روضة الطالبين وعمدة المفتين ط العلمية

روضة الطالبين - كتاب الشهادات
فيه ستة أبواب :
الأول : فيما يفيد أهلية الشهادة، ولها شروط، منها التكليف والحرية والاسلام، فلا تقبل شهادة صبي ولا مجنون، ولا من فيه رق، ولا كافر ما، سواء شهد على مسلم أو كافر. الشرط الرابع العدالة. فالمعاصي صغائر وكبائر، وقال الاستاذ أبو إسحق: ليس فيها صغيرة، والصحيح الاول، وفي حد الكبيرة أوجه أحدها: أنها المعصية الموجبة لحد، والثاني: أنها ما لحق صاحبها وعيد شديد بنص كتاب أو سنة، وهذا أكثر ما يوجد لهم، وهم إلى ترجيح الاول أميل، لكن الثاني أوفق لما ذكروه عند تفصيل الكبائر، والثالث ما قاله

(8/199)


الامام في الارشاد وغيره: كل جريمة تؤذن بقلة اكتراث مرتكبها بالدين ورقة الديانة، فهي مبطلة للعدالة. والرابع قال أبو سعد الهروي: الكبيرة كل فعل نص الكتاب على تحريمه، أو وجب في جنسه حد من قتل أو غيره، وترك فريضة تجب على الفور، والكذب في الشهادة والرواية واليمين، هذا ما ذكروه على سبيل الضبط. وفصله جماعة، فعدوا من الكبائر القتل والزنى واللواط، وشرب قليل الخمر، والسرقة، والقذف، وشهادة الزور، وغصب المال، وشرط الهروي في المغصوب كونه نصابا، والفرار من الزحف، وأكل الربا ومال اليتيم، وعقوق الوالدين، والكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمدا، وكتمان الشهادة بلا عذر. وأضاف إليها صاحب العدة الافطار في رمضان بلا عذر، واليمين الفاجرة، وقطع الرحم، والخيانة في كيل أو وزن، وتقديم الصلاة على وقتها، أو تأخيرها عنه بلا عذر، وضرب مسلم بلا حق، وسب الصحابة رضي الله عنهم، وأخذ الرشوة، والدياثة والقيادة من الرجل والمرأة، والسعاية عند السلطان، ومنع الزكاة، وترك الامر بالمعروف، والنهي عن المنكر مع القدرة، ونسيان القرآن، وإحراق الحيوان، وامتناعها من زوجها بلا سبب، واليأس من رحمة الله والامن من مكر الله تعالى، ويقال: الوقيعة في أهل العلم وحملة القرآن. ومما عد من الكبائر الظهار، وأكل لحم الخنزير والميتة بلا عذر، وللتوقف مجال في بعض هذه الخصال، كقطع الرحم، وترك الامر بالمعروف على إطلاقهما، ونسيان القرآن، وإحراق مطلق الحيوان. وقد أشار الغزالي في الاحياء إلى مثل هذا التوقف، وفي التهذيب وجه أن ترك صلاة واحدة ليس كبيرة، ولا ترد به شهادة حتى يعتاده.

(8/200)


قلت: قد روى أبو داود والترمذي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: عرضت علي ذنوب أمتي، فلم أر ذنبا أعظم من سورة من القرآن أو آية أقرئها رجل، ثم نسيها لكن في إسناده ضعف، وتكلم فيه الترمذي. ومن الكبائر السحر ثبت في صحيح مسلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جعله من السبع الموبقات ونقل المحاملي في كتاب الحيض من مجموعة أن الشافعي رحمه الله تعالى قال: الوطئ في الحيض كبيرة، وفي صحيح البخاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل النميمة كبيرة. والله أعلم. قال صاحب العدة: ومن الصغائر النظر إلى ما لا يجوز، والغيبة،

(8/201)


والكذب الذي لا حد فيه ولا ضرر، والاشراف على بيوت الناس، وهجرة المسلم فوق ثلاث، وكثرة الخصومات وإن كان محقا، والسكوت على الغيبة والنياحة والصياح وشق الجيب في المصيبة، والتبختر في المشي، والجلوس مع الفساق إيناسا لهم، والصلاة المنهي عنها في أوقات النهي، والبيع والشراء في المسجد، وإدخال الصبيان والمجانين والنجاسات إليه، وإمامة قوم يكرهونه لعيب فيه، والعبث في الصلاة، والضحك فيها، وتخطي رقاب الناس يوم الجمعة، والكلام والامام يخطب، والتغوط مستقبل القبلة، وفي طريق المسلمين، وكشف العورة في الحمام، ولك أن تقول: وكثرة خصومات المحق ينبغي أن لا تكون معصية إذا راعى حد الشرع. وتخطي الرقاب، فإنه معدود من المكروهات لا محرم وكذا الكلام والامام يخطب على الاظهر. قلت: المختار أن تخطي الرقاب حرام للاحاديث فيه، والصواب في الخصومات ما قاله الرافعي، وأن البيع والشراء في المسجد وإدخاله الصبيان إذا لم يغلب تنجيسهم إياه، والعبث في الصلاة من المكروهات مشهور في كتب الاصحاب، وفي كون الصلاة في وقت النهي مكروهة أو محرمة خلاف سبق. ومن الصغائر القبلة للصائم الذي يحرك الشهوة، والوصال في الصوم على الاصح، والاستمناء وكذا مباشرة الاجنبية بغير جماع، ووطئ الزوجة المظاهر منها قبل التكفير والرجعية، والخلوة بالاجنبية، ومسافرة المرأة بغير زوج ولا محرم، ولا نسوة ثقات، والنجش والاحتكار، والبيع على بيع أخيه، وكذا السوم والخطبة، وبيع الحاضر للبادي، وتلقي الركبان، والتصرية، وبيع المعيب من غير بيانه، واتخاذ الكلب الذي لا يحل اقتناؤه، وإمساك الخمر غير المحترمة، وبيع العبد المسلم لكافر، وكذا المصحف وسائر كتب العلم، واستعمال النجاسة في البدن بغير حاجة، وكشف العورة في الخلوة لغير حاجة على الاصح، وأشباه هذه. والله أعلم. إذا تقرر هذا فقال الاصحاب: يشترط في العدالة اجتناب الكبائر، فمن ارتكب كبيرة واحدة، فسق، وردت شهادته، وأما الصغائر، فلا يشترط اجتنابها

(8/202)


بالكلية، لكن يشترط أن لا يصر عليها، فإن أصر كان الاصرار كارتكاب كبيرة، وهل الاصرار السالب للعدالة المداومة على نوع من الصغائر، أم الاكثار من الصغائر، سواء كان من نوع أو أنواع ؟ فيه وجهان، ويوافق الثاني قول الجمهور أن من غلبت طاعته معاصيه، كان عدلا، وعكسه فاسق، ولفظ الشافعي رحمه الله في المختصر يوافقه، فعلى هذا لا تضر المداومة على نوع من الصغائر إذا غلبت الطاعات، وعلى الاول يضر. فرع اللعب بالشطرنج مكروه، وقيل: مباح لا كراهة فيه، ومال الحليمي إلى تحريمه، واختاره الروياني، والصحيح الاول، فإن اقترن به قمار أو فحش أو إخراج صلاة عن وقتها عمدا، ردت شهادته بذلك المقارن وإنما يكون قمارا إذا شرط المال من الجانبين، فإن أخرج أحدهما ليبذله إن غلب، ويمسكه إن غلب، فليس بقمار، ولا ترد به شهادة، لكنه عقد مسابقة على غير آلة قتال، فلا يصح. ولو لم تخرج الصلاة عن الوقت عمدا، لكن شغله اللعب به حتى خرج وهو غافل، فإن لم يتكرر ذلك منه، لم ترد شهادته، وإن كثر منه فسق وردت شهادته بخلاف ما إذا تركها ناسيا مرارا، لانه هنا شغل نفسه بما فاتت به الصلاة هكذا ذكروه، وفيه إشكال لما فيه من تعصية الغافل اللاهي، ثم قياسه الطرد في شغل النفس بغيره من المباحات، وأشار الروياني إلى وجه أنه يفسق وإن لم يتكرر، وفي المهذب اشتراط التكرر في إخراجها عن الوقت وإن كان عالما وهو خلاف ما سبق أن إخراج الفريضة عن الوقت عمدا كبيرة، وأما اللعب بالنرد ففي وجه مكروه

(8/203)


والصحيح تحريمه، فعلى هذا قال الشيخ أبو محمد: هو صغيرة، قال الامام: والصحيح أنه من الكبائر، قال في الام وأكره اللعب بالحزة والقرق، فالحزة: قطع خشب يحفر فيها حفر في ثلاثة أسطر يجعل فيها حصى صغار يلعب بها وقد تسمى الاربعة عشر، والقرق: أن يخط في الارض خط مربع، ويجعل في وسطه خطان كالصليب، ويجعل على رؤوس الخطوط حصى صغار يلعب بها. وهذه اللفظة رأيتها بخط الروياني بفتح القاف والراء، وضبطها بعضهم بكسر القاف وإسكان الراء، قال في الشامل اللعب بهما كالنرد وفي تعليق الشيخ أبي حامد أنه كالشطرنج. فرع إتخاذ الحمام للفرخ والبيض، أو الانس، أو حمل الكتب جائز بلا كراهة، وأما اللعب بها بالتطيير والمسابقة، فقيل: لا يكره، والصحيح أنه مكروه، ولا ترد الشهادة بمجرده، فإن انضم إليه قمار ونحوه ردت. فرع غناء الانسان قد يقع بمجرد صوته، وقد يقع بآلة، أما القسم الاول فمكروه وسماعه مكروه، وليسا محرمين، فإن كان سماعه من أجنبية فأشد كراهة، وحكى القاضي أبو الطيب تحريمه وهذا هو الخلاف الذي سبق في أن صوتها هل

(8/204)


هو عورة، فإن كان في السماع منها خوف فتنة، فحرام بلا خلاف، وكذا السماع من صبي يخاف منه الفتنة، وحكى أبو الفرج الزاز وجها أنه يحرم كثير السماع دون قليله، ووجه أنه يحرم مطلقا، والصحيح الاول، وهو المعروف للاصحاب. وأما الحداء، وسماعه، فمباحان، وأما تحسين الصوت بقراءة القرآن، فمسنون، وأما القراءة بالالحان، فقال في المختصر: لا بأس بها وعن رواية الربيع بن سليمان الجيزي أنها مكروهة، قال جمهور الاصحاب: ليست على قولين، بل المكروه أن يفرط في المد وفي إشباع الحركات حتى تتولد من الفتحة ألف، ومن الضم واو، ومن الكسرة ياء، أو يدغم في غير موضع الادغام، فإن لم ينته إلى هذا الحد، فلا كراهة، وفي أمالي السرخسي وجه أنه لا يكره وإن أفرط. قلت: الصحيح أنه إذا أفرط على الوجه المذكور، فهو حرام، صرح به صاحب الحاوي فقال: هو حرام يفسق به القارئ، ويأثم المستمع، لانه عدل به عن لهجة التقويم، وهذا مراد الشافعي بالكراهة. ويسن ترتيل القراءة وتدبرها، والبكاء عندها، وطلب القراءة من حسن الصوت، والجلوس في حلق القراءة ولا بأس بترديد الآية للتدبر، ولا باجتماع الجماعة في القراءة، ولا بإدارتها وهو أن يقرأ بعض الجماعة قطعة، ثم البعض قطعة بعدها، وقد أوضحت هذا كله وما يتعلق به من النفائس في آداب حملة القرآن. والله أعلم. القسم الثاني: أن يغني ببعض آلات الغناء مما هو من شعار شاربي الخمر وهو مطرب كالطنبور والعود والصنج وسائر المعازف والاوتار يحرم استعماله واستماعه وفي اليراع وجهان صحح البغوي التحريم والغزالي الجواز، وهو الاقرب، وليس المراد من اليراع كل قصب بل المزمار العراقي وما يضرب به الاوتار حرام بلا خلاف.

(8/205)


قلت: الاصح أو الصحيح تحريم اليراع، وهو هذه الزمارة التي يقال لها الشبابة وقد صنف الامام أبو القاسم الدولعي كتابا في تحريم اليراع مشتملا على نفائس، وأطنب في دلائل تحريمه. والله أعلم. أما الدف، فضربه مباح في العرس والختان، وأما في غيرهما، فأطلق صاحب المهذب والبغوي وغيرهما تحريمه، وقال الامام والغزالي: حلال: وحيث أبحناه هو فيما إذا لم يكن فيه جلاجل، فإن كان، فالاصح حله أيضا. ولا يحرم ضرب الطبول إلا الكوبة، وهو طبل طويل متسع الطرفين ضيق الوسط، وهو الذي يعتاد ضربه المخنثون، والطبول التي تهيأ لملاعب الصبيان إن لم تلحق بالطبول الكبار، فهي كالدف، وليست كالكوبة بحال، والضرب بالصفاقتين حرام، كذا ذكره الشيخ أبو محمد وغيره، لانه من عادة المخنثين، وتوقف فيه الامام، لانه لم يرد فيه خبر بخلاف الكوبة. وفي تحريم الضرب بالقضيب على الوسائد وجهان، قطع العراقيون بأن مكروه لا حرام، والرقص ليس بحرام، قال الحليمي: لكن الرقص الذي فيه تثن وتكسر يشبه أفعال المخنثين حرام على الرجال والنساء. فرع إنشاء الشعر وإنشاده واستماعه جائز، فلو هجا الشاعر في شعره ولو بما هو صادق فيه ردت شهادته، وليس إثم حاكي الهجو كإثم منشئه، ويشبه أن يكون التعريض هجوا كالتصريح، وقال ابن كج: ليس التعريض هجوا، وترد شهادة الشاعر إذا كان يفحش ويشب بامرأة بعينها، أو يصف أعضاء باطنة، فإن

(8/206)


شبب بجاريته أو زوجته، فوجهان، أحدهما: يجوز ولا ترد شهادته، وهذا القائل يقول: إذا لم تكن المرأة معينة، لا ترد شهادته لاحتمال أنه يريد من تحل له، والصحيح أن ترد شهادته إذا ذكر جاريته أو زوجته بما حقه الاخفاء، لسقوط مروءته. ولو كان يشبب بغلام، ويذكر أنه يعشقه، قال الروياني: يفسق وإن لم يعينه، لان النظر إلى الذكور بالشهوة حرام بكل حال. وفي التهذيب وغيره اعتبار التعيين في الغلام كالمرأة. وإن كان يمدح الناس ويطري، نظر إن أمكن حمله على ضرب مبالغة، جاز، وإن لم يكن حمله على المبالغة وكان كذبا محضا، فالصحيح الذي عليه الجمهور وهو ظاهر نصه أنه كسائر أنواع الكذب، فترد شهادته إن كثر منه، وقال القفال، والصيدلاني: لا يلحق بالكذب، لان الكاذب يوهم الكذب صدقا بخلاف الشاعر، فعلى هذا لا فرق بين قليله وكثيره، وهذا حسن بالغ، وينبغي أن يقال على قياسه: إن التشبيب بالنساء والغلمان بغير تعيين لا يخل بالعدالة وإن كثر منه، لان التشبيب صنعة، وغرض الشاعر تحسين الكلام لا تحقيق المذكور، وكذلك ينبغي أن يكون الحكم لو سمى امرأة لا يدري من هي. فرع ما حكمنا بإباحته في هذه الصورة قد يقتضي الاكثار منه رد الشهادة، لكونه خارما للمروءة فمن داوم على اللعب بالشطرنج والحمام، ردت شهادته وإن لم يقترن به ما يوجب التحريم، لما فيه من ترك المروءة، وكذا من داوم على الغناء أو سماعه وكان يأتي الناس ويأتونه، أو اتخذ جارية أو غلاما ليتغنيا للناس، وكذا المداومة على الرقص، وضرب الدف، وكذا إنشاد الشعر، واستنشاده إذا أكثر منه، فترك به مهماته، كان خارما للمروءة، ذكره الامام، قال: وكذا لو كان الشاعر يكتسب بشعره. والمرجع في المداومة والاكثار إلى العادة، ويختلف الامر فيه بعادات النواحي والبلاد، ويستقبح من شخص قدر لا يستقبح من غيره، وللامكنة فيه أيضا تأثير، فاللعب بالشطرنج في الخلوة مرارا لا يكون كاللعب به في سوق مرة على ملا من الناس، وهل يقال على هذا: لما استمرت العادة أن الشاعر يكتسب بشعره وعد صنعة الغناء حرفة ومكسبا، فالاشتغال به ممن يليق بحاله، لا يكون تركا للمروءة ؟ وكلام الاصحاب محمول على ما لا يليق به، وقد رأيت ما ذكرته في الشاعر يكتسب بشعره لابن القاص.

(8/207)


فرع ما حكمنا بتحريمه في هذه المسائل، كالنرد وسماع الاوتار، ولبس الحرير، والجلوس عليه ونحوها، هل هو من الكبائر فترد الشهادة بمرة أم من الصغائر، فيعتبر المداومة والاكثار ؟ وجهان يميل كلام الامام إلى أولهما، والاصح الثاني، وهو المذكور في التهذيب وغيره، وزاد الامام، فقال: ينظر إلى عادة البلد والقطر، فحيث يستعظمون النرد وسماع الاوتار ترد الشهادة بمرة واحدة، لان الاقدام في مثل تلك الناحية لا يكون إلا من جسور منحل عن ربقة المروءة، فتسقط الثقة بقوله، وحيث لا يستعظمونه لا يكون مطلق الاقدام مشعرا بترك المبالاة، وسقوط المروءة، وحينئذ يقع النظر في أنه صغيرة أم كبيرة. فرع الخمر العينية لم يشبها ماء ولا طبخت بنار محرمة بالاجماع، ومن شربها عامدا عالما بحالها، حد وردت شهادته، سواء شرب قدرا يسكره أم لا، قال أصحابنا العراقيون: وكذا حكم بائعها ومشتريها في رد شهادتهما، ولا ترد الشهادة بإمساكها، لانه قد يجوز أن يقصد به التخلل أو التخليل، وأما المطبوخ من عصير العنب المختلف في تحريمه، وسائر الانبذة، فإن شرب منها القدر المسكر، حد وردت شهادته، وإن شرب قليلا وهو يعتقد إباحته كالحنفي، ففيه أوجه، الاصح المنصوص: يحد، ولا ترد شهادته، والثاني: ترد ويحد، والثالث: لا ترد ولا يحد، واحتج الاصحاب للاصح بأن الحد إلى الامام، فاعتبر اعتقاده، والشهادة تعتمد اعتقاد الشاهد، ولهذا لو غصب جارية ووطئها معتقدا أنه يزني بها، فبان أنها ملكه، فسق وردت شهادته، ولو وطئ جارية غيره يعتقدها جاريته، لم ترد شهادته، ولان الحد للزجر، والنبيذ يحتاج إلى زجر، ورد الشهادة لسقوط الثقة بقوله، ولا يوجد ذلك إذا لم يعتقد التحريم، وأما إذا شربه من يعتقد تحريمه، فالمذهب أنه يحد، وترد شهادته، وعن القفال أن من نكح بلا ولي ووطئ، لا ترد شهادته إن اعتقد الحل، وترد إن اعتقد التحريم، وعلى هذا قياس سائر المجتهدات، ولكن عن نص الشافعي رحمه الله أنه لا ترد شهادة مستحل نكاح المتعة والمفتي به والعامل به ونقل القاضي أبو الفياض مثله.

(8/208)


قلت: قال ابن الصباغ: قال في الام إذا أخذ من النثار في الفرح لا ترد شهادته، لان من الناس من يحل ذلك، وأنا أكرهه. قال في الام: ومن ثبت أنه يحضر الدعوة بغير دعاء من غير ضرورة، ولا يستحل صاحب الطعا، وتكرر ذلك منه، ردت شهادته، لانه يأكل محرما إذا كانت الدعوة دعوة رجل من الرعية، وإن كانت دعوة سلطان، أو من يتشبه بالسلطان فهذا طعام عام، فلا تأثير به. قال ابن الصباغ: وإنما اشترط تكرر ذلك، لانه قد يكون له شبهة حتى يمنعه صاحب الطعام، فإذا تكرر، صار دناءة، وقلة مروءة. والله أعلم. الشرط الخامس: المروءة، وهي التوقي عن الادناس، فلا تقبل شهادة من لا مروءة له، فمن ترك المروءة لبس ما لا يليق بأمثاله بأن لبس الفقيه القباء والقلنسوة ويتردد فيهما في بلد لم تجر عادة الفقهاء بلبسهما فيه، أو لبس التاجر ثوب الجمال، أو تعمم الجمال وتطلس، وركب بغلة مثمنة، وطاف في السوق، واتخذ نفسه ضحكة، ومنه المشي في السوق مكشوف الرأس والبدن إذا لم يكن الشخص سوقيا ممن يليق به مثله، وكذا مد الرجل بين الناس، والاكل في السوق والشرب من سقاياتها إلا أن يكون الشخص سوقيا، أو شرب لغلبة عطش، ومنه أن يقبل امرأته أو جاريته بحضرة الناس، أو يحكي ما يجري بينهما في الخلوة، أو يكثر من الحكايات المضحكة، أو يخرج عن حسن العشرة مع الاهل والجيران والمعاملين، ويضايق في اليسير الذي لا يستقصى فيه، ومنه الاكثار على اللعب بالشطرنج والحمام والغناء على ما سبق، ومنه أن يتبذل الرجل المعتبر نفسه بنقل الماء والاطعمة إلى بيته إذا كان ذلك عن شح، فإن فعله استكانة، واقتداء بالسلف التاركين للتكلف، لم تقدح ذلك في المروءة، وكذا لو كان يلبس ما يجد ويأكل حيث يجد

(8/209)


لتقلله وبراءته من التكلف المعتاد، وهذا يعرف بتناسب حال الشخص في الاعمال والاخلاق، وظهور مخايل الصدق فيما يبديه، وقد يؤثر فيه الزي واللبسة. وفي قبول شهادة أهل الحرف الدنيئة كحجام وكناس ودباغ وقيم حمام وحارس ونخال وإسكاف وقصاب ونحوهم وجهان، أصحهما: القبول، وفي الحائك الوجهان، وقيل: يقبل قطعا وقيل: يقبل من لا يحتاج إلى مباشرة نجاسة أو قذر كالحائك والنخال والحارس دون غيرهم، وفي الصباغ والصائغ طريقان، أحدهما: طرد الوجهين، والمذهب القبول قطعا، لكن من أكثر منهم، ومن سائر المحترفة كذبا وخلفا في الوعد، ردت شهادته، ولذلك قال الغزالي: الوجهان في أصحاب الحرف هما فيمن يليق به، وكان ذلك صنعة آبائه، فأما غيره، فتسقط مروءته بها، وهذا حسن، ومقتضاه أن يقال: الاسكاف والقصاب إذا اشتغلا بالكنس، بطلت مروءتهما بخلاف العكس. قلت: لم يتعرض الجمهور لهذا القيد، وينبغي أن لا يقيد بصنعة آبائه، بل ينظر هل يليق به هو أم لا. والله أعلم. ثم الذين يباشرون النجاسة إنما يجري فيهم الخلاف إذا حافظوا على الصلوات في أوقاتها، واتخذوا لها ثيابا طاهرة، وإلا فترد شهادتهم بالفسق. فرع من ترك السنن الراتبة، وتسبيحات الركوع والسجود أحيانا، لا ترد شهادته، ومن اعتاد تركها، ردت شهادته لتهاونه بالدين وإشعار هذا بقلة مبالاته بالمهمات، وحكى أبو الفرج في غير الوتر وركعتي الفجر وجهان أنه لا ترد شهادته باعتياد تركها. فرع نص أن مستحل الانبذة إن أدام المنادمة عليها، والحضور مع أهل السفه، ردت شهادته لطرحه المروءة، وتقبل شهادة الطوافين على الابواب، وسائر السؤال إلا أن يكثر الكذب في دعوى الحاجة وهو غير محتاج، أو يأخذ ما لا يحل له أخذه، فيفسق. ومقتضى الوجه الذاهب إلى رد شهادة أصحاب الحرف رد شهادته لدلالته على خسته.

