روضة الطالبين وعمدة المفتين ط العلمية

روضة الطالبين - كتاب القضاء
فيه ثلاثة أبواب :
الأول : في التولية والعزل وفيه طرفان :
الأول : في التولية، وفيه مسائل: الاولى: القضاء والامامة فرض كفاية بالاجماع، فإن قام به من يصلح،

(8/79)


سقط الفرض عن الباقين، وإن امتنع الجميع، أثموا، وأجبر الامام أحدهم على القضاء، وقيل: لا يجبر، والصحيح: الاول، ثم من لا يصلح للقضاء تحرم توليته، ويحرم عليه التولي والطلب، وأما من يصلح، فله حالان، أحدهما: أن يتعين للقضاء، فيجب عليه القبول، ويلزمه أن يطلبه ويشهر نفسه عند الامام إن كان خاملا، ولا يعذر بأن يخاف ميل نفسه وخيانتها، بل يلزمه أن يقبل ويحترز، فإن امتنع، عصا، وهل يجبر ؟ وجهان الصحيح نعم، وبه قال الاكثرون، كما يجبر على القيام بسائر فروض الكفاية عند التعين، فإن قيل: امتناعه من هذا الواجب المتعين المتعلق بالمصالح العامة، ويشبه أن تكون كبيرة، فيفسق به، ويخرج عن الاهلية، فكيف يولى ويجبر، فالجواب أنه يمكن أن يقال: إنه يؤمر بالتوبة أولا، فإذا تاب، ولي. قلت: وينبغي أن يقال: لا يفسق، لانه لا يمتنع غالبا إلا متأولا، وهذا ليس بعاص قطعا، وإن كان مخطئا. والله أعلم. الحال الثاني: أن يكون هناك غيره ممن يصلح، فذلك الغير إما أن يكون أصلح، وأولى منه، وإما مثله، وإما دونه فإن كان أصلح منه، بني على أن الامامة العظمى هل تنعقد للمفضول مع وجود الفاضل، وفيه خلاف للمتكلمين والفقهاء، والاصح الانعقاد، لان تلك الزيادة خارجة عن شرط الامامة. وفي القضاء خلاف مرتب، وأولى بالانعقاد، فإن لم نجوز للمفضول القضاء حرمت توليته، وحرم عليه

(8/80)


الطلب والقبول، وإن جوزناه، جاز القبول. وأما الطلب، فمكروه، وقيل: حرام، وإن كان الاصلح لا يتولى، فهو كالمعدوم، وأما إذا كان هناك مثله، فله القبول، ولا يلزمه على الاصح، فربما قام به غيره وأما الطلب، فإن كان خامل الذكر، ولو تولى، اشتهر وانتفع الناس بعلمه، استحب له الطلب على الصحيح، وقال القفال: لا يستحب. وإن كان مشهورا ينتفع الناس بعلمه، فإن لم يكن له كفاية ولو ولي، حصلت كفايته من بيت المال، قال الاكثرون: يستحب، وقيل: لا يستحب ولا يكره، وإن كان له كفاية، فالصحيح أن الطلب مكروه، وقيل: الاولى تركه، ثم كما يكره الطلب والحالة هذه يكره القبول، ولو ولي بلا طلب، وعلى هذا حمل امتناع السلف. وإن كان هناك من هو دونه، فإن لم نجوز تولية المفضول، فقد تعين عليه، وإن جوزناها، استحب له القبول. وفي الوجوب الوجهان، ويستحب له الطلب إذا وثق بنفسه، وهكذا حيث استحببنا الطلب والتولي أو أبحناهما، فذلك عند الوثوق، وغلبة الظن بقوة النفس، وأما عند الخوف، فيحترز.

(8/81)


فرع التفصيل الذي ذكرنا فيما إذا لم يكن هناك قاض متول فإن كان، نظر، إن كان غير مستحق لجور أو جهل، فهو كما لو لم يكن، وإن كان مستحقا والطالب يروم عزله، فالطلب حرام، والطالب مجروح، ذكره الماوردي. قلت: وسواء كان فاضلا أو مفضولا إذا صححنا تولية المفضول. والله أعلم. فرع ما ذكرناه هو حكم الطلب بلا بذل، فلو بذل مالا ليتولى، فقد أطلق ابن القاص وآخرون أنه حرام وقضاؤه مردود، والصحيح تفصيل ذكره الروياني وهو أنه إن تعين عليه القضاء أو كان ممن يستحب له، فله بذل المال، ولكن الاخذ ظالم بالاخذ، وهذا كما إذا تعذر الامر بالمعروف إلا ببذل مال، وإن لم يتعين ولم يكن مستحبا، جاز له بذل المال ليتولى، ويجوز له البذل بعد التولية لئلا يعزل، والآخذ ظالم بالاخذ، وأما بذل المال لعزل قاض، فإن لم يكن بصفة القضاة، فمستحب لما فيه من تخليص الناس منه، ولكن أخذه حرام على الآخذ، وإن كان بصفتهم فحرام. فإن فعل، وعزل الاول، وولي الباذل، قال ابن القاص: توليته باطلة، والمعزول على قضائه، لان العزل بالرشوة حرام، وتولية المرشي والراشي حرام، وليكن هذا عند تمهد الاصول الشرعية، فأما عند الضرورات، وظهور فرع طرق الفتن، فلا بد من تنفيذ العزل والتولية جميعا، كتولية البغاة. الاصحاب متفقة على أن النظر في تعين الشخص للقضاء وعدم تعينه إلى البلد والناحية لا غير، ومقتضا أنه لا يجب على من يصلح للقضاء طلب القضاء ببلدة أخرى ليس بها صالح، ولا قبوله إذا ولي ويجوز أن يفرق بينه وبين القيام بسائر فروض الكفاية المحوجة إلى السفر، كالجهاد وتعلم العلم ونحوهما، فإن تلك يمكن القيام بها، والعود إلى الوطن، وعمل القضاء لا غاية له. المسألة الثانية: في صفات القاضي والمفتي وفيها فصلان: الاول: في صفات القاضي وله ثمانية شروط أحدها: الحرية، والثاني:

(8/82)


الذكورة، والثالث: الاجتهاد، فلا يجوز تولية جاهل بالاحكام الشرعية وطرقها المحتاج إلى تقليد غيره فيها، وإنما يحصل أهلية الاجتهاد لمن علم أمورا أحدها كتاب الله تعالى، ولا يشترط العلم بجميعه، بل مما يتعلق بالاحكام، ولا يشترط حفظه عن ظهر القلب، ومن الاصحاب من ينازع ظاهر كلامه فيه. الثاني: سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا جميعها، بل ما يتعلق منها بالاحكام، ويشترط أن يعرف منها العام والخاص، والمطلق والمقيد، والمجمل والمبين، والناسخ والمنسوخ، ومن السنة المتواتر والآحاد، والمرسل والمتصل، وحال الرواة جرحا وتعديلا. الثالث: أقاويل علماء الصحابة ومن بعدهم رضي الله عنهم إجماعا واختلافا. الرابع: القياس فيعرف جليه وخفيه، وتمييز الصحيح من الفاسد. الخامس: لسان العرب لغة وإعرابا، لان الشرع ورد بالعربية وبهذه الجهة يعرف عموم اللفظ وخصوصه وإطلاقه وتقييده، وإجماله وبيانه. قال أصحابنا: ولا يشترط التبحر في هذه العلوم، بل يكفي معرفة جمل منها، وزاد الغزالي تخفيفات ذكرها في أصول الفقه منها: أنه لا حاجة إلى تتبع الاحاديث على تفرقها وانتشارها، بل يكفي أن يكون له أصل مصحح وقعت العناية فيه بجميع أحاديث الاحكام كسنن أبي داود، ويكفي أن يعرف مواقع كل باب، فيراجعه إذا احتاج إلى العمل بذلك الباب. قلت: لا يصح التمثيل بسنن أبي داود فإنه لم يستوعب الصحيح من أحاديث الاحكام ولا معظمه، وذلك ظاهر، بل معرفته ضرورية لمن له أدنى اطلاع. وكم في صحيح البخاري ومسلم من حديث حكمي ليس في سنن أبي داود. وأما ما في كتابي الترمذي والنسائي وغيرهما من الكتب المعتمدة فكثرته وشهرته غنية عن التصريح بها. والله أعلم.

(8/83)


ومنها: أنه لا يشترط ضبط جميع مواضع الاجماع والاختلاف، بل يكفي أن يعرف في المسألة التي يفتي فيها أن قوله لا يخالف الاجماع، بأن يعلم أنه وافق بعض المتقدمين، أو يغلب على ظنه أن المسألة لم يتكلم فيها الاولون بل تولدت في عصره، وعلى قياس معرفة الناسخ والمنسوخ. ومنها: أن كل حديث أجمع السلف على قبوله أو تواترت عدالة رواته فلا حاجة إلى البحث عن عدالة رواته، وما عدا ذلك ينبغي أن يكتفي في عدالة رواته بتعديل إمام مشهور عرفت صحة مذهبه في الجرح والتعديل. قلت: هذه المسألة مما أطبق جمهور الاصحاب عليه، وشذ من شرط في التعديل اثنين، وقوله: تواترت عدالة رواته يعني مع ضبطهم. ولو قال: أهلية رواته كان أولى ليشمل العدالة والضبط. وقوله: أجمع السلف على قبوله يعني على العمل به، ولا يكفي عملهم على وفقه، فقد يعملون على وفقه بغيره. والله أعلم. ومنها: أن اجتماع هذه العلوم إنما يشترط في المجتهد المطلق الذي يفتي في جميع أبواب الشرع، ويجوز أن يكون للعالم منصب الاجتهاد في باب دون باب، وعد الاصحاب من شروط الاجتهاد معرفة أصول الاعتقاد. قال الغزالي: وعندي أنه يكفي اعتقاد جازم، ولا يشترط معرفتها على طرق المتكلمين وبأدلتهم التي يحررونها. الشرط الرابع: البصر، فلا يصح تولية أعمى وفي جمع الجوامع للروياني وجه أنه يجوز، والصحيح الاول وبه قطع الجمهور، لانه لا يعرف الخصوم والشهود. الخامس: التكليف، فلا يصح تولية الصبي. السادس: العدالة فلا يصح تولية فاسق ولا كافر ولو على الكفار، قال الماوردي: وما جرت به عادة الولادة من نصب حاكم بين أهل الذمة، فهو تقليد

(8/84)


رئاسة وزعامة لا تقليد حكم وقضاء، ولا يلزمهم حكمه بالزامه بل بالتزامهم. السابع: أن يكون ناطقا سميعا، فلا يجوز تقليد أخرس لا تعقل إشارته، وكذا إن عقلت على الصحيح، ولا أصم لا يسمع أصلا، فإن كان يسمع إذا صيح به، جاز تقليده. الثامن: الكفاية، فلا يصح قضاء مغفل اختل رأيه ونظره بكبر أو مرض ونحوهما. ولا يشترط أن يحسن الكتابة على الاصح. ويستحب أن يكون وافر العقل حليما متثبتا ذا فطنة وتيقظ، كامل الحواس والاعضاء، عالما بلغة الذين يقضي بينهم، بريئا من الشحناء والطمع، صدوق اللهجة، ذا رأي ووفاء، وسكينة ووقار، وأن لا يكون جبارا يهابه الخصوم، فلا يتمكنون من استيفاء الحجة، ولا ضعيفا يستخفون به، ويطمعون فيه، وأن يكون قرشيا، ورعاية العلم والتقى أولى من رعاية النسب. فرع إن عرف الامام أهليته ولاه، وإلا فيبحث عن حاله، فلو ولى من لم تجتمع فيه الشروط مع العلم بحاله، أثم المولي والمتولي ولم ينفذ قضاؤه، وإن أصاب، هذا هو الاصل في الباب. قال في الوسيط: لكن اجتماع هذه الشروط متعذر في عصرنا لخلو العصر عن المجتهد المستقل، فالوجه تنفيذ قضاء كل من ولاه سلطان ذو شوكة وإن كان جاهلا أو فاسقا لئلا تتعطل مصالح الناس، ويؤيده أنا ننفذ قضاء قاضي البغاة لمثل هذه الضرورة، وهذا حسن، لكن في بعض الشروح أن قاضي البغاة إذا كان منهم، وبغيهم لا يوجب فسقا كبغي أصحاب معاوية رضي الله عنه، جاز قضاؤه، وإن أوجب الفسق، كبغي أهل النهروان، لم يجز. قلت: هذا المنقول عن بعض الشروح مشهور، قد ذكره صاحب المهذب وغيره، ففي المهذب ان قاضي البغاة إن كان من يستبيح دم أهل العدل ومالهم،

(8/85)


لم ينفذ حكمه، لان شرطه العدالة والاجتهاد، وهذا ليس بعدل ولا مجتهد، وقد جزم الرافعي في المحرر بما ذكره الغزالي، فقال: إن تعذر اجتماع هذه الشروط، فولى سلطان ذو شوكة فاسقا، أو مقلدا، نفذ قضاؤه للضرورة. والله أعلم. وذكر أن القاضي العادل إذا استقضاه أمير باغ، أجابه إليه، ونفذ قضاؤه، فقد سئلت عائشة رضي الله عنها عن ذلك لمن استقضاه زياد، فقالت: إن لم يقض لهم خياركم قضى شراركم. فرع من لا تقبل شهادته من أهل البدع، لا يصح تقليده القضاء قال الماوردي: وكذا لا يجوز تقليد من لا يقول بالاجماع، أو لا يقول بأخبار الآحاد، وكذا حكم نفاة القياس الذين لا يقولون بالاجتهاد أصلا، بل يتبعون النصوص، فإن لم يجدوا، أخذوا بقول سلفهم، كالشيعة، فإن كانوا مجتهدين في فحوى الكلام، ويبنون الاحكام على عموم النصوص وإشاراتها، جاز تقليدهم على الاصح.

(8/86)


الفصل الثاني في المفتي: ومتى لم يكن في الموضع إلا واحد يصلح للفتوى، تعين عليه أن يفتي، وإن كان هناك غيره، فهو من فروض الكفايات، ومع هذا فلا يحل التسارع إليه، فقد كانت الصحابة رضي الله عنهم مع مشاهدتهم الوحي يحيل بعضهم على بعض في الفتوى، ويحرزون عن استعمال الرأي والقياس ما أمكن. ثم نتكلم في ثلاث جمل إحداها في المفتي، فيشترط إسلامه وبلوغه وعدالته، فالفاسق لا تقبل فتواه، ويلزمه أن يعمل لنفسه باجتهاده، ويشترط في المفتي أيضا التيقظ، وقوة الضبط، فلا يقبل ممن تغلب عليه الغفلة والسهو، ويشترط فيه أهلية الاجتهاد، فلو عرف العامي مسألة أو مسائل بدليلها لم يكن له أن يفتي بها، ولا لغيره أن يقلد، ويأخذ بقوله فيها، وقيل: يجوز، وقيل: إن كان نقليا، جاز، وإن كان قياسيا، فلا، والصحيح الاول. والعالم الذي لم يبلغ غاية الاجتهاد كالعامي في أنه لا يجوز تقليده على الصحيح. وموت المجتهد هل يخرجه عن أن يقلد ويؤخذ بقوله ؟ وجهان الصحيح: أنه لا يخرج، بل يجوز تقليده كما يعمل بشهادة الشاهد بعد موته، ولانه لو بطل قوله بموته، لبطل الاجماع بموت المجمعين، ولصارت المسألة اجتهادية، ولان الناس اليوم كالمجمعين على أنه لا مجتهد اليوم، فلو منعنا تقليد الماضين، لتركنا الناس حيارى، وبنوا على هذين الوجهين أن من عرف مذهب مجتهد، وتبحر فيه، لكن لم يبلغ رتبة الاجتهاد، هل له أن يفتي ويأخذ بقول ذلك المجتهد ؟ فعلى الصحيح يجوز هكذا صوروا الفرع، ولك أن تقول: إذا كان المأخذ ما ذكرنا، فسواء المتبحر وغيره، بل العامي إذا عرف

(8/87)


حكم تلك المسألة عند ذلك المجتهد فأخبر به، وأخذ غيره به تقليدا للميت وجب أن يجوز على الصحيح. قلت: هذا الاعتراض ضعيف أو باطل، لانه إذا لم يكن متبحرا ربما ظن ما ليس مذهبا له مذهبه، لقصور فهمه، وقلة اطلاعه على مظان المسألة، واختلاف نصوص ذلك المجتهد، والمتأخر منها، والراجح وغير ذلك، لاسيما مذهب الشافعي رحمه الله الذي لا يكاد يعرف ما يفتى به منه إلا أفراد، لكثرة انتشاره، واختلاف ناقليه في النقل والترجيح. فإن فرض هذا في مسائل صارت كالمعلومة علما قطعيا عن ذلك المذهب، كوجوب النية في الوضوء، والفاتحة في الصلاة، ووجوب الزكاة في مال الصبي والمجنون، ووجوب تبييت النية في صوم الفرض، وصحة الاعتكاف بلا صوم، وعدم وجوب نفقة البائن الحامل، ووجوب القصاص في القتل بالمثقل وغير ذلك عند الشافعي رضي الله عنه، فهذا حسن محتمل. والله أعلم. وإذا جوزنا الفتوى إخبارا عن مذهب الميت، فإن علم من حاله أنه يفتي على مذهب إمام معين، كفى إطلاق الجواب، وإلا فلا بد من إضافته إلى صاحب المذهب. فرع ليس لمجتهد أن يقلد مجتهدا لا ليعمل به، ولا ليفتي به، ولا إذا كان قاضيا ليقضي به، سواء خاف الفوت لضيق وقت أم لا. وقال ابن سريج: له التقليد إذا ضاق الوقت ليعمل به، لا ليفتي، وقياسه أن لا يجوز للقضاء وأولى. وفي الشامل والتهذيب طرد قول ابن سريج في القضاء وصورة الضيف فيه: أن يتحاكم مسافران والقافلة ترتحل، ومن قال به، فقياسه طرده في الفتوى. فرع هل يلزم المجتهد تجديد الاجتهاد إذا وقعت الحادثة مرة أخرى، أو سئل عنها مرة أخرى، أم يعتمد اجتهاده الاول ؟ وجهان كما سبق في القبلة. قلت: أصحهما لزوم التجديد، وهذا إذا لم يكن ذاكرا لدليل الاولى، ولم يتجدد ما قد يوجب رجوعه، فإن كان ذاكرا، لم يلزمه قطعا، وإن تجدد ما يوجب الرجوع، لزمه قطعا. والله أعلم.

(8/88)


فرع المنسوب إلى مذهب الشافعي وأبي حنيفة ومالك ثلاثة أصناف. أحدها: العوام وتقليدهم الشافعي مثلا مفرع على تقليد الميت وقد سبق. والثاني: البالغون لرتبة الاجتهاد، وقد ذكرنا أن المجتهد لا يقلد مجتهدا وإنما ينسب هؤلاء إلى الشافعي، لانهم جروا على طريقته في الاجتهاد، واستعمال الادلة، وترتيب بعضها على بعض، ووافق اجتهادهم اجتهاده وإذا خالف أحيانا لم يبالوا بالمخالفة. والصنف الثالث: المتوسطون وهم الذين لم يبلغوا رتبة الاجتهاد في أصول الشرع، لكنهم وقفوا على أصول الامام في الابواب وتمكنوا من قياس ما لم يجدوه منصوصا له على ما نص عليه، وهؤلاء مقلدون له تفريعا على تقليد الميت، وهكذا من يأخذ بقولهم من العوام تقليدا له، والمعروف للاصحاب أنه لا يقلدهم في أنفسهم، لانهم مقلدون، وقد نجد ما يخالف هذا فإن أبا الفتح الهروي وهو من أصحاب الامام يقول في الاصول: مذهب عامة أصحابنا أن العامي لا مذهب له، فإن وجد مجتهدا قلده. وإن لم يجده، ووجد متبحرا في مذهب، فإنه يفتيه على مذهب نفسه، وإن كان العامي لا يعتقد مذهبه. وهذا تصريح بأنه يقلد المتبحر في نفسه. وإذا اختلف متبحران في نفسه، وإذا اختلف متبحران في مذهب لاختلافهما في قياس أصل مذهب إمامهما، ومن هذا يتولد وجوه الاصحاب، فنقول: أيهما يأخذ العامي ؟ فيه ما سنذكره في اختلاف المجتهدين إن شاء الله تعالى، وإذا نص صاحب المذهب على الحكم والعلة، ألحق بتلك العلة غير المنصوص بالمنصوص، وإن اقتصر على الحكم، فهل يستنبط المتبحر العلة ويعدي الحكم بها، قال محمد بن يحيى: لا، والاشبه بفعل الاصحاب جوازه، لانهم ينقلون الحكم، ثم يختلفون في علته، وكل منهم يطرد الحكم في فروع علته. فرع ذكر الشيخ أبو إسحاق أنه إذا نص الامام في واقعة على حكم، وفي أخرى شبهها على خلافه لا يجوز نقل قوله من إحداهما إلى الاخرى وتخريجهما على قولين، وأن ما يقتضيه قوله لا يجعل قولا له إلا إذا لم يحتمل، كقوله: ثبتت الشفعة في الشقص من الدار، فيقال: قوله: في الحانوت كذلك والمعروف في المذهب

(8/89)


خلاف ما قاله، لكن الاولى أن يقال: إنه قياس أصله أو قياس قوله، ولا يقال: هو قوله. فرع للمفتي أن يشدد في الجواب بلفظ متأول عنده زجرا وتهديدا في مواضع الحاجة. قلت: المراد ما ذكره الصيمري وغيره قالوا: إذا رأى المفتي المصلحة أن يقول للعامي ما فيه تغليظ وهو لا يعتقد ظاهره، وله فيه تأويل، جاز زجرا، كما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سئل عن توبة القاتل، فقال: لا توبة له، وسأله آخر فقال: له توبة، ثم قال: أما الاول، فرأيت في عينيه إرادة القتل فمنعته، أما الثاني، فجاء مسكينا قد قتل، فلم أقنطه، قال الصيمري: وكذا إن سأله، فقال: إن قتلت عبدي، فهل علي قصاص، فواسع أن يقال: إن قتلته قتلناك، فعن النبي - صلى الله عليه وسلم -: من قتل عبده قتلناه ولان القتل له معان وهذا كله إذا لم يترتب على إطلاقه مفسدة. والله أعلم. الجملة الثانية في المستفتي، فيلزمه سؤال المفتي عند حدوث مسألته، وإنما يسأل من عرف علمه وعدالته، فإن لم يعرف العلم، بحث عنه بسؤال الناس، وإن لم يعرف العدالة، فقد ذكر الغزالي فيه احتمالين أحدهما: أن الحكم كذلك، وأشبههما الاكتفاء، لان الغالب من حال العلماء العدالة، بخلاف البحث عن العلم، فليس الغالب من الناس العلم، ثم ذكر احتمالين في أنه إذا وجب البحث، يفتقر إلى عدد التواتر، أم يكفي إخبار عدل أو عدلين ؟ أصحهما: الثاني. قلت: الاحتمالان فيما إذا لم تعرف العدالة، هما فيمن كان مستورا وهو الذي

(8/90)


ظاهره العدالة ولم يختبر باطنه وهما وجهان ذكرهما غيره، أصحهما الاكتفاء، لان العدالة الباطنة يعسر معرفتها على غير القضاة، فيعسر على العوام تكليفهم بها، وهذا الخلاف كالخلاف في صحة النكاح بحضور المستورين. أما الاحتمالان في اشتراط عدد التواتر، والاكتفاء بعدل، فهما محتملان، ولكن المنقول خلافهما، فالذي قاله الاصحاب أنه يجوز استفتاء من استفاضت أهليته، وقيل: لا يكفي الاستفاضة، ولا التواتر، بل إنما يعتمد قوله: أنا أهل للفتوى، لان الاستفاضة والشهرة بين العامة لا وثوق بها، فقد يكون أصلها التلبيس، وأما التواتر، فلا يفيد العلم إذا لم يستند إلى معلوم محسوس، والصحيح الاول، لان إقدامه عليها إخبار منه بأهليته، لان الصورة فيمن وثق بدينه.. ويجوز استفتاء من أخبر المشهور المذكور بأهليته قال الشيخ أبو إسحاق وغيره: نقبل في أهليته خبر عدل واحد، وهذا محمول على من عنده معرفة يميز بها الملتبس من غيره، ولا يعتمد في ذلك خبر آحاد العامة لكثرة ما يتطرق إليهم من التلبيس في ذلك. والله أعلم. فرع إذا وجد مفتيين فأكثر هل يلزمه أن يجتهد، فيسأل أعلمهم ؟ وجهان، قال ابن سريج: نعم، واختاره ابن كج والقفال، لانه يسهل عليه، وأصحهما عند الجمهور أنه يتخير، فيسأل من شاء، لان الاولين كانوا يسألون علماء الصحابة رضي الله عنهم مع تفاوتهم في العلم والفضل، ويعملون بقول من سألوه من غير إنكار، قال الغزالي: فإن اعتقد أن أحدهم أعلم، لم يجز أن يقلد غيره، وإن كان لا يلزمه البحث عن الاعلم إذا لم يعتقد اختصاص أحدهم بزيادة علم. قلت: هذا الذي قاله الغزالي قد قاله غيره أيضا وهو وإن كان ظاهرا، ففيه نظر لما ذكرنا من سؤال آحاد الصحابة رضي الله عنهم مع وجود أفاضلهم الذين فضلهم متواتر وقد يمنع هذا وعلى الجملة المختار ما ذكره الغزالي. فعلى هذا يلزمه تقليد أورع العالمين، وأعلم الورعين، فإن تعارضا قدم الاعلم على الاصح. والله أعلم. فرع وإذا استفتى وأجيب، فحدثت له تلك الحادثة ثانيا، فإن عرف استناد

(8/91)


الجواب إلى نص أو اجماع، فلا حاجة إلى السؤال ثانيا، وكذا لو كان المقلد ميتا وجوزناه، وإن عرف استناده إلى الرأي والقياس أو شك والمقلد حي، فوجهان، أحدهما: لا يحتاج إلى السؤال ثانيا، لان الظاهر استمراره على جوابه، وأصحهما يلزمه السؤال ثانيا. فرع لو اختلف عليه جواب مفتيين، فإن أوجبنا البحث وتقليد الاعلم، اعتمده، وإلا فأوجه، أصحها: يتخير، ويأخذ بقول أيهما شاء، والثاني: بأخذ بأغلظ الجوابين، والثالث: بأخفهما، والرابع: بقول من يبني قوله على الاثر دون الرأي، والخامس: بقول من سأله أولا. قلت: وحكي وجه سادس أنه يسأل ثالثا، فيأخذ بفتوى من وافقه. وهذا الذي صححه من التخيير هو الذي صححه الجمهور، ونقله المحاملي في أول المجموع عن أكثر أصحابنا لان فرضه أن يقلد عالما وقد حصل. والله أعلم. ونقل الروياني وجهين في أن من سأل مفتيا ولم تسكن نفسه إلى فتواه هل يلزمه أن يسأل ثانيا وثالثا لتسكن نفسه، أم له الاقتصار على جواب الاول ؟ والقياس في وجه الثاني. الجملة الثالثة فيما يتعلق بهما، فيجوز للمستفتي أن يسأل بنفسه، ويجوز أن يكتفي برسول ثقة يبعثه وبالرقعة، ويكفي ترجمان واحد إذا لم يعرف لغته. قلت: له اعتماد خط المفتي إذا أخبره من يقبل خبره أنه خطه، أو كان يعرف خطه ولم يشك فيه. والله أعلم. ومن آداب المستفتي أن لا يسأل المفتي وهو قائم، أو مشغول بما يمنعه من تمام الفكر، وأن لا يقول إذا أجابه: هكذا قلت أنا، وأن لا يطالب بالدليل، فإن أراد معرفته، سأل عنه في وقت آخر. وإذا سأل في رقعة، فليكن كاتبها حاذقا، ليبين مواضع السؤال، وينقط مواضع الاشتباه، وليتأمل المفتي الرقعة كلمة كلمة، وليكن اعتناؤه بآخر الكلام أشد، لانه موضع السؤال، وليتثبت في الجواب وإن كانت المسألة واضحة، وأن يشاور من في مجلسه ممن يصلح لذلك إلا أن يكون فيها

