فتح القريب المجيب في شرح ألفاظ التقريب = القول المختار في شرح غاية الاختصار

كتاب أحكام الطهارة
والكتاب لغةً مصدرٌ بمعنى الضَمِّ والجَمْع، واصطلاحًا اسمٌ لجنس من الأحكام. أما الباب فاسم لنوع مما دخل تحت ذلك الجنس.
والطَّهارة بفتح الطاء لغةً النظافةُ، وأما شرعًا ففيها تفاسير كثيرةٌ؛ منها قولهم: فعل ما تستباح به الصلاةُ، أي من وضوء وغسل وتيمم وإزالة نجاسة. أما الطُّهَارَة بالضم، فاسم لبقية الماء.

• أنواع المياه
ولما كان الماء آلةً للطهارة استطرد المصنفُ لأنواع المياه، فقال: (المياهُ التي يجوز) أي يصحُّ (التطهير بها سبعُ مِياه: ماءُ السماءِ) أي النازل منها، وهو المطر

(1/24)


(وماء البحر) أي الملح، (وماءُ النهر) أي الحلو (وماء البئر، وماء العين، وماء الثلج، وماء البرد). ويجمع هذه السبعة قولك: ما نزل من السماء أو نبع من الأرض على أي صفة كان من أصل الخِلْقَة.

• أقسام المياه
(ثم المياه) تنقسم (على أربعة أقسام): أحدها (طاهر) في نفسه (مُطَهِّر) لغيره (غير مكروهٍ استعمالُه، وهو الماء المطلق) عن قيد لازم؛ فلا يضر القيد المنفك كماء البئر في كونه مطلقا. (و) الثاني (طاهر) في نفسه (مطهر) لغيره (مكروه استعماله) في البدن، لا في الثوب؛ (وهو الماء المشمس) أي المسخن بتأثير الشمس فيه.

(1/25)


وإنما يكره شرعًا بقُطْر حارٍّ في إناء منطَبَع إلاَّ إناء النقدين لصَفاء جوهرهما. وإذا برد زالت الكراهة. واختار النووي عدم الكراهة مطلقا. ويُكره أيضا شديد السخونة والبرودة.
(و) القسم الثالث (طاهر) في نفسه (غير مطهر لغيره، وهو الماء المُستعمَل) في رفع حدث أو إزالة نجس إن لم يتغير ولم يزد وزنُه بعد انفصاله عما كان بعد اعتبار ما يتشربه المغسول من الماء؛ (والمتغير) أي ومن هذا القسم الماءُ المتغير أحدُ أوصافه (بما) أي بشيء (خالطه من الطاهرات) تغيُّرًا يمنع إطلاق اسم الماء عليه؛ فإنه طاهر غير طهور، حسيا كان التغير أو تقديريا؛ كأن اختلط بالماء ما يوافقه في صفاته، كماء الورد المنقطع الرائحة والماء المستعمل؛ فإن لم يمنع اطلاق اسم الماء عليه، بأن كان تغيّره بالطاهر يسيرا أو بما يوافق الماء في صفاته، وقدر مخالفا ولم يغيره فلا يسلب طهوريته؛ فهو مطهر لغيره.
واحترز بقوله: «خالطه» عن الطاهر المجاورُ له؛ فإنه باق على طهوريته ولو كان التغير كثيرا؛ وكذا المتغير بمخالط لا يستغني الماء عنه، كطين وطُحْلَب وما في مقرِّه وممره، والمتغير بطول المكث، فإنه طهور.
(و) القسم الرابع (ماء نجس) أي متنجس، وهو قسمان:

(1/26)


أحدهما (وهو الذي حلَّت فيه نجاسةٌ) تغير أم لا، (وهو) أي والحال أنه ماء (دون القلتين). ويستثنى من هذا القسم الميتة التي لا دمَ لها سائل عند قتلها أو شقّ عضو منها كالذُباب، إن لم تطرح فيه ولم تغيره؛ وكذا النجاسة التي لا يدركها الطرفُ؛ فكل منهما لا ينجس الماء. ويستثنى أيضا صور مذكورات في المبسوطات.
وأشار للقسم الثاني من القسم الرابع بقوله: (أو كان) كثيرا (قلتين) فأكثر (فتغير) يسيرا أو كثيرا.
(والقلتان خمسمائة رطل بغدادي تقريبا في الأصح) فيهما. والرطل البغدادي عند النووي مائة وثمانية وعشرون درهما وأربعة أسباع درهم. وترك المصنف قسما خامسا، وهو الماء المطهر الحرام، كالوضوء بماء مغصوب أو مسبل للشرب.

(1/27)


• تطهير جلود الميتة
{فصل} في ذكر شيء من الأعيان المتنجسة وما يطهر منها بالذباغ وما لا يطهر.
(وجلود الميتة) كلها (تطهُر بالدباغ) سواء في ذلك ميتة مأكول اللحم وغيره. وكيفية الذبغ أن ينزع فضول الجلد مما يُعَفِّنه من دم ونحوه، بشيء حِرِّيف كعفص، ولو كان الحريف نجسًا كذرق حمام كفى في الدبغ (إلا جلدَ الكلب والخنزير وما تولد منهما أو من أحدهما) مع حيوان طاهر، فلا يطهر بالدباغ.
(وعظمُ الميتةِ وشعرُها نجسٌ) وكذا الميتة أيضا نجسة. وأريد بها الزائلة الحياة بغير ذكاة شرعية؛ فلا يستثنى حينئذ جنين المُذَكَّاة إذا خرج من بطن أمه ميتًا، لأن ذكاته في ذكاة أمه، وكذا غيره من المستثنيات المذكورة في المبسوطات. ثم استثنى من شعر الميتة قوله: (إلا الآدمي) أي فإن شعره طاهر كمَيتَتِه.