(8/210)


الشرط السادس الانفكاك عن التهمة، وللتهمة أسباب، الاول أن يجر بشهادته إلى نفسه نفعا، أو يدفع بها ضرا، فلا تقبل شهادة السيد لعبده المأذون له، ولا لمكاتبه بدين ولا عين، ولا شهادة الوارث لمورثه، ولا الغريم للميت، والمفلس المحجور عليه، وتقبل شهادته لغريمه الموسر، وكذا المعسر قبل الحجر عليه على الاصح، ولا تقبل شهادة الضامن للمضمون عنه بالاداء، ولا الابراء، ولا الوكيل لموكله فيما هو وكيل فيه، ولا الوصي والقيم في محل تصرفهما، ولا الشريك لشريكه فيما هو شريك فيه، بأن يقول: هذه الدار بيننا، ويجوز أن يشهد بالنصف لشريكه، ولا تقبل شهادته لشريكه ببيع الشقص، ولا للمشتري من شريكه، لانها تتضمن إثبات الشفعة لنفسه، فإن لم يكن فيه شفعة بأن كان مما لا ينقسم، قال الشيخ أبو حامد: تقبل، وكذا لو عفا عن الشفعة، ثم شهد، ولو شهد أن زيدا جرح مورثه، لم يقبل للتهمة. ولو شهد بمال آخر لمورثه المجروح، أو المريض إن يشهد بعد الاندمال، قبلت قطعا، وكذا قبله على الاصح. فرع ذكر القاضي أبو سعد الهروي في شرح أدب القضاء لابي عاصم العبادي رحمه الله أنه لا تقبل شهادة المودع للمودع إذا نازعه في الوديعة أجنبي، لانه يستديم اليد لنفسه، ويقبل للاجنبي، وكذا شهادة المرتهن لا يقبل للراهن، ويقبل للاجنبي، وإن شهادة الغاصب على المغصوب منه بالعين لاجنبي لا تقبل لفسقه، ولتهمته بدفع الضمان، ومؤنة لرد، فإن شهد بعد الرد، قبلت شهادته، وإن شهد بعد التلف، لم تقبل، لانه يدفع الضمان، وإن شهادة المشتري شراء فاسدا بعد القبض لا تقبل للاجنبي لما ذكرنا، وإن شهادة المشتري شراء صحيحا بعد الاقالة، والرد بالعيب، لا تقبل للبائع، لانه يستبقي لنفسه الغلات، وإن كان المدعي يدعي الملك من تاريخ متقدم على البيع. ولو شهد بعد الفسخ بخيار الشرط أو المجلس، فوجهان بناء على أنه يرفع العقد من أصله، وترجع الفوائد إلى البائع أم حينه

(8/211)


ولا يرجع، وأنه لو كان لميت دين على شخص، فشهد أجنبيان لرجل بأنه أخو الميت، ثم شهد الغريمان لآخر بأنه ابنه، لم تقبل شهادة الغريمين، لانهما ينقلان ما عليهما للاخ إلى الآخر بخلاف ما لو تقدمت شهادة الغريمين، وأنه لا تقبل شهادة الوارثين على موت المورث، ولا شهادة الموصى لهما على الموصى، وتقبل شهادة الغريمين على موت من له الدين، لانهما لا ينتفعان بهذه الشهادة، ولا ينظر إلى نقل الحق من شخص إلى شخص، لان الوارث خليفة المورث، فكأنه هو، ولو شهد شهود بقتل الخطإ، فشهد اثنان من العاقلة بفسق شهود القتل، لم تقبل شهادتهما، لانهما يدفعان ضرر التحمل. ولو شهد اثنان على مفلس بدين، فشهد غرماؤه الآخرون بفسقهما، لم تقبل شهادتهم، لانهم يدفعون عنه ضرر المزاحمة. ولو شهد اثنان لاثنين بوصية من تركة، فشهد المشهود لهما للشاهدين بوصية للشاهدين، فوجهان، أحدهما: لا تقبل الاربعة، لتهمة المواطأة، بوصية للشاهدين، فوجهان، أحدهما لا تقبل الاربعة، لتهمة المواطأة، والصحيح قبول الشهادتين، لانفصال كل شهادة عن الاخرى، ولا يجر بشهادته نفعا، ولهذا قلنا: تقبل شهادة بعض القافلة لبعض في قطع الطريق إذا قال كل واحد منهم: أخذ مالي فلان، ولم يقل: أخذ مالنا. السبب الثاني: البعضية، فلا تقبل شهادة أصل ولا فرع. وروى ابن القاص قولا قديما أنها تقبل، واختاره المزني، وابن المنذر، والمشهور الاول، ولا تقبل لمكاتب ولده أو والده، وما دونهما. ولو شهد اثنان أن أباهما قذف ضرة أمهما أو طلقها أو خالعها، ففي قبول شهادتهما قولان، الجديد الاظهر: القبول. ولو ادعت الطلاق، فشهد لها ابناها، لم يقبل، ولو شهدا حسبة ابتداء، قبلت، وكذا في الرضاع، ولو شهد الاب مع ثلاثة على زوجة ابنه بالزنى، فإن سبق من الابن قذف، فطولب بالحد، فحاول إقامة البينة لدفعه، لم يقبل، وإن لم يقذف أو لم يطالب بالحد، وشهد الاب حسبة، قبلت شهادته. فرع في يد زيد عبد ادعى شخص أنه اشتراه من عمرو بعدما اشتراه عمرو من زيد صاحب اليد وقبضه، وطالبه بالتسليم فأنكر زيد جميع ذلك، فشهد ابناه للمدعي بما يقوله، فقولان حكاهما أبو سعد الهروي، أحدهما: لا يقبل لتضمنها إثبات الملك لابيهما، وأظهرهما القبول، لان المقصود بالشهادة في الحال المدعى وهو أجنبي.

(8/212)


فرع تقبل شهادة الوالد على الولد، وعكسه، سواء شهد بمال أو عقوبة، وقيل: لا تقبل شهادته على الوالد بقصاص أو حد قذف، والصحيح الاول، ومن شهد لولد، أو والد وأجنبي، قبلت للاجنبي في الاصح أو الاظهر. فرع في حبس الوالدين بدين الولد أوجه، الاصح المنع قال الامام: وإليه صار معظم أئمتنا، والثالث: يحبس في نفقة ولده، ولا يحبس في ديونه، حكاه الامام، واختاره ابن القاص، وقد سبق الوجهان في كتاب التفليس. فرع تقبل شهادة أحد الزوجين للآخر على الاظهر، وقيل قطعا، وفي قول لا، وفي قول شهادة الزوج لها دون عكسه. وتقبل شهادة أحدهما على الآخر إلا أنه لا يقبل شهادته عليها بزنى، لانه دعوى خيانتها فراشه. السبب الثالث: العداوة، فلا تقبل شهادة عدو على عدوه، والعداوة التي ترد بها الشهادة أن تبلغ حدا يتمنى زوال نعمته، ويفرح لمصيبته، ويحزن لمسرته، وذلك قد يكون من الجانبين، وقد يكون من أحدهما، فيخص برد شهادته على الآخر. وإن أفضت الشهادة إلى ارتكاب ما يفسق به، ردت شهادته على الاطلاق. ولو عادى من يريد أن يشهد عليه، وبالغ في خصومته، فلم يجبه، وسكت عنه، ثم شهد عليه، قبلت شهادته، لانا لو لم نقبلها لاتخذ الخصوم ذلك ذريعة إلى إسقاط الشهادة. هكذا حكاه الروياني عن القفال، وذكره جماعة، منهم البغوي في كتاب اللعان أن شهادة المقذوف على قاذفه قبل طلب الحد مقبولة، وبعده لا تقبل، لظهور العداوة، وأنه لو شهد بعد الطلب، ثم عفا وأعاد تلك الشهادة، لم تقبل كالفاسق إذا شهد، ثم تاب وأعاد تلك الشهاد، وأنه لو شهد قبل الطلب، ثم طلب قبل الحكم، لم يحكم بشهادته، كما لو فسق الشاهد قبل الحكم، لكن في تعليق الشيخ أبي حامد وغيره أن الشافعي رحمه الله صور العداوة الموجبة للرد فيما إذا قذف رجل رجلا، أو ادعى عليه أنه قطع الطريق عليه، وأخذ ماله، فيقال: يصيران عدوين، فلا تقبل شهادة أحدهما على الآخر، فاكتفى بالقذف دليلا على العداوة،

(8/213)


ولم يتعرض لطلب الحد، قال الروياني: لعل القفال أراد غير صورة القذف، ثم على ما ذكره البغوي الحكم غير منوط بأن يطلب المقذوف الحد، بل بأن يظهر العداوة، ولا شك أنه لو شهد على رجل، فقذفه المشهود عليه، لم يمنع ذلك من الحكم بشهادته، نص عليه. فرع العداوات الدينية لا توجب رد الشهادة، بل يقبل للمسلم على الكافر والسني على المبتدع، وكذا من أبغض الفاسق لفسقه لا ترد شهادته عليه. ولو قال عالم ناقد: لا تسمعوا الحديث من فلان، فإنه مخلط، أو لا تستفتوه، فإنه لا يعرف الفتوى، لم ترد شهادته، لان هذا نصيحة للناس، نص عليه. فرع تقبل شهادة العدو لعدوه إذ لا تهمة. فرع العصبية أن يبغض الرجل لكونه من بني فلان، فإن انضم إليها دعاء الناس، وتآلفهم للاضرار به والوقيعة فيه، اقتضى رد شهادته عليه، ومجرد هذا لا يقتضيه، وليس من العصبية أن يحب الرجل قومه وعترته، فتقبل شهادته لهم، وشهادتهم له، وتقبل شهادته لصديقه وأخيه وإن كان يصله ويبره. فرع في شهادة المبتدع. جمهور الفقهاء من أصحابنا وغيرهم لا يكفرون أحدا من أهل القبلة، لكن اشتهر عن الشافعي رضي الله عنه تكفير الذين ينفون علم الله تعالى بالمعدوم، ويقولون: ما يعلم الاشياء حتى يخلقها، ونقل العراقيون عنه تكفير الناهين للرؤية والقائلين بخلق القرآن، وتأوله الامام، فقال: ظني أنه ناظر بعضهم، فألزم الكفر في الحجاج، فقيل: إنه كفرهم. قلت: أما تكفير منكري العلم بالمعدوم أو بالجزئيات، فلا شك فيه، وأما من نفى الرؤية أو قال بخلق القرآن، فالمختار تأويله، وسننقل إن شاء الله تعالى عن نصه في الام ما يؤيده، وهذا التأويل الذي ذكره الامام حسن، وقد تأوله الامام الحافظ الفقيه الاصولي أبو بكر البيهقي رضي الله عنه وآخرون تأويلات متعارضة، على أنه ليس المراد بالكفر الاخراج من الملة، وتحتم الخلود في النار. وهكذا تأولوا ما جاء عن جماعة من السلف من إطلاق هذا اللفظ، واستدلوا بأنهم لم

(8/214)


يلحقوهم بالكفار في الارث والانكحة، ووجوب قتلهم وقتالهم وغير ذلك. والله أعلم. ثم من كفر من أهل البدع لا تقبل شهادته، وأما من لا يكفره من أهل البدع والاهواء، فقد نص الشافعي رحمه الله في الام و المختصر على قبول شهادتهم إلا الخطابية وهم قوم يرون جواز شهادة أحدهم لصاحبه إذا سمعه يقول: لي على فلان كذا، فيصدقه بيمين أو غيرها، ويشهد له اعتمادا على أنه لا يكذب هذا نصه. وللاصحاب فيه ثلاث فرق: فرقة جرت على ظاهر نصه، وقبلت شهادة جميعهم، وهذه طريقة الجمهور، منهم ابن القاص، وابن أبي هريرة، والقضاة ابن كج، وأبو الطيب، والروياني، واستدلوا بأنهم مصيبون في زعمهم ولم يظهر منهم ما يسقط الثقة بقولهم، وقبل هؤلاء شهادة من سب الصحابة والسلف رضي الله عنهم، لانه تقدم عليه عن اعتقاد لاعن عداوة وعناد، قالوا: ولو شهد خطابي وذكر في شهادته ما يقطع احتمال الاعتماد على قول المدعي بأن قال: سمعت فلانا يقر بكذا لفلان، أو رأيته أقرضه، قبلت شهادته. وفرقة منهم الشيخ أبو حامد ومن تابعه حملوا النص على المخالفين في الفروع، وردوا شهادة أهل الاهواء كلهم، وقالوا: هم بالرد أولى من الفسقة. وفرقة ثالثة توسطوا، فردوا شهادة بعضهم دون بعض، فقال أبو إسحق: من أنكر إمامة أبي بكر رضي الله عنه، ردت شهادته لمخالفته الاجماع، ومن فضل عليا على أبي بكر رضي الله عنهما لم ترد شهادته، ورد الشيخ أبو محمد شهادة الذين يسبون الصحابة، ويقذفون عائشة رضي الله عنها، فإنها محصنة كما نطق به القرآن، وعلى هذا جرى الامام والغزالي والبغوي، وهو حسن. وفي الرقم أن شهادة الخوارج مردودة لتكفيرهم أهل القبلة. قلت: الصواب ما قالته الفرقة الاولى وهو قبول شهادة الجميع، فقد قال الشافعي رحمه الله في الام: ذهب الناس في تأويل القرآن والاحاديث إلى أمور تباينوا فيها تباينا شديدا، واستحل بعضهم من بعض ما تطول حكايته، وكان ذلك متقادما، منه ما كان في عهد السلف إلى اليوم، فلم نعلم أحدا من سلف الامة يقتدى به، ولا من بعدهم من التابعين رد شهادة أحد بتأويل، وإن خطأه وضلله،

(8/215)


ورآه استحل ما حرم الله تعالى عليه، فلا ترد شهادة أحد بشئ من التأويل كان له وجه يحتمله، وإن بلغ فيه استحلال المال والدم. هذا نصه بحروفه وفيه التصريح بما ذكرنا، وبيانما ذكرناه في تأويل تكفير القائل بخلق القرآن، ولكن قاذف عائشة رضي الله عنها كافر، فلا تقبل شهادته. ولنا وجه أن الخطابي لا تقبل شهادته وإن بين ما يقطع، لاحتمال اعتماده، وقول صاحبه. والله أعلم. السبب الرابع: الغفلة، وكثرة الغلط، ولا تقبل شهادة المغفل الذي لا يحفظ، ولا يضبط، فإن شهد مفسرا، وبين وقت التحمل ومكانه، فزالت الريبة عن شهادته، قبلت، ولا تقبل شهادة من كثر غلطه ونسيانه، وأما الغلط اليسير، فلا يقدح في الشهادة، لانه لا يسلم منه أحد قال الامام: ومعظم شهادات العوام يشوبها جهل وغرة، فيحوج إلى الاستفصال كما سبق في آداب القضاء. السبب الخامس: أن يدفع بالشهادة عن نفسه عار الكذب، فإن شهد فاسق، ورد القاضي شهادته، ثم تاب بشرط التوبة، فشهادته المستأنفة مقبولة بعد ذلك، ولو أعاد تلك الشهادة التي ردت، لم تقبل، وقال المزني: تقبل. ولو شهد كافر أو عبد أو صبي، فردت شهادته، ثم كمل فأعادها، قبلت، لعدم تهمتهم بدفع العار بخلاف الفاسق، فإن كان يخفي فسقه، والرد يظهره، فيسعى في دفع العار بإعادة الشهادة، فلو كان معلنا بفسقه حين شهد، ففي قبول شهادته المعادة بعد التوبة وجهان، أصحهما عند الاكثرين: لا يقبل أيضا، وإنما يجئ الوجهان إذا أصغى القاضي إلى شهادته مع ظهور فسقه، ثم ردها. وفي الاصغاء وجهان، أصحهما - وبه قال الشيخ أبو محمد، واستحسنه الامام -: لا يصغي، كشهادة العبد والصبي. ولو كان الكافر يستتر بكفره، وردت شهادته، ثم أسلم وأعادها، لم تقبل على الاصح، ولو ردت شهادته لعداوة، فزالت، وأعادها، لم تقبل على الاصح، ويجريان فيما لو شهد لمكاتبه بمال، أو لعبده بنكاح، فردت فأعادها بعد عتقهما، وأجاب ابن القاص هنا بالقبول، ويجريان فيما لو شهد اثنان من الشفعاء بعفو شفيع ثالث قبل عفوهما، فردت شهادتهما، ثم عفوا، وأعاداها، وفيما شهد اثنان لمورثهما بجراحة غير مندملة، فردت، ثم أعادها بعد الاندمال، ولو شهد فرعان

(8/216)


على شهادة أصل، فردت شهادتهما لفسق الاصل، فقد صارت شهادة مردودة. فلو تاب، وشهد بنفسه، وأعاد الفرعان شهادتهما على شهادته، أو شهد على شهادته فرعان آخران، لم تقبل، ولو ردت شهادة الفرعين، لفسقهما، لم تتأثر به شهادة الاصل. السبب السادس: الحرص على الشهادة بالمبادرة: اعلم أن الحقوق ضربان: ضرب لا تجوز المبادرة إلى الشهادة عليه، وضرب يجوز، وتسمى الشهادة على هذا الثاني على وجه المبادرة شهادة حسبة، فحيث لا يجوز، فالمبادر متهم، فلا تقبل شهادته، والمبادرة أن يشهد من غير تقدم دعوى، فإن شهد بعد دعوى قبل أن يستشهد، ردت شهادته أيضا على الاصح للتهمة، وإذا رددناها، ففي مصيره مجروحا وجهان، الاصح لا، وبه قطع أبو عاصم، وظاهر هذا كون الخلاف في سقوط عدالته مطلقا، ويؤيده أن القاضي أبا سعد الهروي، قال: الوجهان مبنيان على أن المبادرة من الصغائر، أم من الكبائر، لكن منهم من يفهم كلامه اختصاص الخلاف برد تلك الشهادة وحدها إذا أعادها، فقد قال البغوي: وإذا قلنا: يصير مجروحا لا يشترط استبراء حاله حتى لو شهد في حادثة أخرى تقبل، فأشعر كلامه باختصار الخلاف. فرع تقبل شهادة من احتبى وجلس في زاوية محتبيا لتحمل الشهادة، ولا تحمل على الحرص، لان الحاجة قد تدعو إليه، وحكى الفوراني قولا قديما أنها لا تقبل، وهو شاذ، قال: وعلى المشهور يستحب أن يخبر الخصم أني شهدت عليك لئلا يبادر إلى تكذيبه، فيعزره القاضي. ولو قال رجلان لثالث: توسط بيننا لنتحاسب ونتصادق، فلا تشهد علينا بما يجري، فهذا شرط باطل، وعليه أن يشهد. الضرب الثاني: ما تقبل فيه شهادة الحسبة، وهو ما تمحض حقا لله تعالى، أو كان له فيه حق متأكد لا يتأثر برضى الآدمي، فمنه الطلاق، وأما الخلع، فأطلق

(8/217)


البغوي المنع فيه، وقال الامام: يقبل في الفراق دون المال، قال: ولا أبعد ثبوته تبعا، ولا إثبات الفراق دون البينونة، ومنه العتق والاستيلاد دون التدبير، ويقبل في العتق بالتدبير، ولا يقبل في الكتابة، فإن أدى النجم الاخير، شهد بالعتق. وفي شراء القريب وجهان، أحدهما: تقبل شهادة الحسبة فيه لحق الله تعالى، وأصحهما لا، لانهم يشهدون بالملك. ومنه العفو عن القصاص، والصحيح قبولها فيه، ومنه الوصية والوقف إذا كانا لجهة عامة، فإن كان لجهة خاصة، فالاصح المنع، ونقله الامام عن الجمهور لتعلقه بحظوظ خاصة، ومنه تحريم الرضاع والنسب وفي النسب وجه، ومنه بقاء العدة وانقضاؤها، وتحريم المصاهرة، وكذا الزكوات والكفارات، والبلوغ والاسلام، والكفر والحدود التي هي حقوق لله تعالى، كالزنى، وقطع الطريق، وكذا السرقة على الصحيح، لكن الافضل في الحدود الستر. ومنه الاحصان والتعديل. وأما ما هو حق آدمي، كالقصاص، وحد القذف والبيوع، والاقارير، فلا تقبل فيه شهادة الحسبة، فإن لم يعلم صاحب الحق بالحق، أخبره الشاهد حتى يدعي ويستشهده فليشهد، وقيل: تقبل شهادة الحسبة في الدماء خاصة، وقيل: تقبل في الاموال أيضا، وقيل: تقبل إن لم يعلم المستحق بالحق، والصحيح المنع مطلقا. فرع ما قبلت فيه شهادة الحسبة هل يسمع فيه دعوى الحسبة ؟ وجهان: أحدهما لا، وبه قطع القفال في الفتاوى، لان الثبوت بالبينة وهي غنية عن الدعوى. وقال القاضي حسين: تسمع، لان البينة قد لا تساعد، وقد يراد استخراج الحق بإقرار المدعى عليه.