(8/92)


ما لا يحسن إظهاره. وله أن ينقط من الرقعة مواضع الاشكال، وأن يصلح ما فيها من خطأ ولحن فاحش، وإذا رأى في آخر بعض السطور بياضا، شغله بخطه، لئلا يلحق فيه بعد جوابه شئ، وليبين المفتي بخطه، وليكن قلمه بين قلمين. ولو كتب مع الجواب حجة من آية أو حديث فلا بأس، ولا يعتاد ذكر القياس، وطرق الاجتهاد. فإن تعلقت الفتوى بقاض، فحسن أن يومئ إلى الطريق للاجتهاد، وإذا رأى في الفتوى جواب من لا يصلح للفتوى، لم يفت معه. قال الصيمري: وله أن يضرب عليه بإذن صاحب الرقعة وبغير إذنه، ولا يحبسها إلا بإذنه، واستحبوا أن يكون السؤال بخط غير المفتي. فرع متى تغير اجتهاد المجتهد، دار المقلد معه، وعمل في المستقبل بقوله الثاني، ولا ينقض ما مضى، ولو نكح المجتهد امرأة، ثم خالعها ثلاثا، لانه رأى الخلع فسخا، ثم تغير اجتهاده قال الغزالي: يلزمه مفارقتها، وأبدى ترددا فيما لو فعل المقلد مثل ذلك، ثم تغير اجتهاد مقلده، قال: والصحيح أن الجواب كذلك، كما لو تغير اجتهاد المقلد في الصلاة، فإنه يتحول. ولو قال مجتهد للمقلد والصورة هذه: أخطأ بك من قلدته، فإن كان الذي قلده أعلم من الثاني، أو استويا، فلا أثر لقوله، وإن كان الثاني أعلم، فالقياس أنا إن أوجبنا تقليد الاعلم، فهو كما لو تغير اجتهاد مقلده، وإلا فلا أثر له. قلت: هذا الذي زعم الامام الرافعي رحمه الله أنه القياس ليس بشئ، بل الوجه الجزم بأنه لا يلزمه شئ، ولا أثر لقول الثاني، وهذا كله إذا كانت المسألة اجتهادية، وقد لخص الصيمري، والخطيب البغدادي وغيرهما من أصحابنا هذه المسألة بتفصيل حسن، فقالوا: إذا أفتى، ثم رجع، فإن علم المستفتي رجوعه ولم يكن عمل بالاول لم يجز له العمل به، وكذا إذا نكح بفتواه، أو استمر على نكاح بفتواه، ثم رجع، لزمه فراقها، كنظيره في القبلة. وإن كان عمل به قبل الرجوع، فإن كان مخالفا لدليل قاطع، لزم المستفتي نقض عمله، وإن كان في محل الاجتهاد، فلا، لان الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد، ولا يعمل خلاف هذا لاصحابنا، وما ذكره صاحبا المستصفى والمحصول، فليس فيه تصريح بمخالفة هذا. قال الشيخ أبو عمرو ابن الصلاح رحمه الله: وإن كان المفتي إنما يفتي على مذهب إمام معين، فرجع لكونه تيقن مخالفة نص إمامه، وجب نقضه، وإن كان اجتهاديا،

(8/93)


لان نص إمامه في حقه كنص الشارع في حق المستقل، وأما إذا لم يعلم المستفتي برجوعه. فكأنه لم يرجع في حقه، ويلزم المفتي إعلامه برجوعه قبل العمل، وكذا بعده حيث يجب النقض، وإذا عمل بفتواه في إتلاف، ثم بإن أنه أخطأ، وخالف القاطع، فقال الاستاذ أبو إسحاق الاسفراييني: إن كان أهلا للفتوي، ضمن، وإلا، فلا، لان المستفتي مقصر، وهذا الذي قاله فيه نظر، وينبغي أن يخرج على قولي الغرور أو يقطع بعدم الضمان مطلقا إذا لم يوجد منه الاتلاف، ولا ألجأ إليه بإلزام. والله أعلم. فرع لا يشترط أن يكون للمجتهد مذهب مدون، وإذا دونت المذاهب، فهل يجوز للمقلد أن ينتقل من مذهب إلى مذهب ؟ إن قلنا: يلزمه الاجتهاد في طلب الاعلم، وغلب على ظنه أن الثاني أعلم ينبغي أن يجوز، بل يجب وإن خيرناه، فينبغي أن يجوز أيضا، كما لو قلد في القبلة هذا أياما، وهذا أياما. ولو قلد مجتهدا في مسائل، وآخر في مسائل أخرى، واستوى المجتهدان عنده أو خيرناه، فالذي يقتضيه فعل الاولين الجواز، وكما أن الاعمى إذا قلنا: لا يجتهد في الاواني والثياب له أن يقلد في الثياب واحدا، وفي الاواني آخر، لكن الاصوليون منعوا منه لمصلحة. وحكى الحناطي وغيره عن أبي إسحق فيما إذا اختار من كل مذهب ما هو أهون عليه أن يفسق به، وعن ابن أبي هريرة أنه لا يفسق، وبالله التوفيق. قلت: قد استقصى الامام الرافعي رحمه الله هذا الباب، فاستوعب وأجاد، وقد استوعبت أنا هذا الباب في أول شرح المهذب وجمعت فيه من مجموعات كلام الائمة ومتفرقاتها هذا المذكور هنا مع مثله أو أمثاله، وأنا أذكر منه هنا نبذا أشير إليها، ولا ألتزم ترتيبه. فيستحب للمعلم والمفتي الرفق بالمتعلم والمستفتي، ليتمكن من الفهم عنه، وقد استوعبت آداب العالم والمعلم في أول شرح المهذب وذكرت فيه ما لا ينبغي لطالب علم أن يخفى عليه شئ منه، قال الخطيب الحافظ أبو بكر البغدادي: ينبغي للامام أن يتفقد أحوال المفتين، فمن صلح لها، أقره، ومن لم يصلح،

(8/94)


منعه، وأمره أن لا يعود، ويواعده على العود، وطريقه في ذلك أن يسأل العلماء المشهورين من أهل عصره عن حاله، ويعتمد خبرهم، وينبغي أن يكون المفتي مع شروطه السابقة متنزها عن خوارم المروءة، فقيه النفس، سليم الذهن، رصين الفكر، حسن التصرف والاستنباط، وسواء الحر والعبد، والمرأة والاعمى والاخرس إذا كتب أو فهمت إشارته. قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله: وينبغي أن يكون المفتي كالراوي في أنه لا تؤثر فيه القرابة والعداوة، وجر النفع، ودفع الضر، لانه في حكم من يخبر عن الشرع بما لا اختصاص له بشخص، فكان كالراوي لا كالشاهد وفتواه لا يرتبط بها إلزام بخلاف حكم القاضي. قال: ووجدت عن صاحب الحاوي إن المفتي إذا نابذ في فتواه شخصا معينا، صار خصما معاندا، ترد فتواه على من عاداه، كما ترد شهادته. قال الصيمري: ويقبل فتاوى أهل الاهواء والخوارج، ومن لا يكفر ببدعته ولا بفسقه، وذكر الخطيب هذا ثم قال: وأما الشراة وهم بضم الشين المعجمة، والرافضة الذين يسبون السلف، ففتاويهم مردودة، وأقاويلهم ساقطة. ومن كان من أهل الفتوى وهو قاض، فهو كغيره، فلا يكره له الفتوى هذا هو الصحيح الذي عليه الجمهور، وقيل: له أن يفتي في العبادات وغيرها، مما لا يتعلق بالاحكام، وفي الاحكام وجهان. وقال ابن المنذر: يكره فتواه في الاحكام دون غيرها، وهل يشترط في المفتي أن يعرف من الحساب ما يصح به المسائل الحسابية الفقهية ؟ وجهان، حكاهما الاستاذ أبو إسحق الاسفراييني، وصاحبه ويشترط في المفتي المنتسب إلى مذهب إمام كما سبق أن أبو منصور البغدادي يكون فقيه النفس، حافظا مذهب إمامه، ذا خبرة بقواعده، وأساليبه ونصوصه، وقد قطع إمام الحرمين وغيره بأن الاصولي الماهر المتصرف في الفقه لا يحل له الفتوى بمجرد ذلك، ولو وقعت له واقعة، لزمه أن يستفتي فيها، ويلتحق به المتصرف البحاث في الفقه من أئمة الخلاف، وفحول المناظرين، لانه ليس أهلا لادراك حكم الواقعة استقلالا، لقصور آلته، ولا من مذهب إمام لعدم حفظه له على الوجه المعتبر. وإذا استفتى

(8/95)


العامي عما لم يقع، لم يجب جوابه ولا يجوز للمفتي أن يتساهل في فتواه، ومن عرف بذلك، لم يجز أن يستفتى، وتساهله قد يكون بأن لا يتثبت، ويسرع بالجواب قبل استيفاء الفكر والنظر، فإن تقدمت معرفته بالمسؤول عنه، فلا بأس بالاسراع، وعلى هذا يحمل ما نقل عن الماضين من المسارعة، وقد يكون تساهله بأن تحمله أغراض فاسدة على تتبع الحيل المحرمة المكروهة، والتمسك بالشبهة طلبا للترخيص على من يروم نفعه، أو التغليظ على من يروم ضره، ومن فعل هذا، فلا وثوق به. وأما إذا صح قصده، فاحتسب في طلب حيلة لا شبهة فيها، ولا تجر إلى مفسدة، ليخلص بها المستفتي من وريطة يمين ونحوها، فذلك حسن، وعله يحمل ما جاء عن بعض السلف من هذا. وينبغي أن لا يفتي في كل حال تغير خلقه، وتشغل قلبه، وتمنعه التثبت والتأمل كحالة الغضب أو الجوع أو العطش والحزن والفرح الغالب، والنعاس، والملالة، والمرض المقلق، والحر المزعج، ومدافعة الاخبثين ونحو ذلك، ومتى أحس بشغل قلبه، وخروجه عن الاعتدال، لم يفت، فإن أفتى في شئ من هذه الاحوال وهو يعتقد أن ذلك لم يمنعه من إدراك الصواب، صحت فتواه، وإن كان مخاطرا. والاولى للمتصدي للفتوى أن يتبرع بذلك، ويجوز أن يأخذ عليه رزقا من بيت المال إلا إذا تعين عليه، وله كفاية، فالصحيح أنه لا يجوز. ثم إن كان له رزق لا يجوز له أخذ أجرة، وإن لم يكن له رزق، لم يجز له أخذ أجرة من أعيان المستفتين كالحاكم. واحتال الشيخ أبو حاتم القزويني في حيلة، فقال: يقول للمستفتي: يلزمني أن أفتيك قولا، ولا يلزمني أن أكتب لك، فإن استأجره على الكتابة، جاز، وهذا الذي ذكره وإن كان مكروها، فينبغي أن لا يأخذ من الاجرة إلا قدر أجرة كتابة ذلك القدر ولو لم يكن فتوى، لئلا يكون آخذا زيادة بسبب الافتاء. قال الصيمري والخطيب وغيرهما: ولو اجتمع أهل البلد على أن جعلوا له رزقا من أموالهم ليتفرغ لفتاويهم، جاز. وأما الهدية، فقال أبو المظفر السمعاني من أصحابنا: ويجوز له قبولها بخلاف الحاكم، لانه يلزمه حكمه قال الشيخ أبو عمرو: وينبغي أن يحرم قبولها إن كانت رشوة على أن يفتيه بما يريد، كما في الحاكم وسائر ما لا يقابل بالاعواض. قال

(8/96)


الخطيب: وعلى الامام أن يفرض من بيت المال لمن نصب نفسه لتدريس العلم أو للفتوى في الاحكام ما يغنيه عن التكسب، ولا يجوز أن يفتي فيما يتعلق بالالفاظ كالايمان والاقرار والوصايا ونحوها، إلا إذا كان من أهل بلد اللافظ أو نازلا منزلتهم في الخبرة بمرادهم في العادة، وليس للمفتي والعامل على مذهب الامام الشافعي في المسألة ذات الوجهين أو القولين أن يفتي أو يعمل بما شاء منهما من غير نظر وهذا لا خلاف فيه، بل عليه في القولين أن يعمل بالمتأخر منهما إن علمه، وإلا فبالذي رجحه الشافعي، فإن لم يكن رجح أحدهما ولا علم السابق، لزمه البحث عن أرجحهما، فيعمل به، فإن كان أهلا للترجيح، اشتغل به متعرفا ذلك من نصوص الشافعي ومآخذه وقواعده، وإلا فلينقله عن الاصحاب الموصوفين بهذه الصفة، فإن لم يحصل له ترجيح بطريق، توقف. وأما الوجهان فيتعرف أرجحهما بما سبق إلا أنه لا اعتبار بالتأخر إلا إذا وقعا من شخص واحد، وإذا كان أحدهما منصوصا للشافعي، والآخر مخرجا، فالمنصوص هو الراجح المعمول به غالبا، كما إذا رجح الشافعي في أحد القولين، بل هذا أولى. ولو وجد من ليس أهلا لترجيح خلافا للاصحاب في الارجح من القولين أو الوجهين، فليعتمد ما صححه الاكثر، والاعلم والاورع، فإن تعارض أعلم وأورع، قدم الاعلم، فإن لم يبلغه عن أحد ترجيح، اعتبر صفات الناقلين للقولين، والقائلين للوجهين فما رواه البويطي والمزني والربيع المرادي مقدم عند أصحابنا على ما رواه الربيع الجيزي وحرملة، كذا نقله الخطابي من أصحابنا عن أصحابنا، إلا أنه لم يذكر البويطي، وزدته أنا لكونه أجل من الربيع، وأقدم من المزني، وأخص بالشافعي منه. قال الشيخ أبو عمرو: ويترجح أيضا ما وافق أكثر أئمة المذاهب. وحكى القاضي حسين فيما إذا كان للشافعي قولان، أحدهما كقول أبي حنيفة رضي الله عنه وجهين، قال الشيخ أبو حامد: المخالف لابي حنيفة رضي الله عنه أرجح، فلو لم يطلع الشافعي على معنى مخالف لما خالفه، والصحيح أن الموافق أولى، وبه قال القفال، وهذا إذا لم نجد مرجحا مما سبق. ولو تعارض جزم مصنفين، فهو كتعارض الوجهين، فيرجع إلى البحث كما سبق، ويرجح أيضا بالكثرة، فإذا جزم مصنفان بشئ، وجزم ثالث مساو لاحدهما بخلافهما، رجحناهما عليه. واعلم أن نقل أصحابنا العراقيين لنصوص الشافعي وقواعد مذهبه، ووجوه

(8/97)


المتقدمين من أصحابنا أتقن وأثبت من نقل أصحابنا الخراسانيين غالبا إن لم يكن دائما وهذا مما يتعلق بما نحن فيه. ومما ينبغي أن يرجح به أحد القولين أن يكون الشافعي رحمه الله ذكره في بابه ومظنته، والآخر جاء مستطردا في باب آخر. واعلم أن هذا الكتاب الذي اختصرته وهذبته محصل لك جميع ما ذكرته ولا أقول هذا تبجحا بل نصيحة للمسلمين ومناصحة للدين، وهما واجبان علي وعلى سائر المكلفين. واعلم أنه يكره للمفتي أن يقتصر في جوابه على قوله: فيه قولان، أو وجهان، أو خلاف ونحو ذلك، فإن هذا ليس جوابا صحيحا للمستفتي، ولا يحصل به مقصوده، وهو بيان ما يعمل به لما ذكرنا، بل ينبغي أن يجزم بما هو الراجح، فإن لم يظهر له الراجح، انتظر ظهوره، أو امتنع من الافتاء في المسألة، كما فعله كثير من أصحابنا وغيرهم. واعلم أنه متى كان قولان قديم وجديد، فالعمل على الجديد إلا في نحو عشرين أو ثلاثين مسألة قد أوضحتها مفصلة في أول شرح المهذب مع ما يتعلق بها ويترتب بها، ويترتب عليها، وبالله التوفيق، وإذا كان في رقعة الاستفتاء مسائل، فحسن أن يرتب الجواب على ترتيب الاسئلة، وإذا كان في المسألة تفصيل لم يطلق الجواب، فإنه خطأ بالاتفاق، وليس له أن يكتب الجواب على ما يعلمه من صورة الواقعة إذا لم يكن في الرقعة تعرض له، بل يذكر جواب ما في الرقعة فإن أراد الجواب على خلاف ما فيها، فليقل، وإن كان الامر كذا، فجوابه كذا، وإذا كتب الجواب، أعاد نظره فيه وتأمله، وإذا كان هو المبتدئ بالافتاء في الرقعة، قال الصيمري وغيره: فالعادة قديما وحديثا أن يكتب في الناحية اليسرى، لانه أمكن. قال الصيمري وغيره: ولو كتب وسط الرقعة، أو في حاشيتها، فلا عتب عليه، ولا يكتب فوق البسملة بحال. ويستحب عند إرادة الافتاء أن يستعيذ من الشيطان ويسمي الله تعالى

(8/98)


ويحمده، ويصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، ويقول: رب اشرح لي صدري الآية، ويستحب أن يكتب في أول فتواه: الحمد لله، أو الله الموفق، أو حسبنا الله، أو حسبي الله ونحو ذلك، نقل ذلك الصيمري عن كثيرين، قال: وحذفه آخرون. قال: ولا يدع أن يختم جوابه بقوله: والله أعلم، أو وبالله التوفيق ونحوه. قال: ولا يقبح أن يقول: الجواب عندنا، أو الذي عندنا، أو الذي نذهب إليه كذا، لانه من أهله قال: وإذا كان السائل قد أغفل الدعاء للمجيب، أو الصلاة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في آخر الفتوى، ألحق المفتي ذلك بخطه فإن العادة جارية به، ويكتب بعد: والله أعلم، ونحوه: كتبه فلان، أو فلان بن فلان الفلاني، فينتسب إلى ما يعرف به من قبيلة أو بلد أو غيرهما، ثم ينتسب إلى المذهب، فيقول الشافعي أو الحنفي ونحوهما، قال الصيمري: وإن كانت الفتوى تتعلق بالسلطان، دعا له، فقال: وعلى السلطان أو على ولي الامر وفقه الله، أو أصلحه، أو سدده، أو شد أزره، ولا يقول: أطال الله بقاءه، فإنه ليس من ألفاظ السلف. وقد نقل النحاس اتفاق العلماء على كراهية أطال الله بقاءك. وقد أوضحت هذه اللفظة وما يتعلق بها ويشبهها في آخر كتاب الاذكار. وينبغي أن يختصر جوابه، ويكون بحيث يفهم للعامة فهما جليا، قال الصيمري والخطيب وغيرهما: وإذا سئل عمن قال: أنا أصدق من محمد بن عبد الله، أو الصلاة لغو ونحو هذه العبارات، فلا يبادر بقوله: هذا حلال الدم، أو عليه القتل، بل يقول: إن ثبت هذا بإقراره، أو ببينة، استتابه السلطان، فإن تاب، قبلت توبته، وإلا فعل كذا وكذا وأشبع القول فيه، وإن سئل عن شئ يحتمل وجوها يكفر ببعضها دون بعض قال: يسأل القائل، فإن قال: أردت كذا، فالجواب كذا، وإن قال: أرددت كذا، فالجواب كذا. وإذا سئل عمن قتل أو قلع سنا أو عينا، احتاط في الجواب، فيذكر الشروط التي يجب باجتماعها القصاص، وإذا سئل عمن فعل ما يقتضي تعزيره، ذكر ما يعزر به، فيقول: ضربه السلطان ما بين كذا وكذا، ولا يزاد على كذا، وينبغي أن يلصق الجواب بآخر الاستفتاء، ولا يدع بينهما فرجة مخافة أن يزيد السائل شيئا يفسد الجواب. وإذا كان موضع الجواب ورقة ملصفة، كتب على

(8/99)


موضع الالصاق، وإذا ضاق آخر الورقة عن الجواب، لم يكتبه في ورقة أخرى، بل في ظهر هذه أو حاشيتها وأيهما أولى ؟ فيه ثلاثة أوجه، ثالثها: هما سواء، والراجح أن حاشيتها أولى، وبه قطع الصيمري وغيره، وليحذر أن يميل في فتواه مع المستفتي أو خصمه، ووجوه الميل معروفة. ومنها أن يكتب ما له دون ما عليه، وليس له أن يعلم أحدهما ما يدفع به حجة صاحبه، وإذا ظهر له أن الجواب خلاف غرض المستفتي، وأنه لا يرضى بكتابته في ورقته، اقتصر على مشافهته بالجواب، ويجب عليه عند اجتماع الرقاع أن يقدم الاسبق فالاسبق، كالقاضي وهذا فيما يجب فيه الافتاء، فإن تساووا وجهل السابق، أقرع والصحيح أنه يجوز تقديم المرأة، والمسافر الذي شد رحله، ويتضرر بتخلفه عن رفقته إلا إذا كثر المسافرون والنساء بحيث يتضرر غيرهم تضررا ظاهرا، فيقدم حينئذ بالسبق، ثم القرعة، ثم لا يقدم أحدا إلا في فتيا واحدة. قال الصيمري وغيره: إذا سئل عن ميراث، فالعادة أن لا يشترط في الورثة عدم الرق والكفر والقتل وغيرهما مما يمنع الارث، بل المطلق محمول على ذلك بخلاف ما إذا أطلق الاخوة والاخوات، ولا بد أن يقول في الجواب: من أبوين أو أب أو أم، وإذا سئل عن المنبرية وهي زوجة وأبوان وبنتان، لا يقول: للزوجة الثمن، ولا التسع، لانه لم يطلقه أحد من السلف، بل يقول: لها الثمن عائلا، وهو ثلاثة أسهم من سبعة وعشرين سهما، أولها ثلاثة أسهم من سبعة وعشرين، وإذا كان في المذكورين من لا يرث أفصح بسقوطه، فقال: وسقط فلان، فإن كان سقوطه في حال دون حال، قال: وسقط فلان في هذه الحالة ونحو ذلك، لئلا يتوهم أنه لا يرث بحال. قال: وينبغي أن يكون شديد الاحتراز في جواب المناسخات. قال الصميري وغيره: وحسن أن يقول: تقسم التركة بعد إخراج ما يجب تقديمه من دين أو وصية إن كانا. قالوا وإذا رأى في الرقعة فتوى غيره ممن هو أهل للافتاء، وخطه موافق لما عنده، كتب تحته الجواب صحيح، أو جوابي مثل هذا، أو بهذا أقول وله أن يكتب الجواب بعبارة أخصر من عبارة السابق.

(8/100)


وإن كان فيها خط من ليس بأهل، قال الصيمري وغيره: لم يفت معه، لان ذلك تقرير للخطأ، بل يضرب عليه، وينهر المستفتي، ويعرفه قبح ما فعله، وأنه كان واجبا عليه البحث عن أهل الفتوى. وإن رأى فيها اسم من لا يعرفه، سأل عنه، فإن لم يعرفه، فله الامتناع خوفا مما قلناه. والاولى أن يأمر صاحبها بإبدالها، فإن أبى، أجابه شفاها، وإذا خاف فتنة من الضرب عليها، ولم تكن فتياه خطأ، امتنع من الافتاء معه. وهل يجوز للعامي أن يتخير ويقلد أي مذهب شاء، نظر إن كان منتسبا إلى مذهب، بني على وجهين، حكاهما القاضي حسين في أن العامي هل له مذهب أم لا ؟ أحدهما: لا، لان المذهب لعارف الادلة، فعلى هذا له أن يستفتي من شاء، وأصحهما عند القفال له مذهب، فلا تجوز مخالفته. وإن لم يكن منتسبا، بني على وجهين، حكاهما ابن برهان بفتح الباء من أصحابنا في أن العامي هل يلزمه التقيد بمذهب معين ؟ أحدهما: لا، فعلى هذا هل له أن يقلد من شاء أم يبحث عن أسد المذاهب، فيقلد أهله وجهان، كالبحث عن الاعلم. والثاني وبه قطع أبو الحسن إلكيا: يلزمه. وهو جار في كل من يبلغ رتبة الاجتهاد من الفقهاء وأصحاب سائر العلوم، لئلا يتلقط رخص المذاهب بخلاف العصر الاول، ولم تكن مذاهب مدونة، فيتلقط رخصها. فعلى هذا يلزمه أن يختار مذهبا يقلده في كل شئ، وليس له التمذهب بمجرد التشهي، ولا بما وجد عليه أبده، هذا كلام الاصحاب. والذي يقتضيه الدليل أنه لا يلزمه التمذهب بمذهب، بل يستفتي من شاء، أو من اتفق، لكن من غير تلقط للرخص. ولعل من منعه لم يثق بعدم تلقطه. وإذا استفتى وأفتاه المفتي، فقال أبو المظفر السمعاني: لا يلزمه العمل به إلا بإلزامه، قال: ويجوز أن يقال: يلزمه إذا أخذ في العمل به، وقيل: يلزمه إذا وقع في نفسه صحته، قال: وهذا أولى الاوجه، والمختار ما نقله الخطيب وغيره، أنه إذا لم يكن هناك مفت

(8/101)


آخر، لزمه بمجرد فتواه، وإن لم تسكن نفسه، وإن كان هناك آخر لم يلزمه بمجرد إفتائه، إذ له أن يسأل غيره، وحينئذ فقد يخالفه، فيجئ فيه الخلاف السابق في اختلاف المفتيين، وينبغي للمستفتي أن يبدأ من المفتين بالاسن الاعلم وبالاولى فالاولى فإن أراد جمعهم في رقعة، وإن أراد إفرادهم في رقاع، بدأ بمن شاء، وتكون رقعة الاستفتاء واسعة، ويدعو في الورقة لمن يستفتيه، ويدفع الورقة إلى المفتي منشورة، ويأخذها منشورة، فيريحه من نشرها وطيها. وإذا لم يجد صاحب الواقعة مفتيا في بلده ولا غيره، ولا من ينقل حكمها، قال الشيخ أبو عمرو: هذه مسألة فترة الشريعة الاصولية وحكمها حكم ما قبل ورود الشرع، والصحيح في كل ذلك أن لا تكليف ولا حكم في حقه أصلا، فلا يؤاخذ إذا صاحب الواقعة شئ بصنعه. فهذا آخر النبذ التي يسر الله الكريم إلحاقها وهي وإن كانت طويلة بالنسبة إلى هذا المختصر فهي قصيرة بالنسبة إلى ما ذكرته في شرح المهذب، وموضع بسطها والزيادات والفروع هناك. وهذا الفصل مما يكثر الاحتياج إليه، فلهذا بسطناه أدنى بسط. والله أعلم. المسألة الثالثة: يستحب للامام أن يأذن للقاضي في الاستخلاف، فإن لم يأذن، فله حالان أحدهما: أن يطلق التولية، ولا ينهاه عن الاستخلاف، فإن أمكنه القيام بما تولاه، كقضاء بلدة صغيرة، فليس له الاستخلاف على الاصح، وإن لم يمكنه كقضاء بلدتين أو بلد كبير، فله الاستخلاف في القدر الزائد على ما يمكنه، وليس له الاستخلاف في الممكن على الاصح، والقياس فيما إذا أذن له أن يكون في القدر المستخلف فيه هذان الوجهان إلا أن يصرح بالاستخلاف في الجميع، وقطع ابن كج بالجواز في الكل عند مطلق الاذن. الحال الثاني: أن ينهاه عن الاستخلاف، فلا يجوز الاستخلاف، فإن كان ما فوضه إليه لا يمكنه القيام به، فقال القاضي أبو الطيب: هذا النهي كالعدم، والاقرب أحد أمرين إما بطلان التولية، وبه قال ابن القطان، وإما اقتصاره على الممكن، وترك الاستخلاف. قلت: هذا أرجحهما. والله أعلم.