(1/28)


• استعمال الأواني
{فصل} في بيان ما يحرم استعماله من الأواني وما يجوز. وبدأ بالأول فقال:
(ولا يجوز) في غير ضرورة لرجل أو امرأة (استعمال) شيء من (أواني الذهب والفضة)، لا في أكل ولا في شرب ولا غيرهما؛ وكما يحرم استعمال ما ذكر يحرم اتخاذه من غير استعمال في الأصح. ويحرم أيضا الإناء المَطْلِيّ بذهب أو فضة إن حصل من الطِلاَء شيءٌ بعرضه على النار.
(ويجوز استعمال) إناء (غيرهما) أي غير الذهب والفضة (من الأواني) النفيسة، كإناء ياقوت.
ويحرم الإناء المضبب بضبة فضة كبيرة عرفًا لزينة؛ فإن كانت كبيرة لحاجة جاز مع الكراهة، أو صغيرة عرفا لزينة كرهت، أو لحاجة فلا تكره. أما ضبة الذهب فتحرم مطلقا، كما صححه النووي.

• السواك
{فصل} في استعمال آلة السواك. وهو من سُنَن الوضوء؛ ويطلق السواك أيضا على ما يستاك به من أراك ونحوه.

(1/29)


(والسواك مستحب في كل حال) ولا يكره تنزيها (إلا بعد الزوال للصائم) فرضا أو نفلا؛ وتزول الكراهة بغروب الشمس. واختار النووي عدم الكراهة مطلقا.
(وهو) أي السواك (في ثلاثة مواضع أشدُّ استحبابا) من غيرها؛ أحدها: (عند تغيُّر الفم من أزم) قيل: هو سكوت طويل. وقيل: هو ترك الأكل. وإنما قال: (وغيره) ليشتمل تغيُّر الفم بغير أزم، كأكل ذي ريح كريه من ثَومٍ وبَصَل وغيرهما؛ (و) الثاني (عند القيام) أي الاستيقاظ (من النوم)؛ (و) الثالث (عند القيام إلى الصلاة)، فرضا أو نفلا.
ويتأكد أيضا في غير الثلاثة المذكورة مما هو مذكور في المطولات، كقراءة القرآن، واصفرار الأسنان.
ويسن أن ينوي بالسواك السنةَ؛ وأن يستاك بيمينه، ويبدأ بالجانب الأيمن من فمه، وأن يمره على سقف حلقه امرارا لطيفا، وعلى كراسي أضراسه.

(1/30)


• فروض الوضوء
{فصل} في فروض الوُضوء. وهو بضم الواو - في الأشهر - اسم للفعل، وهو المراد هنا؛ وبفتح الواو اسم لما يتوضأ به. ويشتمل الأولُ على فروض وسُنَن.
وذكر المصنف الفروض في قوله: (وفروض الوضوء ستة أشياء): أحدها (النية). وحقيقتها شرعا قصد الشيء مقترنا بفعله؛ فإن تراخى عنه سمي عزما. وتكون النية (عندَ غسل) أول جزء من (الوجه) أي مقترنة بذلك الجزء، لا بجميعه، ولا بما قبله، ولا بما بعده؛ فينوي المتوضئ عند غسل ما ذُكر رفعَ حدث من أحداثه، أو ينوي استباحة مفتقر إلى وضوء، أو ينوي فرض الوضوء، أو الوضوء فقط، أو الطهارة عن الحدث. فإن لم يقل عن الحدث لم يصحَّ. وإذا نوى ما يعتبر من هذه النيات وشرك معه نية تنظف أو تبرد صحّ وضوؤه.
(و) الثاني (غسل) جميع (الوجه). وحَدُّه طولاً ما بين منابت شعر الرأس غالبا، وآخر اللحيين؛ وهما العظمان اللذان ينبت عليهما الأسنان السفلى، يجتمع مقدمهما في الذقن، ومؤخرهما في الأذن. وحدُّه عرضا

(1/31)


ما بين الأذنين.
وإذا كان على الوجه شعرٌ خفيف أو كثيف وجب إيصال الماء إليه مع البشرة التي تحته.
وأما لحية الرجل الكثيفة بأن لم يرَ المخاطبُ بشرتَها من خلالها فيكفي غسل ظاهرها، بخلاف الخفيفة، وهي ما يرى المخاطب بشرتها، فيجب إيصال الماء لبشرتها، وبخلاف لحية امرأة وخنثى، فيجب إيصال الماء لبشرتهما ولو كثفا.
ولا بد مع غسل الوجه من غسل جزء من الرأس والرقبة وما تحت الذقن.
(و) الثالث (غسل اليدين إلى المِرْفَقين). فإن لم يكن له مرفقان اعتبر قدرهما. ويجب غسل ما على اليدين من شعر وسلعة وأصبع زائدة وأظافير. ويجب إزالة ما تحتها من وسخ يمنع وصول الماء.
(و) الرابع (مَسْحُ بعض الرأس) مِن ذَكر أو أنثى أو خنثى؛ أو مسح بعض شعر في حد الرأس.
ولا تتعيَّن اليد للمسح، بل يجوز بخرقة وغيرها. ولو غسل رأسه بدل مسحها جاز. ولو وضع يده المبلولة ولم يحركها جاز.
(و) الخامس (غسل الرجلين إلى الكعبين) إن لم يكن المتوضئ لابسا للخفين؛ فإن كان لابسهما وجب عليه مسح الخفين أو غسل الرجلين. ويجب غسل ما عليهما من شعر وسلعة وأصبع زائدة كما سبق في اليدين.

(1/32)


(و) السادس (الترتيب) في الوضوء (على ما) أي على الوجه الذي (ذكرناه) في عد الفروض. فلو نسي الترتيب لم يكف. ولو غسل أربعة أعضائه دفعةً واحدة بإذنه ارتفع حدث وجهه فقط.

• سنن الوضوء
(وسننه) أي الوضوء (عشرة أشياء)، وفي بعض نسخ المتن: «عشر خصال»: (1 التسمية) أوَّلَه. وأقلها بسم الله، وأكملها بسم الله الرحمن الرحيم؛ فإن ترك التسمية أوَّلَه أتى بها في أثنائه؛ فإن فرغ من الوضوء لم يأت بها.
(2 وغسل الكفين) إلى الكوعين قبل المضمضة، ويغسلهما ثلاثا إن تردد في طهرهما (قبل إدخالهما الإناءَ) المشتمل على ماء دون القلتين؛ فإن لم يغسلهما كره له غمسهما في الإناء، وإن تيقن طهرهما لم يُكرَه غَمسُهما.
(3 والمضمضة) بعد غسل الكفين. ويحصل أصل السنة فيها بإدخال الماء في الفم سواء أداره فيه ومجه أم لا؛ فإن أراد الأكمل مجه.