(8/218)


فرع شهود الحسبة يجيئون إلى القاضي، ويقولون: نشهد على فلان بكذا، فأحضره لنشهد عليه، فإن ابتدؤوا، وقالوا: فلان زنى فهم قذفة، وفي الفتاوى: أنه لو جاء رجلان، وشهدا بأن فلانا أخو فلانة من الرضاع، لم يكف حتى يقولا: وهو يريد أن ينكحها، وأنه لو شهد اثنان بطلاق، وقضى القاضي بشهادتهما، ثم جاء آخران يشهدان بأخوة بين المتناكحين،، لم تقبل هذه الشهادة، إذ لا فائدة لها في الحال، ولا بكونهما قد يتناكحان بعد، وان الشهادة على أنه أعتق عبده إنما تسمع إذا كان المشهود عليه يسترقه، وهذه الصورة تفهمك أن شهادة الحسبة إنما تسمع عند الحاجة. ولو جاء عبدان لرجل، فقالا: إن سيدنا أعتق أحدنا، وقامت بينة بما يقولان، سمعت، وإن كانت الدعوى فاسدة، لان البينة على العتق مستغنية عن تقدم الدعوى. فصل شهادة الاخرس إن لم يعقل الاشارة مردودة، وكذا إن عقلها على الاصح عند الاكثرين، فعلى هذا يعتبر في الشاهد سوى الشروط الستة كونه ناطقا، وذكر الصيمري أنه لا تقبل شهادة محجور عليه بالسفه، فإن كان كذلك، زاد شرط ثامن. فصل في أمور لا تمنع الشهادة. وفيها خلاف لبعض العلماء. منها شهادة البدوي على القروي وعكسه مقبولة، وكذا شهادة المحدود في القذف وغيره بعد التوبة مقبولة في جنس ما حد وفي غيره، وتقبل شهادة ولد الزنى، ويجوز أن يكون قاضيا. فصل في التوبة. قد سبق أن من لا تقبل شهادته لمعصية تقبل إذا تاب، وظهر إعراضه عما كان عليه، قال الاصحاب: التوبة تنقسم إلى توبة بين العبد وبين الله تعالى، وهي التي يسقط بها الاثم، وإلى توبة في الظاهر، وهي تتعلق بها عود الشهادة والولايات، أما الاولى، فهي أن يندم على فعل، ويترك فعله في الحال،

(8/219)


ويعزم أن لا يعود إليه، ثم إن كانت المعصية لا يتعلق بها حق مالي لله تعالى ولا للعباد، كقبلة الاجنبية ومباشرتها فيما دون الفرج، فلا شئ عليه سوى ذلك، وإن تعلق بها حق مالي، كمنع الزكاة، والغصب، والجنايات في أموال الناس، وجب مع ذلك تبرئة الذمة عنه، بأن يؤدي الزكاة، ويرد أموال الناس إن بقيت، ويغرم بدلها إن لم تبق، أو يستحل المستحق، فيبرئه ويجب أن يعلم المستحق إن لم يعلم به، وأن يوصله إليه إن كان غائبا إن كان غصبه منه هناك، فإن مات، سلمه إلى وارثه، فإن لم يكن له وارث وانقطع خبره، دفعه إلى قاض ترضى سيرته وديانته، فإن تعذر، تصدق به على الفقراء بنية الغرامة له إن وجده، ذكره العبادي في الرقم والغزالي في غير كتبه الفقهية. وإن كان معسرا، نوى الغرامة إذا قدر، فإن مات قبل القدرة، فالمرجو من فضل الله تعالى المغفرة. قلت: ظواهر السنن الصحيحة تقتضي ثبوت المطالبة بالظلامة وإن مات معسرا عاجزا إذا كان عاصيا بالتزامها، فأما إذا استدان في مواضع يباح له الاستدانة، واستمر عجزه عن الوفاء حتى مات، أو أتلف شيئا خطأ، وعجز عن غرامته حتى مات، فالظاهر أن هذا لا مطالبة في حقه في الآخرة، إذ لا معصية منه، والمرجو أن الله تعالى يعوض صاحب الحق، وقد أشار إلى هذا إمام الحرمين في أول كتاب النكاح: وتباح الاستدانة لحاجة في غير معصية ولا سرف إذا كان يرجو الوفاء به جهة، أو سبب ظاهر. والله أعلم. وإن تعلق بالمعصية حق ليس بمالي، فإن كان حدا لله تعالى بأن زنى أو شرب، فإن لم يظهر عليه، فله أن يظهره، ويقر به ليقام عليه الحد، ويجوز أن يستر على نفسه وهو الافضل، فإن ظهر، فقد فات الستر، فيأتي الامام ليقيم عليه الحد، قال ابن الصباغ: إلا إذا تقادم عليه العهد، وقلنا: يسقط الحد. وإن كان حقا

(8/220)


للعباد، كالقصاص وحد القذف، فيأتي المستحق، ويمكنه من الاستيفاء، فإن لم يعلم المستحق، وجب في القصاص أن يعلمه، فيقول: أنا الذي قتلت أباك، ولزمني القصاص، فإن شئت، فاقتص، وإن شئت فاعف. وفي حد القذف سبق في كتب اللعان خلاف في وجوب إعلامه، وقطع العبادي وغيره هنا بأنه يجب إعلامه، كالقصاص. وأما الغيبة إذا لم تبلغ المغتاب، فرأيت في فتاوى الحناطي أنه يكفيه الندم والاستغفار، وإن بلغته، أو طرد طارد قياس القصاص والقذف فيها، فالطريق أن يأتي المغتاب ويستحل منه، فإن تعذر لموته، أو تعسر لغيبته البعيدة، استغفر الله تعالى، ولا اعتبار بتحليل الورثة، هكذا ذكره الحناطي وغيره، قال العبادي: والحسد كالغيبة وهو أن يهوى زوال نعمة الغير، ويسر ببليته، فيأتي المحسود ويخبره بما أضمره ويستحله، ويسأل الله تعالى أن يزيل عنه هذه الخصلة، وفي وجوب الاخبار عن مجرد الاضمار بعيد. قلت: المختار بل الصواب أنه لا يجب إخبار المحسود، بل لا يستحب، ولو قيل: يكره لم يبعد. وهل يكفي الاستحلال من الغيبة المجهولة، أم يشترط معرفتها للعافي ؟ فيه وجهان سبقا في كتاب الصلح. والله أعلم. فرع لو قصر فيما عليه من دين ومظلمة، ومات المستحق، واستحقه وارث بعد وارث، ثم مات ولم يوفهم، فمن يستحق المطالبة به في الآخرة ؟ فيه أوجه أرجحها - وبه أفتى الحناطي - أنه صاحب الحق أولا، والثاني أنه آخر من مات من ورثته، أو ورثة ورثته وإن نزلوا، والثالث ذكره العبادي في الرقم: أنه يكتب الاجر لكل وارث مدة حياته، ثم بعده لمن بعده، ولو دفع إلى بعض الوارثين عند انتهاء الاستحقاق إليه، خرج عن مظلمة الجميع فيما سوف ومطل. وأما التوبة في الظاهر، فالمعاصي تنقسم إلى فعلية وقولية، أما الف علية، كالزنى والسرقة والشرب، فإظهار التوبة منها لا يكفي في قبول الشهادة، وعوالولاية، بل يختبر مدة يغلب على الظن فيها أنه قد أصلح عمله وسريرته، وأنه صادق في توبته، وفي تقدير هذه المدة أوجه الاكثرون أنها سنة، والثاني: ستة أشهر، ونسبوه إلى النص،

(8/221)


والثالث: لا يتقدر بمدة إنما المعتبر حصول غلبة الظن بصدقه، ويختلف ذلك بالاشخاص، وأمارات الصدق، وهذا اختيار الامام والعباد والغزالي. وأما القولية، فمنها القذف، ويشترط في التوبة منه القول، كما أن التوبة من الردة بكلمتي الشهادة. قال الشافعي رحمه الله: التوبة منه إكذابه نفسه، فأخذ الاصطخري بظاهره، وشرط أن يقول: كذبت فيما قذفت، ولا أعود إلى مثله. وقال الجمهور: لا يكلف أن يقول: كذبت، فربما كان صادقا، فكيف نأمره بالكذب ؟ ولكن يقول: القذف باطل وإني نادم على ما فعلت، ولا أعود إليه، أو يقول: ما كنت محقا في قذفي، وقد تبت منه، ونحو ذلك. وسواء في هذا القذف على سبيل السب والايذاء، والقذف على صورة الشهادة إذا لم يتم عدد الشهود، إن قلنا بوجوب الحد على من شهد، فإن لم نوجب، فلا حاجة بالشاهد إلى التوبة. ويشبه أن يشترط في هذا الاكذاب كونه عند القاضي. ثم إذا تاب بالقول، فهل يستبرئ المدة المذكورة إذا كان عدلا قبل القذف ؟ ينظر إن كان القذف على صورة الشهادة لم يشترط على المذهب، وإن كان قذف سب وإيذاء، اشترط على المذهب. واعلم أن اشتراط التوبة بالقول في القذف مشكل، وإلحاقه بالردة ضعيف، فإن إشتراط كلمتي الشهادة مطرد في الردة القولية والفعلية، كإلقاء المصحف في القاذورات، ثم مقتضى ما ذكروه في القذف أن يشترط التوبة بالقول في سائر المعاصي القولية، كشهادة الزور والغيبة والنميمة وقد صرح صاحب المهذب بذلك في شهادة الزور، فقال: التوبة منها أن يقول: كذبت فيما فعلت ولا أعود إلى مثله. فروع لو قذف وأتى ببينة على زنى المقذوف، فوجهان، حكاهما الامام، أحدهما: لا تقبل شهادته، لانه ليس له أن يقذف، ثم يقيم البينة، بل كان ينبغي أن يجئ مجئ الشهود، والصحيح القبول، لان صدقه قد تحقق بالبينة، وكذا الحكم لو اعترف المقذوف، وكذا لو قذف زوجته ولاعن، وسواء في رد الشهادة، وكيفية التوبة قذف محصنا أو غيره حتى لو قذف عبد نفسه، ردت شهادته،

(8/222)


ويكفي تحريم القذف سببا للرد، وشاهد الزور يستبرئ، كسائر الفسقة فإذا ظهر صلاحه، قبلت شهادته في غير تلك الواقعة، ومن غلط في شهادة لا يشترط استبراؤه، وتقبل شهادته في غير واقعة الغلط، ولا تقبل فيها. قلت: التوبة من أصول الاسلام المهمة، وقواعد الدين، وأول منازل السالكين، قال الله تعالى: * (وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون) * فالتوبة من المعصية واجبة على الفور بالاتفاق، وقد تقدمت صفتها، وتصح التوبة من ذنب وإن كان ملابسا ذنبا آخر مصرا عليه، ولو تاب من ذنب، ثم فعله مرة أخرى، لم تبطل التوبة، بل هو مطالب بالذنب الثاني دون الاول. ولو تكررت التوبة، ومعاودة الذنب، صحت، هذا مذهب الحق في المسلمين خلافا للمعتزلة. قال إمام الحرمين في الارشاد: والقتل الموجب للقود تصح التوبة منه قبل تسليم القاتل نفسه ليقتص منه، فإذا ندم، صحت توبته في حق الله تعالى، وكان منعه القصاص من مستحقه معصية مجددة، ولا يقدح في التوبة، بل يقتضي توبة منها، ومن تاب عن معصية ثم ذكرها قال الامام القاضي أبو بكر بن الباقلاني رحمه الله: يجب عليه تجديد الندم عليها كلما ذكرها إذ لو لم يندم، لكان مستهينا بها، وذلك ينافي الندم. واختار إمام الحرمين أنه لا يجب، ولا يلزم من ذكرها بلا ندم الاستهانة، بل قد يذكر، ويعرض عنها. قال القاضي: وإذا لم يجدد التوبة كان ذلك معصية جديدة، والتوبة الاولى صحيحة، لان العبادة الماضية لا ينقضها شئ بعد فراغها، قال: فيجب تجديد توبة عن تلك المعصية، وتجب توبة من ترك التوبة إذا حكمنا بوجوبها. قال الامام: وإذا أسلم الكافر، فليس إسلامه توبة عن كفره، وإنما توبته ندمه على كفره، ولا يتصور أن يؤمن ولا يندم على كفره، بل تجب مقارنة الايمان للندم على الكفر، ثم وزر الكفر يسقط بالايمان، والندم على الكفر بالاجماع، هذا مقطوع، وما سواه من ضروب التوبة، فقبوله مظنون غير مقطوع به، وقد أجمعت الامة على أن الكافر إذا أسلم وتاب عن كفره، صحت توبته، وإن استدام معاصي

(8/223)


أخر، هذا كلام الامام، وهذا الذي قاله ان القبول مظنون هو الصحيح. وقال جماعة من متكلمي أصحابنا: هو مقطوع. والله أعلم. فصل إذا حكم القاضي بشهادة اثنين، ثم بان له أنهما كانا عبدين، أو كافرين، أو صبيين، أو امرأتين، نقض حكمه، لانه تيقن الخطأ، كما لو حكم باجتهاده، فوجد النص خلافه، ولو بان ذلك لقاض آخر نقضه أيضا. فإن قيل: قد اختلف العلماء في شهادة العبد، فكيف نقض الحكم في محل الاختلاف والاجتهاد ؟ فالجواب أن الصورة مفروضة فيمن لا يعتقد الحكم بشهادة العبد وحكم بشهادة من ظنهما حرين، ولا اعتداد بمثل هذا الحكم، ولانه حكم يخالف القياس الجلي، لان العبد ناقص في الولايات، وسائر الاحكام، فكذا الشهادة. وإن بان أنه حكم بشهادة فاسقين، نقض حكمه على الاظهر، وقيل: قطعا. ولو شهد عدلان، ثم فسقا قبل أن نحكم بشهادتهما لم نحكم بها قطعا، لان الفسق يخفى غالبا، فربما كانا فاسقين عند الشهادة. ولو ارتدا قبل الحكم، لم يحكم على الصحيح، لانها توقع ريبة، وقيل: لا يؤثر حدوثها بعد شهادتهما. وقال الداركي: إن ارتد إلى كفر يستسر أهله به، فكالفسق، وإلا فلا يؤثر. ولو شهدا في حد أو مال، ثم ماتا أو جنا أو عميا، أو خرسا، لم يمنع حدوث هذه الاحوال الحكم بشهادتهما، لانها لا توهم ريبة فيما مضى. ويجوز وقوع التعديل بعد حدوثها. ولو فسق الشاهدان، أو ارتدا بعد الحكم بشهادتهما، وقبل الاستيفاء، فهو كرجوع الشاهدين بعد الحكم، وقبل الاستيفاء، وفيه خلاف وتفصيل سنذكره في بابه إن شاء الله تعالى، والمذهب أنه لا يؤثر في المال، بل يستوفى. فرع قال القاضي بعد الحكم بشهادة شاهدين: قد بان لي أنهما كانا فاسقين، ولم تظهر بينة بفسقهما، قال الغزالي في الفتاوي: إذا لم يتهم في

(8/224)


قضائه بعلمه مكن من ذلك أيضا، قال: ولو قال: أكرهني السلطان على الحكم بقولهما، وكنت أعرف فسقهما، قبل قوله من غير بينة الاكراه، ولو بان بالبينة أن الشاهدين كانا والدين للمشهود له، أو ولدين، أو عدوين للمشهود عليه، نقض الحكم، وبالله التوفيق.
الباب الثاني : في العدد والذكورة قول الشاهد الواحد لا يكفي الحكم به إلا في هلال رمضان على الاظهر، وأما القضاء بشاهد ويمين وإن قلنا على وجه: إن القضاء بالشاهد، فليس فيه اكتفاء بشاهد، بل يشترط معه اليمين. ثم الشهادات ثلاثة أضرب، الاول: الشهادة على الزنى، فلا تثبت إلا بأربعة رجال، وتثبت الشهادة على الاقرار بالزنى برجلين على الاظهر، وفي قول: يشترط أربعة، ولا يثبت اللواط وإتيان البهيمة إلا بأربعة على المذهب، ويثبت القذف بشاهدين على المشهور، ونقل أبو عاصم قولا قريبا في اشتراط أربعة. فرع سبق في السرقة أنه يشترط في الشهادة على الزنى أن يذكروا التي زنى

(8/225)


بها، وأن يذكروا الزنى مفسرا، فيقولون: رأينا أدخل ذكره، أو قدر الحشفة منه في فرج فلانة على سبيل الزنى. ولا يكفي إطلاقه الزنى، فقد يظنون المفاخذة زنى، وقد تكون الموطوءة جارية ابنه، أو مشتركة بينه وبين غيره بخلاف ما لو ادعت وطئ شبهة، وطلبت المهر، فإنه يكفي الشهادة على الوطئ، ولا يشترط قولهم: رأينا ذلك منه في ذلك منها، لان المقصود هناك المال، فلم يلزم هذا الاحتياط، وقد وقع في كلام الغزالي وغيره أن الشاهد يقول: رأينا ذكره في فرجها كالمرود في المكحلة، وهذا التشبيه زيادة بيان، وليس بشرط، صرح به القاضي أبو سعد. فرع هل يجوز النظر إلى الفرج لتحمل شهادة الزنى أو ولادة، أو عيب باطن أم لا، وإنما يشهد عليه عند وقوع النظر إليه اتفاقا ؟ فيه أوجه سبقت في أول النكاح، الاصح المنصوص الجواز، والثاني: المنع، والثالث: المنع في الزنى دون غيره، والرابع عكسه. الضرب الثاني: ما ليس بمال، ولا يقصد منه مال، فإن كان عقوبة، لم تثبت إلا برجلين سواء فيه حق الله تعالى، كحد الشرب، وقطع الطريق، وقتل الردة، وحق العباد كالقصاص في النفس، أو الطرف، وحد القذف. والتعزير كالحد، ولا مدخل لشهادة النساء فيها. وإن كان غير عقوبة، فهو نوعان أحدهما: يطلع عليه الرجال غالبا، فلا يقبل فيه إلا رجلان، وذلك كالنكاح والرجعة، والطلاق والعتاق، والاسلام والردة، والبلوغ والايلاء، والظهار والاعسار، والموت، والخلع من جانب المرأة، والولاء وانقضاء العدة، وجرح الشهود وتعديلهم، والعفو عن القصاص والاحصان، والكفالة والشهادة برؤية هلال غير رمضان، والشهادة على الشهادة، والقضاء والولاية إن اشترطنا فيهما الشهادة، والتدبير والاستيلاد، وكذا الكتابة على الصحيح، وقيل: تثبت الكتابة برجل وامرأتين، ومنه الوكالة والوصاية

(8/226)


وإن كانتا من المال، لانهما ولاية وسلطنة. ومنه القراض، وكذا الشركة على الاصح، وقيل: تثبت برجل وامرأتين. النوع الثاني: ما لا يطلع عليه الرجال، وتختص النساء بمعرفته غالبا، فيقبل فيه شهادتهن منفردات، وذلك كالولادة، والبكارة، والثيابة، والرتق، والقرن، والحيض، والرضاع، وعيب المرأة من برص وغيره تحت الازار، حرة كانت أو أمة، وكذا استهلال الولد على المشهور، فكل هذا النوع لا يقبل فيه إلا أربع نسوة أو رجلين، أو رجل وامرأتين، قال البغوي: والعيب في وجه الحرة وكفيها لا يثبت إلا برجلين، وفي وجه الامة وما يبدو منها في المهنة يثبت برجل وامرأتين، لان المقصود منه المال. قال: والجراحة على فرج المرأة لا يلحق بالعيب، لان جنس الجراحة مما يطلع عليه الرجل غالبا، هكذا قاله، لكن جنس العيب مما يطلع عليه الرجال غالبا، لكن لا يطلعون على العيب الخاص، وكذا هذه الجراحة. قلت: الصواب إلحاق الجراحة على فرجها بالعيوب تحت الثياب، وعجب من البغوي كونه ذكر خلاف هذا، وتعلق بمجرد الاسم. والله أعلم. الضرب الثالث: ما هو مال أو المقصود منه مال، كالاعيان والديون، والعقود المالية، فيثبت برجلين وبرجل وامرأتين، ولا يثبت بنسوة منفردات، فمن هذا الضرب البيع والاقالة، والاجارة، والرد بالعيب، والحوالة، والضمان، والصلح، والقرض والشفعة والمسابقة، وخيول المسابقة، والغصب، والايلاء، والوصية بمال، والمهر في النكاح، ووطئ الشبهة، والجنايات التي لا توجب إلا المال، كقتل الخطأ وقتل الصبي والمجنون، وقتل الحر العبد، والمسلم الذمي، والوالد الولد، والسرقة التي لا قطع فيها، وكذا حقوق الاموال، والعقود كالخيار، وشرط

(8/227)


الرهن، والاجل وفي الاجل وجه، لانه ضرب سلطنة، ومنه قبض الاموال، منها نجوم الكتابة، وفي النجم الاخير وجه ضعيف أنه يشترط له رجلان، لتعلق العتق به، ومنه الرهن والابراء على الصحيح فيهما، ومنه طاعة الزوجة لاستحقاق النفقة، وقتل الكافر لاستحقاق السلب، وإدمان الصيد، لتملكه، وعجز المكاتب عن النجوم، ومنه الوقف، وفي ثبوته برجل وامرأتين ما سنذكره إن شاء الله تعالى في الباب الرابع في ثبوته بشاهد ويمين. ولو مات سيد المدبر، فادعى الوارث أنه كان رجع عن التدبير، وقلنا: يجوز الرجوع، ثبت برجل وامرأتين. ولو ادعى رق شخص، أو ادعى جارية في يد غيره أنها أم ولد، ثبت برجل وامرأتين، ولو توافق الزوجان على الطلاق، وقال الزوج: طلقتك على كذا، وقالت: بل مجانا، ثبتت دعواه برجل وامرأتين، وكذا لو فالعبده: أعتقتك بكذا، فقال: مجانا. ولو توافقا على النكاح، واختلفا في قدر المهر أو صفته، أو على الخلع، واختلفا في إ قدر العوض، أو صفته، ثبت برجل وامرأتين، وكذا لو توافق السيد والعبد على الكتابة، واختلفا في قدر النجوم أو صفتها، والاقرار بكل ما يثبت برجلين يثبت برجل وامرأتين، وفسخ العقود المالية يثبت برجل وامرأتين، وفسخ الطلاق لا يثبت إلا برجلين. فرع الخنثى المشكل كالمرأة في الشهادة. فرع لو شهد بالسرقة رجل وامرأتان ثبت المال، وإن لم يثبت القطع، وحكي قول أنه لا يثبت المال، كما لو شهد بقتل العمد رجل وامرأتان، فإنه لا يثبت الدية كما لا يثبت القصاص، والمشهور الاول. ولو شهد رجل وامرأتان على صداق