(8/102)


وجميع ما ذكرناه في الاستخلاف العام، أما في الامور الخاصة، كتحليف وسماع بينة، فقطع القفال بجوازه للضرورة، وقال غيره: هو على الخلاف، وهو مقتضى إطلاق الاكثرين. فروع أحدها: يشترط في الذي يستخلفه ما يشترط في القاضي، قال الشيخ أبو محمد وغيره: فإن فوض إليه أمرا خاصا، كفاه من العلم ما يحتاج إليه في ذلك الباب حتى إن نائب القاضي في القرى إذا كان المفوض إليه سماع البينة ونقلها دون الحكم، كفاه العلم بشروط سماع البينة ولا يشترط فيه رتبة الاجتهاد. الثاني: قال الروياني في التجربة: نص الشافعي رحمه الله في المبسوط يدل على أن الحاكم الشافعي لا يجوز أن يستخلف من يخالفه، والمعروف في المذهب خلافه، لان الحاكم يعمل باجتهاده حتى لو شرط على النائب أن يخالف اجتهاده، ويحكم باجتهاد المنيب لم يجز، وكذا إذا جوزنا تولية المقلد للضرورة، فاعتقاد المقلد في حقه كاجتهاد المجتهد، فلا يجوز أن يشرط عليه الحكم بخلاف اعتقاد مقلده، فلو خالف وشرط القاضي الحنفي على النائب الشافعي الحكم بمذهب أبي حنيفة قال في الوسيط: له الحكم في المسائل التي اتفق عليها الامامان دون المختلف فيها، وهذا حكم منه بصحة الاستخلاف، لكن قال الماوردي وصاحبا المهذب والتهذيب وغيرهم: لو قلد الامام رجلا القضاء على أن يقضي بمذهب عينه، بطل التقليد. ومقتضى هذا بطلان الاستخلاف هناك، وفي فتاوى القاضي حسين أن الامام الحنفي لو ولى شافعيا بشرط أن لا يقضي بشاهد ويمين، ولا على غائب، صحت التولية، ولغا الشرط، فيقضي بما أدى إليه اجتهاده، ومقتضى هذا أن لا يراعى الشرط هناك، قال الماوردي: ولو لم تجر صيغة الشرط، بل قال الامام: قلدتك القضاء، فاحكم بمذهب الشافعي، ولا تحكم بمذهب أبي حنيفة، صح التقليد، ولغا الامر والنهي، وفيه احتمال، قال: ولو قال: لا تحكم في قتل المسلم بالكافر والحر بالعبد، جاز، وقد قصر عمله على باقي الحوادث، وحكى وجهين فيما لو قال: لا تقض فيهما بقصاص أنه

(8/103)


يلغو أم يكون منعا له في الحكم في القصاص نفيا وإثباتا. الثالث: حيث منعنا الاستخلاف، فاستخلف فحكم الخليفة باطل، لكن لو تراضى خصمان بحكمه، كان كالمحكم وليس للقاضي إنفاذ حكمه، بل يستأنف الحكم بينهما، وإذا جوزنا الاستخلاف، فاستخلف من لا يصلح للقضاء، فحكمه باطل أيضا، ولا يجوز إنفاذه. المسألة الرابعة: إذا نصب الامام قاضيين في بلد واحد، نظر إن خص كل واحد بطرف منه، أو بزمان، أو جعل أحدهما قاضيا في الاموال، والآخر في الدماء والفروج، جاز، قال ابن كج: وكذا لو ولاهما على أن يحكم كل واحد منهما في الواقعة التي يرفعها المتخاصمان إليه، وإن عمم ولا يتهما مكانا وزمانا وحادثة، فإن شرط عليهما الاجتماع في الحكم، لم يجز، لان الخلاف يكثر في محل الاجتهاد، فتتعطل الحكومات، وإن أثبت لكل واحد الاستقلال فوجهان، أحدهما: لا يجوز كالامامة 8 العظمى، فعلى هذا إن ولاهما معا، بطلت توليتهما، وإن ولاهما متعاقبين، صحت تولية الاول دون الثاني، وأصحهما الجواز، الوكيلين والوصيين. فعلى هذا لو تنازع الخصمان في إجابة داعي القاضيين يجاب من سبق داعيه، فإن جاءا معا أقرع، وإن تنازعا في اختيار القاضيين، فقد أطلق الغزالي أنه يقرع، وقال الماوردي: القول قول الطالب دون المطلوب، فإن تساويا، حضرا عند أقرب القاضيين إليهما، فإن استويا في القرب فالاصح أنه يقرع، وقيل: يمنعان من التخاصم حتى يتفقا على أحدهما وإن أطلق نصب قاضيين، ولم يشرط اجتماعهما، ولا استقلالهما، قال صاحب التقريب: يحمل على إثبات الاستقلال تنزيلا للمطلق على ما يجوز، وقال غيره: التولية باطلة حتى يصرح بالاستقلال.

(8/104)


قلت: قول صاحب التقريب أصح، وبه قطع الرافعي في المحرر. والله أعلم. الخامسة: هل يجوز أن يحكم الخصمان رجلا غير القاضي، وهل لحكمه بينهما اعتبار، قولان أظهرهما عند الجمهور نعم، وخالفهم الامام والغزالي، فرجحا المنع، وقيل القولان في الاموال فقط، فأما النكاح واللعان، والقصاص، وحد القذف وغيرها، فلا يجوز فيها التحكيم قطعا، والمذهب طرد القولين في الجميع، وبه قطع الاكثرون، ولا يجزئ في حدود الله تعالى على المذهب، إذ ليس لها طالب معين، وفي التهذيب وغيره ما يقضي ذهاب بعضهم إلى طرد الخلاف فيها وليس بشئ، وقيل القولان في التحكيم في حقوق الآدميين مخصوصان بما إذا لم يكن في البلد قاض، فإن كان لم يجز، وقيل: هما إذا كان قاض وإلا فيجوز قطعا والمذهب طردهما في الحالين، فإذا جوزنا التحكيم اشترط في المحكم صفات القاضي، ولا ينفذ حكمه إلا على من رضي بحكمه حتى لا تضرب دية الخطأ على العاقلة إذا لم يرضوا بحكمه، ولا يكفي رضى القاتل، وقيل: يكفي، والعاقلة تبع له، والصحيح الاول. قال السرخسي: الخلاف مخصوص بقولنا تجب الدية على الجاني، ثم تحملها العاقلة، فإن قلنا: تجب عليها ابتداء لم تضرب عليهم إلا برضاهم قطعا وهذا حسن. قال السرخسي: وإنما يشترط رضا المتحاكمين إذا لم يكن أحدهما القاضي نفسه، فإن كان، فهل يشترط رضا الآخر ؟ فيه اختلاف نص، والمذهب أنه لا يشترط، وليكن هذا مبنيا على جواز الاستخلاف إن جاز، فالمرجوع إليه نائب القاضي. قال: ويشترط على أحد الوجهين كون المتحاكمين بحيث يجوز للمحكم أن يحكم لكل واحد منهما، فإن كان أحدهما ابنه أو أباه، لم يجز. وليس للمحكم الحبس، بل غايته الاثبات والحكم وقيل: يحبس وهو شاذ وهل يلزم حكمهما بنفس الحكم كحكم القاضي أم لا يلزمه إلا بتراضيهما بعد الحكم ؟ فيه قولان، ويقال: وجهان، أظهرهما الاول،

(8/105)


ومتى رجع أحدهما قبل الحكم، امتنع الحكم حتى لو أقام المدعي شاهدين، فقال المدعى عليه: عزلتك، لم يكن له أن يحكم. وقال الاصطخري: إن أحسن المدعى عليه بالحكم فرجع، ففي تمكينه من الرجوع وجهان خرجهما، والمذهب الاول، وإذا جوزنا التحكيم في غير الاموال، فخطب امرأة، وحكما رجلا في التزويج، كان له أن يزوج قال الروياني: وهذا هو الاصح، واختيار الاستاذين أبي إسحق الاسفراييني، وأبي طاهر الزيادي وغيرهما من المشايخ، وإنما يجوز فيه التحكيم إذا لم يكن لها ولي خاص من نسيب أو معتق، وشرط في بعض الشروح أن لا يكون هناك قاض، وحكى صاحب العدة القاضي أبو المكارم الطبري ابن أخت الروياني وجهين في اشتراطه. وليكن هذا مبنيا على الخلاف في أنه هل يفرق في التحكيم بين أن يكون في البلد قاض أم لا، وإذا رفع حكم المحكم إلى القاضي، لم ينقضه إلا بما ينقض قضاء غيره. المسألة السادسة في أحكام منثورة تتعلق بالتولية. يجب على الامام نصب القاضي في كل بلدة وناحية خالية عن قاض، فإن عرف حال من يوليه عدالة وعلما، فذاك، وإلا أحضره، وجمع بينه وبين العلماء ليعرف علمه، ويسأل عن سيرته جيرانه وخلطاءه، فلو ولى من لا يعرف حاله، لم تنعقد توليته، وإن علم بعد ذلك كونه بصفة القضاة، ويجوز ان يجعل الامام نصب القاضي إلى والي الاقليم وأمير البلدة، وإن لم يكن المجعول إليه صالحا للقضاء، لانه وكيل محض، وكذا لو فوض إلى واحد من المسلمين اختيار قاض، ثم ليس له أن يختار والده ولا ولده، كما لا يختار نفسه. ولو قال لاهل بلد: اختاروا رجلا منكم، وقلدوه القضاء، قال ابن كج: جاز على الاصح. ويشترط في التولية تعيين محل ولايتههن قرية، أو بلدة، أو ناحية، ويشترط تعيين المولى، فلو قال: وليت أحد هذين أو من رغب في القضاء ببلدة كذا من علمائها، لم يجز. ولو قال: فوضت القضاء إلى فلان وفلان، فهذا نصب قاضيين. وفي الاحكام السلطانية للقاضي الماوردي: إن تولية القضاء تنعقد بما تنعقد به الوكالة، وهو

(8/106)


المشافهة باللفظ، والمراسلة، والمكاتبة عند الغيبة، ويجئ في المراسلة والمكاتبة خلاف كما سبق في الوكالة، وإن كان المذهب الصحة كما ذكره. وفيه أن صريح اللفظ: وليتك القضاء، واستخلفتك، واستنبتك، ولم يذكر التفويض بصيغة الامر، كقوله: اقض بين الناس، أو احكم ببلدة كذا، وهو ملحق بالصرائح، كما في الوكالة. وفيه أن الكنايات: اعتمدت عليك في القضاء، أو رددته إليك، أو اعتمدت، أو فوضت، أو وكلت، أو أسندت، وينبغي أن يقترن بها ما يلحقها بالصرائح ولا يكاد يتضح فرق بين: وليتك القضاء، وفوضته إليك. قلت: الفرق واضح فإن قوله: وليتك متعين لجعله قاضيا، وفوضت إليك محتمل أن يراد توكيله في نصب قاض. والله أعلم. وفيه أن عند المشافهة يشترط القبول على الفور، وفي المراسلة والمكاتبة لا يشترط الور، وقد سبق في الوكالة خلاف في اشتراط القبول، وأنه إذا اشترط، فالاصح أنه لا يعتبر الفور فليكن هكذا هنا. فرع يجوز تعميم التولية وتخصيصها، إما في الاشخاص بأن يوليه القضاء بين سكان محلة أو قبيلة، أو في خصومات شخصين معينين، أو ولاه القضاء بين من يأتيه في داره أو في مسجده من الخصوم، وإما في الحوادث بأن يوليه القضاء في الانكحة دون الاموال أو عكسه، أو في قدر معين من المال، وإما في طرف الحكم بأن يوليه القضاء بالاقرار دون البينة أو عكسه، وإما في الامكنة وهو ظاهر، وإما في الازمنة بأن يوليه سنة أو يوما معينا، أو يوما سماه من كل اسبوع. وحكى ابن كج وجها أنه إذا قال: وليتك سنة، بطلت التولية كما في الامامة، والمذهب الاول كالوكالة، ولو كان كالامامة، لما جاز باقي التخصيصات. ومن ولي القضاء مطلقا، استفاد سماع البينة والتحليف، وفصل الخصومات بحكم بات أو إصلاح عن تراض، واستيفاء الحقوق والحبس عند الحاجة والتعزير، وإقامة الحدود، وتزويج من ليس لها ولي حاضر، والولاية في مال الصغار والمجانين والسفهاء والنظر في

(8/107)


الضوال وفي الوقف حفظا للاصول، وإيصالا للغلات إلى مصارفها بالفحص عن حال المتولي إذا كان لها متول، وبالقيام به إذا لم يكن. قال الماوردي: ويعم نظره في الوقوف العامة والخاصة، لان الخاصة ستنتهي إلى العموم والنظر في الوصايا وتعيين المصروف إليه إن كانت لجهة عامة بالقيام بها إن لم يكن وصي، وبالفحص عن حاله إن كان، والنظر في الطرق، والمنع من التعدي فيها بالابنية، وإشراع ما لا يجوز إشراعه قال القاضي أبو سعد الهروي: ونصب المفتين والمحتسبين وأخذ الزكوات. وفصل الماوردي أمر الزكوات، فقال: إذا أقام الامام لها ناظرا خرجت عن عموم ولاية القاضي، وإلا فوجهان، ويشبه أن يطرد هذا التفصيل، في المحتسبين، وكذا القول في إقامة صلاة الجمعة والعيد، ويقرب من هذه الامور نصب الائمة في المساجد، وليس للقاضي جباية الجزية والخراج بالتولية المطلقة على الاصح.
الطرف الثاني : في العزل والانعزال وفيه مسائل: الاولى: إذا جن، أو أغمي عليه، أو عمي، أو خرس، أو خرج عن أهلية الضبط والاجتهاد لغفله أو نسيان لم ينفذ حكمه، وكذا لو فسق على الاصح، فلو زالت هذه الاحوال، ففي عود ولايته من غير تولية مستأنفة وجهان سبقا في كتاب الوصايا، الاصح، لا يعود، وقطع السرخسي بعودها في صورة الاغماء. ولو أخبر

(8/108)


الامام بموت القاضي أو فسقه، فولى قاضيا، ثم بان خلافه، لم يقدح في تولية الثاني. الثانية: في الحال الذي يجوز فيه عزله، فإن ظهر منه خلل، فللامام عزله، قال في الوسيط: ويكفي فيه غلبة الظن. وإن لم يظهر خلل، نظر إن لم يكن من يصلح للقضاء، لم يجز عزله، ولو عزله، لم ينعزل، وإن كان هناك صالح، نظر إن كان أفضل منه، جاز عزله وانعزل المفضول بالعزل، وإن كان مثله أو دونه، فإن كان في العزل به مصلحة من تسكين فتنة ونحوها، فللامام عزله به، وإن لم يكن فيه مصلحة، لم يجز، فلو عزله، نفذ على الاصح مراعاة لطاعة السلطان، ومتى كان العزل في محل النظر، واحتمل أن يكون فيه مصلحة، فلا اعتراض على الامام فيه، ويحكم بنفوذه وفي بعض الشروح أن تولية قاض بعد قاض هل هي عزل للاول ؟ وجهان، وليكونا مبنيين على أنه هل يجوز أن يكون في بلد قاضيان. فرع هل ينعزل القاضي قبل أن يبلغه خبر العزل ؟ قيل: قولان كالوكيل، والمذهب القطع بأنه لا ينعزل قبله، لعظم الضرر في نقض أقضيته، ثم الخلاف فيما إذا عزله لفظا، أو كتب إليه: أنت معزول، أو عزلتك، فأما إذا كتب إليه: إذا أتاك كتابي هذا، فأنت معزول، فلا ينعزل قبل أن يصله الكتاب قطعا، وإن كتب إذا قرأت كتابي فأنت معزول، لم ينعزل قبل القراءة، ثم إن قرأ بنفسه انعزل، وكذا إن قرئ عليه على الاصح، لان الغرض إعلامه بصورة الحال. ولو كان القاضي أميا وجوزناه، فقرئ عليه، فالانعزال أولى.

(8/109)


فرع للقاضي أن يعزل نفسه، كالوكيل وفي الاقناع للماوردي أنه إذا عزل نفسه لا ينعزل إلا بعلم من قلده. المسألة الثالثة: فيمن ينعزل بموت القاضي وانعزاله، فينعزل به كل مأذون له في شغل معين، كبيع على ميت أو غائب، وسماع شهادة في حادثة معينة، وأما من استخلفه في القضاء، ففيه ثلاثة أوجه، أحدها: ينعزل كالوكيل، والثاني: لا، للحاجة، وأصحها ينعزل إن لم يكن القاضي مأذونا له في الاستخلاف، لان الاستخلاف في هذا لحاجته، وقد زالت بزوال ولايته، وإن كان مأذونا له فيه لم ينعزل إن كان قال: استخلف عني فامتثل، وإن قال: استخلف عن نفسك، أو أطلق، انعزل، ولو نصبه الامام نائبا عن القاضي، قال السرخسي: لا ينعزل بموت القاضي وانعزاله، لانه مأذون له من جهة الامام، وفيه احتمال، ويتخرج على هذا الخلاف أن القاضي هل له عزل خليفته. فرع القوام على الايتام والاوقاف جعلهم الغزالي كالخلفاء، والمذهب الذي قطع به الاصحاب الجزم بأنهم لا ينعزلون بموت القاضي وانعزاله، لئلا تتعطل أبواب المصالح وهم كالمتولي من جهة الواقف.

(8/110)


فرع القضاة والولاة لا ينعزلون بموت الامام الاعظم، وانعزاله لشدة الضرر في تعطيل الحوادث. المسألة الرابعة إذا قال القاضي بعد الانعزال: كنت حكمت لفلان بكذا لم يقبل إلا ببينة، وهل تقبل شهادته بذلك مع آخر ؟ وجهان قال الاصطخري: نعم، والصحيح باتفاق الاصحاب المنع، لانه يشهد على فعل نفسه، فعلى هذا لو شهد مع غيره أن حاكما جائز الحكم حكم بكذا، ولم يضف إلى نفسه، قبلت شهادته على الاصح، كما لو شهدت المرضعة برضاع محرم، ولم يذكر فعلها. ووجه المنع أنه قد يريد نفسه، فوجب البيان، ليزول اللبس، والوجهان مفرعان على أنه لو قامت البينة على حكم حاكم، قبلت ولا يشترط تعيينه، وهذا هو المذهب والمعروف، وأشار بعضهم إلى وجه آخر، فعلى هذا الوجه لا تقبل شهادة واحد منهما. ثم يجوز أن يقال: الوجهان فيما إذا لم يعلم القاضي أنه يشهد على فعل نفسه، فإن علم، فهو كما لو أضاف. ويجوز أن يقال: هما إذا علم، فإن لم يعلم قبل قطعا لجواز إرادة غيره. وعلى هذا الاحتمال لو شهد العزول أن حاكما حكم بكذا، وشهد معه آخر أن المعزول حكم به، وجب أن نقبل، لانا على هذا التقدير لا نعتني إلا بتصحيح الصيغة. قلت: الاحتمال الاول هو الصحيح. والله أعلم. ولو شهد المعزول أنه ملك فلان، أو أن فلانا أقر في مجلس حكمي بكذا، قبلت شهادته، لانه لم يشهد على فعله، وقول القاضي في غير محل ولايته: حكمت لفلان بكذا، كقول المعزول. وأما إذا قال قبل العزل: حكمت بكذا، فيقبل لقدرته على الانشاء في الحال وحتى لو قال على سبيل الحكم: نساء القرية

(8/111)


طوالق من أزواجهن، قبل قوله، ولا حاجة إلى حجة. فرعان ذكرهما الهروي، أحدهما: قال القاضي المعزول: المال الذي في يد هذا الامين دفعته إليه أيام قضائي ليحفظه لزيد، وقال الامين: إنه لعمرو، وما قبضته منك، فالقول قول الامين، وإن وافقه على القبض منه، فالقول قول القاضي. والثاني: يجوز أن يكون الشاهدان بحكم القاضي هما اللذان شهدا عنده، وحكم بشهادتهما، لانهما يشهدان على فعل القاضي. قال الاستاذ أبو طاهر: وعلى هذا تفقهت، وأدركت القضاة. الخامسة: ليس على القاضي تتبع أحكام القاضي قبله، لان الظاهر منها السداد، وله التتبع على أحد الوجهين، واختاره الشيخ أبو حامد احتياطا. وإذا جاءه متظلم على القاضي المعزول، وطلب إحضاره، لم يسارع إلى إجابته، فقد يقصد ابتذاله، بل يسأله عما يريد منه، فإن ذكر أنه يدعي عليه عينا، أو دين معاملة، أو إتلاف أو غصب، أحضره، وفصل خصومتهما، كغيرهما. ولو قال: أخذ مني كذا

(8/112)


على سبيل الرشوة المحرمة، أو أخذ مني مالا بشهادة عبدين أو غيرهما ممن لا تقبل شهادته، ودفعه إلى فلان، فكذلك الجواب، لان هذا الاخذ كالغصب، وأما فلان الذي ادعى الدفع إليه، فإن قال: أخذته بحكم المعزول لي، لم يقبل قوله، ولا قول المعزول له، بل يحتاج إلى بينة تشهد على حكم المعزول له أيام قضائه، وإن لم يكن بينة، انتزع منه المال، وإن اقتصر على أنه لي، ولم يتعرض الآخذ من المدعي لحكم المعزول، فالقول قوله بيمينه، ولو لم يتعرض المتظلم للآخذ، بل قال: حكم علي بشهادة عبدين ونحوهما، فقد حكى الغزالي وجها أن دعواه لا تسمع، ولا يصغى إليه وهذا الوجه خطأ لا نعرفه لاحد من الاصحاب، بل اتفق الاصحاب على أن دعواه مسموعة، وبينته محكوم بها، ولكن هل يحضر المعزول بمجرد دعواه وجهان: أصحهما: نعم كغيره، والثاني: لا يحضره إلا ببينة تقوم بما بدعيه، أو على إقرار المعزول بما يدعيه، لان الظاهر جريان أحكامه على الصواب، فيكفي هذا الظاهر حتى تقوم بينة بخلافه، وعلى هذا فليس المراد أن البينة تقام في غيبته، ويحكم بها لكن الغرض أن يكون إحضاره ثبت فيقيم المدعي شهودا يعرف القاضي بهم أن لدعواه أصلا وحقيقة، ثم إذا حضر المعزول ادعى المدعي، وشهد الشهود في وجهه، فإن أحضر بعد البينة أو من غير بينة، فأقر، طولب بمقتضاه، وإن أنكر صدق بيمينه على الاصح عند العراقيين والروياني كالمودع وسائر الامناء، وقيل: يصدق بلا يمين، وبه قال ابن القاص، والاصطخري، وصاحب التقريب والماوردي، وصححه الشيخ أبو عاصم، والبغوي. ولا فرق في ذلك

(8/113)


بين أن يدعي عليه الحكم في مال أو دم حتى إذا ادعى عليه أنه قتل ظلما بالحكم جرى الخلاف في أن إحضاره هل يتوقف على بينة، وأنه إذا أنكر هل يحلف ؟ ولو ادعى على نائب المعزول في القضاء، فهو كالدعوى على المعزول، وأما أمناؤه الذين يجوز لهم أخذ الاجرة فلو حوسب بعضهم فبقي عليه شئ، فقال: أخذت هذا المال أجرة عملي، فصدقه المعزول، لم ينفعه تصديقه، بل يسترد منه ما يزيد على أجرة المثل، وهل يصدق بيمينه في أجرة المثل ؟ وجهان، أحدهما: لا، بل عليه البينة بجريان ذكر الاجرة. والثاني: نعم، لان الظاهر أنه لا يعمل مجانا. قال الامام: والخلاف مبني على أن من عمل لغيره ولم يسم أجرة، هل يستحقها ؟ فرع لو ادعى رجل على القاضي الباقي على قضائه، نظر إن ادعى ما لا يتعلق بالحكم، حكم بينهما خليفته أو قاض آخر، وإن ادعى ظلما في الحكم، وأراد تغريمه، لم يمكن، ولا يحلف القاضي ولا تغني إلا البينة، وكذا لو ادعى على الشاهد أنه شهد بالزور، وأراد تغريمه، لانهما أمينان شرعا. ولو فتح باب تحليفهما لتعطل القضاء، وأداء الشهادة، وكذا الحكم لو قال للقاضي: قد عزلت، فأنكر وعن الشيخ أبي حامد أن قياس المذهب التحليف في جميع هذا كسائر الامناء إذا ادعيت خيانتهم.

(8/114)


الباب الثاني : في جامع آداب القضاء فيه أطراف
الأول : في آداب متفرقة وهي عشرة: الاول: أن يكتب الامام كتاب العهد لمن ولاه القضاء، ويذكر فيه ما يحتاج القاضي إلى القيام به، ويعظه فيه، فإن كان يبعثه إلى بلد آخر، نظر إن كان بعيدا لا ينتشر الخبر إليه، فليشهد شاهدين على التولية على الوجه الذي تضمنه الكتاب ويقرآنه، أو يقرؤه الامام عليهما، فإن قرأ غير الامام، فالاحوط أن ينظر الشاهدان فيه، ثم يخرج الشاهدان معه، فيخبران بالحال هناك، قال الاصحاب: وليس هذا على قواعد الشهادات، إذ ليس هناك قاض يؤدي عنده الشهادة. ولو أشهد ولم يكتب، كفى، فإن الاعتماد على الشهود وإن كان البلد قريبا ينتشر الخبر إليه ويستفيض، فإن أشهد شاهدين يخرجان معه كما ذكرنا، فذاك، وإلا ففي الاكتفاء بالاستفاضة وجهان، أحدهما: المنع، وبه قال أبو إسحق، لان العقود لا تثبت بالاستفاضة كالوكالة والاجارة، وأصحهما الاكتفاء، وبه قال الاصطخري: إذ لم ينقل عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا عن الخلفاء الاشهاد، ومن الاصحاب من أطلق الوجهين، ولم يفرق بين البلد البعيد والقريب، ويشبه أن لا يكون خلاف، ويكو التعويل على الاستفاضة، ولا يجوز اعتماد مجرد الكتابة بغير استفاضة، ولا إشهاد هذا هو المذهب والمفهوم من كلام الجمهور. وذكر الغزالي في اعتماده وجهين.

