز يحنث بما أكل منه. ولو حلف: لا يكلم ناسا حمل على ثلاثة. فرع في كتب أصحاب أبي حنيفة رحمهم الله أن المعرفة لا تدخل تحت النكرة لمغايرتهما، فإذ قال: لا يدخل داري أحد، أو لا يلبس ثوبي أحد، دخل في اليمين غير الحالف، ولم يدخل الحالف، لانه صار معرفا بإضافة الدار أو القميص إليه، قالوا: لو عر ف نفسه بإضافة الفعل بأن قال: لا ألبس هذا القميص أحدا، أو عرف غيره بالاضافة إليه فقال: لا يدخل دار فلان أحد، أو لا يلبس قميصه أحد، لم يدخل المضاف إليه، لانه صار معرفا. وكذا لو قال: لا يقطع هذه اليد أحد، وأشار إلى يده، لم يدخل هو، وقد يتوقف في هذه الصورة الاخيرة، والسابق إلى الفهم في غيرها ما ذكروه، ويجوز أن تخرج الصورة الاولى على الخلاف في أن المخاطب هل يندرج تحت الخطاب. قلت: الوجه الجزم بكل ما ذكروه. والله أعلم. وفي كتبهم أن كلمة أو إذا دخلت بين نفيين، اقتضت انتفاءهما كما قال الله تعالى: * (فلا تطع منهم آثما أو كفورا) *، وإذا دخلت بين إثباتين، اقتضت ثبوت أحدهما، فإذا قال: لا أدخل هذه الدار أو هذه، فأيتهما دخلها، حنث، وإن قال: لادخلن هذه الدار اليوم أو هذه، بر بدخول إحداهما. ويشبه أن يقال: إذا دخلت بين نفيين، كفى للبر أن لا يدخل واحدة منهما، ولا يضر دخول الاخرى، كما أنها إذا دخلت بين إثباتين، كفى للبر أن يدخل إحداهما، ولا يضر أن لا يدخل الاخرى. ولو قال: لا أدخل هذه الدار أبدا، ولادخلن الدار الاخرى اليوم، فإن دخل الاخرى اليوم، بر، وإن لم يدخلها اليوم، ولم يدخل الاخرى، بر أيضا. وفي الاقناع

(8/72)


للماوردي أنه لو قال 0 إن أكلت خبزا أو لحما يرجع إلى مراده منهما، فيتعلق اليمين به. فصل في مسائل منثورة. حلف: لا يدخل هذه وأشار إلى دار، فانهدمت، حنث بدخوله عرصتها. ولو قال: لاأدخل هذه الدار فانهدمت، نظر إن بقيت أصول الحيطان والرسوم، حنث، وإن صارت فضاء، فدخلها، لم يحنث على المذهب، وبه قطع الاكثرون، وجعله الامام على الوجهين فيمن قال: لا آكل هذه الحنطة، فأكل دقيقها. وكذا لو حلف: لا يدخل دارا أو بيتا، فدخل عرصة كانت دارا أو بيتا. ولو جعلت الدار مسجدا، أو بستانا أو حماما، لم يحنث بدخوله، ولو أعيدت الدار بغير الآلة الاولى، فدخلها، لم يحنث، وإن أعيدت بتلك الآلة فوجهان. قلت: أصحهما الحنث. والله أعلم. ولو حلف: لا يشم الريحان، حنث بشم الضيمران دون الورد والبنفسج والياسمن والنرجس والمرزنجوش والزعفران، ويمكن أن يقال: هذا فيما إذا ذكر الريحان معرفا، فأما إذا نكره، فقال: لا أشم ريحانا، فيحنث بها كلها. قلت: الظاهر من حيث الدليل، ومن مقتضى كلام الاصحاب أنه لا فرق، ولا يحنث مطلقا بما بعد الضيمران. والله أعلم. ولو حلف: لا يشم مشموما، حنث بشم جميع ذلك، ولا يحنث بشم المسك والكافور والعود والصندل. ولو حلف: لا يشم الورد والبنفسج، فشمهما بعد الجفاف، فوجهان ولا يحنث بشم دهنهما. ولو حلف: لا يستخدم زيدا، فخدمه من غير أن يطلب الحالف ذلك، لم يحنث، سواء فيه عبده وغيره. ولو حلف: لا يتسرى فثلاثة أوجه، الاصح المنصوص: أن التسري إنما يحصل بثلاثة أشياء:

(8/73)


