روضة الطالبين وعمدة المفتين ط العلمية

روضة الطالبين - كتاب الدعوى والبينات
فيه سبعة أبواب، لأن الدعوى تدور على خمسة أشياء : الدعوى وجوابها، واليمين، والبينة والنكول، فهذه خمسة، والسادسة في مسائل تتعلق بهذة الاصول، والسابع في دعوى النسب، وإلحاق القائف.
الأول : في الدعوى، وفيه مسائل :
إحداها : في أن المستحق متى يحتاج إلى المرافعة والدعوى، كالحق إذا كان عقوبة كالقصاص، وحد القذف، اشترط رفعه إلى القاضي، لعظم خطره، وإن

(8/281)


كان مالا، فهو عين، أو دين، فإن كان عينا، فإن قدر على استردادها من غير تحريك فتنة، أشغل به، وإلا فلا بد من الرفع. وأما الدين، فإن كان من عليه مقرا غير ممتنع من الاداء طالبه ليؤدي، وليس له أن يأخذ شيئا من ماله، لان الخيار في تعيين المال المدفوع إلى من عليه، فإن خالف، وأخذ شيئا من ماله، لزمه رده، فإن تلف عنده، وجب ضمانه، فإن اتفقا، جاء خلاف التقاص. وإن لم يكن كذلك، فإما أن يمكن تحصيل منه بالقاضي، وإما أن لا يمكن، فإن لم يمكن بأن كان منكرا، ولا بينة لصاحب الحق، فله أن يأخذ جنس حقه من ماله إن ظفر به، ولا يأخد غير الجنس مع ظفره بالجنس، وفي التهذيب وجه أنه يجوز وهو ضعيف، فإن لم يجد إلا غير الجنس، جاز الاخذ على المذهب، وبه قطع الجمهور، وقيل: قولان، وإن أمكن تحصيل الحق بالقاضي بأن كان مقرا مماطلا، أو منكرا عليه وله بينة، أو كان يرجو إقراره لو حضر عند القاضي وعرض

(8/282)


عليه اليمين، فهل يستقل بالاخذ أم يجب الرفع إلى القاضي ؟ وجهان، أصحهما جواز الاستقلال، قاله أبو إسحق، وابن أبي هريرة، وصححه القاضيان أبو الطيب والرمياني، للحديث الصحيح في قصة هند، ولان في المرافعة مشقة ومؤنة، وتضييع زمان. ومتى جاز للمستحق الاخذ، فلم يصل إلى المال إلا بكسر الباب، ونقب الجدار، جاز له ذلك، ولا يضمن ما فوته، كمن لم يقدر على دفع الصائل إلا بإتلاف ماله، فأتلفه لا يضمن، وقيل: يضمن وهو شاذ، ثم إن كان المأخوذ من جنس الحق فله تملكه، وإن كان من غير جنسه، لم يكن له

(8/283)


التملك، وقيل: يتملك قدر حقه، ويستقل بالمعاوضة للضرورة، كما يستقل بالتعيين عند أخذه الجنس، والصحيح الاول، ثم هل يرفعه إلى القاضي ليبيعه، أم يستقل ببيعه ؟ وجهان، ويقال: قولان، أصحهما عند الجمهور الاستقلال، هذا إن كان القاضي جاهلا بالحال، ولا بينة للاخذ، فإن كان القاضي عالما، فالمذهب أنه لا يبيعه إلا بإذنه، فإن أوجبنا الرفع إلى القاضي، فهل للقاضي أن يأذن له في بيعه، أو يفوضه إلى غيره ؟ وجهان، أصحهما: الاول، وفي طريقة عند الرفع وجهان، أحدهما: يبيعه القاضي بعد إقامة البينة على استحقاق المال، وهذا يبطل فائدة تجويز البيع عند العجز عن البينة. والثاني: يواطئ رجلا يقر له بالحق، ويمتنع من الاداء، ويقر له الاخذ بالمال حتى يبيعه القاضي، وهذا إرشاد إلى الكذب من الطرفين، ويضعف وجوب الرفع. ثم عند البيع إن كان الحق من جنس نقد البلد، بيع المأخوذ به، وإن لم يكن بأن ظفر بثوب والدين حنطة، بيع الثوب بنقد البلد، ثم يشتري به حنطة. وحكى الامام عن محققي الاصحاب أنه يجوز أن يشتري غير الحنطة بالثوب، ولا يوسط النقد بينهما، وهل يكون المأخوذ مضمونا على الاخذ حتى لو تلف قبل البيع، أو التملك بتلف من ضمانه أم لا ؟ وجهان، أصحهما: نعم وهو الذي ذكره الصيدلاني والامام، والغزالي، لانه أخذه لغرضه، كالمستام بل أولى، لان المالك لم يسلطه فعلى هذا ينبغي أن نبادر إلى

(8/284)


البيع بحسب الامكان، فإن قصر، فنقصت قيمته، ضمن النقصان، ولو انخفضت القيمة، وارتفعت، وتلف، فهي مضمونة عليه بالاكثر، ولو اتفق رد العين، لم يضمن نقص القيمة كالغاصب، ولو باعه، وتملك ثمنه، ثم قضى المستحق دينه، ففيما علق عن الامام أنه يجب أن يرد إليه قيمة المأخوذ، كما إذا ظفر المالك بغير جنس المغصوب من مال الغاصب، فأخذه، وباعه، ثم رد الغاصب المغصوب، فإن على المالك أن يرد قيمة ما أخذه وباعه، وينبغي أن لا يرد شيئا ولا يعطي شيئا. فرع ليس له الانتفاع بالعين المأخوذة، فإن انتفع، لزمه أجرة المثل. فرع لا يأخذ أكثر من حقه إذا أمكنه الاقتصار عليه، فإن زاد، فالزيادة مضمونة عليه، فإن لم يمكنه بأن لم يظفر إلا بمتاع يزيد قيمته على قدر حقه، فإن قلنا: لو كان المأخوذ قدر حقه لا يكون مضمونا، فكذا الزيادة، وإن قلنا: يكون مضمونا لم يضمن الزيادة على الاصح، ثم إذا كان المأخوذ أكثر من حقه، فإن كان مما يتجزأ باع منه قدر حقه، وسعى في رد الباقي إليه بهبة ونحوها، وإن كان لا يتجزأ، فإن قدر على بيع البعض بما هو حقه، باعه وسعى في رد الباقي إليه، وإن لم يقدر باع الجميع، وأخذ من ثمنه قدر حقه، وحفظ الباقي إلى أن يرده.

(8/285)


فرع حقه دراهم صحاح، فظفر بمكسرة، فله أخذها، وتملكها بحقه، ولو استحق مكسرة، فظفر بصحاح، فالمذهب جواز الاخذ، لاتحاد الجنس، وقيل: فيه الخلاف في إختلاف الجنس، لاختلاف الغرض، وإذا أخذها، فليس له تملكها، ولا يشتري بها مكسرة لا متفاضلا، لما فيه من الربا، ولا متساويا لانه يجحف بالمأخوذ منه، لكن يبيع صحاح الدراهم بدنانير، ويشتري بها دراهم مكسرة ويتملكها. فرع شخصان ثبت لكل واحمنهما على صاحبه مثل ماله عليه، ففي حصول التقاص أقوال مشهورة في كتاب الكتابة، فإن قلنا: لا يحصل التقاص، فجحد أحدهما الاخر، فهل للآخر جحده، ليحصل التقاص للضرورة ؟ وجهان، أصحهما: نعم. فرع كما يجوز الاخذ من مال الغريم الجاحد، أو المماطل يجوز الاخذ من مال غريم الغريم، بأن يكون لزيد على عمرو دين، ولعمرو على بكر مثله، يجوز لزيد أن يأخذ مال بكر بماله على عمر، ولا يمنع من ذلك رد عمرو، وإقرار بكر ولا جحود بكر استحقاق زيد على عمرو. فرع جحددينه، وله عليه صك بدين آخر قد قبضه، وشهود الصك لا يعلمون القبض، قا القاضي أبو سعد: له أن يدعي ذلك، ويقيم البينة، ويقبض بدينه الاخر، وفي فتاوى القفال أنه ليس له ذلك. قلت: الصحيح قول أبي سعد ولو حدثت من المأخوذ زيادة قبل تملكه حيث

(8/286)


جوز أو قبل بيعه، فهي على ملك المأخوذ منه. والله أعلم.
المسألة الثانية : في حد المدعي والمدعى عليه، ويحتاج إلى معرفته، لان البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه، لقوة جانبه، وفيه قولان مستنبطا من اختلاف قول الشافعي رحمة الله عليه في مسألة إسلام الزوجين التي سنذكرها الان إن شاء الله تعالى، أظهرها عند الجمهور أن المدعي من يدعي أمرا خفيا يخالف الظاهر، والمدعى عليه من يوافق قوله الظاهر، والثاني: المدعي من لو سكت خلي ولم يطالب بشئ، والمدعى عليه من لا يخلى ولا يكفيه السكوت، فإذا إدعى زيد دينا في ذمة عمرو، أو عينا في يده، فأنكر، فزيد هو الذي لو سكت ترك، وهو الذي يذكر خلاف الظاهر، لان الظاهر براءة ذمة عمرو، وفراغ يده من حق غيره، وعمرو هو الذي لا يترك، ويوافق قوله الظاهر، فزيد مدع بمقتضى القولين وعمرو مدعى عليه ولا يختلف موجبهما غالبا، وقد يختلف كما إذا أسلم زوجان قبل الدخول، فقال الزوج: أسلمنا معا، فالنكاح باق، وقالت: بل على التعاقب ولا نكاح، فإن قلنا: المدعي من لو سكت ترك، فالمرأة مدعية وهو مدعى عليه، لانه لا يترك لسكت، لانها تزعم انفساخ النكاح، فيحلف، ويستمر النكاح، وإن قلنا بالاظهر، فالزوج مدع، لان ما يزعمه خلاف الظاهر، وهي مدعى عليها، فتحلف، ويرتفع النكاح. ولو قال الزوج: أسلمت قبلي، فلي النكاح ولا مهر، وقالت: بل أسلمنا معا، وهما بحالهما، فقوله في الفراق يلزمه، وأما المهر، فالقول قوله على الاظهر، وعلى الثاني قولها، لانها لا تترك بالسكوت، لان الزوج يزعم سقوط المهر، فإذا سكتت ولا بينة، جعلت ناكلة، وحلف وسقط المهر. قال الاصحاب: والامناء الذين يصدقون في الرد بيمينهم مدعون، لانهم يزعمون الرد الذي هو خلاف الظاهر، لكن اكتفي منهم باليمين، ولانهم أثبتوا أيديهم، لغرض المالك، وقد ائتمنهم، فلا يحسن تكليفهم بنية الرد، وأما على

(8/287)


القول الثاني، فهم مدعى عليهم، لان المالك هو الذي لو سكت ترك. قال الروياني وغيره: وقد يكون الشخص مدعيا ومدعى عليه في المنازعة الواحدة، كما في صورة التحالف، هذا كلام الاصحاب، وبالله التوفيق. فصل في حد الدعوى الصحيحة، وشرطها أن تكون معلومة ملزمة. الاول العلم بالمدعى به، فإن كان نقدا، إشترط ذكر جنسه ونوعه وقدره، قال ابن الصباغ: وإن اختلف الصحاح والمكسرة بين أنها صحاح أو مكسرة، ومطلق الدينار ينصرف إلى الدينار الشرعي، ولا حاجة إلى بيان وزنه، وإن كان غير نقد، نظر إن كان عينا وهي مما تضبط بالصفة، كالحبوب والحيوان والثياب، وصفها بصفات السلم، ولا يشترط ذكر القيمة في الاصح، وإن كانت تالفة، كفى الضبط بالصفات إن كانت مثلية، ولا يشترط ذكر القيمة، وإن كانت متقومة، إشترط ذكر القيمة، لانها الواجب عند التلف. وإن ادعى سيفا محلى، إشترط ذكر قيمته، ويقومه بالذهب إن كان محلى بالفضة، وبالفضة إن كان محلى بالذهب، فإن كان محلى بهما، قومه بأحدهما للضرورة، وفي الدراهم والدنانير المغشوشة يدعي مائة درهم من نقد كذا قيمتها كذا دينارا. أو دينارا من نقد كذا قيمته كذا درهما، هكذا ذكره الشيخ أبو حامد وغيره، وكأنه جواب على أن المغشوش متقوم، فإن جعلناه مثليا، فينبغي أن لا يشترط التعرض للقيمة، وفي العقار يتعرض للناحية والبلدة، والمحلة والسكة، وتبين الحدود، ويستثنى من اشتراط العلم صورا، إحداها: إنما يعتبر إذا طلب معينا، فأما من حضر ليعين، ويفرض له القاضي، كالمفوضة تطلب الفرض على قولنا: لا يجب المهر بالعقد، والواهب يطلب الثواب، فلا يتصور الاعلام.

(8/288)


الثانية: قال: أدعي أن مورثك أوصى لي بثوب، أو بشئ تسمع الدعوى، لان الوصية تحتمل الجهالة، فكذا دعواها، وألحق ملحقون دعوى الاقرار بالمجهول بدعوى الوصية، ومنهم من ينازع كلامه فيه، ويصح دعوى الابراء عن المجهول إن صححنا الابراء عن المجهول. الثالثة: ادعى أن له طريقا في ملك غيره، وادعى حق إجراء الماء، قال القاضي أبو سعد: الاصح أنه لا يحتاج إلى إعلام قدر الطريق والمجرى، ويكفي لصحة الدعوى تحديد الارض التي يدعي فيها الطريق والمجرى، وكذا لا تصح الشهادة المرتبة عليها، وقال أبو علي الثقفي: يشترط إعلام قدر الطريق والمجرى، وقال: وكذا لو باع بيتا من دار، وسمى له طريقا، ولم يبين قدره لا يصح، قال القاضي: وعندي أنه لا يشترط هذا الاعلام في الدعوى، لكن يؤخذ على الشهود إعلام الطريق والمسيل بالذرعان، لان الشهادة أعلى شأنا، فإنها تستقل بقوة إيجاب الحكم بخلاف الدعوى، ولو أحضر المدعي ورقة، وحرر فيها دعواه، وقال: أدعي ما فيها، وأدعي ثوبا بالصفات المكتوبة فيها، ففي الاكتفاء به لصحة الدعوى وجهان. الشرط الثاني: كونها ملزمة، فلو قال: وهب لي كذا أو باع، لم تسمع دعواه

(8/289)


حتى يقول: ويلزمه التسليم إلي، لانه قد يهب ويبيع، وينقضها قبل القبض هكذا نقله الروياني والغزالي وغيرهما، ويقرب منه ما ذكره القاضي أبو سعد أنه يقول في دعوى الدين: لي في ذمته كذا، وهو ممتنع من الاداء الواجب عليه، قال: وإنما يتعرض لوجوب الاداء، لان الدين المؤجل لا يجب اداؤه في الحال، وكان هذا إذا قصد بالدعوى تحصيل المدعى، ويجوز أن يكون المقصود بالدعوى دفع المنازعة، ولا يشترط التعرض لوجوب التسليم. قال ابن الصباغ: لو قال هذه الدار لي وهو يمنعنيها، صحت الدعوى، ولا يشترط أن يقول: هي في يده، لانه يجوز أن ينازعه، وإن لم تكن في يده، وإذا ادعى ولم يقل للقاضي: مره بالخروج عن حقي، أو سله جواب دعواي، فهل يطالبه القاضي ؟ وجهان، قال ابن الصباغ: الاصح نعم، للعلم بأنه الغرض من الحضور، وإنشاء الدعوى، قال القاضي أبو سعد: الاصح لا، لانه حقه، فلا يستوفى إلا باقتراحه كاليمين. قلت: الاول أقوى. والله أعلم فعلى هذا الثاني طلب الجواب شرط آخر في صحة الدعوى، وسواء شرطنا هذا الاقتراح، أم لم نشرطه، فاقترحه، فيمكن أن يقال: يغني ذلك عن قوله: ويلزمه التسليم إلي، وأن من شرطه بناه على أنه لا يشترط الاقتراح المذكور. فرع لا يشترط لصحة الدعوى أن يعرف بينهما مخالط أو معاملة، ولا فرق فيه بين طبقات الناس، فتصح دعوى دنئ على شريف، وقال الاصطخري: إن شهدت قرائن الحال بكذب المدعي، لم يلتفت إلى دعواه، مثل أن يدعي الدنئ استئجار الامير، أو الفقيه، لعلف الدواب، أو كنس بيته، ومثله دعوى المعروف

(8/290)


بالتعنت، وجر ذوي الاقدار إلى القضاة، وتحليفهم ليفتدوا منه بشئ. فرع ادعى عليه مالا، وقام، وأقام شاهدين، شهدا على إقراره بشئ، أو قالا: نعلم أن له عليه مالا، ولا نعلم قدره، ففي سماع شهادتهما هكذا وجهان، حكاهما البغوي وغيره، أحدهما: نعم، ويرجع في التفسير إلى المشهود عليه، كما لو أقر بمبهم، وأصحهما: لا، ويجريان فيما لو شهدا بغصب عبد، أو ثوب، ولم يصفاه. فرع عن فتاوي القفال: ادعى دراهم مجهولة لا يسمع القاضي دعواه، ويقول له: بين الاقل الذي تتحققه، وإن ادعى ثوبا ولم يصفه أيضا، لم يصغ إليه، بل لو قال: هو كرباس، ولم يصف، أمره أن يأخذ بالاقل، وهذا فيه أرشاد وتلقين، ثم الاخذ بالاقل في قدر الدراهم مستقيم، لكن الاخذ بالأقل من صفة الثوب عينه لا وجه له
المسأله الثالثة : إذا قامت بينة على المدعى عليه، فطلب من القاضي تحليف المدعي على استحقاق ما ادعاه، لم يجبه، لانه تكليف حجة بعد قيام حجة، ولانه كطعن في الشهود، وإن ادعى إبراء أو قضاء في الدين، أو بيعا، أو هبة وإقباضا في العين، نظر إن ادعى حدوث شئ من ذلك بعد قيام البينة، حلف المدعي على نفي ما يقوله إن مضى زمان إمكانه، وإلا فلا يلتفت إلى قوله، وإن ادعى أنه جرى قبل شهادة الشهود، فإن لم يحكم القاضي بعد، حلف المدعي على نفيه، وإن حكم، لم يحلفه على الاصح، ولو قال المدعى عليه: الشهود فسقة، أو كذبة، والمدعي يعلم ذلك، فهل له تحليفه على أنه لا يعلم ؟ وجهان، وطردا في كل صورة ادعى ما لو أقربه الخصم لنفعه ولكن لم يكن المدعى عين حق له، بأن قال المدعى عليه: إنك أقررت لي بكذا، أو قال وقد توجهت عليه الدعوى: إن المدعي حلفني مرة، وأراد تحليفه، أو قذفه، فطلب الحد، فادعى زنى المقذوف، وأراد تحليفه،

(8/291)


ويشبه أن يكون الاصح أن له التحليف، ويؤيده ما سبق من قول الاصحاب: إن دعوى الاقرار بالمجهول صحيحة، وإن جواب الاكثرين في مسألة القذف التحليف. وإن كان المقذوف ميتا، وأراد القاذف تحليف الوارث أنه لا يعلم زنى مورثه، حلف، وهذه الصورة محكية عن النص، لكن ذكر البغوي أن الاصح أنه لا يحلفه إذا ادعى فسق الشهود، أو كذبهم، وأما تحليف القاضي والشهود، فلا يجوز قطعا، لارتفاع منصبيهما.
المسألة الرابعة : قامت بينة على المدعى عليه، وادعى أن المدعي باعه العين المدعاة، أو باعها لبائعه، أو ادعى أنه أبرأه من الدين المدعى، فأنكر، فلا يخفى أن القول قول المدعي، وأن المدعى عليه مدع فيما ذكره يحتاج إلى بينة، فإن استمهل ليأتي بها أمهل ثلاثة أيام على الصحيح، وقيل: يوم فقط. ولو ادعى الابراء ولم يأت ببينة، وقال: حلفوه أنه لم يبرئني، حلفناه، ولا يكلف توفية الدين أولا، وعن القاضي وجه أنه يستوفى منه الدين أولا، ثم إن شاء حلفه، لانها دعوى جديدة، والصحيح الاول، وليس كما لو قال لوكيل المدعي: أبرأني موكلك حيث يستوفى الحق منه، ولا يؤخر إلى حضور الموكل وحلفه، لعظم الضرر في التأخير وهنا الحلف متيسر في الحال. ولو قال: إنه أبرأني من هذه الدعوى، فهل يحلف المدعي أنه لم يبرئه ؟ وجهان اختار القفال، والغزالي المنع، وادعى الروياني أن المذهب التحليف، لانه لو أقر أنه لا دعوى له عليه، برئ. فرع مدعي الدفع إن قال: قضيت أو أبرأني فذاك، وإن أطلق، وقال: لي بينة دافعة واستفسر، لانه قد يتوهم ما ليس بدافع دافعا إلا أن يعرف معرفته، وإن عين جهة، ولم يأت ببينة عليها، وادعى عند انقضاء مدة المهلة بلا جهة أخرى، واستمهل، فينبغي أن لا يجاب، وإن ادعى في المدة جهة أخرى وجب أن تسمع.

(8/292)


الخامسة : الدعوى أنواع، منها دعوى الدم، ويشترط تفصيلها كما سبق في القسامة، وأما دعوى النكاح والبيع، وسائر العقود، فقال الشافعي رحمه الله: لو ادعى أنه نكح امرأة، لم يقبل منه حتى يقول: نكحتها بولي وشاهدي عدل، فمن الاصحاب من اكتفى في دعوى النكاح بالاطلاق، ولم يشترط التعرض لهذا التفصيل، كما يكتفى في دعوى استحقاق المال بالاطلاق، وحملوا النص على الاستحباب والتأكيد، وقال أبو على الطبري: إن ادعى ابتداء النكاح، وجب التفصيل، وإن ادعى دوامه، فلا، لان الشروط لا تعتبر في الدوام، أخذ عامة الاصحاب بظاهر النص، وأوجبوا التفصيل والتعرض للشروط ابتداء ودواما، لان الفروج يحتاط لها، كالدماء، والوطئ المستوفى لا يتدارك، كالدم. وأما الجواب عن المال، فإن كان المدعى نفس المال، فإنما اكتفى بالاطلاق، لان أسبابه لا تنحصر، فيشق ضبطها، وإن كان عقدا على مال، كبيع وإجارة وهبة، فثلاثة أوجه أحدها قاله ابن سريج: يشترط التفصيل، وذكر الشروط كالنكاح، والثاني: إن تعلق العقد بجارية، اشترط احتياطا للبضع، وإلا فلا، والثالث وهو اصحها، ونقله ابن كج عن النص: لا يشترط مطلقا، لان المقصود المال وهو اخف شانا، ولهذا لا يشترط فيها الاشهاد بخلاف النكاح. واما التعرض في دعوى النكاح، لعدم

(8/293)


مانع النكاح، كالردة والعدة والرضاع، فلا يشترط على الصحيح، لان الاصل عدمها، ولكثرتها، فان شرطنا التفصيل في النكاح، فيقول: نكحتها بولي وشاهدين. ويشترط وصف الولي والشاهدين بالعدالة على الصحيح، وقياسه وجوب التعرض لسائر الصفات المعتبرة في الاولياء (1)، ولا يشترط تعيين الشاهدين والولي، والغرض ان يعرف ان النكاح لم يخل عن ولي وشاهدين، ويشترط التعرض لرضى المرأة إن كان رضاها شرطا، فإن كانت امة، اشترط التعرض للعجز عن الطول، ولخوف العنت على الاصح، وان شرطنا التفصيل في دعوى البيع، قالوا: يقول: تعاقدنا بثمن معلوم ونحن جائزا التصرف، وتفرقنا عن تراض، ويشترط في الشهادة على النكاح التفصيل ان قلنا باشتراطه في دعوى النكاح، وفي فتاوى القفال انه يشترط ان يقولوا بعد تفصيل النكاح: ولا نعلم انه فارقها، أو وهي اليوم زوجته، والاقرار بالنكاح يكفي فيه الاطلاق على المذهب، لانها لا تقر الا عن تحقق (2)، وقيل: في اشتراط التفصيل فيه الخلاف في الدعوى والشهادة، وهو ضعيف. ولو شهدوا على اقرارها، لم يشترط ان يقولوا: ولا نعلم انه فارقها، ولتكن الشهادة على البيع والاقرار ادا اوجبنا التفصيل في البيع على قياس ما ذكرنا في النكاح، ونقلوا في اشتراط تقييد النكاح والبيع المدعيين بالصحة وجهين، وبالاشتراط اجاب الغزالي في " الوجيز " وقال في " الوسيط ": الوجه القطع باشتراطه في النكاح، واشار الى ان الوجهين مفرعان على انه لا يشترط بفصيل الشرائط، وايراد الهروي يقتضي اطرادهما مع اشتراط التفصيل ليتضمن ذكر الصحة نفي المانع (3). واعلم أن دعوى النكاح تارة تكون على المرأة، وتارة على وليها المجبر، كما سبق في مسألة تزويج الوليين المرأة بشخص، وسبق هناك أن الائمة قالوا: لو ادعى كل واحد من الزوجين سبق نكاحه، وعلم المرأة به، بني على أن إقرارها به هل يقبل ؟ إن قلنا: لا، فلا تسمع دعواهما عليها، وإن قلنا: نعم وهو الاظهر

(8/294)