(8/115)


الادب الثاني: إذا أراد الخروج إلى بلد قضائه، سأل عن حال من فيه العدول والعلماء، فإن لم يتيسر، سأل في الطريق حتى يدخل على علم بحال البلد، فإن لم يتيسر، سأل حين يدخل، ويستحب أن يدخل يوم الاثنين. قلت: قال الاصحاب: فإن تعسر يوم الاثنين فالخميس، وإلا فالسبت. والله أعلم. وأن يكون عليه عمامة سوداء، فقد صح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل مكة يوم الفتح وعليه عمامة سوداء، وأن ينزل في وسط البلد أو الناحية، لئلا يطول الطريق على بعضهم، وإذا دخل، فإن رأى أن يشتغل في الحال بقراءة العهد، فعل، وإن رأى أن ينزل منزله، ويأمر مناديا ينادي يوما فأكثر أو أقل على حسب صغر البلد أو كبره أن فلانا جاء قاضيا، وأنه يخرج يوم كذا لقراءة العهد، فمن أحب، فليحضر، فإذا اجتمعوا، قرأ عليهم العهد، وإن كان معه شهود، شهدوا ثم ينصرف إلى منزله، ويستحضر الناس، ويسألهم عن الشهود والمزكين سرا وعلانية. قال الاصحاب: ويتسلم ديوان الحكم وهو ما كان عند القاضي قبله من المحاضر والسجلات، وحجج الايتام والاوقاف، وحجج غيرهم المودعة في الديوان، لانها كانت في يد الاول بحكم الولاية، وقد انتقلت الولاية إليه، ثم إذا أراد النظر في الامور نظر أولا في المحبوسين هل يستحقونه أم لا ؟ ويأمر قبل أن يجلس للنظر فيهم من ينادي يوما فأكثر على حسب الحاجة أن القاضي ينظر في المحبوسين يوم كذا، فمن له محبوس، فليحضر، ويبعث إلى الحبس أمينا ليكتب اسم كل محبوس وما حبس به، ومن حبس له في رقعة. وذكر القاضي أبو الطيب أنه يبعث أمينين وهو أحوط. فإذا جلس في اليوم الموعود، وحضر الناس، صبت الرقاع بين يديه، فيأخذ رقعة وينظر في الاسم المثبت فيها، ويسأل عن خصمه فمن قال: أنا خصمه بعث معه ثقة إلى الحبس ليأخذ بيده ويحضره، وهكذا يحضر من المحبوسين من يعرف أن

(8/116)


المجلس يحتمل النظر في أمرهم وفي أمالي السرخسي أنه يقرع بينهم للابتداء. وإذا اجتمع عنده المحبوس وخصمه، سأل المحبوس عن سبب حبسه، وجوابه يفرض على وجوه، منها أن يعترف أنه حبس بحق، فإن كان ما حبس به مالا، أمر بأدائه، فإن قال: أنا معسر، فعلى ما سبق في التفليس، فإن لم يؤد ولم يثبت إعساره، رد إلى الحبس، وإن أدى أو ثبت إعساره نودي عليه، فلعل له خصما آخر، فإن لم يحضر أحد خلي، وإن كان ما حبس به حدا، أقيم عليه، وخلي كما ذكرناه. ومنها أن يقول: شهدت على بينة، فحبسني القاضي ليبحث عن حال الشهود، ففي جواز الحبس بهذا السبب خلاف سنذكره إن شاء الله تعالى، فإن قلنا: لا يحبس به، أطلقه، وإلا رده، وبحث عن حال الشهود، ومنها أن يقول: حبست بخمر أو كلب أتلفته على ذمي، وهذا القاضي لا يعتقد التغريم بذلك، فالاظهر أنه يمضيه، والثاني: يتوقف، ويسعى في اصطلاحهما على شئ. ومنها أن يقول: حبست ظلما، فإن كان الخصم معه، فعلى الخصم البينة، ويصدق المحبوس بيمينه، فإن ذكر خصما غائبا، فقيل: يطلق قطعا، والاصح أنه على وجهين، فإن قلنا: لا يطلق حبس، أو يؤخذ منه كفيل، ويكتب إلى خصمه في الحضور، فإن لم يفعل، أطلق حينئذ، وإن قال: لا خصم لي أصلا، أو قال: لا أدري فيم حبست، نودي عليه لطلب الخصم، فإن لم يحضر أحد، حلف وأطلق قال في الوسيط: وفي مدة المناداة لا يحبس، ولا يخلى بالكلية، بل يرتقب،

(8/117)


وحيث أطلق الذي ادعى أنه مظلوم لا يطالب بكفيل على الاصح. فرع لو كان قد حبسه الاول تعزيرا قال الغزالي: أطلقه الثاني، ولم يتعرض الجمهور لهذا، فإن بانت جنايته عند الثاني، ورأى إدامة حبسه، فالقياس الجواز. فرع فإذا فرغ من المحبوسين، نظر في الاوصياء، فإذا حضر من ادعى أنه وصي، بحث الحاكم عن شيئين أحدهما أصل الوصاية، فإن أقام بينة أن القاضي المعزول نفذ وصايته، وأطلق تصرفه، قرره، ولم يعزله إلا أن يطرأ فسقه ونحوه وينعزل، فينزع المال منه، وإن شك في عدالته فوجهان، قال الاصطخري: يقر المال في يده، لان الظاهر الامانة، وقال أبو إسحق: ينتزعه حتى تثبت عدالته، وإن وجده ضعيفا، أو كان المال كثيرا لا يمكنه القيام بحفظه، والتصرف فيه، ضم إليه من يعينه، والثاني تصرفه في المال، فإن قال: فرقت ما أوصى به، نظر إن كانت الوصية لمعينين، لم يتعرض له، لانهم يطالبون إن لم يكن وصلهم، وإن كانت لجهة عامة، فإن كان عدلا أمضى تصرفه ولم يضمنه، وإن كان فاسقا، ضمنه لتعديه بالتفريق بغير ولاية صحيحة، ولو فرق الثلث الموصى به غير الوصي خوفا

(8/118)


عليه من أن يضيع، نظر إن كانت الوصاية لمعينين، وقع الموقع، لان لهم أن يأخذوه بلا واسطة، وإلا فيضمن على الاصح. فرع ثم بعد الاوصياء ينظر في أمناء القاضي المنصوبين على الاطفال، وتفرقة الوصايا، فمن تغير حاله بفسق أو غيره، فعلى ما ذكرناه في الاوصياء ومن لم يتغير حاله، أقره، قال الروياني: وله أن يعزله ويولي غيره بخلاف الاوصياء، لان الامين يولى من جهة القاضي بخلاف الوصي. فرع ثم ينظر في الاوقاف العامة والمتولين لها، وفي اللقط والضوال، فما لا يجوز تملكه للملتقط، أو يجوز ولم يختر تملكه بعد الحول، حفظه على صاحبه، أو باعه، وحفظ ثمنه لمصلحة المالك، وله أن يحفظ هذه الاموال معزولة عن أمثالها في بيت المال، وله أن يخلطها بمثلها فإذا ظهر المالك، غرم له من بيت المال. فرع ليقدم من كل نوع من ذلك الاهم فالاهم، وإن عرضت حادثة وهو مشغول بهذه المهمات استخلف من ينظر في تلك الحالة أو فيما هو فيه. الادب الثالث: يرتب القاضي بعد المذكورات أمر الكتاب والمزكين والمترجمين، أما الكتاب فللحاجة إلى كتابة المحاضر والسجلات، والكتب الحكمية، لان القاضي لا يتفرغ لها غالبا. ويشترط في الكاتب أن يكون عارفا بما يكتبه من المحاضر وغيرها، وأن يكون مسلما عدلا. وفي المهذب وجه أن الاسلام والعدالة ليسا بشرط بل مستحبان، لان القاضي لا يمضي ما كتبه حتى يقف

(8/119)


عليه، وليس بشئ. ويستحب أن يكون فقيها وافر العقل، عفيفا عن الاطماع، جيد الخط، ضابطا للحروف، وأن يجلسه القاضي بين يديه ليملي عليه، ويشاهد ما يكتبه. وأما المزكون فسيأتي فيهم فصل مفرد إن شاء الله تعالى. وأما المترجمون، فللحاجة إلى معرفة كلام من لا يعرف القاضي لغته من خصم أو شاهد، ويشترط في المترجم التكليف والحرية والعدالة، لانه ينقل إلى القاضي قولا لا يعرفه، فأشبه الشاهد والمزكي بخلاف الكاتب، ولهذه العلة شرطنا العدد فيه وفي المزكي. قال الاصحاب: فإن كان الحق مما يثبت برجل وامرأتين، قبلت الترجمة من رجلين أو من رجل وامرأتين، وانفرد الامام باشتراط رجلين، واختاره البغوي لنفسه. وأما النكاح والعتق وسائر ما لا يثبت إلا برجلين، فيشترط في ترجمته رجلان، وفي الزنا هل يكفي رجلان أم يشترط أربعة ؟ قولان كالشهادة على الاقرار بالزنا، وقيل: يكفي رجلان قطعا، ولو كان الشاهدان أعجميين فهل يكفي لهما مترجمان أم يشترط لكل مترجمان ؟ قولان كشهود الفرع، وبالاول قطع العبادي في الرقم، ويجوز أن يكون المترجم أعمى على الاصح، لانه يفسر اللفظ، ولا يحتاج إلى معاينة وإشارة بخلاف الشهادة، وإذا كان بالقاضي صمم، واحتاج إلى من يسمعه فثلاثة أوجه أصحها: يشترط العدد كالمترجم، والثاني: لا، لان المسمع لو غير أنكر عليه الخصم، والحاضرون بخلاف المترجم. والثالث: إن كان الخصمان أصمين، اشترط، لان غيرهما لا يعتني اعتناءهما، وإن كانا سميعين، فلا. فأما إسماع الخصم ما يقوله القاضي، وما يقوله الخصم، فحكى الروياني عن القفال، أنه لا يشترط فيه العدد، وإذا شرطنا العدد. اشترط لفظ الشهادة على الاصح، فيقول: أشهد أنه يقول كذا، ومن منع، قال: ليست بشهادة محققة، وإذا لم يشترط العدد، اشترطت الحرية على الاصح، كهلال رمضان، ولا يسلك به مسلك الروايات وليجري الخلاف في لفظ الشهادة والحرية مع بعده من المترجم، ويشبه أن يكون الاكتفاء بإسماع رجل

(8/120)


وامرأتين في المال على ما ذكرنا في المترجم. فرع إذا لم يجد القاضي كفاية، فله أن يأخذ رزقا من بيت المال ليتفرغ للقضاء، وإن وجدها وتعين عليه، لم يجز أخذ شئ، وإلا فيجوز. ويستحب ترك الاخذ، ولا يجوز عقد الاجارة على القضاء، وفي فتاوي القاضي حسين وجه أنه يجوز، والمذهب الاول وبه قطع الجمهور، وينبغي للامام أن يجعل من بيت المال شيئا مع رزق القاضي لثمن ورق المحاضر والسجلات، ولاجرة الكاتب، فإن لم يكن في بيت المال شئ أو احتيج إليه لما هو أهم، فإن أتى المدعي بورقة تثبت فيها خصومته وشهادة الشهود، وبأجرة الكاتب، فذاك، وإلا فلا يجبر عليه، لكن يعلمه القاضي أنه إذا لم يثبت ما جرى، فقد تنسى شهادة الشهود وحكم نفسه، وليكن رزق القاضي بقدر كفايته وكفاية عياله على ما يليق بحالهم من النفقة والكسوة وغيرهما، وكذا الامام يأخذ لنفسه ما يليق به من الخيل والغلمان، الدار الواسعة، ولا يلزمه الاقتصار على ما اقتصر عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء الراشدون رضي الله عنهم، لانه قد بعد العهد بزمن النبوة التي كانت سبب النصر وإلقاء الرعب والهيبة في القلوب، فلو اقتصر الامام اليوم على ذلك، لم يطع، وتعطلت الامور. ولو رزق

(8/121)


الامام القاضي من مال نفسه، أو رزقه أهل ولايته، أو واحد منهم فالذي خرجه صاحب التلخيص أنه لا يجوز له قبوله، وقد سبق في الاذان أنه يجوز أن يكون رزق المؤذن من مال الامام، أو أحد الرعية، ويجوز أن يفرق بأن ذلك لا يورث تهمة وميلا في المؤذن بخلاف القاضي، وكما يرزق الامام القاضي من بيت المال يرزق أيضا من يرجع مصلحة عمله إلى عامة المسلمين كالامير والمفتي والمحتسب، وإمام الصلاة والمؤذن، ومن يعلم الناس القرآن، ومن يقيم الحدود والقاسم، وكاتب الصكوك، فإن لم يكن في بيت المال شئ، لم يعين قاسما ولا كاتبا لئلا يغالي بالاجرة وألحق بهؤلاء المقوم، وفي المترجم وجهان، أصحهما: يرزق من بيت المال كهؤلاء، والثاني: لا، كالوكيل قاله ابن القاص، وأبو زيد، وعلى هذا فمؤنة ما يترجم به للمدعى عليه على المدعى عليه، والمسمع كالمترجم، ففي مؤنته الوجهان، وهما جاريان في المزكي، والقول في الشاهد يأتي في الشهادات إن شاء الله تعالى. الادب الرابع: يستحب أن يكون مجلس القضاء فسيحا بارزا نزها لا يؤذي فيه حر ولا برد وريح وغبار ودخان، فيجلس في الصيف حيث يليق به، وكذا في الشتاء وزمن الرياح، واستحب أبو عبيد بن حربويه وغيره من الاصحاب أن يكون موضع جلوسه مرتفعا كدكة ونحوها ليسهل عليه النظر إلى الناس، وعليهم المطالبة، وحسن أن يوطأ له الفراش، وموضع الوسادة، ليعرفه الداخل، ويكون أهيب عند الخصوم، وأرفق بالقاضي لئلا يمل، والمستحب أن يكون مستقبل القبلة، ولا يتكئ، ويستحب أن لا يتخذ المسجد مجلسا للقضاء، فإن اتخذ، كره على الاصح، لانه ينزه عن رفع الاصوات، وحضور الحيض، والكفار والمجانين

(8/122)


وغيرهم ممن يحضرون مجلس القضاء، والثاني: لا يكره كما لا يكره الجلوس فيه لتعليم القرآن وسائر العلوم والافتاء، وإذا أثبتنا الكراهة، فهي في إقامة الحد أشد، وكراهة اتخاذه مجلسا للقضاة كراهة تنزيه، فإن ارتكبها لم يمكن الخصوم من الاجتماع فيه والمشاتمة ونحوها، بل يقعدون خارجه، وينصب من يدخل خصمين خصمين، ولو اتفقت قضية أو قضايا وقت حضوره في المسجد لصلاة أو غيرها، فلا بأس بفصلها، وإذا جلس للقضاء ولا زحمة، كره أن يتخذ حاجبا على الاصح، ولا كراهة فيه في أوقات حلوته على الصحيح. الادب الخامس: يكره أن يقضي في كل حال يتغير فيه خلقه، وكمال عقله لغضب أو جوع أو شبع مفرطين أو مرض مؤلم، وخوف مزعج، وحزن وفرح شديدين، وغلبة نعاس أو ملال أو مدافعة أحد الاخبثين، أو حضور طعام يتوق إليه، ثم قال الامام والبغوي وغيرهما: الكراهة فيما إذا لم يكن الغضب لله تعالى، وظاهر كلام آخرين أنه لا فرق، ولو قضى في هذه الحال، نفذ. فصل إذا أقر المدعى عليه أو نكل، فحلف المدعي، ثم يسأل المدعي القاضي أن يشهد على أنه أقر عنده أو نكل، وحلف المدعي، لزمه إجابته. ولو أقام بينة بما ادعاه، وسأل القاضي الاشهاد عليه، لزمه أيضا في الاصح، ولو حلف المدعى عليه، وإن سأله الاشهاد ليكون حجة له، فلا يطالبه مرة أخرى، لزمه إجابته، وسأله أحد المتداعيين أن يكتب له محضرا بما جرى ليحتج به إذا احتاج، نظر إن لم يكن عنده قرطاس من بيت المال، ولم يأت به الطالب، لم يلزمه

(8/123)


إجابته وإن كان فهل يجب أم يستحب ؟ وجهان أصحهما: الاستحباب، لان الحق يثبت بالشهود لا بالكتاب، وإن طلب أن يحكم له بما ثبت، لزمه الحكم، فيقول: حكمت له به، أو أنفذت الحكم به، أو ألزمت خصمه الحق، وإذا حكم، فطلب الاشهاد على حكمه، لزمه الاشهاد، وإن طلب أن يكتب له به سجلا، فعلى التفصيل والخلاف المذكور في كتابة المحضر، ونقل ابن كج وجها ثالثا أنه يجب التسجيل في الدين المؤجل الوقوف وأموال المصالح، فلا يجب في الحال والحقوق الخاصة، وسواء أوجبنا الكتابة أم استحببناها، فيحتاج إلى بيان المكتوب، وأنه كيف يضبط ويحفظ، أما الاول، فالمكتوب محضر وسجل، أما المحضر، فصورته، بسم الله الرحمن الرحيم حضر القاضي فلان ابن فلان، وأحضر معه فلان ابن فلان، ويرفع في نسبهما ما يفيد التمييز، وهذا إذا عرفهما القاضي، ويستحب مع ذلك التعرض لحليتهما طولا وقصرا في القد، وسمرة وشقرة في الوجه، ويصف منهما الحاجب والعين والفم والانف. وإن لم يعرفهما، كتب: حضر رجل ذكر أنه فلان ابن فلان، وأحضر معه رجلا ذكر هذا المحضر أنه فلان ابن فلان ابن فلان، ولا بد والحالة هذه من التعرض لحليتهما، ثم يكتب: وادعى عليه كذا من عين أو دين بصفتهما، فأقر المدعى عليه بما ادعى، فإن أنكر، وأقام المدعي بينة كتب، فأحضر امدعي فلانا وفلانا شاهدين، وسأل القاضي استماع شهادتهما، فسمعها في مجلس حكمه، وثبت عنده عدالتهما، وسأله أن يكتب محضرا بما جرى، فأجابه إليه، وذلك في تاريخ كذا، ويثبت على رأس المحضر علامته من الحمدلة وغيرها، ويجوز أن يبهم الشاهدين فيكتب: وأحضر عدلين شهدا له بما ادعاه، ولو كان مع المدعي كتاب فيه خط الشاهدين، كتب تحت خطهما: شهد عندي بذلك، وأثبت علامته في رأس الكتاب، واكتفى به عن المحضر، جاز، وإن كتب المحضر، وضمنه ذلك الكتاب، جاز، وعلى هذا قياس محضر يذكر تحليف المدعى عليه أو المدعي بعد نكول المدعى عليه. وأما السجل، فصورته: بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما أشهد عليه فلان القاضي بموضع كذا في تاريخ كذا أنه ثبت عنده كذا، فأقر فلان لفلان، أو بشهادة فلان وفلان، وقد ثبتت عدالتهما عنده، أو بيمينه بعد نكول المدعى عليه، وأنه

(8/124)


حكم بذلك لفلان على فلان، وأنفذه بسؤال المحكوم له. ويجوز أن يكتب: ثبت عنده ما في كتاب هذه نسخته، وينسخ الكتاب إلى آخره، ثم يكتب: وإنه حكم بذلك وكيفية التعرض لنسب المتداعيين وحليتهما على ما ذكرنا في المحضر. وفي تعليق الشيخ أبي حامد أن ابن خيران لم يجوز للقاضي التسجيل إذا لم يعرف المتداعيين، والصحيح الاول، وإذا كان المتداعيان، أو أحدهما امرأة، واحتاج إلى إثبات الحلية، فليكن النظر لذلك، كالتحمل للشهادة، وأما أنه كيف يضبط ويحفظ، فينبغي للقاضي أن يجعل المحاضر والسجلات نسختين يدفع إلى صاحب الحق إحداهما غير مختومة، وتحفظ الاخرى في ديوان القضاء مختومة، ويكتب على رأسها اسم الخصمين، ويضعها في خريطة أو قمطر، وهو السفط الذي يجمع فيه المحاضر والسجلات، ويكون بين يديه إلى آخر المجلس، فإذا أراد أن يقوم، ختمه بنفسه، أو ختمه أمين وهو ينظر، ثم أمر بحمله إلى موضعه، ثم يدعو به في اليوم الثاني وينظر في الختم، ويفكه بنفسه أو يفكه أمينه وهو ينظر ويضع فيه كتب اليوم الثاني كما ذكرنا، وهكذا يفعل حتى يمضي الاسبوع، فإن كثرت، جعلها إضبارة وكتب عليها: خصومات أسبوع كذا من شهر كذا من سنة كذا وسجلاته، ويعزلها. وإن لم يكتب، تركها حتى يمضي شهر، ثم بعزلها، فإذا مضت سنة، جمعها، وكتب عليها: كتب سنة كذا ليسهل الوقوف عليها عند الحاجة، ويجعلها في موضع لا يعلمه غيره، وإذا احتاج إلى شئ منها تولى أخذه بنفسه، ونظر أولا إلى ختمه وعلاماته. فرع قال الهروي: إن أوجبنا التسجيل على القاضي، لم يجز له أخذ الاجرة عليه، وإلا فيجوز. وأطلق بعضهم القول بالجواز، وهو موافق لمنع الوجوب، وهو الاصح، وكذا استئجار المفتي ليكتب الفتوى. الادب السادس: يستحب للقاضي المشاورة وإنما يشاور العلماء الامناء،

(8/125)


ويستحب أن يجمع أصحاب المذاهب المختلفة ليذكر كل واحد دليله فيتأملها القاضي ويأخذ بأرجحها عنده، ثم الذين يشاورهم إن شاء أقعدهم عنده، وإن شاء أقعدهم ناحية، فإذا احتاج استدعاهم. قلت: الاول أولى. والله أعلم. ثم المشاورة تكون عند اختلاف وجوه النظر، وتعارض الآراء، فأما الحكم المعلوم بنص أو إجماع أو قياس جلي، فلا مشاورة فيه وإذا حضر المستشارون، فإنما يذكرون ما عندهم إذا سألهم ولا يبتدئون بالاعتراض والرد على حكمه إلا إذا كان حكما يجب نقضه، كما سيأتي إن شاء الله تعالى، وذكر الغزالي أنهم يحضرون قبل خروجه، وهذا وإن كان لم يتعرض له الجمهور يوجه بأنهم بانتظاره أولى كما في الصلاة. الادب السابع: يكره للقاضي أن يتولى البيع والشراء بنفسه، بل يوكل من لا يعرفه الناس، فإن عرفوه بوكالته أبدله، فإن لم يجد من يوكله، عقد بنفسه للضرورة، فإن وقعت خصومة لمعاملة، أناب من يحكم بينه وبين خصمه خوفا من أن يميل إليه، ولا يختص هذا الحكم بالبيع والشراء، بل يعم الاجارة وسائر

(8/126)


المعاملات، بل نص في الام أنه لا ينظر في نفقة عياله ولا أمر ضيعته، ويكل إلى غيره ليتفر قلبه. فصل يحرم على القاضي الرشوة، ثم إن كان له رزق في بيت المال، لم يجز أخذ عوض من الخصوم، فإن لم يكن، فقال الشيخ أبو حامد: لو قال للخصمين: لا أقضي بينكما حتى تجعلا لي رزقا، جاز، ومثله عن القاضي أبي الطيب وغيره، وهذا نحو ما نقل الهروي أن القاضي إذا لم يكن له رزق من بيت المال وهو محتاج، ولم يتعين عليه القضاء، فله أن يأخذ من الخصم أجرة مثل عمله، وإن تعين، قال أصحابنا: لا يجوز الاخذ وجوزه صاحب التقريب وأما باذل الرشوة، فإن بذلها ليحكم له بغير الحق، أو بترك الحكم بحق حرم عليه البذل، وإن كان ليصل إلى حقه، فلا يحرم كفداء الاسير.

(8/127)


قلت: وأما المتوسط بين المرتشي والراشي، فله حكم موكله منهما، فإن وكلا، حرم عليه، لانه وكيل للآخذ وهو محرم عليه. والله أعلم. وأما الهدية فالاولى أن يسد بابها ولا يقبلها، ثم إن كان للمهدي خصومة في الحال، حرم قبول هديته في محل ولايته، وهديته في غير محل ولايته، كهدية من عادته أن يهدى له قبل الولاية لقرابة أو صداقة ولا يحرم قبولها على الصحيح، وحكى ابن الصباغ في تحريمها وجها وهو مقتضى إطلاق الماوردي، وإن لم يكن له عادة بالهدية قبل الولاية، فإن زاد المهدي على القدر المعهود، صارت هديته كهدية من لم يعهد منه الهدية، وحيث حكمنا بأن القبول ليس بحرام، فله الاخذ والتملك، والاولى أن يثبت عليها أو يضعها في بيت المال، وحيث قلنا بالتحريم، فقبلها، لم يملكها على الاصح، فعلى هذا لو أخذها، قيل: يضعها في بيت المال، والصحيح أنه يردها على مالكها، فإن لم يعرفه، جعلها في بيت المال. فرع قد ذكرنا أن الرشوة حرام مطلقا، والهدية جائزة في بعض الاحوال، فيطلب الفرق بين حقيقتيهما مع أن الباذل راض فيهما، والفرق من وجهين، أحدهما ذكره ابن كج: أن الرشوة هي التي يشرط على قابلها الحكم بغير الحق، أو الامتناع عن الحكم بحق، والهدية: هي العطية المطلقة. والثاني قال الغزالي في الاحياء: المال إما يبذل لغرض آجل فهو قربة وصدقة، وإما لعاجل، وهو إما مال، فهو هبة بشرط ثواب، أو لتوقع ثواب، وإما عمل، فإن كان عملا محرما، أو

(8/128)


واجبا متعينا، فهو رشوة، وإن كان مباحا فإجارة أو جعالة، وإما للتقرب والتودد إلى المبذول له، فإن كان بمجرد نفسه، فهدية، وإن كان ليتوسل بجاهه إلى أغراض ومقاصد، فإن كان جاهه بالعلم أو النسب، فهو هدية، وإن كان بالقضاء والعمل، فهو رشوة. الادب الثامن: في تأديبه المسيئين عمن أساء الادب في مجلسه من الخصوم بأن صرح بتكذيب الشهود، أو ظهر منه مع خصمه لدد، أو مجاوزة حد، زجره ونهاه، فإن عاد، هدده وصاح عليه، فإن لم ينزجر، عزره بما يقتضيه اجتهاده من توبيخ وإغلاظ القول، أو ضرب وحبس، ولا يحبسه بمجرد ظهور اللدد، وعن الاصطخري أنه على قولين. وفي يتيمة اليتيمة أنه إنما يضربه بالدرة دون السياط إذ الضرب بالسياط من شأنه الحدود. وهذا الذي ادعاه غير مقبول، بل الضرب بالسياط جائز في غير الحدود، ألا ترى أن لفظ الشافعي رحمه الله في تعزير القاضي شاهد الزور حيث قال: عزره ولم يبلغ بالتعزير أربعين سوطا. ومثال اللدد أن تتوجه اليمين على الخصم، فيطلب يمينه، ثم يقطعها عليه، ويزعم أن له بينة، ثم يحضره ثانيا وثالثا، ويفعل كذلك، وكذا لو أحضر رجلا، وادعى عليه وقال: لي بينة وسأحضرها، ثم فعل ذلك ثانيا وثالثا إيذاء وتعنتا. ولو اجترأ خصم على القاضي وقال: أنت تجور أو تميل، أو ظالم، جاز أن يعزره وأن يعفو، والعفو أولى إن لم يحمل على ضعفه، والتعزير أولى إن حمل عليه. فرع شهادة الزور من أكبر الكبائر، ومن ثبت أنه شهد بزور، عزره القاضي بما يراه من توبيخ وضرب وحبس، وشهر حاله، وأمر بالنداء عليه في سوقه إن كان من أهل السوق، أو قبيلته إن كانت له قبيلة، أو مسجده تحذيرا للناس منه، وتأكيدا لامره، وإنما تثبت شهادة الزور بإقرار الشاهد إن تيقن القاضي، بأن شهد أن فلانا زنى بالكوفة يوم كذا، وقد رآه القاضي ذلك اليوم ببغداد. هكذا أطلقه الشافعي والاصحاب رحمهم الله تعالى، ولم يخرجوه على أن القاضي هل يحكم بعلمه، ولا يكفي قيام البينة بأنه شاهد زور، فقد تكون هذه بينة زور. الادب التاسع: لا ينفذ قضاء القاضي لنفسه، ولا لمملوكه القن وغير

(8/129)


القن، ولا لشريكه فيما له فيه شرك، ولا لشريك مكاتبه فيما له فيه شرك، ولا يقضي لاحد من أصوله وإن علوا،. ولا فروعه وإن نزلوا، ولا لمملوك أحدهم، ولا لشريكه، فإن فعل، لم ينفذ على الصحيح. ولو أراد أن يقضي لهم بعلمه، لم ينفذ قطعا، وإن جوزنا قضاءه بعلمه للاجانب، ويجوز أن يقضي على أصوله وفروعه، كما يشهد عليهم وفصل البغوي الحكم للولد وعليه، فقال: له أن يحلف ابنه على نفي ما يدعى عليه، لانه قطع للخصومة لا حكم له، وله أن يسمع بينة المدعي على ابنه، ولا يسمع بينة الدفع من ابنه، وهل له أن يحكم بشهادة ابنه ؟ وجهان، لانه يتضمن تعديله، فإن عدله شاهدان، فالمتجه أنه يقضي،

(8/131)


ولو تحاكم إليه أبوه وابنه، هل له الحكم لاحدهما ؟ وجهان في المهذب أصحهما: لا، وبه قطع البغوي. ومتى وقعت له خصومة، أو لاحد هؤلاء الذين يمنع حكمه لهم، قضى فيها الامام، أو قاضي بلدة أخرى، أو نائبه، وفي النائب وجه ضعيف. قلت: قال البغوي: وللقاضي أن يستخلف أباه أو ابنه، لانهما كنفسه. قال: ولو جعل الامام إلى رجل أن يختار قاضيا، لم يجز أن يختار والده ولا ولده، كما لا يختار نفسه، وسيأتي قريبا في مسائل التزكية أنه لا يصح تزكية ولد ولا والد على الصحيح. والله أعلم. فرع لا يقضي على عدوه على الصحيح، وبه قطع الجمهور، كالشهادة عليه، وجوزه الماوردي في كتابه الاحكام السلطانية لان أسباب الحكم ظاهرة بخلاف الشهادة. فرع تولى وصي اليتيم القضاء هل له أن يسمع البينة ويحكم له ؟ وجهان، أصحهما: نعم، وبه قال القفال، ومنعه ابن الحداد. الادب العاشر: فيما ينقض من قضائه وقضاء غيره، وذلك يتعلق بقواعد، إحداها الاصول التي يقضي بها القاضي، ويفتي بها المفتي كتاب الله تعالى، وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والاجماع، والقياس، وقد يقتصر على الكتاب والسنة، ويقال: الاجماع يصدر عن أحدهما، والقياس يرد إلى إحدهما. وأما قول الواحد من الصحابة رضي الله عنهم. فإن لم ينتشر فيهم، فقولان: القديم أنه حجة، والجديد ليس بحجة، ثم قال أبو بكر الصيرفي والقفال القولان إذا لم يكن معه قياس، فإن كان معه قياس ولو ضعيف احتج به قطعا، ورجح على القياس القوي، وقال الاكثرون في الجميع القولان، فإن قلنا بالقديم، وجب الاخذ به، وترك القياس، وفي تخصيص العموم به وجهان، وإن قلنا بالجديد، فهو كقول آحاد المجتهدين، لكن لو تعارض قياسان أحدهما وافق قول صحابي، قال الغزالي: قد تميل نفس

