فتاوى ابن الصلاح

@
الْقسم الثَّالِث
يتَعَلَّق بالعقائد وَالْأُصُول فَمن ذَلِك
50 - مَسْأَلَة إِمَام الْحَرَمَيْنِ وَالْإِمَام الْغَزالِيّ وَالْإِمَام أَبُو اسحق رَضِي الله عَنْهُم هَل بلغ أحد هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّة الْمَذْكُورين دَرَجَة الِاجْتِهَاد فِي الْمَذْهَب على الْإِطْلَاق أم لَا وَمَا حَقِيقَة الِاجْتِهَاد على الاطلاق وَمَا حَقِيقَة الإجتهاد فِي الْمَذْهَب وَهل بلغ أحد مِنْهُم رُتْبَة الِاجْتِهَاد على الْإِطْلَاق
أجَاب رَضِي الله عَنهُ لم يكن لَهُم الِاجْتِهَاد الْمُطلق وبلغوا الِاجْتِهَاد الْمُقَيد فِي مَذْهَب الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ ودرجة الِاجْتِهَاد الْمُطلق يحصل بتمكنه من تعرف الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة من أدلتها اسْتِدْلَالا من غير تَقْلِيد وَالِاجْتِهَاد الْمُقَيد دَرَجَته تحصل بالتبحر فِي مَذْهَب إِمَام من الْأَئِمَّة بِحَيْثُ يتَمَكَّن من إِلْحَاق مَا لم ينص عَلَيْهِ ذَلِك الإِمَام بِمَا نَص عَلَيْهِ مُعْتَبرا قَوَاعِد مذْهبه وأصوله
51 - مَسْأَلَة كتاب من كتب أصُول الْفِقْه لَيْسَ فِيهِ شَيْء من علم

(1/203)


@ الْكَلَام وَلَا الْمنطق وَلَا يتَعَلَّق بِغَيْر أصُول الْفِقْه فَهَل يحرم الِاشْتِغَال بِهِ أَو يكره وَهل يسوغ إِنْكَار الِاشْتِغَال بِهِ وحالته مَا ذكر سوى ذَلِك
أجَاب رَضِي الله عَنهُ لَا يحرم وَلَا يكره إِذا لم يكن فِيهِ مَعَ ذَلِك تَقْرِير بِدعَة أَو إمالة إِلَى فلسفة بِأَن يكون مُصَنفه من أَهلهَا وَكَلَامه فِي كِتَابه فِي أصُول الْفِقْه يؤنس بِحسن كَلَامه حَتَّى فِي الفلسفة كَمَا وَقع فِي كَلَام هَذَا النابغ فِي عصرنا أَو نَحْو هَذَا أَو شبهه فَإِذا سلم عَن كل ذَلِك فالإشتغال بِهِ عِنْد صِحَة الْقَصْد وَكَيف لَا وَهُوَ بَاب التَّحْقِيق فِي الْفِقْه وعماده وَالله أعلم
52 - مَسْأَلَة مَا الْفرق بَين الْقيَاس وَالِاسْتِدْلَال فَإِنَّهُ يتَفَرَّع على مَا يتَفَرَّع عَلَيْهِ الْقيَاس فَإِن كَانَ مَدْلُول الاسمين وَاحِدًا فَمَا وَجه تنويع الاسمين وَإِن كَانَا شَيْئَيْنِ فَيحمل كل وَاحِد من الْقيَاس وَالِاسْتِدْلَال بِحَدّ يحصره
أجَاب رَضِي الله عَنهُ الْفرق بَين الْقيَاس وَالِاسْتِدْلَال أَن الْقيَاس يشْتَمل على أصل وَفرع يجمع بَينهمَا بِجَامِع وَالِاسْتِدْلَال لَيْسَ كَذَلِك من التلازم الَّذِي هُوَ مثل قَوْله تَعَالَى {لَو كَانَ فيهمَا آلِهَة إِلَّا الله لفسدتا}
53 - مَسْأَلَة هَل كَانَ دَاوُد الظَّاهِرِيّ صَاحب الْمَذْهَب رَضِي

(1/204)