(8/228)


في نكاح، ثبت الصداق، لانه المقصود. ولو علق طلاق امرأته، أو عتق عبده على الولادة، فشهد بالولادة أربع نسوة ثبتت الولادة دون الطلاق والعتق، وكذا لو علقهما على الغصب والاتلاف، فشهد بهما رجل وامرأتان ثبت الغصب والاتلاف، ولا يقع الطلاق والعتق كما سبق في كتاب الصوم أنا إذا أثبتنا هلال رمضان بعدل لا يحكم بوقوع الطلاق والعتق المعلقين برمضان، ولا بحلول الدين المؤجل به، هذا إذا تقدم التعليق، فلو ثبت الغصب أولا برجل وامرأتين، وحكم الحاكم به، ثم جرى التعليق، فقال لها: إن كنت غصبت، فأنت طالق، وقد ثبت غصبها برجل وامرأتين وقع الطلاق، هكذا قاله ابن سريج وجمهور الاصحاب، وقياسه أن يكون الحكم هكذا في التعليق برمضان، وحكى الامام عن حكاية شيخه وجها أنه لا يقع. فصل إذا ادعى على إنسان مالا، وشهد له به اثنان، نظر إن كان عينا وطلب المدعي الحيلولة بينهما وبين المدعى عليه إلى أن يزكى الشاهدان، أجيب إليه على الاصح، وقيل: لا يجاب، وقيل: يجاب إن كان المال مما يخاف تلفه أو تعيبه، وإن كان عقارا ونحوه، فلا، وإن كان المدعى دينا، لم يستوف قبل التزكية، وقيل: يستوفى ويوقف، حكاه ابن القطان، والصحيح الاول، فلو طلب المدعي أن يحجر على المدعى عليه، نقل الامام عن الجمهور أنه لا يجيبه، وعن القاضي حسين أنه إن كان يتهمه بحيلة حجر عليه، لئلا يضيع ماله بالتصرفات والاقارير، ولم يتعرض عامة الاصحاب للحجر، لكن قالوا: هل يحبس المدعى عليه إذا كان المدعى دينا، فيه وجهان، قال البغوي: أصحهما نعم، فإن قلنا: لا، فللمدعي ملازمته إلى أن يعطيه كفيلا وأجرة من يبعثه القاضي معهما للتكفيل على المدعى، وإن كان المدعى قصاصا، أو حد قذف، حبس المشهود عليه، لان الحق متعلق ببدنه، فيحتاط له. قلت: قال البغوي: سواء قذف زوجته أو أجنبيا. والله أعلم. ولا يحبس في حدود الله تعالى، وأما في دعوى النكاح، فتعدل المرأة عند

(8/229)


امرأة ثقة، وتمنع من الانتشار والخروج، وفيه وجه ضعيف، فعلى هذا الوجه هل يؤخذ منها كفيل ؟ وجهان، قال القاضي أبو سعد: فإن كانت المرأة مزوجة، لم يمنع منها زوجها قبل التعديل، لانه ليس مدعى عليه، ولو شهد اثنان لعبد بأن سيده أعتقه، وطلب العبد الحيلولة قبل التزكية، أجله القاضي، وحال بينه وبين سيده، ويؤجره وينفق عليه، فما فضل فموقوف بينه وبين السيد، فإن لم يكن له كسب، أنفق عليه من بيت المال، ثم يرجع على سيده إن بان جرح الشهود واستمر الرق، وكذا الاعيان المنتزعة يؤجرها، وهل تتوقف الحيلولة على طلب العبد ؟ وجهان، الاصح: لا، بل إذا رأى الحاكم الحيلولة، فعلها، وفي الامة تتحتم الحيلولة احتياطا للبضع، وكذا لو ادعت المرأة الطلاق، وأقامت شاهدين، فرق الحاكم بينهما قبل التزكية، والوجهان في اشتراط طلب العبد للحيلولة جاريان في انتزاع العين المدعاة، ويقرب منها وجهان، حكاهما ابن كج في أن إجارة العبد هل تفتقر إلى طلب السيد أو العبد، أم يؤجره بغير طلبهما ؟ والثاني أقرب إلى ظاهر النص، هذا كله إذا أقام المدعي شاهدين، فلو أقام شاهدا، وطلب الانتزاع قبل أن يأتي بآخر هل يجاب ؟ قولان أظهرهما عند الجمهور: لا، لان الشاهد وحده ليس بحجة، وفي الشاهدين تمت الحجة، وهل يحبس المدعى عليه في القصاص والقذف بشاهد ؟ فيه القولان، ويجري فيه الخلاف في دعوى النكاح تعديلا، ثم تكفيلا إن لم يعدل، وفي دعوى العتق والطلاق هل يحال ؟ فيه القولان، ثم ذكر العراقيون والروياني أن الحيلولة والحبس قبل التعديل يتعينان إلى ظهور الامر للقاضي بالتزكية أو الجرح، ولا تقدر له مدة، والحيلولة والحبس بشاهد إذا قلنا به لا يزادان على ثلاثة أيام، وعن أبي إسحق أنه لا حيلولة ولا حبس إذا كان الشاهد الآخر غائبا لا يحضر إلا بعد ثلاثة أيام، وإنما محل القولين إذا كان قريبا، والمذهب ما سبق. فرع قال البغوي: إذا حال القاضي بين العبد وسيده، أو انتزع العين المدعاة بعد شهادة الشاهدين وقبل التزكية، لم ينفذ تصرف المتداعيين فيه، لكن لو

(8/230)


أقر أحدهما بالموقوف لآخر أو أوصى به أو دبره أو أعتقه، انتظرنا ما يستقر عليه الامر آخرا، وحكى القاضي أبو سعد وجهين في نفوذ تصرفه، وصوره فيما إذا حجر القاضي على المشهود عليه في المشهود به، فإن أراد بالحجر الحيلولة، حصل الخلاف، وإن أراد التلفظ بالحجر أشعر ذلك باشتراط الحجر القولي في امتناع التصرف، قال: وإذا قامت البينة، وحصل التعديل، والقاضي ينظر في وجه الحكم، فينبغي أن يحجر عليه في مدة النظر، فإن حجر لم ينفذ تصرفه، قال البغوي: وقبل الحيلولة والانتزاع لا ينفذ تصرف المدعي، وينفذ تصرف المدعى عليه، إن قلنا: إن طلب المدعي شرط في الوقف، وإلا فوجهان. فرع الثمرة والغلة الحادثان بعد شهادة الشاهدين وقبل التعديل تكون للمدعي وبين شهادة الاول وشهادة الثاني لا يكون للمدعي إلا إذا أرخ الثاني ما شهد به بيوم الاول أولا أو بما قبله، فإن استخدم السيد العبد المدعي للعتق بين شهادة الاول والثاني على قولنا لا يحال بينهما وشهد الثاني هكذا لزمه أجرة المثل، وبالله التوفيق.
الباب الثالث : في مستند علم الشاهد، وحكم تحمل الشهادة وأدائها فيه ثلاثة أطراف.
الأول : فيما يحتاج إلى الإبصار، والاصل في الشهادة البناء على العلم واليقين، لكن من الحقوق ما لا يحصل اليقين فيه، فأقيم الظن المؤكد فيه مقام اليقين، وجوزت الشهادة بناء على ذلك الظن كما سيأتي إن شاء الله تعالى، وقد قسم الشافعي والاصحاب رحمهم الله المشهود به ثلاثة أقسام أحدها: ما يكفي فيه السماع، ولا يحتاج إلى الابصار، وموضع بيانه الطرف الثاني. الثاني: ما يكفي فيه الابصار وهو الافعال، كالزنى، والشرب، والغصب، والاتلاف، والولادة، والرضاع، والاصطياد، والاحياء، وكون المال في يد الشخص، فيشترط فيها الرؤية المتعلقة بها وبفاعلها، فلا يجوز بناء الشهادة فيها

(8/231)


على السماع من الغير، وتقبل فيها شهادة الاصم. الثالث: ما يحتاج إلى السمع والبصر معا، كالاقوال، فلا بد من سماعها ومشاهدة قائلها، وذلك كالنكاح والطلاق، والبيع، وجميع العقود، والفسوخ، والاقرار بها، فلا يقبل فيها شهادة الاصم الذي لا يسمع شيئا، ولا تقبل شهادة الاعمى فيما يحتاج إلى الابصار، ولا يصح منه التحمل اعتمادا على الصوت، فإن الاصوات تتشابه ويتطرق إليها التخييل والتلبيس مع أنه لا ضرورة إلى شهادته للاستغناء بالبصراء بخلاف الوطئ، فإن له أن يطأ زوجته اعتمادا على صوتها بالاجماع للضرورة، ولان الوطئ يجوز بالظن، ولا تقبل شهادته على زوجته التي يطأها كما لا تقبل على الاجانب، لان الوطئ ضرورة، وقد سبق وجه أن العمى لا يقدح في القضاء وهو مع ضعفه جار في الشهادة، والصواب المنع، ويستثنى عن هذا صورة الضبطة، وهي أن يضع رجل فمه على أذنه ويد الاعمى على رأسه، فينظر إن سمعه يقر بطلاق أو عتق أو لرجل معروف الاسم، والنسب بمال، ويتعلق

(8/232)


به الاعمى، ولا يزال يضبطه حتى يشهد بما سمع منه عند القاضي، فيقبل هذه الشهادة على الصحيح لحصول العلم، وقيل: لا يقبل سدا للباب مع عسر ذلك، وتقبل رواية الاعمى ما سمعه حال العمى على الصحيح، وبه قطع الجمهور إذا حصل الظن الغالب بضبطه، واختار الامام المنع، فأما ما سمعه قبل العمى، فتقبل روايته في العمى بلا خلاف، ولو تحمل شهادة تحتاج إلى البصر وهو بصير، ثم عمي، نظر إن تحمل على رجل معروف الاسم والنسب يقر لرجل بهذه الصفة، فله أن يشهد بعدما عمي، ويقبل لحصول العلم، وكذا لو عمي ويد المقر في يده، فشهد عليه لمعروف الاسم والنسب. وإن لم يكن كذلك، لم تقبل شهادته، ويجوز الاعتماد على ترجمة الاعمى على الاصح، ولو عمي القاضي بعد سماع البينة وتعديلها، ففي نفوذ قضائه في تلك الواقعة وجهان، أحدهما لا، لانعزاله بالعمى، كما لو انعزل بسبب آخر، وأصحهما: نعم إن لم يحتج إلى الاشارة، كما لو تحمل الشهادة وهو بصير، ثم عمي، وأما شهادة الاعمى فيما يثبت بالاستفاضة، فسيأتي في الطرف الثاني إن شاء الله تعالى. فصل إذا شاهد فعل إنسان، أو سمع قوله، فإن كان يعرفه بعينه واسمه ونسبه، شهد عليه عند حضوره بالاشارة إليه، وعند غيبته وموته باسمه ونسبه، فإن كان يعرفه باسمه واسم أبيه دون جده، قال الغزالي: يقتصر عليه في الشهادة، فإن عرفه القاضي بذلك، جاز، وكان يحتمل أن يقال: هذه شهادة على مجهول، فلا تصح كما سبق في القضاء على الغائب أن القاضي لو لم يكتب إلا أني حكمت على محمد بن أحمد، فالحكم باطل. وقد ذكر الشيخ أبو الفرج أنه إذا لم يعرف نسبه قدر ما يحتاج إلى رفعه لا يحل له أن يشهد إلا بما عرف، لكن الشهادة والحالة هذه لا تفيد، وقال الامام: لو لم يعرفه إلا باسمه لم يتعرض لاسم أبيه، لكن الشهادة على مجرد الاسم قد لا تنفع في الغيبة، وبالجملة لا يشهد بما لا معرفة له به. ولو سمع اثنين يشهدان أن فلانا وكل هذا الرجل في بيع داره، وأقر الوكيل بالبيع، شهد على إقراره بالبيع، ولم يشهد بالوكالة. وكتب القفال في مثله أنه يشهد على شاهدي الوكالة، وكأنهما أشهداه على شهادتهما، ولو حضر عقد نكاح زعم الموجب

(8/233)


أنه ولي المخطوبة، أو وكيل وليها وهو لا يعرفه وليا ولا وكيلا، أو عرف الولاية أو الوكالة، ولم يعرف رضى المرأة وهي ممن يعتبر رضاها، لم يشهد على أنها زوجته، لكن يشهد أن فلانا أنكح فلانة فلانا، وقيل: فلان فإن لم يعرف المرأة بنسبها لم يشهد إلا أن فلانا قال: زوجت فلانة فلانا، وإن كان يعرف المشهود عليه بعينه دون اسمه ونسبه، شهد عليه حاضرا لا غائبا، فإن مات أحضر ليشاهد صورته، ويشهد على عينه، فإن دفن، لم ينبش، وقد تعذرت الشهادة عليه، هكذا قاله القاضي حسين، وتابعه الامام والغزالي، لكن استثنى الغزالي ما إذا اشتدت الحاجة إليه، ولم يطل العهد بحيث يتغير منظره وهذا احتمال ذكره الامام، ثم قال: والاظهر ما ذكره القاضي. وإن لم يعرف اسمه ونسبه، لم يكن له أن يعتمد قوله: إنه فلان ابن فلان، لكن لو تحمل الشهادة وهو لا يعرف اسمه ونسبه، ثم سمع الناس يقولون: إنه فلان ابن فلان، واستفاض ذلك، فله أن يشهد في غيبته على اسمه ونسبه، كما لو عرفهما عند التحمل. ولو قال له عدلان عند التحمل أو بعده: هو فلان ابن فلان، قال الشيخ أبو حامد: له أن يعتمدهما، ويشهد على اسمه ونسبه، وهذا مبني على جواز الشهادة على النسب من عدلين، وفيه خلاف يأتي إن شاء الله تعالى. فرع كما أن المشهود عليه تارة تقع الشهادة على عينه، وتارة على اسمه ونسبه، فكذلك المشهود له، فتارة يشهد أنه أقر لهذا، وتارة لفلان ابن فلان، وكذا عند غيبة المشهود له، وإذا شهد الشاهدان أن لهذا على فلان ابن فلان الفلاني كذا، فقال الخصم: لست فلان ابن فلان الفلاني، ففي فتاوى القفال أن على

(8/234)


المدعي بينة أن اسمه فلان، ونسبه ما ذكراه، فإن لم يكن بينة حلفه، فإن نكل، حلف واستحق، وإن سلم ذلك الاسم والنسب، فادعى أن هناك من يشاركه فيهما، لم يقبل منه حتى يقيم البينة على ما يدعيه، فإن أقامها احتاج إلى اثبات زيادة يمتاز بها المدعى عليه على الآخر، وهذا كما سبق في كتاب القاضي إذا بلغ المكتوب إليه، وأحضر من زعم المدعي أنه المحكوم عليه، ولتكن الصورة فيما إذا ادعى أنه يستحق على هذا الحاضر كذا، واسمه ونسبه كذا، أو أنه يستحق على من اسمه ونسبه كذا وهو هذا الحاضر، وأقام البينة بالاستحقاق على فلان ابن فلان، فيستفيد بها مطالبة الحاضر إن اعترف أنه فلان ابن فلان، أو يقيم بينة أخرى على الامم و النسب إن أمكن، ثم يطالبه وإلا فكيف يدعي على فلان ابن فلان من غير أن يربط الدعوى بحاضر، وفي الفتاوى أيضا أنه لو أحضر رجلا عند القاضي، وقال: إن هذا أقر لفلان ابن فلان بكذا وأنا ذلك المقر له، فقال الرجل: نعم أقررت، لكن هنا أو بموضع آخر رجل آخر بهذا الاسم والنسب، وإنما أقررت له، لزمه إقامة البينة على ما يدعيه، فإذا أقامها، سئل ذلك الآخر، فإن صدقه، دفع المقر به إليه، ويحلف الاول على أنه لا شئ له عليه، وإن كذبه، فهو للمدعي، وإن قال: هناك رجل آخر بهذا الاسم والنسب وأنا أقررت لاحدهما، لا أعلم عينه، وأقام البينة برجل آخر سئل ذلك الآخر، فإن قال: لا شئ لي عليه، فينبغي أن يجب عليه التسليم إلى الاول كما لو كانت عنده وديعة، فقال: هي لاحدكما، ولا أدري أنها لايكما، فقال أحدهما: ليست لي، فإنها تكون للآخر، وإن صدقه الآخر، فهو كما في صورة الوديعة إذا قال كل واحد: هي لي، وقد حكينا في الوكالة فيما لو وكل رجلا بالخصومة بناء على اسم ونسب ذكره أنه لا بد من بينة على أنه وكيله فلان ابن فلان، أو على أن الذي وكله عند القاضي هو فلان ابن فلان وحكينا عن القاضي حسين أن هذه المسألة يكتفي القضاة فيها بالعدالة الظاهرة، ويتساهلون في البحث والاستزكاء. وعن القاضي أبي سعد الهروي أنه يكتفى فيها بمعرف واحد، وكل واحد من هذين الكلامين ينبغي أن يعود هنا حيث احتيج إلى إثبات كونه فلان ابن

(8/235)


فلان. فصل المرأة المتنقبة لا يجوز الشهادة عليها اعتمادا على الصوت، كما لا يجوز أن يتحمل الاعمى اعتمادا على الصوت، وكذا البصير في الظلمة، أو من وراء حائل صفيق، والحائل الرقيق لا يمنع على الاصح. وإذا لم يجز التحمل بالصوت، فإن عرفها متنقبة باسمها ونسبها أو بعينها لا غير، جاز التحمل، ولا يضر النقاب، ويشهد عند الاداء بما يعلم، فإن لم يعرفها، فلتكشف عن وجهها ليراها الشاهد ويضبط حليتها وصورتها، ليتمكن من الشهادة عليها عند الحاجة إلى الاداء، وتكشف وجهها حينئذ. ولا يجوز التحمل بتعريف عدل أو عدلين انها فلانة بنت فلان، فإن قال عدلان يشهدان: هذه فلانة بنت فلان تقر بكذا، فهما شاهدا الاصل، والذي يسمع منهما شاهد فرع يشهد على شهادتهما عند اجتماع الشروط. ولو سمعه من عدل واحد، شهد على شهادته، والشهادة على الشهادة والحالة هذه تكون على الاسم والنسب دون العين، هذا ما ذكره أكثر المتكلمين في المسألة، وفي وجه ثان عن الشيخ أبي محمد أنه يكيفه لتحمل الشهادة عليها معرف واحد سلوكا به مسلك الاخبار، وبهذا قال جماعة من المتأخرين، منهم القاضي شريح الروياني، ووجه ثالث أنه يجوز التحمل إذا سمع من عدلين أنها فلانة بنت فلان، ويشهد على اسمها ونسبها عند الغيبة، وهذا ما سبق عن الشيخ أبي حامد بناء على أنه تجوز الشهادة على النسب بالسماع من عدلين، ووجه عن الاصطخري أنه إذا كان يعرف نسب امرأة، ولا يعرف عينها، فدخل دارها وفيها نسوة سواها، فقال لابنها الصغير: أيتهن أمك، أو لجاريتها أيتهن سيدتك، فأشارا إلى امرأة، فسمع إقرارها، جاز له أن يشهد أن فلانة بنت فلان أقرت بكذا، حكاه ابن كج عنه، ولم يجعل قول شاهدين على قول الاصطخري كإخبار الصغير والجارية، وادعى أن ذلك أشد وقعا في القلب وأثبت. ولك أن تقول: ينبغي أن لا يتوقف جواز التحمل على كشف الوجه لا على المعرف، لان من أقرت تحت نقاب، ورفعت إلى القاضي

(8/236)


والمتحمل ملازمها أمكن الشهادة على عينها، وقد يحضر قوم يكتفى بإخبارهم في التسامع قبل أن تغيب المرأة إذا لم يشترط في التسامع طول المدة كما سيأتي إن شاء الله تعالى، فيخبرون عن اسمها ونسبها، فيتمكن من الشهادة على اسمها ونسبها، بل ينبغي أن يقال: لو شهد اثنان تحملا الشهادة على امرأة لا يعرفانها أن امرأة حضرت يوم كذا مجلس كذا، فأقرت لفلان جكذا، وشهد عدلان أن المرأة الحاضرة، يومئذ في ذلك المكان هي هذه، ثبت الحق بالتبيين، كما لو قامت بينة أن فلان ابن فلان الفلاني أقر بكذا وقامت أخرى على أن الحاضر هو فلان ابن فلان، ثبت الحق. وإذا اشتمل التحمل على هذه الفوائد، وجب أن يجوز مطلقا، ثم إن لم يحصل ما يفيد جواز التحمل على العين، أو على الاسم والنسب، أو لم ينضم إليه ما يتم به الاثبات، فذاك لشئ آخر. ويجوز النظر إلى وجهها، لتحمل الشهادة وسماع كلامها، وهذا عند الامن من الفتنة، فإن خاف فتنة، فقد سبق أنه يحرم النظر إلى وجهها بلا خلاف فيشبه أن يقال: لا ينظر الخائف للتحمل، لان في غيره غنية، فإن تعين عليه، نظر واحترز. فرع إذا قامت بينة على عين رجل أو امرأة بحق، وأراد المدعي أن يسجل له القاضي، فالتسجيل على العين ممتنع، لكن يجوز أن يسجل بالحلية، ولا

(8/237)


سبيل إلى التسجيل بالاسم والنسب ما لم يثبتا، ولا يكفي فيهما قول المدعي، ولا إقرار من قامت عليه البينة، لان نسب الشخص لا يجبت بإقراره، فلو قامت بينة على نسبه على وجه الحسبة بني على أن شهادة الحسبة هل تقبل في النسب، إن قبلناها - وهو الصحيح - اثبت القاضي النسب، وسجل، وإن لم نقبلها وهو اختيار القاضي حسين، فقال: الطريق هنا أن ينصب القاضي من يدعي على فلان ابن فلان دينا، أو على فاطمة بنت زيد، أو يدعي على زيد، ويقول: هذه بنته، وتركته عندها، وينكر المدعي عليه النسب، فيقيم المدعي البينة عليه. قال: وتجوز هذه الحيلة للحاجة، واعترض الامام بأن الدعوى الباطلة كالعدم، فكيف يجوز بناء الشهادة عليها، وكيف يأمر القاضي بها. لكن الوجه أن يقال: وكلاء المجلس يتفطنون لمثل ذلك، فإذا نصبوا مدعيا لم يفحص القاضي، ولم يضيق، بل يسمع الدعوى والبينة للحاجة. ولو أمر المدعي الذي ثبت له الحق بالبينة أن ينقل الدعوى عن العين إلى الدعوى على بنت زيد لينكر، فيقيم البينة على النسب، كان أقرب من نصب مدع جديد، وأمره بدعوى باطلة. فرع عن فتاوى القفال: شهد الشهود على امرأة باسمها ونسبها، ولم يتعرضوا لمعرفة عينها، صحت شهادتهم فإن سألهم الحاكم هل تعرفون عينها ؟ فلهم أن يسكتوا، ولهم أن يقولوا: لا يلزمنا الجواب عن هذا.
الطرف الثاني : فيما تجوز الشهادة فيه بالتسامع وهو الاستفاضة، فمنه النسب، فيجوز أن يشهد بالتسامع أن هذا الرجل ابن فلان، أو هذه المرأة إذا عرفها بعينها بنت فلان، أو أنهما من قبيلة كذا، ويثبت النسب من الام بالتسامع أيضا على الاصح، وقيل قطعا كالاب، ووجه

(8/238)


المنع إمكان رؤية الولادة. ثم ذكر الشافعي والاصحاب رحمهم الله في صفة التسامع أنه ينبغي أن يسمع الشاهد المشهود بنسبه، فينسب إلى ذلك الرجل أو القبيلة، والناس ينسبونه إليه، وهل يعتبر في ذلك التكرر، وامتداد مدة السماع، قال كثيرون: نعم، وبهذا أجاب الصيمري، وقال آخرون: لا بل لو سمع انتساب الشخص، وحضر جماعة لا يرتاب في صدقهم، فأخبروه بنسبه دفعة واحدة، جاز له الشهادة. ورأى ابن كج القطع بهذا، وبه أجاب البغوي في انتسابه بنفسه، فإن قلنا بالاول، فليست المدة مقدرة بسنة على الصحيح، ويعتبر مع انتساب الشخص ونسبة الناس أن لا يعارضهما ما يورث تهمة وريبة، فلو كان المنسوب إليه حيا وأنكر، لم تجز الشهادة، وإن كان مجنونا، جازت على الصحيح، كما لو كان ميتا، ولو طعن بعض الناس في ذلك النسب هل يمنع جواز الشهادة ؟ وجهان أصحهما: نعم لاختلال الظن. فرع يثبت الموت بالاستفاضة على المذهب، وبه قطع الاكثرون، وقيل: وجهان، وهل يثبت بها الولاء والعتق والوقف والزوجية ؟ وجهان، قال الاصطخري، وابن القاص، وأبو علي بن أبي هريرة، والطبري: نعم، ورجحه ابن الصباغ، وقال أبو إسحق: لا، وبه أفتى القفال، وصححه الامام، وأبو الحسن العبادي، والروياني، قالوا: ويستحب تجديد شهود كتب الوقف إذا خاف انقراض الاصول، قال في العدة: هذا ظاهر المذهب، لكن الفتوى الجواز للحاجة. قلت: الجواز أقوى وأصح وهو المختار. والله أعلم.