(8/132)


المجتهد إلى الموافق ويرجح عنده. قلت: قد صرح الشيخ أبو إسحق في اللمع وغيره من الاصحاب بالجزم بالاخذ بالموافق. والله أعلم. وإن انتشر قول الصحابي، فله ثلاثة أحوال، أحدها: أن يخالفه غيره، فعلى الجديد هو كاختلاف سائر المجتهدين، وعلى القديم هما حجتان تعارضتا، فإن اختص أحد الطرفين بكثرة عدد، أو بموافقة أحد الخلفاء الاربعة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، ترجح، نص عليه في القديم في غير علي وألحق الجمهور بهم عليا، ومنهم من لم يلحقه، لان الثلاثة كانوا في دار الهجرة والصحابة متوافرون، وكانوا في حكمهم وفتواهم يتشاورون، وعلي رضي الله عنه انتقل إلى الكوفة، وتفرقت الصحابة. وإن لم يوجد واحد من الامرين في واحد من الصرفين، أو وجد في أحدهما أحدهما، وفي الآخر الآخر، فهما سواء. ولو كان في أحدهما أبو بكر أو عمر، وفي الآخر عثمان أو علي رضي الله عنهم، فهل يستويان، أم يرجح طرف الشيخين ؟ وجهان. ويشبه أن يجئ مثلهما في تعارض الشيخين، فيستويان في وجه، ويقدم طرف أبي بكر رضي الله عنه في وجه. الحال الثاني: أن يوافقه سائر الصحابة رضي الله عنهم، ويقولوا بما قاله، فهذا إجماع منهم على الحكم، ولا يشترط فيه انقراض عصر المجتمعين على الاصح، ولا يتمكن أحدهم من الرجوع، بل يكون قوله الاول مع قول سائر المجتمعين حجة عليهم، كما هو حجة على غيرهم. الحال الثالث: أن يسكتوا، فلا يصرحوا بموافقته ولا مخالفته فاختار الغزالي في المستصفى أنه ليس بحجة. والصحيح الذي عليه جماهير الاصحاب أنه حجة، لانهم لو خالفوه، لاعترضوا عليه، لكن هل هو إجماع أم حجة غير إجماع ؟ وجهان، قال الروياني: هذا إذا لم يظهر أمارات الرضى ممن سكت، فإن ظهرت فإجماع بلا خلاف، قالوا: والاصح هنا اشتراط انقراض العصر في كونه

(8/133)


حجة أو إجماعا، وهل يفرق في كونه حجة وإجماعا بين أن يكون ذلك القول مجرد فتوى، أو حكما من إمام أو قاض ؟ فيه طرق قال ابن أبي هريرة: فإن كان فتوى، فحجة، وإن كان حكما، فلا، لان الاعتراض على الامام ليس من الادب، ولعل السكوت لذلك. وقال أبو إسحق عكسه، لان الحكم يصدر عن مشاورة ومراجعة، وقال الاكثرون: لا فرق، وكانوا يعترضون على الامام كغيره، فقد خالفوا أبا بكر رضي الله عنه في الحد، وعمر رضي الله عنه في المشركة. ومختصر هذا الاختلاف أوجه، الصحيح أنه حجة، والثاني حجة وإجماع، والثالث ليس بحجة، والرابع من المفتي حجة، ومن الحاكم لا، الخامس عكسه هذا إذا نقل السكوت، أما إذا لم ينقل قول ولا سكوت، فيجوز أن لا يلحق بهذا، ويجوز أن يستدل به على السكوت. قلت: المختار أن عدم النقل كنقل السكوت، لانه الاصل والظاهر. والله أعلم. القاعدة الثانية: اختلفت عبارات الاصحاب في تفسير القياس، والاقرب إلى كلام الشافعي رحمه الله أن القياس نوعان جلي وغيره، وأما الجلي، فهو الذي يعرف به موافقة الفرع للاصل بحيث ينتفي احتمال مفارقتهما، أو يبعد، وذلك كظهور التحاق الضرب بالتأفيف في قوله تعالى: * (فلا تقل لهما أف) * وما فوق الذرة بالذرة في قوله تعالى: * (فمن يعمل مثقال ذرة) * الآية، وما فوق النقير بالنقير في قوله تعالى: * (ولا يظلمون نقيرا) * ونظائره، فإن فروع هذه الاحكام أولى من الاصول، وبعض الاصحاب لا يسمي هذا قياسا، ويقول: هذه الالحاقات

(8/134)


مفهومة من النص، ويقرب من هذا إلحاق العمياء بالعوراء في حديث النهي عن التضحية بالعوراء وسائر الميتات بالفأرة، وغير السمن بالسمن في حديث الفأرة تقع بالسمن إن كان مائعا فأريقوه، وإن كان جامدا فألقوها وما حولها والغائط بالبول في قوله - صلى الله عليه وسلم -: لا يبولن أجدكم في الماء الدائم ومن الجلي ما ورد النص فيه على العلة كحديث إنما نهيتكم من أجل الدافة وكذا قوله تعالى: * (وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض) * وأما غير الجلي فما لا يزيل احتمال المفارقة ولا يبعده كل البعد، فمنه ما العلة فيه مستنبطة، كقياس الارز على البر بعلة الطعم، وقال ابن القاص: هو من الجلي، والصحيح الاول، ومنه قياس الشبه، وهو أن يشبه الحادثة أصلين إما في الاوصاف بأن يشارك كل واحد من الاصلين في بعض المعاني والاوصاف الموجودة فيه، وإما في الاحكام كالعبد يشارك الحر في بعض الاحكام والمال في بعضها، فيلحق بما المشاركة فيه أكثر، وربما سمي قياس الشبه خفيا والذي قبله غير الجلي واضحا، وربما خص الجلي ببعض الاول، وهو ما كان الفرع فيه أولى بحكم الاصل. قلت: واختلف أصحابنا في صحة قياس الشبه، وأنه هل هو حجة. والله أعلم. القاعدة الثالثة: المسائل الفروعية الاجتهادية إذا اختلف المجتهدون فيها طريقان أشهرهما قولان، أظهرهما: المحق فيها واحد، والمجتهد مأمور بإصابته، والذاهب إلى غيره مخطئ، والثاني: أن كل مجتهد مصيب، والطريق الثاني القطع بالقول الاول، وبه قال أبو إسحق، والقاضي أبو الطيب، فإن قلنا: المصيب واحد، فالمخطئ مغدور غير آثم، بل مأجور، لقوله - صلى الله عليه وسلم - إذا اجتهد الحاكم، فأصاب، فله أجران، وإذا اجتهد، فأخطأ، فله أجر وقال الشيخ أبو

(8/135)


إسحق في اللمع قال ابن أبي هريرة: يأثم، والصواب الاول، وفيما يؤجر عليه وجهان عن أبي إسحق أحدهما - وهو ظاهر النص، واختيار المزني -: يؤجر على قصده الصواب، ولا يؤجر على الاجتهاد، لانه أفضى به إلى الخطأ، وكأنه لم يسلك الطريق المأمور به، والثاني يؤجر عليه، وعلى الاجتهاد جميعا. وإذا قلنا: كل مجتهد مصيب، فهل نقول: الحكم والحق في حق كل واحد من المجتهدين ما ظنه، أم الحق واحد، وهو أشبه مطلوب إلا أن كلا منهم مكلف بما ظنه لا بإصابة الاشبه ؟ وجهان، اختار الغزالي الاول، وبالثاني قطع أصحابنا العراقيون، وحكوه عن القاضي أبي حامد والداركي. فرع متى حكم القاضي بالاجتهاد، ثم بان له الخطأ في حكمه، فله حالان، أحدهما: إن تبين أنه خالف قطعيا كنص كتاب، أو سنة متواترة، أو إجماع، أو ظنا محكما بخبر الواحد، أو بالقياس الجلي، فيلزمه نقض حكمه. وهل يلزم القاضي تعريف الخصمين صورة الحال ليترافعا إليه، فينقض الحكم ؟ وجهان، قال ابن سريج: لا يلزمه إن علما أنه بان له الخطأ، فإن ترافعا إليه، نقض، وقال سائر الاصحاب: يلزمه وإن علما أنه بان له الخطأ، وهذا هو الصحيح، لانهما قد يتوهمان أنه لا ينقض وإن بان الخطأ. هذا في حقوق الآدميين، وأما ما يتعلق بحدود الله تعالى، فيبادر إلى تداركه إذا بان له الخطأ، وما لا يمكن تداركه سبق حكم ضمانه. الحال الثاني: إن تبين له بقياس خفي رآه أرجح مما حكم به، وأنه الصواب، فليحكم فيما يحدث بعد ذلك من أخوات الحادثة بما رآه ثانيا، ولا ينقض ما حكم به أولا، بل يمضيه، ثم ما نقض به قضاء نفسه نقض به قضاء غيره، وما لا، فلا. ولا فرق بينهما إلا أنه لا يتبع قضاء غيره، وإنما ينقضه إذا رفع إليه، وله تتبع قضاء نفسه لينقضه، ولو كان المنصوب للقضاء قبله لا يصلح للقضاء، نقض أحكامه كلها، وإن أصاب فيها، لانها صدرت ممن لا ينفذ حكمه، هذا هو القول الجملي فيما ينقض ولا ينقض. ثم تكلموا في صور، منها لو قضى قاض بصحة نكاح المفقود زوجها بعد مضي أربع سنين، ومدة العدة، فوجهان أشهرهما

(8/136)


وظاهر النص، نقضه، لمخالفة القياس الجلي، لانه يجعل حيا في المال، فلا يقسم بين ورثته، فلا يجعل ميتا في النكاح. والثاني: لا ينقض كغيره من الاجتهاديات، قال الروياني: هذا هو الصحيح. وقرب من هذا الخلاف الخلاف في نقض حكم من قضى بحصول الفرقة في اللعان بأكثر الكلمات الخمس، أو بسقوط الحد عمن نكح أمه ووطئها، ومنها حكم الحنفي ببطلان خيار المجلس والعرايا بالتقييد الذي يجوزه، وفي ذكاة الجنين، ومنع القصاص في القتل بالمثقل، وصحة النكاح بلا ولي، أو بشهادة فاسقين، أو حكم غيره بصحة بيع أم الولد، وثبوت حرمة الرضاع بعد حولين، وصحة نكاح الشغار والمتعة، وقتل المسلم بالذمي، وبأنه لا قصاص بين الرجل والمرأة في الاطراف، وجريان التوارث بين المسلم والكافر، ورد الزوائد مع الاصل في الرد بالعيب على ما قاله ابن أبي ليلى، وفي نقض هذه الاحكام وجهان، قال الروياني: الاصح لا نقض، لانها اجتهادية، والادلة متقاربة، ومن نقض، قال: فيها نصوص وأقيسة جلية، وينقض قضاء من حكم بالاستحسان الفاسد. فرع ما ينقض من الاحكام لو كتب به إليه لا يخفى أنه لا يقبله ولا ينفذه، وأما ما لا ينقض ويرى غيره أصوب منه، فنقل ابن كج عن الشافعي رضي الله عنه أنه يعرض عنه، ولا ينفذه، لانه إعانة على ما يعتقده خطأ. وقال ابن القاص: لا أحب تنفيذه. وفي هذا إشعار بتجويز التنفيذ، وقد صرح السرخسي بنقل الخلاف، فقال: إذا رفع إليه حكم قاض قبله، فلم ير فيه ما يقتضي النقض، لكن أدى اجتهاده إلى غيره، فوجهان، أحدهما: يعرض عنه، وأصحهما: ينفذه، وعلى هذا العمل كما لوحكم بنفسه، ثم تغير اجتهاده تغيرا لا يقتضي النقض، وترافع خصماء الحادثة إليه فيها، فإنه يمضي حكمه الاول، وإن أدى اجتهاده إلى أن غيره أصوب منه. فرع إذا استقضي مقلد للضرورة، فحكم بمذهب غير مقلده، قال

(8/137)


الغزالي في الاصول: إن قلنا: لا يجوز للمقلد تقليد من شاء بل عليه اتباع مقلده، نقض حكمه، وإن قلنا: له تقليد من شاء، لم ينقض. فصل حكم القاضي ضربان، أحدهما: مما ليس بإنشاء، وإنما هو تنفيذ لما قامت به حجة، فينفذ ظاهرا لا باطنا، فلو حكم بشهادة زور بظاهري العدالة، لم يحصل بحكمه الحل باطنا، سواء كان المحكوم به مالا أو نكاحا أو غيرهما، فإن كان نكاحا، لم يحل للمحكوم له الاستمتاع، ويلزمها الهرب والامتناع ما أمكنها، فإن أكرهت فلا إثم عليها، فإن وطئ، قال الشيخ أبو حامد: هو زان ويحد، وخالفه ابن الصباغ والروياني، لان أبا حنيفة رحمه الله يجعلها منكوحة بالحكم، وذلك شبهة للخلاف في الاباحة، وإن كان المحكوم به الطلاق، حل للمحكوم عليه وطؤها إن تمكن، لكن يكره، لانه يعرض نفسه للتهمة والحد ويبقى التوارث بينهما، ولا تبقى النفقة للحيلولة، ولو تزوجت لآخر، فالحل مستمر للاول، فإن وطئها الثاني جاهلا بالحال، فهو وطئ شبهة، ويحرم على الاول في العدة، وإن كان الثاني عالما، أو نكحها أحد الشاهدين ووطئ، فوجهان أحدهما يحد، ولا يحرم على الاول في العدة، والاشبه أنه وطئ شبهة لما سبق. الضرب الثاني: الانشاءات كالتفريق بين المتلاعنين، وفسخ النكاح بالعيب، والتسليط على الاخذ بالشفعة ونحو ذلك، فإن ترتبت على أصل كاذب، بأن فسخ بعيب قامت بشهادة زور، فهو كالضرب الاول، وإن ترتبت على أصل صادق، فإن لم تكن في محل اختلاف المجتهدين، نفذ ظاهرا وباطنا، وإن كان مختلفا فيه،

(8/138)


نفذ ظاهرا، وفي الباطن أوجه، أصحها عند جماعة، منهم البغوي، والشيخ أبو عاصم: النفوذ مطلقا لتتفق الكلمة، ويتم الانتفاع، والثاني: المنع، وبه قال الاستاذ أبو إسحق، واختاره الغزالي. والثالث: إن اعتقده الخصم أيضا، نفذ باطنا، وإلا فلا، هذه الاوجه تشبه الاوجه في اقتداء الشافعي بالحنفي وعكسه، فإن منعنا النفوذ باطنا مطلقا، أو في حق من لا يعتقده لم يحل للشافعي الاخذ بحكم الحنفي بشفعة أو بالتوريث بالرحم إذا لم نقل به نحن، وعلى هذا هل يمنعه القاضي لاعتقاد المحكوم له أم لا، لاعتقاد نفسه ؟ وجهان أصحهما الثاني. ومن قال بالمنع، فقد يقول لا ينفذ القضاء في حقه لا ظاهرا ولا باطنا. فرع هل تقبل شهادته بما لا يعتقده كشافعي بشفعة الجوار ؟ وجهان في التهذيب. قلت: الاصح القبول. والله أعلم. فرع قال للقاضي رجلان: كانت بيننا خصومة في كذا، فحكم القاضي فلان بيننا بكذا، ونحن نريد أن تستأنف الحكم بيننا باجتهادك، ونرضى يحكمك، فهل يجيبهما أم يتعين إمضاء الحكم الاول، ولا ينقض الاجتهاد بالاجتهاد ؟ وجهان، حكاهما ابن كج، الصحيح الثاني. فصل في آداب منثورة. يستحب أن يدعو أصدقاءه الامناء، ويلتمس منهم أن يطلعوه على عيوبه ليسعى في إزالتها، ويستحب أن يكون راكبا في مسيره إلى مجلس حكمه، وأن يسلم على الناس في طريقه، وعلى القوم إذا دخل، وأن يدعو إذا جلس، ويسأل الله تعالى التوفيق والتسديد، وأن يقوم على رأسه أمين ينادي هل من خصم ؟ ويرتب الناس، ويقدم الاول فالاول قال ابن المنذر: يستحب أن يكون حصينا لمكان النساء، ويجوز أن يعين للقضاء يوما أو يومين على حسب حاجة الناس ودعاويهم، وأن يعين وقتا من النهار، فإن حضر خصمان في غير الوقت المعين،

(8/139)


سمع كلامهما إلا أن يكوفي صلاة، أو حمام، أو على طعام ونحوه، فيؤخره قدر ما يفرغ. ويستحب أن يكون للقاضي درة يؤدب بها إذا احتاج، ويتخذ سجنا للحاجة إليه في التعزير، واستيفاء الحق من المماطل. وهذه فروع تتعلق بالحبس قال ابن القاص: إذا استشعر القاضي من المحبوس الفرار من الحبس، فله نقله إلى حبس الجرائم، ولو دعا المحبوس زوجته أو أمته إلى فراشه فيه، لم يمنع إن كان في الحبس موضع خال، فإن امتنعت، أجبرت الامة، ولا تجبر الزوجة الحرة، لانه لا يصلح للسكنى، والزوجة الامة تجبر إن رضي سيدها. ولو قال مستحق الدين: أنا ألازمه بدلا عن الحبس، مكن، لانه أخف إلا أن يقول الغريم: تشق علي الطهارة والصلاة بسبب ملازمته، فاحبسني، فيحبس. وسبق الخلاف في أن الاب هل يحبس بدين ولده، وقياس حبسه أن يحبس المريض، والمخدرة، وابن السبيل منعا لهم من الظلم. وعن أبي عاصم العبادي أنهم لا يحبسون، بل يوكل بهم ليترددوا ويتمحلوا. قال: ولا يحبس أبو الطفل ولا الوكيل والقيم في دين لم يجب بمعاملتهم، ولا يحبس الصبي ولا المجنون، ولا المكاتب بالنجوم، ولا العبد الجاني، ولا سيده ليؤدي أو يبيع، بل يباع عليه إذا وجد راغب، وامتنع من البيع والفداء، ونقل الهروي وجهين في حبس كل غريم قدرنا على ماله، وتمكنا من بيعه. وأجرة السجان على المحبوس وأجرة

(8/140)


الوكيل على من وكل به إذا لم يكن في بيت المال مال، وصرف إلى جهة أهم من هذه. قلت: وقد ألحقت في كتاب التفليس مسائل كثيرة تتعلق بالحبس. والله أعلم.
الطرف الثاني : في مستند قضائه، وفيه مسائل إحداها: يقضي بالحجة بلا شك، فلو لم يكن حجة، وعلم صدق المدعي، فهل يقضي بعلمه ؟ طريقان أحدهما: نعم قطعا، وأشهرهما قولان، أظهرهما عند الجمهور: نعم، لانه يقضي بشهادة شاهدين، وهو يفيد ظنا، فالقضاء بالعلم أولى، والجواب عما احتج به المانع من التهمة أن القاضي لو قال: ثبت عندي وصح لدي كذا، لزمه قبوله بلا خلاف، ولم يبحث عما ثبت به وصح، والتهمة قائمة، وسواء على القولين ما علمه في زمن ولايته ومكانها، وما علمه في غيرهما، فإن قلنا: لا يقضي بعلمه، فذلك إذا كان مستنده مجرد العلم، أما إذا شهد رجلان تعرف عدالتهما، فله أن يقضي ويغنيه علمه بها عن تزكيتهما، وفيه وجه ضعيف للتهمة. ولو أقر بالمدعى في مجلس قضائه. قضى، وذلك قضاء بإقرار لا بعلمه، وإن أقر عنده سرا، فعلى القولين، وقيل: يقضي قطعا. ولو شهد عنده واحد، فهل يغنيه علمه عن الشاهد الآخر على قول المنع ؟ وجهان. أصحهما: لا. وإذا قلنا: يقضي بعلمه، فذلك في المال قطعا وكذا في القصاص، وحد القذف على الاظهر، ولا يجوز في حدود الله تعالى على المذهب، وقيل: قولان، ولا يقضي بخلاف علمه بلا خلاف، بل إذا علم أن المدعي أبرأه عما ادعاه، وأقام به بينة، أو أن المدعي قبله

(8/141)


حي، أو رآه قبله غير المدعى عليه، أو سمع مدعي الرق بعتقه، ومدعي النكاح يطلقها ثلاثا، وتحقق كذب الشهود، امتنع من القضاء قطعا. وكذا إذا علم فسق الشهود، ثم إن الاصحاب مثلوا القضاء بالعلم الذي هو محل القولين بما ادعى عليه مالا وقد رآه القاضي أقرضه ذلك، أو سمع المدعى عليه أقر بذلك، ومعلوم أن رؤية الاقراض، وسماع الاقرار لا يفيد اليقين بثبوت المحكوم به وقت القضاء، فيدل أنهم أرادوا بالعلم الظن المؤكد لا اليقين. الثانية: إذا رأى القاضي ورقة فيها ذكر حكمه لرجل، وطلب منه إمضاءه والعمل به، نظر إن تذكره أمضاه على المذهب، وبه قطع الجمهور، وفي أمالي أبي، الفرج الزاز إنه على القولين في القضاء بعلمه وإن لم يتذكره، لم يعتمده قطعا لامكان التزوير، وكذا الشاهد لا يشهد بمضمون خطه إذا لم يتذكر، فلو كان الكتاب محفوظا عنده، وبعد احتمال التزوير والتحريف، كالمحضر والسجل الذي يحتاط فيه القاضي على ما سبق، فالصحيح والمنصوص والذي عليه الجمهور أنه لا يقضي به أيضا ما لم يتذكر، لاحتمال التحريف، وكذا الشاهد في مثل هذه الحالة لا يشهد، وفيهما وجه حكاه الشيخ أبو محمد وغيره أنه يجوز إذا لم يتداخله ريبة. وفي جواز رواية الحديث اعتمادا على الخط المحفوظ عنده وجهان، أحدهما: المنع، ولا تكفيه رواية السماع بخطه أو خط ثقة، والصحيح الجواز، لعمل العلماء به

(8/142)


سلفا وخلفا، وباب الرواية على التوسعة، ولو كتب إليه شيخ بالاجازة، وعرف خطه، جاز له أن يروي عنه تفريعا على اعتماد الخط، فيقول: أخبرني فلان كتابة، أو في كتابة، أو كتب إلي وهذا على تجويز الرواية بالاجازة وهو الصحيح، ومنعها القاضي حسين. قلت: وقد منعها أيضا الماوردي في الحاوي ونقل هو منعها عن الفقهاء، وهو أحد قولي الشافعي رحمه الله، ولكن أظهر قوليه، والمشهور من مذاهب السلف والخلف، والذي عليه العمل صحة الاجازة، وجواز الرواية بها، ووجوب العمل بها. ثم هي سبعة أنواع قد لخصتها بفروعها وأمثلتها وما يتعلق بها في الارشاد في مختصر علوم الحديث، وأنا أذكر منها هنا رموزا إلى مقاصدها تفريعا على الصحيح، وهو جوازها. الاول: إجازة معين لمعين، كأجزتك رواية صحيح البخاري، أو ما اشتملت عليه فهرستي وهذه أعلى أنواعها. الثاني: إجازة غير معين لمعين، كأجزتك مسموعاتي أو مروياتي والجمهور على أنه كالاول، فتصح الرواية به، ويجب العمل بها، وقيل بمنعه مع قبول الاول. الثالث: أن يجيز لغير معين بوصف العموم، كأجزت المسلمين، أو كل أحد أو من أدرك زماني ونحوه، فالاصح أيضا جوازها، وبه قطع القاضي أبو الطيب، وصاحبه الخطيب البغدادي وغيرهما من أصحابنا، وغيرهم من الحفاظ. ونقل الحافظ أبو بكر الحازمي المتأخر من أصحابنا أن الذين أدركهم من الحفاظ كانوا يميلون إلى جوازها. الرابع: إجازة مجهول أو لمجهول، كأجرتك كتاب السنن وهو يروي كتبا من السنن، أ أجزت لزيد بن محمد وهناك جماعة كذلك، فهذه باطلة. فإن أجاز لمسمين معينين لايعرف أعيانهم ولا أنسابهم ولا عددهم، صحت، كما لو سمعوا منه في مجلسه في مثل هذا الحال. الخامس: الاجازة لمعدوم، كأجزت لمن يولد لفلان أو لفلان، ومن يولد له، فالصحيح بطلانها، وبه قطع القاضي أبو الطيب، وابن الصباغ، وجوزه الخطيب وغيره. والاجازة للطفل الذي لا يميز صحيحة على الصحيح، وبه قطع القاضي أبو الطيب، ونقله الخطيب عن شيوخه كافة.

(8/143)


السادس: إجازة ما لم يسمعه المجيز، ولم يتحمله بوجه ليرويه المجاز له إذا تحمله المجيز، وهي باطلة قطعا. السابع: إجازة المجاز وهي صحيحة عند أصحابنا، وهو الصواب الذي قطع به الحفاظ الاعلام من أصحابنا وغيرهم، منهم الدارقطني وأبو نعيم الاصفهاني، والشيخ أبو الفتح نصر المقدسي وغيرهم من أصحابنا. وإذا كتب الاجازة، استحب أن يتلفظ بها، ولو اقتصر على الكتابة مع قصد الاجازة، صحت كالقراءة عليه مع سكوته. والله أعلم. فرع إذا رأى بخط أبيه أن لي على فلان كذا، أو أديت إلى فلان كذا، قال الاصحاب: فله أن يحلف على الاستحقاق والاداء اعتمادا على خط أبيه إذا وثق بخطه وأمانته. قال القفال: وضابط وثوقه أن يكون بحيث لو وجد في تلك التذكرة: لفلان علي كذا لا يجد من نفسه أن يحلف على نفي العلم به، بل يؤديه من التركة، وفرقوا بينه وبين القضاء والشهادة بأن خطرهما عظيم وعام، ولانهما يتعلقان به، ويمكن التذكر فيهما، وخط المورث لا يتوقع فيه يقين، فجاز اعتماد الظن فيه حتى لو وجد بخط نفسه أن لي على فلان كذا، أو أديت إلى فلان دينه، لم يجز الحلف حتى يتذكر قاله في الشامل. فرع قال الصيمري: ينبغي للشاهد أن يثبت حلية المقر إذا لم يعرفه بعد الشهادة، ليستعين بها على التذكر، ويقرب من هذا ذكر التاريخ، وموضع التحمل، ومن كان معه حينئذ، ونحو ذلك.