@ الله عَنهُ مِمَّن يعْتد بِهِ فِي انْعِقَاد الْإِجْمَاع فِي زَمَانه أم لَا وَهل كَانَ بِحَيْثُ إِذا حدثت فِي زَمَانه فَخَالف فِيهَا وَحده يعد خارقا للْإِجْمَاع وَكَذَلِكَ من لم ير نقض الْوضُوء بِالنَّوْمِ إِلَّا إِذا أخبر بِخُرُوج الْحَدث كسعيد بن الْمسيب وَأبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ هَل ينْعَقد الْإِجْمَاع بدونهم أم لَا
أجَاب رَضِي الله عَنهُ أما الِاعْتِدَاد بِدَاوُد يرحمه الله فِي الاجماع وفَاقا وَخِلَافًا مهما وَقع فِيهِ الِاخْتِلَاف بَين الْفُقَهَاء والأصوليين منا وَمن غَيرنَا فَذكر الْأُسْتَاذ الإِمَام أَبُو اسحق الاسفرائيني رَحمَه الله أَن أهل الْحق اخْتلفُوا فَذهب الْجُمْهُور مِنْهُم الى أَن نفاة الْقيَاس لَا يبلغون منزلَة الِاجْتِهَاد وَلَا يجوز توليهم الْقَضَاء وَهَذَا يَنْفِي الِاعْتِدَاد بِدَاوُد فِي الاجماع وَنقل صَاحب الْإِسْنَاد أَبُو مَنْصُور الْبَغْدَادِيّ عَن أبي عَليّ بن أبي هُرَيْرَة وَطَائِفَة من متأخري الشافعيين أَنه لَا اعْتِبَار بِخِلَافِهِ وَسَائِر نفاة الْقيَاس فِي فروع الْفِقْه لَكِن يعْتَبر خلافهم فِي الأصوليات

(1/205)


@
وَقَالَ الإِمَام أَبُو الْمَعَالِي بن الْجُوَيْنِيّ مَا ذهب إِلَيْهِ ذَوُو التَّحْقِيق أَنا لَا نعد منكري الْقيَاس من عُلَمَاء الْأمة وَحَملَة الشَّرِيعَة فَإِنَّهُم أَولا باقون على عنادهم فِيمَا ثَبت استفاضة وتواترا وَأَيْضًا فان مُعظم الشَّرِيعَة صادرة عَن الِاجْتِهَاد والنصوص لَا تفي بالعشر من أعشار الشَّرِيعَة فَهَؤُلَاءِ ملتحقون بالعوام وَكَيف يدعونَ مجتهدين وَلَا اجْتِهَاد عِنْدهم وَهَذَا مِنْهُ نوع إفراط
وَكَانَ أَبُو بكر الرَّازِيّ من أَئِمَّة الْمُحَقِّقين يذهب فِي دَاوُد وَأَضْرَابه إِلَى نَحْو هَذَا الْمَذْهَب ويغلو فَذكر دَاوُد فِي مُقَدّمَة كِتَابه فِي أَحْكَام الْقُرْآن وَمَال عَلَيْهِ فأفرط وَقَالَ فِيمَا قَالَ لَو تكلم دَاوُد فِي مَسْأَلَة حَادِثَة فِي عصره وَخَالف فِيهَا بعض أهل زَمَانه لم يكن خلافًا عَلَيْهِم
قَالَ وَكَانَ يَنْفِي حجج الْعُقُول ومشهور عَنهُ أَنه كَانَ يَقُول بل على الْعُقُول وَقَالَ بعد كَلَام كثير وَلأَجل ذَلِك لم يعد خِلَافه أحد من الْفُقَهَاء خلافًا وَلم يذكروه فِي كتبهمْ فقد انْعَقَد الاجماع على أطراحه وَترك الِاعْتِدَاد بِهِ هَذَا الرَّازِيّ فِيهِ وَهُوَ كَمَا ترى لَا يَخْلُو عَن نوع من الحنيفة الَّذِي قد كَانَ فِيهِ وَكَانَ شَدِيد الْميل والعصبية على من يُخَالِفهُ من

(1/206)