(8/239)


فرع المعتبر في الاستفاضة أوجه، أصحها: أنه يشترط أن يسمعه من جمع كثير يقع العلم أو الظن القوي بخبرهم، ويؤمن تواطؤهم على الكذب، وهذا هو الذي رجحه الماوردي، وابن الصباغ، والغزالي وهو أشبه بكلام الشافعي رحمه الله، والثاني: يكفي عدلان، اختاره أبو حامد، وأبو حاتم، ومال إليه الامام، والثالث: يكفي خبر واحد إذا سكن القلب إليه، حكاه السرخسي

(8/240)


وغيره، فعلى الاول ينبغي أن لا يشترط العدالة ولا الحرية والذكورة. فرع لو سمع رجلا يقول لآخر: هذا ابني وصدقه الآخر، أو قال: أنا ابن فلان، وصدقه فلان، قال كثير من الاصحاب: يجوز أن يشهد به على النسب، وكذا لو استلحق صبيا، أو بالغا وسكت، لان السكوت في النسب كالاقرار. وفي المهذب وجه أنه لا يشهد عند السكوت إلا إذا تكرر عنده الاقرار والسكوت، والذي أجاب به الامام والغزالي أنه لا تجوز الشهادة على النسب بذلك، بل يشهد والحالة هذه على الاقرار، وهذا قياس ظاهر. فصل الشهادة على الملك تنبني على ثلاثة أمور وهي اليد والتصرف والتسامح، فأما اليد فلا تفيد بمجردها جواز الشهادة على الملك، لكن إذا رأى الشئ في يده، جاز أن يشهد له باليد، وشرط البغوي لذلك أن يراه في يده مدة طويلة، وحكى الامام قولا أنه لا تجوز الشهادة بالملك بمجرد اليد، والمشهور الاول، وأما التصرف المجرد، فكاليد المجردة لا يفيد جواز الشهادة بالملك، فإن اجتمع يد وتصرف فإن قصرت المدة، فهو كاليد المجردة، وإن طالت، ففي جواز الشهادة له بالملك وجهان، أصحهما: الجواز، صححه البغوي، ونقله الامام عن اختيار الجمهور، وعن الشيخ أبي محمد القطع به، فلو انضم إلى اليد والتصرف الاستفاضة، ونسبة الناس الملك إليه، جازت الشهادة بالملك بلا

(8/241)


خلاف، ونقل الروياني قولا انه لا تجوز الشهادة على الملك حتى يعرف سببه وهو شاذ ضعيف. وأما الاستفاضة وحدها، فهل تجوز الشهادة على الملك بها ؟ وجهان أقربهما إلى إطلاق الاكثرين الجواز، والظاهر أنه لا يجوز، وهو محكي عن نصه في حرملة، واختارها القاضي حسين، والامام الغزالي وهو الجواب في الرقم. واعلم أن جواز الشهادة بالملك بالاستفاضة مشهورة في المذهب، فلعل من لا يكتفي به يكتفي بانضمام أحد الامرين من اليد والتصرف إليه، أو يعتبرهما جميعا، لكن لا يعتبر طول المدة فيهما، وإذا انضما إلى الاستفاضة، وإلا فهما كافيان إذا طالت المدة على الاصح، ولا يبقى للاستفاضة أثر، ويشترط في جواز الشهادة بناء على اليد أو اليد والتصرف أن لا يعرف له منازعا فيه، ونقل ابن كج وجهين في أن منازعة من لا حجة معه هل تمنع ؟ فرع طول مدة اليد والتصرف يرجع فيه إلى العادة، وقيل: أقلها سنة، والصحيح الاول، وعن الشيخ أبي عاصم أنه إن زادت على عشرة، فطويلة، وفيما دونها وجهان، والقول في عدد المخبرين هنا، وامتداد المدة كما سبق في النسب، ونقل ابن كج وجهين في أنه هل يشترط أن يقع في قلب السامع صدق المخبرين. فرع ذكر ابن كج أنه تجوز الشهادة على اليد بالاستفاضة، وقد ينازع فيه، لامكان مشاهدة اليد. فرع لا يكفي أن يقول الشاهد: سمعت الناس يقولون: إنه لفلان، وكذا في النسب، وإن كانت الشهادة مبنية عليه، بل يشترط أن يقول: أشهد بأنه له،

(8/242)


وبأنه ابنه، لان قد يعلم خلاف ما سمعه من الناس، لكن عن الشيخ أبي عاصم أنه لو شهد رجل بالملك، وآخر بأنه في يده مدة طويلة وتصرف فيه بلا منازع، تمت الشهادة. وقال الشارح لكلامه: هذا مصير منه إلى الاكتفاء بذكر السبب، والصحيح الاول. فرع سواء في الشهادة على الملك بالاستفاضة والتصرف العقار والثوب والعبد وغيرها إذا ميز الشهود به عن أمثاله. فرع التصرف المعتبر في الباب تصرف الملاك من السكنى، والدخول والخروج، والهدم والبناء، والبيع والفسخ بعده، والرهن، وفي مجرد الاجارة وجهان، لانها وإن تكررت قد تصدر ممن استأجر مدة طويلة ومن الموصى له بالمنفعة، وليجر هذا الخلاف في الرهن، لانه قد يصدر من مستعير، والاوفق لاطلاق الاصحاب الاكتفاء، لان الغالب صدورها من المالكين، ولا يكفي التصرف مدة واحدة، لانه لا يحصل ظنا. فرع لا يثبت الدين بالاستفاضة على الصحيح. فرع في قبول شهادة الاعمى فيما يشهد فيه بالاستفاضة وجهان، قال ابن

(8/243)


سريج والجمهور: تقبل إلا أن شهادته إنما تقبل إذا لم يحتج إلى تعيين وإشارة بأن يكون الرجل معروفا باسمه ونسبه الادنى، ويحتاج إلى إثبات نسبه الاعلى وصور أيضا في النسب الادنى بأن يصف الشخص، فيقول: الرجل الذي اسمه كذا، وكنيته كذا، ومصلاه ومسكنه كذا، هو فلان ابن فلان، ثم يقيم المدعي بينة أخرى أنه الذي اسمه كذا، وكنيته كذا إلى آخر الصفات، وصورته في الملك أن يشهد الاعمى بدار معروفة أنها لفلان ابن فلان، ويمكن أن يقال: الوجه القائل بأن شهادته لا تقبل، مخصوص بما إذا سمع من عدد يمكن اتفاقهم على الكذب، فأما إذا حصل السماع من جمع كبير، فلا حاجة فيه إلى المشاهدة، ومعرفة حال المخبرين. فرع ما جازت الشهادة به اعتمادا على الاستفاضة، جاز الحلف عليه اعتمادا عليها بل أولى، لانه يجوز الحلف على خط الاب دون الشهادة.
الطرف الثالث : في تحمل الشهادة وأدائها
أما الاداء، فواجب في الجملة، والكتمان حرام، ويجب الاداء على متعين للشهادة، متحمل لها قصدا، دعي من دون مسافة العدوى، عدل، لا عذر له، فهذه خمسة قيود. الاول: التعيين، فإن لم يكن في الواقعة إلا شاهدان بأن لم يتحمل سواهما، أو مات الباقون، أو جنوا، أو فسقوا، أو غابوا، لزمهما الاداء، فلو شهد أحدهما، وامتنع الآخر، وقال للمدعي: احلف مع الشاهد، عصا، وكذا الشاهدان على رد الوديعة لو امتنعا، وقال للمودع: احلف على الرد، عصيا، لان من مقاصد الاشهاد التورع عن اليمين، ولو لم تكن في الواقعة إلا شاهد، فإن كان الحق يثبت بشاهد ويمين، لزمه الاداء، وإلا فلا على الصحيح، وحكى ابن كج وجها في لزومه، لانه ينفع في اندفاع بعض تهمة الكذب. وإن كان في الواقعة شهود، فالاداء عليهم فرض كفاية إذا فعله اثنان منهم، سقط عن الباقين، وإن طلب الاداء من اثنين، ففي وجوب الاجابة عليهما وجهان، وقال ابن القاص قولان، أصحهما: الوجوب، وليس

(8/244)


موضع الخلاف ما إذا علمنا من حالهم رغبة أو إباء. القيد الثاني: كونه متحملا عن قصد، أما من سمع الشئ، أو وقع بصره عليه اتفاقا، فالاصح الموافق لاطلاق الجمهور أنه يلزمه الاداء أيضا، لانها أمانة وشهادة عنده، والثاني: لا، لعدم التزامه. القيد الثالث: أن يدعى لاداء الشهادة من مسافة قريبة، ومتى كان القاضي في البلد فالمسافة قريبة، وكذا لو دعي إلى مسافة يتمكن المبكر إليها من الرجوع إلى أهله في يومه، وإن دعي إلى مسافة القصر لم تجب الاجابة، وإن كان بينهما لم تجب أيضا على الاصح، وهذا كله تفريع على الصحيح، وهو أن الشاهد يلزمه الحضور إلى القاضي لاداء الشهادة وعن القاضي أبي حامد أنه ليس على الشاهد إلا أداء الشهادة إن اجتمع هو والقاضي. القيد الرابع: كون الشاهد عدلا، فإن كان فاسقا، ودعي لاداء الشهادة نظر إن كان فسقه مجمعا عليه، ظاهرا أو خفيا، حرم عليه أن يشهد، وإن كان مجتهدا فيه، كشرب النبيذ، لزمه أن يشهد، وإن كان القاضي يرى التفسيق به ورد الشهادة، لانه قد يتغير اجتهاده. وفي أمالي السرخسي وجه أنه لا يجب في الفسق المجتهد فيه إذا كان ظاهرا، وحكى ابن كج وجها أنه يجب مطلقا في الفسق

(8/245)


الخفي، وفي الظاهر وجهان، والمذهب ما سبق، وحكى ابن كج وجهين في أنه هل للشاهد أن يشهد بما يعلم أن القاضي يرتب عليه ما لا يعتقده الشاهد، كالبيع الذي يترتب عليه شفعة الجوار، والشاهد لا يعتقدها. ولو كان أحد الشاهدين عدلا والآخر فاسقا فسقا مجمعا عليه، لم يلزم العدل الاداء إن كان الحق لا يثبت بشاهد ويمين. القيد الخامس: عدم العذر، كالمرض ونحوه، فالمريض الذي يشق عليه الحضور لا يكلف أن يحضر، بل إما أن يشهد على شهادته، وإما أن يبعث القاضي إليه، بأن يسمع شهادته، والمرأة المخدرة كالمريض، وفيها الخلاف السابق في الباب الثالث من أدب القضاء، وغير المخدرة يلزمها الحضور والاداء، وعلى الزوج أن يأذن لها فيه، وحكى الشيخ أبو الفرج وجهين في أنه هل يجب الحضور عند القاضي الجائر والمتعنت لاداء الشهادة، لانه لا يؤمن أن يرد شهادته جورا وتعنتا فيعير بذلك، فعلى هذا عدالة القاضي وجمعه الشروط المعتبرة شرط سادس. قلت: الراجح الوجوب. والله أعلم. وإذا اجتمعت شروط الوجوب لم يرهق القاضي إرهاقا، بل إن كان في صلاة أو حمام، أو على طعام، فله التأخير إلى أن يفرغ، ولا يمهل ثلاثة أيام على المشهور، قال ابن كج: ولو شهد ورد القاضي شهادته بعلة الفسق، ثم طلب المدعي أن يشهد له عند قاض آخر، لزمه الاجابة ولا يلزمه عند ذلك القاضي على الصحيح، قال ابن كج: ولو دعي لاداء الشهادة عند أمير أو وزير، قال ابن القطان: لا تلزمه الاجابة، وإنما يلزمه عند من له أهلية سماع البينة وهو القاضي، قال ابن كج: وعندي أنه يلزمه إذا علم أنه يصل به إلى الحق.

(8/246)


قلت: قول ابن كج أصح. والله أعلم. فرع إذا امتنع الشاهد من أداء الشهادة بعد وجوبه حياء من المشهود عليه، قال القاضي حسين: يعصي، ولا يجوز للقاضي قبول شهادته في شئ أصلا حتى يتوب، ويوافق هذا ما قيل: إن المدعي لو قال للقاضي: عند فلان شهادة، وهو ممتنع من أدائها، فأحضره ليشهد، لم يجبه القاضي، لانه فاسق بالامتناع بزعمه، فلا ينتفع بشهادته. قلت: ينبغي أن يعمل هذا على ما إذا قال: هو ممتنع بلا عذر. والله أعلم.
فصل وأما تحمل الشهادة، ففرض كفاية في عقد النكاح، لتوقف الانعقاد عليه، فإن امتنع الجميع منه، أثموا. ولو طلب من اثنين التحمل، وهناك غيرهما، لم يتعينا بلا خلاف، وأما في التصرفات المالية والاقارير، فهل التحمل فرض كفاية أم مستحب ؟ وجهان الصحيح الاول، وبه قطع العراقيون للحاجة إليها، ومنهم من يقتضي كلامه طرد الخلاف في النكاح أيضا وليس بشئ وإذا قلنا بالافتراض، فذلك إذا حضر المحمل، أما إذا دعي للتحمل فقيل: تجب الاجابة أيضا، والاصح الذي

(8/247)


قاله القاضي أبو حامد، والبغوي، وأبو الفرج، أنه لا يجب إلا أن يكون المحمل معذورا بمرض أو حبس، أو كانت امرأة مخدرة إذا أثبتنا للتخدير أثرا وكذا إذا دعاه القاضي ليشهده على أمر ثبت عنده لزمه الاجابة. فرع إن تطوع الشاهد بتحمل الشهادة وأدائها، فقد أحسن، وإن طمع في مال، فهو إما رزق من بيت المال، وإما من مال المشهود له، فأما الرزق من بيت المال، فقد ذكر الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ وآخرون أن الشاهد ليس له أخذ الرزق من بيت المال لتحمل الشهادة، وقيل: له ذلك، فإن قلنا بالاول، فرزقه الامام من ماله، أو واحد من الرعية، فالحكم كما ذكرنا في القاضي، وأما مال المشهود له، فليس للشاهد أخذ أجرة على أداء الشهادة، ووجهوه بأنه فرض عليه، فلا يستحق عليه عوضا، ولانه كلام يسير لا أجرة لمثله. وأما إتيان القاضي والحضور عنده، فإن كان معه في البلد فلا يأخذ شيئا، وإن كان نائبه من مسافة العدوى، فما فوقها، فله طلب نفقة المركوب. قال البغوي: وكذا نفقة الطريق، وحكى

(8/248)


وجهين فيما لو أعطاه شيئا ليصرفه في نفقة الطريق، وأجرة المركوب هل له أن يصرفه إلى غرض آخر، ويمشي وهما كالوجهين فيما لو أعطى فقيرا شيئا وقال: اشتر لك به ثوبا، هل له أن يصرفه إلى غير الثوب، والاصح الجواز فيهما، فهذا ما قيل: إن الشاهد يأخذه من المشهود له ولم يتعرض أكثرهم لما سوى هذا، لكن في تعليق الشيخ أبي حامد أن الشاهد لو كان فقيرا يكسب قوته يوما يوما وكان في صرف الزمان إلى أداء الشهادة ما يشغله عن كسبه، لم يلزمه الاداء إلا إذا بذل له المشهود له قدر كسبه في ذلك الوقت، هذا حكم الاداء. فلو طلب الشاهد أجرة لتحمل الشهادة، فإن لم يتعين عليه، فله ذلك، وكذا إن تعين على الاصح، قال أبو الفرج: هذا إذا دعي ليتحمل، فأما إذا أتاه المحمل، فليس للتحمل والحالة هذه أجرة، وليس له أن يأخذ شيئا، ومقتضى قولنا: له طلب الاجرة إذا دعي للتحمل أن يطلب الاجرة إذا دعي للاداء، سواء كان القاضي معه في البلد أم لا، كما لا فرق في التحمل، وأن يكون النظر إلى الاجرة مطلقا لا إلى أجرة المركوب ونفقة الطريق خاصة، ثم هو يصرف المأخوذ إلى ما يشاء، ولا يمنع ذلك كون الاداء فرضا عليه كما ذكرنا في التحمل مع تعينه على الاصح. قلت: هذا الذي أورده الرافعي رحمه الله ضعيف مع أنه خلاف قول الاصحاب كما سبق، فإن فرض من يحتاج إلى الركوب في البلد، فهو محتمل، والوجوب ظاهر حينئذ. والله أعلم.

(8/249)


فرع كتابة الصكوك هل هي فرض كفاية، أم مستحب ؟ وجهان أصحهما الاول، وبه قطع السرخسي، فإن قلنا: مستحبة أو فرض، ولم يتعين لها شخص، فله طلب الاجرة. وإن تعين، فكذلك على الاصح، هذا إذا لم يرزق الكاتب من بيت المال لكتابة الصكوك، فإن رزق لذلك، فلا أجرة.
فصل في آداب التحمل والأداء منقولة من مختصر الصيمري ينبغي للشاهد أن لا يتحمل، وبه ما يمنعه من الضبط، وتمام الفهم، كجوع وعطش، وهم وغضب، كما لا يقضي في هذه الاحوال، وإذا أتاه من لا تجوز الشهادة عليه، كصبي ومجنون، لم يلتفت إليه، وإن أتي بكتاب أنشئ على خلاف الاجماع، فكذلك، وتبين فساده، وإن أنشئ على مختلف فيه بين العلماء وهو لا يعتقده، فهل يعرض عنه أم يشهد ليؤدي ويحكم الحاكم باجتهاده ؟ وجهان سبقا، وإذا رأى كلمة مكروهة أو معادة، فلا بأس بالضرب عليها لا سيما إذا لم يسبقه بالشهادة أحد، وإن أغفل الكاتب ما لا بد منه، ألحق به، وإن رأى سطرا ناقصا شغله بخط أو خطين، وإذا قرأ الكتاب على المتبايعين مثلا، وقال: عرفتما ما فيه ؟ أشهد

(8/250)


عليكما به ؟ فقالا: نعم أو أجل أو بلى، كفى للتحمل، ولا يكفي أن يقول المحمل: الامر إليك أو إن شئت، أو كما ترى، أو أستخير الله تعالى، وإذا سمع إقرارا بدين أو طلاق أو عتق، فله أن يشهد به، ولكن لا يقول ولا يكتب: أشهدني بذلك، ويكتب الشاهد في الكتاب الذي تحمل فيه اسمه واسم أبيه وجده، ويجوز أن يترك اسم الجد، وأن يتخطى إلى جد أعلى لشهرته به، ولا يكتب الكنية إلا أن يكون في الشهود من يشاركه في الاسم والنسب فيميز بالكنية، وقد يستحب الاستعانة بما يفيد التذكر كما ذكرناه في الباب الثاني من أدب القضاء، وإذا أشهده القاضي على شئ قد سجل به كتب الشهادة على إنفاذ القاضي ما فيه، أو حكم بما فيه، ولا يكتب الشهادة على إقراره يعني إذا حضر الانشاء، والاولى في كتابة الدين المؤجل أن يقرر صاحب الدين أولا بأن يقول: ما الذي لك على هذا ؟ فإن قال: كذا مؤجلا قرر المدين، لانه لو أقر المدين أولا قد ينكر صاحب الاجل، وفي السلم يقرر المسلم أولا خوفا من أن ينكره المسلم لو أقر أولا، ويطالبه بالمدفوع إليه. وإذا أتى القاضي شاهد لاداء شهادة أقعده عن يمينه، وإن كانت شهادته مثبتة في كتاب أخذه وتأمله، فإذا سأله المشهود له، استأذن القاضي، ليصغي إليه، ولو شهد قبل استئذان القاضي وسؤاله، صحت على الصحيح، لكن لو شهد قبل استئذانه، فقال القاضي: كنت ذاهلا لم أسمع، لم يعتد بها. والله المستعان.