(8/144)


الثالثة: شهد عنده عدلان أنك حكمت لزيد بكذا، وهو لا يذكره، لم يحكم بقولهما إلا أن يشهدا بالحق بعد تجديد دعوى، وعن ابن القاضي تخريج قول: إنه يمضي الحكم الاول بشهادتهما، والمذهب الاول، ولو شهد أنك تحملت الشهادة في واقعة كذا، ولم يتذكر، لم يجز أن يشهد، وهذا بخلاف رواية الحديث، فإن الراوي لو نسي، جاز له أن يقبل الرواية ممن سمعها منه على الصحيح، وفيها وجه حكاه ابن كج وعلى الصحيح الفرق ما سبق أن باب الرواية على التوسعة، ولهذا يقبل من العبد والمرأة، ومن الفرع مع وجود الاصل وغير ذلك وإذا لم يتذكر القاضي فحقه أن يتوقف، ولا يقول: لم أحكم. وهل للمدعي والحالة هذه تحليف الخصم أنه لا يعرف حكم القاضي ؟ قال صاحب التهذيب: يحتمل وجهين. ولو شهد الشاهدان على حكمه عند قاض آخر قبل شهادتهما، وأمضى حكم الاول إلا إذا قامت بينة بأن الاول أنكر حكمه، وكذبهما، فإن قامت بينة بأنه توقف، فوجهان، أوفقهما لكلام الاكثرين أنه يقبل شهادتهما، وقال الاودني وصاحب المهذب: لا تقبل، لان توقفه يورث تهمة وعلى هذا لو شهد عدلان أن شاهدي الاصل توقفا في الشهادة، لم يجز الحكم بشهادة الفروع. الرابعة: ادعى على القاضي أنك حكمت لي بكذا. قال الاصحاب: ليس له أن يرفعه إلى قاض آخر، ويحلفه كمالا يحلف الشاهد إذا أنكر الشهادة. وعن القاضي حسين أنا إن قلنا: اليمين المردودة كالاقرار، فله تحليفه ليحلف المدعي إن نكل هذا إذا ادعى عليه وهو قاض، فإن ادعى عليه بعد عزله، أو في غير محل ولايته

(8/145)


عند قاض، فنقل الامام أنه يجو سماع البينة، ولا يقبل إقراره. ولا يحلف إن قلنا: اليمين المردودة كالاقرار، وإن قلنا: كالبينة، حلف، ولك أن تقول: سماع الدعوى على القاضي معزولا، كان أو غيره بأنه حكم ليس على قواعد الدعاوى الملزمة، وإنما يقصد بها التدرج إلى إلزام الخصم، فإن كان له بينة، فليقمها في وجه الخصم، وينبغي أن لا يسمع على القاضي بينة، ولا يطالب بيمين، كما لو ادعى على رجل أنك شاهدي.
الطرف الثالث : في التسوية وفيه مسائل: الاولى: ليسو القاضي بين الخصمين في دخولهما عليه، وفي القيام لهما، والنظر فيهما والاستماع، وطلاقة الوجه، وسائر أنواع الاكرام، فلا يخص أحدهما بشئ من ذلك، ويسوي في جواب سلامهما، فإن سلما، أجابهما معا، وإن سلم أحدهما، قال الاصحاب: يصبر حتى يسلم الآخر، فيجيبهما: وقد يتوقف في هذا إذا طال الفصل، وذكروا أنه لا بأس أن يقول للآخر: سلم، فإذا سلم، أجابهما، وكأنهم احتملوا هذا الفصل محافظة على التسوية، وحكى الامام أنهم جوزوا له ترك الجواب مطلقا واستبعده. ويسوي بينهما في المجلس، فيجلس أحدهما عن يمينه، والآخر عن شماله إن كانا شريفين، أو بين يديه وهو الاولى على الاطلاق، فلو كان أحدهما مسلما والآخر كافرا، فالصحيح - وبه قطع العراقيون - أنه يرفع المسلم في المجلس، والثاني يسوي. ويشبه أن يجري الوجهان في سائر وجوه الاكرام، ثم التسوية بين

(8/146)


الخصمين في الامور المذكورة واجبة على الصحيح، وبه قطع الاكثرون، واقتصر ابن الصباغ على الاستحباب. الثانية: ليقبل عليهما بمجامع قلبه، وعليه السكينة، ولا يمازح أحدهما، ولا يضاحكه، ولا يشير إليه، ولا يساره، ولا ينهرهما، ولا يصيح عليهما إذا لم يفعلا ما يقتضي التأديب، ولا يتعنت الشهود بأن يقول: لم تشهدون ؟ وما هذه الشهادة ؟ ولا يلقن المدعي الدعوى بأن يقول: ادع عليه كذا، ولا المدعى عليه الاقرار والانكار، ولا يجري المسائل إلى النكول على اليمين، وكذا لا يلقن الشاهد الشهادة، ولا يجرئه إذا مال إلى التوقف، ولا يشككه ولا يمنعه إذا أراد الشهادة هذا في حقوق الآدميين، وأما في حدود الله تعالى، فالقاضي يرشد إلى الانكار على ما هو موضح في موضعه، وإذا كان يدعي دعوى غير محررة، قال الاصطخري: يجوز أن تبين له كيفية الدعوى الصحيحة، وقال غيره: لا يجوز، وتعريف الشاهد كيفية أداء الشهادة على هذين الوجهين قال في العدة: أصحهما الجواز، ولا بأس بالاستفسار بأن يدعي دراهم، فيقول: أهي صحاح أم مكسورة ؟ ويستحب إذا أراد الحكم أن يجلس المحكوم عليه، ويقول: قامت البينة عليك بكذا، ورأيت الحكم عليك ليكون أطيب لقلبه، وأبعد عن التهمة، ونص في الام أنه يندبهما إلى الصلح بعد ظهور وجه الحكم، ويؤخر الحكم اليوم واليومين إذا سألهما، فجعلاه في حل من التأخير، فإن لم يجتمعا على التحليل لم يؤخر. الثالثة: إذا جلسا بين يديه، فله أن يسكت حتى يتكلما، وله أن يقول: ليتكلم المدعي منكما، وأن يقول للمدعي إذا عرفه: تكلم، ولو خاطبهما بذلك الامين الواقف على رأسه، كان أولى، فإذا ادعى المدعي، طالب خصمه بالجواب، وقال: ما تقول ؟ وفيه وجه ضعيف أنه لا يطالبه بالجواب حتى يسأله

(8/147)


المدعي، ثم ينظر في الجواب إن أقر بالمدعى، فللمدعي أن يطلب من القاضي الحكم عليه، وحينئذ يحكم، بأن يقول له: اخرج من حقه، أو كلفتك الخروج من حقه، أو ألزمتك وما أشبههما. وهل يثبت المدعى بمجرد الاقرار، أم يفتقر ثبوته إلى قضاء القاضي ؟ وجهان أحدهما: يفتقر كالثبوت بالبينة، وأصحهما لا، لان دلالة الاقرار على وجوب الحق جلية، والبينة تحتاج إلى نظر واجتهاد هكذا ذكرت المسألة، ولا يظهر الخلاف فيها، لانه إن كان الكلام في ثبوت المدعى به في نفسه، فمعلوم لانه لا يتوقف على الاقرار، فكيف على الحكم بعد الاقرار ؟ وإن كان المراد المطالبة والالزام، فلا خلاف أن للمدعي الطلب بعد الاقرار وللقاضي الالزام، وإن أنكر المدعى عليه، فللقاضي أن يسكت، وله أن يقال للمدعي: ألك بينة، وقيل: لا يقول ذلك، لانه كالتلقين والصحيح الاول، فإن قال المدعي: لي بينة، وأقامها، فذاك، وإن قال: لا أقيمها، وأريد يمينه، مكن منه، وإن قال: ليس لي بينة حاضرة فحلف القاضي المدعى عليه ثم جاء ببينة سمعت، وإن قال: لا بينة لي حاضرة، ولا غائبة، سمعت أيضا على الاصح، لانه ربما لم يعرف، أو نسي، ثم عرف أو تذكر، وقيل: لا يسمع للمناقضة إلا أن يذكر لكلامه تأويلا، ككنت ناسيا أو جاهلا. ولو قال: لا بينة لي، واقتصر عليه، فقال البغوي: هو كقوله لا بينة لي حاضرة، وقيل: كقوله لا حاضرة ولا غائبة، فيكون فيه الوجهان، ولو قال: شهودي عبيد أو فسقة، ثم أتى بعدول، قبلنا شهادتهم إن مضى زمان يمكن فيه العتق والاستبراء. فرع حكى الهروي وجهين في أن الحق يجب بفراغ المدعي من اليمين

(8/148)


المردودة، أم لا بد من حكم الحاكم، أو أشار إلى بنائهما على أن اليمين المردودة كالبينة أم كالاقرار ؟. الرابعة: إذا ازدحم جماعة مدعين، فإن عرف السبق، قدم الاسبق فالاسبق، والاعتبار سبق المدعي دون المدعى عليه، وإن جاؤوا معا، أو جهل السبق، أقرع، فإن كثروا وعسر الاقراع، كتب أسماءهم في رقاع، وصبت بين يدي القاضي ليأخذها واحدة واحدة، ويسمع دعوى من خرج اسمه في كل مرة، ويستحب أن يرتب ثقة يكتب أسماءه يوم قضائه ليعرف ترتيبهم، ولو قدم الاسبق غيره على نفسه، جاز، والمفتي والمدرس يقدمان عند الازدحام أيضا بالسبق أو بالقرعة، ولو كان الذي يعلمه ليس من فروض الكفاية، فالاختيار إليه في تقديم من شاء. ولا يقدم القاضي مدعيا بشرف ولا غيره إلا في موضعين، أحدهما: إذا كان في المدعين مسافرون مستوفزون وقد شدوا الرحال، ليخرجوا ولو أخروا، لتخلفوا عن رفقتهم، فإن قلوا، قدموا على الصحيح، وإلا فلا، بل يعتبر السبق بالقرعة. والثاني لو كان في الحاضرين نسوة، ورأى القاضي تقديمهن لينصرفن، قدمهن على الصحيح بشرط أن لا يكثرن. وينبغي أن لا يفرق بين أن يكون المسافر والمرأة مدعيا، أو مدعى عليه. ثم تقديم المسافر والمرأة ليس بمستحق على الصحيح، بل هو رخصة لجواز الاخذ به، وهذا ظاهر نصه في المختصر ومنهم من يشعر كلامه بالاستحقاق. قلت: المختار أنه مستحب لا يقتصر به على الاباحة. والله أعلم. ثم لا يخفى أن المراد تقديم المسافر على المقيمين، والمرأة على الرجال، فأما المسافرون بعضهم مع بعض، وكذا النسوة، فالرجوع فيهم إلى السبق أو القرعة.

(8/149)


فرع المقدم بالسبق أو القرعة لا يقدم إلا في دعوى واحدة، لئلا يطول على الباقين، فإن كان له دعوى أخرى، فليحضر في مجلس آخر، أو ينتظر فراغ القاضي من حكومات سائر الحاضرين، وحينئذ تسمع دعواه الثانية إن لم يضجر القاضي، ولا فرق بين أن تكون الدعوى الثانية والثالثة على الذي ادعى عليه الدعوى الاولى أو على غيره، وفيه وجه ضعيف أن الزيادة على الاولى مسموعة إذا اتحد المدعى عليه، وعلى هذا قال في الوسيط: تسمع إلى ثلاث دعاوى، ومنهم من أطلق، ولا خلاف أنه يسمع على المدعى عليه دعوى ثان وثالث، لان الدعوى للمدعي وقد تعدد، ونقل ابن كج هنا وجهين غريبين ضعيفين أحدهما: أن المقدم بدعوى لا تسمع منه الثانية إلا في مجلس آخر، وإن فرغ القاضي من دعاوي الحاضرين، وعليهم بعد ذلك ترفيهه. الثاني: لا يسمع على الواحد إلا دعوى شخص واحد. وأما المقدم بالسفر، فيحتمل أن لا يقدم إلا بدعوى، ويحتمل أن يقدم بجميع دعاويه، لان سبب تقديمه أن لا يتخلف عن رفقته، ويحتمل أن يقال: إذا عرف أن له دعاوى، فهو كالمقيمين، لان تقديمه بالجميع يضر غيره، وتقديمه بدعوى لا يحصل الغرض. قلت: الارجح أن دعاويه إن كانت قليلة، أو ضعيفة بحيث لا يضر بالباقين إضرارا بينا، قدم بجميعها، وإلا فيقدم بواحدة، لانها مأذون فيها، وقد يقنع بواحدة، ويؤخر الباقي إلى أن يخصه. والله أعلم. الخامسة: تنازع الخصمان، وزعم كل واحد أنه هو المدعي، نظر إن سبق أحدهما إلى الدعوى، لم يلتفت إلى قول الآخر: إني كنت المدعي، بل عليه أن يجيب ثم يدعي إن شاء. وإن لم يسبق وتنازعا، سأل العون، فمن أحضره العون فهو المدعى عليه، فيدعي الآخر عليه، وكذا لو قامت بينة لاحدهما أنه أحضر الآخر ليدعي عليه، وإن استوى الطرفان، أقرع، فمن خرجت قرعته ادعى، وقيل: يقدم القاضي أحدهما باجتهاده.

(8/150)


السادسة: قد سبق في باب الوليمة الخلاف في أن الاجابة إليها واجبة أم مستحبة ؟ وذلك في غير القاضي. أما القاضي، فلا يحضر وليمة أحد الخصمين في حال خصومتهما ولا وليمتهما، لانه قد يزيد أحدهما في إكرامه، فيميل إليه قلبه، وأما وليمة غير الخصمين، فثلاثة أوجه، أحدها: تحرم عليه الاجابة إليها، والثاني: تجب إذا أوجبناها على غيره، والثالث وهو الصحيح: لا تحرم ولا تجب، بل تستحب بشرط التعميم، فإن كثرت وقطعته عن الحكم، تركها في حق الجميع، ولا يخص بعض الناس، لكن لو كان يخص بعض الناس قبل الولاية بإجابة وليمة، فنقل ابن كج عن نص الشافعي رحمه الله أنه لا بأس بالاستمرار، وتكره إجابته إلى دعوة اتخذت لاجل القاضي خاصة أو للاغنياء ودعي فيهم، ولا يكره إلى ما اتخذ للجيران وهو منهم، أو للعلماء ودعي فيهم. واعلم أن إجابة غير وليمة العرس من الدعوات مستحبة، وظاهر ما أطلقه الاصحاب ثبوت الاستحباب في حق القاضي أيضا، وإن كان الاستحباب في الوليمة آكد، ومنهم من خص الاستحباب بالوليمة، وبه قال ابن القاص. فرع لا يضيف القاضي أحد الخصمين دون الآخر ويجوز أن يضيفهما معا على الصحيح، ومنعه أبو إسحق، لانه قد يتوهم كل واحد أن المقصود بالضيافة صاحبه، وأنه تبع، وهذا يشكل بسائر وجوه التسوية. السابعة: له أن يشفع لاحدهما، وأن يؤدي المال عمن عليه، لانه ينفعهما. الثامنة: يعود المرضى، ويشهد الجنائز، ويزور القادمين، وإذا لم يمكنه الاستيعاب، فعل الممكن من كل نوع، ويخص به من عرفه، وقرب منه. قال القاضي أبو حامد: هو كإجابة الوليمة يعم الجميع أو يترك الجميع، والصحيح الاول، وبه قطع الجمهور، لان معظم المراد بهذه الانواع الثواب، ولا فرق في هذه الانواع بين المتخاصمين وغيرهما هكذا قاله الاكثرون. وفي أمالي أبي الفرج أنه لا يعود الخصم ولا يزوره إذا قدم، لكن يشهد جنازته.
الطرف الرابع : في البحث عن حال الشهود وتزكيتهم وفيه مسائل: الاولى: لا يجوز للقاضي أن يتخذ شهودا معينين لا يقبل شهادة غيرهم، لما فيه من التضييق على الناس.

(8/151)


الثانية: إذا شهد عنده شهود، نظر إن عرف فسقهم، رد شهادتهم، ولم يحتج إلى بحث، وإن عرف عدالتهم، قبل شهادتهم، ولا حاجة إلى التعديل، وإن طلبه الخصم وفيه وجه سبق في القضاء بالعلم، وإن لم يعرف حالهم، لم يجز قبول شهادتهم، والحكم بها إلا بعد الاستزكاء والتعديل، سواء طعن الخصم فيهم، أو سكت ولو أقر الخصم بعدالتهما، ولكن قال: أخطأ في هذه الشهادة، فوجهان، أحدهما: يحكم بشهادتهما بلا بحث عنهما، لان البحث لحقه، وقد اعترف بعدالتهما، وأصحهما لا بد من البحث والتعديل لحق الله تعالى، ولهذا لا يجوز الحكم بشهادة فاسق وإن رضي الخصم، ولان الحكم بشهادته يتضمن تعديله، والتعديل لا يثبت بقول واحد. وإن صدقهما فيما شهدا به، قضى القاضي بإقراره بالحق، واستغنى عن البحث عن حالهما، وكذا لو شهد واحد فصدقه، ولو شهد معلوما العدالة، ثم أقر المشهود عليه بما شهدا به قبل حكم القاضي، فهل يستند الحكم إلى الاقرار دون الشهادة أم إليهما جميعا ؟ وجهان حكاهما الهروي، قال: والصحيح منهما الاول، والثاني حكاه الفوراني في المناظرة، وذكر الهروي أنه لو بعد الحكم بشهادتهما، فقد مضى الحكم مستندا إلى الشهادة، سواء وقع إقراره بعد تسليم المال إلى المشهود له أم قبله، وفيما قبل التسليم وجه ضعيف، وأنه لو قال الخصم للشاهد قبل أداء الشهادة ما تشهد به علي فأنت عدل صادق، لم يكن ذلك إقرارا، لكنه تعديل للشاهد إن كان من أهل التعديل.

(8/152)


فرع إذا جهل القاضي إسلام الشاهد، لم يقنع بظاهر الدار، بل يبحث عنه، ويكفي فيه قول الشاهد. ولو جهل حريته بحث أيضا، ولا يكفي فيه قوله على الاصح، لانه لا يستقل بها بخلاف الاسلام، وحكى ابن كج وجها أن الاستزكاء لا يجب مطلقا إلا إذا طلبه الخصم وليس بشئ. فرع قال في العدة: إذا استفاض فسق الشاهد بين الناس، فلا حاجة إلى البحث والسؤال، ويجعل المستفيض كالمعلوم. الثالثة: ينبغي أن يكون للقاضي مزكون وأصحاب مسائل، فالمزكون هم المرجوع إليهم ليبينوا حال الشهود، وأصحاب المسائل هم الذين يبعثهم إلى المزكين، ليبحثوا ويسألوا، وربما فسر أصحاب المسائل في لفظ الشافعي بالمزكين، ثم المخبرون عن فسق الشهود وعدالتهم ضربان، أحدهما: من نصبه الحاكم للجرح والتعديل مطلقا أو في واقعة خاصة، فيسمع الشهادة عليهما، وما ثبت عنده أنهاه إلى القاضي. والثاني من يشهد بالعدالة أو الفسق، ثم من هؤلاء من يشهد أصالة، ومنهم من يشهد على شهادة غيره، والاول قد يعرف الحال فيشهد، وقد لا يعرف فيأمره القاضي بالبحث ليعرف فيشهد كما يوكل القاضي بالغريب الذي يدعي الافلاس من يبحث عنه ويخالطه، ليعرف إفلاسه فيشهد، وأما الثاني، فهو شاهد فرع، والقياس أنه لا يشهد إلا عند غيبة الاصل، أو تعذر حضوره، وكذا ذكره الهروي، وسيأتي إن شاء الله تعالى ما ينازع فيه. وإذا أراد الحاكم البحث عن حال الشهود، كتب اسم الشاهد، وكنيته إن اشتهر بها، وولاءه إن كان عليه ولاء، واسم أبيه وجده وحليته وحرفته وسوقه ومسجده، لئلا يشتبه بغيره، فإن كان مشهودا وحصل التمييز ببعض هذه الاوصاف، كفى، ويكتب أيضا اسم المشهود له، والمشهود عليه، فقد يكون بينهما ما يمنع شهادته له، أو عليه من قرابة أو عداوة. وفي قدر المال وجهان أحدهما: لا يكتبه، لانه العدالة لا تتجزأ، والصحيح المنصوص أنه يذكره، لانه قد يغلب على الظن صدق الشاهد في القليل دون الكثير، وأما دعوى الاول أن العدالة لا تتجزأ، فقد حكى أبو العباس الروياني في ذلك وجهين وبنى عليهما أنه لو عدل، وقد شهد بمال قليل، ثم شهد في الحال بمال كثير هل يحتاج إلى تجديد تزكية ويكتب إلى كل مزك كتابا، ويدفعه إلى صاحب مسألة، ويخفي كل كتاب عن غير من دفعه إليه وغير من بعثه إليه احتياطا، ثم إذا وقف القاضي على ما

(8/153)


عند المزكين، فإن كان جرحا لم يظهره، وقال للمدعي: زدني في الشهود، وإن كان تعديلا، عمل بمقتضاه، ثم حكى الاصحاب والحالة هذه وجهين في أن الحكم بقول المزكين، أم بقول أصحاب المسائل ؟ قال أبو إسحق: بقول المزكين، لان أصحاب المسائل شهود على شهادة، فكيف تقبل مع حضور الاصل ؟ وإنما هم رسل وعلى هذا يجوزأن يكون صاحب المسألة واحدا، فإن عاد بالجرح، توقف القاضي، وإن عاد بالتعديل، دعا مزكيين ليشهدا عنده بعدالة الشاهد، ويشيرا إليه، ويأمن بذلك من الغلط من شخص إلى شخص. قال الاصطخري: إنما يحكم بقول أصحاب المسائل، ويبنى على ها ثبت عندهم بقول المزكين. قال ابن الصباغ: وهذا وإن كان شهادة على شهادة تقبل للحاجة، لان المزكي لا يكلف الحضور، وقول الاصطخري أصح عند الشيخ أبي حامد، والقاضي أبي الطيب وغيرهما. قالوا: وعلى هذا إنما يعتمد القاضي قول اثنين من أصحاب المسائل، فإن وصفاه بالفسق، فعلى ما سبق، وإن وصفاه بالعدالة أحضر الشاهدين ليشهدا بعدالته، ويشيرا إليه وإذا تأملت كلام الاصحاب، فقد تقول: ينبغي أن لا يكون في هذا خلاف محقق، بل إن ولي صاحب المسألة الجرح والتعديل، فحكم القاضي مبني على قوله، ولا يعتبر العدد، لانه حاكم، وإن أمره بالبحث، بحث ووقف على حال الشاهد، وشهد بما وقف عليه، فالحكم أيضا مبني على قوله، لكن يعتبر العدد، لانه شاهد، وإن أمره بمراجعة مزكيين، فصاعدا وبأن يعلمه بما عندهما، فهو رسول محض، والاعتماد على قولهما فليحضرا ويشهدا. وكذا لو شهد على فرع من نصب حاكما في شهادتهما، لان الشاهد الفرع لا يقبل مع حضور الاصل الجرح والتعديل اعتبر فيه صفات القضاة، ومن شهر بالعدالة أو الفسق، اشترط فيه صفات الشهود، ويشترط مع ذلك العلم بالعدالة والفسق وأسبابهما، وأن يكون المعدل خبيرا بباطن حال من يعدله لصحبة أو جوار أو معاملة ونحوها، قال في الوسيط: ويلزم القاضي أن يعرف أن المزكي خبير بباطن الشاهد في كل تزكية إلا إذا علم من عادته أنه لا يزكي إلا بعد الخبرة، ثم ظاهر لفظ الشافعي رحمه الله اعتبا التقادم في المعرفة الباطنة، لانه لا يمكن الاختبار

(8/154)


في يوم أو يومين، ويشبه أن يقال: شدة الفحص والامعان تقوم مقام التقادم في المعرفة الباطنة. ويمكن الاختبار في مدة يسيرة، وليس ذكر التقادم على سبيل الاشتراط، بل لان الغالب أن المعرفة الباطنة لا تحصل إلا بذلك، ويوضح هذا ما ذكرنا أن القاضي يأمر بالبحث، ليعرف حال الشاهد فيزكيه، ولو اعتبرنا التقادم لطالت المدة، وتضرر المتداعيان بالتأخير الطويل. أما الجرح، فيعتمد فيه المعاينة أو السماع، فالمعاينة أن يراه يزني أن يشرب الخمر، والسماع بأن يسمعه يقذف، أو يقر على نفسه بزنا أو شرب خمر، فإن سمع من غيره، نظر إن بلغ المخبرون حد التواتر جاز الجرح لحصول العلم، وكذا إن لم يبلغ التواتر، لكن استفاض، جاز الجرح أيضا، صرح به ابن الصباغ والبغوي وغيرهما. ولا يجوز الجرح بناء على خبر عدد يسير، لكن يشهد على شهادتهم بشرط الشهادة على الشهادة، وذكر البغوي تفريعا على قول الاصطخري في أن الحكم بقول أصحاب المسائل أنه يجوز أن يعتمد فيه أصحاب المسائل خبر واحد من الجيران إذا وقع في نفوسهم صدقه، وهل يشترط ذكر سبب رؤية الجرح أو سماعه ؟ وجهان أحدهما: نعم، فيقول مثلا: رأيته يزني، وسمعته يقذف. وعلى هذا لقياس يقول في الاستفاضة: استفاض عندي. والثاني - هو المذكور في الشامل -: لا حاجة إليه، وليس للحاكم أن يقول: من أين عرفت حاله، وعلى أي شئ بنيت شهادتك ؟ كما في سائر الشهادات، وهذا أقيس ويحكى عن ابن أبي هريرة، والاول أشهر. ولا يجعل الجارح بذكر الزنى قاذفا للحاجة، كما لا يجعل الشاهد قاذفا، فإن لم يوافقه غيره، فليكن كما لو شهد ثلاثة بالزنى هل يجعلون قذفة ؟ فيه القولان. قلت: المختار أو الصواب أنه لا يجعل قاذفا، وإن لم يوافقه غيره، لانه معذور في شهادته بالجرح، فإنه مسؤول عنهما وهي في حقه فرض كفاية أو متعينة

(8/155)


فهو معذور بخلاف شهود الزنى، فإنهم مندوبون إلى الستر، فهم مقصرون. والله أعلم. ولو أخبره بعدالته من يحصل بخبره الاستفاضة وهم من أهل الخبرة بباطن من يعدلون، لم يبعد أن يجوز له تعديله بذلك، وتقام خبرتهم مقام خبرته، كما أقيم في الجرح رؤيتهم مقام رؤيته. فرع وينبغي أن يكون المزكون وافري العقول لئلا يخدعوا وبرآء من الشحناء والعصبية في النسب والمذهب ويجتهد في إخفاء أمرهم لئلا يشهروا في الناس بالتزكية، وهل يشترط لفظ الشهادة من المزكي ؟ وجهان أصحهما: نعم فيقول: أشهد أنه عدل. فرع لا يجوز أن يزكي أحد الشاهدين الآخر، وفيه وجه ضعيف. وعن كتاب حرملة أنه لو شهد اثنان، وعدلهما آخران لا يعرفهما القاضي، وزكى الآخرين مزكيان للقاضي، جاز. ولو زكى ولده أو والده لم يقبل على الصحيح، وبه قطع العبادي وغيره. فرع لا تثبت العدالة بمجرد رقعة المزكي على الصحيح، لان الخط لا يعتمد في الشهادة كما سبق، وجوزه القاضي حسين للاعتماد على الرقعة، قال في الوسيط تفريعا على الاول: يكفي رسولان مع الرقعة، وأن الصحيح وجوب المشافهة وهذا ظاهر إن كان القاضي يحكم بشهادة المزكين، فأما إن ولي بعضهم الحكم بالعدالة والجرح، فليكن كتابه ككتاب القاضي إلى القاضي، وليكن الرسولان كالشاهدين على كتاب القاضي. فرع لا يقبل الجرح المطلق، بل لا بد من بيان سببه، ولا حاجة إلى بيان سبب التعديل، لان أسبابه غير منحصرة، وفيه وجه ضعيف حكاه في العدة، وليس بشئ والاصح أنه يكفي أن يقول: هو عدل. وقيل: ويشترط أن يقول: عدل علي ولي، وهو ظاهر نصه في الام والمختصر لكن تأوله الاولون أو جعلوه

(8/156)


تأكيدا لا شرطا. ولا يحصل التعديل بقوله: لا أعلم منه إلا خيرا، أو لا أعلم منه ما ترد به الشهادة. المسألة الرابعة: إذا ارتاب القاضي بالشهود، أو توهم غلطهم لخفة عقل وجدها فيهم، فينبغي أن يفرقهم، ويسأل كل واحد منهم عن وقت تحمل الشهادة عاما وشهرا ويوما وغدوة أو عشية، ومكان محلة وسكة، ودار وصفة، ويسأل أتحمل وحده أم مع غيره وأنه كتب شهادته أم لا، وأنه كتب قبل فلان أم بعده، وكتبوا بحبر أم بمداد ونحو ذلك، ليستدل على صدقهم إن اتفقت كلمتهم، ويقف إن لم تتفق. وإذا أجابه أحدهم، لم يدعه يرجع إلى الباقين حتى يسألهم القاضي لئلا يخبرهم بجوابه ومتى اتفقوا على الجواب، أو لم يتعرضوا للتفصيل، ورأى أن يعظهم، ويحذرهم عقوبة شهادة الزور، فعل، فإن أصروا، وجب القضاء إذا وجد شروطه، ولا عبرة بما يبقى من ريبة، وإن لم يجد فيهم خفة ولا ريبة، فالصحيح الذي عليه الجمهور أنه لا يفرقهم، لان فيه غضا منهم. وقال الروياني: يفرقهم، وقال البغوي: إن فرقهم، بمسألة الخصم، فلا بأس، ثم إن التفريق والاستفصال جعله الغزالي بعد التزكية، والصحيح الذي علله العراقيون وغيرهم أنه قبل الاستزكاء، فإن اطلع على عورة، استغنى عن الاستزكاء والبحث عن حالهم، وإن لم يطلع، فإن عرفهم بالعدالة، حكم، وإلا فحينئذ يستزكي، وهل هذا التفريق والاستفصال واجب أم مستحب ؟ فيه أوجه الصحيح الذي ذكره ابن كج والبغوي، وعامة الاصحاب وهو الموافق للفظ المختصر أنه مستحب والثاني واجب، قاله الامام والغزالي. قالا: ولو تركه وقضى مع الارتياب، لم ينفذ. والثالث: إن سأل الخصم وجب، وإلا فلا. الخامسة: تقدم بينة الجرح على بينة التعديل، لزيادة علم الجارح، فلو انعكس الامر بأن قال المعدل: قد عرفت السبب الذي ذكره الجارح، لكنه تاب منه، وحسنت حاله، قدمت بينة التعديل، لان مع المعدل هنا زيادة علم، كذا ذكره جماعة، منهم صاحب الشامل وقول الواحد لا يقبل في الجرح فضلا عن تقديمه.