@ حَيْثُ أَنه قد وصف دَاوُد فِي هَذَا الْموضع من كِتَابه بِمَا يأباه عَنهُ الثَّابِت الْمَعْرُوف من زهده وتحريه
وَالَّذِي اخْتَارَهُ الْأُسْتَاذ أَبُو مَنْصُور فِي هَذَا وَذكر أَنه الصَّحِيح من الْمَذْهَب أَنه يعْتَبر خِلَافه فِي الْفِقْه الَّذِي اسْتَقر عَلَيْهِ الْأَمر آخرا فِيمَا هُوَ الْأَغْلَب الأعرف من صفوة الْأَئِمَّة الْمُتَأَخِّرين الَّذين أوردوا مَذَاهِب دَاوُد فِي إِثْبَات مصنفاتهم الْمَشْهُورَة فِي الْفُرُوع كالشيخ أبي حَامِد الإسفرائيني وَصَاحبه الْمحَامِلِي وَغَيرهم رَضِي الله عَنْهُم فانه لَوْلَا اعتدادهم بِخِلَافِهِ لما أوردوا مذاهبه فِي أَمْثَال مصنفاتهم هَذِه لمنافاة موضوعها لذَلِك وَبِهَذَا أجبْت مستخيرا الله تَعَالَى مستعينا مِمَّا بناه دَاوُد من مذاهبه على أَصله فِي نفي الْقيَاس الْجَلِيّ وَمَا اجْتمع عَلَيْهِ القياسيون من أَنْوَاعه أَو على غَيره من أُصُوله الَّتِي قَامَ الدَّلِيل الْقَاطِع على بُطْلَانهَا فاتفاق من عداهُ فِي مثله على خِلَافه إِجْمَاع مُنْعَقد وَقَوله فِي مثله مَعْدُود خارقا للاجماع وَكَذَلِكَ قَوْله فِي المتغوط فِي المَاء الراكد وَتلك الْمسَائِل الشنيعة فِيهِ وَكَقَوْلِه فِي الرِّبَا فِيمَا سوى الْأَشْيَاء السِّتَّة فخلافه فِي هَذَا وَأَمْثَاله غير مُعْتَد بِهِ لكَونه مَبْنِيا على مَا يقطع بِبُطْلَانِهِ وَالِاجْتِهَاد الْوَاقِع على خلاف الدَّلِيل الْقَاطِع كاجتهاد من لَيْسَ من أهل الِاجْتِهَاد فِي انزالهما بِمَنْزِلَة مَا لَا يعْتد بِهِ وينقض الحكم بِهِ وَهَذَا الَّذِي اخترته يثبت بِدَلِيل القَوْل بتحرير يجز منصب الِاجْتِهَاد وَقد تقرر جَوَاز ذَلِك وَإِن الْعَالم قد يكون مُجْتَهدا فِي نوع دون غَيره وَالْعلم عِنْد الله

(1/207)


@ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ثمَّ لَا فرق فِيمَا ذَكرْنَاهُ بَين زَمَانه وَمَا بعده فَإِن الْمذَاهب لَا تَمُوت بِمَوْت أَصْحَابهَا وَأما من لم ير نقض وضوء النَّائِم إِلَّا إِذا أخبر بِخُرُوج حدث كَأبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ وَسَعِيد بن الْمسيب رَضِي الله عَنْهُمَا ان كَانَ سعيد قَالَ ذَلِك فَإِنَّهُ غير مَعْرُوف عَنهُ فالإجماع لَا ينْعَقد مَعَ خلافهما فَإِن أَبَا مُوسَى أحد فُقَهَاء الصَّحَابَة وَمن الْمُفْتِينَ فِي عصرهم وَكَانَ سعيد صَدرا فِي الْعلم والفتيا وَغَيرهمَا فِي ذَلِك الصَّدْر وترجح على أجلاء التَّابِعين وَكَانَ السُّؤَال عَن انْعِقَاد الاجماع فِي هَذِه الْمَسْأَلَة خَاصَّة على خلاف هَذَا القَوْل فَعدم انْعِقَاده فِيهَا فِي ذَلِك الْعَصْر لَازم من هَذَا وَأما فِيمَا بعده فقد أجمع على خِلَافه فِيمَن قَالَ إِن الْإِجْمَاع بعد عصر الْمُخْتَلِفين على أحد قوليهم إِجْمَاع صَحِيح رَافع للْخلاف فقد تحقق عِنْده انْعِقَاد الْإِجْمَاع فِي الْمَسْأَلَة على خلاف ذَلِك القَوْل وَمن قَالَ أَنه لَا يرفع الْخلاف فَلَا إِجْمَاع فِي هَذِه الْمَسْأَلَة مُطلقًا وَهَذَا الْمَذْهَب هُوَ الصَّحِيح فِي ذَلِك وَالله أعلم
54 - مَسْأَلَة فِي جمَاعَة من الْمُسلمين المنتسبين إِلَى أهل الْعلم والتصوف هَل يجوز أَن يشتغلوا بتصنيف ابْن سينا وَأَن يطالعوا فِي