سمعت، وهذا يقتضي كون سماع دعوى النكاح عليها أبدا فيه هذا الخلاف، فكأنهم لم يذكروه هنا إقتصارا على الاظهر.
المسألة السادسة : دعوى المرأة النكاح إن اقترن بها حق من حقوق النكاح، كصداق ونفقة، وقسم وميراث بعد موته، سمعت، وإن تمحضت دعوى الزوجية، سمعت أيضا على الاصح، فان سمعت، نظر، إن سكت المدعى عليه، وأصر على السكوت، أقامت البينة عليه، وإن أنكر، فهل يكون إنكاره طلاقا ؟ وجهان، أصحهما: لا، فإن قلنا: هو طلاق، سقط في ادعته، ولها أن تنكح زوجا غيره، ولو رجع عن الانكار، وقال: غلطت في الانكار، لم يقبل رجوعه، وإن قلنا: ليس إنكاره طلاقا، فإنكاره كسكوته، فيقيم البينة عليه، وإن رجع. قبلنا رجوعه، وسلمنا الزوجة إليه، وإن لم تكن بينة، وحلف الرجل، فلا شئ عليه، وله أن ينكح أختها وأربعا سواها، وليس لها أن تنكح زوجا غيره إذا لم نجعل الانكار طلاقا. وإن اندفع النكاح ظاهرا حتى يطلقها أو يموت. قال البغوي: أو يفسخ بإعساره، أو امتناعه إذا جعلنا الامتناع مع القدرة ممكنا من الفسخ وليكن هذا مفرعا على إن لها أن تفسخ بنفسها أما إذا أحوجناها إلى الرفع إلى القاضي، فما لم يظهر له النكاح كيف يفسخ أو يأذن في الفسخ، وينبغي أن يرفق الحاكم به حتى يقول: إن كنت نكحتها، فهي طالق، ليحل لها النكاح، وإن نكل الرجل، حلفت هي، واستحقت المهر والنفقة. فرع امرأة تحت رجل ادعى آخر أنها زوجته، فالصحيح أن هذه الدعوى عليها لا على الرجل، لان الحرة لا تدخل تحت اليد، فلو أقام كل واحد منهما بينة، لم يقدم بينة من هي تحته. بل هي كاثنين أقام كل واحد منهما بينة على نكاح خلية، فينظر إن كانتا مؤرختين بتاريخ واحد، أو مطلقتين، فقد تعارضتا ولا يجئ قولا القسمة والقرعة، وإن كانتا مؤرختين بتاريخين مختلفين، قدمت البينة التي سبق تاريخها بخلاف ما لو كان هذا التعارض في مال، فإن في الترجيح بالسبق

(8/295)


قولين، لان الانتقال في الاموال غالب دون النكاح، ولو قامت بينة أحدهما على النكاح، وبينة الآخر على إقرارها بالنكاح، فبينة النكاح أولى، كما لو شهدت بينة واحد بأنه غصب منه كذا، وبينة الآخر بأنه أقر له به، ولو أقرت لاحدهما، فعلى ما ذكرنا إذا زوجها وليان لشخصين، وادعى كل واحد سبق نكاحه. فرع ادعت ذات ولد أنها منكوحته، وأن الولد منه، وسمعنا دعوى النكاح منها، فإن أنكر النكاح والنسب، فالقول قوله بيمينه، وإن قال: هذا ولدي من غيرها، أو هذا ولدي، لم يكن مقرا بالنكاح، وإن قال: هو ولدي منها، وجب المهر، وإن أقر بالنكاح، فعليه النفقة والمهر والكسوة، فإن قال: كان نكاح تفويض، فلها المطالبة بالفرض إن لم يجر دخول، وإن جرى، فقد وجب المهر بالدخول، فلا معنى لانكاره.
المسألة السابعة : ادعى رق بالغ، فقال البالغ: أنا حر الاصل، فالقول قوله، وعلى المدعي البينة، وسواء كان المدعي استخدمه قبل الانكار، وتسلط عليه، أم لا، وسواء جرى عليه البيع مرارا، وتداوله الايدي أم لا، فإن كان اشتراه من غيره، وحلف على نفي الرق، فهل يرجع المشتري على بائعه بالثمن ؟ فيه كلام سنذكره إن شاء الله تعالى في المسألة الرابعة من الباب الثاني. فإن قال البالغ لمن هو في يده: إنك أعتقتني أو أعتقني من باعني لك، طولب بالبينة، ولو ادعى رق صغير، فإن لم يكن في يده، لم يصدق إلا ببينة، وإن كان في يده، نظر إن استندت إلى النقاط، فكذلك على الاظهر، وفي قول: تقبل، ويحكم له بالرق، وإن لم يعرف استنادها إلى الالتقاط، صدق وحكم له، كما لو ادعى الملك في دابة أو ثوب في يده، فلو كان مميزا فأنكر، فالاصح أنه

(8/296)


يحكم له برقه، ولا أثر لانكاره، والثاني: أنه كالبالغ، وإذا حكمنا له برقه في الصغير، فبلغ، وأنكر الرق، فالاصح استمرار الرق حتى تقوم بينة بخلافه، والثاني: يصدق منكر الرق إلا أن تقوم به بينة، ولا فرق في جريان الوجهين بين أن يدعي في الصغير ملكه ويستخدمه، ثم يبلغ وينكر، وبين أن يتجرد الاستخدام إلى البلوغ، ثم يدعي ملكه، وينكر المستخدم واليد على البالغ المسترق، وإن لم يغن عن البينة عند إنكاره، فهي غير ساقطة بالكلية، بل يجوز اعتمادها في الشراء إن سكت المسترق اكتفاء بأن الظاهر أن الحر لا يسترق، وقال الشيخ أبو محمد: لا يجوز شراؤه مع سكوته، كما لا يجوز مع إنكاره الرق، بل يسأل، فإن أقر، اشتري.
الثامنة : في سماع الدعوى بدين مؤجل أوجه، أصحها: لا، إذ لا يتعلق بها إلزام ومطالبة في الحال، والثاني: نعم، والثالث: تسمع إن كان له نية، ليستحل فيأمن غيبتها وموتها، وإلا فلا، أو في دعوى الامة الاستيلاد والرقيق التدبير، وتعليق العتق بالصفة طريقان أحدهما: تقبل، لانها حقوق ناجزة، والثاني: على الخلاف في الدين المؤجل الاستيلاد أولاهما بالقبول، وهذا المذكور في التدبير إذا لم نجوز الرجوع عنه بالقبول، فإن جوزناه، فإنكاره رجوع يبطل مقصود المدعي.

(8/297)


قلت: المذهب سماع دعوى الاستيلاد والتدبير، وتعليق العتق. والله أعلم. فرع ادعي عليه دين مؤجل قبل المحل، فله أن يقول في الجواب: لا يلزمني دفع شئ إليك الآن، ويحلف عليه، وهل له أن يقول: لا شئ علي مطلقا، قال القفال: فيه وجهان بناء على أن الدين المؤجل هل يوصف قبل الحلول بالوجوب ؟ وفيه وجهان.

(8/298)


التاسعة: سلم ثوبا أو غيره إلى دلال ليبيعه، فجحده، وشك في بقاء الثوب، فلا يدري أيطالب بالعين، أم بالقيمة، فقد سبق في أواخر باب القضاء على الغائب وجهان، أصحهما: له أن يدعي على الشك، فيقول: لي عنده كذا، فإن بقي، فعليه رده، وإلا فقيمته أو مثله، والثاني: يشترط في الدعوى الجزم، فيفرد لكل واحد من المطالبة دعوى برأسها، فإن قلنا بالاول، فأنكر المدعى عليه ولا بينة، حلف على نفي الجميع، وإن نكل، وردت اليمين على المدعي، فهل يحلف على التردد، كما لو ادعى على التردد، أم يشترط التعيين ؟ وجهان، وإن قلنا: يفرد لكل مطلب دعوى، فادعى ما رآه أقرب، ونكل الخصم، فنكوله يؤكد ظن المدعي بكذبه، فهل له أن يحلف اليمين المردودة بذلك ؟ وجهان، أصحهما: نعم استدلالا بنكوله على كذبه، كما يستدل بخط أبيه، وأجري الوجهان فيما إذا أنكر المودع التلف، وتأكد ظنه بنكول المودع هل يحلف اليمين المردودة، وفي فتاوى القفال، انه ادعى عليه ثوبا، فقال: كان في يدي وهلك، فأغرم لك القيمة، فقال المدعي للحاكم: قد أقر بالثوب، فحلفه أنه لا يلزمه تسليمه إلي، حلفه، فإن حلف، قنع منه بالقيمة، وإن نكل وحلف المدعي على بقاء الثوب طولب بالعين.
الباب الثاني : في جواب الدعوى
جواب المدعى عليه إقرار، أو إنكار، فإن سكت، وأصر على السكوت، جعل كالمنكر الناكل، فترد اليمين على المدعي، فهو كالانكار. والكلام في

(8/299)


الاقرار وصيغته على ما سبق في كتاب الاقرار، وقول المدعى عليه: لي عن دعواك مخرج، ليس بإقرار، لاحتمال الخروج بالانكار، وكذا قوله: لفلان علي أكثر مما لك، ليس بإقرار للمخاطب بما دعاه، لاحتمال إرادة الاستهزاء. قال القاضي أبو سعد: وكذا لو قال: لك علي أكثر مما ادعيت، لم يكن إقرارا لاحتمال أن يريد. لك من الحق عندي ما يستحق له أكثر مما ادعيت، وكما لا يكون قوله: لفلان علي أكثر مما لك إقرار للمخاطب، لا يكون إقرارا لفلان أيضا، لاحتمال أن يريد بالحق الحرمة. فلو قال: لفلان علي مال أكثر مما ادعيت، فهذا إقرار لفلان، إلا أنه يقبل تفسيره بما دونه في القدر تنزيلا على كثرة التركة أو الرغبة، كما سبق في الاقرار. ولو قال: الحق أحق أن يؤدى، فليس بإقرار، لان المعنى حيث يكون حقا فأما أنا فبرئ.
فصل في مسائل الباب هي ست،
الأولى : ادعى عليه عشرة، فقال: لا يلزمني العشرة، فليس بجواب تام، بالتام أن يضيف إليه ولا شئ منها، أو ولا بعضها، وكذا يحلف إن حلف، لان مدعي العشرة مدع لكل جزء منها، فاشترط مطابقة الانكار واليمين دعواه، وقال القاضي حسين: لا يكلف في الانكار أن يقول: ولا شئ منها، وإنما يكلف ذلك في اليمين، والصحيح الاول، وإذا حلفه القاضي على أنه لا يلزمه العشرة، ولا شئ منها، فحلف على نفي العشرة، واقتصر عليه، لم تلزمه العشرة بتمامها، لكنه ناكل عما دون العشرة، فللمدعي أن يحلف على استحقاق ما دونها بقليل، ويأخذه، ولو نكل المدعى عليه عن مطلق اليمين، وأراد المدعي أن يحلف على بعض العشرة، قال البغوي: إن عرض القاضي عليه اليمين على العشرة وعلى كل جزء منها، فله أن يحلف على بعضها، وإن عرض عليه اليمين على العشرة وحدها، لم يكن له الحلف على بعضها، بل

(8/300)


يستأنف الدعوى للبعض الذي يريد الحلف عليه، وحيث جوزنا للمدعي الحلف على بعض المدعى، فذلك إذا لم يسنده إلى عقد، فإن أسنده، بأن قالت المرأة: نكحني بخمسين وطالبته به، ونكل الزوج، لم يمكنها الحلف على أنه نكحها ببعض الخمسين، لانه يناقض ما ادعته أولا. وإذا ادعى أن الدار التي في يدك ملكي يلزمك تسليمها إلي، فإذا أنكر المدعى عليه، يحلف أنها ليست ملكا له، ولا شئ منها، ولو ادعى أنه باعه إياها، كفاه أن يحلف أنه لم يبعها.
الثانية : إذا ادعى مالا وأسنده إلى جهة بأن قال: أقرضتك كذا، وطالبه ببدله، أو قال: غصبت عبدي، فتلف عندك، فعليك كذا ضمانا، أو مزقت ثوبي، فعليك كذا أرشا، أو اشتريت منك كذا، وأقبضتك ثمنه، أو اشتريت مني كذا، فعليك ثمنه، وطالبه بالمدعى، فليس على المدعى عليه أن يتعرض في الجواب لتلك الجهة، بل يكفيه أن يقول: لا يستحق علي شيئا، ولا يلزمني تسليم شئ إليك، وكذا يكفيه في جواب طالب الشفعة: لا شفعة لك عندي، أو لا يلزمني تسليم هذا الشقص إليك، لان المدعي قد يكون صادقا في الاقراض والغصب وغيرهما، ويعرض ما يسقط الحق من أداء أو إبراء أو هبة، فلو نفى الاقراض ونحوه كان كاذبا، وإن اعترف به، وادعى المسقط طولب بالبينة، وقد يعجز عنها، فدعت الحاجة إلى قبول الجواب المطلق، ولو قالت المرأة: طلقتني، فقال: أنت زوجتي، كفاه وإذا اقتصر المدعى عليه على الجواب المطلق، وأفضى الامر إلى الحلف، حلف على ما أجاب، ولم يكلف التعرض لنفي الجهة المدعاة، ولو حلف على نفي الجهة المدعاة بعد الجواب المطلق، جاز، ذكره البغوي. ولو تعرض في الجواب للجهة، فقال: ما بايعتك، أو ما أقرضتني، أو ما مزقت، فالجواب صحيح، إن حلف على وفق الجواب، فذاك، وإن أراد أن يقتصر في الحلف على أنه لا يلزمه شئ، فهل يمكن، كما لو أجاب

(8/301)


كذلك، أم لا ليطابق اليمين الانكار ؟ وجهان، أصحهما: الثاني، وهو المنصوص. ولو كان في يده مرهون، أو مستأجر، وادعاه مالكه، كفاه أن يقول: لا يلزمني تسليمه، ولا يجب التعرض للملك، فإن أقام المدعي بينة بالملك نقل في الوسيط عن القاضي أنه يجب عليه تسليمه، واعترض عليه بأنه قد يصدق الشهود، ولا يجب التسليم لاجارة أو رهن، ولو اعترف بالملك، وادعى رهنا أو إجارة، وكذبه المدعي، فمن المصدق منهما ؟ وجهان سبقا في باب اختلاف المتراهنين،، فإن صدقه صاحب اليد فذاك، وإن صدق المالك - وهو الصحيح -، احتاج مدعي الرهن أو الاجارة إلى البينة، فإن لم توافقه بينة، وخاف جحود الراهن لو اعترف له بالملك، فما حيلته ؟ وجهان، قال القفال: حيلته تفصيل الجواب، فيقول: إن ادعيت ملكا مطلقا فلا يلزمني التسليم، وإن ادعيت مرهونا عندي، فاذكره لاجيب، وقال القاضي حسين: لا يقبل الجواب المردد، بل حيلته أن يجحد ملكه إن جحد صاحبه الدين والرهن، وعلى عكسه لو ادعى المرتهن، وخاف الراهن جحود الرهن لو اعترف بالدين، فعلى الوجه الاول يفصل، فيقول: إن ادعيت ألفا لي عندك به كذا رهنا فحتى أجيب، وإن ادعيت ألفا، فلا يلزمني. وعلى الثاني صارت العين مضمونة عليه بالجحود، فلمن عليه الدين أن يجحده، ويجعل هذا بذاك، ويشترط التساوي، والوجه الاول أصح، وبه قطع الفوراني،

(8/302)


وذكر أن المدعى عليه يفصل الجواب أبدا، ولا يكون ذلك إقرارا بشئ مثل أن يدعي عليه ألفا، فيقول: إن ادعيت عن ثمن كذا فحتى أجيب، وإن ادعيت عن جهة أخرى، فلا يلزمنى. فرع ادعت على رجل ألفا صداقا يكفيه أن يقول: لا يلزمني تسليم شئ إليها، قيل للقفال: هل للقاضي أن يقول: هل هي زوجتك ؟ فقال: ما للقاضي ولهذا السؤال ؟ لكن لو سأل، فقال: نعم، قضى عليه بمهر المثل إلا أن يقيم البينة أنه نكحها بكذا، فلا يلزمه أكثر منه.
الثالثة : إذا ادعى عقارا أو منقولا على إنسان، وقال المدعى عليه: ليس هو لي، نظر، أيقتصر عليه، أم يضيفه إلى مجهول، أم إلى معلوم ؟ فإن اقتصر عليه، أو أضافه إلى مجهول بأن قال: هو لرجل لا أعرفه، أو أسميه، فثلاثة أوجه، أحدهما: يسلم المال إلى المدعي، إذ لا مزاحم له، والثاني: تنصرف الخصومة عنه، وينتزع الحاكم المال من يده، فإن أقام المدعي بينة على الاستحقاق، أخذه، وإلا حفظه إلى أن يظهر مالكه، وأصحهما: لا ينصرف، ولا ينتزع المال من يده، فعلى هذا إن أقر بعد ذلك لمعين، قبل، وانصرفت الخصومة إلى ذلك المعين، وإلا فيقيم المدعي البينة عليه أو يحلفه، وهل يمكن من أن يعود، فيدعيه لنفسه ؟ وجهان. ولو قال في الجواب: نصفه لي، ولا أدري لمن النصف الآخر، ففي النصف الآخر الاوجه الثلاثة، وأما إذا أضافه إلى معلوم، فالمضاف إليه ضربان، أحدهما: من تتعذر مخاصمته، وتحليفه بأن قال: هو وقف على الفقراء، أو على المسجد الفلاني، أو على ابني الطفل، أو هو ملك له، فالذي قطع به الغزالي، والشيخ أبو الفرج أن الخصومة تنصرف عنه، ولا سبيل إلى تحليف الولي ولا طفله، ولا تغني إلا البينة، قال أبو الفرج: وإذا قضى له القاضي بالبينة

(8/303)


كتب صورة الحال في السجل، ليكون الطفل على حجته إذا بلغ، وقال البغوي: إذا قال: هو لابني الطفل، أو وقف عليه، لم تسقط الدعوى، فإن أقام بينة أخذه وإلا حلف المدعى عليه: انه لا يلزمه تسليمه إليه إذا كان هو قيم الطفل. قلت: اختار في المحرر قول البغوي. والله أعلم. الضرب الثاني: من لا تتعذر مخاصمته وتحليفه، كشخص معين، وهو نوعان، حاضر في البلد، وغائب، فالحاضر يراجع، فإن صدق المدعى عليه، انصرفت الخصومة إليه، وإن كذبه، فأربعة أوجه الثلاثة السابقة في الاقرار، ورابعه حكاه ابن الصباغ أنه يقال للمدعى عليه: ادعه لنفسك، فتكون الخصم، أو لمن يصدقك، فيكون هو الخصم، فإن امتنعت، جعلناك ناكلا وحلفنا المدعي. النوع الثاني: الغائب، فإذا أضاف المدعي إلى غائب، ففي انصراف الخصومة عنه أوجه، أصحها - وبه قال الاكثرون - ينصرف، والثاني: لا، والثالث: إن قال: ليس لي، وإنما هو لفلان، فلا، فإن قلنا: لا ينصرف، نظر إن لم يكن للمدعى بينة، فله تحليف المدعى عليه على أنه لا يلزمه تسليمه إليه، فإن نكل حلف المدعي، وأخذ المال من يخه، ثم إذا عاد الغائب، وصدق المقر، رد المال عليه بلا حجة، لان اليد له بإقرار صاحب اليد، ثم يستأنف المدعي الخصومة معه، وإن أقام المدعي بينة على الحاضر، أخذ المال من يده أيضا، وهل هو قضاء على الحاضر الذي تجري الخصومة معه، أم على الغائب، لان المال بمقتضى الاقرار له ؟ وجهان، أصحهما: الاول، ولا يحتاج المدعي مع البينة إلى اليمين، ويثبت القاضي في السجل أنه قضي له بالبينة بعد ما أقر المدعى عليه أنه لفلان الغائب، ليكون الغائب على حجته، وإذا عاد، وأقام البينة، قضى له لترجح جانبه باليد، وإن لم يقمها، أقر المال في يد المدعي، فإن التمس من القاضي أن يزيد في السجل أن الغائب قدم، ولم يأت ببينة، أجابه إليه، وإن قلنا: تنصرف الخصومة عنه، فإن لم يكن للمدعي بينة، وقف الامر إلى ان يحضر الغائب، وإن كانت له بينة، قضى له بالمال، وهل هو قضاء على الغائب، ويحتاج معه إلى اليمين، أم على الحاضر الذي تجري الخصومة معه، فلا يحتاج إليها ؟ وجهان، رجح العراقيون، والروياني الثاني، ولكن الاول أقوى، وأليق بالوجه المفرع عليه،

(8/304)


واختاره الامام والغزالي، هذا كله إذا لم يقم المدعى عليه بينة أن المال للغائب، فإن أقامها، نظر إن ادعى أنه وكيل من جهة الغائب، وأدبت الوكالة فبينته على أن المال للغائب مسموعة مرجحة على بينة المدعي. وإن لم يثبت الوكالة، فذكر الامام والغزالي فيه ثلاثة أوجه، أصحها: لا تسمع بينته، وبه قال الشيخ أبو محمد، لانه ليس بمالك ولا نائب، فعلى هذا الحكم كما لو لم يقم بينة. والثاني: تسمع، والثالث: إن اقتصرت البينة على أنه لفلان الغائب، لم تسمع، وإن تعرضت مع ذلك لكونه في يد المدعى عليه بعارية، أو غيرها، سمعت، فإن لم يسمعها فادعى لنفسه حقا لازما، كرهن وإجارة، وتعرضت البينة لذلك، ففي السماع وجهان. وإذا سمعنا بينته لصرف اليمين عنه، حكم للمدعي ببينته، فإن رجع الغائب، وأعاد البينة، قدمت بينته، وإن سمعناها لعلقة الاجارة والرهن، فهل تقدم هذه البينة، أم بينة المدعي ؟ وجهان، أصحهما: تقديم بينة المدعي، ويكون فائدة بينته صرف اليمين عنه، هذا ما ذكره الامام، والغزالي، والذي يفتى به - وهو المفهوم من كلام الاصحاب - أن المدعي إذا أضاف المدعى عليه إلى الغائب خصومة معه، وأخرى مع الغائب، فإذا أقام البينة، انصرفت الخصومة عنه لا محالة، ولا يجئ فيه الوجهان المذكوران فيما لو اقتصر على الاقرار للغائب، وبنوا على انصراف الخصومة عنه أن المدعي لو أقام البينة والحالة هذه، فلا بد له من اليمين مع البينة، والقضاء قضاء على غائب بلا خلاف، وهي بالاضافة إلى الغائب غير مسموعة، فلا يحكم للغائب بالملك بالبينة التي أقامها الحاضر على أنه للغائب فإن تعرض الشهود مع ذلك لكونه في رهن الحاضر، وإجارته، فوجهان، أحدهما: تسمع هذه البينة للغائب أيضا، وترجح بينته على بينة المدعي، لقوتها باليد، وأصحهما: لا تسمع، فعلى هذا تعمل بينة المدعي. فرع متى حكمنا بانصراف الخصومة عن المدعى عليه بإقراره لحاضر أو لغائب أو مجهول على وجه، فهل للمدعي تحليفه ؟ قولان بناء على أنه لو أقر له بعد إقراره لغيره، هل يغرم القيمة، وفيه خلاف سبق في الاقرار، إن قلنا: نعم، حلفه، فلعله يقر فيغرم القيمة، وإن قلنا: لا، فإن قلنا: النكول ورد اليمين،

(8/305)


كالاقرار، لم يحلفه، وإن قلنا: كالبينة حلفه، لانه قد ينكل، فيحلف المدعى، ويأخذ القيمة، وكأن العين تالفة. وهل يستر العين من المقر له وفاء بتنزيله منزلة البينة ؟ وإذا أوجبنا القيمة، وأخذها بإقرار المدعى عليه ثانيا، أو بيمين المدعي بعد نكوله، ثم سلمت له العين ببينة، أو يمينه بعد نكول المقر له، لزمه رد القيمة، لانه أخذها للحيلولة وقد زالت. فرع ادعى أن هذه الدار وقف علي، وقال من هي في يده: ملك لفلان، وصدقه المقر له، انتقلت الخصومة إليه، وليس له طلب القيمة من المقر، لانه يدعي الوقف، ولا يعتاض عنه، كذا قاله البغوي. وكان لا يبعد طلب القيمة، لا الوقف يضمن بالقيمة عند الاتلاف والحيلولة في الحال كالاتلاف. ولو رجع الغائب وكذب المدعى عليه في إقراره، فالحكم كما سبق فيمن أضاف إلى جاحد، فكذبه، ولو أقام المقر له الحاضر، أو الغائب بعد الرجوع بينة على الملك، لم يكن للمدعي تحليف المقر، ليغرمه، لان الملك استقر بالبينة، وخرج الاقرار عن تكون الحيلواة به.
المسألة الرابعة : اشترى ثوبا وعبدا من رجل، فادعاه آخر، أن تكون الحيلولة به نظر إن ساعده المشتري، وأقر له بما ادعاه، لم يكن له أن يرجع بالثمن على بائعة، وإن استحلف، فنكل، فحلف المدعي، وأخذ المال، قال الشيخ أبو علي: ليس له الرجوع بالثمن أيضا بلا خلاف، لتقصيره بالنكول وحلف المدعي بعد نكوله كإقراره ويجوز أن يفرض في هذا الخلاف بناء على أنه كالبينة. قلت: هذا ضعيف أو باطل، لان المذهب أنه إنما يكون كالبينة في حق المتنازعين دون غيرهما، وكذا نقل الشيخ أبو علي تحرير المذهب الاتفاق على عدم الرجوع. والله أعلم.