(1/33)


(4 والاستنشاق) بعد المضمضة. ويحصل أصل السنة فيه بإدخال الماء في الأنف، سواء جذبه بنفسه إلى خياشيمه ونثره أم لا؛ فإن أراد الأكمل نثره.
والمبالغة مطلوبة في المضمضة والاستنشاق. والجمع بين المضمضة والاستنشاق بثلاث غرف يتمضمض من كل منها ثم يستنشق أفضل من الفصل بينهما.
(5 ومسح جميع الرأس) وفي بعض نسخ المتن «واستيعاب الرأس بالمسح». أما مسح بعض الرأس فواجب كما سبق. ولو لم يرد نزع ما على رأسه من عمامة ونحوها كمل بالمسح عليها.
(6 ومسح) جميع (الأذنين ظاهرهما وباطنهما بماء جديد) أي غير بلل الرأس. والسنة في كيفية مسحهما أن يدخل مسبحتيه في صماخيه ويديرهما على المعاطف، ويمرّ إبهاميه على ظهورهما، ثم يلصق كفيه، وهما مبلولتان بالأذنين استظهارا.
(7 وتخليل اللحية الكَثَّة) بمثلثة من الرجُل؛ أما لحية الرجل الخفيفة ولحية المرأة والخنثى فيجب تخليلهما.

(1/34)


وكيفيته أن يُدخِل الرجلُ أصابعه من أسفل اللحية.
(8 وتخليل أصابع اليدين وَالرِّجلين) إن وصل الماء إليها من غير تخليل؛ فإن لم يصِل إلا به - كالأصابع الملتفة - وجب تخليلها؛ وإن لم يتأت تخليلها لالتحامها حرم فتقُها للتخليل. وكيفية تخليل اليدين بالتشبيك، والرِجلين بأن يبدأ بخنصر يده اليسرى من أسفلِ الرِّجل مبتدئا بخنصر الرِجل اليمنى خاتما بخنصر اليسرى.
(9 وتقديم اليمنى) من يديه ورجليه (على اليسرى) منهما. أما العضوان اللذان يسهل غسلهما معا كالخدين فلا يقدم الأيمن منهما، بل يطهران دفعة واحدة.
وذكر المصنف سنية تثليث العضو المغسول والممسوح في قوله: (10 والطهارة ثلاثا ثلاثا). وفي بعض النسخ «والتكرار» أي للمغسول والممسوح، (والموالاة). ويعبر عنها بالتتابع؛ وهي أن لا يحصل بين العضوين

(1/35)


تفريقٌ كثير، بل يطهر العضو بعد العضو، بحيث لا يجف المغسول قبله مع اعتدال الهواء والمزاج والزمان.
وإذا ثلث فالاعتبار لآخر غسلة. وإنما تندب الموالاة في غير وضوء صاحب الضرورة؛ أما هو فالموالاة واجبة في حقه. وبقي للوضوء سنن أخرى مذكورة في المطولات.

• الاستنجاء
{فصل} في الاستنجاء وآداب قاضي الحاجة. (والاستنجاء) - وهو «من نَجوت الشيءَ»، أي قطعته، فكأن المستنجي يقطع به الأذى عن نفسه - (واجب من) خروج (البول والغائط) بالماء أو الحجر وما في معناه من كل جامد طاهر قالع غير محترم، (و) لكن (الأفضل أن يستنجي) أوَّلا (بالأحجار ثم يُتبعَها) ثانيا (بالماء). والواجب ثلاث مسحات ولو بثلاثة أطراف حجر واحد.
(ويجوز أن يقتصر) المستنجي (على الماء أو على ثلاثة أحجار يُنقي بهن المحلَّ) إن

(1/36)


حصل الإنقاء بها، وإلا زاد عليها حتى ينقى. ويسن بعد ذلك التثليث.
(فإذا أراد الاقتصارَ على أحدهما، فالماء أفضل) لأنه يزيل عين النجاسة وأثرها. وشرط أجزاء الاستنجاء بالحجر أن لا يجفَّ الخارج النجسُ، ولا ينتقلَ عن محل خروجه، ولا يطرأ عليه نجسٌ آخر أجنبي عنه؛ فإن انتفى شرط من ذلك تعيَّن الماءُ.
(ويجتنب) وجوبا قاضي الحاجة (استقبالَ القبلة) الآن وهي الكعبة، (واستدبارها في الصحراء)؛ إن لم يكن بينه وبين القبلة ساترٌ، أو كان ولم يبلغ ثلثي ذراع، أو بلغهما وبَعُد عنه أكثر من ثلاثة أذرع بذراع الآدمي - كما قاله بعضهم. والبنيان في هذا كالصحراء بالشرط المذكور إلا البناءَ المُعَدَّ لقضاء الحاجة، فلا حرمةَ فيه مطلقا. وخرج بقولنا: «الآنَ» مَا كان قِبلةً أولاً كبَيتِ المقدس؛ فاستقباله واستدباره مكروه.
(ويجتنب) أدبًا قاضي الحاجة (البولَ والغائط في الماء الراكد)؛ أما الجاري فيكره في القليل منه دون الكثير، لكن الأولى اجتنابه. وبحث النووي تحريمه في القليل جاريا كان أو راكدا.

(1/37)


(و) يجتنب أيضا البول والغائط (تحت الشجرة المثمرة) وقت الثمر وغيره؛ (و) يجتنب ما ذكر (في الطريق) المسلوك للناس (و) في موضع (الظل) صيفًا، وفي موضع الشمس شِتاءً، (و) في (الثقب) في الأرض، وهو النازل المستدير. ولفظ الثقب ساقط في بعض نسخ المتن.
(ولا يتكلم) أدبا لغير ضرورة قاضي الحاجة (على البول والغائط)؛ فإن دعت ضرورة إلى الكلام، كمن رأى حيَّةً تقصد إنسانا لم يكره الكلام حينئذ.
(ولا يستقبل الشمسَ والقمر ولا يستدبرهما) أي يكره له ذلك حالَ قضاء حاجته، لكن النووي في الروضة وشرح المهذب قال: إن استدبارهما ليس بمكروه؛ وقال في شرح الوسيط: إنَّ تركَ استقبالهما واستدبارهما سواء، أي فيكون مباحا. وقال في التحقيق: إن كراهة استقبالهما لا أصل لها.
وقوله: «ولا يستقبل» إلخ ساقطٌ في بعض نُسَخ المتن.