(1/208)


@ كتبه وَهل يجوز لَهُم أَن يعتقدوا أَنه كَانَ من الْعلمَاء أم لَا
أجَاب رَضِي الله عَنهُ لَا يجوز لَهُم ذَلِك وَمن فعل ذَلِك فقد غرر بِدِينِهِ وَتعرض للفتنة الْعُظْمَى وَلم يكن من الْعلمَاء بل كَانَ شَيْطَانا من شياطين الْإِنْس وَكَانَ حيران فِي كثير من أمره ينشد كثيرا ... إِن كنت أَدْرِي فعلى بدنه ... من كَثْرَة التَّخْلِيط من أَنه ...

55 - مَسْأَلَة فِيمَن يشْتَغل بالْمَنْطق والفلسفة تَعْلِيما وتعلما وَهل الْمنطق جملَة وتفصيلا مِمَّا أَبَاحَ الشَّارِع تَعْلِيمه وتعلمه وَالصَّحَابَة والتابعون وَالْأَئِمَّة المجتهدون وَالسَّلَف الصالحون ذكرُوا ذَلِك أَو أباحوا الِاشْتِغَال بِهِ أَو سوغوا الِاشْتِغَال بِهِ أم لَا وَهل يجوز أَن يسْتَعْمل فِي إِثْبَات الْأَحْكَام الشَّرِيعَة الاصطلاحات المنطقية أم لَا وَهل الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة مفتقرة إِلَى ذَلِك فِي إِثْبَاتهَا أم لَا وَمَا الْوَاجِب على من تلبس بتعليمه وتعلمه متظاهرا بِهِ مَا الَّذِي يجب على سُلْطَان الْوَقْت فِي أمره وَإِذا وجد فِي بعض الْبِلَاد شخص من أهل الفلسفة مَعْرُوفا بتعليمها وإقرائها والتصنيف فِيهَا وَهُوَ مدرس فِي مدرسة من مدارس الْعلم فَهَل يجب على سُلْطَان تِلْكَ الْبِلَاد عَزله وكفاية النَّاس شَره
أجَاب رَضِي الله عَنهُ الفلسفة رَأس السَّفه والانحلال

(1/209)


@ ومادة الْحيرَة والضلال ومثار الزيغ والزندقة وَمن تفلسف عميت بصيرته عَن محَاسِن الشَّرِيعَة المؤيدة بالحجج الظَّاهِرَة والبراهين الباهرة وَمن تلبس بهَا تَعْلِيما وتعلما قارنه الخذلان والحرمان واستحوذ عَلَيْهِ الشَّيْطَان وَأي فن أخزى من فن يعمي صَاحبه أظلم قلبه عَن نبوة نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كلما ذكره ذَاكر وَكلما غفل عَن ذكره غافل مَعَ انتشار آيَاته المستبينة ومعجزاته المستنيرة حَتَّى لقد انتدب بعض الْعلمَاء لاستقصائها فَجمع مِنْهَا ألف معْجزَة وعددناه مقصرا إِذا فَوق ذَلِك بأضعاف لَا تحصى فَإِنَّهَا لَيست محصورة على مَا وجد مِنْهَا فِي عصره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بل لم تزل تتجدد بعده صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على تعاقب العصور وَذَلِكَ أَن كرامات الْأَوْلِيَاء من أمته وإجابات المتوسلين بِهِ فِي حوائجهم ومغوثاتهم عقيب توسلهم بِهِ فِي شدائدهم براهين لَهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قواطع ومعجزات لَهُ سواطع وَلَا يعدها عد وَلَا يحصرها حد أعاذنا الله من الزيغ عَن مِلَّته وَجَعَلنَا من المهتدين الهادين بهديه وسنته
وَأما الْمنطق فَهُوَ مدْخل الفلسفة ومدخل الشَّرّ شَرّ وَلَيْسَ الِاشْتِغَال بتعليمه وتعلمه مِمَّا أَبَاحَهُ الشَّارِع وَلَا استباحه أحد من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَالْأَئِمَّة الْمُجْتَهدين وَالسَّلَف الصَّالِحين وَسَائِر من يَقْتَدِي بِهِ من أَعْلَام