(8/306)


وإن أثبت المدعي الاستحقاق بالبينة، وأخذ المال، نظر إن لم يصرح في منازعته للمدعى بأنه كان ملكا لبائعي، ولا بأنه ملكي بأن قامت البينة - وهو ساكت -، فله الرجوع بالثمن قطعا، وإن صرح بذلك، فوجهان، أحدهما: لا يرجع، لان المدعي ظالم باعترافه، وأصحهما الرجوع مهما قال ذلك على وجه الخصومة، أو اعتمد ظاهر اليد، ثم بان خلاف ذلك بالبينة، ويجري الوجهان فيما لو قال في الابتداء: بعني هذه الدار، فإنها ملكك، ثم قامت بينة بالاستحقاق، ولا يجريان فيما لو كان الموجود مجرد الشراء، وإن كان الشراء إقرارا للبائع بالملك، وفرقوا بأن ذلك إقرار تضمنه الشراء، فبطل ببطلان المبايعة والاقرار المستقل بخلافه ولو اشترى عبدا في الظاهر، فقال: أنا حر الاصل، فقد سبق أن القول قوله، وأن على المشتري البينة على رقه، أو على إقراره بالرق له، أو للذي باعه إياه، فإذا حلف حكم بحريته في الظاهر، ثم أطلق ابن الحداد أنه لا يرجع المشتري على البائع بالثمن، وفصل أكثرهم، فقالوا: إن لم يصرح في منازعته بأنه رقيق، رجع، وإن صرح، فعلى الوجهين. فروع من كلام القاضي أبي سعد الهروي: أقر المشتري للمدعي بالملك، ثم أراد إقامة البينة على أنه للمدعي، ليرجع بالثمن على البائع، لم يمكن، لانه يثبت الملك لغيره بلا وكالة ولا نيابة، كيف والمدعي لو أراد إقامة البينة - والحالة هذه - لم يلتفت إليه لاستغنائه عن البينة بالاقرار، وله تحليف البائع، لانه ربما أقر، فيرجع عليه، فإن نكل، فهل يحلف المشتري يمين الرد، إن قلنا: النكول واليمين كالاقرار، فنعم، وإن قلنا: كالبينة، فلا. ولو ادعى المسترق المبيع أنه حر الاصل، أو اعترف به المشتري، ثم أراد المشتري إقامة البينة أنه حر الاصل، مكن، لان الحرية حق الله تعالى، ولكل أحد إثباتها، وإذا ثبتت، ثبت الرجوع، ولا يكفي في الرجوع بينة بمطلق الحرية، لاحتمال أن المشتري هو الذي أعتقه. ولو أقام المشتري بعد ما أقر للمدعي بينة على إقرار البائع بأن المال للمدعي قبلت، وثبت الرجوع، لانه إذا بان إقرار البائع من قبل، لغا إقرار

(8/307)


المشتري، ولو أقام مدعي الاستحقاق البينة، وأخذ العين، ثم قامت بينة بأن البائع كان اشتراها من هذا المدعي سمعت، يرد الحكم الاول، وتكون العين للمشتري بالمبايعة السابقة. فصل جارية في يد رجل ادعى رجل أنها له، فأنكر صاحب اليد، فأقام المدعي بينة، أو حلف بعد نكول المدعى عليه، وحكم له بها فأخذها، فوطئها، ثم قال: كذبت في دعواي ويميني، والجارية لمن كانت في يده، لزمه ردها ومهرها، وأرش نقصها إن نقصت، ولا يقبل قوله: إنها كانت زانية، لانها تنكر ما يقول. وإن أولدها، ثم كذب نفسه، لم يقبل قوله في إبطال حرية الولد والاستيلاد، لان إقراره لا يلزم غيره، ولكن عليه قيمة الولد والام مع المهر، وليس له وطؤها بعد ذلك إلا أن يشتريها منه، فإن مات، عتقت وولاؤها موقوف، فإن وافقته الجارية في الرجوع، لم يبطل الاستيلاد على الاصح، ولو أن صاحب اليد أنكر وحلف، فأولد الجارية، ثم عاد، وقال: كنت مبطلا في الانكار والجارية المدعي، فالكلام في المهر، وقيمة الولد، والجارية، والاستيلاد على ما سبق في طرف المدعي.
المسألة الخامسة : ما يقبل إقرار العبد فيه، كالحد، والقصاص، فالدعوى فيه يكون على العبد، والجواب بطلب منه، وما لا يقبل إقراره فيه وهو الارش، وضمان الاموال، فالدعوى فيه تتوجه على السيد، لان الرقبة التي تتعلق بها حق للسيد ولو وجهت الدعوى على العبد، فوجهان، أحدهما - وهو اختيار الامام والغزالي - المنع، لان إقراره به غير مقبول، فعلى هذا هل للمدعي تحليفه ؟ يبنى على أن الاروش المتعلقة بالرقبة هل تتعلق بالذمة أيضا ؟ وفيه قولان سيأتيان في كتاب العتق إن شاء الله تعالى، فإن قلنا: نعم، فلا طلبة في الحال، ولا إلزام، وإنما هو شئ يتوقع فيما بعد، كالدين المؤجل، ويجئ الخلاف السابق في سماع الدعوى بالدين المؤجل، فإن سمعناها، فله تحليف العبد، فإن نكل، وحلف المدعي

(8/308)


اليمين المردودة، لم يكن له التعلق بالرقبة، لان اليمين المردودة وإن جعلت كالبينة، فلا تؤثر إلا في حق المتداعيين، والرقبة حق السيد. وقيل: له التعلق بالرقبة إن جعلناها كالبينة، والوجه الثاني وهو المقطوع به في التهذيب في باب مداينة العبيد: أن الدعوى مسموعة على العبد إن كان للمدعي بينة، وكذا إن لم تكن بينة، وقلنا: اليمين المردودة كالبينة، وإن قلنا: كالاقرار فلا، وفي كل واحد من الوجهين إشكال، والمتوجه أن يقال: تسمع الدعوى عليه لاثبات الارش في ذمته تفريعا على الاصلين المذكورين، ولا تسمع الدعوى، والبينة عليه لتعلقه بالرقبة.
المسألة السادسة : من ادعى على رجل عينا، أو دينا ولم يحلفه، وطلب كفيلا منه ليأتي بالبينة، لم يلزمه إعطاء كفيل، وإن اعتاد القضاة خلافه، هذا هو المعروف للاصحاب، وقال بعض المتأخرين: الامر فيه إلى رأي الحاكم، وإن أقام شاهدين، وطلب كفيلا إلى أن يعدلا، فالصحيح أنه يطالب به فإن امتنع، حبس لامتناعه لا لثبوت الحق، وقال القفال: لا يلزمه إعطاء الكفيل، لكن للحاكم أن يطالبه إذا رأى اجتهاده إليه، وخاف هربه، وقد سبق في الضمان قول إن كفالة البدن باطلة، وبالله التوفيق.
الباب الثالث : في اليمين فيه أطراف :
الأول : في نفس الحلف، وصيغ الايمان مستوفاة في موضعها، والمقصود الآن بيان فاعدتين إحداهما: أن للتغليظ مدخلا في الايمان المشروعة في الدعاوى مبالغة في الزجر وفيه مسائل: الاولى التغليظ يقع بوجوده، أحدها التغليظ اللفظي، وهو ضربان، أحدهما: التعديد، وهو مخصوص باللعان والقسامة، وواجب فيهما، الثاني: زيادة الاسماء والصفات، بأن يقول: والله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة، الرحمن الرحيم، الذي يعلم من السر ما يعلم من العلانية، أو والله الطالب الغالب، المدرك، المهلك، الذي يعلم السر وأخفى، وهذا الضرب مستحب، فلو اقتصر على: الله كفى، واستحب الشافعي رحمه الله أن يقرأ

(8/309)


على الحالف * (إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا) * الآية وأن يحضر المصحف، ويوضع في حجر الحالف، وذكر بعضهم أنه يحلف قائما زيادة في التغليظ. والوجه الثاني: التغلظ بالمكان، والثالث: التغليظ بالزمان، وهما مفصلان في كتاب اللعان. وهل التغليظ بالمكان مستحب، أم واجب لا يعتد بالحلف في غيره قولان، أظهرهما: الاول، وقيل: مستحب قطعا، والتغليظ بالزمان مستحب، وقيل كالمكان، ورأى الامام طرد الخلاف في الضرب الثاني من التغليظ اللفظي، ومن وجوه التغليظ المذكورة في اللعان التغليظ بحضور جمع، ولم يذكروه هنا، ويشبه أن يقال: الايمان المتعلقة بإثبات حد، أو دفعه يكون التغليظ فيها بالجمع، كما هو في اللعان. قلت: الصواب القطع بأنه لا يعتبر هنا. والله أعلم. ثم التغليظ هيتوقف على طلب الخصم، أم يغلظ القاضي وإن لم يطلب الخصم ؟ وجهان، أصحهما: الثاني، حكاه ابن كج، ويشبه أن يجريا، سواء قلنا بالاستحباب أو بالايجاب. المسألة الثانية: يجري التغليظ في دعوى الدم والنكاح، والطلاق والرجعة، والايلاء واللعان، والعتق والحد، والولاء والوكالة والوصاية، وكل ما ليس بمال، ويقصد منه المال حتى يجري في الولادة والرضاع، وعيوب النساء، وليس قبول شهادة النساء فيها منفردات لقلة خطرها، بل لان الرجال لا يطلعون عليها غالبا، وتوقف الامام في الوكالة، وأما الاموال فيجري التغليظ في كثيرها وهو نصاب الزكاة عشرون دينارا أو مائتا درهم، وأما قليلها وهو ما دون ذلك، فلا تغليظ فيه إلا

(8/310)


أن يرى القاضي التغليظ لجرأة الحالف، فله التغليظ. وعن ابن القطان وجه غريب أن المال الواجب بجناية عمدا وخطأ يغلظ فيه وإن قل. الثالثة: ما جرى فيه التغليظ يستوي فيه يمين المدعى عليه، واليمين المردودة، واليمين مع الشاهد، وقد يقتضي الحال تغليظ اليمين من أحد الطرفين دون الآخر مثل ان ادعى عبد على سيده عتقا، أو كتابة فأنكر السيد، فإن بلغت قيمته نصابا، غلظ عليه، وإلا فلا، فإن نكل، غلظ على العبد بكل حال، والوقف من جانب المدعى عليه لا تغليظ فيه إلا إذا بلغ نصابا، وكذا من جانب المدعي إن أثبتناه بشاهد ويمين، وإن لم نثبته بهما، غلظ كالعتق، وفي وجه ما غلظ من طرف غلظ من الآخر، والصحيح الاول، وإذا ادعى الزوج الخلع على مال، وأنكرته حصلت البينونة بقوله، وتصدق الزوجة في إنكار الما بيمينها، وينظر في التغليظ إلى قلة المال وكثرته، فإن ردت اليمين، وحلف الزوج، فكذلك، لان مقصوده المال، وإن ادعت هي الخلع، وأنكر، غلظ عليه، لا مقصوده استدامة النكاح، وإن نكل، فحلفت غلظ، لان مقصودها الفراق. الرابعة: من به مرض أو زمانة، لا يغلظ عليه في المكان لعذره، وكذا الحائض، إذ لا يمكنها اللبث في المسجد، والمرأة المخدرة في إحضارها مجلس الحكم خلاف سبق، فإن أحضرت، فكالرجل في التغليظ، وإن قلنا: لا تحضر، بل يبعث القاضي من يحكم بينها وبين خصمها، فإن اقتضى الحال تحليفها، فهل يغلظ عليها بالمكان، وتكلف حضور الجامع أم لا ؟ وجهان، أصحهما: نعم، وبه أجاب الشيخ أبو حامد، ومتابعوه والغزالي.

(8/311)


فرع من توجهت عليه يمين مغلظة، وكان حلف بالطلاق أن لا يحلف يمينا مغلظة، فإن قلنا: التغليظ واجب، غلظ ويحنث، وإن امتنع، جعل ناكلا، وإن قلنا: مستحب، لم يغلظ. عليه إتلاف ثوب قيمته عشرة، فإن قال في الجواب: ما أتلفت، يحلف. القاعدة الثانية: يشترط كون اليمين مطابقة للانكار، فإن ادعى كذلك، وإن قال: لا يلزمني شئ، حلف كذلك، ويشترط وقوعها بعد تحليف القاضي، فلو حلف قبله، لم يعتد به، فلو قال الحاكم في تحليفه: قل: بالله، فقال: بالرحمن، لم يكن مجيبا، وكان نكولا. ولو قال: قل: بالله، فقال: والله، أو تالله، فهل هو نكول كالصورة الاولى أم لا، لانه حلف بالاسم الذي حلفه به ؟ وجهان، ويجريان فيهما لو غلظ عليه باللفظ، فامتنع، واقتصر على قوله: والله، وفيما لو أراد التغليظ بالزمان والمكان فامتنع، فقال القفال في امتناعه من التغليظ اللفظي: الاصح أنه ناكل، لانه ليس له رد اجتهاد القاضي، وقطع بعضهم بأنه ناكل في الامتناع من المكاني والزماني دون اللفظي.
الطرف الثاني : في كيفية الحلف، فإن حلف على فعل نفسه، حلف على البت، سواء كان يثبته أم ينفيه، لانه يعلم حال نفسه، وإن حلف على فعل غيره، فإن حلف على إثباته، حلف على البت، وإن حلف على نفيه، حلف انه لا يعلمه، وقد يختصر، فيقال: اليمين على البت إلا إذا حلف على نفي فعل غيره، فإذا ادعي عليه مال، فأنكر حلف على البت، وإن حلف على نفيه،

(8/312)


حلف على البت، فإن ادعى إبراء أو قضاء، وأنكر المدعي، حلف على البت، ولو ادعى على وارث على رجل أن لمورثي عليك كذا، فقال المدعى عليه: أبرأني، أو قضيته، حلف المدعي على نفي العلم بإبراء المورث وقبضه، ولو كان في يده دار، فقال رجل: غصبها مني أبوك أو بائعك، فأنكر، حلف على نفي العلم لغصبه، ولو ادعى رجل وارث الميت دينا على الميت، لم يكف ذكر الدين ووصفه، بل يذكر مع ذلك موت من عليه، وأنه حصل في يده من التركة ما يفي بجميعه أو ببعضه، وأن يعلم دينه على مورثه، وهكذا كل ما يحلف المنكر فيه على العلم يشترط في الدعوى عليه التعرض للعلم، فيقول: غصب منمورثك كذا، وأنت تعلم أنه غصبه، ثم إذا تعرض لجميع ذلك، فإن أنكر الوارث الدين، حلف على نفي العلم، فإن نكل، حلف المدعي على البت، وإن أنكر موت من عليه، فهل يحلف على نفي العلم، أم على البت، لان الظاهر اطلاعه عليه، أم يفرق بين تعهده حاضرا، أم غائبا ؟ فيه أوجه، أصحها: الاول، وإن أنكر حصول التركة عنده، حلف على البت، وإن أنكر الدين، وحصول التركة معا وأراد أن يحلف على نفي التركة وحده، وأراد المدعي تحليفه على نفي التركة، ونفي العلم بالدين جميعا، حلف عليهما، لان له غرضا في إثبات الدين، فلعله يظفر بوديعة للميت أو دين فيأخذ منه حقه. ولو ادعى على رجل أن عبدك جنى علي بما يوجب كذا، وأنكر فهل يحلف على نفي العلم أم على البت ؟ وجهان، أصحهما: الثاني،

(8/313)


لان عبده ماله، وفعله كفعله، ولذلك سمعت الدعوى عليه، ولو ادعى أن بهيمتك أتلفت لي زرعا أو غيره حيث يجب الضمان، فأنكر، حلف على البت، لانه لا ذمة لها، والمالك لا يضمن بفعل البهيمة، بل بتقصيره في حفظها وهو أمر يتعلق بالحالف، ولو نصب البائع وكيلا، ليقبض الثمن، ويسلم المبيع، فقال له المشتري: إن موكلك أذن في تسليم المبيع، وترك حق الجنس، وأنت تعلم، فهل يحلف على البت، أم على نفي العلم ؟ قولان اختيار أبي زيد البت، لانه يثبت لنفسه استحقاق اليد على المبيع. قلت: نفي العلم أقوى. والله أعلم. ولو طلب البائع تسليم المبيع، فادعى حدوث عجز عنه، وقال للمشتري: أنت عالم به، فأنكر، حلف على البت، لانه يستبقي بيمينه وجوب تسليم المبيع إليه، ولو مات عن ابن في الظاهر، فقال آخر: أنا أخوك والميراث بيننا، فأنكر، حلف على البت، لان الاخوة رابطة بينهما، فهو حالف في نفسه، هكذا ذكر الصورتين ابن القاص، ونازعه آخرون، وقالوا: يحلف على نفي العلم. قلت: نفي العلم هو الصحيح. والله أعلم. فرع ما حلف فيه على البت لا يشترط لجوازه اليقين، بل يجوز البت بناء على ظن مؤكد يحصل من خطه أو خط أبيه، أو نكول خصمه. فرع لو استحلفه القاضي على البت حيث يكون اليمين بنفي العلم، فقد مال عن العدل.

(8/314)


فرع النظر في اليمين إلى نية القاضي المستحلف وعقيدته، وأما النية والتورية والتأويل على خلاف قصد القاضي لا يغني، ولا يدفع إثم اليمين الفاجرة، ولو استثنى، أو وصل باللفظ شرطا بقلبه ونيته أو بلسانه، ولم يسمعه الحاكم، فكذلك، وإن سمعه، عزره، وأعاد اليمين عليه، وإن وصله بكلام، لم يفهمه القاضي منعه منه، وأعاد اليمين عليه، فإن قال: كنت أذكر الله تعالى قيل له: ليس هذا وقته، وأما العقيدة، فإذا ادعى حنفي على شافعي شفعة الجار، والقاضي يرى إثباتها، وأنكر المدعى عليه، فليس له أن يحلف عملا باعتقاده، بل عليه اتباع القاضي، ويلزمه في الظاهر ما ألزمه القاضي، وهل يلزمه في الباطن ؟ وجهان، الصحيح باتفاقهم: نعم، والثاني: لا، وعن صاحب التقريب أن القضاء في المجتهد فيه ينفذ في حق المقلد ظاهرا وباطنا، ولا ينفذ في حق المجتهد باطنا، فلو حلفه المجتهد على حسب اجتهاده لم يأثم.

(8/315)


قلت: هذا إذا حلفه القاضي أو نائبه، أما إذا حلف الانسان ابتداء، أو حلفه غير القاضي من قاهر، أو خصم، أو غيرهما، فالاعتبار بنية الحالف بلا خلاف، وينفعه التورية قطعا، سواء حلف بالله تعالى، أو بطلاق وعتاق وغيرهما صرح به الماوردي، ونقله ابن الصباغ عن الاصحاب ذكراه في كتاب الطلاق. والله أعلم.
الطرف الثالث : في الحالف، وهو كل من يتوجه عليدعوى صحيحة، وقيل: كل من توجهت عليه دعوى لو أقر لمطلوبها ألزم به، فإذا أنكر، حلف عليه، وقبل منه، ويستثنى عن هذا الضبط صور، فنذكرها مع ما يدخل فيه ويخرج منه، إحداها: يجزئ التحليف في النكاح والطلاق والرجعة والفيأة، وفي الايلاء، وفي العتق والاستيلاد، والولاء، والنسب، ولا تسمع دعوى في حدود الله تعالى، ولا يطلب الجواب، لانها ليست حقا للمدعي، فإن تعلق به حق آدمي، بأن قذفه، فطلب حد القذف، فقال القاذف: حلفوه انه لم يزن فالاصح أنه يحلف، كما سبق في المسألة الثالثة من الباب الاول، فإن حلف، أقيم على القاذف، وإن نكل، وحلف القاذف، سقط حد القذف، ولا يثبت بحلفه حد الزنى على المقذوف ولو ادعى سرقة ماله، سمعت دعواه للمال، وحلف المدعى عليه، فإن نكل، حلف المدعي، واستحق المال، ولا يقطع المدعى عليه، لان حدود الله تعالى لا تثبت باليمين المردودة، وإذا أقر بما يوجب حدا، وادعى شبهة بأن وطئ جارية أبيه، وقال: ظننتها تحل لي، وهو ممن يجوز أن يشتبه عليه مثله، حلف وسقط بحلفه الحد، ولزم المهر، وتسمع الدعوى. ويجري التحليف في القصاص وحد القذف، وكذا في الشتم، والضرب الموجبين للتعزير.

(8/316)


الثانية: ادعى على القاضي أنه ظلمه في الحكم، أو على الشاهد أنه تعمد الكذب أو الغلط، أو ادعى عليه ما يسقط شهادته، لم يحلفا، لارتفاع منصبهما عن التحليف، وقد سبق هذا في الباب الاول، وفي أول أدب القضاء، ولو ادعى على المعزول أنه حكم أيام قضائه عليه ظلما، وأنكر، فقد سبق وجهان في أنه يحلف أم يصدق بلا يمين وهو الاصح، هذا في دعوى تتعلق بالحكم، وأما ما لا يتعلق بالحكم، كدعوى مال وغيره، فهو كسائر الناس في الخصومات الشرعية يحكم فيها بينه وبين المدعي خليفته، أو قاض آخر. الثالثة: الصبي إذا ادعى البلوغ بالاحتلام في وقت الامكان، صدق بلا يمين، كما سبق في الاقرار، ومن ادعى عليه بشئ، فقال: أنا صبي بعد وهو محتمل، لم يحلف، وتوقف الخصومة حتى يبلغ، وإن وقع في السبي من أنبت، وقال: استنبت الشعر بالعلاج، وأنا غير بالغ، بني على القولين السابقين في الحجر أن إنبات العانة نفس البلوغ أم علامته، إن قلنا بالاول، فلا حاصل لكلامه، وإن قلنا بالثاني وهو الاظهر فالمنصوص المعروف في المذهب أنه يحلف وهو مشكل من جهة أنه يدعي الصبي، وتحليف من يدعى الصبى لا وجه له، كما سبق في الاقرار، فقال ابن القطان والقفال: هذا التحليف احتياط واستظهار، ومقتضى كلام الجمهور أنه واجب، وصرح به الروياني، ونفى الخلاف فيه، واعتمدوا في تحليفه الانبات، وقالوا: كيف نتر ك الدليل الظاهر بزعم مجرد ؟ فإذا حلف، ألحق بالصبيان، وحقن دمه، وإن نكل، فالمنصوص أنه يقتل، والثاني: يخلى، والثالث: يحبس حتى يحلف أو يقر، والرابع: يحبس حتى يتحقق بلوغه، ثم يحلف على ما ادعاه من الاستعجال، فإن لم يحلف قتلناه. الرابعة: ادعى رجل دينا على ميت، أو أنه أوصى له بشئ، وللميت وصي في قضاء دينه، وتنفيذ وصاياه، فأنكر، فإن كان للمدعي بينة، حكم بها، وإن لم يكن وأراد تحليف الوصي على نفي العلم، لم يمكن، لان مقصود التحليف أن يقر، والوصي لا يقبل إقراره بالدين والوصية، فلا معنى لتحليفه، فلو كان وارثا،

(8/317)


حلف بحق الوراثة وقيم القاضي كالوصي. فرع على إنسان حق لرجل، فطلبه به رجل، وزعم أنه وكيل المستحق، ولم يقم بينة، وأراد تحليفه على نفي العلم بالوكالة، لم يكن له، لانه لو اعترف بالوكالة، لم يلزمه تسليم الحق، هذا هو المذهب، وسبق في الوكالة وجه أنه يلزمه التسليم، وعلى هذا له تحليفه، وان له تحليفه، وإن لم يلزمه التسليم باعترافه إذا قلنا: اليمين المردودة كالبينة. فرع هل للوكيل بالخصومة إقامة بينة على وكالته من غير حضور الخصم ؟ وجهان، حكاهما الامام عن القاضي حسين اشتراطه، وغيره منعه، وقد سبق في الوكالة أن الامام حكى عن القاضي حسين أنه إذا كان الخصم غائبا، نصب الحاكم مسخرا عنه، كان المراد هنا إذا كان حاضرا في البلد، وهناك إذا كان غائبا، والاصح سماع البينة من غير حاجة إلى حضوره، ولا إلى نصب مسخر، ولو وكل بالخصومة في مجلس الحكم، استغنى عن حجة يقيمها إن كان الخصم حاضرا فإن لم يكن، فيبنى على أن القاضي هل يقضي بعلمه ؟
الطرف الرابع : فائدة اليمين وحكمها، وهو انقطاع الخصومة، والمطالبة في الحال، لا سقوط الحق وبراءة الذمة، فلو أقام المدعي بينة بعد حلف المدعى عليه، سمعت، وقضى بها، وكذا لو ردت اليمين على المدعي، فنكل، ثم أقام بينة، وهذا إذا لم يتعرض وقت التحليف للبينة، فإن كان قال حينئذ: لا بينة لي حاضرة ولا غائبة، فهذه الصورة ذكرناها في الطرف الثاني من الباب الثاني من أدب القضاء مضمومة، إلى ما لو اقتصر على قوله: لا بينة لي، وفيهما خلاف، والاصح السماع أيضا، وذكرنا هناك أنه لو قال: لا بينة لي حاضرة، ثم أقام بينة سمعت، فلعلها حضرت، وأنه لو قال: لي بينة ولا أقيمها، بل أردت يمينه، أجابه القاضي، وحلف المدعى عليه، هذا هو الاصح. وفي فتاوى القفال أنه لا يجيبه، بل يقول: أحضر البينة.