(8/251)


الباب الرابع : في الشاهد مع اليمين يجوز القضاء بشاهد ويمين في الجملة، فما ثبت برجل وامرأتين ثبت بشاهد ويمين إلا عيوب النساء وما في معناها، وما لا يثبت برجل وامرأتين لا يثبت بشاهد ويمين، ولا يقضى بشهادة امرأتين ويمين في الاموال قطعا، ولا فيما يثبت بشهادة النسوة منفردات على الاصح. ثم هل القضاء بالشاهد وحده، واليمين مؤكدة أم بها وحدها، وهو مؤكد، أم بهما ؟ أوجه، أصحها الثالث، فلو رجع الشاهد، فإن قلنا بالاول، غرم، أو بالثاني، فلا، أو بالثالث، غرم النصف، ثم يحلف المدعي بعد شهادة الشاهد وتعديله، وجوز ابن أبي هريرة تقديم اليمين على شهادته، كما يجوز تقديم المرأتين على الرجل، والصحيح الاول، ويجب أن يتعرض الحالف في اليمين لصدق الشاهد، فيقول: والله إن شاهدي لصادق، وإني مستحق لكذا، قال الامام: ولو أخر تصديق الشاهد، وقدم ذكر الاستحقاق، جاز، ولم أجد أحدا يضايق فيه. ولو فسق الشاهد بعد القضاء، لم ينقض الحكم، وإن فسق قبله، صار كأن لا شاهد، فيحلف المدعى عليه، فإن نكل، حلف المدعي، ولم يعتد بما مضى، ولو لم يحلف المدعي مع شاهده، وطلب يمين الخصم، فله ذلك، فإن حلف، سقطت الدعوى. قال ابن الصباغ: وليس له أن يحلف بعد ذلك مع شاهده بخلاف ما لو أقام بعد يمين المدعى عليه بينة، فيسمع، وإن نكل المدعى عليه، فأراد المدعي يمين الرد مكن منها على الاظهر، ويجري القولان فيما لو ادعى مالا ونكل المدعى عليه، ولم يحلف المدعي يمين الرد، ثم أقام شاهدا واحدا، وأراد أن يحلف معه، فإن قلنا: ليس له أن يحلف يمين الرد، فالمنقول أنه يحبس

(8/252)


المدعى عليه حتى يحلف، أو يقر، لان يمينه حق المدعي، فلا يتمكن من إسقاطها، لكن التقصير منه حيث لم يحلف مع شاهده، فينبغي أن لا يحبس المدعى عليه. وقد ذكر ابن الصباغ نحو هذا. ولو أن المدعي بعد امتناعه من الحلف مع شاهده واستحلافه الخصم أراد أن يعود، فيحلف مع شاهده، نقل المحاملي أنه ليس له ذلك لان اليمين صارت في جانب صاحبه إلا أن يعود في مجلس آخر، ويستأنف الدعوى، ويقيم الشاهد، فحينئذ يحلف معه. فصل جارية وولدها في يد رجل يسترقهما، فقال آخر: هذه مستولدتي والولد مني علقت به في ملكي، فإن أقام بذلك شاهدين ثبت ما يدعيه، وإن أقام رجلا وامرأتين، أو رجلا وحلف معه، ثبت الاستيلاد، لان حكم المستولدة حكم المال، فيسلم إليه، وإذا مات، حكم بعتقها بإقراره، وهل يحكم له بالولد ؟ قولان، أظهرهما: لا، لانه لا يدعي ملكه، بل نسبه وحريته، وهما لا يثبتان بهذه الحجة، فيبقى الولد في يد صاحب اليد. وهل يثبت نسبه بإقرار المدعي، فيه ما ذكرنا في الاقرار واللقيط في استلحاق عبد غيره، والثاني: نعم تبعا لها، فينتزع من المدعى عليه، فيكون حرا نسبيا بإقرار المدعي. ولو كان في يد رجل شخص ادعى أنه رقيقه، فادعى آخر أنه كان له، وأنه أعتقه، وأقام شاهدا وحلف، أو رجلا وامرأتين، نص الشافعي أنه ينتزع منه، ويحكم بأنه عتق على المدعي بإقراره، فمن الاصحاب من قال: في قبول هذه البينة والانتزاع قولان، كالصورة السابقة، لانها

(8/253)


شهادة بملك متقدم، والمذهب القطع بالعتق بالقبول والانتزاع، كما نص عليه، والفرق أن المدعي هنا يدعي ملكا، وحجته تصلح لاثباته، والعتق يترتب عليه بإقراره. ولو قال المدعي في صورة الاستيلاد لصاحب اليد: استولدتها أنا في ملكك، ثم اشتريتها مع الولد، فعتق الولد علي، وأقام عليه حجة ناقصة، فالعتق الآن مرتب على الملك الذي قامت به الحجة الناقصة، فيكون على الطريقين، كذا ذكره القفال. هذا كلام الاصحاب في جميع طرقهم في الصورتين، وانفرد الامام والغزالي فحكيا عن الاصحاب والمزني والنص أشياء منكرة محولة عن وجهها، وفي المختصر التصريح بخلافها، وكذا كتب الاصحاب. فصل ادعى ورثة ميت دينا أو عينا لمورثهم، فإنما يحكم على المدعى عليه إذا ثبت لهم ثلاثة أشياء: الموت والوراثة والمال، والاول والثاني لا مدخل فيهما للشاهد واليمين، بل لا يثبتان إلا بشاهدين أو إقرار المدعى عليه، وأما المال، فيدخله الشاهد واليمين، فإن حضر جميع الورثة وهم كاملون، وأقاموا شاهدا وحلفوا معه استحقوا، والمأخوذ تركة يقضى منها ديون الميت ووصاياه، وإن امتنع جميعهم وعلى الميت دين، فهل للغريم أن يحلف ؟ ذكرنا في التفليس فيه قولين، الجديد الاظهر المنع، ويجريان فيما لو كان أوصى لرجل، ولم يحلف الورثة، هل يحلف الموصى له ؟ فإن كانت الوصية بعين وادعاها في يد أجنبي فينبغي أن لا يكون فيه خلاف، ويقطع بالجواز، فإن حلف بعض الورثة دون بعض، أخذ الحالف نصيبه والنص أنه لا يشاركه فيه من لم يحلف، ونص في كتاب الصلح أنهما لو ادعيا دارا إرثا، فصدق المدعى عليه أحدهما في نصيبه شاركه المكذب، فخرج بعضهم من الصلح هنا قولا أن ما أخذه الحالف يشاركه فيه من لم يحلف، لان الارث يثبت على الشيوع، وقطع الجمهور بأن لا شركة هنا، كما نص والفرق من وجهين حكاهما الامام، أحدهما: أن صورة الصلح مصورة في عين، وأعيان التركة مشتركة بين الورثة، والمصدق معترف بأنه من التركة، والصورة هنا في دين، والدين إنما

(8/254)


يتعين بالتعيين والقبض، فالذي أخذه الحالف يتعين لنصيبه بالقبض، فلم يشاركه الآخر فيه، فعلى هذا لو كانت صورة الصلح في دين، لم تثبت الشركة. ولو فرض شاهد ويمين بعض الورثة في عين، تثبت الشركة. والفرق الثاني وهو الذي ذكره الجمهور أن الثبوت هنا بشاهد ويمين، فلو أثبتنا الشركة لملكنا الناكل بيمين غيره وهناك ثبت بإقرار المدعى عليه، ثم ترتب عليه إقرار المصدق بأنه إرث، فعلى هذا لا فرق بين العين والدين، ولا في صورة إقرار المدعى عليه، وأشار في الوسيط إلى تخريج خلاف في مسألة الصلح بما نحن فيه، ولا يعرف هذا لغيره، وهل يقضى من نصيب الحالف جميع الدين أم بالحصة ؟ قال في الشامل يبنى على أن الغريم هل يحلف ؟ إن قلنا: نعم لم يلزمه إلا قضاء حصته، وإن قلنا: لا، بني على أن من يحلف من الورثة هل يشارك الحالف إن قلنا: نعم قضى الجميع، لانا أعطيناه حكم التركة وإلا فبالحصة. هذا حكم نصيب الحالف، أما من لم يحلف، فإن كان حاضرا كامل الحال، ونكل عن اليمين، ذكر الامام أن حقه يبطل بالنكول، ولو مات، لم يكن لوارثه أن يحلف. وفي كتاب ابن كج ما ينازع فيه. قال الامام: ولو أراد وارثه أن يقيم شاهدا آخر ليحلف معه، لم يكن له أيضا، لكن هل يضم هذا الشاهد إلى الشاهد الاول، ليحكم بالبينة ؟ فيه احتمالان جاريان فيما لو أقام مدع شاهدا في خصومة، ثم مات، فأقام وارثه شاهدا آخر، فيجوز أن يقال: له البناء عليه، ويجوز أن يقال: عليه تجديد الدعوى، وإقامة البينة، وأنه لو أقام الورثة شاهدا، وحلف معه بعضهم، ومات بعضهم قبل أن يحلف أو ينكل، كان لوارثه أن يحلف، لكن هل يحتاج إلى إعادة الدعوى والشاهد ؟ فيه التردد المذكور، والاصح أنه لا يحتاج. وإن كان الذي لم يحلف صبيا أو مجنونا أو غائبا، نص الشافعي رحمه الله في المجنون أنه يوقف نصيبه. واختلفوا في معناه، فقال أبو إسحق وعامة الاصحاب: المراد أنا نمتنع من الحكم في نصيبه، ويتوقف حتى يفيق، فيحلف أو ينكل، ولا يؤخذ نصيبه وقيل: أراد أنه يؤخذ نصيبه ويوقف، وهذا أحد قوليه أن

(8/255)


الحيلولة هل تثبت بشاهد ؟ والصبي والغائب كالمجنون. وينبغي أن يكون الحاضر الذي لم يشرع في الخصومة، أو لم يشعر بالحال، كالمجنون في بقاء حقه بخلاف ما سبق في الناكل، فإن قلنا بالصحيح وهو أنه لا يؤخذ نصيب المعذورين، فإذا زال عذرهم حلفوا وأخذوا نصيبهم، ولا حاجة إلى إعادة الشهادة بخلاف ما لو كانت الدعوى لا عن جهة الارث، بأن قال: أوصى لي ولاخي الغائب أو الصبي أبوك بكذا، أو اشتريت مع أخي الغائب منك كذا، وأقام شاهدا، وحلف معه، فإنه إذا قدم الغائب، وبلغ الصبي يحتاجان إلى تجديد الدعوى وإعادة الشهادة أو شاهد آخر، ولا يؤخذ نصيبهما قبل ذلك، لان الدعوى في الميراث عن شخص واحد وهو الميت، وكذلك يقضى دينه من المأخوذ، وفي غير الميراث الدعوى وألحق الاشخاص، فليس لاحد أن يدعي ويقيم البينة عن غيره بغير إذن أو ولاية. ثم ما ذكرنا في الميراث أنه لا حاجة إلى إعادة الشهادة مفروض فيما إذا لم يتغير حال الشاهد، فإن تغير، فوجهان، أحدهما وبه قال القفال: لا يقدح وللصبي والمجنون والغائب إذا زال عذرهم أن يحلفوا، لانه قد اتصل الحكم بشهادته، فلا أثر للتغير، والثاني، وهو اختيار الشيخ أبي علي: لا يحلفون، لان الحكم اتصل بشهادته في حق الحالف فقط، ولهذا لو رجع الشاهد لم يكن لهم أن يحلفوا، ولو مات الغائب أو الصبي، فلوارثه أن يحلف ويأخذ حصته، فإن كان وارثه هو الحالف، لم تحسب يمينه الاولى، ولو ادعى شخص على ورثة رجل أن مورثكم أوصى لي ولاخي، أو ولاجنبي بكذا، وأقام شاهدا، وحلف معه، وأخذ نصيبه، لم يشاركه الآخر فيه بلا خلاف، ثم ذكر الشيخ أبو الفرج أن من يحلف من الورثة على دين أو عين للمورث يحلف على الجميع لا على حصته فقط، سواء حلف كلهم أو بعضهم، وكذا الغريم والموصى له إذا قلنا: يحلفان، وفي كلام غيره إشعار بخلافه، وجميع ما ذكرناه فيما إذا أقام بعض الورثة شاهدا واحدا، وحلف معه،

(8/256)


فأما إذا أقام بعضهم شاهدين، فإنه يثبت المدعى كله، فإذا حضر الغائب من الورثة، أو بلغ صبيهم، أو عقل مجنونهم، أخذ نصيبه، ولا حاجة إلى تجديد الدعوى وإقامة البينة، وينتزع القاضي بعد تمام البينة نصيب الصبي والمجنون، دينا كان أو عينا، ثم يأمر بالتصرف فيه بالغبطة كيلا يضيع عين ماله، وأما نصيب الغائب، فإن كان عينا انتزعها، وكلام الاصحاب يقتضي أن هذا الانتزاع واجب وهو الظاهر، لكن سبق في باب الوديعة أن الغاصب لو حمل المغصوب إلى القاضي والمالك غائب، ففي وجوب قبوله وجهان، فيجوز أن يعود ذلك الخلاف هنا مع قيام البينة، وإن كان المدعى دينا، ففي انتزاع نصيب الغائب وجهان جاريان فيمن أقر لغائب بدين، وحمله إلى القاضي هل على القاضي أن يستوفيه، والاصح في الصورتين عدم الوجوب، وحكاه ابن كج في مسألتنا عن النص. واعلم أنه سبق في كتاب الشركة أن أحد الوارثين لا ينفرد بقبض شئ من التركة، ولو قبض شاركه الآخر فيه، وقالوا هنا: يأخذ الحاكم نصيبه، كأنهم جعلوا غيبة الشريك عذرا في تمكين الحاضر من الانفراد، ولو ادعى على رجل أن أباه أوصى له ولفلان بكذا، وأقام شاهدين وفلان غائب أو صبي، لم يؤخذ نصيب فلان بحال، وإذا حضر وبلغ فعليه إعادة الدعوى والبينة لما ذكرنا أن الدعوى في الارث لشخص واحد. فرع لو كان للوارث الغائب وكيل وقد أقام الحاضر البينة، قال أبو عاصم: يقبض الوكيل نصيب الغائب دون القاضي، فإن لم يكن، قبض القاضي، ويؤجر لئلا تفوت المنافع.
فصل هل يثبت الوقف بشاهد ويمين، إن قلنا: الملك فيه للواقف أو الموقوف عليه، فنعم، وإن قلنا: لله تعالى، فوجهان، أو قولان، أحدهما: لا، وبه قال المزني وأبو إسحق كالعتق، والثاني: نعم، وبه قال ابن سريج وابن سلمة، والعراقيون يميلون إلى ترجيح الاول، وينسبونه إلى عامة الاصحاب، لكن الثاني أقوى في المعنى وهو المنصوص، وصححه الامام والبغوي وغيرهما، وجزم

(8/257)


به الغزالي. ولو ادعى ورثة ميت على رجل أنه غصب هذه الدار، وقالوا: كانت لابينا وقفها علينا وعلى فلان، تثبت دعوى الغصب بشاهد ويمين، ويثبت بهما أيضا الوقف إن أثبتناه بشاهد ويمين، وإلا فيثبت بإقرارهم. ولو مات عن بنين، فادعى ثلاثة منهم أن أباهم وقف عليهم هذه الدار، وأنكر سائر الورثة، فأقدموا شاهدا ليحلفوا معه تفريعا على ثبوت الوقف بشاهد ويمين، فلدعواهم صورتان إحداهما: أن يدعوا وقف ترتيب، فيقولوا: وقف علينا وبعدنا على أولادنا وعلى الفقراء، فلهم بعد إقامة البينة ثلاثة أحوال: أن يحلفوا جميعا، فيثبت الوقف، ولا حق لسائر الورثة في الدار، فإذا انقرض المدعون، أخذ البطن الثاني الدار وقفا، وهل يأخذونه بيمين أم بلا يمين ؟ وجهان، ويقال قولان، الاصح عند الجمهور: بلا يمين وهو ظاهر نصه في المختصر وإذا انتهى الاستحقاق إلى البطن الثالث والرابع عاد الخلاف، فإن قلنا: يأخذون بيمين مكان الحق بعد البنين الثلاثة للفقراء، نظر إن كانوا محصورين، كفقراء قرية ومحلة، فكذلك الجواب، وإن لم يكونوا محصورين فهل يبطل الوقف وتعود الدار إرثا، أم يصرف إليهم بلا يمين أم يصرف إلى أقرب الناس إلى الواقف بناء على تعذر مصرفه كالوقف المنقطع ؟ فيه ثلاثة أوجه. قلت: الاصح يأخذون بلا يمين وتسقط هنا لتعذرها ولا يبطل الوقف بعد صحته ووجود المصرف بخلاف المنقطع. والله أعلم. ولو مات أحد الحالفين، صرف نصيبه إلى الآخرين، فإن مات آخر، صرف الجميع إلى الثالث، لان استحقاق البطن الثاني إنما هو بعد انقراض الاولين، ثم أخذ الآخرين يكون بلا يمين على المذهب، وقيل: وجهان كالبطن الثاني. الحال الثاني: أن ينكلوا جميعا عن اليمين مع الشاهد، فالدار تركة يقضى منها الدين والوصية، ويقسم الباقي بين الورثة، ويكون حصة المدعين وقفا بإقرارهم، وحصة سائر الورثة طلقا لهم، فإذا مات المدعون، لم يصرف نصيبهم إلى أولادهم على سبيل الوقف إلا بيمين على الاصح، وقيل: يصرف إليهم وقفا بلا يمين، ولو أراد الاولاد أن يحلفوا ويأخذوا جميع الدار وقفا، فلهم ذلك على

(8/258)


الاظهر، لانهم أصحاب حق، فإذا أبطل آباؤهم حقهم بالنكول، فلهم أن لا يبطلوا حقهم، ويجري القولان، سواء قلنا: لو لم يحلفوا لا يكون شئ منها وقفا، أم قلنا: حصة الاولين تبقى وقفا، وإن لم يحلفوا، وهل يجري القولان في حياة الاولين إذا نكلوا ؟ وجهان، أحدهما: نعم، لبطلان حقهم، وتعذر الصرف إليهم بنكولهم، كما لو ماتوا، وأصحهما: لا، لان استحقاق البطن الثاني شرطه انقراض الاول. الحال الثالث: أن يحلف بعضهم دون بعض، فإذا حلف واحد، ونكل اثنان، أخذ الحالف الثلث وقفا، وأما الباقي، فهو تركة تقضى منها الديون والوصايا، فما فضل، ففيه وجهان، قال في الشامل: يقسم بين جميع الورثة، فما خص البنين الثلاثة كان وقفا على الناكلين، لان الحالف معترف لهما بذلك، والاصح وبه قطع المحاملي والبغوي وغيرهما أنه يقسم بين المنكرين من الورثة واللذين نكلا دون الحالف، لانه مقر بانحصار حقه فيما أخذ، ثم حصة الناكلين تكون وقفا بإقرارهما، فإذا مات الناكلان والحالف حي، فنصيبهما للحالف على ما شرط الواقف بإقرارهما، وفي اشتراط يمينه الوجهان، فإذا مات الحالف، فالاستحقاق للبطن الثاني، وفي حلفهم الخلاف السابق، وإن كان الحالف ميتا عند موت الناكلين، فأراد أولادهما أن يحلفوا، فعلى القولين السابقين في أولاد الجميع إذا نكلوا، الاظهر لهم الحلف، وفي نصيب الحالف الميت قبلهما ثلاثة أوجه، أحدها: يصرف إلى الناكلين، فعلى هذا في حلفهما الخلاف، فإن قلنا: يحلفان، فنكلا سقط هذا الوجه، والثاني: يصرف إلى البطن الثاني، وهو الاصح عند الجمهور، وهو ظاهر إشارته في الام لانهما أبطلا حقهما بنكولهما، وصارا كالمعدومين. والثالث أنه وقف تعذر مصرفه، فعلى هذا هل يبطل أم يبقى، وإذا بقي فهل يصرف إلى أقرب الناس إلى الواقف أم كيف حاله ؟ فيه خلاف سبق في الوقف بتفريعه، والمذهب أنه يبقى وقفا، ويصرف إلى أقرب الناس إلى الواقف،

(8/259)


فعلى هذا إذا زال التعذر بموت الناكلين، صرف إلى البطن الثاني، ويجئ في حلف أقرب الناس إذا قلنا: يصرف إليهم الخلاف. فرع إذا تصادقت الورثة على أن الدار وقف أبيهم، ثبت الوقف، ولا حاجة إلى شاهد ويمين. فرع ادعوا على رجل دارا في يده أنه وقفها عليهم، أو على ورثة أن مورثهم وقفها عليهم وأقاموا شاهدا نظر: أحلفوا مع شاهدهم، أم نكلوا، أم حلف بعضهم، ونكل بعضهم، وتجئ الاحوال الثلاثة كما سبق، لكن حيث جعلنا كل المدعى أو بعضه تركة هناك ترك هنا في يد المدعى عليه. الصورة الثانية: أن يدعوا وقف تشريك، فيقول البنون الثلاثة في المثال المذكور: هو وقف علينا وعلى أولادنا وأولاد أولادنا ما تناسلنا، فإذا انقرضنا، فعلى الفقراء، فأقاموا بذلك شاهدا، وإن حلفوا معه أخذوا الدار وقفا، ثم إذا حدث لاحدهم ولد، فمقتضى الوقف شركته، فيوقف ربع الغلة إلى أن يبلغ، فيصرف إليه إن حلف، ولم يجعلوه على الخلاف في أن البطن الثاني هل يحتاجون إلى يمين إذا حلف البطن الاول، بل جزموا باحتياجه إلى اليمين بعد البلوغ إلا السرخسي، فحكى فيه وجها. ثم إن الربع الموقوف هل يوقف في يد البنين الثلاثة، أم ينتزع، ويجعله في يد أمين ؟ وجهان أصحهما: الثاني، فإن نكل بعد بلوغه صرف الموقوف إلى الثلاثة، وجعل كأنه لم يولد، هذا هو المنصوص، وبه قال الجمهور، وحكي وجه أو تخريج أن نصيب المولود وقف تعذر مصرفه، فيجئ الخلاف السابق، لان الثلاثة معترفون بأنه له، فكيف يأخذونه بامتناعه باليمين، ولو مات بعد البلوغ والنكول، لم