(1/210)


@ الْأَئِمَّة وسادتها وأركان الْأمة وقادتها قد برأَ الله الْجَمِيع من مغرة ذَلِك وأدناسه وطهرهم من أوضاره
وَأما اسْتِعْمَال الاصطلاحات المنطقية فِي مبَاحث الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة فَمن الْمُنْكَرَات المستبشعة والرقاعات المستحدثة وَلَيْسَ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّة وَالْحَمْد الله فالافتقار إِلَى الْمنطق أصلا وَمَا يزعمه المنطقي للمنطق من أَمر الْحَد والبرهان فقعاقع قد أغْنى الله عَنْهَا بِالطَّرِيقِ الأقوم والسبيل الأسلم الأطهر كل صَحِيح الذِّهْن لَا سِيمَا من خدم نظريات الْعُلُوم الشَّرْعِيَّة وَلَقَد تمت الشَّرِيعَة وعلومها وخاض فِي بحار الْحَقَائِق والدقائق علماؤها حَيْثُ لَا منطق وَلَا فلسفة وَلَا فلاسفة وَمن زعم أَنه يشْتَغل مَعَ نَفسه بالْمَنْطق والفلسفة لفائدة يزعمها فقد خدعه الشَّيْطَان ومكر بِهِ فَالْوَاجِب على السُّلْطَان أعزه الله وأعز بِهِ الْإِسْلَام وَأَهله أَن يدْفع عَن المسملين شَرّ هَؤُلَاءِ المشائيم ويخرجهم من الْمدَارِس ويبعدهم ويعاقب على الِاشْتِغَال بفنهم ويعرض من ظهر مِنْهُ اعْتِقَاد عقائد الفلاسفة على السَّيْف أَو الاسلام لتخمد نارهم وتنمحي آثارها وآثارهم يسر الله ذَلِك وعجله وَمن أوجب هَذَا الْوَاجِب عزل من كَانَ مدرس مدرسة من أهل الفلسفة والتصنيف فِيهَا والإقراء لَهَا ثمَّ سجنه وألزامه

(1/211)


@ منزله وَمن زعم أَنه غير مُعْتَقد لعقائدهم فَإِن حَاله يكذبهُ وَالطَّرِيق فِي قلع الشَّرّ قلع أُصُوله وانتصاب مثله مدرسا من العظائم جملَة وَالله تبَارك وَتَعَالَى ولي التَّوْفِيق والعصمة وَهُوَ أعلم
56 - مَسْأَلَة قَول بعض المصنفين مستدلا على إِثْبَات الْقيَاس بخوض الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم فِي حوادث وَاخْتِلَافهمْ وَذكر من جُمْلَتهَا مَسْأَلَة الْجد والأخوة قَائِلا أَنهم قضوا فِيهَا بقضايا مُخْتَلفَة وصرحوا فِيهَا بالتشبيه بالحوضين والخليجين وَمَا وَجه التَّشْبِيه وَمَا ضبط اللَّفْظَيْنِ الْمُشبه بهما وَقَول بَعضهم بلغ رَأس المَال أَعلَى مَرَاتِب الْأَعْيَان فَيبلغ الْمُسلم فِيهِ أَعلَى مَرَاتِب الدُّيُون مَا الْمَرَاتِب الْمشَار إِلَيْهَا فِي أصل الْقيَاس وفرعه
أجَاب رَضِي الله عَنهُ أما التَّشْبِيه بالخليجين فَعَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ أَتَى بِهِ ردا لقَوْل من أسقط الْأَخ بالجد فَشبه ذَلِك بواد سَالَ بِمِائَة فانشعبت فِيهِ شُعْبَة ثمَّ انشعبت من الشعبة شعبتان فَلَو سدت احدى هَاتين الشعبتين لرجع مَاؤُهَا على الشعبة الْبَاقِيَة من الشعبتين وعَلى الشعبة الَّتِي هِيَ أَصْلهَا فَكَذَلِك إِذا مَاتَ أحد الْأَخَوَيْنِ أَخذ مِيرَاثه أَخُوهُ الْبَاقِي وَالْجد الَّذِي هُوَ أَصْلهَا جَمِيعًا وَشبه ذَلِك زيد بن ثَابت رَضِي الله عَنهُ بشجرة خرج مِنْهَا غُصْن ثمَّ خرج من الْغُصْن غصنان وَلَو قطع أحد الغصنين لرجع مَاؤُهُ على الْغُصْن الْبَاقِي من الغصنين وَعلي الغصين الَّذِي هُوَ أَصْلهَا كَذَلِك من خَلفه الْمَيِّت من إخْوَته مَعَ الْجد الَّذِي هُوَ أصلهم