(1/38)


• نواقض الوضوء
{فصل} في نواقض الوضوء، المُسماة أيضا بأسباب الحدث. (والذي يُنقِض) أي يُبطِل (الوضوءَ سِتَّةُ أشياء): أحدها (ما خرجَ من) أحد (السبيلين)،
أي القُبل والدُبر، من متوضئ حيٍّ واضح، معتادا كان الخارج كبول وغائط أو نادرا كدم وحصا، نجسًا كهذه الأمثلة أو طاهرا كدود، إلا المني الخارجَ باحتلام من متوضئ ممكن مقعده من الأرض فلا ينقض؛ والمشكل إنما ينتقض وضوؤه بالخارج من فرجيه جميعا.
(و) الثاني (النوم على غير هيئة المتمكن) - وفي بعض نسخ المتن زيادة «من الأرض» - بمقعده. والأرض ليست بقيد. وخرج بـ «المتمكن» ما لو نام قاعدا غير متمكن أو نام قائما أو على قفاه ولو متمكنا.
(و) الثالث (زوال العقل) أي الغلبة عليه (بسُكَر أو مرض) أو جُنون أو إغماء أو غير ذلك.
(و) الرابع (لمس الرجلِ المرأةَ الأجنبيةَ) غيرَ المَحْرَم ولو ميتة. والمراد

(1/39)


بالرجل والمرأة ذكر وأنثى بلغا حدَّ الشهوة عرفا؛ والمراد بالمَحْرَم مَن حَرُم نكاحُها لأجل نسب أو رضاع أو مصاهرة. وقوله: (مِن غير حائل) يُخرِج ما لو كان هناك حائل فلا نقض حينئذ.
(و) الخامس، وهو آخر النواقض (مس فرج الآدمي بباطن الكف) من نفسه وغيره، ذكرا أو أنثى، صغيرا أو كبيرا، حيا أو ميتا. ولفظ الآدمي ساقط في بعض نسخ المتن، وكذا قوله: (ومس حلقة دبره) أي الآدمي ينقض (على) القول (الجديد). وعلى القديم لا ينقض مس الحلقة. والمراد بها ملتقى المنفذ؛ وبباطن الكف الراحة مع بطون الأصابع. وخرج بباطن الكف ظاهره وحِرفه ورؤوس الأصابع وما بينها، فلا نقض بذلك أي بعد التحامل اليسير.

(1/40)


• موجبات الغسل
{فصل} في موجب الغسل. والغسل لغةً سَيَلاَن الماء على الشيء مطلقا، وشرعا سيلانه على جميع البدن بنية مخصوصة.
(والذي يُوجِب الغسلَ سِتةُ أشياء؛ ثلاثة) منها (تشترك فيها الرجال والنساء؛ وهي: التقاء الختانين). ويعبر عن هذا الالتقاء بإيلاج حيٍّ واضح غَيَّب حَشفَة الذَكَر منه أو قدرها من مقطوعها في فرج؛ ويصير الآدمي المُولَج فيه جُنبًا بإيلاج ما ذُكر؛ أما الميت فلا يعاد غسله بإيلاج فيه. وأما الخُنثى المشكل فلا غسل عليه بإيلاج حشفته، ولا بإيلاج في قُبُله.
(و) من المشترك (إنزال) أي خروج (المني) من شخص بغير إيلاج، وإن قل المني كقطرة، ولو كانت على لون الدم، ولو كان الخارج بجماع أو غيره، في يقظة أو نوم، بشهوة أو غيرها، من طريقه المعتاد أو غيره، كأن انكسر صلبه فخرج منيُّه. (و) من المشترك (الموت) إلا في الشهيد.

(1/41)


(وثلاثة تختص بها النساء؛ وهي: الحيض)، أي الدم الخارج من امرأة بلغت تسع سنين، (والنفاس) وهو الدم الخارج عقب الولادة؛ فإنه موجب للغسل قطعا، (والوِلادة) المصحوبة بالبلل موجبة للغسل قطعا. والمجردة عن البلل موجبة في الأصح.

• فرائض الغسل
{فصل} (وفرائض الغسل ثلاثة أشياء): أحدها (النية)، فينوي الجُنُبُ رَفعَ الجَنَابَة أو الحدث الأكبر ونحو ذلك، وتنوي الحائض والنفساء رفع حدث
الحيض أو النفاس. وتكون النية مقرونة بأول الفرض، وهو أول ما يغسل من أعلى البدن أو أسفله؛ فلو نوى بعد غسل جزء وجبت إعادته.
(وإزالة النجاسة إن كانت على بدنه) أي المغتسل. وهذا ما رجحه الرافعي؛ وعليه فلا يكفي غسلة واحدة عن الحدث والنجاسة.

(1/42)


ورجح النووي الاكتفاء بغسلة واحدة عنهما. ومحله ما إذا كانت النجاسة حُكميَّةً؛ أما إذا كانت النجاسة عينية وجب غسلتان عنهما.
(وإيصال الماء إلى جميع الشعر والبشرة). وفي بعض النسخ بدل جميعِ «أصولِ»؛ ولا فرق بين شعر الرأس وغيره، ولا بين الخفيف منه والكثيف. والشعر المضفور إن لم يصل الماء إلى باطنه إلا بالنقض وجب نقضه. والمراد بالبشرة ظاهر الجلد؛ ويجب غسل ما ظهر من صماخي أذنيه، ومن أنف مجدع، ومن شقوق بدن؛ ويجب إيصال الماء إلى ما تحت القلفة من الأقلف، وإلى ما يبدو من فرج المرأة عند قعودها لقضاء حاجتها. ومما يجب غسله المَسرُبة، لأنها تظهر في وقت قضاء الحاجة؛ فتصير من ظاهر البدن.