(8/318)


فرع أقام المدعي بدعواه شهودا، ثم قال: كذب شهودي، أو شهدوا مبطلين، فلا شك في سقوط بينته، وامتناع الحكم، وفي بطلان دعواه وجهان، أحدهما: يبطل، كما لو كذب نفسه، فليس له أن يقيم بعد ذلك بينة أخرى، وأصحهما: لا، لاحتمال كونه محقا في دعواه والشهود مبطلين لشهادتهم بما لا يعلمون، وفي مثل هذا قال الله تعالى: * (والله يعلم إنك لرسوله، والله يشهد إن المنافقين لكاذبون) * وبني على الوجهين ما لو أقام المدعي شهودا، فزعم المدعى عليه أن المدعي أقر بأن شهوده كذبة، وأقام عليه شاهدا، وأراد أن يحلف معه هل يمكن، ويحكم بشاهده ويمينه، إن قلنا: هذا الاقرار لا يبطل أصل الدعوى، فلا، لان المقصود حينئذ الطعن في الشهود، وإخراج شهادتهم عن أن يحكم بها، وجرح الشهود، والطعن فيهم لا يثبت بشاهد ويمين، وإن كانت الشهادة بمال، وإن قلنا: يبطلها، مكن، لان المقصود حينئذ إسقاط الدعوى بالمال، فهو كادعاء الابراء بشاهد ويمين. فروع في فتاوى القفال وغيره: أقام شاهدين في حادثة، وكانا استباعا الدار منه، بطلت شهادتهما، ولو أقام شاهدين بأن هذه الدار ملكه، وأقام المشهود عليه شاهدين بأن شاهدي المدعي قالا: لا شهادة لنا في ذلك سألهما الحاكم متى قال ذلك شاهدي المدعي ؟ فإن قالا: قالاه أمس، أو من شهر، لم تندفع شهادتهما بذلك، لانهما قد لا يكونان شاهدين، ثم يصيران. وإن قالا: قالا حين تصديا لاقامة الشهادة، اندفعت شهادتهما. ولو أقام المشهود عليه بشاهدين

(8/319)


أن المدعي، أقر بأن شاهديه شربا الخمر وقت كذا، فإن طالت المدة بينه وبين أداء الشهادة، لم يقتض ذلك رد الشهادة، وإن قصرت، ردت شهادتهما، وإن شهدا أنه أقر بأنهما شربا الخمر من غير تعيين وقت، سئل المدعي عن وقته، وحكم بما يقتضيه تعيينه، ولو أقام المدعي بينة، ثم قال للقاضي: لا تحكم بشئ حتى تحلفه، بطلت بينته، لانه كالمعترف بأنها مما لا يجوز الحكم بها. قلت: هذا مشكل، فقد يقصد تحليفه ليقيم البينة، ويظهر إقدامه على يمين فاجرة، أو غير ذلك من المقاصد التي لا تقتضي قدحا في البينة، فينبغي أن لا تبطل البينة. والله أعلم. فصل إذا طلب المدعي يمين المدعى عليه عند الحاكم، فقال للحاكم: قد حلفني مرة على هذا بطلبه، فليس له تحليفي، فإن حفظ القاضي ما قاله، لم يحلفه ومنع المدعي مما طلب، وإن لم يحفظه، حلفه، ولا ينفعه إقامة البينة عليه، لما سبق أن القاضي متى تذكر حكمه أمضاه، وإلا فلا يعتمد بينة، وعن ابن القاص جواز سماع البينة فيه، حكاه الهروي ومقتضاه الطرد في كل باب، وإن قال: حلفني عند قاض آخر وأطلق، وأراد تحليفه على ذلك، فوجهان، قال ابن القاص بالمنع، إذ لا يؤمن أن يدعي المدعي أنه حلفه على أنه ما حلفه، وهكذا فيدور الامر، ولا ينفصل، وأصحهما، وبه قطع البغوي وغيره يمكن منه، لانه محتمل غير مستبعد، ولا يسمع مثل ذلك من المدعي، لئلا يتسلسل، فعلى هذا إن كانت له

(8/320)


بينة أقامها وتخلص عن الخصومة، وإن استمهل ليقيم، فقياس البينات الدوافع أن يمهل ثلاثة أيام، وعن القاضي حسين أنه لا يمهل أكثر من يوم، وإن لم يكن بينة، حلف المدعي أنه ما جلفه، ثم يطلب المال، فإن نكل، حلف المدعى عليه، وسقطت الدعوى. فلو أراد أن يحلف يمين الاصل لا يمين التحليف المردودة عليه، قال البغوي: ليس له ذلك إلا بعد استئناف الدعوى، لانها الآن في دعوى أخرى. ولو قال المدعي فجواب المدعى عليه: حلفني مرة على أني ما حلفته، وأراد تحليفه، لم يجب، لانه يؤدي إلى ما لا يتناهى، ولو ادعى مالا على رجل، فأنكر وحلف، ثم قال المدعي بعد أيام: حلفت يومئذ، لانك كنت معسرا لا يلزمك تسليم شئ إلي وقد أيسرت الآن فهل يسمع لامكانه، أم لا لئلا يتسلسل ؟ وجهان. قلت: الاصح أنه يسمع إلا إذا تكرر. والله أعلم. فرع إنما يحلف المدعى عليه إذا طلب المدعي يمينه، فإن لم يطلب، ولم يقلع عن المخاصمة، لم يحلفه القاضي، ولو حلف لم يعتد بتلك اليمين وقال القفال الشاشي: لا يتوقف التحليف على طلبه، والصحيح الاول، ولو امتنع من تحليفه بالدعوى السابقة، جاز، لانه لم يسقط حقه من اليمين، فإن قال: أبرأتك عن اليمين، سقط حقه من اليمين في هذه الدعوى، وله استئناف الدعوى

(8/321)


وتحليفه.
الباب الرابع : في النكول إذا أنكر المدعى عليه، واستحلف، فنكل عن اليمين، لم يقض عليه بالنكول، بل ترد على المدعي، فإن حلف قضى له، فإن لم يعرف المدعى، تحول اليمين إليه بنكول المدعى عليه عرف القاضي، وبين أنه إن حلف استحق، وإنما يحصل النكول بأن يعرض القاضي اليمين عليه، فيمتنع، وفسر العرض بأن يقول: قل والله، والامتناع بأن يقول: لا أحلف، أو أنا ناكل، قال الامام: قوله: قل: والله ليس أمرا جازما، وإنما المراد بيان وقت اليمين المعتمد بها على المدعي، ولو قال: أتحلف بالله، وقال: لا، فليس بنكول، ولو بدر حين سمع هذه الكلمة وحلف، لم يعتد بيمينه، لانه استنجاز لا استحلاف. ولو قال له احلف، فقال: لا أحلف، قال البغوي: ليس بنكول، وقال الامام: نكول وهو أوضح، ولا فرق بين قوله: قل: بالله، وقوله: أحلف بالله، ولو استحلف، فلم يحلف، ولا تلفظ بأنه ناكل أو ممتنع، فسكوته نكول، كما أن السكوت عن الجواب في الابتداء يجعل كالانكار، ثم ذكر الامام وغيره أنه إن صرح بالنكول، لم يشترط حكم القاضي بأنه ناكل، وإن سكت حكم القاضي بأنه ناكل ليرتب عليه رد اليمين، وقول القاضي للمدعي: احلف نازل منزلة قوله: حكمت بأن المدعى عليه ناكل، وإنما يحكم بأنه ناكل بالسكوت إذا لم يظهر كون السكوت لدهشة وغباوة ونحوهما، ويستحب للقاضي أن يعرض اليمين على المدعى عليه ثلاث مرات، والاستحباب فيما إذا سكت أكثر منه فيما إذا صرح بالنكول، ولو تفرس فيه سلامة جانب، شرح له حكم النكول، وإن لم يشرح، وحكم بأنه ناكل، وقال المدعى عليه: لم أعرف النكول، ففي نفوذ الحكم احتمالان للامام أصحهما النفوذ. وكان من حقه أن يسأل ويعرف قبل أن ينكل، ولو أراد المدعى عليه بعد الامتناع أن يعود، فيحلف، نظر

(8/322)


إن كان ذلك بعد أن حكم القاضي بأنه ناكل، أو قال للمدعي: احلف، لم يكن له الحلف، وإن أقبل عليه ليحلفه، ولم يقبل بعد ما حلف، فهل هو كما لو قال: احلف ؟ وجهان، وإن لم يجر شئ من ذلك، فله الحلف حتى لو هرب المدعى عليه قبل أن يحكم القاضي بأنه ناكل، وقبل أن يعرض اليمين على المدعي، لم يكن للمدعى أن يحلف اليمين المردودة، وكان للمدعى عليه أن يحلف إذا عاد، هكذا أطلق البغوي وغيره، ومقتضاه التسوية بين التصريح بالنكول، وبين السكوت حتى لا يمتنع من العود إلى اليمين في الحالين إلا بعد الحكم بالنكول، أو بعد عرض اليمين على المدعي، وفي التصريح احتمال، وحيث منعناه العود إلى الحلف، فذلك إذا لم يرض به المدعي، فإن رضي، فله العود إليه على الاصح، لان الحق لا يعدوهما، فلو رضي بأن يحلف المدعى عليه والحالة هذه، فلم يحلف، لم يكن للمدعي أن يعود إلى يمين، الرد، لانه أبطل حقه برضاه بيمين المدعى عليه. فرع نقل الروياني أن قول القاضي للمدعي: أتحلف أنت ؟ كقوله: احلف حتى لا يتمكن المدعى عليه من الحلف بعد ذلك، قال: وعندي فيه نظر. فصل المدعي إذا ردت اليمين عليه قد يحلف، وقد يمتنع، فإن حلف، استحق المدعى، وهل يمينه بعد نكول المدعى عليه كالبينة، أم كإقرار المدعى عليه ؟ فيه قولان، أظهرهما الثاني، ويتفرع عليهما مسائل كثيرة مذكورة في مواضعها. ومنها أن المدعى عليه لو أقام بينة بالاداء، أو الابراء بعد ما حلف المدعي، فإن قلنا: يمينه كالبينة، سمعت بينة المدعى عليه، وإن قلنا:

(8/323)


كالاقرار، فلا، لكونه مكذبا للبينة بالاقرار، وهل يجب الحق بفراغ المدعي من اليمين المردودة، أم لا بد من حكم الحاكم بالحق ؟ وجهان، حكاهما الهروي، الارجح الاول، أما إذا امتنع المدعي من الحلف، فيسأله القاضي عن امتناعه، فإن لم يتعلل بشئ أو قال: لا أريد الحلف، فهذا نكول يسقط حقه من اليمين، وليس له مطالبة الخصم وملازمته، وهل يتمكن من استئناف الدعوى، وتحليفه في مجلس آخر، فإن نكل، حلف المدعي، أم لا يتمكن من ذلك، ولا ينفعه بعده إلا البينة ؟ وجهان، الذي ذكره العراقيون، والهروي، والروياني الاول، وبالثاني قال الامام والغزالي والبغوي، وهو أحسن وأصح، لئلا تتكرر دعواه في القضية الواحدة، وإن ذكر المدعي لامتناعه سببا، فقال: أريد أن آتي بالبينة أو أسأل الفقهاء، أو أنظر في الحساب، ترك ولم يبطل حقه من اليمين وهل تقدر مدة

(8/324)


الامهال بثلاثة أيام ؟ وجهان، أصحهما: نعم، لئلا تطول مدافعته، والثاني: لا تقدير، لان اليمين حقه، فله تأخيره إلى أن يشاء كالبينة. ولم يذكر الشافعي رحمه الله فيما إذا امتنع المدعى عليه من اليمين أنه يسأل عن سبب امتناظه، فقال ابن القاص: قياس ما ذكره في امتناع المدعي أن يسأل المدعى عليه عن سبب امتناعه أيضا، وامتنع عامة الاصحاب من هذا الالحاق فارقين بأن امتناع المدعي عليه أثبت للمدعي حق الحلف، والحكم بيمينه، فلا يؤخر حقه بالسؤال، وامتناع المدعي لا يثبت حقا لغيره، فلا يضر السؤال. ولو قال المدعى عليه حين استحلف: أمهلوني لانظر في الحساب، أو أسأل الفقهاء، فهل يمهل ثلاثة أيام، أم لا يمهل شيئا إلا برضى المدعي ؟ وجهان، أصحهما وأشهرهما الثاني، لانه مقهور محمول على الاقرار، أو اليمين بخلاف المدعي، فإنه مختار في طلب حقه وتأخيره، ولو استمهل المدعى عليه في ابتداء الجواب لينظر في الحساب، وذكر الهروي أنه ينظر إلى آخر المجلس إن شاء. ولو علل المدعي امتناعه بعذر كما ذكرنا، ثم عاد بعد مدة ليحلف، مكن منه، وإن لم يتذكر القاضي نكول خصمه، أثبته بالبينة، وكذا لو أثبت عند قاض آخر نكول خصمه له أن يحلف، وكذا لو نكل المدعى عليه في جواب وكيل المدعي، ثم حضر الموكل له أن يحلف، ولا يحتاج إلى استئناف دعوى، ولو أقام المدعي شاهدا ليحلف معه، فلم يحلف، فهو كما لو ارتدت اليمين، إليه، فلم يحلف، فإن علل امتناعه بعذر، عاد الوجهان في أنه على خيرته أبدا، أم لا يزاد على ثلاثة أيام ؟ وإن لم يعلل بشئ، أو صرح بالنكول، فقد ذكر الغزالي والبغوي أنه يبطل حقه من الحلف، وليس له العود إليه، واستمر العراقيون على ما ذكروه هناك، قال الاصحاب: لو امتنع من الحلف مع شاهده، واستحلف الخصم، انقلبت اليمين من جانبه إلى جانب صاحبه، فليس له أن يعود ويحلف إلا إذا استأنف الدعوى في مجلس آخر، وأقام الشاهد، فله أن يحلف معه، وعلى الاول لا ينفعه إلا بينة كاملة. فصل ما ذكرناه من أنه يرد اليمين على المدعي، ولا يقضى على المدعى

(8/325)


عليه بالنكول هو الاصل المقرر في المذهب، لكن قد يتعذر رد اليمين، وحينئذ من الاصحاب من يقول بالقضاء بالنكول، وبيانه بصور، إحداها طولب صاحب المال بالزكاة، فقال: بادلت بالنصاب في أثناء الحول، أو دفعت الزكاة إلى ساع آخر، أو غلط الخارص في الخرص، أو أصاب الثمر جائحة، واتهمه الساعي، فيحلف على ما يدعيه إيجابا أو استحبابا على الخلاف السابق في كتاب الزكاة، فإن نكل، لم يطالب بشئ إن قلنا بالاستحباب، وإن قلنا بالايجاب، فإن انحصر المستحقون في البلد، وقلنا بامتناع النقل، ردت اليمين عليهم، وإلا فيتعذر الرد على الساعي والسلطان، وفيما يفعل أوجه، أحدها: لا يطالب بشئ إذا لم تقم عليه حجة، والثاني: يحبس حتى يقر، فيؤخذ منه، أو يحلف، فيترك، والثالث إن كان صاحب المال على صورة المدعي بأن قال: أديت في بلد آخر، أو إلى ساع آخر، أخذت منه الزكاة، وإن كان على صورة المدعى عليه بأن قال: ما تم حولي أو الذي في يدي لفلان المكاتب، لم يؤخذ منه. والرابع - وهو الاصح الاشهر - يؤخذ منه الزكاة، وكيف سبيله ؟ وجهان قال ابن القاص: هو حكم بالنكول، ورواه عن ابن سريج، وسببه الضرورة، وقال الجمهور: ليس حكما بالنكول، لكن مقتضى ملك النصاب، ومقتضى الحول الوجوب، فإذا لم يثبت دافع، أخذنا الزكاة. الثانية: إذا مات ذمي في أثناء السنة، فهل عليه قسط ما مضى، أم لا شئ عليه ؟ قولان سبقا، فلو غاب ذمي، ثم عاد مسلما، فقال: أسلمت قبل تمام السنة، فليس علي جزية، أو ليس تمامها، وقال عامل الجزية: بل أسلمت بعدها، فعليك تمام الجزية، حلف الذي أسلم استحبابا في وجه، وإيجابا في وجه، فإن قلنا بالايجاب فنكل، فهل يقضى عليه بالجزية، أم لا يطالب بشئ، أم يحبس ليقر، فيؤخذ منه، أو يحلف، فيترك ؟ فيه أوجه. قال الامام: وقيد ابن القاص بما إذا غاب، ثم عاد مسلما، وظاهر هذا أنه لو كان عندنا، وصادفناه مسلما بعد السنة، وادعى أنه أسلم قبل تمامها، وكتم إسلامه، لم يقبل قوله، لان

(8/326)


الظاهر أن من أسلم بدار الاسلام لم يكتمه. الثالثة: ولد المرتزقة إذا ادعى البلوغ بالاحتلام، وطلب إثبات اسمه في الديوان، فوجهان، أحدهما: يصدقه بلا يمين، لانه إن كان كاذبا، فكيف نحلفه وهو صبي ؟ وإن كان صادقا، وجب تصديقه، وأصحهما: يحلف عند التهمة، فإن نكل، لم يثبت اسمه إلى أن يظهر بلوغه، ويقرب منه أن من شهد الوقعة من المراهقين إذا ادعى الاحتلام، وطلب سهم المقاتلة، أعطي إن حلف، وإلا فوجهان، أحدهما: يعطى، ثم قيل: هو إعطاء، لان احتلامه لا يعرف إلا منه، فصدق فيه، كما تصدق المرأة في الحيض، ويقع الطلاق المعلق عليه، وقيل: لان شهود الوقعة تقتضي استحقاقهم السهم، وأصحهما: لا يعطى، قال ابن القاص: وهو قضاء بالنكول، وقال غيره: إنما لم يعط، لان حجته في الاعطاء اليمين ولم توجد. الرابعة: مات من لا وارث له، فادعى القاضي، أو منصوبه دينا له على رجل وجده في تذكرته، فأنكر المدعى عليه، ونكل، فهل يقضى عليه بالنكول، ويؤخذ منه المال، أم يحبس حتى يقر، أو يحلف، أم يترك لكن يأثم إن كان معاندا ؟ فيه ثلاثة أوجه، ويجري فيما لو ادعى ولي صبي ميت على وارثه أنه أوصى بثلثه للفقراء، وأنكر الوارث، ونكل. ولو ادعى ولي صبي، أو مجنون دينا له على رجل، فأنكر، ونكل، ففي رد اليمين على الولي أوجه، أحدهما: ترد، لانه المستوفي، والثاني: لا، لان إثبات الحق لغير الحالف بعيد. والثالث: إن ادعى ثبوته بسبب باشره بنفسه، ردت، وإلا فلا، وأجري الخلاف فيما لو أقام

(8/327)


شاهدا هل يحلف معه، وفيما لو ادعي على الولي دين في ذمة الصبي هل يحلف الولي إذا أنكر. والوصي والقيم في ذلك كالولي، ويجري في قيم المسجد والوقف إذا ادعى للمسجد أو للوقف، وأنكر المدعى عليه، ونكل. وتحليف الولي والصبي سبق لهما ذكر في آخر كتاب الصداق، ثم ميل الاكثرين إلى ترجيح المنع من الاوجه الثلاثة، ولا بأس بوجه التفصيل، وقد رجحه أبو الحسن العبادي، وبه أجاب السرخسي في الامالي، فإن منعنا رد اليمين إلى الولي والوصي، انتظرنا بلوغ الصبي، وإفاقة المجنون، وكتب القاضي المحضر بنكول المدعى عليه، وتصير اليمين موقوفة على البلوغ، والافاقة، ويعود في قيم المسجد والوقف الوجهان في أنه يقضى لا بالنكول، أم يحبس ليحلف أو يقر، والاصح في مسألة من لا وارث له أن يقضى بالنكول، بل يحبس ليحلف أو يقر، وإنما حكمنا فيما قبلها من الصور بالمال، لانه سبق أصل يقتضي الوجوب، ولم يظهر دافع. ولو ادعى قيم المحجور عليه، ونكل المدعى عليه، حلف المحجور عليه أنه يلزمه تسليم هذا المال، ولكن لا يقول إلي، وقيمه يقول في الدعوى: يلزمك تسليمه إلي. الخامسة: للقاذف أن يحلف المقذوف أنه لم يزن كما سبق، فإن نكل، فالصحيح الذي قطع به الجمهور أنه يرد اليمين على القاذف، فإن حلف، اندفع عنه حد القذف، وقيل: يسقط بنكوله حد القذف ولا يرد اليمين، حكاه الهروي.
الباب الخامس : في البينة أما صفة الشهود، فسبق بيانها في الشهادات، والمقصود هنا بيان حكم تعارض البينتين، وتعارضهما قد يقع في الاملاك، وقد يقع في غيرها، كالعقود، والموت، والوصية، ويشتمل الباب على أربعة أطراف :
الأول : في الأملاك، فإذا تعارضتا فيه، فإما أن يفقد أسباب الرجحان، وإما لا، القسم الاول أن يفقد، فإما أن يكون المدعى في يد ثالث، وإما في

(8/328)


أيديهما، ولا يدخل في هذا القسم ما إذا كان في يد أحدهما، لان ذلك من أسباب الرجحان. الحالة الاولى: إذا ادعى اثنان عينا في يد ثالث، فلا يخفى أن المدعى عليه يحلف لكل واحد منهما يمينا إن ادعاها لنفسه، ولا بينة لواحد منهما، وأنه لو اختص أحدهما ببينة على ما يدعيه، قضي له، وإن أقام كل واحد بينة، تعارضتا، وفيهما قولان أظهرهما: يسقطان، فكأنه لابينة فيصار إلى التحليف، والثاني: يستعملان، فينتزع العين ممن هي في يده. ثم في كيفية الاستعمال ثلاثة أقوال، أحدها: تقسم العين المدعاة بينهما، والثاني: توقف إلى تبين الامر أو يصطلحا، والثالث: يقرع، فيأخذها من خرجت قرعته، وهل يحتاج معها إلى يمين ؟ قولان، أحدهما لا، والقرعة مرجحة لبينته، والثاني نعم، والقرعة تجعل أحدهما أحق باليمين، فعلى هذا يحلف من خرجت قرعته أن شهوده شهدوا بالحق، ثم يقضي له، ثم قيل القولان في الاصل فيما إذا لم تتكاذب البينتان صريحا، فإن تكاذبتا، سقطتا قطعا، والاشهر طردهما

(8/329)


في الحالين، وصريح التكاذب أن لا يمكن الجمع بتأويل، بأن شهدت إحداهما بقتله في وقت، والاخرى بجناية في ذلك الوقت، فإن أمكن الجمع بتأويل، فليس تكاذبا بأن شهدت هذه أنه ملك زيد، وهذه أنه ملك عمرو، فإنه يحتمل أن كل واحدة علمت سببا، كشراء ووصية، واستصحب حكمه، أو شهدت هذه بأنه أوصى به لزيد، وهذه أنه أوصى به لعمرو، فإنه يحتمل الايصاء مرتين، وقيل: القولان إذا لم يمكن الجمع، فإن أمكن قسم قطعا، وقيل: إن لم يمكن سقطتا قطعا وإلا استعملتا قطعا، كما في الوصية وقيل: يبقى قول التوقيف، وقيل: لا تجتمع الاقوال الثلاثة بل موضع القسمة إذا أمكن الجمع، والقرعة إذا لم يمكن، والمذهب ما سبق، فلو تنازعا في زوجية امرأة، أقام كل واحد بينة، وتعارضتا، فقول السقوط بحاله، ولا مجال للقسمة، ولا للقرعة على الاصح، ويجئ الوقف على الصحيح لو أقر صاحب اليد لاحدهما بعدما أقاما البينتين، إن قلنا بالسقوط، قبل إقراره، وحكم به، وإن قلنا بالاستعمال، فوجهان، أحدهما: يصير المقر له كصاحب يد، فترجح بينته، والثاني: لا، لان يده بعد البينة مستحقة الازالة، وإن أقر قبل تمام البينتين قبل إقراره قطعا، وصار المقر له صاحب يد. الحالة الثانية: أن تكون العين في يدهما وادعاها كل واحد، فإن أقامتا بينتين، فطريقان، أحدهما - وبه قال الفوراني والغزالي - يجئ القولان في السقوط والاستعمال، فإن أسقطنا، بقي المال في أيديهما كما كان، وإاستعملنا، فعلى قول القسمة يجعل بينهما، ولا يجئ الوقف، وفي القرعة وجهان، والثاني - وبه قال ابن الصباغ والبغوي - يجعل المال بينهما، لان بينة كل واحد ترجحت في النصف الذي في يده، والحاصل للفتوى من الطريقين بقاء المال في يدهما كما كان، ولو شهدت بينة كل واحد له بالنصف الذي في يد صاحبه، حكم القاضي لكل منهما بما في يد صاحبه، ويكون المال في يدهما أيضا، كما كان، لكن لا لجهة السقوط، ولا بالترجيح باليد، ثم قال الائمة: من أقام البينة أولا، وتعرض شهوده للكل، لم يضر وإن كان صاحب يد في النصف الذي في يده، وقلنا: بينة صاحب

(8/330)


اليد لا تسمع ابتداء كما سيأتي الخلاف فيه إن شاء الله تعالى، لان هنا غير مستغن عن البينة للنصف الذي يدعيه، ثم إذا أقام الثاني البينة على الكل، سمعت، وترجحت بينته في النصف الذي في يده، فيحتاج الاول إلى إعادة البينة للنصف الذي في يده، وقال في الوسيط: لا يبعد أن يتساهل في الاعادة، وإن كان لاحدهما بينة دون الآخر، قضى له بالكل، سواء شهد شهوده بالكل، أم بالنصف الذي في يد صاحبه، وإن لم يكن لواحد منهما بينة، فكل واحد مدع في نصف، ومدعى عليه في نصف، فيحلف كل واحد على نفي ما يدعيه الآخر، ولا يتعرض واحد منهما في يمينه، لاثبات ما في يده، بل يقتصر على أنه لاحق لصاحبه فيما في يده، نص عليه وهو المذهب، ومنه خلاف سبق في باب التحالف في البيع، فإن حلفا، أو نكلا، ترك المال في يدهما كما كان، وإن حلف أحدهما دون الآخر، قضى للحالف بالكل، ثم إن حلف الذي بدأ القاضي بتحليفه، ونكل الآخر بعده، حلف الاول اليمين المردودة. وإن نكل الاول، ورغب الثاني في اليمين، فقد اجتمع عليه يمين النفي للنصف الذي ادعاه صاحبه، ويمين الاثبات للنصف الذي ادعاه هو، فهل يكفيه الآن يمين واحد يجمع فيها النفي والاثبات أم لا بد من يمين للنفي، وأخرى للاثبات ؟ وجهان، أصحهما: الاول، فيحلف أن الجميع له، ولا حق لصاحبه فيه، أو يقول: لا حق له في النصف الذي يدعيه، والنصف الآخر لي. فرع ادعى نصف دار، وادعى آخر كلها، وأقام كل واحد بينة، والدار في

(8/331)


يد ثالث، تعارضتا في النصف، فإن قلنا بالسقوط، سقطتا في النصف الذي فيه التعارض، وأما النصف الآخر، ففيه طريقان، قال ابن سريج، وأبو إسحاق وغيرهما: فيه قولا تبعيض الشهادة، فإن بعضناها، سلم ذلك النصف لمدعي الكل، وإلا بطلت في ذلك النصف أيضا، وصار كما لو لم تكن بينة، والثاني - وبه قال الشيخ أبو حامد، وصححه الشيخ أبو علي -: يسلم إليه النصف قطعا، وإن قلنا بالاستعمال، سلم النصف لمدعي الكل، ويقسم النصف الآخر إن قلنا بالقسمة، وإن قلنا بالقرعة أو بالوقف، أقرع في النصف أو وقف، ولو تداعيا كذلك، والدار في يدهما، فالقول قول مدعي النصف في النصف الذي في يده، فإن أقام مدعي الكل بينة، قضي له الكل، وإن أقام كل واحد بينة بما يدعيه، بقيت الدار في يدهما كما كانت. ولو ادعى أحدهما بالكل، والآخر الثلث، فإن كان في يد ثالث، فعلى قول السقوط تسقطان في الثلث. وهل تبطل بينة الكل في الثلثين ؟ فيه الطريقان السابقان، وعلى الاستعمال تجري الاقوال الثلاثة، وإن كانت في يدهما، وأقام كل واحد بينة بما يدعي، فلمدعي الثلث، الثلث، والباقي لمدعي الكل. دار في يد رجل ادعى زيد نصفها، فصدقه، وعمرو نصفها، فكذبه صاحب اليد وزيد معا، ولم يدعه أحد منهما لنفسه، فالنصف الذي يدعيه المكذب هل يسلم إليه أم يوقف في يد صاحب اليد، أم ينتزعه ويحفظ إلى ظهور مالكه ؟ فيه ثلاثة أوجه، حكاها الفوراني. قلت: أقواها الثالث. والله أعلم. فرع ادعى رجل دارا وآخر ثلثيها، وآخر نصفها، ورابع ثلثها، وهي في

(8/332)