ستر الجارية عن أعين الناس والوطئ والانزال، والثاني: يكفي الستر والوطئ، والثالث: يكفي الوطئ. ولو حلف: لا يقرأ القرآن، فقرأ جنبا، حنث. وإن حلف: ليقرأن، فقرأه جنبا، بر، بخلاف ما لو نذر أن يقرأ فقرأ جنبا، لا يجزئه، لان المقصود من النذر التقرب، والمعصية لا يتقرب بها. ولو حلف: ليقرأن جنبا، بر بالقراءة جنبا، وإن عصى ولو نذر أن يقرأ جنبا، لغا نذره. فرع في فتاوى القفال أنه لو قال: لا أصلي على هذا المصلى، ففرش فوقه ثوبا وصلى عليه، فإن نوى أنه لا يباشره بقدميه وجبهته وثيابه، لم يحنث، وإلا فيحنث، كما لو قال: لا أصلي في هذا المسجد، فصلى على حصير فيه، وإن علق به الطلاق، ثم قال: أردت أني لا أباشره، دين، ولم يقبل في الحكم، وأنه لو حلف: لا يكلم زيدا شهرا، فولاه ظهره، ثم قال: يا زيد إفعل كذا، حنث، ولو أقبل على الجدار، وقال: يا جدار إفعل كذا، لم يحنث وإن كان غرضه إفهام زيد. وكذا لو أقبل على الجدار وتكلم ولم يقل: يا زيد ولا يا جدار، لم يحنث، وأنه لو حلف: لا يلبس ثوبا من غزلها، فرقع ثوبه برقعة كرباس من غزلها، حنث، وقال أبو عاصم العبادي: لا يحنث وتلك الرقعة تبع. قلت: قول أبي عاصم هو الصحيح، لانه لا يسمى لابسا ثوبا من غزلها. والله أعلم. ولو تعمم بعمامة، نسجت من غزلها، حنث إن حلف بالعربية، وإن حلف بالفارسية، فلا، وإن التحف بلحاف من غزلها، لم يحنث. قلت: يجئ فيه الخلاف السابق في التدثر. والله أعلم. وأنه لو حلف: لآ يفعل كذا، ففعله في حال جنونه، ففي الحنث قولان. فرع في المبتدأ في الفقه للقاضي الروياني أنه لو قال: لا أدخل حانوت فلان، فدخل الحانوت الذي يعمل فيه وهو ملك غيره، لم يحنث، نص

(8/74)


عليه الشافعي رحمه الله، قال: والفتوى أنه يحنث، لانه لا يراد به إلا الذي يسكنه ويعمل فيه. ولو قيل له: كلم زيدا اليوم، فقال: والله لا كلمته، انعقدت اليمين على الابد إلا أن ينوي اليوم، فإن كان ذلك في طلاق وقال: أردت اليوم، لم يقبل في الحكم. قلت: الصواب قبوله في الحكم كما سبق في نظائره في كتاب الطلاق. والله أعلم. فرع في كتب أصحاب أبي حنيف رضي الله عنه أنه لو قال: وسلطان الله فهو بيمين إن أراد القدرة، وإن أراد المقدور، فلا، وبه نقول نحن. وأنه لو قال: ورحمة الله وغضبه، فليس بيمين، ويشبه أن يقال: إن أراد إرادة النعمة والعقوبة فيمين، وإن أراد الفعل، فلا. وأنه لو حلف: ليضربن زوجته حتى يغشى عليها أو تبول، حمل على الحقيقة. ولو قال: حتى أقتلها أو ترفع ميتة، حمل على أشد الضرب، ويظهر على أصلنا الحمل على الحقيقة أيضا. وأنه لو حلف: لا يدخل هذه الخيمة، فقلعت ونصبت في موضع آخر، فدخلها، حنث، ولو حلف: لا يجلس على هذه الاسطوانة أو الحائط، فأعيد بناؤهما بعد النقض، فجلس على المعاد، لم يحنث، وكذا لو حلف على مقص أو سيف أو سكين فكسر وأعيدت الصنعة، لم يحنث. وإن نزع مسمار المقص ونصاب السكين، وأعيد مسمار آخر، ونصاب آخر، حنث. ولو حلف: لا يقرأ في المصحف فجعل بين يديه، وقلبت أوراقه، فقرأ فيه، حنث، ولو حلف: لا يدخل هذا المسجد، فزيد فيه، فدخل الزيادة، حنث، ولو حلف: لا يكتب بهذا القلم، فكسره، ثم براه وكتب به، لم يحنث وبجميع هذه الاجوبة نقول إلا في مسألة القلم. قلت: في موافقتهم في مسألة زيادة المسجد، نظر، وينبغي أن لا يحنث بدخولها، لان اليمين لم يتناولها حالة الحلف. وأما قول الامام الرافعي: إنا

(8/75)