• سنن الغسل
(وسننه) أي الغسل (خمسة أشياء: التسمية والوضوء) كاملا (قبله)، وينوي به المغتسل سنة الغسل إن تجردت جنابته عن الحدث الأصغر، وإلا نوى به الأصغرَ؛

(1/43)


(وإمرار اليد على) ما وصلت إليه من (الجسد)؛ ويعبر عن هذا الإمرار بالدلك؛ (والموالاة) وسبق معناها في الوضوء؛ (وتقديم اليمنى) من شقيه (على اليسرى). وبقي من سنن الغسل أمور مذكورة في المبسوطات. منها التثليث وتخليل الشعر.

• الاغتسالات المسنونة
{فصل} (والاغتسالات المسنونة سبعةَ عشرَ غسلا: غسل الجمعة) لحاضرها. ووقته من الفجر الصادق، (و) غسل (العيدين) الفطر والأضحى. ويدخل وقت هذا الغسل بنصف الليل، (والاستسقاء) أي طلب السُقْيا من الله تعالى،

(1/44)


(والخسوف) للقمر، (والكسوف) للشمس، (والغسل من غسل الميت) مسلما كان أو كافرا، (و) غسل (الكافر إذا أسلم) إن لم يجنب في كفره أو لم تحض الكافرة، وإلا وجب الغسل بعد الإسلام في الأصح. وقيل يسقط إذا أسلم، (والمجنون والمغمى عليه إذا أفاقا)، ولم يتحقق منهما إنزال؛ فإن تحقق منهما إنزال وجب الغسل على كل منهما (والغسل عند) إرادة (الإحرام)، ولا فرق في هذا الغسل بين بالغ وغيره، ولا بين مجنون وعاقل، ولا بين طاهر وحائض؛ فإن لم يجد المُحْرِم الماءَ تيمم، (و) الغسل (لدخول مكة) لمحرم بحج أو عمرة، (وللوقوف بعرفة) في تاسع ذي الحجة، (وللمبيت بمزدلفة،

(1/45)


ولرمي الجمار الثلاث) في أيام التشريق الثلاثة؛ فيغتسل لرمي كل يوم منها غسلا. أما رمي جمرة العقبة في يوم النحر فلا يغتسل له لقرب زمنه من غسل الوقوف، (و) الغسل (للطواف) الصادق بطواف قدوم وإفاضة ووداع. وبقية الأغسال المسنونة مذكورة في المطولات.

• المسح على الخفين
{فصل} (والمسح على الخفين جائزٌ) في الوضوء، لا في غسل فرض أو نفل، ولا في إزالة نجاسة؛ فلو أجنب ودَميت رِجْلُه فأراد المسح بدلا عن غسلِ الرِّجل لم يُجْزِ، بل لا بد من الغسل.
وأشعر قوله «جائز» أن غسل الرجلين أفضل من المسح. وإنما يجوز مسح الخفين، لا أحدهما

(1/46)


فقط إلا أن يكون فاقد الأخرى.
(بثلاثة شرائط: أن يبتدئ) أي الشخص (لبسهما بعد كمال الطهارة)؛ فلو غسل رِجلاً وألبسها خفها ثم فعل بالأخرى كذلك لم يكفِ. ولو ابتدأ لبسهما بعد كمال الطهارة ثم أحدث قبل وصول الرِّجْل قدمَ الخف لم يُجْزِ المسح.
(وأن يكونا) أي الخفان (ساترين لمحل غسل الفرض من القدمين) بكعبيهما؛ فلو كانا دون الكعبين كالمداس لم يكفِ المسح عليهما. والمراد بالساتر هنا الحائل، لا مانع الرؤية، وأن يكون الستر من أسفل ومن جوانب الخفين، لا من أعلاهما؛ (وأن يكونا مما يمكن تتابع المشي عليهما) لتردد مسافر في حوائجه من حط وترحال.
ويؤخذ من كلام المصنف كونهما قويين بحيث يمنعان نفوذ الماء. ويشترط أيضا طهارتهما؛ ولو لبس خفًّا فوق خف لشدة البرد مثلا؛ فإن كان الأعلى صالحا للمسح دون الأسفل صح المسح على الأعلى؛ وإن كان الأسفل صالحا للمسح دون الأعلى فمسح الأسفل صح أو الأعلى فوصل البلل للأسفل صحَّ إن قصد الأسفل أو قصدهما معا، لا إن

(1/47)


قصد الأعلى فقط؛ وإن لم يقصد واحدا منهما، بل قصد المسح في الجملة أجزأ في الأصح.

• مدة المسح
(ويمسح المقيمُ يوما وليلة، و) يمسح (المسافرُ ثلاثة أيام بلياليهن) المتصلة بها، سواء تقدمت أو تأخرت.
(وابتداء المدة) تحسب (من حين يحدث) أي من انقضاء الحدث الكائن (بعد) تمام (لبس الخفين)، لا من ابتداء الحدث، ولا من وقت المسح، ولا من ابتداء اللبس. والعاصي بالسفر والهائم يمسحان مسح مقيم.
ودائم الحدث إذا أحدث بعد لبس الخف حدثًا آخر مع حدثه الدائم قبل أن يصلي به فرضا يمسح ويستبيح ما كان يستبيحه. لو بقي طهره الذي لبس عليه خفيه، وهو فرض ونوافل؛ فلو صلى بطهره فرضا قبل أن يحدث مسح واستباح النوافل فقط.
(فإن مسح) الشخص (في الحضر ثم سافر أو مسح في السفر ثم أقام) قبل مضي يوم وليلة (أتم مسح مقيم).
والواجب في مسح الخف ما يُطلَق عليه اسم المسح إذا كان على ظاهر الخف. ولا يجزئ المسح على باطنه، ولا على عقب الخف،

(1/48)


ولا على حِرفه، ولا على أسفله. والسنة في مسحه أن يكون خطوطا، بأن يفرج الماسح بين أصابعه ولا يضمها.

• مبطلات المسح
(ويبطل المسح) على الخفين (بثلاثة أشياء: بخلعهما) أو خلع أحدهما أو انخلاعه أو خروج الخف عن صلاحية المسح كتخرُّقه، (وانقضاء المدة)؛
وفي بعض النسخ «مدة المسح» من يوم وليلة لمقيم، وثلاثة أيام بليالها لمسافر، (و) بعروض (ما يوجب الغسل)، كجنابة أو حيض أو نفاس للابس الخف.