يد خامس، وأقام كل واحد من الاربعة بينة بدعواه فلا تعارض في الثلث الذي يختص مدعي الكل بدعواه، وفي الباقي يقع التعارض، فالسدس الزائد على النصف يتعارض فيه بينة مدعي الكل، ومدعي الثلثين، وفي السدس الزائد على الثلث يتعارض بينهما، وبين مدعي النصف، وفي الثلث الباقي تتعارض بينات الاربعة، فإن قلنا بالسقوط، سقطت البينات في الثلثين، وأما الثلث، ففيه الطريقان في تبعيض الشهادة، والمذهب أنه يسلم لمدعي الكل، وإن قلنا بالاستعمال، فإن قسمنا، فالسدس الزائد علي النصف بين مدعي الكل، ومدعي الثلثين بالسوية، والسدس الزائد على الثلث لهما، ولمدعي النصف أثلاثا، والثلث الباقي للاربعة أرباعا، فيجعل ستة وثلاثين سهما لحاجتنا إلى عدد ينقسم سدسه على اثنين وعلى ثلاثة، فيضرب اثنين في ستة، ثم في ثلاثة، فلمدعي الكل ثلثها وهو اثنا عشر، ونصف السدس الزائد على النصف هو ثلاثة، وثلث السدس الزائد وهو أثنان، وربع الثلث الباقي وهو ثلاثة، فالجملة عشرون وهي خمسة أتساع الدار، ولمدعي الثلثين ثلاثة من السدس الزائد على النصف، وسهمان من السدس الزائد على النصف، وسهمان من السدس الزائد على الثلث، وثلاثة من الثلث الباقي، فالجملة ثمانية هي تسعا الدار، ولمدعي النصف سهمان من السدس الزادد على الثلث، وثلاثة من الثلث الباقي، ولمدعي الثلث ثلاثة من الثلث الباقي، وإن قلنا بالقرعة، أقرع ثلاث مرات، مرة في السدس الزائد على النصف بين مدعي الكل، ومدعي الثلثين، وأخرى في السدس الزائد على الثلث بينهما، وبين مدعي الكل، ومدعي الثلثين، وأجري في السدس الزائد الثلث بينهما وبين مدعي النصف، وأجري في الثلث بين الاربعة. وإن قلنا بالوقف توقفنا، وإن كانت الدار في يد المتداعيين الاربعة، وأقام كل واحد بينة، جعلت بينهم أرباعا لان بينة كل واحد ترجح في الربع الذي في يده اليد، وإن لم يكن بينة، فالقول قول كل واحد في الربع الذي في يده، فإذا حلفوا كانت بينهم أرباعا أيضا. فرع دار في يد ثلاثة، ادعى أحدهم نصفها، وآخر ثلثها، وثالث سدسها، ولا بينة جعلت بينهم أثلاثا، نص عليه في المختصر واعترض عليه

(8/333)


بأن مدعي السدس لا يدعي غيره، فكيف يعطى الثلث، فأجاب الاصحاب بأن صورة النص فيما إذا ادعى كل واحد منهم استحقاق اليد في جميعها إلا أن الاول يقول: النصف ملكي والنصف الآخر لفلان الغائب، وهو في يدي عارية أو وريعة، والآخران يقولان نحو ذلك، فكل واحد منهم صاحب اليد في الثلث، وتبقى الدار في أيديهم كما كانت، ثم جعل نصف الثلث الذي في يد مدعي السدس لذلك الغائب بحكم الاقرار، فأما إذا اقتصر كل واحد منهم على ان لي منها كذا، فلا يعطي لمدعي السدس إلا السدس، ولا يتحقق بينهم والحال هذه نزاع، ولو أقام كل واحد منهم بينة على ما يدعيه لنفسه، حكم المدعي الثلث بالثلث، لان له فيه بينة ويدا، ولمدعي السدس بالسدس لمثل ذلك، وفيما يحكم به لمدعي النصف وجهان، أحدهما بالنصف، لان له في الثلث يدا وبينة، وفي السدس الباقي بينة، والآخران لا يدعيانه، والثاني بالثلث ونصف السدس، والاول أصح، وبه أجاب ابن كج والقفال، ثم مدعي الثلث، ومدعي السدس لا يحتاجان إلى إقامة البينة في الابتداء، ولكن مدعي النصف يحتاج إلى إقامتها للسدس الزائد على ما في يده، ويتصور إقامة البينة من جهتهم فيما إذا أقام مدعي اننصف، ثم أقام الآخران على نحو ما ذكرنا في الفرع الاول، ويجوز أن يفرض من مدعي السدس أقامة البنية على أن السدس للغائب مع إقامة البنية على أن السدس له بناء على أن المدعى عليه إذا أقر بما في يده للغائب يجوز له إقامة البينة على أنه للغائب، وقد سبق بيانه. فرع دار في يد ثلاثة ادعى أحدهم كلها، وآخر نصفها، والثالث ثلثها، وأقام واحد من الاولين بينة بما ادعاه دون الثالث، فلمدعي الكل الثلث بالبينة وباليد، ولمدعي النصف كذلك، ثم لمدعي الكل أيضا نصف ما في يد الثالث ببينته السليمة عن المعارض، وفي النصف الآخر تتعارض بينته وبينة مدعي النصف، فإن قلنا بالسقوط، فالقول قول الثالث فهذا السدس، وفي بطلان البينتين فيما سوى هذا السدس الطريقان السابقان في تبعيض الشهادة، وإن قلنا بالاستعمال، لم الاقراع والتوقف، وإن قلنا بالقسم، قسم بينهما هذا السدس بالسوية، فيصير

(8/334)


لمدعي الكل النصف ونصف السدس، ولمدعي النصف الباقي هكذا أورد المسألة الشيخ أبو علي وغيره. القسم الثاني: أن تتعارض البينتان، وهناك ما يرجح أحدهما، فيعمل بالراجحة، وللرجحان أسباب: أحدها أن تختص، إحداهما بزيادة قوة، وفيه صور إحداها: لو أقام أحدهما شاهدين، والآخر شاهدا، وحلف معه، فقولان، أحدهما: يتعادلان، وأظهرهما: يرجح الشاهدان، لانها حجة بالاجماع، وأبعد عن تهمته بالكذب في يمينه، فعلى هذا لكان مع صاحب الشاهد واليمين يد، فهل يرجح صاحب اليد، أم صاحب الشاهدين، أم يتعادلان ؟ أوجه، أصحها الاول، وحكى البغوي الاولين قولين. الثانية: لو زاد عد الشهود في أحد الجانبين، أو زاد ورعهم، فالمذهب أنه لا ترجيح، وقيل قولان، وفي الرواية يثبت الترجيح بذلك، وقيل: هي كالشهادة، والمذهب الفرق، لان الشهادة نصابا فيتبع ولا ضبط للرواية، فيعمل بأرجح الظنين. الثالثة: أقام أحدهما رجلا وامرأتين، والآخر رجلين، فلا يرجح الرجلان على المذهب، وقيل: قولان، السبب الثاني: اليد، فإذا ادعى عينا في يد غيره، وأقام بينة أنها ملكه وأقام من هي في يده بينة أنها ملكه، رجحت بينة من هي في يده على بينة الخارج، وهل يشترط في سماع بينة الداخل أن يبين سبب الملك

(8/335)


من شراء أو إرث وغيرهما ؟ وجهان، أحدهما: نعم لانهما ربما اعتمدا ظاهر اليد، وأصحهما: لا، كبينة الخارج، فإنها تسمع مطلقة مع احتمال أنهم اعتمدوا يدا سابقة، ولا فرق في ترجيح بينة الداخل بين أن يبين الداخل والخارج سبب الملك أو يطلقا، ولا بين إسناد البينتين، وإطلاقهما إذا سمعنا بينة الداخل مطلقة. ولو تعرضنا للسبب، فلا فرق بين أن يتفق السببان، أو يختلفا، ولا بين أن يسند الملك إلى شخص، بأن يقول: كل واحد اشتريته من زيد، أو يسند إلى شخصين وفيما إذا أسند إلى شخص واحد أنهما يتساويان، لانهما اتفقا على أن اليد كانت لثالث، وكل واحد يدعي الانتقال منه. فرع متى تسمع بينة الداخل، لها أربعة أحوال، أحدها: أن يقيمها قبل أن يدعى عليه شئ، فالصحيح أنها لا تسمع، لان البينة إنما تقام على خصم، وقيل: تسمع لغرض التسجيل. الثاني: يقيمها بعد الدعوى عليه، وقبل أن يقيم المدعي بينة، فالاصح أنها لا تسمع أيضا، لان الاصل في جانبه اليمين، فلا يعدل عنها ما دامت كافية، وقال ابن سريج: تسمع بينته لدفع اليمين كالمودع تسمع بينته على الرد والتلف، وإن كفته اليمين. الثالث: يقيمها بعد أن أقام الخارج البينة، لكن قبل أن يعدلها، فوجهان، أحدهما: لا تسمع، لانه مستغن عنها بعد، وأصحهما تسمع، ويحكم بها، لان يده بعد البينة معرضة للزوال، فيحتاج إلى تأكيدها. الرابع: يقيمها بعد بينة المدعي وتعديلها، فقد أقامها في أوان إقامتها، فإن لم يقمها حتى قضى القاضي للمدعي، وسلم المال إليه، نظر إن لم

(8/336)


يسند الملك إلى ما قبل إزالة اليد، فهو الآن مدع خارج، وإن أسنحه، واعتذر بغيبة الشهود ونحوها، فهل تسمح بينته، وهل تقدم باليد المزالة بالقضاء، ؟ وجهان، أصحهما: نعم، وينقض القضاء الاول، لانها إنما أزيلت، لعدم الحجة، وقد ظهرت الحجة، فلو أقام البينة بعد الحكم للمدعي، وقبل التسليم إليه، سمعت بينته، وقدمت على الصحيح لبقاء اليد حسا. فرع هل يشترط أن يحلف الداخل مع بينته، ليقضى له ؟ وجهان، أو قولان، أصحهما: لا، كما لا يحلف الخارج مع بينته، وبنوا الخلاف على خلاف في أالقضاء للداخل باليد، أم بالبينة المرجحة باليد، إن قلنا باليد، حلف، وإلا فلا. فرع إذا أطلق الخارج دعوى الملك، وأقام بينة، وقال الداخل: هو ملكي اشتريته منك، وأقام به بينة، فالداخل أولى، لان مع بينته زيادة علم، وهو الانتقال، ولانه عند الاطلاق مقدم، فهنا أولى، ولو قال الخارج: هو ملكي ورثته من أبي، وقال الداخل: ملكي اشتريته من أبيك، فكذلك الحكم، ولو انعكست الصور، فقال الخارج: هو ملكي، اشتريته منك، وأقام بينة، وأقام الداخل بينة أنه ملكه، فالخارج أولى لزيادة علم بينته، ولو قال كل واحد لصاحبه: اشتريته منك، وأقام به بينة، وخفي التاريخ، فالداخل أولى، ثم في الصورة الاولى، وهي أن يطلق الخارج، ويقول الداخل: اشتريته منك لا تزال يد الداخل قبل إقامته

(8/337)


البينة. وقال القاضي حسين: تزال، ويؤمر بالتسليم إلى المدعي، لاعترافه بأنه كان له، ثم يثبت ما يدعيه من الشراء، والصحيح الاول، لان البينة إذا كانت حاضرة، فالتأخير إلى إقامتها سهل، فلا معنى للانتزاع والرد، فلو زعم أن بينته غائبة لم يتوقف، بل يؤمر في الحال بالتسليم، ثم إن أثبت ما يدعيه، استرد، ويجري الخلاف فيما لو ادعى دينا، فقال المدعى عليه: أبرأني، وأراد إقامة البينة، لا يكلف توفية الدين على قول الاكثرين، وعلى قول القاضي يكلف، ثم إن أثبت ما يقول، استرد. فصل من أقر بعين لرجل، ثم ادعاها لا تسمع دعواه إلا أن تذكر تلقي الملك منه، ولو أخذت منه ببينة، ثم ادعاها هل يحتاج إلى ذكر التلقي ؟ وجهان، أحدهما: نعم، لانه صار مؤاخذا بالبينة، كما لو أقر، وأصحهما: لا، كالاجنبي، ولا خلاف أنه لو ادعى عليه أجنبي وأطلق، سمعت. فروع أكثرها عن ابن سريج رحمه الله. أقام الخارج بينة أن هذه العين ملكي غصبها مني الداخل، أو قال: أجرتها له، أو أودعها عنده، وأقام الداخل بينة أنها ملكه، فهل يقدم الخارج أم الداخل ؟ وجهان، الاصح: الخارج، وبه قال ابن سريج، وصححه العراقيون، وبه أجاب الهروي، وخالفهم البغوي، فصحح تقديم الداخل، فلو لم تكن بينة، ونكل الداخل عن اليمين، فحلف الخارج، وحكم له، ثم جاء الداخل ببينة، سمعت على الصحيح، كما لو أقامها بعد بينة الخارج، وقيل: لا تسمع بناء على أن اليمين المردودة كالاقرار، ولو تنازعا شاة مذبوحة في يد أحدهما رأسها وجلدها وسواقطها، وفي يد الآخر باقيها، وأقام كل

(8/338)


واحد بينة أن الشاة له، قضي لكل واحد بما في يده، ولو كان في يد كل واحد شاة، فادعى كل واحد أن الشاتين له، وأقاما بينتين تعارضتا، فلكل واحد التي في يده، لاعتقاد بينته باليد. وإن أقام كل واحد بينة أن التي في يد الآخر ملكه قضي لكل واحد بما في يد الآخر. السبب الثالث: اشتمال أحدهما على زيادة تاريخ، فإذا أرختا، نظر إن اتفق تاريخهما، فلا ترجيح، وإن اختلف، بأن شهدت بينة زيد أنه ملكه منذ سنة، وبينة عمرو أنه ملكه منذ سنتين، فهل تتعارضان، أم يقدم أسبقهما تاريخا ؟ طريقان، المذهب التقديم، ويطرد الخلاف في بينتي شخصين تنازعا نكاح امرأة إذا اختلف تاريخهما، وفيما إذا تعارضتا مع اختلاف التاريخ لسبب الملك، بأن أقام أحدهما بينة أنه اشتراه من زيد منذ سنة، والآخر أنه اشتراه من عمرو منذ سنتين، فلو نسبا العقدين إلى شخص واحد، فأقام هذا بينة أنه اشتراه من زيد منذ سنة، وذاك بينة أنه اشتراه من زيد منذ سنتين، فالسابق أولى بلا خلاف، وطردوا الخلاف أيضا فيما إذا تنازعا أرضا مزروعة، فأقام أحدهما بينة أنها أرضه زرعها، والآخر أنها ملكه مطلقا، لان بينة الزرع تثبت الملك من وقت الزراعة. هكذا ذكره البغوي، وفيه تصريح بأن سبق التاريخ لا يشترط أن يكون بزمان معلوم حتى لو قامت بينة أنه ملكه منذ سنة، وبينة الآخر أنه ملكه من أكثر من سنة كان فيه الخلاف، فإن رجحنا بسبق التاريخ، حكمنا بها لصاحب السبق، وله الاجرة والزيادات الحادثة من يومئذ، وإن لم نرجح به، ففيه الخلاف السابق في أصل التعارض، وإن كانت إحداها

(8/339)


مؤرخة، والاخرى مطلقة، فالمذهب أنهما سواء فتتعارضان، وقيل: تقدم المؤرخة. ولو تنازعا دابة، فأقام أحدهما بينة أنها ملكه، والآخر بينة أنها ملكه، وهو الذي نتجها، قال الاكثرون: هو على الخلاف في سبق التاريخ، وطردوه في كل بينتين أطلقت إحداهما الملك، ونصت الاخرى على سببه من إرث وشراء وغيره، وقيل: تقدم بينة النتاج قطعا، لانها تثبت ابتداء الملك له، والتي سبق تاريخها لا تثبت ابتداء ملكه، وهذا التوجيه يقتضي اطراد الطريقين فيما لو تنازعا ثمرة وحنطة، فشهدت إحداهما بأنهاحدثت من شجرته، أو بذرته، ولا يقتضي جريان القطع فيما لو تعرضت إحداهما للشراء وسائر الاسباب، لانها لا توجب ابتداء ملكه، ثم المسألة من أصلها مفروضة فيما إذا كان المدعى في يد ثالث، فلو كان في يد أحدهما، وقامت بينتان مختلفتا التاريخ، فإن كانت بينة الداخل أسبق تاريخا، قدمت قطعا، وإن كانت بينة الخارج أسبق، فإن لم نجعل سبق التاريخ مرجحا، قدم الداخل، وإن جعلناه مرجحا، فهل يقدم الداخل أم الخارج، أم يتساويان ؟ أوجه، أصحها: الاول. فصل ادعى دارا، أو عبدا، أو نحوه في يد رجل، فشهدت له بينة بالملك في الشهر الماضي، أو بالامس، ولم يتعرض للحال، نقل المزني والربيع أنها لا تسمع، ولا يحكم بها، ونقل البويطي أنها تسمع، ويحكم بها، وقال الجمهور: هما قولان، أظهرهما، المنع، والطريق الثاني القطع بالمنع، ويجري الخلاف فيما لو ادعى اليد، وشهدوا أنه كان في يده أمس، فإذا قلنا بالمنع، فينبغي للشاهد أن يشهد على الملك في الحال، أو يقول: كان ملكه ولم يزل، أو لا أعلم له مزيلا، ولا يجوز أن يشهد بالملك في الحال استصحابا لحكم ما عرفه من قبل، كشراء وإرث وغيرهما، وإن احتمل زواله، فلو صرح في شهادته أنه يعتمد

(8/340)


الاستصحاب، فوجهان، قال الغزالي: قال الاصحاب: لا يقبل، كما لا تقبل شهادة الرضاع على امتصاص الثدي، وحركة الحلقوم. وقال القاضي حسين، تقبل، لانا نعلم أنه لا مستند له سواه، ولو قال: لا أدري أزال ملكه، أم لا، لم يقبل قطعا، لانها صيغة مرتاب بعيدة عن أداء الشهادة، ولو شهدت بينة بأنه أقر أمس للمدعي بالملك، قبلت الشهادة، واستديم حكم الاقرار، وإن لم يصرح الشاهد بالملك في الحال وقيل بطرد القولين، والمذهب الاول لئلا تبطل فائدة الاقارير. ولو قال المدعى عليه: كان ملكك أمس، فوجهان، أحدهما: لا يؤاخذ به، كما لو قامت بينة بأنه كان ملكه أمس، وأصحهما، وبه قطع ابن الصباغ: يؤاخذ، فينتزع، منه، كما لو شهدت البينة أنه أقر أمس، والفرق أن الاقرار لا يكون إلا عن تحقيق، والشاهد قد يتساهل ويخمن، فلو أسند الشهادة إلى تحقيق، بأن قال الشاهد: هو ملكه بالامس، اشتراه من المدعى عليه بالامس، أو أقر له به المدعى عليه بالامس، قبلت الشهادة، ولو قال: كان في يدك أمس، فهل يؤاخذ بإقراره ؟ وجهان، حكاهما ابن الصباغ. قلت: الاصح المنع. والله أعلم. فإذا عرفت ما يحتاج إليه الشاهد إلى التعرض له على قولنا: لا تسمع الشهادة على الملك السابق، فكذلك إذا قلنا: الشهادة على اليد السابقة لا تسمع، فينبغي أن يتعرض الشاهد لزيادة، فيقول: كان في يد المدعي، وأخذه المدعى عليه منه، أو غصبه، أو قهره عليه، أو بعث العبد في شغل، فأبق منه، فاعترضه هذا، وأخذه، فحينئذ تقبل الشهاد ويقضى بها للمدعي، ويجعل صاحب يد. فرع قد ذكرنا أن الشهود لو قالوا: ولا نعلم زوال ملكه، قبلت شهادتهم، ثم نقل ابن المنذر أن الشافعي رحمه الله قال: يحلف المدعي مع البينة، فإن ذكروا مع ذلك أنه غاصب، فلا حاجة إلى اليمين، قال الهروي: هذا غريب.

(8/341)


فرع دار في يد رجل ادعاها آخران، وأقام أحدهما بينة أنها له، غصبها منه المدعى عليه، وأقام الآخر بينة أن من في يده أقر بها له، فلا منافاة بينهما، فثبت الملك والغصب بالبينة الاولى، ويلغو إقرار الغاصب لغير المغصوب منه. فصل بينة المدعي لا توجب ثبوت الملك له، ولكنها تظهره فيجب أن يكون الملك سابقا على إقامتها، لكن لا يشترط السبق بزمان طويل يكفي لصدق الشهود لحظة لطيفة، ولا يقدر ما لا ضرورة إليه، فلو أقام بينة بملك دابة أو شجرة، لم يستحق النتاج والثمرة الحاصلين قبل إقامة البينة، والثمرة الظاهرة عند إقامة البينة تبقى للمدعى عليه، وفي الحمل الموجود عند إقامتها وجهان، أصحهما: يستحقه المدعي تبعا للام، كما في العقود، والثاني: لا، لاحتمال كونه لغير مالك الام بوصية. ومقتضى هذا الاصل أن من اشترى شيئا، فادعاه مدع، وأخذه منه بحجة مطلقة لا يرجع على بائعه بالثمن، لاحتمال انتقال الملك من المشتري إلى المدعي، وتكون المبايعة صحيحة مصادفة محلها، لكن الذي أطبق عليه الاصحاب ثبوت الرجوع، بل لو باع المشتري أو وهب، وانتزع المال من المتهب أو المشتري منه، كان للمشتري الاول الرجوع أيضا، وسبب الحاجة إليه في عهدة العقود، ولان الاصل أن لا معاملة بين المشتري والمدعي، ولا انتقال منه، فيستدام الملك المشهود به إلى ما قبل الشراء، وعن القاضي حسين وجه أنه لا رجوع إذا كان دعوى المدعي ملكا سابقا وفاء بالاصل المذكور، وحمل ما أطلقه الاصحاب عليه، وحكى الهروي وجها أن قيام البينة يقتضي سبق الملك حتى يكون النتاج للمدعي.

(8/342)


فرع المشتري من المشتري إذا استحق المال في يده، وانتزع منه، ولم يظفر ببائعه، هل له أن يطالب الاول بالثمن ؟ في فتاوى القاضي حسين: الاصح أنه لا يطالبه. فصل ادعى ملكا مطلقا، فشهد الشهود بالملك، وذكروا سببه، لم يضر، فلو أراد المدعي تقديم بينته بذكر السبب بناء على أن ذكر السبب مرجح، لم يكف للترجيح تعرضهم للسبب أولا، لوقوعه قبل الدعوى والاستشهاد، بل يدعى الملك وسببه، ثم يعيدون الشهادة، فحينئذ ترجح بينته، وقيل: لا حاجة إلى إعادة البينة، وتكفي الشهادة على ما هو المقصود واقعة بعد الدعوى والاستشهاد، ولو ادعى الملك، وذكر سببه، وشهدوا بالملك، ولم يذكروا السبب، قبلت شهادتهم، لانهم شهدوا بالمقصود، ولا تناقض، ولو ادعي الملك وسببه، وذكر الشهود سببا آخر، فالصحيح بطلان شهادتهم، للتناقض، وقيل: تقبل على أصل الملك، ويلغو السبب، ولو شهد شاهد بألف عن ثمن، وآخر بألف عن قرض، والدعوى مطلقة، فقد سبق في الاقرار أنه لا يثبت بشهادتهما شئ، وقياس الوجه الثاني على ضعفه ثبوت الالف. فرع في يده دار حكم له حاكم بملكها، فادعى خارج انتقال الملك منه إليه، وشهدوا بانتقاله إليه بسبب صحيح، ولم يبينوه، قال الهروي: وقعت هذه المسألة، فأفتى فيها فقهاء همدان بسماع الدعوى، والحكم بها للخارج، كما لو عينوا السبب، وكذا أفتى الماوردي، والقاضي أبو الطيب، قال: وميلي إلى أنها لا تسمع ما لم يبينوا، وهو طريقة القفال وغيره، لان أسباب الانتقال مختلف فيها بين العلماء، فصار كالشهادة بأن فلانا وارث لا يقبل ما لم يبين جهة الارث.
الطرف الثاني : في العقود، وفيه أربع مسائل:

(8/343)


الاولى: إذا قال المكري: أكريتك هذا البيت شهر كذا بعشرة، فقال: اكتريت جميع الدار بالعشرة، فإن لم يكن بينة تحالفا، ثم يفسخ العقد أو ينفسخ على ما سبق في باب التحالف، وعلى المستأجر أجرة مثل ما سكن في الدار أو البيت، فلو أقام أحدهما بينة دون الآخر، قضي بالبينة، فإن أقاما بينتين، فقولان، وقيل: وجهان أحدهما خرجه ابن سريج، تقدم بينة المستأجر، لاشتمالهما على زيادة وهي اكترا جميع الدار، وأظهرهما، وهو المنصوص: يتعارضان، فيكون على قولي التعارض، وإن قلنا: بالسقوط، تحالفا، وإن قلنا: بالاستعمال، جازت القرعة على الصحيح، وفي اليمين معها الخلاف السابق. وقال ابن سلمة: لا يقرع، لان القرعة عند تساوي الجانبين، ولا تساوي، لان جانب المكري أقوى لملك الرقبة، وأما الوقف والقسمة، فلا يجبان هكذا أطبق عليه الاصحاب، وفيه إشكال، ونقل الماسرجسي قولا أنه تجئ القسمة في الملك، والوقف في الاجرة. ولو اختلفا والزيادة في جانب المكري، بأن قال: أكريتك بعشرين، قال: بل بعشرة، فقول التعارض بحاله، وعلى تخريج ابن سريج: بينة المكري راجحة للزيادة. ويطرد ما ذكره في اختلاف المتبايعين إذا كان في بينة أحدهما زيادة، ولو وجدت الزيادة في الجانبين بأن قال: أكريتك هذا البيت بعشرين، فقال: بل جميع الدار بعشرة، فلابن سريج رأيان، الصحيح منهما: الرجوع إلى التعارض، والثاني: الاخذ بالزيادة من الجانبين، فيجعل جميع مكري بعشرين، وهذا فاسد، لانه خلاف قول المتداعيين، والشهود، ثم قال العراقيون والروياني وغيرهم: هذا إذا كانت البينتان مطلقتين، أو إحداهما مطلقة، أو اتفق تاريخهما، فإن اختلف بأن شهدت إحداهما أن كذا مكري من سنة من أول رمضان، والاخرى من أول شوال، فقولان، أظهرهما وبه قطع العراقيون والروياني تقدم أسبقهما تاريخا، لان العقد السابق صحيح، ولا مخالفة، والثاني تقدم المتأخرة، لان العقد الثاني ناسخ، وربما تخللت إقالة، قال صاحب التقريب وغيره: موضع القولين إذا لم يتفقا على أنه لم يجر إلا عقد، فإن اتفقا عليه، تعارضتا. المسألة الثانية: في يده دار جاء رجلان ادعى كل واحد منهما أني اشتريتها من صاحب اليد بكذا، وسلمت الثمن، وطالبه بتسليم الدار، فإن أقر لأحدهما، سلمت الدار إليه، وهل يحلف الآخر ؟ قال الشيخ أبو الفرج: إن قلنا إتلاف البائع