نخالفهم في مسألة القلم، فليس كما قال، بل مذهبنا فيها كما ذكروه قال القاضي أبو الطيب في كتاب الصلح من تعليقه: ولو حلف لا يكتب بهذا القلم وهو مبري فكسره، ثم براه وكتب به، لم يحنث، وإن كانت الانبوبة واحدة، لان القلم اسم للمبري دون القصبة، وإنما تسمى القصبة قبل البري قلما مجازا، لانها ستصير قلما، قال: وكذا إذا قال: لا أقطع بهذا السكين، فأبطل حدها، وجعله في ظهرها، وقطع بها لم يحنث. قال: ولو حلف: لا يستند إلى هذا الحائط، فهدم، ثم بني واستند، إن بني بتلك الآلة، حنث، وإن أعيد بغيرها أو ببعضها، لم يحنث. والله أعلم. وأنه لو حلف: لا يأكل من كسب زيد، فكسبه ما يتملكه من المباحثات، العقود دون ما يرثه. ولو كسب شيئا ومات، فورثه الحالف وأكله، حنث، ولو انتقل إلى غيره بشراء أو وصية، لم يحنث. ولك أن لا تفرق، ويشترط لكسبه أن يكون باقيا في ملكه. وأن الحلواء كل حلو ليس من جنسه حامض، كالخبيص والعسل والسكر دون العنب والاجاص والرمان، والاشبه أن يشتر في إطلاق الحلو أن يكون معمولا، وأن يخرج منه العسل والسكر فالحلواء غير الحلو. قلت: هذا الذي اختاره الرافعي رحمه الله هو الصواب، وفي الحديث الصحيح: كان يحب الحلواء والعسل. والله أعلم. قال العبادي من أصحابنا في الرقم: لو حلف على الحلواء، دخل فيه المتخذ من الفانيذ والسكر والعسل والدبس والقند، وفي اللوزينج والجوزينج وجهان، وأن الشواء يقع على اللحم خاصة دون السمك المشوي، وأن الطبيخ يقع على اللحم يجعل في الماء ويطبخ، وعلى مرقتها وعن بعضهم أنه يقع على

(8/76)


الشحم، ولو طبخ عدس أو أرز بودك فهو طبيخ، وإن طبخ بزيت أو سمن، فليس بطبيخ. قلت: الصواب أن الكل طبيخ. والله أعلم. وذكر العبادي في الرقم أنه لو حلف: لا يأكل المرق، فهو ما يطبخ باللحم أي لحم كان، وفيما يطبخ بالكرش والبطون والشحم وجهان. وإذا حلف: لا يأكل المطبوخ، حنث بما طبخ بالنار أو أغلي، ولا يحنث بالمشوي. والطباهجة مشوية، ويحتمل غيره، وذكروا أن الغداء: من طلوع الفجر إلى الزوال، والعشاء: من الزوال إلى نصف الليل، والسحور: ما بين نصف الليل وطلوع الفجر. ومقدار الغداء والعشاء أن يأكل أكثر من نصف شبعه. ولو حلف: ليأتينه غدوة، فهي ما بين طلوع الفجر إلى نصف النهار، والضحوة بعد طلوع الشمس من حين تزول كراهة الصلاة إلى نصف النهار، والصباح ما بعد طلوع الشمس إلى ارتفاع الضحى، وقد يتوقف في كون العشاء من الزوال، وفي مقدار الغداء والعشاء، وفي امتداد الغدوة إلى نصف النهار، وفي أن الضحوة من الساعة التي تحل فيها الصلاة. وأنه لو حلف: لا يكلمه، فنبهه من النوم، حنث، وإن لم ينتبه وهذا غير مقبول. ولو دق المحلوف عليه الباب، فقال: من هذا ؟ حنث، وينبغي أن يفرق بين علمه به وجهله، وأنه لو قال: لا أكلمه اليوم ولا غدا، لم تدخل الليلة المتخللة في اليمين، ولو قال: لا أكلمه اليوم وغدا، دخلت، والصواب التسوية. قلت: يعني في عدم الدخول وهذا إذا لم ينو مواصلة الهجران. والله أعلم. ولو قال: لا أكلمه يوما ولا يومين، فاليمين على يومين، فلو كلمه في الثالث، لم يحنث، وهكذا ذكره أبو الحسن العبادي من أصحابنا. ولو قال: يوما ويومين، فاليمين على ثلاثة، وأنه لو حلف: ليهدمن هذه الدار، فهدم سقوفها، بر، ويجوز أن يقال: يشترط أن لا يبقى ما يسمى دارا. ولو حلف: ليهدمن هذا الحائط اليوم، أو لينقضنه، اشترط هدمه، حتى لا يبقى منه ما يسمى حائطا. ولو حلف: ليكسرنه، لم يشترط ما يزيل اسم الحائط. فرع حلف: لا يزوره حيا ولا ميتا، فشيع جنازته، لم يحنث. وفي

(8/77)


فتاوى الغزالي أنه لو حلف: لا يدخل داره صوفا، فأدخل داره كبشا عليه صوف، أو لا يدخلها بيضا، فأدخلها دجاجة، فباضت في الحال، لم يحنث. وأنه لو حلف: لا يقعد معه تحت سقف، فقعدا تحت أزج حنث، وأنه لو حلف: لا يفطر، فمطلق هذا ينصرف إلى الاكل والجماع ونحوهما، ولا يحنث بالردة والجنون والحيض ودخول الليل. وبالله التوفيق.

(8/78)