• شروط التيمم
{فصل} في التيمم. وفي بعض نسخ المتن تقديم هذا الفصل على الذي قبله.

(1/49)


والتيمم لغةً القصدُ، وشرعًا إيصالُ تراب طهور للوجه واليدين بدلا عن وضوءٍ أو غسلٍ أو غسلِ عضوٍ بشرائطَ مخصوصة.
(وشرائط التيمم خمسة أشياء): وفي بعض نسخ المتن «خمس خصال»: أحدها (وجود العذر بسفر أو مرض، و) الثاني (دخولُ وقت الصلاة)؛ فلا يصح التيمم لها قبل دخول وقتها. (و) الثالث (طلب الماء) بعد دخول الوقت، بنفسه أو بمن أذن له في طلبه؛ فيطلب الماء من رحله ورُفقته، فإن كان منفردا نظر حواليه من الجهات الأربع إن كان بمستو من الأرض؛ فإن كان فيها ارتفاع وانخفاض تردد قدر نظره. (و) الرابع (تعذر استعماله) أي الماء، بأن يخاف من استعمال الماء على ذهاب نفس أو منفعة عضو.
ويدخل في العذر ما لو كان بقُربه ماءٌ وخاف لو قصده على نفسه مِنْ سَبُع أو عدو، أو على ماله من سارق أو غاصب.

(1/50)


ويوجد في بعض نسخ المتن في هذا الشرط زيادة بعد تعذر استعماله، وهي (وإعوازه بعد الطلب، و) الخامس (التراب الطاهر) أي الطهور غير المندي. ويصدق الطاهر بالمغصوب وتراب مقبرة لم تنبش. ويوجد في بعض نسخ المتن زيادة في هذا الشرط، وهي (الذي له غبار. فإن خالطه جص أو رمل لم يُجْزِ). وهذا موافق لما قاله النووي في شرح المهذب والتصحيح، لكنه في الروضة والفتاوى جَوَّز ذلك، ويصح
التيمم أيضا برمل فيه غبار. وخرج بقول المصنف «التراب» غيرُه، كنورة وسحاقة خزف. وخرج بـ «الطاهر» النجس. وأما التراب المستعمل فلا يصح التيمم به.

• فرائض التيمم
(وفرائضه أربعة أشياء): أحدها (النية)، وفي بعض نسخ المتن «أربع خصال: نية الفرض»؛ فإن نوى المتيممُ الفرضَ والنفل استباحهما أو الفرض فقط

(1/51)


استباح معه النفل وصلاة الجنازة أيضا، أوالنفل فقط لم يستبح معه الفرض؛ وكذا لو نوى الصلاة. ويجب قرن نية التيمم بنقل التراب للوجه واليدين، واستدامة هذه النية إلى مسح شيء من الوجه. ولو أحدث بعد نقل التراب لم يمسح بذلك التراب بل ينقل غيره.
(و) الثاني والثالث (مسح الوجه، ومسح اليدين مع المرفقين) وفي بعض نسخ المتن «إلى المرفقين»؛ ويكون مسحهما بضربتين. ولو وضع يده على تراب ناعم فعلق بها تراب من غير ضرب كفى.
(و) الرابع (الترتيب) فيجب تقديمُ مسح الوجه على مسح اليدين، سواء تيمم عن حدث أصغر أو أكبر؛ ولو ترك الترتيب لم يصِحَّ. وأما أخذ التُراب للوجه واليدين فلا يشترط فيه ترتيب. فلو ضرب بيديه دفعة على تراب ومسح بيمينه وجهَه وبيَساره يَمينَه جاز.

• سنن التيمم
(وسننه) أي التيمم (ثلاثة أشياء) وفي بعض نسخ المتن «ثلاث خصال»: (التسمية، وتقديم اليمنى) من اليدين (على اليسرى) منهما، وتقديم أعلى الوجه على أسفله

(1/52)


(والموالاة) وسبق معناها في الوضوء، وبقي للتيمم سنن أخرى
مذكورة في المطولات، منها: نزع المتيمم خاتمه في الضربة الأولى، أما الثانية فيجب نزع الخاتم فيها.

• مبطلات التيمم
(والذي يبطل التيمم ثلاثة أشياء): أحدها كل (ما أبطل الوضوء)، وسبق بيانه في أسباب الحدث؛ فمتى كان متيمما ثم أحدث بطل تيممه.
(و) الثاني (رُؤية الماء) وفي بعض النسخ «وجود الماء» (في غير وقت الصلاة)؛ فمن تيمم لفقد الماء ثم رأى الماء أو توهمه قبل دخوله في الصلاة بطل تيممه؛ فإن رآه بعد دخول فيها وكانت الصلاة مما لا يسقط فرضها بالتيمم كصلاة مقيم بطلت في الحال، أو مما يسقط فرضها بالتيمم كصلاة مسافر فلا تبطل، فرضا كانت الصلاة أو نفلا؛ وإن كان تيمم الشخص لمرض ونحوه ثم رأى الماء فلا أثر لرؤيته، بل تيممه باق بحاله. (و) الثالث (الرِّدَّة) وهي قطع الإسلام.
وإذا امتنع شرعا استعمال الماء في عضو، فإن لم يكن عليه ساتر

(1/53)


وجب عليه التيمم وغسل الصحيح، ولا ترتيب بينهما للجنب. أما المحدث فإنما يتيمم وقتَ دخول غسل العضو العليل؛ فإن كان على العضو ساتر فحكمه مذكور في قول المصنف:

• المسح على الجبيرة
(وصاحب الجَبائر) - جمع جبيرة بفتح الجيم، وهي أخشاب أو قصب تسوى وتشد على موضع الكسر ليلتحم - (يمسح عليها) بالماء إن لم يمكنه نزعها لخوف ضرر مما سبق، (ويتيمم) صاحب الجبائر في وجهه ويديه كما
سبق (ويصلي ولا إعادة عليه إن كان وضعها) أي الجبائر (على طهر) وكانت في غير أعضاء التيمم، وإلا أعاد. وهذا ما قاله النووي في الروضة، لكنه قال في المجموع: إن إطلاق الجمهور يقتضي عدم الفرق، أي بين أعضاء التيمم وغيرها.
ويشترط في الجبيرة أن لا تأخذ من الصحيح إلا ما لا بد منه للاستمساك واللَصُوق والعِصَابَة والمَرْهَم ونحوها على الجرح كالجبيرة.
(ويتيمم لكل فريضة) ومنذورة؛ فلا يجمع بين صلاتي فرض بتيمم واحد، ولا بين طوافين ولا بين صلاة وطواف، ولا بين جمعة وخطبتيها.