(8/260)


يستحقها. فأما رقبة الوقف وغلتها بعد موت الولد، فمقتضى الشرط أن يستغرقها الثلاثة الحالفون، وليس عليهم تجديد يمين على المذهب، وكأن المولود لم يكن. ولو مات أحد الحالفين في صغر الولد وقف من يوم موته للولد ثلث الغلة، لان المستحقين صاروا ثلاثة فإن بلغ وحلف، أخذ الربع والثلث الموقوفين، وإن نكل صرف الربع إلى الابنين الباقيين وورثة الميت، وصرف الثلث إلى الباقين خاصة، ويعود فيه التخريج السابق. ولو بلغ الولد مجنونا أدمنا الوقف طمعا في إفاقته، فإن ولد له قبل أن يفيق وقف له الخمس، وللمولود الخمس من يوم ولادة الولد، فإن أفاق المجنون، وبلغ ولده وحلفا، أخذ المجنون الربع من يوم ولادته إلى يوم ولادة ولده، والخمس من يومئذ، وأخذ ولده الخمس من يومئذ. ولو مات المجنون في جنونه بعدما ولد ولد له، فالقلة الموقوفة لورثته إذا حلفوا، ويوقف لولده من يوم ثبوته ربع الغلة، هذا كله إذا حلف المدعون الثلاثة أولا، فإن نكلوا عن اليمين مع الشاهد، فلمن حدث بعدهم أيحلف بلا خلاف، لانه شريك الاولين بتلقي الوقف من الواقف لا محالة، وإن حلف بعضهم دون بعض، أخذ الحالف نصيبه، وبقي الباقي على ما كان. وبالله التوفيق.
الباب الخامس : في الشهادة على الشهادة هي مقبولة في غير العقوبات، كالاموال والانكحة والبيع، وسائر العقود، والفسوخ، والطلاق، والعتاق، والرضاع، والولادة، وعيوب النساء سواء حق الآدمي، وحق الله تعالى، كالزكاة ووقف المساجد، والجهات العامة. وأما العقوبات، فالمذهب القبول في القصاص، وحد القذف، والمنع في حدود الله تعالى. قال ابن القاص: والاحصان كالحد. ولو شهد اثنان على شهادة آخرين أن الحاكم حد فلانا، قبلت بلا خلاف، ذكره ابن الصباغ، لانه حق آدمي فإنه اسقاط حد عنه، ثم في الباب أربعة أطراف :
الأول : في تحملها وإنما يجوز التحمل إذا علم أن عند الاصل شهادة جازمة بحق ثابت، ولمعرفته أسباب، أحدها أن يسترعيه الاصل، فيقول: أنا شاهد

(8/261)


بكذا، وأشهدتك على شهادتي، أو يقول: أشهدك أو أشهد على شهادتي بكذا، أو يقول: إذا استشهدت على شهادتي، فقد أذنت لك في أن تشهد، أما إذا سمع انسانا يقول: لفلان على فلان كذا، أو أشهد أن لفلان على فلان كذا، لا على صورة أداء الشهادة، فلا يجوز أن يشهد على شهادته، لان الناس قد يتساهلون في إطلاق ذلك على عدة ونحوها، وكذا لو قال: عندي شهادة بكذا فلو قال: عندي شهادة مجزومة أو شهادة أثبتها أو لا أتمارى فيها وما أشبه ذلك، فوجهان، أصحهما وأوفقهما لاطلاق الاكثرين: المنع أيضا. ويشترط تعرض الاصل للفظ الشهادة، فلو قال: أعلم، أو أخبر، أو أستيقن، لم يكف كما لو أتى الشاهد عند إقامة الشهادة بهذه الالفاظ، فإن القاضي لا يحكم بها، قال الامام: وأبعد بعض الاصحاب، فأقام اللفظ الذي لا تردد فيه مقام لفظ الشهادة، ولا يشترط أن يقول في الاسترعاء: أشهدك على شهادتي، وعن شهادتي، لكنه أتم، فقوله: أشهدك على شهادتي تحميل، وقوله: عن شهادتي إذن في الاداء كأنه قال: أدها عني، ولاذنه أثر، ولهذا لو قال بعد التحمل: لا تؤد عني امتنع عليه الاداء، وقيل: يشترط ذلك في الاسترعاء، حكاه ابن الصباغ، وإذا حصل الاسترعاء، لم يختص التحمل بمن استرعاه. السبب الثاني: أن يسمعه يشهد عند القاضي أن لفلان على فلان كذا، فله أن يشهد على شهادته وإن لم يسترعه، لانه لا يتصدى لاقامة الشهادة عند القاضي إلا تحقق الوجوب، وللقاضي أيضا أن يشهد على شهادته عند قا ض آخر، والشهادة عند المحكم كالشهادة عند القاضي سواء جوزنا التحكيم أم لا، وقال الاصطخري: إنما تجوز إذا جوزناه، والصحيح الاول، لانه لا يشهد عند المحكم إلا وهو جازم بثبوت المشهود به. السبب الثالث: أن يبين سبب الوجوب، فيقول: أشهد أن لفلان على فلان

(8/262)


كذا من ثمن مبيع، أو قرض، أو أرش جناية، فتجوز الشهادة على شهادته، وإن لم يشهد عند القاضي، ولم يؤخذ منه استرعاء، لان الاسناد إلى السبب يقطع احتمال الوعد والتساهل، هذا ما يوجد لعامة الاصحاب، ونقل الشيخ أبو حاتم القزويني وجها أن الاسناد إلى السبب لا يكفي للتحمل، ووجها أن الشهادة عند القاضي لا تكفي أيضا، بل يشترط الاسترعاء، والصحيح ما سبق. فرع إذا قال: علي لفلان ألف، فوجهان، قال أبو إسحق: لا يجوز أن يشهد عليه بهذا القدر، بل يشتمع ذلك قرينة تشعر بالوجوب بأن يسنده إلى سبب، فيقول: من ثمن مبيع، أو يسترعيه، فيقول: فاشهد علي به، والثاني وهو الصحيح: أن مجرد الاقرار كاف للتحمل بخلاف الشهادة على الشهادة، لان الشهادة يعتبر فيها ما لا يعتبر في الاقرار، ولهذا يقبل إقرار الفاسق والمغفل والمجهول دون شهادتهم. فرع الفرع عند أداء الشهادة يبين جهة التحمل، فإن استرعاه الاصل، قال: أشهد أن فلانا شهد أن لفلاعلى فلان كذا، وأشهدني على شهادته، وإن لم يسترعه، بين أنه شهد عند القاضي أو أنه أسند المشهود به إلى سبب، قال الامام: وذلك لان الغالب على الناس الجهل بطريق التحمل، فإن كان ممن يعلم، ووثق به القاضي، جاز أن يكتفى بقوله: أشهد على شهادة فلان بكذا، ويستحب للقاضي أن يسأله بأي سبب ثبت هذا المال، وهل أخبرك به الأصل ؟ هذا إذا لم يبين السبب.
الطرف الثاني : في صفات شاهد الأصل وما يطرأ عليه
لا يصح تحمل الشهادة على شهادة فاسق، أو كافر، أو عبد، أو صبي، أو عدو، لانهم غير مقبولي

(8/263)


الشهادة، فلو تحمل والاصل بصفات الشهود، ثم طرأ ما يمنع قبولها، أو الوصول إليها، نظر إن كان الطارئ موتا أو غيبة أو مرضا، لم يؤثر، وإن عرض فسق أو عداوة أو ردة، لم تقبل شهادة الفرع ما دامت هذه الاحوال بالاصل، فإن زالت هل يشهد الفرع بالتحمل الاول، أم يشترط تحمل جديد ؟ وجهان، أصحهما: الثاني، قاله ابن سريج، وصححه الامام. ولو حدث الفسق، أو الردة بعد الشهادة، وقبل القضاء امتنع القضاء، ولو طرأ على الاصل جنون، فقيل: تبطل شهادة الفرع كالفسق، والصحيح الذي قاله الجمهور: لا أثر له، كالموت، لانه لا يوقع ريبة فيما مضى، ويجري الوجهان فيما لو عمي، وأولى بأن لا يؤثر، لانه لا يبطل أهلية الشهادة بالكلية. ولو أغمي عليه، قال الامام: إن كان غائبا لم يؤثر، وإن كان حاضرا، لم يشهد الفرع، بل ينتظر زواله، لانه قريب الزوال، ومقتضى هذا أن يكون الجواز كذلك في كل مرض يتوقع زواله، كتوقع زوال الاغماء. قلت: ليس كما قال الرافعي رحمه الله، بل الصواب أن المرض لا يلحق بالاغماء، وإن توقع زواله قريبا، لان المريض أهل للشهادة بخلاف المغمى عليه. والله أعلم. ولا أثر لحدوث شئ من هذه المعاني بعد القضاء، وكذا لو شهد الفرع في غيبة الاصل، ثحضر بعد القضاء، لم يؤثر، وإن حضر قبله، امتنع القضاء، لحصول القدرة على الاصل، وكذا لو كذب الاصل الفرع قبل القضاء، امتنع القضاء، والتكذيب بعده لا يؤثر. ولو قضى القاضي بالفرع، ثم قامت بينة بأن الاصل كذب الفرع قبل القضاء، فالقضاء منقوض ذكره الامام.

(8/264)


فرع هذا الذي سبق حكم صفة الاصل، أما الفرع، فلو تحمل الشهادة، وهو عبد، أو صبي، أو فاسق، أو أخرس، صح تحمله، كتحمل الاصل في هذه الاحوال، ثم الاداء يكون بعد زوالها. فرع لا تقبل الشهادة على الشهادة إلامن الرجال، ولا مدخل للنساء فيها وإن كانت الاصول أو بعضهم نساء، وكانت الشهادة في ولادة أو رضاع أو مال، لان شهادة الفرع تثبت الاصل لا ما شهد به الاصل، ونفس الشهادة ليست بمال، ويطلع عليها الرجال. وحكى ابن كج وجها في الولادة وهو شاذ.
الطرف الثالث : في عدد شهود الفرع، فإن شهد اثنان على شهادة أصل، وآخران على شهادة الثاني، فقد تم النصاب، ولو شهد فرع على أصل، وفرع آخر على شهادة الاصل الثاني، لم يصح قطعا، ولو شهد فرعان على شهادة الاصلين معا، ففي قبوله قولان، أظهرهما: الجواز، وهو الذي رجحه العراقيون، والامام، والغزالي، والروياني، وصاحب العدة، وخالفهم البغوي، والسرخسي، فإن قلنا بالمنع، فأقام شاهدين على شهادة الاصلين معا، فله أن يحبسهما على أيهما، ويحلف معه، ولو شهد أربعة على شهادة الاصلين جاز على الصحيح، وجميع ما ذكرنا فيما إذا شهد الفروع على شهادة رجلين، فإن شهدوا على شهادة رجل وامرأتين، فعلى قول المنع في الاثنين يشترط ستة يشهد كل اثنين منهم على شهادة واحد، وعلى الاظهر يكفي اثنان للجميع، وعلى ما نقله ابن كج في قبول النساء على النساء في الولادة هل يكفي شهادة أربع على شهادة أربع، أم يشترط ست عشرة، ليشهد كل أربع على واحدة ؟ وجهان. ولو شهد على شهادة الفروع فروع، وشرطنا أن يشهد

(8/265)


فرعان على كل أصل، وجب أن يشهد على شهادة كل فرع من الفروع الاربعة اثنان، فيجتمع ثمانية، ثم شهادتهم لا تثبت إلا بستة عشر، وعلى هذا القياس. وإذا أجرينا الشهادة على الشهادة في حدود الله تعالى، فهل تثبت الشهادة على شهود الزنى بأربعة، أم يكفي اثنان ؟ قولان كالقولين في الاقرار بالزنى، فإن اكتفينا باثنين، وجوزنا شهادة فرعين على شهادة الاصلين معا، كفى اثنان، وإن شرطنا لكل أصل اثنين، اشترط ثمانية، وإن شرطنا في الشهادة على الشهادة في الزنى أربعة، فإن جوزنا شهادة فرعين على الاصلين معا، كفى أربعة على الاصول الاربعة، وإن شرطنا أن يشهد على شهادة كل أصل فرعان، اشترطنا هنا ستة عشر كل أربعة على أصل.
الطرف الرابع : في أن شهادة الفروع متى تسمع.
وإنما تسمع إذا تعذر الوصول إلى شهادة الأصل، أو تعسر، وقيل: تقبل شهادة الفرع مع حضور الاصل، كالرواية، والصحيح الاول، لان باب الرواية واسع، ولهذا تقبل من المرأة والعبد، والشهادة على الشهادة وجوزت للضرورة، ولا ضرورة هنا. فمن وجوه التعذر الموت والعمى، ومن التعسر المرض، ولا يشترط أن لا يمكنه الحضور، وإنما المعتبر أن يناله بالحضور مشقة ظاهرة، ويلحق خوف الغريم وسائر ما تترك به الجمعة بالمرض، هكذا أطلق الامام والغزالي، وليكن ذلك في الاعذار الخاصة دون ما يعم الاصل والفرع، كالمطر والوحل الشديد، ولا يكلف القاضي أن يحضر عند شاهد الاصل، أو يبعث نائبه إليه لما فيه من الابتذال.

(8/266)


ومنها: الغيبة إلى مسافة القصر، فإن كانت دون مسافة القصر، فمنهم من أطلق وجهين، منهم ابن القطان، والاصح أنه إن كانت المسافة بحيث لو خرج الاصل بكرة لاداء الشهادة، أمكنه الرجوع إلى أهله ليلا، لم تسمع شهادة الفرع، وتسمى هذه مسافة العدوى، وإن كانت بحيث لا يمكنه الرجوع فهو موضع الوجهين وأصحهما تسمع. فصل يجب على الفروع تسمية الاصول وتعريفهم، لانه لا بد من معرفة عدالتهم، ولا تعرف عدالتهم ما لم يعرفوا. ولو وصفوهم بالعدالة ولم يسموهم بأن قالوا: نشهد على شهادة عدلين أو عدول، لم يكف، لان القاضي قد يعرف جرحهم لو سموهم، ولانه ينسد باب الجرح على الخصم، ولا يشترط في شهادة الفرع تزكية شهود الاصل، بل لهم إطلاق الشهادة، ثم القاضي يبحث عن عدالتهم، وحكى البغوي وجها في اشتراطها، والصحيح الاول، وحكي وجه أنه يشترط أن يقول الفروع: أشهدنا على شهادته، وكان عدلا إلى اليوم أو إلى أن مات تفريعا على ما سبق أنه لو فسق الاصل، ثم تاب، لم يكن للفرع أن يشهد على شهادته إلا بإشهاد جديد، والصحيح عدم الاشتراط. فإن قلنا بالصحيح إنه لا يشترط في شهادة الفرع تزكية الاصل، فلو زكوهم وهم بصفات المزكين، فالمذهب - وبه قطع الجمهور - أنه تقبل تزكيتهم، وتثبت عدالتهم، والمعروف فيما لو شهد اثنان في واقعة، وزكى أحدهما الآخر أنه لا تثبت عدالة الثاني، فمنهم من جعلها على وجهين بالتخريج، والمذهب الفرق أن تزكية الفروع الاصول من تتمة شهادتهم، ولذلك شرط بعضهم التعرض لها، فقبلت وهناك قام الشاهد المزكى بأحد شطري الشهادة، فلا يصح قيامه بالثاني، ولا يشترط أن يتعرض الفروع في شهادتهم، لصدق الاصول، لانهم لا يعرفونه بخلاف ما إذا حلف المدعي مع شاهده حيث يتعرض لصدقه، لانه يعرفه، وبالله التوفيق.
الباب السادس : في الرجوع عن الشهادة رجوع الشهود عن الشهادة إما أن يقع قبل القضاء بشهادتهم، وإما بعده. الحالة الاولى قبله، فيمتنع من القضاء ثم إن اعترفوا بتعمد الكذب، فهم فسقة يستترون، وإن قالوا: غلطنا، لم يفسقوا، لكن لا تقبل تلك الشهادة إن

(8/267)


أعادوها، وإن كانوا شهدوا بالزنى فرجعوا، واعترفوا بالتعمد، فسقوا وحدوا حد القذف، وإن قالوا: غلطنا، ففي حد القذف وجهان، أحدهما: المنع، لانهم معذورون، وأصحهما يجب لما فيه من التغيير، وكان حقهم أن يثبتوا، فعلى هذا ترد شهادتهم، وإن قلنا: لا حد، فلا ترد، وإن قال الشهود للقاضي بعد الشهادة: توقف في القضاء، وجب التوقف، فإن قالوا بعد ذلك: اقض، فنحن على شهادتنا، ففي جواز القضاء بشهادتهم وجهان، أصحهما: الجواز، فعلى هذا هل تجب إعادة الشهادة ؟ وجهان، أصحهما: لا، لانهم جزموا بها، والشك الطارئ زال. الحالة الثانية: إذا رجعوا بعد القضاء، فرجوعهم إما قبل الاستيفاء وإما بعد، فإن كان قبله، نظر إن كانت الشهادة في مال استوفي على الصحيح المنصوص، وإن كانت في قصاص، أو حد القذف، لم يستوف على المذهب، لانها عقوبة تسقط بالشبهة، والرجوع شبهة بخلاف المال، فإنه لا يتأثر بالشبهة، ووجه الجواز أن حقوق الآدميين مبنية على الضيق، وإن كانت في حدود الله تعالى لم تستوف، وقيل: كالقصاص. وإن كانت في شئ من العقود أمضي على الاصح، وقيل: النكاح كحد القذف، وحيث قلنا بالاستيفاء، بعد الرجوع، فاستوفى، فالحكم كما لو رجعوا بعد الاستيفاء، أما إذا رجعوا بعد الاستيفاء، فلا ينقض الحكم. ثم قد تكون الشهادة فيما يتعذر تداركه ورده، وقد تكون فيما لا يتعذر، فهما ضربان الاول المتعذر وهو نوعان، أحدهما: العقوبات، فإذا شهدوا بالقتل، فاقتص من المشهود عليه، ثم رجعوا، وقالوا: تعمدنا قتله، فعليهم القصاص، أو الدية المغلظة موزعة على عدد رؤوسهم، كما سبق في الجنايات، وكذا الحكم لو شهدوا بالردة فقتل، أو بزنى المحصن فرجم، أو على بكر، فجلد ومات منه، أو

(8/268)


بسرقة أو قطع فقطع، أو بقذف أو شرب فجلد ومات منه، ثم رجعوا. ويحدون في شهادة الزنى وحد القذف أولا، ثم يقتلون، وهل يرجمون أو يقتلون بالسيف ؟ فيه احتمالان، ذكرهما أبو الحسن العبادي، والصحيح الاول. ثم هنا صور إحداها: لو رجع القاضي دون الشهود، وقال: تعمدت، لزمه القصاص، أو الدية المغلظة وبكمالها، ولو رجع القاضي والشهود جميعا، لزمهم القصاص، وإن قالوا: أخطأنا، أو عفا على مال، فالدية منصفة، عليهما نصفها، وعليه نصفها، هكذا نقله البغوي وغيره، وقياسه أن لا تجب كمال الدية عند رجوعه وحده، كما لو رجع بعض الشهود، ولو رجع ولي الدم وحده، لزمه القصاص، أو كمال الدية، ولو رجع مع الشهود، فوجهان أصحهما عند الامام أن القصاص أو كمال الدية على الولي، لأنه المباشر، وهم معه كالممسك مع القاتل، وأصحهما عند البغوي أنهم معه، كالشريك لتعاونهم على القتل، لا كالممسك، لانه جعلهم كالمحقين، فعلى هذا على الجميع القصاص أو الدية، نصفها على الولي، ونصفها على الشهود، ولو رجع القاضي معهم، فالدية مثلثة، ثلثها على القاضي، وثلث على الولي، وثلث على الشهود، وينبغي على هذا الوجه أن لا يجب كمال الدية على الولي إذا رجع وحده. قلت: لم يرجح الرافعي واحدا من الوجهين، بل حكى اختلاف الامام والبغوي في الصحيح، والاصح ما صححه الامام وقد سبق في أول كتاب الجنايات من هذا الكتاب القطع به، فهو الاصح نقلا ودليلا. والله أعلم.