(8/344)


كآفة سماوية، فلا وإن قلنا: كإتلاف الاجنبي، وأثبتنا الخيار، فأجاز، وأراد أن يطلب من البائع قيمتها، بني التحليف على الخلاف في أنه لو أقر للثاني بعد الاقرار الاول هل يغرم فيحلف أم لا ؟ فلا وقد سبق نظائره، وللآخر أن يدعي الثمن فإنه كهلاك المبيع قبل القبض في زعمه، وإن أنكر ما ادعيا ولا بينة، حلف لكل واحد يمينا، وبقيت الدار في يده، وإن أقام أحدهما بينة، سلمت الدار إليه، وليس للآخر تلحيفه لتغريم العين، لانه لم يفوتها عليه، إنما أخذت بالبينة، وله دعوى الثمن، وإن أقاما بينتين،، نظر، إن كانتا مؤرختين بتاريخ مختلف، قدم أسبقهما تاريخا، وإن لم تكونا كذلك، فله حالان، الاولى أن يستمر صاحب اليد على التكذيب، فيتعارضان، فإن قلنا بالسقوط سقطتا، وحلف المدعى عليه لكل واحد منهما، كما لو لم يكن بينة، وهل لهما استرداد الثمن ؟ وجهان، أصحهما: نعم، هذا إذا لم تتعرض البينة لقبض المبيع، فإن تعرضت، فلا رجوع بالثمن، لان العقد استقر بالقبض، وليس على البائع عهدة ما يحدث بعده، وإن قلنا: بالاستعمال، فالاشهر أنه لا يجئ الوقف، والاصح مجيئه، فتنزع الدار من يده، والثمنان، ويوقف الجميع، وإن قلنا بالقرعة، فمن خرجت قرعته، سلمت إليه الدار بالثمن الذي سماه، واسترد الآخر الثمن الذي أداه، وإن قلنا بالقسمة، فلكل واحد منهما نصف الدار بنصف الثمن الذي سماه، ولهما خيار الفسخ، لانه لم يسلم جميع المعقود عليه، فإن فسخا استردا جميع الثمن المشهود به، وإن أجاز، استرد كل

(8/345)


واحد نصف الثمن المشهود به بناء على الاظهر، وهو أن الاجازة بالقسط، ويجوز أن يجيز أحدهما، ويفسخ الآخر، ويسترد جميع الثمن. ثم إن سبقت الاجازة الفسخ، رجع المجيز بنصف الثمن، وليس له أن يأخذ النصف المردود، ويضمه إلى ما عنده، لانه حين أجاز، رضي بالنصف، وإن سبق الفسخ الاجازة، فهل للمجيز أخذ الجميع ؟ وجهان، أحدهما: لا، لانا نفرع على قول القسمة، فلا يأخذ إلا ما اقتضته، والمردود يعود إلى البائع، وأصحهما، وبه قطع العراقيون له ذلك، لان بينته قامت بالجمع، وقد زال المزاحم، ونقل الربيع قولا: ان البيعين مفسوخان، وروي باطلان، وهو معنى مفسوخان هنا، ويعمل بمقتضى قول المدعى عليه، وامتنع جماعة من جعله قولا، منهم من غلظه، ومنهم من قال: هو تخريج له. الحالة الثانية: أن يصدق صاحب اليد أحدهما، فعلى قول السقوط تسلم الدار للمصدق، وكأنه أقر له ولا بينة، وعلى قول الاستعمال وجهان، قال ابن سريج: يقدم المصدق، وكأنه نقل إليه يده، فصار معه يد وبينة، والاصح المنع لاتفاق البينتين على إسقاط يده، وانتزاع المال منه باتفاق الاقوال، واليد المزالة لا يرجح بها، فعلى هذا هو كما لو لم يصدق واحد منهما. ثم إن الاصحاب لم يفرقوا فيما إذا لم تكن البينتان مختلفتي التاريخ بين أن يكونا مطلقتين أو متحدتي التاريخ أو إحداهما مطلقة، والاخرى مؤرخة، بل صرحوا بالتسوية، إلا أن أبا الفرج الزاز استدرك، فقال: هذا إذا لم يقدم المؤرخة على المطلقة، فإن قدمناها قضينا لصاحبها ولا تجئ الاقوال. عن الشيخ أبي عاصم: لو تعرضت إحدى البينتين، لكون الدار ملك البائع وقت البيع، أو لكونها ملك المشتري الآن كانت مقدمة، وإن لم يذكرا تاريخا. ولو ذكرت إحداهما، نقد الثمن دون الاخرى كانت مقدمة، سواء كانت سابقة، أم

(8/346)


مسبوقة، لان التعرض للنقد يوجب التسليم، والاخرى لا توجب لبقاء حق الحبس للبائع، فلا تكفي المطالبة بالتسليم. فرع في يده دار جاء اثنان يدعيانها، قال أحدهما: اشتريتها من زيد وهي ملكه وقال الآخر: اشتريتها من عمرو وهي ملكه، وأقام كل واحد بينة بما يقوله، فهما متعارضتان، فإن قلنا بالسقوط، فكأنه لا بينة، ويحلف صاحب اليد لكل واحد يمينا، وإن قلنا بالاستعمال ففي مجئ قول الوقف الخلاف السابق، ويجئ قولا القرعة والقسمة والتفريع كما سبق، وإلا أن على قول القسمة إذا اختار أحدهما فسخ العقد، والآخر إجازته لا يكون للمجيز أخذ النصف الآخر، سواء تقدم الفسخ أو الاجازة إذا ادعيا الشراء بين شخصين، لان المردود يعود إلى غير من يدعي المجيز الشراء منه، فكيف يأخذه، وحيث أثبتنا الخيار على قول القسمة، فذلك إذا لم تتعرض البينة لقبض المبيع، ولا اعترف به المدعي، وإلا فإذا جرى القبض، استقر العقد، وما يحدث بعده ليس على البائع عهدته، وإنما شرطنا في صورة الفرع أن يقول كل واحد: وهي ملكه، لان من ادعى مالا في يد شخص، وقال: اشتريته من فلان، لم تسمع دعواه حتى يقول: اشتريته منه وهو ملكه ويقوم مقامه أن يقول: وتسلمته منه، أو سلمه إلي، لان الظاهر أنه إنما يسلم ما يملكه، وفي دعوى الشراء من صاحب اليد لا يحتاج أن يقول وأنت تملكه، ويكتفى بأن اليد تدل على الملك، وكذا يشترط أن يقول الشاهد في الشهادة: اشتراه من فلان وهو يملكه، أو اشتراه وتسلمه منه، أو وسلمه إليه. قال الامام: ويجوز أن يقيم شهودا على أنه

(8/347)


اشترى من فلان وآخرين أن فلانا كان يملكه إلى أن باعه، لكن هؤلاء شهدوا بالملك والمبيع جميعا، فكأن المراد إذا أقام شهودا بالشراء وقت كذا، وآخرين أنه كان يملكه إلى ذلك الوقت. فرع أقام أحد المدعيين بينة أنه اشترى الدار من فلان، وكان يملكها، وأقام الآخر بينة أنه اشتراها من مقيم البينة الاولى، حكم ببينة الثاني، ولا يحتاج أن يقول المقيم البينة: وأنت تملكها، كما لا يحتاج أن يقول لصاحب اليد، لان البينة تدل على الملك كما أن اليد تدل عليه. المسألة الثالثة: دار في يده جاء اثنان، قال كل منهما: بعتك هذه الدار، وكانت ملكي بكذا، فأد الثمن، فإن أقر لهما، طولب بالثمنين، وإن أقر لاحدهما، طولب بالثمن الذي سماه، وحلف للآخر، وإن أنكما ادعياه، ولا بينة حلف لهما يمينين، وإن أقام أحدهما بينة قضي له، وحلف للآخر، وإن أقاما بينتين، نظر إن أرختا تاريخين مختلفين، لزمه الثمنان، لامكان، الجميع، وإن اتحد تاريخهما بأن أرختا بطلوع الشمس، أو زوالها، تعارضتا، لامتناع كونه ملكا في وقت واحد لهذا وحده، ولذاك وحده، فعلى قول السقوط كأنه لا بينة، وعلى القرعة يقرع، فمن خرجت قرعته، قضي له بالثمن الذي شهدت به بينة، وللآخر تحليفه بلا خلاف، لانه لو اعترف به بعد ذلك لزمه، وعلى القسمة لكل واحد نصف الثمن الذي سماه، وكأن الدار لهما وباعاه بثمنين متفقين أو مختلفين، وفي مجئ الوقف الخلاف السابق، والمذهب مجيئه، وإن كانت البينتان مطلقتين أو إحداهما مطلقة، والاخرى مؤرخة، فوجهان، أصحهما أنهما كمختلفتي التاريخ، فيلزمه الثمنان لامكان الجمع، والثاني: أنهما كمتحدتي التاريخ، لان الاصل براءة ذمة المشتري، فلا يلزمه إلا اليقين، وبهذا قال القاضي أبو حامد، وابن القطان، فعلى

(8/348)


هذا يعود خلاف التعارض وفيه طريق ثان وهو القطع بالوجه الاول، وقيل: إن شهدت البينتان على الاقباض مع البيع، وجب الثمنان قطعا، ولو شهدت البينتان على إقرار المدعى عليه بما ادعيا، فالصحيح أن الحكم كما لو قامتا على البيعين، فينظر أقامتا على الاقرار مطلقا، أم على الاقرار بالشراء من زيد في وقت، ومن عمرو كذلك، وقيل: يجب الثمنان، وإن كانت الشهادة على الاقرارين مطلقا، وما ذكرناه من أنهما إذا أرختا تاريخين مختلفين يلزمه الثمنان يشترط فيه أن يكون بينهما زمن يمكن فيه العقد الاول، ثم الانتقال من المشتري إلى البائع الثاني، ثم العقد الثاني، فإن عين الشهود زمنا لا يتأتى فيه ذلك، لم يجب الثمنان، قال الامام: ولو شهد اثنان أنه باع فلانا في ساعة كذا، وشهد آخران أنه كان ساكنا تلك الحالة، أو شهد اثنان أنه قبل فلانا ساعة كذا، وآخر أنه كان ساكنا تلك الحالة لا يتحرك ولا يعمل شيئا، ففي قبول الشهادة الثانية وجهان، لانها شهادة على النفي، وإنما تقبل شهادة النفي في المضايق، وأحوال الضرورات، فإن قبلناها، جاز التعارض. قلت: الاصح القبول، لان النفي المحصور، كالاثبات في إمكان الاحاطة به. والله أعلم. فرع قال الاكثرون: صورة المسألة أن يقول كل واحد: بعتك كذا وهو ملكي وهكذا لفظ الشافعي رحمه الله في المختصر وقال أبو الفياض: لا يشترط ذلك، وإذا قلنا: بالقسمة عند التعارض، فقسم الثمن بلا خيار لصاحب اليد، لانه حصل له تمام البيع، ولا غرض له في عين البائع، وقال ابن القطان: له الخيار،

(8/349)


فقد يرضى بمعاملة واحد دون اثنين. المسألة الرابعة: عبد في يد رجل، ادعى أن سيده أعتقه، وادعى رجل أنه باعه إياه بكذا، وأنكر صاحب اليد ما ادعياه، ولا بينة حلف لهما يمينين، وإن أقر بالعتق، ثبت العتق، ولم يكن للمشتري تحليفه، وإن قلنا: إتلاف البائع كالآفة السماوية، لانه بالاقرار متلف قبل القبض، فينفسخ البيع، لكن لو ادعى تسليم الثمن، حلف له وإن أقر بالبيع، قضى به، وليس للعبد تحليفه، لانه لو اعترف به، لم يقبل، ولم يلزمه غرم، قال الروياني: وليس لنا موضع يقر لاحد المدعيين، ولا يحلف للآخر قولا واحدا إلا هذا، وإن أقام كل واحد بينة، نظر إن اختلف تاريخهما، قضى بأسبقهما، وإن اتحد تعارضتا، وفيهما القولان، فإن قلنا بالسقوط، فهو كما لو لم يكن، وإن قلنا بالاستعمال، ففي مجئ قول الوقف الخلاف السابق، وإن قلنا بالقرعة قضى لمن خرجت له، وإن قلنا بالقسمة، عتق نصف العبد، ونصفه لمدعي الشراء بنصف الثمن، وله الخيار، فإن فسخ، فالصحيح أنه يعتق النصف الآخر أيضا، لان البينة شهدت بإعتاقه الجميع، وإنما لم يحكم بموجبها لزحمة مدعي الشراء وقد زالت، وقيل: لا يعتق وإن أجاز، فإن كان المدعى عليه معسرا، لم يسر العتق، وإن كان موسرا، فقولان، أو وجهان، أحدهما لا يسري، لانه عتق قهرا، فأشبه ما لو ورث بعض قريبه، وأظهرهما يسري، لقيام البينة أنه أعتق باختياره، وقيل: لا يجري قول القسمة هنا تحرزا من تبغيض الحرية، وصرح المزني قولا أنه يقدم بينة العتق، لان العبد في يد نفسه، وبينة صاحب اليد مقدمة وضعف الاصحاب هذا، وامتنعوا من إثباته قولا قالوا: وإنما يكون في يد نفسه لو ثبتت حريته، ولو كانت البينتان مطلقتين أو

(8/350)


إحداهما مطلقة، والاخرى مؤرخة، فهو كما لو اتحد تاريخهما، هذا هو المذهب، وقيل: لا يجري هنا قول السقوط، لان صدقهما ممكن، بأن باعه صاحب اليد لمدعي الشراء، ثم اشتراه منه، ثم أعتقه، وتصديق صاحب اليد بعد قيام البينتين لا يوجب الرجحان إلا عند ابن سريج كما سبق.
الطرف الثالث : في التداعي والتعارض في الموت والارث، وفيه مسائل: الاولى: مات رجل عن اثنين مسلم ونصراني، فقال كل منهما: مات على ديني فأرثه، فللاب حالان، الاولى أن يكون معروفا بالتنصر، فقال المسلم: أسلم ثم مات، وقال النصراني: مات على ما كان، فيصدق النصراني بيمينه، لان الاصل بقاؤه، فإن أقاما بينتين، نظر إن أطلقتا، فقالت إحداهما: مات مسلما، والاخرى مات نصرانيا، قدمت بينة المسلم، لان معها زيادة علم، وهو انتقاله من النصرانية، فقدمت الناقلة على المستصحبة، كما تقدم بينة الجرح على التعديل، وكما لو مات عن ابن وزوجة، فقال الابن: داره هذه ميراث، وقالت: أصدقنيها أو باعنيها، وأقاما بينتين، فبينتها أولى، وكما لو ادعى على مجهول أنك عبدي، وأقام به بينة، وأقام المدعى عليه بينة أنه كان ملكا لفلان، وأعتقه، تقدم بينة المدعى عليه، لعلمها بالانتقال من الرق إلى الحرية، وعلى هذا قياس المسائل، وإن قيدنا بأنه تكلم في آخر عمره كلمة، وأقام المسلم بينة أنها كانت كلمة الاسلام، وأقام الآخر بينة بأنها كانت النصرانية، تعارضتا، فعلى قول السقوط يسقطان، ويصير كأن لا بينة، فيصدق النصراني بيمينه، وإن قلنا بالاستعمال، فعلى الوقف يوقف، وعلى القرعة يقرع، فمن خرجت له، فله التركة، وعلى القسمة تقسم، فيجعل بينهما نصفين كغير الارث، وقال أبو إسحاق: لا تجئ القسمة، لانها تكون حتما بالخطأ يقينا، لانه لا يموت مسلما كافرا، وفي غير صورة الارث لا يتحقق الخطأ في القسمة، لاحتمال كون المدعى مشتركا بينهما، والصحيح الاول، وليست القسمة حكما بأنه مات مسلما كافرا، بل لان بينة كل واحد اقتضت كون جميع المال له، ومزاحمتها الاخرى، فعملنا بكل واحدة بحسب الامكان، قال العراقيون: وليس

(8/351)


القسمة خطأ يقينا، لاحتمال أنه مات نصرانيا، فورثاه، ثم أسلم أحدهما. ولو قيدت بينة النصراني أن آخر كلامه النصرانية، فهو كتقييد البينتين. الحالة الثانية: أن لا يكون الا ب معروف الدين، فإن لم يكن بينة، نظر إن كان المال في يد غيرهما، فالقول قوله: وإن كان في يدهما، حلف كل واحد لصاحبه وجعل بينهما، وإن كان في يد أحدهما، فوجهان، أحدهما - وبه قال الشيخ أبو حامد والقاضي حسين وجماعته -: القول قوله بيمينه، والصحيح: أنه يجعل بينهما، ولا أثر لليد بعد اعترافه بأنه كان للميت. وإن أقاما بينتين، تعارضتا، سواء أطلقنا أو قيدنا. ويجئ في القسمة خلاف أبي إسحاق وقيل: تقدم بينة الاسلام، لان الظاهر من حال من هو في دار الاسلام. والمذهب الاول. ويصلي على هذا الميت، ويدفنه في مقابر المسلمين، ويقول: أصلي عليه إن كان مسلما. فرع يشترط في بينة النصراني أن يفسر كلمة التنصر بما يختص به النصارى، كقولهم: (ثالث ثلاثة) هل يجب في بينة الاسلام تفسير كلمته، لانهم قد يتوهمون ما ليس بإسلام إسلاما ؟ وجهان. وإذا قلنا بالقسمة، هل يحلف كل واحد من الاثنين للآخر ؟ وجهان، الاصح: لا. وإذا قلنا بالقسمة: فمات عن ابن وبنت، فقال ابن سلمة: يقسم مناصفة، وقال غيره: مثالثة، والصواب: أنهما كرجلين ادعى أحدهما جميع دار، والآخر نصفها، وأقاما بينتين، وقد سبق أن على قول القسمة للاول ثلاثة أرباعها، وللآخر ربعها. ثم الموت على كلمة الاسلام يوجب إرث الابن المسلم، لكن الموت على التنصر لا يوجب بمجرده إرث النصراني، لاحتمال أنى أسلم ثم تنصر، وكان التصوير فيما إذا تعرض الشهود

(8/352)


لاستمراره على النصرانية حتى مات، أو اكتفوا باستصحاب ما عرف من دينه مضموما إلى الموت عليه، وإن لم يتعرض له الشهود. فرع مات عن زوجة وأخ مسلمين وأولاد كفرة، فقال المسلمان: مات مسلما، وقال الاولاد: مات كافرا، فإن كان أصل دينه الكفر، صدق الاولاد. وإن أقاموا بينتين، فإن أطلقنا، قدمت بينة المسلمين، وإن قيدنا، فعلى الخلاف في التعارض. ويعود خلاف أبي اسحاق في جريان القسمة، فإذا رجحنا طائفة، قسم المال بينهم، كما يقسم لو انفردوا. وإن جعلنا المال بين الطائفتين تفريعا على القسمة، فالنصف للزوجة وللاخ، والنصف للاولاد، وفيما تأخذ الزوجة من النصف وجهان، أحدهما: ربعه وكأنه جميع التركة، وبه قطع السرخسي. والثاني نصفه، ليكون لها ربع التركة، لان الاخ معترف به، والاولاد لا يحجبونها باتفاقهما، وبه قطع الامام. قلت: الاول أصح، لانها معترفة أيضا باستحقاق الاخ ثلاثة أرباع التركة. والله أعلم. المسألة الثانية: مات نصراني وله ابنان مسلم ونصراني، فقال المسلم: أسلمت بعد موت أبينا، فالميراث بيننا. وقال النصراني: قبله، فلا ترثه، فلهما ثلاثة أحوال، إحداها: أن يقتصر على هذا القدر ولا يتعرضا لتاريخ موت الاب، ولا لتاريخ إسلام المسلم. والثانية: أن يتفقا على وقت موت الاب كرمضان. وقال المسلم: أسلمت في شوال، وقال النصراني: بل أسلمت في شعبان، ففي الحالتين إن لم يكن بينة، فالقول قول المسلم، لان الاصل بقاؤه على دينه، يحلف ويشتركان في المال.

(8/353)


وإن أقام أحدهما بينة قضى بها. ولن أقاما بينتين، قدمت بينة النصراني، لانها ناقلة من النصرانية إلى الاسلام في شعبان، والاخرى مستصحبة لدينه في شوال، فمع الاولى زيادة علم. الحالة الثالثة: أن يتفقا على تاريخ إسلام المسلم، فإن اتفقا على أنه أسلم في رمضان، ولكن ادعى المسلم أن الاب مات في شعبان. وقال النصراني: مات في شوال، صدق النصراني، لان الاصل بقاء الحياة. وإن أقاما بينتين، قدمت بينة المسلم، لانها تنقل من الحياة إلى الموت في شعبان، والاخرى تستصحب الحياة إلى شوال. وإن شهدت بينة النصراني في هذه الحالة الثالثة أنهم عاينوه حيا في شوال، أو شهدت بينة المسلم في الحالتين الاوليين بأنهم كانوا يسمعون منه كلمة التنصر في نصف شوال مثلا تعارضتا. فرع مات مسلم وله ابنان أسلم أحدهما قبل موت الاب بالاتفاق، وقال الآخر: أسلمت أيضا قبله. وقال المتفق على إسلامه: بل بعد موته، فعلى الاحوال الثلاث، فإن اقتصر على ذلك أو اتفقا على أن الاب مات في رمضان. وقال قديم الاسلام لحادث الاسلام: أسلمت في شوال. وقال الحادث: بل أسلمت في شعبان، صدق قديم الاسلام. وإن أقاما بينتين، قدمت بينة الحادث. وإن اتفقا أن الحادث أسلم في رمضان، وقال قديم الاسلام: مات الاب في شعبان. وقال الحادث: بل في شوال، فالمصدق الحادث، والمقدم بينة قديم الاسلام، وعلى هذا يقاس نظائر الصورة الاولى، وصورة الفرع بأن مات الاب حرا، وأحد ابنيه حرا بالاتفاق، واختلفا هل عتق الآخر قبل موته أم بعده. ولو اتفقا في صورة الفرع أن أحدهما لم يزل مسلما. وقال الآخر: لم أزل مسلما أيضا، ونازعه الاول، فقال: كنت نصرانيا، وإنما أسلمت بعد موت الاب، فالقول قوله انه لم يزل مسلما، لان ظاهر الدار يشهد له ولو قال كل واحد منهما: لم أزل مسلما، وكان صاحبي نصرانيا أسلم بعد موت الاب، فوجهان خرجهما القفال. أحدهما: لا شئ لهما، لان الاصل عدم الاستحقاق، وأصحهما: يحلفان، ويجعل المال بينهما، لان ظاهر اليد يشهد لكل واحد فيما يقوله في حق نفسه. فرع مات عن أبوين كافرين، وابنين مسلمين، فقال الابوان: مات

(8/354)


كافرا، وقال الابنان: مات مسلما، قال ابن سريج: فيه قولان، اشبههما بقول العلماء: ان القول قول الابوين، لان الولد محكوم بكفره في الابتداء تبعا لهما، فيستصحب حتى يعلم خلافه. والثاني: يوقف المال حتى ينكشف الامر أو يصطلحا، والتبعية تزول بالبلوغ وحصول الاستقلال. وقيل: القول قول الابنين، لان ظاهر الدار الاسلام. قلت: الوقف أرجح دليلا، ولكن الاصح عند الاصحاب أن القول قول الابوين، وأنكروا على صاحب التنبيه ترجيحه قول الابنين، وهو ظاهر الفساد. والله أعلم. فرع له زوجة وابن ماتا، فاختلف الزوج وأخو المرأة، فقال الزوج: ماتت أولا، فورثتها أنا وابني، ثم مات الابن، فورثته. وقال الاخ: مات الابن أولا، فورثت منه أختي، ثم ماتت، فأرث منها، فإن لم يكن بينة، فالقول قول الاخ في مال أخته، وقول الزوج في مال ابنه. فإن حلفا أو نكلا، فهي من صور استبهام الموت، فلا يورث ميت من ميت، بل مال الابن لابيه، ومالها للزوج والاخ. وإن أقاما بينتين، تعارضتا، وجرت أقوال التعارض. هذا إذا لم يتفقا على وقت موت أحدهما، فإن اتفقا على وقت موت أحدهما، واختلفا في أن الآخر مات قبله أم بعده، صدق من قال: بعده، لان الاصل دوام الحياة. وإن أقاما بينتين، قدمت بينة من قال: قبله، لان معها زيادة علم. فرع مات عن زوجة وأولاد فقالوا لها: كنت أمة، فعتقت بعد موته، أو ذمية، فأسلمت بعد موته، فقالت: بل عتقت وأسلمت قبله، فهم المصدقون. وإن قالت: لم أزل حرة مسلمة، فهي المصدقة، لان الظاهر معها. وفي قول: تصدق في الحرية دون الاسلام. وخرج قول: أن الاولاد يصدقون، لان الاصل عدم وراثتها. المسألة الثالثة: سيد قال لعبده: إن قتلت، فأنت حر، وتنازع بعده العبد والوارث، وأقام العبد بينة أنه قتل، والوارث بينة أنه مات حتف أنفه، فقولان،

(8/355)