(1/212)


@
فَأَما مَا ذكره من التَّشْبِيه بالحوضين فموجود فِي الْمُسْتَصْفى فِي أصُول الْفِقْه وَذَلِكَ لَا يعرف وَلَا أرَاهُ إِلَّا تصحيفا من الخوطين والخوط بِضَم الْخَاء المنقوطة والطاء الْمُهْملَة هُوَ الغض الناعم فَاعْلَم ذَلِك وَالله أعلم
وَأما قَول الْقَائِل بلغ رَأس المَال إِلَى آخِره فَهَذَا دَلِيل يذكر فِي الْمَنْع من السّلم الْحَال وَأَعْلَى مَرَاتِب الْأَعْيَان أَن يَنْضَم الى العينية الْقَبْض فِي مجْلِس العقد وَأَعْلَى مَرَاتِب الدُّيُون أَن ينظم إِلَى الدِّينِيَّة وصف الْأَجَل ثمَّ أَنه لَا يتَوَقَّف صِحَة الْعبارَة على تَبْيِين الزِّيَادَة على مرتبتين فلسنا نتكلفه وَالله أعلم
57 - مَسْأَلَة قَالَ بَعضهم عَن الامام مَالك رَضِي الله عَنهُ أَنه جمع بَين السّنة والْحَدِيث فَمَا الْفرق بَين السّنة والْحَدِيث
أجَاب رَضِي الله عَنهُ السّنة هَا هُنَا ضد الْبِدْعَة وَقد يكون الْإِنْسَان من أهل الحَدِيث وَهُوَ مُبْتَدع وَمَالك رَضِي الله عَنهُ جمع بَين السنتين فَكَانَ عَالما بِالسنةِ أَي الحَدِيث ومعتقدا للسّنة أَي كَانَ مذْهبه مَذْهَب أهل الْحق من غير بِدعَة وَالله أعلم
58 - مَسْأَلَة فِي لفظ الْإِسْلَام هَل هُوَ مَخْصُوص بِهَذِهِ الْأمة أم مُطلق على كل من آمن بِنَبِيِّهِ من أمة مُوسَى وَعِيسَى وَغَيرهمَا من الْأَنْبِيَاء صلى الله عَلَيْهِم وعَلى نَبينَا وَسلم فَإِذا جَازَ إِطْلَاقه على كل من آمن بِنَبِيِّهِ من سَائِر الْأُمَم فَهَل إِطْلَاقه عَلَيْهِ شَرْعِي أم لغَوِيّ من حَيْثُ أَنه منقاد مُطِيع فَإِذا جَازَ اطلاقه على كل من آمن بِنَبِيِّهِ فِي زَمَنه شرعا فَمَا فَائِدَة قَوْله عز وَجل

(1/213)