(8/157)


السادسة: عدل الشاهد، ثم شهد في واقعة أخرى، فإن لم يطل الزمان، حكم بشهادته، ولا يطلب تعديله ثانيا، وإن طال، فوجهان، أصحهما يطلب تعديله ثانيا، لان طول الزمان يغير الاحوال، ثم يجتهد الحاكم في طوله وقصره. السابعة: شهادات المسافرين والمجتازين من القوافل، كشهادة غيرهم في الحاجة إلى التعديل، فإن عدلهما مزكيان في البلد، أو عدل مزكيان اثنين من القافلة، ثم هما عدلا الشاهدين، قبلت شهادتهما وإلا فلا. الثامنة: سأل القاضي عن الشهود في غير محل ولايته، فعدلوا ثم عاد إلى محل ولايته، قال ابن القاص: له الحكم بشهادتهم إن جوزنا القضاء بالعلم، وخالفه أبو عاصم وآخرون، وقالوا: القياس منعه، كما لو سمع البينة خارج ولايته. التاسعة: عدل شاهد، والقاضي يتحقق فسقه بالتسامع، قال الامام: الذي يجب القطع به أنه يتوقف ولا يقضي. العاشرة: تقبل شهادة الحسبة على العدالة والفسق، لان البحث عن حال الشهود، ومنع الحكم بشهادة الفاسق حق لله تعالى.
الباب الثالث : في القضاء على الغائب هو جائز في الجملة، وحكى صاحب التقريب قولا عن رواية حرملة أنه

(8/158)


لا يجوز إلا إذا كان للدعوى اتصال بحاضر، والمشهور الأول، وبه قطع الأصحاب، وفي الباب أطراف :
الأول : في الدعوى، ويشترط في الدعوى على الغائب ما يشترط فيها على الحاضر من بيان المدعى وقدره وصفته وقوله: إني مطالب بالمال. ولا يكفي الاقتصار على قوله: لي عليك كذا ويشترط أن يكون للمدعي بينة وإلا فلا فائدة، وأن يدعي جحوده، فإن قال: هو مقر لم تسمع بينته ولغت دعواه، وإن لم يتعرض لجحوده ولا إقراره، فهل تسمع بينته ؟ وجهان أصحهما: نعم لانه قد لا يعلم جحوده في غيبته، ويحتاج إلى الاثبات، فجعلت الغيبة كالسكوت. وفي فتاوي القفال أن هذا كله فيما إذا أراد إقامة البينة على ما يدعيه، ليكتب القاضي به إلى حاكم بلد الغائب، فأما إذا كان للغائب مال حاضر، وأراد إقامة البينة على دينه ليوفيه القاضي تسمع بينته ويوفيه، سواء قال: هو مقر، أو جاحد، وهل على القاضي لسماع

(8/159)


الدعوى على الغائب أن ينصب مسخرا ينكر على الغائب وجهان أحدهما: نعم لتكون البينة على إنكار منكر، وأصحهما ما ذكره البغوي، لان الغائب قد يكون مقرا، فيكون إنكار المسخر كذبا. ومقتضى هذا التوجيه أن لا يجوز نصب المسخر، لكن الذي ذكره أبو الحسن العبادي وغيره أن القاضي مخير إن شاء نصب وإلا فلا.
الطرف الثاني : في التحليف، فيحلف القاضي المدعي على الغائب بعد قيام البينة وتعديلها أنه ما أبرأه من الدين الذي يدعيه، ولا من شئ منه، ولا اعتاض ولا استوفى، ولا أحال عليه هو، ولا أخذ من جهته، بل هو ثابت في ذمة المدعى عليه يلزمه أداؤه، ويجوز أن يقتصر، فيحلفه على ثبوت المال في ذمته، ووجوب تسليمه، وكذا يحلف مع البينة الوارث إذا كان المدعى عليه صبيا أو مجنونا أو ميتا ليس له وارث حاضر، فإن كان حلف بسؤال الوارث، وحكى أبو الحسين الطرسوسي من أصحابنا قولا أنه لا يحلف في الدعوى مع البينة وهو مذهب المزني، والمشهور الدول، لكن هذا التحليف واجب أم مستحب ؟ وجهان، ويقال: قولان، أصحهما: الوجوب، ومنهم من قطع به. ومن قال بالاستحباب قال: لان تدارك التحليف باق، والوجوب في الميت والصبي والمجنون أولى لعجزهم عن التدارك، لكن الخلاف مطرد فيهم، حكاه أبو الحسن العبادي وجماعة، وبنى على هذا ما لو أقام قيم طفل بينة على قيم طفل، فإن أوجبنا التحليف، انتظرنا حتى يبلغ المدعى له، فيحلف، وإن قلنا بالاستحباب، قضى بها، ولا يشترط في اليمين هنا

(8/160)


التعرض لصدق الشهود بخلاف اليمين مع الشاهد، لان البينة هنا كاملة وقيل: يشترط. إذا لم يدع بنفسه، بل ادعى وكيله على غائب لا يحلف، بل يعطى المال إن كان المدعى عليه هناك مال، ولو كان المدعى عليه حاضرا، وقال للمدعي بالوكالة بعد أقام البينة عليه: أبرأني موكلك الغائب، وأراد التأخير إلى أن يحضر الموكل، فيحلف، لم يمكن منه، بل عليه تسليم الحق، ثم يثبت الابراء من بعد إن كانت له حجة، وكذا لو ادعى ولي الصبي دينا للصبي، فقال المدعى عليه: إنه أتلف علي من جنس ما تدعيه قدر دينه لم ينفعه بل عليه أداء ما أثبته الولي، فإذا بلغ الصبي، حلفه. ولو قال المدعى عليه في مسألة التوكيل: أبرأني موكلك الغائب، فاحلف أنك لا تعلم ذلك، قال الشيخ أبو حامد: له تحليفه على نفي العلم ومن الاصحاب من يخالفه ولا يحلف الوكيل ولك أن تقول: مقتضى ما ذكره الشيخ أن يحلف القاضي وكيل المدعي على الغائب على نفي العلم بالابراء وسائر الاسباب المسقطة نيابة عن المدعى عليه فيما يتصور منه لو حضر كما ناب عنه في تحليف من يدعي لنفسه. فرع يجوز القضاء على الغائب بشاهد ويمين كالحاضر وهل يكفي يمين أم يشترط يمينان إحداهما لتكمل الحجة، والثاني لنفي المسقطات وجهان أصحهما الثاني. فرع تعلق برجل وقال: أنت وكيل فلان الغائب، ولي عليه كذا، وأدعي

(8/161)


عليك وأقيم البينة في وجهك، فإن علم أنه وكيل، وأراد أن لا يخاصم، فليعزل نفسه، وإن لم يعلم، فينبغي أن يقول: لا أعلم أني وكيل ولا يقول: لست بوكيل فيكون. مكذبا لبينة قد تقوم بالوكالة، وهل للمدعي إقامة البينة على وكالة من تعلق به ؟ وجهان أحدهما: نعم ليستغني عن ضم اليمين إلى البينة، وليكون القضاء مجمعا عليه، وأصحهما: لا، لان الوكالة حق له، فكيف يقام بينة بها قبل دعواه.
الطرف الثالث : في كتاب القاضي إلى القاضي، فالقاضي بعد سماع الدعوى والبينة على الغائب قد يقتصر عليه، وينهي الامر إلى قاضي بلد الغائب ليحكم ويستوفي، وقد يحلفه كما سبق، ويحكم وعلى التقدير الثاني قد يكون للغائب مال حاضر يمكن أداء الحق منه فيؤدى، وقد لا يكون كذلك، فيسأل المدعي القاضي إنهاء الحكم إلى قاضي بلد الغائب، فيجيبه إليه. وللانهاء طريقان، أحدهما: أن يشهد على حكمه عدلين يخرجان إلى ذلك البلد، والاولى أن يكتب بذلك كتابا أولا، ثم يشهد، وصورة الكتاب: حضر فلان، وادعى على فلان الغائب المقيم ببلد كذا، وأقام عليه شاهدين وهما فلان وفلان، وقد عدلا عندي، وحلفت المدعي، وحكمت له بالمال، فسألني أن أكتب إليك في ذلك فأجبته، وأشهدت بذلك فلانا وفلانا. ولا يشترط تسمية الشاهدين على الحكم، ولا ذكر أصل الاشهاد، ولا تسمية شهود الحق، بل يكفي أن يكتب: شهد عندي عدول ويجوز أن لا يصفهم بالعدالة، ويكون الحكم بشهادتهم تعديلا لهم، ذكره في العدة، ويجوز أن لا يتعرض لاصل الشهادة، فيكتب: حكمت بكذا بحجة أوجبت الحكم، لانه قد يحكم بشاهد ويمين وقد يحكم بعلمه إذا جوزناه، وهذه حيلة يدفع بها القاضي قدح الحنفية إذا حكم بشاهد ويمين. وفي فحوى كلام الاصحاب وجه ضعيف مانع من إبهام الحجة، لما فيه من سد باب الطعن والقدح على الخصم.

(8/162)


ويستحب للقاضي أن يختم الكتاب ويدفع إلى الشاهدين نسخة غير مختومة ليطالعاها، ويتذاكرا عند الحاجة، وأن يذكر في الكتاب نقش خاتمه الذي يختم به، وأن يثبت اسم نفسه، واسم المكتوب إليه في باطن الكتاب، وفي العنوان أيضا. وأما الاشهاد، فإن أشهدهما أنه حكم بكذا، ولا كتاب، شهدا به، وقبلت شهادتهما، وإن أنشأ الحكم بين أيديهما، فلهما أن يشهدا عليه وإن لم يشهدهما، وإن كتب، ثم أشهد، فينبغي أن يقرأ الكتاب أو يقرأ بين يديه عليهما ثم يقول لهما: إشهدا علي بما فيه، أو على حكمي المبين فيه، وفي الشامل أنه لو اقتصر بعد القراء على قوله: هذا كتابي إلى فلان، أجزأ، وحكى ابن كج وجها أنه يكفي مجرد القراءة عليهما، والاحوط أن ينظر الشاهدان وقت القراءة عليهما في الكتاب، فلو لم يقرأ الكتاب عليهما، ولم يعلما ما فيه، قال القاضي: أشهدكما على أن هذا كتابي أو ما فيه خطي، لم يكف، ولم يكن لهما أن يشهدا على حكمه، لان الشئ قد يكتب من غير قصد بحقيقة. ولو قال: أشهدكما على أن ما فيه حكمي، أو على أني قضيت بمضمونه، فوجهان، أصحهما: لا يكفي حتى يفصل ما حكم به، والثاني: يكفي لامكان معرفة التفصيل بالرجوع إليه، ويجري الخلاف فيما لو قال المقر: أشهدتك على ما في هذه القبالة وأنا عالم به، لكن الاصح عند الغزالي في الاقرار أنه يكفي، حتى إذا سلم القبالة إلى الشاهد، وحفظها الشاهد، وأمن التحريف، جاز له أن يشهد على إقراره، لانه يقر على نفسه، والاقرار بالمجهول صحيح، وقطع الصيمري بأنه لا يكفي في الاقرار أيضا حتى يقرأه ويحيط بما فيه، قال: وهو مذهب الشافعي وأبي حنيفة رحمهما الله، ويشبه أن يكون الخلاف في أن الشاهد هل يشهد أنه أقر بمضمون القبالة مفصلا. فأما الشهادة على أنه أقر بما في هذا الكتاب مبهما، فينبغي أن يقبل بلا خلاف كسائر الاقارير المبهمة، ثم سواء شهد كذا أو كذا، فإنما يشهد إذا كان الكتاب محفوظا عنده، وأمن التصرف. فرع التعويل على شهادة الشهود والمقصود من الكتاب التذكر، ومن الختم الاحتياط، وإكرام المكتوب إليه، فلو ضاع الكتاب، أو امحى، أو انكسر الختم، وشهدا بمضمونه المضبوط عندهما، قبلت شهادتهما، وقضي بها، فلو شهدا بخلاف ما في الكتاب، عمل بشهادتهما، ولا يكفي الكتاب المجرد. وقال الاصطخري: إذا وثق المكتوب إليه بالخط والختم، كفى، والصحيح الاول.

(8/163)


ويشترط إشهاد رجلين عدلين، فلا يقبل رجل وامرأتان، وقيل: يقبل إن تعلقت الحكومة بمال، وذكر ابن كج أنه لو كان الكتاب برؤية هلال رمضان، كفى شهادة واحد على قولنا: يثبت بواحد، وأنه لو كتب بالزنى وجوزنا كتاب القاضي إلى قاض في العقوبات هل يثبت برجلين أم يشترط أربعة ؟ وجهان بناء على القولين في الاقرار بالزنى. فرع إذا وصل كتاب القاضي وحامله إلى قاضي البلد الآخر، أحضر الخصم، فإن أقر بالمدعى، استوفاه، وإلا فيشهد الشاهدان أن هذا كتاب القاضي فلان وختمه، حكم فيه لفلان بكذا على هذا وقرأه علينا، وأشهدنا به، ولو لم يقولوا: أشهدنا به، جاز، ولا يكفي ذكرهما الكتاب والختم، بل لا بد من التعرض لحكمه. ثم في التهذيب والرقم أن القاضي إنما نقض الختم بعد شهادة الشهود وتعديلهم، وذكر الهروي أنه يفتح الكتاب أولا: ثم يشهدون ويوافق هذا قول كثير من الاصحاب أن الشهود يقرؤون الكتاب، ثم يشهدون ليقفوا على ما فيه، ويعلموا أنه لم يخرق، وليس هذا خلافا في الجواز، وكيف وقد عرف أن الختم من أصله لا اعتبار به، فكما تقبل الشهادة على ما لا ختم عليه تقبل على المفضوض ختمه، وسواء فضه القاضي أو غيره، وإنما هو في الادب والاحتياط. فرع يجوز أن يكتب إلى قاض معين، ويجوز أن يطلق فيكتب إلى كل من يصل إليه من القضاة، وإذا كان الكتاب إلى معين، فشهد شاهدا الحكم عند حاكم آخر قبل شهادتهما، وأمضاه، وإن لم يكتب: وإلى كل من يصل إليه من القضاة اعتمادا على الشهادة، وكذا لو مات الكاتب، وشهدا على حكمه عند المكتوب إليه أو مات المكتوب إليه، وشهدا عند من قام مقامه، قبل شهادتهما، وأمضى الحكم. والعزل والجنون والعمى والخرس كالموت. ولو كتب القاضي إلى خليفته، ثم مات القاضي، أو عزل، تعذر على الخليفة القبول والامضاء إن قلنا: ينعزل بانعزال الاصل، ولو ارتد القاضي الكاتب أو فسق، ثم وصل الكتاب إلى المكتوب إليه، فوجهان قطع ابن القاص، وصاحبا المهذب والتهذيب وآخرون بأن الكتاب إن كان بالحكم المبرم، أمضي، لان الفسق الحادث لا يؤثر في الحكم السابق، وإن كان بسماع الشهادة، لم يقبل ولم يحكم به، كما لو فسق الشاهد قبل الحكم، وأطلق ابن كج أنه لا يقبل كتابه إذا فسق، وهو مقتضى كلام الشيخ أبي حامد وابن

(8/164)


الصباغ. فرع شهود الكتاب والحكم يشترط ظهور عدالتهم عند المكتوب إليه، وهل تثبت عدالتهم بتعديل الكاتب إياهم ؟ وجهان، قال القفال الشاشي: نعم للحاجة، والاصح المنع، لانه تعديل قبل أداء الشهادة، ولانه كتعديل المدعي شهوده، ولان الكتاب إنما يثبت بقولهم، فلو ثبت به عدالتهم لثبتت بقولهم، والشاهد لا يزكي نفسه. فرع ينبغي أن يثبت القاضي في الكتاب اسم المحكوم له، والمحكوم عليه، وكنيتهما، واسم أبويهما، وجديهما، وحليتهما، وصنعتهما، وقبيلتهما ليسهل التمييز، وإن كان مشهورا ظاهر الصيت، وحصل الاعلام ببعض ما ذكرنا، اكتفي به. وإذا أثبت الاوصاف كما ذكرنا، فحمل الكتاب إلى المكتوب إليه، وأحضر الحامل عنده من زعم محكوما عليه، نظر إن شهد شهود الكتاب والحكم على عينه، لان القاضي الكاتب حكم عليه، طولب بالحق، وإن لم يشهدوا على عينه، لكن شهدوا على موصوف بالصفات المذكورة في الكتاب، فأنكر المحضر أن ما في الكتاب اسمه ونسبه، فالقول قوله مع يمينه، وعلى المدعي البينة على أنه اسمه ونسبه، فإن لم تكن بينة، ونكل المحضر، حلف المدعي، وتوجه له الحكم. ولو قال: لا أحلف على أنه ليس اسمي ونسبي، ولكن أحلف على أنه لا يلزمني تسليم شئ إليه، فحكى الامام والغزالي عن الصيدلاني أنه يقبل منه اليمين هكذا، كما لو ادعى عليه قرض، فأنكر، وأراد أن يحلف على أنه لا يلزمه شئ، فإنه يقبل، واختارا أنه لا يقبل، وفرقا بأن مجرد الدعوى ليس بحجة، وهنا قامت بينة على المسمى بهذا الاسم، وذلك يوجب الحق عليه إن ثبت كونه المسمى، وإن قامت البينة بأنه اسمه ونسبه، فقال: نعم، لكن لست

(8/165)


المحكوم عليه، فإن لم يوجد هناك من يشاركه في الاسم والصفات المذكورة، لزمه الحكم، لان الظاهر أنه المحكوم عليه، وإن وجد بأن عرفه القاضي، أو قامت عليه بينة، وأحضر المشارك، فإن اعترف بالحق، طولب به، وخلص الاول، وإن أنكر، بعث الحاكم إلى الكاتب بما وقع من الاشكال، ليحضر الشاهدين، ويطلب منهما مزيد صفة يتميز بها المشهود عليه، فإن ذكرا مزيدا، كتب إليه ثانيا، وإلا وقف الامر حتى تنكشف. ولو أقام المحضر بينة على موصوف بتلك الصفات كان هناك وقد مات، فإن مات بعد الحكم، فقد وقع الاشكال، وإن مات قبله، فإن لم يعاصره المحكوم له، فلا إشكال، وإن عاصره، حصل الاشكال على الاصح، هذا كله إذا أثبت القاضي اسم المحكوم عليه، ونسبه، وصفته كما سبق، أما إذا اقتصر على قوله: حكمت على محمد بن أحمد مثلا، فالحكم باطل، لان المحكوم عليه مبهم، ولم يتعين بإشارة، ولا وصف كامل بخلاف ما إذا استقصى الوصف، فظهر اشتراك على الندور، حتى لو اعترف رجل في بلد المكتوب إليه بأنه محمد بن أحمد وأنه المعني بالكتاب، لم يلزمه ذلك الحكم لبطلانه في نفسه إلا أن يقر بالحق، فيؤاخذ به هذا هو الصحيح، وهو الذي نقله الامام والغزالي وغيرهما، وذكر ابن القاص وأبو علي الطبري أنه إذا ورد الكتاب، أحضر القاضي المكتوب عليه، وقرأ عليه الكتاب، فإن أقر أنه المكتوب عليه، أخذه به، سواء كان رفع نسبه وذكر صفته أم لا، ولا شك أنه لو شهد الشهود كما ينبغي إلا أنه أبهم في الكتاب اسم المكتوب عليه يقبل الشهادة، ويعمل بمقتضاها، لما سبق أن الاعتبار بقول الشهود لا بالكتاب. فصل سبق أن لانهاء حكم القاضي إلى قاض آخر طريقين، أحدهما: المكاتبة وسبق. والطريق الثاني المشافهة، وتتصور من أوجه. أحدها: أن يجتمع القاضي الذي حكم، وقاضي بلد الغائب في غير البلدين، ويخبره بحكمه. والثاني: أن ينتقل الذي حكم إلى بلد الغائب، ويخبره، ففي الحالين لا يقبل

(8/166)


قوله، ولا يمضي حكمه، لان إخباره في غير موضع ولايته، كإخبار القاضي بعد العزل. والثالث: أن يحضر قاضي بلد الغائب في بلد الذي حكم فيخبره، فإذا عاد إلى محل ولايته، فهل يمضيه، إن قلنا: يقضي بعلمه فنعم، وإلا فلا على الاصح، كما لو قال ذلك القاضي: سمعت البينة على فلان بكذا، فإنه لا يترتب الحكم عليه إذا عاد إلى محل ولايته. والرابع: أن يكونا في محل ولايتهما، بأن وقف كل واحد في طرف محل ولايته، وقال الحاكم: حكمت بكذا فيجب على الآخر إمضاؤه، لانه أبلغ من الشهادة والكتاب، وكذا لو كان في البلد قاضيان وجوزناه، فقال أحدهما للآخر: حكمت بكذا فإنه يمضيه، وكذا إذا قاله القاضي لنائبه في البلد وبالعكس. ولو خرج القاضي إلى قرية له فيها نائب، فأخبر أحدهما الآخر بحكمه أمضاه الآخر، لان القرية محل ولايتهما، ولو دخل النائب البلد، فقال للقاضي: حكمت بكذا لم يقبله، ولو قال له القاضي: حكمت بكذا، في إمضائه إياه، إذا عاد إلى قريته الخلاف في القضاء بالعلم. فرع إذا حكم القاضي بحق، وشافه به واليا غير قاض ليستوفيه، فله أن يستوفي في محل ولاية القاضي، وكذا خارجه على الصحيح. ولو كاتب القاضي واليا غير قاض، فإن كان صالحا للقضاء وقد فوض إليه الامام نظر القضاة وتولية من يراه، جازت مكاتبته، كما تجوز مكاتبة الامام الاعظم، نص عليه في المختصر وإن لم يكن صالحا، أو كان، ولم يفوض إليه، نظر القضاة، لم تجز مكاتبته، لان سماع البينة يختص بالقضاة. فصل ذكرنا في أول الطرف أن القاضي بعد سماع البينة قد يحكم، وينهيه إلى حاكم آخر، وقد يقتصر على السماع وينهيه، وفرغنا من القسم الاول، وأما

(8/167)


الثاني فنقدم عليه مقدمة فيما يمتاز به أحد القسمين على الثاني وفي فروع تتعلق بالحكم. أعلم أن صيغ الحكم في قوله: حكمت على فلان لفلان بكذا، وألزمته لما سبق في الادب الخامس من الباب الثاني، فلو قال: ثبت عندي كذا بالبينة العادلة، أو صح، فهل هو حكم ؟ فيه وجهان أحدهما: نعم، لانه إخبار عن تحقيق الشئ جزما وأصحهما لا، لانه قد يراد به قبول الشهادة، واقتضاء البينة صحة الدعوى، فصار كقوله: سمعت البينة وقبلتها ولان الحكم هو الالزام، والثبوت ليس بإلزام. وأما ما يكتب على ظهور الكتب الحكمية وهو: صح ورود هذا الكتاب علي، فقبلته قبول مثله، وألزمت العمل بموجبه، فليس بحكم لاحتمال أن المراد تصحيح الكتاب، وإثبات الحجة، ولا يجوز الحكم على المدعى عليه إلا بعد سؤال المدعي على الاصح، وهل يصح أن يلزم القاضي الميت بموجب إقراره في حياته ؟ وجهان. ويشترط تعيين ما يحكم به، ومن يحكم له، لكن قد يبتلى القاضي بظالم يريد ما لا يجوز، ويحتاج إلى ملاينته، فرخص له دفعه بما يوهم أنه أسعفه بمراده. مثاله: أقام خارج بينة وداخل بينة، والقاضي يعلم فسق بينة الداخل، ولكنه يحتاج إلى ملاينته، وطلب الحكم بناء على ترجيح بينة الداخل، فيكتب: حكمت بما هو مقتضى الشرع في معارضة بينة فلان الداخل، وفلان الخارج، وقررت المحكوم به في يد المحكوم له، وسلطته عليه، ومكنته من التصرف ليه إذا ثبتت هذه المقدمة، فإذا لم يحكم القاضي، وأنهى ما جرى من الدعوى والبينة بالكتاب، سمي بذلك كتاب نقل الشهادة، وكتاب التثبيت، أي: تثبيت الحجة. وينص على الحجة، فيذكر أنه قامت عنده بينة أو شاهد ويمين، أو نكل المدعى عليه، وحلف المدعي، وإنما ينص على الحجة، ليعرف المكتوب إليه تلك الحجة، فقد لا يرى بعض ذلك الحجة، وهل يجوز أن يكتب بعلم نفسه ليقضي به المكتوب إليه ؟ قال في العدة: لا يجوز وإن جوزنا القضاء بالعلم، لانه ما لم يحكم به هو كالشاهد والشهادة لا تتأدى بالكتابة. وفي أمالي السرخسي جوازه، ويقضي به المكتوب إليه إذا جوزنا القضاء بالعلم. وإذا كتب بسماع البينة، فليسم الشاهدين، والاولى أن يبحث عن

(8/168)