أظهرهما: تقدم بينة العبد، ومنهم من قطع به، لان معها زيادة علم بالقتل. والثاني: يتعارضان، للمنافاة بينهما. فعلى هذا إن قلنا بالسقوط، فكأنه لا بينة، فيحلف الوارث، ويستمر الرق. وإن قلنا بالقسم عتق نصفه، أو بالقرعة وإن خرجت له، ورق إن خرجت للوارث، ولا يخفى الوقف. وإذا قدمنا بينة القتل، فلا قصاص، لان الوارث ينكره. وإن قال إن مت في رمضان فعبدي حر، وأقام العبد بينة أنه مات في رمضان، والوارث بينة أنه مات في شوال، فعلى القولين أحدهما: التعارض، وأظهرهما: تقدم بينة العبد، لزيادة العلم بحدوث الموت في رمضان. وقال المزني: تقدم بينة الوار ث، لان معها زيادة علم، وهي بقاء الحياة إلى شوال. ومن حقه أن يطرد في نظائره المسألة السابقة واللاحقة. ولو أقام الوارث البينة أنه مات في شعبان، فالقياس مجئ الخلاف وانعكاس القول الثاني وقول المزني. ولو حكم القاضي بشهادة شاهدي رمضان، ثم شهد آخر أنه مات في شوال، فهل ينقض الحكم، ويجعل كما لو شهدت البينتان معا ؟ خرجه ابن سريج على قولين، كما لو بان فسق الشهود بعد الحكم. فرع قال لسالم: إن مت في رمضان، فأنت حر، ولغانم: إن مت في شوال، فأنت حر، وأقام كل واحد بينة تقتضي حريته، فقولان، أحدهما: لا للتعارض، والثاني: تقدم بينة سالم، لان معها زيادة علم وهي حدوث الموت في رمضان. وقال المزني وابن سريج: تقدم بينة غانم. فإن قلنا: بالتعارض، فعلى السقوط يرق العبدان، وعلى القسمة يعتق من كل عبد نصفه، ولو قال لسالم: إن مت من مرضي فأنت حر، وقال لغانم: إن برئت منه، فأنت حر، وأقام سالم بينة بموته، وغانم بينة ببرئه، فهل تقدم بينة سالم أم غانم، أم يتعارضان ؟ أوجه، أصحهما:

(8/356)


الثالث، فيكون على الخلاف السابق في التعارض. وقيل: إذا وجد التعارض في مثل هذا غلبت الحرية. قلت: معنى تغليبها أنه لا يحكم بسقوط البينتين. والله أعلم. فصل من ادعى وراثة شخص، وطلب تركته، أو شيئا منها، فليبين جهة الوراثة من بنوة أو أخوة وغيرهما. وذكر السرخسي أن المذهب أنه لا يكفي لطلب التركة ذكر الجهة، بل يذكر معها الوراثة، فيقول: أنا أخوه ووارثه، وإذا شهد عدلان من أهل الخبرة بباطن حال الميت أن هذا ابنه لا يعرف له وارثا سواه، دفعت إليه التركة. وإن شهدا لصاحب فرض دفع إليه فرضه، ولا يطالبان بضمين. وذكر الفوراني أنه يشترط هنا ثلاثة شهود، كما ذكره في شهادة الافلاس. والصحيح المعروف الاول. وإذا لم يكن الشهود من أهل الخبرة، أو كانوا من أهلها، ولم يقولوا: لا نعلم له وارثا سواه، فالمشهود له إما أن لا يكون له سهم مقدر، وإما أن يكون، القسم الاول أن لا يكون، فلا يعطى شيئا في الحال، بل يبحث القاضي عن حال الميت في البلاد التي سكنها أو طرقها، فيكتب إليها الاستكشاف، أو يأمر مينادي فيها: إن فلانا مات، فإن كان له وارث، فليأت القاضي، أو ليبعث إليه. فإذا بحث مدة يغلب على الظن في مثلها أنه لو كان له وارث هناك، لظهر ولم يظهر، دفع المال إلى المشهود له. وحكى السرخسي قولا أنه لا يدفع إليه، وقيل: إن كان ممن لا يحجب كالابن، دفع إليه، وإن كان يحجب كالاخ، فلا، والمذهب الاول. وإن دفع إليه، فهل يؤخذ منه ضمين ؟ قولان، أحدهما: يجب، وأظهرهما: لا يجب، لكن يستحب، وقيل: لا يجب قطعا، وقيل: إن كان يحجب، وجب، وإلا فلا وقيل: إن كان ثقة موسرا، لم يجب، وإلا فيجب. القسم الثاني: أن يكون له سهم مقدر، فإن كان ممن لا يحجب، دفع إليه أقل فرضه عائلا من غير بحث، فالزوجة تعطى ربع الثمن عائلا، لاحتمال أبوين وبنتين وأربع زوجات، والزوج يعطى الربع عائلا، لاحتمال أبوين وبنتين معه،

(8/357)


والاب السدس عائلا على تقدير ابوين، وبنتين وزوج أو زوجة، وللام السدس عائلا على تقدير أختين لاب، وأختين لام، وزوج أو زوجة معها. ولو حضر مع الزوجة ابن، أعطيت ربع الثمن غير عائل، لان المسألة لا تعول إذا كان فيها ابن. ثم إذا بحث ولم يظهر غير المشهود له، أعطي تمام حقه، وفيه وجه أنه لا يعطى تمام حقه إلا أن تقوم بينة بخلاف الاخ، فإنه لو لم يعط شيئا، لصار محروما بالكلية، والصحيح الاول ولا يؤخذ ضمين للمتيقن، وفي أخذه الزيادة , الخلاف. وإن كان من يحجب، لم يعط شيئا قبل البحث، وبعد البحث يعطى على الصحيح، وفيه الوجه السابق فيمن له سهم مقدر وهو ممن يحجب. ولو قطع الشهود بأنه لا وارث له سواه، فقد أخطؤوا بالقطع في غير موضعه، ولا تبطل به شهادتهم. ولو قالوا: هذا ابنه، ولم يذكروا كونه وارثه، فقد أطلق البغوي أنه لا يحكم بشهادتهم، لانه قد يكون ابنا غير وارث، وجعل العراقيون هذه الصورة، كما لو لم يكن الشهود من أهل الخبرة الباطنة، أو كانوا ولم يقولوا: لا وارث سواه، وقالوا: ينزع المال من يد من هو في يده بهذه الشهادة، ويدفع المال إليه بعد البحث المذكور، ونقلوا عن ابن سريج فيما إذا شهدوا بأنه أخوه ولم يذكروا الوراثة، أنه لا يعطى شيئا بعد البحث، لان الابن لا يحجب غيره فقرابته مورثة والاخ يحجبه غيره فقراتته غير مورثة بمجردها. وذكر الامام في الابن ما ذكره العراقيون، وحكى في الاخ وجهين، فحصل فيهما وجهان. فرع لو قالوا: لا نعرف له في البلد وارثا سواه، لم يعط شيئا، ولا يصح الضمان المذكور حتى يدفع إليه المال.
الطرف الرابع : في العتق والوصية من الاصول الممهدة أن من أعتق في مرض موته عبدين. كل واحد منهما ثلث ماله على الترتيب، ولم تجز الورثة، ينحصر العتق في الاول، وإن أعتقهما معا، وأقرع، فإن علم سبق أحدهما، ولم يعلم عينه، فهل يقرع بينهما، أم يعتق من كل

(8/358)


واحد نصفه ؟ قولان، أظهرهما: الثاني، ورجح جماعة الاول. ولو علم عين السابق، ثم جهلت، فقيل بطرد القولين، والمذهب القطع بأنه يعتق من كل عبد نصفه. ولو علق عتق عبدين بالموت، أو أوصى بعتقهما ومات، وكل واحد ثلث ماله، أقرع، سواء وقع التعليقان أو الوصيتان معا أو مرتبا. ولو قامت بينة أن المريض أعتق سالما وبينة أنه أعتق غانما، وكل واحد ثلث ماله، فإن أرختا تاريخا مختلفا، عتق من أعتقه أولا، وإن اتحد تاريخهما، أقرع وإن أطلقت إحداهما، ففي التهذيب أنه يقرع، لاحتمال الترتيب والمعية وقال جماعة منهم الامام والغزالي: احتمال الترتيب أقرب، وأغلب من احتمال المعية، والسابق منهما غير معلوم. وإذا كان كذلك، وتعارضتا، وأطلقتا، عرفنا أن أحد الصنفين سابق، ولم نعرفه بعينه، فيجئ القولان في أنه يقرع بينهما، أم يعتق مكل عبد نصفه ؟ ومن فروع القولين ما لو قامت البينتان كذلك، لكن أحد العبدين سدس المال، فإن قلنا بالقرعة، فخرجت للعبد الخسيس، عتق وعتق معه نصف الآخر ليكمل الثلث، وإن خرجت للنفيس، عتققحده، وإن قلنا هناك: يعتق من كل واحد نصفه، فهاهنا وجهان، الصحيح وبه قطع الاكثرون: يعتق من كل واحد ثلثاه، كما لو أوصى لرجل بثلث ماله، ولآخر بسدسه، أعطى كل واحد ثلثي ما أوصى له به. والثاني: يعتق من النفيس ثلاثة أرباعه، ومن الخسيس نصفه، لانه إن سبق عتق النفيس، عتق كله، وإن سبق الخسيس، فنصف النفيس بعده حر، فأحد نصفيه حر على التقديرين والنزاع في النصف الثاني وهو قدر سدس المال، فيقسم بينهما، فيعتق من النفيس ربع آخر، ومن الخسيس نصفه. ولو قامت بينتان بتعليق عتق عبدين بالموت أو بالوصية بإعتاقهما، وكل واحد ثلث المال، ولم تجز الورثة أقرع بينهما، سواء أطلقت البينتان أو أرختا، لان المعلقين بالموت كالواقعين معا في

(8/359)


المرض. هذا هو المذهب. وقيل: قولان أحدهما: يقرع، والثاني: يعتق من كل عبد نصفه. فصل لا فرق في شهود العتق والوصية بين أن يكونوا أجانب، أو من ورثة المشهود عليه. فلو شهد أجنبيان أنه أوصى بعتق غانم، وهو ثلث ماله، وشهد وارثان أنه رجع عن تلك الوصية، وأوصى بعتق سالم وهو ثلث ماله أيضا، قبلت شهادتهما على الرجوع عن الوصية الاولى، وتثبت بها الوصية الثانية، لانهما أثبتا للرجوع بدلا يساويه، فارتفعت التهمة عنهما، ولا نظر إلى تبديل الولاء، لان الثاني قد لا يكون أهدى لجمع المال، وقد لا يورث بالولاء، ومجرد هذا الاحتمال لوردت به الشهادة، لما قبلت شهادة قريب لمن يرثه. هذا إذا كان الوارثان عدلين، فإن كانا فاسقين، لم يثبت الرجوع بقولهما، فيحكم بعتق غانم بشهادة الاجنبيين، ويعتق من سالم قدر ما يحتمله ثلث الباقي من المال بعد غانم، وهو الثلثان، وكأن غانما هلك أو غصب من التركة. فإن قال الوارثان: أوصى بعتق سالم، ولم يتعرضا للرجوع عن عتق غانم، فالحكم كما سبق فيما لو كانت البينتان أجانب، فالمذهب القرعة. وقيل: قولان، ثانيهما: يعتق من كل عبد نصفه. ولو كانت المسألة بحالها، لكن سالم سدس المال، فالوارثان متهمان برد العتق من الثلث إلى السدس، فلا تقبل شهادتهما في الرجوع في النصف الذي لم يثبتا له بدلا. وفي الباقي الخلاف في تبعيض الشهادة، فإن قلنا: لا تبعيض، وبه أجاب الشافعي رضي الله عنه في هذه المسألة ردت شهادتهما فيه أيضا، ويعتق العبدان، الاول بشهادة الاجانب، والثاني بإقرار الورثة، فإن لم يكونا جائزين، عتق منه قدر ما يستحقانه، فإن قلنا: تبعض، عتق نصف الاول، وكل الثاني. وحكي وجه أن الرجوع لا يتبعض، فإذا لم يثبت في البعض، لم يثبت في الباقي، فتبقى الشهادة بالوصية بعتق العبدين، فيقرع كما سبق، وهذا الخلاف إذا لم يكن في التركة وصية أخرى.

(8/360)


فإن كان أوصى بثلث ماله لرجل، وقامت البينتان لغانم وسالم كما ذكرنا، قبلت شهادة الورثة بالرجوع عن وصية غانم، لان للورثة رد الزيادة على الثلث، فليس في الشهادة على الرجوع تهمة، فيجعل الثلث أثلاثا بين الموصى له بالثلث، وعتق سالم، فيعطى الموصى له ثلث الثلث، ويعتق من سالم ثلثاه، وهو ثلث الثلث، هكذا ذكروه، لكن برد الزيادة على الثلث لا يوجب حرمان بعض أصحاب الوصايا، بل يوزع عليهم الثلث. وقبول شهادة الثلث توجب إرقاق غانم وحرمانه، وهو محل تهمة، لتعلق الاغراض بأعيان العبيد. فإن كان الوارثان فاسقين، عتق غانم بشهادة الاجنبيين، وعتق سالم بإقرارهما. ولو كانت قيمة غانم سدس المال، وسالم ثلثه، قبل شهادتهما على الرجوع عن وصية غانم، وأعتق سالم. فإن كانا فاسقين، عتق الاول، وعتق من سالم بقدر ثلث الباقي من المال، وهو خمسة أسداس سالم، وكأن الاول تلف. ولو شهد أجنبيان أنه نجز عتق غانم في المرض ووارثان أنه نجز عتق سالم، وكل منهما ثلث المال، نظر، إن كذب الوارثان الاجنبيين وقالا: لم يعتق غانما، وإنما عتق سالما، عتق العبدان (فإن) لم يكونا جائزين، عتق من سالم قدر حصتهما، واستدرك بعض المتأخرين فقال: قياس ما سبق أن لا يعتق من سالم إلا قدر ما يحتمله ثلث الباقي من المال بعد عتق غانم، وكان غانما تلف، وهذا حسن. وإن لم يكذباهما، بل قالا: أعتق سالما، ولا يدرى هل أعتق غانما أم لا. فإن كان الوارثان عدلين، فالحكم كما سبق فيما لو كان شهود العبدين أجانب، وإن كانا فاسقين، عتق غانم بشهادة الشهود. وأما سالم، فقال الشيخ أبو حامد، وتابعه كثيرون: يعتق منه نصفه إذا قلنا: يعتق من كل واحد نصفه لو كانا عدلين. وقال ابن الصباغ: هذا سهو، وصوابه أن يعتق خمساه، وذكر توجيهه

(8/361)


بطريق الجبر. ولو شهد أجنبيان لغانم، ووارثان لسالم كما ذكرنا، إلا أن سالما سدس المال، فإن كذب الوارثان الاجنبيين، عتقا جميعا، وإن لم يكذباهما، فإن كانا عدلين، فهو كما لو كان شهود العبدين أجانب، وقد سبق بيانه. وإن كانا فاسقين، فنقل البغوي أن الاول حر بشهادة الاجنبيين، ويقرع بينهما. فإن خرجت القرعة له، انحصر العتق فيه، وإن خرجت للثاني، عتق الاول بالشهادة، وعتق من الثاني ثلث ما بقي من المال بإقرار الوارثين، قال: وقياس هذا أن يقرع أيضا إذا كان كل عبد ثلث المال والوارثان فاسقان، وكأن هذا جواب على قول القرعة فيما إذا كان الشهود كلهم أجانب، وما نقلناه عن الشيخ أبي حامد وغيره على قول القسمة. فصل شهد اثنان أن فلانا الميت أوصى لزيد بالثلث، وآخران أنه أوصى لبكر بالثلث، فالثلث بينهما سواء، فإن قال الآخران: رجع عن زيد، وأوصى لبكر بالثلث، سلم له الثلث، ويستوي في شهادة الرجوع الوارث والاجنبي إذا جرى ذكر بدل. ولو شهد آخران أنه رجع عن وصية بكر أيضا، وأوصى بالثلث لعمرو، سلم الثلث له. ولو شهد إثنان أنه أوصى بالثلث لزيد، واثنان أنه أوصى لبكر، ثم شهد اثنان أنه رجع عن إحدى الوصيتين، فإن عينا المرجوع عنها، ثبت الرجوع، وكان الثلث كله للآخر. وقال ابن القطان: ليس للآخر الا السدس، وإنما يكون له الثلث إذا ثبت أن وصيته وقعت بعد الرجوع عن الوصية الاخرى. وإن لم يعينا المرجوع عنها، نص في المختصر أن الثلث بينهما. واختلف في وجهه، فقال الجمهور: إبهام الشهادة بالرجوع يمنع قبولها، كما لو شهد أنه أوصى لاحدهما، وقال القفال: تقبل الشهادة لان الوصية تحتمل الابهام، ويقسم الرجوع بينهما وكأنه رد وصية كل واحد إلى السدس، فتظهر فائدة الخلاف فيما لو شهدت بينة أنه أوصى لزيد بالسدس، وأخرى لعمرو بالسدس أيضا، وأخرى أنه رجع عن إحدى الوصيتين، فعلى قول الاكثرين: لا يقبل شهادة الرجوع المبهم، ويعطى كل واحد السدس الموصى به، وعلى قول القفال: تقبل وكأنه رجع عن نصف كل وصية، فيعطى كل واحد منهما نصف سدس.

(8/362)


الباب السادس : في مسائل منثورة تتعلق بأدب القضاء والشهادات والدعاوي، لانها يتعلق بعضها ببعض يوم الجمعة كغيره في إحضار الخصم مجلس الحكم، لكن لا يحضر إذا صعد الخطيب المنبر حتى يفرغ من الصلاة، واليهودي يحضر يوم السبت، ويكسر عليه سبته. شهد اثنان أنه غصت كذا، أو سرقه غدوة، وآخران أنه غصبه، أو سرقه عشية، تعارضتا ولا يحكم بواحدة منهما، بخلاف ما لو شهد واحد هكذا، وآخر هكذا حيث يحلف مع أحدهما، ويأخذ الغرم، لان الواحد ليس بحجة فلا تعارض. شهد واحد على إتلاف ثوب قيمته ربع دينار، وآخر على إتلاف ذلك الثوب بعينه، وقال قيمته ثمن دينار، يثبت الاقل وللمدعي أن يحلف مع الآخر. ولو شهد بدل الواحد والواحد اثنان واثنان، ثبت الاقل أيضا وتعارضتا في الزيادة. ولو شهد اثنان أن وزن الذهب الذي أتلفه نصف دينار، وآخران أن وزنه دينار، ثبت الدينار، لان مع شاهديه زيادة علم، بخلاف الشهادة على القيمة، فإن مدركها الاجتهاد، وقد يقف شاهد القليل على عيب. ولو ادعى عبدا في يد رجل، وأقام بينة أنه ولد أمته، لم يقض له بها، فقد تلد قبل أن تملكها، فإن شهدت أنه ولد أمته ولدته في ملكه فنص أنه يقضى له بهذه البينة، وبه قطع الجمهور، وخرج ابن سريج قولا، لانها شهادة بملك سابق، والمذهب الدول، لان النماء تابع للاصل. ولو شهدوا أن هذه الشاة نتجت في ملكه، وهذه الثمرة حصلت في ملكه، فهو كقولهم: ولدته أمته في ملكه، ولا يكفي نتاج شاته، وثمر شجرته. ولو شهدوا أن هذا الغزل من غزله، أو الفرخ من بيضه، والدقيق من حنطته، أو الخبز من دقيقه، كفى، لان ذلك عين ماله تغيرت صفته، بخلاف ولد الجارية والشاة. ولو أقام بينة على رق شخص،

(8/363)


وأقام المدعى عليه بينة أنه حر الاصل، فبينة المدعي أولى، لان معها زيادة علم وهو إثبات الرق. ولو ادعى دينا، وشهد به اثنان، لكن قال أحدهما متصلا بشهادته: إنه قضاه، أو أبرئ منه، فشهادته باطلة، للقضاء، وإن ذكره مفصولا عن الشهادة، فإن كان بعد الحكم لم يؤثر. وللمدعى عليه أن يحلف معه على القضاء والابراء وإن كان قبل الحكم، سئل: متى قضاه ؟ فإن قال: قبل أن شهدت،

(8/364)


فكذلك الجواب عند ابن القاص. وذكر فيما إذا شهد على إقراره بالدين شاهدان، ثم عاد أحدهما، وقال: قضاه أو أبرأه بعد أن شهدت أن شهادته لا تبطل، بل يحكم بالدين ويؤخذ، إلا أن يحلف المدعى عليه مع شاهد القضاء والابراء. والفرق أن هناك شهد على نفس الحق، والقضاء والابراء ينافيانه، فبطلت الشهادة، وهنا شهد على الاقرار، والقضاء والابراء لا ينافيانه، فلا تبطل الشهادة. وحكي وجه أن شهادته على نفس الحق لا تبطل أيضا، والصحيح الاول، ويقرب من هذا الخلاف، الخلاف فيما لو ادعى ألفا، وشهد له شاهدان بألف مؤجل، لكن قال أحدهما: قضى منه خمسمائة، ففي وجه: لا تصح شهادتهما، إلا في خمسمائة، أن يحلف لباقي الالف مع الشاهد الآخر. وفي وجه: تصح شهادتهما على الالف، وللمدعى عليه أن يحلف مع شاهد القضاء. وفي وجه ثالث: لا يثبت بشهادتهما شئ، لانهما لم يتفقا على ما ادعاه، ويقرب منه قولان عن ابن سريج فيما لو شهد اثنان أن فلانا وكل فلانا، ثم قال أحدهما: عزله بعد أن شهدت، ففي قول: تبطل شهادته. وفي قول: تثبت شهادة الوكالة، فيعمل بها، والعزل لا يثبت بواحد. ادعى شريكان فأكثر حقا على رجل، فأنكر، يحلف لكل واحد يمينا، فإن رضي بيمين واحدة، ففي جوازه وجهان قلت: الاصح: المنع. والله أعلم. ولو شهد اثنان أنه أوصى بعتق غانم، وهثلث ماله، فحكم الحاكم بعتقه، ثم رجعا عن الشهادة، وشهد آخران أنه أوصى بسالم، وهو ثلث ماله، ولم يجز الورثة إلا الثلث، قال البغوي: يقرع بينهما، فان خرجت القرعة للاول، رق الثاني، ويغرم الراجعان قيمة الاول للورثة. وإن خرجت للثاني، عتق ورق الاول، ولا غرم على الراجعين، لانهما لم يتلقياه. قال: وعندي يعتق الثاني بلا قرعة،

(8/365)


وعلى الراجعين قيمة الاول للورثة. ولو شهد رجل أنه وكله بكذا، وآخر أنه فوضه إليه، أو سلطه عليه، ثبتت الوكالة. ولو شهد أحدهما أنه قال: وكلتك بكذا، والآخر أنه أقر بوكالته، لم يثبت شئ، ولو شهد أحدهما أنه وكله بالبيع، والآخر أنه وكله بالبيع وقبض الثمن، ثبت البيع. ولو ادعى رجل على رجل أنه اشترى منه هذا العبد، ونقده الثمن وأعتقه، وأقام به بينة، وادعى آخر أنه اشتراه ونقد الثمن، وأقام به بينة، تعارضتا، وذكر العتلا يقتضي ترجيحا على الصحيح. وقيل: يرجح، لان العتق كالقبض، نص في الام أنلو ادعى دابة في يد غيره، وأقام بينة أنها له منذ عشر سنين، ونظر الحاكم في سنها، فإذا لها ثلاث سنين فقط، لم يقبل الشهادة، لانها كذب، وأن المسناة الحائلة بين نهر شخص، وأرض آخر، يجعل بينهما كالجدار الحائل. ولو ادعى مائة درهم على إنسان، فقال: قبضت خمسين، لم يكن مقرا بالمائة، وكذا لو قال: قضيت منها خمسين. ولو اختلف الزوجان في متاع البيت، فإن كان لاحدهما بينة، قضى بها، وإن لم يكن بينة، فما اختص أحدهما باليد عليه حسا أو حكما، بأن كان في ملكه، فالقول قوله فيه بيمينه، وما كان في يدهما حسا، أو في البيت الذي يسكنانه، فلكل واحد تحليف الآخر، فإن حلفا، جعل بينهما، وإن حلف أحدهما دون الآخر، قضي للحالف، وسواء دوام النكاح، أم بعد الفراق، وسواء اختلفا هما أو ورثتهما، أو أحدهما وورثة الآخر، وسواء ما يصلح للزوج كالسيف والمنطقة، أو للزوجة كالحلي والغزل، أولهما. ولو اختلف مالك الدار، وساكنها بالاجارة في متاع الدار، فالقول قول الساكن، فان تنازعا في رف فيها، نظر، إن كان مسمرا أو مثبتا، فالقول قول المالك، وإلا فهو بينهما، نص عليه. ولو تنازعا أرضا ولاحدهما فيها زرع أو بناء أو غراس، فهي في يده، أو دابة أو جارية حاملا، والحمل

(8/366)


لاحدهما بالاتفاق، فهي في يده، أو دار لاحدهما فيها متاع، فهي في يده. فإن لم يكن المتاع إلا في بيت، لم يجعل في يده إلا ذلك البيت، هكذا ذكروه. ولو تنازعا عبدا، ولاحدهما عليه ثياب، لم يجعل صاحب يد في العبد، لان منفعة الثوب الملبوس تعود إلى العبد، لا إلى المدعي. ولو قال رجل: استأجرت هذه الدار من زيد سنة في أول رمضان، وقال آخر: استأجرتها منه سنة من أول شوال، وأقام كل واحد بينة، فقولان حكاهما الفوراني، المشهور، وبه قطع البغوي وغيره: تقدم بينة رمضان، لسبق تاريخها. والثاني: بينة شوال، لانها ناسخة، ويحتمل أنهما تقايلا، واستأجر الثاني في شوال، ويجئ هذا في بينتي البيع على ضعفه. قامت بينة أن هذا ابنه لا يعرف له وارثا سواه، وبينة أن هذا الآخر ابنه لا يعرف له وارثا سواه، ثبت نسبهما، فلعل كل بينة اطلعت على ما لم تطلع عليه الاخرى. فصل فيما جمع من فتاوى القفال وغيره. ان الضيعة إذا صارت معلومة بثلاثة حدود، جاز الاقتصار على ذكرها، وهذا خلاف ما سبق في باب القضاء على الغائب من إطلاق ابن القاص. قال القفال: لكن لو ذكر الشهود الحدود الاربعة وأخطؤوا في واحد، لم تصح شهادتهم، فترك الذكر خير من الخطأ، لانهم إذا أخطؤوا، لم يكن بتلك الحدود ضيعة في يد المدعى عليه، وإذا غلط المدعي، فقال المدعى عليه: لا. يلزمني تسليم دار بهذه الصفة، كان صادقا. وإذا حلف، كان بارا. وإن لم ينكر، وقال: لا أمنعه الدار التي يدعيها، سقطت دعوى المدعي، فإن ذهب إلى الدار التي في يده ليدخلها، فله أن يمنعه، ويقول: هي غير ما ادعيت، فأما إذا أصاب في الحدود، فقال: لا أمنعك منها، فليس له المنع إذا ذهب ليدخلها، فإن قال: ظننت أنه غلط في الحدود، لم يقبل، وإن قال: إنما

(8/367)