@ {ورضيت لكم الْإِسْلَام دينا} إِذا كل مِنْهُم يُسمى مُسلما وَهل قَول الْقَائِل فِي زمن مُوسَى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا إِلَه إِلَّا الله مُوسَى رَسُول الله كَقَوْل أحد هَذِه الْأمة لَا إِلَه إِلَّا الله مُحَمَّد رَسُول الله فِي هَذَا الزَّمَان وَيكون لَفظه شَامِلًا لَهما وَيُسمى كل وَاحِد مِنْهُمَا مُسلما
أجَاب رَضِي الله عَنهُ بل يُطلق على الْجَمِيع وَهُوَ اسْم لكل دين حق لُغَة وَشرعا فقد ورد ذَلِك بِأَلْفَاظ رَاجِعَة إِلَى هَذَا فِي كتاب الله عز وَجل مِنْهَا قَوْله تَعَالَى {فَلَا تموتن إِلَّا وَأَنْتُم مُسلمُونَ} وَقَوله تَعَالَى {ورضيت لكم الْإِسْلَام دينا} لَا يَنْفِي أَن يرضاه لغَيرهم دينا وَقَول الْقَائِل فِي زمَان مُوسَى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وعَلى نَبينَا وَسلم لَا إِلَه إِلَّا الله مُوسَى رَسُول الله إِسْلَام كمثله الْآن وَالله أعلم
59 - مَسْأَلَة فِيمَن يعْتَقد أَن فِي ملك الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَا يرضاه وَلَا يُريدهُ فَهَل هُوَ مُخطئ أَو مُصِيب فِي هَذَا القَوْل والاعتقاد أم لَا
أجَاب رَضِي الله عَنهُ أصَاب فِي قَوْله أَنه يُوجد مالايرضاه تبَارك وَتَعَالَى مثل الْكفْر قَالَ الله تَعَالَى {وَلَا يرضى لِعِبَادِهِ الْكفْر} وضل

(1/214)


@ وابتدع فِي قَوْله أَنه يُوجد مَا لَا يُريدهُ بل ذَلِك محَال مَا شَاءَ الله كَانَ وَمَا لَا شَاءَ لَا يكون وَفرق بَين الرِّضَا والإرادة ثمَّ مَا لكم والخوض فِي هَذَا الْبَحْر المغرق عَلَيْكُم بِالْعَمَلِ فَفِيهِ شغل شاغل وَالله أعلم
60 - مَسْأَلَة طَائِفَة يَعْتَقِدُونَ أَن الْحُرُوف الَّتِي فِي الْمُصحف قديمَة وَالصَّوْت الَّذِي يظْهر من الْآدَمِيّ حَالَة الْقِرَاءَة قديم كَيفَ يحل هَذَا وَمذهب السّلف بِخِلَاف هَذَا وَمذهب أَرْبَاب التَّأْوِيل يُخَالف هَذَا وَالْمرَاد أَن يفرق الانسان بَين الصّفة الْقَدِيمَة وَالصّفة المحدثة حَتَّى لَا يتَطَرَّق إِلَى النَّفس وَالْعقل بِسَبَبِهِ أَن يفض إِلَى الضلال أعاذنا الله من ذَلِك
بينوا لنا هَذَا بِالدَّلِيلِ الْعقلِيّ وَالدَّلِيل الشَّرْعِيّ
أجَاب رَضِي الله عَنهُ الَّذِي يدين بِهِ من يَقْتَدِي بِهِ من السالفين والخالفين وَاخْتَارَهُ عباد الله الصالحون أَن لَا يخاض فِي صِفَات الله تَعَالَى بالتكييف وَمن ذَلِك الْقُرْآن الْعَزِيز فَلَا يُقَال تكلم بِكَذَا وَكَذَا بل يقْتَصر فِيهِ على مَا اقْتصر عَلَيْهِ السّلف رَضِي الله عَنْهُم
الْقُرْآن كَلَام الله منزل غير مَخْلُوق وَيَقُولُونَ فِي كل مَا جَاءَ من المتشابهات آمنا بِهِ مقتصرين عَليّ الْإِيمَان جملَة من غير تَفْضِيل وتكييف ويعتقدون على الْجُمْلَة أَن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَهُ فِي كل ذَلِك مَا هُوَ الْكَمَال الْمُطلق من كل وَجه ويعرضون على الْخَوْض خوفًا من أَن تزل قدم بعد ثُبُوتهَا فبهم فاقتدوا تسلموا وَإِلَى هَذِه

(1/215)