(8/269)


الثانية: يتعلق بالمزي الراجع قصاص وضمان ؟ فيه أوجه، أحدها: لا، لانه لم يتعرض للمشهود عليه، وإنما أثنى على الشاهد، والحكم يقع بالشاهد، فكان كالممسك مع القاتل، وأصحهما: نعم، لانه بالتزكية ألجأ القاضى إلى الحكم المفضي إلى القتل، والثالث يتعلق به الضمان دون القصاص، قال القفال: الخلاف فيما إذا قال المزكيان: علمنا كذب الشاهدين، فإن قالا: علمنا فسقهما، فلا شئ عليهما، لانهما قد يكونان صادقين مع الفسق، وطرد الامام الخلاف في الحالين. الثالثة: ما ذكرنا من وجوب القصاص على الشهود الراجعين هو فيما إذا قالوا: تعمدنا، فلو قالوا: أخطأنا، وكان الجاني أو الزاني غيره، فلا قصاص، وتجب الدية مخففة، وتكون في مالهم، لان إقرارهم لا يلزم العاقلة، فإن صدقهم العاقلة، فهي على العاقلة. قال الامام: وقد يرى القاضي والحالة هذه تعزيز الشهود لتركهم التحفيظ، ولو قال أحد شاهدي القتل: تعمدت ولا أدري أتعمد صاحبي أم لا، واقتصر على قوله: تعمدت وقال صاحبه: أخطأت، فلا قصاص على واحد منهما، لان شريك المخطئ لا قصاص عليه، وقسط المخطئ من الدية يكون مخففا، وقسط المتعمد يكون مغلظا ولو قال كل واحد: تعمدت، وأخطأ صاحبي، فوجهان، أحدهما: يجب القصاص لاعترافهما بالعمدية،

(8/270)


وأصحهما: المنع، ولا خلاف أن الدية تجب عليهما مغلظة. ولو قال أحدهما: تعمدت وأخطأ صاحبي، أو قال: ولا أدري أتعمد صاحبي أم أخطأ، وصاحبه غائب أو ميت، فلا قصاص، ولو قال: تعمدت وتعمد صاحبي، وصاحبه غائب أو ميت، لزمه القصاص. ولو قال: تعمدت ولا أعلم حال صاحبي، وقال صاحبه مثله، أو اقتصر على قوله: تعمدت، لزمهما القصاص، ذكره البغوي وغيره. ولو قال أحدهما: تعمدت أنا وصاحبي، وقال الآخر: أخطأت أو أخطأنا معا، فلا قصاص على الثاني، ويلزم الاول على الاصح. ولو قال أحدهما: تعمدت وتعمد صاحبي، وقال صاحبه: تعمدت وأخطأ هو، وجب القصاص على الاول، ولا يجب على الثاني على الصحيح، لانه لم يعترف إلا بشركة مخطئ. ولو رجع أحد الشاهدين، وأصر الآخر، وقال الراجع: تعمدت، لزمه القصاص، وإن اقتصر على قوله: تعمدت، فلا. الرابعة: ما ذكرنا من وجوب القصاص على الشهود الراجعين فيما إذا قالوا: تعمدنا، وعلمنا أنه يقتل بشهادتنا، فإن قالوا: تعمدنا، ولم نعلم أنه يقتل، فإن كانوا ممن لا يخفى عليه ذلك، وجب القصاص، ولا اعتبار بقولهم، كمن رمى سهما إلى رجل، واعترف بأنه قصده، ولكن قال: لم أعلم أنه يبلغه، وإن كانوا ممن يجوز خفاؤه عليهم لقرب عهدهم بالاسلام، فالذي قال الاصحاب: إنه شبه عمد لا يوجب قصاصا، ومال الامام إلى وجوبه، وحكى الروياني وجها شاذا مأخوذا، مما لو ضرب المريض ضربا يقتل المريض دون الصحيح، ولم يعلم مرضه، وأما الدية، فتجب في مال الشهود مؤجلة في ثلاث سنين إلا أن تصدقهم العاقلة، فيجب عليها، وقال القفال: حالة لتعمدهم، والصحيح الاول، وبه قطع الجمهور. فرع قال ابن القطان: لو رجع الشهود، وقال: أخطأنا، وادعو أن العاقلة تعرف أنهم أخطؤوا، وأن عليهم الدية، فأنكرت العاقلة العلم، فليس للشهود تحليفهم، وأنما يطالب العاقلة إذا قامت البينة، قال ابن كج: ويحتمل أن لهم تحليفهم، لانهم لو أقروا لغرموا. النوع الثاني: غير العقوبات، فمنه الابضاع فإذا شهدوا بطلاق بائن أو رضاع محرم، أو لعان أو فسخ بعيب، أو غيرها من جهات الفراق، وقضى القاضي

(8/271)


بشهادتهما، ثم رجعا لم يرتفع الفراق، لكن يغرمان، سواء كان قبل الدخول أو بعده، فإن كان بعد الدخول، غرما مهر المثل على المشهور، وفي قول: المسمى، وإن كان قبله، فهل يغرمان مهر المثل أم نصفه ؟ فيه نصان، ونص فيما لو أفسدت امرأة نكاحه برضاع أنها تغرم نصف مهر المثل، وللاصحاب طرق، المذهب وجوب النصف في الرضاع، وجميع مهر المثل في الرجوع عن الشهادة، وفي قول نصفه، وفي قول نصف المسمى، وفي قول جميعه، وقيل: يجب جميع مهر المثل قطعا، وقيل: نصفه قطعا، وقيل: إن كان الزوج سلم إليها الصداق، غرم الشهود جميع مهر المثل، لانه لا يتمكن من استرداد شئ، وإلا فنصفه، ولو تزوجها مفوضة، وشهدا بالطلاق قبل الدخول والفرض، وقضى القاضي بالطلاق والمتعة، ثم رجعا فالخلاف في أنهما يغرمان مهر المثل أو نصفه، كما في غير التفويض، وفي قول قديم يغرمان المتعة التي غرمها الزوج ولو شهدا بطلاق رجعي، ثم رجعا، فلا غرم إذا لم يفوتا شيئا، فإن لم يراجع حتى انقضت العدة، التحق بالبائن، ووجب الغرم على الصحيح، وقيل: لا لتقصيره بترك الرجعة، وأطلق ابن كج في وجوب الغرم بالرجوع عن شهادة الطلاق الرجعي وجهين، فإن أوجبنا الغرم في الحال، فغرموا، ثم راجعها الزوج، فهل عليه رد ما أخذ، فيه احتمالان، ذكرهما أو الحسن العبادي. قلت: الصواب الجزم بالرد. والله أعلم. ولو شهد بطلاق، وقضى به، ثم رجعا، وقامت بينة أنه كان بينه وبين الزوجة رضاع محرم، أو شهدا بأنه طلقها اليوم، ورجعا، ثم قامت بينة أنه كان طلقها ثلاثا أمس، فلا شئ عليهما، إذ لم يفوتا، فإن غرما قبل البينة استرداد، ولو شهدا أنها زوجة فلان بألف، وحكم بشهادتهما القاضي، ثم رجعا، قال البغوي: لا غرم، وقال ابن الصباغ: إن كان بعد الدخول غرما ما نقص عن مهر المثل إن كان الالف دونه، قال وعلى هذا لو كان قبل الدخول، ثم دخل بها ينبغي أن يغرما ما نقص، وهذا هو الذي أطلقه ابن كج. ولو شهدا أنه طلقها بألف، ومهرها

(8/272)


ألفان، فقال ابن الحداد، والبغوي: عليهما ألف وقد وصل إليه من المرأة ألف، وقال ابن كج: عليهما مهر المثل بعد الدخول، ونصفه قبله، كما لو يذكرا عوضا، وأما الالف، فهو محفوظ عند للمرأة، لانها لا تدعيه، وإن لم يكن قبضه، فهو في يدها. فرع ومن هذا النوع العتيق، فإذا شهدا بعتق عبد، وقضى به القاضي، ثم رجعا، غرما قيمة العبد، ولم يرد العتق، سواء كالمشهود بعتقه قنا أو مدبرا، أو مكاتبا أو أم ولد، أو معلقا عتقه بصفة، ولو شهدا بتدبير عبد، أو استيلاد جارية، ثم رجعا بعد القضاء، لم يغرما في الحال لان الملك لم يزل، فإذا مات، غرما

(8/273)


بالرجوع السابق، وهكذا لو شهدا بتعليق عتق أو طلاق بصفة، ثم رجعا وفيهما وجه، لانهما لم يشهدا بما يزيل الملك ولو شهدا بكتابته، ثم رجعا، وأدى النجوم، وعتق ظاهرا، ففيم يغرمان ؟ وجهان، أحدهما: كل القيمة، والثاني: ما بين قيمته والنجوم. ولو شهدا أنه اعتقه على مال هو دون القيمة، فالمنقول أنه كما لو شهدا أنه طلقها بألف، ومهرها ألفان. فرع ومنه أنه إذا شهدا أنه وقف على مسجد أو جهة عامة، ثم رجعا بعد القضاء، غرما قيمته، ولا يرد الوقف، وكذا لو شهدا أنه جعل هذه الشاة أضحية. الضرب الثاني: ما لا يتعذر تداركه وهو الاموال أعيانها وديونها، فإذا شهدوا لرجل بمال، ثم رجعوا بعد دفع المال إليه، لم ينقض الحكم، ولم يرد المال إلى المدعي عليه، هذا هو الصحيح، وبه الجمهور، وحكى في العدة وجها أنه ينقض، ويرد المال وهو شاذ، وهل يغرمون ؟ قولان أظهرهما عند العراقيين والامام وغيرهم: نعم، وقيل: لا يغرمون قطعا، وقيل: يغرمون الدين دون العين، والمذهب الغرم مطلقا. فصل شهدوا على أحد الشريكين في عبد أنه أعتق حصته وهو موسر، فقضى القاضي بعتقه والسراية، ثم رجعوا، لزمهم قيمة نصف المشهود عليه وفي قيمة نصيب الشريك الخلاف في غرم المال شهدو قتل الخطإ إذا رجعوا بعد غرم العاقلة هل يغرمون ؟ فيه الخلاف. ولو حكم القاضي بشهادة شهود الفرع. ثم رجعوا غرموا، ولو رجع شهود الاصل، وقالوا: كذبنا، غرموا أيضا، ولو رجع الاصول والفروع، فالغرم على شهود الفرع، لانهم ينكرون إشهاد الاصول، ويقولون: كذبنا فيما قلنا، والحكم وقع بشهادتهم. وحيث وجب على الراجح عقوبة من قصاص أو حد قذف، دخل التعزيز فيها، وإذا لم تجب عقوبة، واعترف بالتعمد، عزر. فصل الرجوع المغرم إما أن يوجد والمحكوم بشهادتهم على الحد المعتبر في الباب، وإما أكثر عددا، فإن كانوا على الحد بأن حكم في العتق أو القتل

(8/274)


بشهادة رجلين، ثم رجعا، لزمهما الغرم بالسوية، وإن رجع أحدهما، لزمه النصف، وكذا لو رجم في الزنى بشهادة أربعة، فرجعوا جميعا، فعليهم الدية أرباعا، وإن رجع بعضهم، فعليه حصته منها، وإن زادوا على الحد المعتبر بأن شهد القتل أو الحد ثلاثة، أو بالزنى خمسة، فإن رجع الجميع، فالغرم عليهم بالسوية، وإن رجع البعض، نظر، فإن ثبت على الشهادة الحد المعتبر بأن رجع من الثلاثة في القتل واحد، أو من الخمسة في الزنى واحد فلا غرم على الراجع على الاصح، وبه قال ابن سريج والاصطخري، وابن الحداد، والثاني: يغرم بحصته من العدد، قال المزني وأبو إسحق. ولا يجب القصاص والحالة هذه بلا خلاف، كذا قال البغوي، وفي الفروق للشيخ أبي محمد عن القفال أنه يلزمه القصاص إن اعترف بالتعمد، أما إذا لم يثبت من العدد المعتبر إلا بعضهم بأن رجع من الثلاثة أو الخمسة اثنان، فعلى الوجهين السابقين، فإن قلنا: لا غرم هناك وزع الغرم الثلاثة أو الخمسة اثنان، فعلى الوجهين السابقين، فإن قلنا: لا غرم هناك وزع الغرم هنا على العدد المعتبر، وحصة من نقص من العدد المعتبر توزع على من رجع بالسوية، ففي صور الثلاثة يكون نصف الغرم على الراجعين، وإن قلنا: يغرم هناك وزع هنا على جميع الشهود، فعلى الاثنين الراجعين من الثلاثة ثلثا الغرم، هذا كله إذا كان جميع الشهود ذكورا أو إناثا بأن كان رضاعا أو نحوه، فإن كانوا ذكورا وإناثا نظر إن لم يزيدوا على العدد المعتبر، كرجل وامرأتين، في رضاع أو مال، فإذا رجعوا، فعلى الرجل نصف الغرم، وعلى كل امرأة ربعه، وإن زادوا على العدد، فالمشهود به قسمان: أحدهما ما يثبت بالنسوة منفردات، كالرضاع، فإذا شهد به أربع نسوة ورجل، ورجعوا، فعليه ثلث الغرم، وعليهن ثلثاه، وإن رجع وحده، فلا شئ

(8/275)


عليه على الاصح، لبقاء الحجة، وكذا لو رجع امرأتاه، وعلى الثاني عليه أو عليهما ثلث الغرم. ولو شهد رجل وعشر نسوة، ثم رجعوا، فعليه سدس الغرم، وعلى كل واحدة نصف سدسه، وإن رجع وحده أو مع ست، فما دونهن، فلا غرم على الاصح لبقاء الحجة، وعلى الثاني يجب على من رجع حصته، وإن رجع مع سبع، فعلى الاصح عليهم ربع الغرم، لبطلان ربع البينة، وإن رجع مع ثمان، فنصفه ومتسع ثلاثة أرباعه، ويكون على الذكر ضعف ما على المرأة، وعلى الثاني عليهم قدر حصتهم لو رجعوا جميعا، ولو رجع النسوة وحدهن. فعليهن نصف الغرم على الاصح، وخمسة أسداسه في الثاني. القسم الثاني: ما لا يثبت بالنسوة منفردات، كالمال إذا أوجبنا الغرم فيه بالرجوع، فشهد رجل وأربع نسوة ورجعوا، فهل على الرجنصف الغرم أم ثلثه ؟ وجهان أصحهما الاول، فإن قلنا به، فرجع النسوة، فعليها نصف الغرم، ولو رجعت امرأتان، فلا شئ عليهما على الاصح لبقاء الحجة، وعلى قول المزني وأبي إسحق، عليهما ربع الغرم. ولو شهد رجل وعشر نسوة، ورجعوا، فعليه نصف الغرم، وعليهن نصفه على الاصح، وعلى الثاني عليه سدسه، وعليهن الباقي ولو رجع وحده، فعليه النصف على الاصح، وعلى الآخر إنما عليه السدس، ولو رجعن دونه، فعليهن النصف في الاصح، وفي الآخر خسمة أسداس، وإذا علقنا نصف الغرم برجوع الرجل، فرجع معه ثمان نسوة، فعليه النصف، ولا شئ عليهن بناء على أنه لا يثبت بشهادتين إلا نصف الغرم، وقد بقي من النساء من يتم به ذلك، وعلى قول المزني، وأبي إسحق عليهن أربعة أخماس النصف، ولو رجع مع تسع نسوة، لزمه النصف، وعليهن الربع، لبقاء الحجة، وعلى قول المزني عليه نصف، وعليهن تسعة أعشار النصف الآخر، وإن رجع ثمان نسوة لا غير، فلا شئ عليهن، وعلى قوله عليهن أربعة أخماس النصف. فرع هل يتعلق الغرم بشهود الاحصان مع شهود الزنى، وبشهود الصفة مع شهود تعليق الطلاق والعتق ؟ وجهان، وقيل: قولان، أصحهما: لا، وقيل: إن

(8/276)


شهدوا بالاحصان بعد شهادة الزنى غرموا، وإلا فلا، فإن غرمناهم، فقالوا: تعمدنا، لزمهم القصاص، كشهود الزنى. وفي كيفية توزيع الغرم عليهم وعلى شهود الزنى وجهان، أصحهما: اعتبار النصابين، فعلى شهود الاحصان ثلث الغرم، والآخرين ثلثاه، والثاني يوزع نصفين اعتبارا بالجنسين، كالقاضي مع الشهود، وإذا غرمنا شهود الصفة، غرموا النصف قطعا، فإذا شهد أربعة بالزنى، واثنان بالاحصان، ورجعوا كلهم بعد الرجم، فإن قلنا بالاصح: إن شهود الاحصان لا يغرمون، فالضمان على شهود الزنى، وإلا فعلى الجميع أثلاثا على الاصح، ومناصفة على الآخر، وإن رجع واحد من شهود الزنى، وواحد من شاهدي الاحصان، فإن لم نغرم شهود الاحصان، فعلى الرابع من شهود الزنى ربع الغرم، وإن غرمناهم، فإن نصفنا، فعليه ثمن الغرم، على الآخر ربع، وإن ثلثنا، فعلى كل واحد منهما سدسه، وإن رجع واحد من أحد الصنفين لا غير، ففيما عليه هذا الخلاف ولو شهدا أربعة بالزنى والاحصان جميعا، ثم رجع أحدهم، فإن لم نغرم شهود الاحصان، فعليه ربع الغرم، وإن غرمناهم، فقد بقي هنا من تقوم به بحجة الاحصان، فإن غرمنا الرابع مع ثبات من تقوم به الحجة، لزمه الربع أيضا، كما لو رجعوا كلهم، وإن لم نغرمه، فلا ضمان عليه بسبب الاحصان، وأما بسبب الزنى، فإن نصفنا، فعليه ثمن الغرم، وإن ثلثنا، فسدسه، وإن رجع ثلاثة وبقي واحدة، فقد بطل ثلاثة أرباع حجة الزنى، ونصف حجة الاحصان، فإن لم نغرم شهود الاحصان، لزمهم ثلاثة أرباع الغرم، وإن غرمناهم، فعلى كل واحد إن نصفنا للرجوع عن الزنى ثمن الغرم، وعن الاحصان نصف سدسه بتوزيع نصف غرم الاحصان عليهم، وإن ثلثنا، فعلى كل واحد للرجوع عن شهادة الزنى سدس الغرم توزيعا للثلثين على الاربعة، وعن الاحصان ثلث سدسه توزيعا لنصف غرم الاحصان على الراجعين، ولو شهد أربعة بالزنى، واثنان منهم بالاحصان، ثم رجعوا بعد الرجم، فإن لم نغرم شهود الاحصان في المسائل السابقة، فكذا هنا، وإن غرمناهم، فهل يغرم شاهد الاصل هنا زيادة ؟ وجهان، فإن قلنا: نعم عاد الخلاف، فإن نصفنا فعلى اللذين شهدا بالاحصان ثلاثة أرباع الغرم: النصف بشهادة الاحصان، والربع بالزنى، وعلى الآخرين الربع، وإن ثلثنا، فعلى شاهدي

(8/277)


الاحصان ثلثان، وعلى الآخرين ثلث، وإن رجع واحد منهم، فإن لم نغرم شهود الاحصان، فعليه ربع الغرم، وإن غرمناهم، فإن كان الراجع من شاهدي الاحصان، فإن نصفناء، لزمه ثمن الغرم، وإن ثلثنا، فالسدس ولو شهد ثمانية بالزنى والاحصان، ثم رجع أحدهم فلا غرم على الاصح لبقاء الحجتين، وكذا لو رجع ثان وثالث ورابع، فإن رجع خامس، فقد بطلت حجة الزنى، ولم تبطل حجة الزنى، ولم تبطل حجة الاحصان، فإن لم نغرم شهود الاحصان، فعلى الخمسة ربع الغرم لبطلان ربع الحجة، وإن غرمناهم، فلا غرم هنا لشهادة الاحصان على الاصح، لبقاء حجته، ويغرم الراجعون ربع غرم الزنى وهو السدس إن ثلثنا، والثمن إن نصفنا، وإن رجع ستة، لزمه نصف غرم الزنى، وهو الثلث إن ثلثناه، والربع إن نصفناه، وإن رجع سبعة، بطلت الحجتان، ولا يخفى قياسه. شهد أربعة على رجل بأربعمائة، ثم رجع أحدهم عن مائة وآخر عن مائتين، وثالث عن ثلاثمائة، والرابع عن الجميع، فالبينة باقية بتمامها في مائتين، فالاصح أنه لا يجب غرمهما، ويجب عن الاربعة غرم المائة بالرجوع عنها باتفاقهم، وعلى الثاني والثالث والرابع ثلاثة أرباع المائة التي اختصوا بالرجوع عنها، والوجه الثاني على كل واحد حصته فيما رجع عنه، فعلى الاول ربع المائة، وعلى الثاني خمسون، وعلى الثالث خمسة وسبعون، وعلى الرابع مائة. فصل إذا حكم القاضي بشهادة اثنين، ثم بان كونهما كافرين، أو عبدين، أو صبيين، فقد سبق أنه ينقض حكمه، وكذا لو بانا فاسقين على الاظهر، قال الامام: ومعنى نقضه أنا نتبين الامر على خلاف ما ظنه وحكم به، فإن كان المشهود به طلاقا أو عتقا أو عقدا فقد بان أنه لا طلاق ولا عتق ولا عقد، فإن كانت المرأة ماتت، فقد ماتت وهي زوجته، وإن مات العبد مات وهو رقيق له، ويجب

(8/278)


ضمانه، وإن كان المشهود به قتلا أو قطعا أو حدا استوفى وتعذر التدارك، فضمانه على عاقلة القاضي على الاظهر، وفي بيت المال على قول كما سبق في ضمان الولاة. وإنما تعلق الضمان بالقاضي، لتفريطه بترك البحث التام على حال الشهود، ولا ضمان على المشهود له، لانه يقول: استوفيت حقي، ولا على الشهود، لانهم ثابتون على شهادتهم زاعمون صدقهم بخلاف الراجعين. وإذا غرمت العاقلة أو بيت المال، فهل يثبت الرجوع على الشهود فيه خلاف وتفصيل سبق في باب ضمان الولاة، والذي قطع به العراقيون أنه لا ضمان عليهم، وقالوا: وكذا لا ضمان على المزكين، لان الحكم غير مبني على شهادتهم، قال القاضي أبو حامد: يرجع الغارم على المزكين، ويستقر عليهم الضمان بخلاف الشهود، لانه ثبت عند القاضي أن الامر على خلاف قول المزكين، ولم يثبت أنه خلاف قول الشهود وإلى هذا مال القاضيان أبو الطيب والروياني، ومفهوم ما ذكروه أنه يجوز تغريم المزكين، أولا، ثم لا رجوع لهم على القاضي، وأشار الامام إلى مثل ذلك في الشهود إذا قلنا بالرجوع عليهم، ولا فرق فيما ذكرناه من تعليق الضمان بالقاضي بين أن يكون الحكم في حد الله تعالى أو قصاص، وسواء في القصاص استوفاه المدعي أو القاضي بنفسه، أو فوض استيفاءه بإذن المدعي إلى شخص، وسبق في إذن القاضي عن الاصطخري أن المدعي إن استوفاه بنفسه، فالضمان عليه، أنه إنما يعلق الضمان بالقاضي إذا باشر الاستيفاء أو فوضه إلى غيره بإذن المدعي، وإن كان المحكوم به مالا، فإن كان باقيا عند المحكوم له انتزع، وإن كان تالفا، أخذ منه ضمانه، وقيل: إن تلف بآفة سماوية، فلا ضمان والصحيح الاول، وفرقوا بينه وبين الاتلاف حيث قلنا: لا غرم عليه فيه بأن الاتلاف إنما يضمن إذا وقع على وجه التعدي، وحكم القاضي أخرجه عن التعدي، وأما المال، فإذا حصل في يد إنسان بغير حق كان مضمونا، وإن لم يوجد منه تعد، فإن كان المحكوم له معسرا أو غائبا، فللمحكوم عليه مطالبة القاضي ليغرم له من بيت المال في قول ومن خالص ماله في قول، لانه ليس بدل نفس تتعلق بالعاقلة، ثم القاضي يرجع على المحكوم له إذا

(8/279)


ظفر به موسرا، وهل له الرجوع على الشهود ؟ جعله الامام على الخلاف والتفصيل المشار إليهما في الاتلافات، ويجئ أن يقال على قياس ما سبق: إن المحكوم عليه يتخير في تغريم القاضي، وتغريم المحكوم له، وبالله التوفيق.

(8/280)