قلت: لا أمنعك، لان الدار لم تكن في يدي يومئذ، وقد صارت في يدي وملكي، قبل منه، وله المنع إذا حلف. وفيه أن دعوى العبد على سيده أنه أذن له في التجارة لا تسمع إن لم يشتر، ولم يبع شيئا. وإن اشترى ثوبا، وجاء البائع يطلب الثمن من كسبه، فأنكر، السيد الاذن، فللبائع أن يحلفه على نفي الاذن، فإن حلف، فللعبد أن يحلفه مرة أخرى، ليسقط الثمن، عن ذمته. وإن باع العبد عينا للسيد، وقبض الثمن، وتلف في يده فطلب المشتري تلك العين فقال السيد: لم آذن له في البيع، حلف، فإن حلف، حكم ببطلان البيع، والعبد يحلفه لاسقاطه الثمن عن ذمته. وأنه لو ادعى ألفا، وأقام به شاهدا، وأراد أن يحلف معه، فأقام المدعى عليه شاهدا بأن المدعي أقر أنه لا حق عليه، فللمدعى عليه أن يحلف مع شاهده، فإذا حلف، سقطت دعوى المدعي، وأنه يجوز للمالك أن يدعي على الغائب وعلى الغاصب من الغاصب، فإن ادعى على الاول أنه يلزمه رد الثوب بصفة كذا، أو قيمته كذا، فليس على الغاصب أن يحلف أنه لا يلزمه، لانه إن قدر على الانتزاع، لزمه الانتزاع والرد، وإلا فعليه القيمة. وأنهم لو شهدوا أن هذه الدار اشتراها المدعي من فلان، وهو يملكها، ولم يقولوا: هي الآن ملك المدعي، ففي قبول شهادتهم قولان، كما لو شهدوا أنه كان ملكه أمس، والمفهوم من كلام الجمهور قبولها. وأنه لو ادعى قصاصا، فاقتص الحاكم برواية راو روى حديثا يوجب القصاص في الواقعة، ثم رجع الراوي، وقال: كذبت وتعمدت، لم يجب القصاص عليه، بخلاف الشهادة، لان الرواية لا تختص بالواقعة. وأنه لو غصب المرهون من يد المرتهن، قال الراهن في دعواه على الغاصب: لي ثوب كنت رهنته عند فلان، وغصبته منه، ويلزمه الرد إلي. ولو اقتصر على قوله: لي عنده ثوب صفته كذا، ويلزمه رده إلي، جاز ولا بعد في قوله: يلزمه رده إلي، لان يد المرتهن

(8/368)


يد الراهن. ولهذا لو نازعه رجل في المرهون، كان القول قول الراهن، وإن كان في يد المرتهن، لان يده يده، وأن الغريب إذا دخل بلدا لا يجوز الشهادة بأنه حر الاصل، إنما تجوز الشهادة أن فلانا حر الاصل إذا عرف حال أبيه وأمه، وعرف النكاح بينهما، وتجوز الشهادة به، وإن لم يشاهد الولادة، كما تجوز الشهادة أنه ابن فلان، وأنه لو ادعى دارا في يد رجل، وأقام بينة أنه اشتراها منه، وأقام صاحب اليد بينة أنه وهبها له، ولم يتعرضا لتاريخ، تعارضتا. وتظهر فائدة اختلافهما إذا ظهرت مستحقة أو معيبة، وأراد الرد، واسترداد الثمن. وأنه ادعى دارا في يد شخص، وأقام بينة أنها ملكه، فادعاها آخر، وأقام بينة أنه اشتراها من رجل آخر يوم كذا، ولم يقولوا: إنه كان يملكها يومئذ، لكن أقام بينة أخرى أنه كان يملكها يومئذ، سمعتا، وصارتا كبينة، فيحصل التعارض بينهما وبين بينة المدعي الاول. وأنه إذا ادعى دارا وأقام بينة أنها ملكه، وتسلمها، فادعاها آخر بعد مدة يسيرة، أو طويلة، وأقام بينة أنه اشتراها من المدعى عليه الذي كانت في يده، وكان يملكها يومئذ، قضي بالدار لهذا الاخير، وكان كما لو أقام صاحب اليد البينة قبل الانتزاع منه، فإنه لو كان بيده دار، فادعى رجل أنه اشتراها من ثالث بعدما اشتراها الثالث من صاحب اليد، وأنكر صاحب اليد، فله أن يقيم بينة على البيعين، وله أن يقيم على هذا بينة، وعلى هذا بينة، ولا بأس بالتقديم والتأخير. وأن الشهود إذا أرادوا أداء الشهادة بشراء دار، تبدلت حدودها بعد الشراء قالوا: اشترى دار أمن وقت كذا، من فلان، وهو يملكها، وكان يومئذ ينتهي أحد حدودها إلى كذا، والباقي إلى كذا ثم المدعي يقيم بينة بكيفية التبدل. وأنه لو ادعى دارا في يد رجل، وأقام بينة أنها ملكه، فقال القاضي: عرفت هذه الدار ملكا لفلان، وقد مات، وانتقلت إلى وارثه، فأقم بينة على ملكك منه، فله ذلك، وتندفع بينته. وليكن هذا جوابا على أنه يقضي بعلمه. وأنه لو ادعى دارا في يد رجل، فقال المدعى عليه: ليست الدار في يدي، ولا أحول بينك وبينها، فقد أسقط الدعوى عن نفسه، فيذهب المدعي إلى الدار، فإن لم يدفعه أحد، فذاك، وإن دفع، ادعى على الدفع، فلو قال المدعي: إنه يكذب في قوله: ليست في يدي، ولا أحول، لم يلتفت إليه. وأنه لو باع دارا، فقامت بينة الحسبة أن أبا البائع وقفها، وهو يملكها على ابنه البائع، ثم

(8/369)


على أولاده، ثم المساكين، نزعت من المشتري، ويرجع بالثمن على البائع، والغلة الحاصلة في حياة البائع تصرف إلى البائع إن كذب نفسه، وصدق الشهود، فإن أصر على إنكار الوقت، لم تصرف إليه، بل توقف، فإذا مات، صرفت إلى أقرب الناس إلى الواقف. ولو ادعى البائع أنه وقف لم تسمع بينته، والتقييد بالبينة يشعر بسماع دعواه، وتحليف خصمه. وقال العراقيون: تسمع بينته أيضا إذا لم يكن صرح بأنه ملكه، بل اقتصر على البيع. وقال الروياني: لو باع شيئا ثم قال بعد: وأنا لا أملكه، ثم ملكته بالارث من فلان، فإن قال حين باع: هو ملكي. لم تسمع دعواه، ولا بينته وإن لم يقل ذلك، بل اقتصر على قول: بعتك، سمعت دعواه، فإن لم يكن له بينة، حلف المشتري أنه باعه، وهو ملكه، قال: وقد نص عليه في الام وغلط من قال غيره، وكذا لو ادعى أن المبيع وقف عليه. فصل في فتاوى القاضي حسين رحمه الله أنه لو ادعى عليه عشرة، فقال: لا يلزمني تسليم هذا المال اليوم، لا يجعل مقرا، لان الاقرار لا يثبت بالمفهوم، وإن بينتي الملك والوقف تتعارضان كبينتي الملك. وأنه لو ماتت وخلفت زوجا وأخا وأختان، فادعى الزوج أن المتاع كله له، جعل نصفين أحدهما للزوج بحكم اليد، والثاني للميتة، ويحلف الزوج على النصف الذي يجعل له باليد، كما لو كانت حية، فادعت الكل، فإن كان الاخ غائبا والاخت حاضرة، حلف لها، فإذا حضر، حلف له، فإن أقامت الاخت بينة أن الكل لها ولاخيها، سمعت، وثبت حق الاخ. وأن من حبسه القاضي، لا يجوز إطلاقه إلا برضى خصمه، أو ثبوت إعدامه، فإن ثبت، أطلقه وإن لم يرض خصمه. وإذا أطلقه برضى الخصم، فأراد

(8/370)


إقامة بينة بإعدامه، لم تسمع، لانه لا حبس عليه والحالة هذه، بخلاف ما إذا استحق حبسه. وأن حق إجراء الماء على سطحه، أو أرضه، أو طرح الثلج في ملكه، يجوز الشهادة به إذا رآه مدة طويلة بلا مانع، ولا يكفي قول الشهود: رأينا ذلك سنين وإن كان ذلك مستند شهادتهم. فصل سئل الشيخ أبو إسحق الشيرازي رحمه الله عن رجلين تنازعا دارا، فأقام أحدهما بينة أنها ملكه، وادعى الآخر أنها وقف عليه، ولم يقم بينة، فحكم القاضي لمدعي الملك، ثم ادعى آخر وقفها، فأقام مدعي الملك بينة على حكم القاضي له بالملك، وأقام مدعي الوقف بينة بالوقف، فرجح الحاكم بينة الملك ذهابا إلى أن الملك الذي حكم به تقدم على الوقف الذي لم يحكم به، ثم تنازع مدعي الملك، وآخر يدعي وقفيتها، فأقام مدعي الملك بينة لحكم الحاكم له بالملك، وتقديم جانبه، وأقام الآخر بينة بأن الوقف الذي يدعيه قضى بصحته قبل الحكم بالملك، وبترجيحه على الوقف، هل يرتد حكم الحاكم بذلك ؟ فقال: نعم يقدم الحكم بالوقف على الحكم بالملك وينقض الحكم بالوقف الحكم بالملك. وسئل عمن اشترى ضيعة، وبقيت في يده مدة، فخرجت وقفا وانتزعت، فقال: عليه أجرة المثل للمدة التي كانت في يده. وعن رجل وقف ملكا، وأقر أن حاكما حكم بصحته، ولم يسم الحاكم ولا عينه، ثم رجع عنه ورفع الامر إلى حاكم يرى جواز الرجوع، فهل له الحكم بنفوذ الرجوع ؟ قال: لا. فصل في فتاوى الغزالي أنه لو ادعى دارا في يد غيره، فقال المدعى عليه: اشتريتها من زيد فأقام المدعي على إقرار زيد له بها قبل البيع، فأقام المدعى

(8/371)


عليه بينة على إقرار المدعي لزيد بها قبيل البيع، وجهل التاريخ، قررت الدار في يد المدعى عليه. وأنه إذا خرج المبيع مستحقا، فادعى المشتري على البائع وقال: سلمت إليه في مجلس العقد، فأنكر، وأراد إقامة البينة بأنه لم يقبض منه شيئا في مجلس العقد، لم تسمع هذه البينة، لانها تشهد بالنفي، وإنما تسمع البينة بالنفي في مواضع الحاجة، كالاعسار. وقد يقع التسليم في غفلة ولحظة يسيرة. وأنها إذا ادعت أنه نكحها وطلقها، وطلبت نصف المهر، أو أنها زوجة فلان الميت، وطلبت الارث، فمقصودهم المال، فيثبت برجل وامرأتين، وبشاهد ويمين. فصل في فتاوى البغوي أنه لو ادعى نكاحها، فأقرت بأنها زوجته منذ سنة، ثم أقام آخر بينة أنها زوجته نكحها من شهر، حكم للمقر له، لانه ثبت بإقرارها النكاح الاول، فما لم يثبت الطلاق، لا حكم للنكاح الثاني. وأنه لو تحاكم رجل وامرأة بكر إلى فقيه ليزوجها به، وجوزنا التحكيم فيه، فقال المحكم: حكمتني لازوجك بهذا، فسكتت كان سكوتها إذنا، كما لو استأذنها الولي فسكتت. وأنه لو حضر عند القاضي رجل وامرأة، واستدعت تزويجها به، وقالت: كنت زوجة فلان فطلقني، أو مات عني، لا يزوجها ما لم يقم حجة بالطلاق أو الموت.

(8/372)


فصل عن ابن القاص ان من أنكر الحلف بالطلقات الثلاث يحلف أنه ما قال لها: إن دخلت الدار، فأنت طالق ثلاثا، وهي بائن منه بثلاث. وقال الشيخ أبو زيد: يكفيه أنها لم تبن منه بثلاث. ووجه الاول أنه قد يحلف متأولا على مذهب الحجاج بن أرطاة وتابعيه أن الثلاث لا تقع مجموعة، أو على تصحيح الدور. ويجوز أن يقال: إن قال: لم تبن مني، حلف عليه، وإن قال: لم أحلف بطلاقها، حلف عليه. حكى الهروي عن العبادي أن من ادعى عليه وديعة، فقال: لا يلزمني دفع شئ إليه، لا يكون هذا جوابا، لان المودع لا دفع عليه، إنما يلزمه التخلية، والجواب الصحيح أن ينكر أصل الايداع، أو يقول: هلك في يدي، أو رددته، وهذا يخالف كلام الاصحاب، الا تراهم يقولون: من جحد الوديعة فقامت بينة بالايداع، فادعى تلفا أو ردا قبل الجحود، نظر، إن كانت صيغة جحده إنكار أصل الوديعة أم قال: لا يلزمني تسليم شئ إليك، فإما أن يقدر خلاف، أو يؤول ما أطلقوه. قلت: الذي قاله ابن القاص صحيح، وتأويل كلامهم متعين، وهو أنهم أرادوا إذا جرى منه هذا اللفظ، فحكمه كذا، لان القاضي يقنع منه بهذا الجواب مع طلب الخصم الجواب. والله أعلم. وأنه إذا أقام بينة بأنه أجير فلان لحفظ سفينته هذه بدينار، وأقام صاحب السفينة بينة أنه أجره إياها بدينار، تعارضتا، وأنه لو شهد عليه اثنان بالقتل في وقت معين، وآخران أنه لم يقتل في ذلك الوقت لانه كان معنا، ولم يغب عنا، تعارضتا، وقد سبق من نظائر هذا ما يخالفه. قلت: يعني أن البينة الثانية شهدت بالنفي، وقد سبق أن شهادة النفي لا تقبل إلا في مواضع الضرورة، كالاعسار. هذا مراد الرافعي هنا، وقد تقدم في الفصل السابق عن فتاوى الغزالي ما يوافقه، ولكنه ضعيف مردود، بل الصواب أن النفي إذا كان في محصور يحصل العلم به، قبلت الشهادة به، وقد سبق ذكري لهذه المسألة

(8/373)


في الشهادات. والله أعلم. وأن من أراد أن يدعي، ويقيم البينة من غير أن يعترف للمدعى عليه باليد، فطريقه أن يقول: الموضع الفلاني ملكي، وهذا يمنعني منه تعديا، فمره يمكني منه. وأنه لو شهد شاهدان أن الكلب ولغ في هذا الاناء ولم يلغ في ذاك وآخران بضده، تعارضتا، فلو لم يقولوا: لم يلغ في ذلك فالانآن نجسان، وهذا شهادة على إثبات ونفي، ويمكن التعارض بلا نفي، بأن يعينا وقتا لا يمكن فيه إلا ولوغ واحد. قلت: هذه المسألة ذكرتها في كتاب الطهارة مستوفاة مختصرة، وفي هذا الذي ذكره العبادي فيها من إثبات التعارض تصريح بقبول شهادة النفي في المحصور كما سبق قريبا. والله أعلم.
الباب السابع : في دعوى النسب وإلحاق القائف مقصود الباب الكلام في القائف وشرطه. أما الاستلحاق وشروطه فسبق ذكره في كتاب الاقرار واللقيط. وفي الباب ثلاثة أركان: الاول: المستلحق، وقد سبق في كتاب اللقيط أن المذهب صحة استلحاق العبد والعتيق دون المرأة على الاصح، وسبق هناك جمل من أركانه. الركن الثاني: الملحق، وهو القائف، وليكن فيه صفات بعضها واجب قطعا، وبعضها مختلف فيه، فيشترط فيه أهلية الشهادة، فيكون مسلما بالغا عاقلا عدلا، والاصح اشتراط حريت وذكورته، وأنه يكفي واحد، ونص عليه. وقيل: يشترط اثنان. وأنه لا يشترط كونه من مدلج، بل يجوز من سائر العرب ومن العجم. قال ابن كج: ولا يجوز أن يكون أعمى، ولا أخرس، قال: ولو كان ابن أحد المتداعيين، فألحقه بغير أبيه، قبل، وإن ألحقه بأبيه، لم يقبل. ولو كان عدو أحدهما، فألحقه به، قبل. وإن ألحقه بالآخر، فلا، لانه كالشهادة على

(8/374)


العدو. ولو كان القاضي قائفا، فهل يقضي بعلمه ؟ فيه الخلاف في القضاء بعلمه، ويشترط كونه مجربا. وكيفية التجربة: أن يعرض عليه ولد في نسوة ليس فيهن أمه، ثم في نسوة ليس فيهن أمه، ثم في نسوة ليس فيهن أمه، فإذا أصاب في الكل، صار مجربا، وقبل قوله بعد ذلك. وهل تختص التجربة بالام، أم يجوز أن يعرض عليه المولود مع أبيه في رجال ؟ وجهان، الاصح المنصوص: الثاني، وبه قطع العراقيون وغيرهم، لكن العرض مع الام أولى. وأما تكرار العرض ثلاثا، فقد جعله الشيخ أبو حامد وأصحابه شرطا. وقيل: يكفي مرة، وقال الامام: لا معنى لاعتبار الثلاث، بل المعتبر غلبة الظن، بأقواله عن خبرة لا عن اتفاق، وهذا قد يحصل بدون الثلاثة. وإذا حصلت التجربة، اعتمدنا إلحاقه، ولا تجدد التجربة لكل إلحاق. الركن الثالث: الولد الملحق، ويعرض على القائف في موضعين: أحدهما: أن يتنازع اثنان مولودا مجهولا من لقيط أن غيره، فيعرض على القائف كما سبق في اللقيط. والثاني: أن يشترك اثنان فأكثر في وطئ امرأة، فتأتي بولد لزمان يمكن كونه منهما، ويدعيه كل منهما فيعرض على القائف. ويتصور الاشتراك في الوطئ على الوجه المذكور من وجوه. منها: أن يطأها كل منهما بالشبهة بأن يجدها بفراشه، فيظنها زوجته أو أمته، فلو كانت في نكاح صحيح فوطئت بشبهة، فوجهان، قال القاضي أبو الطيب وابن الصباغ: يلحق الولد بالزوج، لانها فراشه، والفراش أقوى من الشبهة، كما لو طلقها وانقضت عدتها، ونكحت، وولدت تلحق بالثاني وإن أمكن كونه من الاول، لانها فراش الثاني، والاصح على ما

(8/375)


ذكره الروياني وغيره، وبه قطع الامام أنه يعرض على القائف، ويكون لمن ألحقه به، بخلاف صورة الاستشهاد لان العدة أمارة ظاهرة في البراءة عن الاول، وهنا بخلافه. ومنها: أن يطأ زوجته في نكاح صحيح، ثم طلقها، فيطأها آخر بشبهة، أو في نكاح فاسد، بأن ينكحها في العدة جاهلا بها. ومنها: أن يطأها اثنان في نكاحين فاسدين، وأن يطأ الشريكان المشتركة، وأن يطأ أمته ويبيعها، فيطأها المشتري، ولا يستبرئ واحد منهما. فإذا وطئ اثنان في بعض هذه الصور في طهر، فولدته لما بين أربع سنين وستة أشهر من الوطأين، وادعياه جميعا، عرض على القائف، فإن تخلل بين الوطأين حيضة، فهي أمارة ظاهرة في حصول البراءة عن الاول، فينقطع تعلقه، إلا أن يكون الاول زوجا في نكاح صحيح، والثاني واطئا بشبهة أنكاح فاسد، فلا ينقطع تعلق الاول، لان إمكان الوطئ مع فراش النكاح قائم مقام نفس الوطئ والامكان حاصل بعد الحيضة. وإن كان الاول زوجا في نكاح فاسد، ففي انقطاع تعلقه بتخلل الحيضة قولان، أظهرهما: الانقطاع، لان المرأة لا تصير فراشا في النكاح الفاسد إلا بحقيقة الوطئ، وسواء كان المتنازعان والواطئان مسلمين وحرين، أو مختلفي الحال. فصل لو استلحق صبيا في يده، أولا في يده، فبلغ وانتفى منه، هل يندفع نسبه ؟ فيه وجهان سبقا في الاقرار واللقيط. فإن استلحق بالغا فأنكر، فقد سبق أنه لا يلحقه، وإلحاق القائف والحالة هذه ليس بحجة. فلو سكت البالغ، فقد ذكر الغزالي أنه يلحقه القائف، وهذا لم أجده لغيره إذا لم يكن هناك إلا واحد عليه، لكن لو ادعاه اثنان في موضع الاشتباه، فسكت، عرض على القائف. فلو وافق أحدهما، لحقه، ولا يقبل قول القائف بخلافه. ولو ادعى اثنان صبيا مجهولا ففيه تفصيل سبق في اللقيط. فصل ادعى نسب مولود على فراش غيره بسبب وطئ شبهة، فإن قلنا: وطئ الشبهة لا أثر له إذا كانت المرأة فراشا لزوج، والولد ملحق بالزوج، لم تسمع دعواه. وإن قلنا: له أثر، لم يكف اتفاق الزوجين عليه، بل لا بد من البينة على الوطئ لان للولد حقا في النسب، واتفاقهما ليس حجة عليه، فإذا قامت البينة،

(8/376)


عرض على القائف، فإن كان المدعي نسبه بالغا، واعترف بجريان وطئ الشبهة، وجب أن يكفي. وإذا استلحق مجهولا، وله زوجة، فأنكرت ولادته، فهل يلحقها باستلحاقه ؟ وجهان، الصحيح: لا، لجواز كونه من وطئ شبهة أو زوجة أخرى. ولو استلحق مجهولا، وله زوجة، فأنكرت ولادته، واستلحقته امرأة لها زوج، فأنكره، فهل أمه الاولى أم الثانية، أم يعرض على القائف فيلحقه بإحداهما ؟ فيه أوجه. ولو كانت الصورة بحالها، وأقام كل واحد بينة، فهل بينته أولى من بينتها أم يتعارضان، أم يعرض على القائف، فإن ألحقه بالرجل لحقه ولحق زوجته، وإن ألحقه بالمرأة لحقها دون زوجها ؟ فيه أربعة اوجه حكاها الصيدلاني عن ابن سريج. فصل إذا لم يجد قائفا، أو تحيرا، وألحقه بهما، أو نفاه عنهما، وقفناه حتى يبلغ، فإذا بلغ أمر بالانتساب إلى أحدهما بحسب الميل الذي يجده، فإن امتنع، حبس ليختار، وإذا اختار، كان اختياره كإلحاق القائف. وإن قال: لا أجد ميلا إلى أحدهما، بقي الامر موقوفا، ولا عبرة باختياره قبل البلوغ. وقيل: يخير المميز، وقد سبق هذا في اللقيط. ولو ألحقه القائف بأحدهما، ثم رجع وألحقه بالاخر، أو ألحقه بآخر قائف آخر، لم يقبل قوله على الصحيح. وقيل: إذا ألحقه قائف بهذا، وآخر بذاك، تعارضا، وصار كأن لا قائف. وأنه إذا رجع القائف، فإن كان بعد الحكم بقوله، لم يلتفت إليه. وإن رجع قبله قبل رجوعه، لكن لا يقبل قوله في حق الاخر لسقوط الثقة بقوله ومعرفته. فرع إذا ألحقه بهما، قال القفال: يستدل بذلك على أنه لا يعرف الصنعة، فلا يعتد بقوله بعده حتى يمضي زمان يمكن التعلم فيه فيمتحن حينئذ ثم يعتمد. فرع إذا كانا توأمين، فألحق القائف أحدهما بأحدهما، والاخر بالاخر، فهو كما لو ألحق الواحد بهما. فرع إذا انتسب المولود إلى أحدهما، ثبت نسبه منه، ولا يقبل رجوعه، وإن انتسب إليهما، لغا، وأمر بالانتساب إلى أحدهما ولو اختلف التوأمان في

(8/377)


الانتساب، لم يعتبر قولهما، فإن رجع أحدهما إلى قول الاخر، قبل. فصل إذا وطئا في طهر، فأتت بولد يمكن كونه منهما، فادعاه أحدهما، وسكت الاخر، أو أنكر، فقولان: أحدهما: يختص بالمدعي، كمال في يد اثنين ادعاه أحدهما دون الاخر، يجعل له. وأظهرهما: يعرض على القائف، لان للولد حقا في النسب، فلا يسقط بالانكار، وإن أنكراه معا، عرض ولا تضييع لنسبه. فرع نفقة الولد إلى أن يعرض على القائف، وفي مدة التوقف إلى الانتساب، تكون عليهما، فإذا ألحق بأحدهما، رجع الاخر عليه بما أنفق، وهل تجب النفقة في حال الاجتنان ؟ يبنى على أن الحمل هل يعلم ؟ إن قلنا: يعلم، فنعم، وإلا، فلا. فإذا أوجبناها، فكان أحدهما زوجا طلق، والاخر وطئ بشبهة، فإن قلنا: النفقة للحامل، فهي على المطلق، وإن قلنا: للحمل، فعليهما حتى يظهر الامر. وإن أوصى للطفل في وقت التوقف، فليقبلاها جميعا. فرع إذا مات الولد قبل العرض، فإن تغير، فقد تعذر العرض، وإلا، فإن دفن، لم ينبش، وإلا، فوجهان، أصحهما: يعرض، لان الشبه لا يزول بالموت. والثاني: لا، لان القائف قد يبني على الحركة والكلام ونحوهما مما يبطل بالموت. ولو مات أحد المتداعيين، عرض أبوه أو أخوه أو عمه مع الولد، ذكره البغوي. فرع من الرعاة من يلتقط السخال في الظلمة، ويضعها فوعاء، فإذا أصبح، ألقى كل سخلة إلى أمها، ولا يخطئ لمعرفته. فقال الاصطخري: يعمل بقول هذا الراعي إذا تنازعا سخلة، والصحيح: المنع، وإنما تثبت القيافة في الادمي لشرفه وحفظ نفسه. فرع لو ألحقه قائف بأحدهما بالاشباه الظاهرة، وآخر بالاخر بالاشباه الخفية، كالخلق وتشاكل الاعضاء، فأيهما أولى ؟ وجهان، أصحهما: الثاني، ولو

(8/378)


ادعاه مسلم وذمي، وأقام أحدهما بينة، تبعه نسبا ودينا وإن ألحقه القائف بالذمي، تبعه نسبا لا دينا، ولا يجعل حضانته للذمي. ولو ادعاه حر وعبد، وألحقه القائف بالعبد، ثبت النسب، وكان حرا، لاحتمال أنه ولد من حرة. وبالله التوفيق.

(8/379)