@ الطَّرِيق رَجَعَ كثير من كبار الْمُتَكَلِّمين المصنفين بعد أَن امتعضوا مِمَّا نالهم من آفَات الْخَوْض فمهما ورد عَلَيْكُم شَيْء من هَذِه الْمسَائِل فقد اعْتقد فِيهَا لله تَعَالَى مَا هُوَ الْكَمَال الْمُطلق والتنزيه الْمُطلق وَلَا أخوض فِيمَا وَرَاءه يجزيني الْإِيمَان الْمُرْسل والتصديق الْمُجْمل وَالله أعلم
61 - مَسْأَلَة رجل يعْتَقد أَن يزِيد بن مُعَاوِيَة رَضِي الله عَنهُ أَمر بقتل الْحُسَيْن ابْن عَليّ رَضِي الله عَنْهُمَا وَاخْتَارَ ذَلِك ورضيه طَوْعًا مِنْهُ لَا كرها ويورد فِي ذَلِك أَحَادِيث مروية عَن من قَلّدهُ ذَلِك الْأَمر وَهُوَ مصر عَلَيْهِ ويسبه ويلعنه على ذَلِك والمسئول خطوط الْعلمَاء ليَكُون رادعا لَهُ أَو حجَّة لَهُ
أجَاب رَضِي الله عَنهُ لم يَصح عندنَا أَنه أَمر بقتْله رَضِي الله عَنهُ وَالْمَحْفُوظ أَن الْآمِر بقتاله المفضي إِلَى قَتله كرمه الله إِنَّمَا هُوَ عبيد الله بن زِيَاد وَالِي الْعرَاق إِذْ ذَاك
وَأما سَبَب يزِيد ولعنه فَلَيْسَ من شَأْن الْمُؤمنِينَ فَإِن صَحَّ أَنه قَتله

(1/216)


@ أَو أَمر بقتْله وَقد ورد فِي الحَدِيث الْمَحْفُوظ أَن لعن الْمُسلم كقتله وَقَاتل الْحُسَيْن رَضِي الله عَنهُ لَا يكفر بذلك وَإِنَّمَا ارْتكب عَظِيما وَإِنَّمَا يكفر بِالْقَتْلِ قَاتل نَبِي من الْأَنْبِيَاء صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالنَّاس فِي يزِيد ثَلَاث فرق فرقة

(1/218)


@ تحيه وتتوالاه وَفرْقَة أُخْرَى تسبه وتلعنه وَفرْقَة متوسطة فِي ذَلِك لَا تتوالاه وَلَا تلعنه وتسلك بِهِ سَبِيل سَائِر مُلُوك الْإِسْلَام وخلفائهم غير الرَّاشِدين فِي ذَلِك وَشبهه وَهَذِه الْفرْقَة هِيَ الصيبة ومذهبها اللَّائِق بِمن يعرف سير الماضين وَيعلم قَوَاعِد الشَّرِيعَة الطاهرة جعلنَا الله من خِيَار أَهلهَا آمين
62 - مَسْأَلَة المبتدع وَالْفَاسِق وَالْغَضَب والغل بَين لنا هَذَا الْمَجْمُوع
أجَاب رَضِي الله عَنهُ كل مُبْتَدع فَاسق وَلَيْسَ كل فَاسق مُبْتَدع وَالْمرَاد أَن المبتدع الَّذِي لَا تخرجه بدعته عَن الْإِسْلَام وَهَذَا لِأَن الْبِدْعَة فَسَاد فِي العقيدة فِي أصل من أصُول الدّين وَالْفِسْق قد يكون فَسَادًا فِي الْعَمَل مَعَ سَلامَة العقيدة
وَالْغَضَب مفارق للغل وَمِمَّا يفترقان فِيهِ أَن الْغَضَب قد يكون يُؤمر بِهِ كالغضب على العَاصِي لله تَعَالَى من أَجله والغل لَا يُؤمر بِهِ وَأَيْضًا فالغل فَسَاد فِي الْقلب يتَعَلَّق بِالْعينِ مثل الحقد والحسد والبغض وَإِن لم يكن من ذَلِك الْغَيْر سَبَب عَامل بِهِ صَاحب الغل إثارة بِهِ عَلَيْهِ وَأما الْغَضَب فَمن شَرطه أَن يكون عَلَيْهِ جِنَايَة يعدها غضب جِنَايَة مُوجبَة لغضبه وَالله أعلم

(1/219)