(1/54)


وللمرأة إذا تيممت لتمكين الحليل أن تفعله مرارا، وتجمع بينه وبين الصلاة بذلك التيمم. وقوله: (ويصلي بتيمم واحد ما شاء من النوافل) ساقط من بعض نسخ المتن.

• بيان النجاسات وإزالتها
{فصل} في بيان النجاسات وإزالتها. وهذا الفصل مذكور في بعض النسخ قبيل كتاب الصلاة. والنجاسة لغةً الشيء المستقذر، وشرعًا كل عين حرُم تناولها على الإطلاق حالة الاختيار مع سهولة التمييز، لا لحرمتها ولا لاستقذارها ولا لضررها في بدن أو عقل. ودخل في الإطلاق قليل النجاسة وكثيرها. وخرج بـ «الاختيار» الضرورةُ؛ فإنها تبيح تناول النجاسة، وبـ «سهولة التمييز» أكلُ الدودِ الميت في جُبن أو فاكهة ونحو ذلك. وخرج

(1/55)


بقوله: «لا لحرمتها» ميتة ُالأدمي، وبـ «عدم الاستقذار» المنيُّ ونحوه، وبـ «نفي الضرر» الحجرُ والنبات المُضِر ببدن أو عقل.
ثم ذكر المصنف ضابطا للنجس الخارج من القُبل والدبر بقوله: (وكل مائع خرج من السبيلين نجسٌ) هو صادق بالخارج المعتاد كالبول والغائط، وبالنادر كالدم والقيح، (إلا المني) من آدمي أو حيوان غير كلب وخنزير وما تولد منهما أو من أحدهما مع حيوان طاهر. وخرج بـ «مائع» الدودُ وكل متصلب لا تحيله المعدة فليس بنجس، بل متنجس يطهر بالغسل. وفي بعض النسخ «وكل ما يخرج»، بلفظ المضارع وإسقاط مائع.
(وغسل جميع الأبوال والأرواث) ولو كان من مأكول اللحم (واجب). وكيفية غسل النجاسة إن كانت مشاهدة بالعين، وهي المسماة بالعينية تكون بزوال عينها ومُحاولة زوال أوصافها من طَعْم أو لون أو ريح؛ فإن بقي طَعمُ النجاسة ضرَّ، أو لونٌ أو ريحٌ عسُر زوالُه لم يضر.
وإن كانت النجاسة غير مشاهدة وهي المسماة بالحُكمية فيكفي جَرْي الماء على المتنجس بها ولو مرة واحدة.

(1/56)


ثم استثنى المصنف من الأبوال قوله: (إلا بول الصبي الذي لم يأكل الطعام)، أي لم يتناول مأكولا ولا مشروبا على جهة التغذى، (فإنه) أي البول (يطهر برَشِّ الماء عليه). ولا يشترط في الرَشِّ سَيَلانُ الماء. فإن أكل الصبي الطعام على جهة التغذى غسل بوله قطعا. وخرج بـ «الصبي» الصبية والخنثى، فيغسل من بولهما.
ويشترط في غسل المتنجس ورودُ الماء عليه إن كان قليلا، فإن عكس لم يطهر. أما الماء الكثير فلا فرق بين كون المتنجس واردا أو مورودا.
(ولا يعفى عن شيء من النجاسات إلا اليسير من الدم والقيح)؛ فيعفى عنهما في ثوب أو بدن، وتصح الصلاة معهما، (و) إلاَّ (ما) شيء (لا نفس له سائلة) كذُباب ونمل (إذا وقع في الإناء ومات فيه، فإنه لا ينجسه).

(1/57)


وفي بعض النسخ «إذا مات في الإناء». وأفهم قوله «وقع» أي بنفسه، أنه لو طرح ما لا نفس له سائلة في المائع ضرَّ، وهو ما جزم به الرافعي في الشرح الصغير، ولم يتعرض لهذه المسألة في الكبير.
وإذا كثرت ميتة ما لا نفس له سائلة وغيّرت ما وقعت فيه نجسته؛ وإذا نشأت هذه الميتة من المائع كدود خَلّ وفاكهة لم تنجسه قطعا. ويستثنى مع ما ذكر هنا مسائل مذكورة في المبسوطات سبق بعضها في كتاب الطهارة.
(والحيوان كله طاهر إلا الكلب والخنزير وما تولد منهما أو من أحدهما)، أي مع حيوان طاهر. وعبارته تصدق بطهارة الدود المتولد من النجاسة، وهو كذلك.
(والميتة كلها نجسة إلا السمك والجراد والآدمي). وفي بعض النسخ «ابن آدم» أي ميتة كل منها، فإنها طاهرة.

(1/58)


• تطهير الإناء
(ويُغسل الإناءُ من وُلوغ الكلب والخنزير سبعَ مرات) بماء طهور، (إحداهن) مصحوبة (بالتراب) الطهور يعم المحل المتنجس؛ فإن كان المتنجس بما ذكر في ماء جار كدِر كفى مرور سبع جريات عليه بلا تعفير. وإذا لم تزل عينُ النجاسة الكلبية إلا بست غسلات مثلا حسبت كلها غسلة واحدة. والأرض الترابية لا يجب التراب فيها على الأصح.
(ويغسل من سائر) أي باقي (النجاسات مرة واحِدة) وفي بعض النسخ «مرة» (تأتي عليه؛ والثلاث) وفي بعض النسخ «والثلاثة» بالتاء (أفضل).
واعلم أن غسالة النجاسة بعد طهارة المحل المغسول طاهرة إن انفصلت غير متغيرة ولم يزد وزنها بعد انفصالها عما كان بعد اعتبار مقدار ما يتشربه المغسول من الماء. هذا إن لم يبلغ قلتين؛ فإن بلغهما فالشرط عدم التغير.