حالهما ويعدلهما، لان أهل بلدهما أعرف بهما، فإن لم يفعل، فعلى المكتوب إليه البحث والتعديل. إذا عدل، فهل يجوز أن يترك اسم الشاهدين ؟ قال الامام والغزالي: لا، والقياس الجواز، كما أنه إذا حكم، استغنى عن تسمية الشهود، وهذا هو المفهوم من كلام البغوي وغيره، وهل يأخذ المكتوب إليه بتعديل الكتاب أم له البحث وإعادة التعديل ؟ لفظ الغزالي يقتضي الثاني، والقياس الاول. قلت: هذا الذي جعله القياس هو الصواب. والله أعلم. ولا حاجة في هذا القسم إلى تحليف المدعي، والقول في إشهاد القاضي، وفي أداء الشهود الشهادة عند المكتوب إليه وفي دعوى الخصم إن كان هناك من يشاركه في الاسم على ما سبق في القسم الاول، وإذا عدل الكاتب شهود الحق، فجاء الخصم ببينته على جرحهم سمعت، ويقدم على التعديل، وإن استمهل البينة الجرح أمهل ثلاثة أيام هكذا ذكره الاصحاب على طبقاتهم، وكذا لو قال: أبرأتني، أو قضيت الحق واستمهل ليقيم البينة عليه. ولو قال: أمهلوني حتى أذهب إلى بلدهم وأجرحهم، فإني لا أتمكن من جرحهم إلا هناك، أو قال: لي بينة أخرى هناك دافعة، لم يمهل، بل يؤخذ الحق منه، فإذا أثبت جرحا أدفعا، استرد، وسواء في ذلك كتاب الحكم، وكتاب نقل الشهادة: وفي العدة أنه لو سأله المحكوم عليه إحلاف الخصم أنه لا عداوة بينه وبينهم وقد حضر الخصم عند المكتوب إليه أجابه إليه، ولو سأل إحلافه على عدالتهم، لم يجبه، وكفى تعديل الحاكم إياهم، وأنه لو ادعى قضاء الدين، وسأل إحلافه: أنه لم يستوفه، لم يحلف، لان الكاتب أحلفه. وذكر البغوي في مثله في دعوى الابراء أنه يحلفه: أنه لم يبرئه فحصل وجهان. فرع في مشافهة القاضي قاضيا بسماع البينة فإذا نادى قاض من طرف ولايته قاضيا من طرف ولايته: إني سمعت البينة بكذا، أو جوزنا قاضيين في بلد، فقال ذلك قاض لقاض، هل للمقول له الحكم بذلك ؟ قال الامام والغزالي: يبنى ذلك على أن سماع البينة وإنهاء الحال إلى قاض آخر هل هو نقل كشهادة الشهود كنقل الفروع شهادة الاصول، أم حكم بقيام البينة ؟ وفيه وجهان، فعلى الاول لا يجوز، كما لا يحكم بالفرع مع حضور الاصل. وعلى الثاني يجوز كما في الحكم المبرم، وهذا أرجح عند الامام والغزالي، والصحيح الاول، وبه قال عامة

(8/169)


الاصحاب، وقالوا أيضا: كتاب السماع إنما يقبل إذا كانت المسافة بين الكاتب وبين الذي بلغه الكتاب بحيث يقبل في مثلها الشهادة على الشهادة، وهذا نصه في عيون المسائل ولو قال الحاكم لخليفته: اسمع دعوى فلان وبينته، ولا تحكم به حتى تعرفني، ففعل هل للحاكم أن يحكم به ؟ القياس أنه كإنهاء أحد القاضيين في البلد إلى الآخر، لامكان حضور الشهود عنده، لكن الاشبه هنا الجواز، وبه أجاب أبو العباس الروياني مع توقف فيه.
الطرف الرابع : في الحكم بالشئ الغائب على غائب. الغيبة والحضور إنما تتعاقبان الاعيان، فأما إذا كانت دعوى نكاح أو طلاق أو رجعة، أو إثبات وكالة، فلا يوصف المدعي بغيبة ولا حضور، وكذا إذا كان المدعى دينا. ومتى ادعى عينا، فإن كانت حاضرة مشارا إليها، سلمت إلى المدعي إذا تمت حجته، وإن كانت غائبة، فلها حالان الاولى أن تكون غائبة عن البلد، فهي إما عين يؤمن فيها الاشتباه والاختلاط، كالعقار وعبد وفرس معروفين، وإما غيرها، والقسم الاول يسمع القاضي البينة عليه، ويحكم ويكتب إلى قاضي بلد ذلك المال ليسلمه إلى المدعي، ويعتمد في العقار على ذكر البقعة والسكة والحدود، وينبغي أن يتعرض لحدوده الاربعة، ولا يجوز الاقتصار على حدين أو ثلاثة، ولا يجب التعرض للقيمة على الاصح، لحصول التمييز دونه. وأما القسم الثاني كغير المعروف من المعروف من العبيد والدواب وغيرها فهل يسمع البينة على عينها وهي غائبة ؟ قولان: أحدهما نعم، كما يسمع على الخصم الغائب اعتمادا على الحلية والصفة، ولانه يحتاج إليه كالعقار. والثاني: لا، لكثرة الاشتباه، وبهذا قال المزني، ورجحه طائفة، منهم أبو الفرج الزاز، والاول اختيار الكرابيسي، والاصطخري، وابن القاص، وأبي علي الطبري، وبه أفتى القفال. فإذا قلنا به، فهل يحكم للمدعي بما قامت به البينة ؟ قولان، أحدهما: نعم كالعقار، وأظهرهما: لا، لان الحكم مع خطر الاشتباه والجهالة بعيد. والحاصل ثلاثة أقوال، أظهرها: تسمع البينة فينبغي أن يبالغ البينة ولا يحكم، والثاني لا يسمع ولا يحكم، والثالث يسمع ويحكم، هذه طريقة الجمهور، وطردوها في جميع المنقولات التي لا تعرف، وقال الامام والغزالي: ما لا يؤمن فيه الاشتباه ضربان ما يمكن تمييزه بالصفات والحلي كالحيوان، وما لا يمكن لكثرة أمثاله كالكرباس، فالاول على الاقوال الثلاثة، وقطعا في الكرباس

(8/170)


ونحوه بأنه لا ترتبط الدعوى والحكم بالعين، فإن قلنا: يسمع البينة، فينبغي أن يبالغ المدعي في الوصف بما يمكن الاستقصاء والتعرض للثبات. وبماذا يضبط بعد ذكر الجنس والنوع ؟ قولان حكاهما الهروي وغيره، أحدهما لتعرض الاوصاف المعتبرة في السلم، والثاني يتعرض للقيمة، وتكفي عن ذلك الصفات، قالوا: والاظهر أن الركن في تعريف ذوات الامثال ذكر الصفات وذكر القيمة مستحب في ذوات القيم، الركن القيمة، وذكر الصفات مستحب، ثم يكتب القاضي إلى قاضي بلد المال بما جرى عنده من مجرد قيام البينة، أو مع الحكم إن جوزنا الحكم المبرم، فإن أظهر الخصم هناك عبدا آخر بالاسم والصفات المذكورة في يده، أو في يد غيره، فقد صار القضاء مبهما، وانقطعت المطالبة في الحال، كما سبق في المحكوم عليه، وإن لم يأت بدافع، فإن كان الكتاب كتاب حكم، وجوزناه، حلف المدعي أن هذا المال هو الذي شهد به شهوده عند القاضي فلان، وتسلم إليه، ذكره ابن القاص في كتاب آداب القضاء، وإن كان كتاب سماع البينة، انتزع المكتوب إليه المال، وبعثه إلى الكاتب، ليشهد الشهود على عينه، وفي طريقه قولان، أظهرهما وأشهرهما، وبه قطع ابن الصباغ وغيره: يسلم إلى المدعي، ويؤخذ منه كفيل ببدنه. وقال أبو الحسن العبادي: يكفله قيمة المال، فإن ذهب إلى القاضي الكاتب، وشهد الشهود على عينه، وسلم به، كتب القاضي بذلك إبراء الكفيل وإلا فعلى المدعي الرد، ومؤنته، ويختم العين عند تسليمها إليه بختم لازم، فإن كان عبدا، جعل في عنقه القلادة، ويختم عليها، والمقصود من الختم أن لا يبدل المأخوذ بما لا يستريب الشهود في أنه له، وأخذ الكفيل واجب، والختم مستحب، وعلى هذا القول لو كان للمدعي جارية، فثلاثة أوجه، أحدها: أنها كالعبد، والثاني: لا تبعث أصلا، والثالث: تسلم إلى أمين في الرفقة لا إلى المدعي، وهذا حسن. قلت: هذا الثالث هو الصحيح أو الصواب. والله أعلم. ثك المفهوم من كلام الجمهور أن الشهود إذا شهدوا على عينه عند الكاتب، سلمه إلى المدعي، وقد تم الحكم له، ثم يكتب إبراء الكفيل على ما ذكرنا، وفي الفروق للشيخ أبي محمد أنه يختم على رقبته ختما ثانيا، ويكتب بأني حكمت به لفلان، ويسلمه إلى المكتوب له، ليرده إلى القاضي الثاني، فيقرأ الكتاب، ويطلق

(8/171)


الكفيل، ويسلم العبد إلى المدعي. والقول الثاني أن القاضي بعد الانتزاع يبيعه للمدعي، ويقبض منه الثمن، ويضعه عند عدل، أو يكفله بالثمن، فإن سلم للمدعي بشهادة الشهود على عينه عند القاضي الكاتب، كتب برد الثمن، أو براءة الكفيل، وبان بطلان البيع، وإلا فالبيع صحيح، ويسلم الثمن إلى المدعى عليه، وهذا بيع يتولاه القاضي للمصلحة، كما يبيع الضوال، وحكى الفوراني بدل هذا القول أنه يسلم إليه المال، ويأخذ القيم ويدفعها إلى المدعى عليه للحيلولة بينه وبين ما يزعمه ملكا له، ثم يسترد هذه القيمة، سواء ثبت المال للمدعي أم لا. الحالة الثانية: أن تكون العين المدعاة غائبة عن مجلس الحكم دون البلد، فإن كان الخصم حاضرا أمر بإحضاره لتقوم البينة على عينها، ولا تسمع الشهادة على صفتها هذا هو الجواب في فتاوى القفال. ويشبه أن يجئ فيه وجه فيما إذا كان المدعى عليه في البلد، هل تسمع الشهادة عليه مع غيبته عن المجلس ؟ ثم إنما يؤمر بإحضار ما يمكن إحضاره بتيسر فأما ما لا يمكن، كالعقار، فيحده المدعي ويقيم البينة عليه بتلك الحدود، فإن قال الشهود: نعرف العقار بعينه، ونعرف الحدود، بعث القاضي من يسمع البينة على عينه، أو حضر بنفسه، فإن كان المشار إليه بالحدود المذكورة في الدعوى، حكم وإلا فلا، ولو كان العقار مشهورا لا يشتبه، فلا حاجة للتحديد، وأما ما يعسر إحضاره كشئ ثقيل، وما أثبت في الارض، أو ركب في الجدار، وأورث قلعة ضررا، فيصفه المدعي، ويحضر القاضي عنده، أو يبعث من يسمع الشهادة على عينه، وإن لم يمكن وصفه حضر القاضي عنده، أو بعث من يسمع الدعوى على عينه، وذكر الغزالي أن العبد المدعى لو كان يعرفه القاضي، حكم به دون الاحضار، وجعل هذه الصورة كالمستثناة عن صورة وجوب الاحضار. وهذا الذي قاله إن أراد به العبد المعروف بين الناس، فهو صحيح كما ذكرنا في العقار المعروف والعبد المشهور الغائب عن البلد، فأما إن اختص القاضي بمعرفته، فإن كان عالما بصدق المدعي، وحكم بعلمه تفريعا على جوازه، فهو قريب أيضا، وإن حكم بالبينة فالبينة تقوم على الصفة، فإذا لم يسمع البينة بالصفة، وجب أن يمتنع الحكم ومتى أوجبنا الاحضار،

(8/172)


فذلك إذا اعترف المدعى عليه باشتمال يده على مثل تلك العين، وإن أنكر اشتمال يده على غير تلك الصفة، صدق بيمينه، فإن حلف، كان للمدعي أن يدعي عليه القيمة، لاحتمال أنها هلكت ذكره البغوي وغيره. وإن نكل وحلف المدعى، أو أقام بينة حين أنكر، كلف إحضارها وحبس، ولا يطلق إلا بالاحضار، أو بأن يدعي التلف، فتؤخذ منه القيمة، وتقبل منه دعوى التلف، وإن كانت خلاف قوله الاول للضرورة، وقيل: لا يطلق إلا بإحضار، أو بينة التلف، فإن لم يدر المدعي أن العين باقية ليطالب بها، أو تالفة ليطالب بقيمتها فادعى على التردد، وقال: غصب مني كذا، فإن كان باقيا، فعليه رده، وإن كان تالفا، فقيمته، فوجهان أحدهما: لا يسمع دعواه، لعدم الجزم، بل يدعي العين، ويحلف عليها، ثم ينشئ دعوى القيمة، ويحلف عليها، وأصحهما وعليه عمل القضاء: يسمع للحاجة فيه، وعلى هذا يحلف أنه لا يلزمه رد العين، ولا قيمتها، ويجري الوجهان فيما لو سلم ثوبا إلى دلال ليبيعه فطالبه به، فجحد، فلم يدر صاحب الثوب أباعه، فيطالبه بالثمن، أم تلف، فيطالبه بالقيمة، أم هو باق ليطالبه بالعين ؟ فعلى الاول يدعي العين في دعوى، والقيمة في أخرى، والثمن في أخرى، وعلى الثاني يدعي أن عليه رد الثوب أو ثمنه أو قيمته، ويحلف الخصم يمينا واحدة أنه لا يلزمه تسليم الثوب ولا ثمنه ولا قيمته، ولو شهدوا أنه غصب منه عبدا بصفة كذا، فمات العبد استحق بتلك الشهادة قيمته على تلك الصفة. وجميع ما ذكرنا فيما إذا كان الخصم حاضرا، فإن كان غائبا والمال في البلد، كما وصفنا أحضر مجلس الحكم أيضا، وأخذ ممن في يده ليشهد الشهود على عينه. فرع لو كان الخصم حاضرا، والمدعي ببلدة أخرى، فقياس ما سبق أنا إن قلنا: تسمع البينة بالمال الغائب، ويحكم به، فالقاضي يحكم عليه، وإن لم نجوز إلا السماع، فإذا سمع البينة، أمر بنقل المدعي إلى مجلسه، كما يفعله القاضي المكتوب إليه عند غيبة الخصم.

(8/173)


فرع ذكرنا أن المدعي إن كان في البلد، كلف المدعى عليه إحضاره، وإن كان غائبا يبعثه القاضي المكتوب إليه على يد المدعى، ولا يكلف المدعى عليه الاحضار للمشقة، كما يكلف الحضور هناك ولا يكلفه هنا، قال البغوي: فحيث أمر المدعي هنا بالاحضار، فمؤنة الاحضار عليه إن ثبت أنه للمدعي، وإلا فعلى المدعى مؤنة الاحضار والرد جميعا، وحيث يبعثه القاضي المكتوب إليه إلى بلد الكاتب إن لم يثبت أنه للمدعي، فعليه رده إلى موضع بمؤناته، وتستقر عليه مؤنة الاحضار إن تحملها من عنده، وإن ثبت أنه للمدعي، فقياس ما ذكره البغوي أنه يرجع بمؤنة الاحضار على المدعي عليه. وفي أمالي السرخسي أن القاضي ينفق على النقل من بيت المال، فإن لم يكن في بيت المال شئ، اقترض، فإن ثبت المال للمدعى عليه، لزمه رد القرض بظهور تعديه، وإلا كلف المدعي رده لظهور تعنته، ثم قال العراقيون والبغوي وغيرهم: إذا نقل المدعي المال إلى بلد القاضي الكاتب، ولم يثبت كونه له، لزم المدعي مع مؤنة الرد أجرة المثل لمدة الحيلولة، ولم يتعرضوا لذلك في مدة تعطل المنفعة، وإذا أحضره المدعى عليه وهو في البلد، فاقتضى سكوتهم المسامحة وقد صرح بهذا الاقتضاء الغزالي، والفرق بين الحالين زيادة الضرر هناك.
الطرف الخامس : في المحكوم عليه، والاصل أن لا يسمع القاضي البينة، ولا يحكم إلا بحضرة المدعى عليه، لكن هذا الاصل قد يترك لاسباب. وتفصيلها أن يقال: إذا لم يكن الخصم في مجلس القاضي، فإما أن يكون في الخلد، وإما لا، فإن كان، نظر إن كان ظاهرا يتأتى إحضاره، فهل يجوز سماع البينة عليه والحكم من غير حضوره أم لا، أم يجوز سماعها دون الحكم ؟ فيه أوجه، الصحيح المنع منهما، وأجري الخلاف في الحاضر في مجلس الحكم هل يسمع البينة عليه، ويحكم بغير سؤاله ومراجعته، والمنع هنا أظهر وأولى. وإن تعذر إحضاره بتواريه أو بعذره، جاز سماع الدعوى والبينة والحكم عليه على الصحيح، ومنعه

(8/174)


القاضي حسين، فإن قلنا بالصحيح، فهل يحلف المدعي، كما يحلف المدعي على غائب ؟ وجهان، وقطع صاحب العدة بأنه لا يحلف، لان الخصم قادر على الحضور وإن لم يكن في البلد، فإن غاب إلى مسافة بعيدة، جاز الحكم عليه، وإن كانت قريبة، فهو كالحاضر، وفي ضبط البعيدة وجهان، أحدهما: تقصر فيه الصلاة، والقريبة دونها، وأصحهما: أن القريبة ما يمكن المبكر الرجوع منها إلى مسكنه ليلا، فإن زادت، فبعيدة، ولو كان للمتمرد وكيل نصبه بنفسه، فهل يتوقف التحليف على طلبه ؟ جوابان لابي العباس الروياني: لان الاحتياط والحالة هذه من وظيفة الوكيل، وكذا لو كان للغائب وكيل. فصل من أتى القاضي مستعديا على خصم ليحضره، فلخصمه حالان. الاولى: أن يكون بالبلد وظاهرا يمكن إحضاره، فيجب إحضاره، وقال ابن سريج: يحضر ذوي المروءات في داره لا في مجلسه، والصحيح أنه لا فرق. ثم الاحضار قد يكون بختم من طين رطب أو غيره يدفعه إلى المدعي، ليعرضه على الخصم. وليكن مكتوبا عليه: أجب القاضي فلانا، وقد يكون بشخص من الاعوان المرتبين على باب القاضي، وتكون مؤنته على الطالب إن لم يكن لهم رزق من بيت المال، وإن بعث الختم، فلم يجب، بعث إليه العون، وإن ثبت عند القاضي امتناعه بلا عذر، أو ثبت سواد به بكسر الختم ونحوه، استعان على إحضاره بأعوان السلطان، فإذا حضر عزره بما يراه، وتكون مؤنة المحضر والحالة هذه على المطلوب، لامتناعه. وقيل: على المدعي، والصحيح الاول، فإن اختفى بعث من ينادي على باب داره أنه إن لم يحضر إلى ثلاث سمر باب داره، أو ختم عليه، فإن لم يحضر بعد الثلاث، وسأل المدعي التسمير أو الختم، أجابه إليه، وينبغي أن يتقرر عنده أن الدار داره، وإذا عرف له موضع قال ابن القاص: يبعث القاضي جماعة من النسوة والصبيان والخصيان يهجمون عليه على هذا الترتيب، ويفتشون.

(8/175)


ومتى كان للمطلوب عذر مانع من الحضور، لم يكلف، بل يبعث إليه من يحكم بينه وبين خصمه، أو يأمره بنصب وكيل ليخاصم عنه، فإن وجب تحليفه، بعث إليه من يحلفه، والعذر كالمرض، أو حبس ظالم، أو الخوف منه وفي المرأة المخدرة خلاف سيأتي إن شاء الله تعالى. الحالة الثانية: أن يكون خارج البلد، فينظر إن كان خارجا عن محل ولاية القاضي لم يكن له أن يحضره، وإن كان فيها، فإن كان له في ذلك الموضع نائب، لم يحضره، بل يسمع البينة ويكتب إليه، هذا هو الصحيح، وقيل: يلزم إحضاره إذا طلب الخصم، وقيل: يتخير بين الامرين، ذكره السرخسي في الامالي وإن لم يكن هناك، فثلاثة أوجه. أحدهما - وبه قطع العراقيون -: يحضره قربت المسافة أم بعدت، لكن له أن يبعث إلى بلد المطلوب من يحكم بينه وبين المستعدي، والثاني إن كان دون مسافة القصر أحضره، وإلا فلا، والثالث إن كان على مسافة العدوى، أحضره وإلا فلا، وهذا أصح عند الامام. وإذا قلنا: لا يحضره إذا كان هناك حاكم، فكذا لا يحضره إذا كان هناك من يتوسط ويصلح بينهما، بل يكتب إليه أن يتوسط ويصلح، فإن تعذر فحينئذ يحضره، وحيث قلنا: يحضر الخارج عن البلد، فذكر الامام والغزالي، وصاحب العدة أنه إنما يحضره إذا أقام المدعي بينة على ما يدعيه، فقد لا يكون له حجة فيتضرر الخصم بالاحضار، لكن قد لا يكون له حجة، ويقصد تحليفه لعله ينزجر فيقر، ولم يتعرض الجمهور لما ذكره، لكن قالوا: يبحث القاضي عن جهة دعواه، فقد يريد مطالبته بما لا يعتقده، كذمي أراد مطالبة مسلم بضمان خمر، بخلاف الحاضر في البلد لا يحتاج إلى البحث في إحضاره، لانه ليس في الحضور عليه مشقة شديدة ولا مؤنة. فرع لو استعدى على امرأة خارجة عن البلد هل يحضرها، وهل يشترط أمن الطريق ونسوة ثقات، وهل على القاضي أن يبعث إليها محرما لها لتحضر معه ؟ قال أبو العباس الروياني في كل ذلك وجهان الاصح أن يبعث إليها محرما أو نسوة ثقات.

(8/176)


فصل إذا ثبت على غائب دين، وله مال حاضر، فعلى القاضي توفيته منه إذا طالب المدعي، وإذا وفى هل يطالب المدعي بكفيل ؟ وجهان، أحدهما: نعم فقد يكون للغائب دافع، وأصحهما: لا، لان الحكم قد تم، والاصل عدم الدافع. فصل ذكرنا أن القضاء على الغائب جائز، وذلك في غير العقوبات، وفي العقوبات ثلاثة أقوال المشهور ثالثها إن كانت لآدمي، كقصاص وحد قذف، جاز، وإن كانت حدا لله تعالى، كالزنا والشرب، وقطع الطريق فلا، فإن جوزنا، كتب إلى قاضي بلد المشهود عليه، ليأخذه بالعقوبة ثم لا فرق بين كتاب الحكم، وكتاب النقل عند الجمهور وقال الفوراني: الخلاف في كتاب النقل، فأما كتاب الحكم فيقبل قطعا في العقوبتين. فصل إذا سمع القاضي بينة، فعزل، ثم ولي ثانيا، لم يحكم بالسماع الاول لبطلانه بالعزل، بل تجب الاستعادة، ولو خرج عن محل ولايته، ثم عاد، فله الحكم بالسماع الاول على الصحيح لبقاء ولايته. ولو سمع الشهادة على غائب، فقدم قبل الحكم، لم تجب الاستعادة، لكن يخير ويمكن من الجرح، وإن قدم بعد الحكم، فهو على حجته في إقامة البينة بالاداء والابراء، وجرح الشهود، لكن يشترط أن يؤرخ الجارح فسقه بيوم الشهادة، لانه إذا أطلق احتمل حدوثه بعد الحكم وبلوغ الصبي بعد سماع البينة عليه، أو بعد الحكم كقدوم الغائب.

(8/177)


فصل المرأة المخدرة هل تكلف حضور مجلس الحكم ؟ وجهان: أحدهما نعم قاله القفال كفيرها، فعلى هذا لو حضر القاضي غدارها، ليحكم بينها وبينن خصمها، أو بعث نائبا كان للخصم أن يمتنع من دخول دارها، ويطلب إخراجها، وأصحهما لا كالمريض، وسبيل القاضي في حقها كما سبق في المريض، فعلى هذا قال ابن الصباغ: إذا حضر دارها نائب القاضي، تكلمت من وراء الستر إن اعترف الخصم أنها خصمه، أو شهد اثنان من محارمها أنها هي التي ادعى عليها، وإلا تلففت بملحفة، وخرجت من الستر، ثم من لا تخرج أصلا إلا لضرورة فهي مخدرة، ومن لا تخرج إلا نادرا لعزاء، أو زيارة أو حمام مخدرة أيضا على الاصح. ويكفي أن لا تصير متبذلة بكثرة الخروج للحاجات المتكررة، كشراء الخبز والقطن، وبيع الغزل ونحوها، ثم إنما يتحتم حضور المخدرة على الوجه الاول للتحليف، وأما ما عداه، فيقنع فيه بالتوكيل من المخدرة وغيرها. فصل القاضي يزوج من لا ولي لها إذا كانت في محل ولايته، سواء كانت مستوطنة محل ولايته، أم غيرها، ولا يزوج خارجة عن محل ولايته، وإن رضيت. ولا يكفي حضور الخاطب، لان الولاية عليها لا تتعلق بذلك بخلاف ما لو حكم بحاضر على غائب، لان المدعي حاضر، والحكم يتعلق به، بخلاف مالو كان ليتيم غائب عن محل ولايته مال حاضر، فإنه يتصرف فيه، لان الولاية عليه ترتبط بماله، ثم تصرفه في مال اليتيم الغائب يكون بالحفظ والتعهد، وإذا أشرف على الهلاك أتى بما يقتضيه الحال بشرط الغبطة اللائقة، وهكذا يفعل في مال كل غائب أشرف على الهلاك، فإن كان حيوانا، وخيف هلاكه، باعه، وإن حصلت الصيانة بالاجارة اقتصر عليها. وهل له أن يتصرف في مال اليتيم الغائب للاستنماء، وأن ينصب قيما كذلك، وأن يتصرف للتجارة، وطلب الفائدة كتصرفه في أموال الحاضرين ؟ وجهان، لان نصب القيم يرتبط بالمال والمالك جميعا، فلو جاز النصب بحضور المال، جاز لقاضي بلد اليتيم بحضور المالك، وحينئذ يتمانع

(8/178)


تصرفاهما. قال الغزالي: والاولى أن يلاحظ مكان اليتيم دون المال، وله نصب القيم للحفظ والصيانة بلا خلاف. وللقاضي إقراض مال الغائب ليحفظه بحفظه في الذمة، وذكره صاحب التلخيص وهو موافق لما سبق في الحجر في إقراض مال الصبي. وأما ما لا يتعين له مالك، وحصل اليأس من معرفته، فذكر بعضهم أن له أن يبيعه، ويصرف ثمنه إلى المصالح، وأن له حفظه. قلت: هذا المحكي عن بعضهم متعين، وقد قاله جماعة، ولا نعرف خلافه. والله أعلم. فصل في مسائل منثورة كتاب قاضي البغاة مقبول على المشهور، وعن القديم منعه، أطلق بعضهم أنه لا يجوز للقاضي أن يكتب كتابا في غير محل ولايته، والذي يستمر على أصل الشافعي رحمه الله ما ذكره ابن القاص أنه لا يحكم ولا يشهر في غير محل ولايته، وأما الكتاب، فلا بأس به. ولو حكم القاضي ببينة أقامها وكيل رجل في وجه وكيل آخر، فحضر المدعى عليه، وقال: كنت عزلت وكيلي قبل قيام البينة، لم ينفعه، لان القضاء على الغائب جائز. ولو حضر المدعي، وقال: كنت عزلت وكيلي، وقلنا بانعزال الوكيل قبل بلوغ الخبر، لم يصح الحكم، لان القضاء للغائب باطل، وإذا أراد شهود كتاب حكمي التخلف في الطريق في موضع فيه قاض وشهود، فصاحب الكتاب إما أن يشهد على كل واحد منهم شاهدين يحضران معه ويشهدان عند القاضي الذي يقصده، وإما أن يعرض الكتاب على قاضي البلد الذي بتخلفون فيه، ليشهدوا عنده به، فيضمنه، ويكتب به إلى القاضي الذي يقصده. وإن كان التخلف حيث لا قاض ولا شهود، قال البغوي: ليس لهم ذلك، بل عليهم الخروج إلى موضع فيه قاض وشهود، فإن طلبوا أجرة الخروج إليه، فليس لهم إلا نفقتهم، وكذا دوابهم بخلاف ما لو طلبوا أكثر من ذلك عند ابتداء الخروج من بلد القاضي الكاتب، حيث لا يكلفون الخروج،

(8/179)


والقناعة به، لان هناك يتمكن من إشهاد غيرهم، وإذا ألزم المكتوب إليه الخصم بالحق، فطلب أن يكتب له كتابا بقبضه، فهل على القاضي إجابته ؟ وجهان، قال الاصطخري: نعم، لئلا يطالب مرة أخرى، وقال الجمهور: لا، لان الحاكم إنما يطالب بإلزام ما حكم به، وثبت عنده، ويكفي للاحتياط إشهاد المدعي على قبضه الحق. ولو طالبه بتسليم الكتاب الذي ثبت الحق به، لم يلزمه دفعه إليه، وكذا من له كتاب بدين، واستوفاه، أو بعقار فباعه، لا يلزمه دفعه إلى المستوفى منه، وإلى المشتري، لانه ملكه، ولانه قد يظهر استحقاق فيحتاج إليه، وبالله التوفيق.

(8/180)