• تخلل الخمر
ولما فرغ المصنف مما يطهر بالغسل شرَع فيما يطهر بالاستحالة، وهي انقلاب الشيء من صفة إلى صفة أخرى؛ فقال: (وإذا تخللت

(1/59)


الخمرة)؛ وهي المُتخَذة من ماء العنب، محترمةً كانت الخمرة أم لا. ومعنى تخللت صارت خلاًّ، وكانت صيرورتها خلا (بنفسها طهرت). وكذا لو تخللت بنقلها من شمس إلى ظل وعكسه، (وإن) لم تتخلل الخمرة بنفسها بل (تخللت بطرح شيء فيها لم تطهر). وإذا طهرت الحمرة طهر دَنُّها تبعا لها.

• الحيض والنفاس والاستحاضة
{فصل} في بيان أحكام الحيض والنفاس والاستحاضة. (ويخرج من الفرج ثلاثة دماء: دم الحيض، والنفاس، والاستحاضة؛ فالحيض هو) الدم (الخارج) في سن الحيض، وهو تسع سنين فأكثر (من فرج المرأة على سبيل الصحة)، أي لا لعلة، بل للجبلة (من غير سبب الولادة).

(1/60)


وقوله: (ولونه أسود محتدم لذاع) ليس في أكثر نسخ المتن. وفي الصحاح: احتدم الدم اشتدت حمرته حتى اسود. ولذعته النار حتى أحرقته.
(والنفاس هو) الدم (الخارج عقِب الولادة)؛ فالخارج مع الولد أو قبله لا يسمى نفاسا. وزيادة الياء في «عقيب» لغة قليلة؛ والأكثر حذفها.
(والاستحاضة) أي دمها (هو الدم الخارج في غير أيام الحيض والنفاس)، لا على سبيل الصحة.
(وأقل الحيض) زمنا (يوم وليلة)، أي مقدار ذلك، وهو أربعة وعشرون ساعة على الاتصال المعتاد في الحيض. (وأكثره خمسة عشر يوما) بليالها، فإن زاد عليها فهو استحاضة. (وغالبه ست أو سبع). والمعتمد في ذلك الاستقراءُ.

(1/61)


(وأقل النفاس لحظة)، وأريد بها زمن يسير. وابتداء النفاس من انفصال الولد. (وأكثره ستون يوما، وغالبه أربعون يوما). والمعتمد في ذلك الاستقراء أيضا.
(وأقل الطهر) الفاصل (بين الحيضتين خمسةَ عشرَ يوما). واحتَرز المصنفُ بقوله: «بين الحيضتين» عن الفاصل بين حيض ونفاس؛ إذا قلنا بالأصح إن الحامل تحيض، فإنه يجوز أن يكون دون خمسة عشر يوما. (ولا حَدَّ لأكثره) أي الطهر. فقد تمكث المرأة دهرها بلا حيض. أما غالب الطهر فيعتبر بغالب الحيض؛ فإن كان الحيض ستا فالطهر أربع وعشرون يوما، أو كان الحيض سبعا فالطهر ثلاثة وعشرون يوما.
(وأقل زمن تحيض فيه المرأة)؛ وفي بعض النسخ «الجارية» (تسع

(1/62)


سنين) قمرية؛ فلو رأته قبل تمام التسع بزمن يضيق عن حيض وطهر فهو حيض، وإلا فلا.
(وأقل الحمل) زمنا (ستة أشهر) ولحظتان، (وأكثره) زمنا (أربع سنين، وغالبه) زمنا (تسعة أشهر). والمعتمد في ذلك الوجود.

• ما يحرم بالحيض والنفاس
(ويحرم بالحيض والنفاس) وفي بعض النسخ «ويحرم على الحيض» (ثمانية أشياء)، أحدها: (الصلاة)، فرضا أو نفلا؛ وكذا سجدة التلاوة والشكر. (و) الثاني (الصوم)، فرضا أو نفلا؛ (و) الثالث (قراءة القرآن، و) الرابع (مس المصحف) وهو اسم للمكتوب من كلام الله تعالى بين الدفتين (وحمله) إلاّ إذا خافت عليه؛

(1/63)


(و) الخامس (دخول المسجد) للحائض إن خافت تلويثه؛ (و) السادس (الطواف) فرضا أو نفلا؛ (و) السابع (الوطء). ويسن لمن وطئ في إقبال الدم التصدق بدينار، ولمن وطئ في إدباره التصدق بنصف دينار. (و) الثامن (الاستمتاع بما بين السرة والركبة) من المرأة؛ فلا يحرم الاستمتاع بهما، ولا بما فوقهما على المختار في شرح المهذب.
ثم استطرد المصنف لذكر ما حقه أن يذكر فيما سبق في فصل موجب الغسل، فقال:

• ما يحرم على الجنب
(ويحرم على الجنب خمسة أشياء): أحدها (الصلاة)، فرضا أو نفلا. (و) الثاني (قراءة القرآن) أي غير منسوخ التلاوة، آية كان أو حرفا، سرًّا أو جهرا. وخرج بالقرآن التوراة والإنجيل. أما أذكار القرآن فتحلُّ لا بقصد قرآن.

(1/64)


(و) الثالث (مس المصحف وحمله) من باب أولى. (و) الرابع (الطواف) فرضا أو نفلا. (و) الخامس (اللبث في المسجد) لجنب مسلم، إلا لضرورة كمن احتلم في
المسجد وتعذر عليه خروجه منه لخوف على نفسه أو ماله. أما عبور المسجد مارّا به من غير مكث فلا يحرم، بل ولا يكره في الأصح. وتردد الجنب في المسجد بمنزلة اللبث. وخرج بالمسجد المدارس والربط. ثم استطرد المصنف أيضا من أحكام الحدث الأكبر إلى أحكام الحدث الأصغر، فقال:

• ما يحرم على المحدث
(ويحرم على المحدث) حدثا أصغر (ثلاثة أشياء: الصلاة، والطواف، ومس المصحف وحمله)، وكذا خريطة وصندوق فيهما مصحف. ويحل حمله في أمتعة وفي تفسير أكثر من القرآن، وفي دنانير ودراهم وخواتم نقش على كل منها قرآن. ولا يمنع المميز المحدث مِن مَسِّ مصحف ولوح لدراسة وتعلُّم قرآن.

(1/65)