فتح القريب المجيب في شرح ألفاظ التقريب = القول المختار في شرح غاية الاختصار

كتاب أحكام الحج
وهو لغةً القصدُ، وشَرعًا قصد البيت الحرام للنُسُك.

• شروط وجوب الحج
(وشرائط وجوب الحج سبعة أشياء). وفي بعض النسخ «سبع خصال»: (الإسلام، والبلوغ، والعقل، والحرية)؛ فلا يجب الحج على المتصف بضد ذلك، (ووجود الزاد) وأوعيته إن احتاج إليها. وقد لا يحتاج إليها كشخص قريب من مكة. ويشترط أيضا وجود الماء في المواضع المعتاد حمل الماء منها بثمن المثل، (و) وجود (الراحلة) التي تصلح لمثله بشراء أو استئجار. هذا إذا كان الشخص بينه وبين مكة مرحلتان فأكثر، سواء قدر على المشي أم لا، فإن كان بينه وبين مكة دون مرحلتين، وهو قوي على المشي لزمه الحج بلا راحلة. ويشترط كون ما ذكر فاضلا عن دَينه وعن مؤنةِ مَن عليه مؤنتُهم مدةَ ذهابه وإيابه، وفاضلا أيضا عن مسكنه اللائق به وعن عبد يليق به، (وتخلية الطريق). والمراد بالتخلية هنا أمن الطريق ظنا بحسب ما يليق بكل مكان؛ فلو لم يأمن الشخص على

(1/144)


نفسه أو ماله أو بُضعه لم يجب عليه الحج. وقوله: (وإمكان المسير) ثابت في بعض النسخ. والمراد بهذا الإمكان أن يبقى من الزمان بعد وجود الزاد والراحلة ما يمكن فيه السير المعهود إلى الحج؛ فإن أمكن إلا أنه يحتاج لقطع مرحلتين في بعض الأيام لم يلزمه الحج للضرر.

• أركان الحج
(وأركان الحج أربعة): أحدها (الإحرام مع النية) أي نية الدخول في الحج. (و) الثاني (الوقوف بعرفة). والمراد حُضور المُحرِم بالحَج لحظةً بعدَ زوال الشمس يومَ عرفةَ، وهو اليوم التاسع من ذي الحجة بشرط كون الواقف أهلا للعبادة، لا مجنونا ولا مُغْمَى عليه. ويستمر وقت الوقوف إلى فجر يوم النحر، وهو العاشر من ذي الحجة. (و) الثالث (الطواف بالبيت) سبع طوفات جاعلا في طوافه البيتَ عن يساره مبتدئا بالحجر الأسود محاذيا له في مروره بجميع بدنه؛ فلو بدأ بغير الحجر لم يحسب له.

(1/145)


(و) الرابع (السعي بين الصفا والمروة) سبع مرات. وشرطه أن يبدأ في أول مرة بالصفا ويختم بالمروة، ويُحسب ذهابه من الصفا إلى المروة مرةً، وعوده منها إليه مرة أخرى. والصفا بالقصر طرف جبل أبي قبيس، والمَروة بفتح الميم علَم على الموضع المعروف بمكة.
وبقي من أركان الحج الحَلق أو التقصير إن جعلنا كلا منهما نُسكا، وهو المشهور. فإن قلنا إن كلا منهما استباحة محظور فليسا من الأركان. ويجب تقديم الإحرام على كل الأركان السابقة.

• أركان العمرة
(وأركان العمرة ثلاثة) - كما في بعض النسخ، وفي بعضها «أربعة أشياء»: (الإحرام، والطواف، والسعي؛ والحلق أو التقصير في أحد القولين). وهو الراجح - كما سبق قريبا؛ وإلا فلا يكون من أركان العمرة.

• واجبات الحج
(وواجبات الحج غير الأركان ثلاثة أشياء):

(1/147)


أحدها (الإحرام من الميقات) الصادق بالزماني والمكاني؛ فالزماني بالنسبة للحج شوال وذو القعدة وعشر ليال من ذي الحجة. وأما بالنسبة للعمرة فجميع السَّنَة وقت لإحرامها. والميقات المكاني للحج في حق المقيم بمكة نفس مكة، مكيًّا كان أو آفاقيا. وأما غير المقيم في مكة فميقات المتوجه من المدينة الشريفة ذو الحُلَيفَة، والمتوجه من الشام ومصر

(1/148)


والمغرب الجُحْفَة، والمتوجه من تِهامة اليمن يَلَمْلَم، والمتوجه من نجد الحجاز ونجد اليمن قَرْن، والمتوجه من المشرق ذات عِرْق. (و) الثاني (رمي الجمار الثلاث) يبدأ بالكبرى ثم الوسطى ثم جمرة العقبة. ويرمى كل جمرة بسبع حصيات واحدةً بعد واحدة؛ فلو رمى حصاتين دفعة واحدة حسبت واحدة، ولو رمى حصاة واحدة سبع مرات كفى. ويشترط كون المرمَى به حجرا، فلا يكفي غيره كلؤلؤ وجص، (و) الثالث (الحلق) أو التقصير. والأفضل للرجل الحلق، وللمرأة التقصير. وأقل الحلق إزالة ثلاث شعرات من الرأس حلقا أو تقصيرا أو نتفا أو إحراقا أو قصًّا. ومن لا شعر برأسه يُسنُّ له إمرار المُوسَى عليه. ولا يقوم شعر غير الرأس من اللحية وغيرها مقام شعر الرأس.

• سنن الحج
(وسنن الحج سبع): أحدها (الإفراد، وهو تقديم الحج على العمرة)، بأن يُحرِم أولاً بالحج من ميقاته ويفرغ منه، ثم يخرج عن مكة إلى أدنى الحِلِّ فيُحرِم بالعمرة، ويأتي بعملها؛ ولو عكس لم يكن مُفرِدًا.

(1/149)


(و) الثاني (التلبية)، ويسن الإكثار منها في دوام الإحرام. ويرفع الرجل صوته بها. ولفظها: «لَبَّيْكَ اللهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إنَّ الحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ، لاَ شَرِيْكَ لَكَ». وإذا فرغ من التلبية صلى على النبي - صلى الله عليه وسلم - وسأل اللهَ تعالى الجنة ورضوانه واستعاذ به من النار. (و) الثالث (طواف القدوم). ويختص بحاجٍّ دخل مكة قبل الوقوف بعرفة. والمعتمر إذا طاف العمرة أجزأه عن طواف القدوم. (و) الرابع (المبيت بمزدلفةَ). وعَدّه من السنن هو ما يقتضيه كلام الرافعي، لكن الذي في زيادة الروضة وشرح المهذب أن المبيت بمزدلفة واجب. (و) الخامس (ركعتا الطواف) بعد الفراغ منه، ويصليهما خلف مقام إبراهيم عليه الصلاة والسلام؛ ويُسِرُّ بالقراءة فيهما نهارا، ويجهر بها ليلا. وإذا لم يصلهما خلفَ المقام ففي الحِجر، وإلا ففي المسجد، وإلا ففي أي موضع شاء من الحرم وغيره. (و) السادس (المبيت بمنى). هذا ما صححه الرافعي، لكن صحح النووي في زيادة الروضة الوجوب.

(1/152)


(و) السابع (طواف الوداع) عند إرادة الخروج من مكة لسفر، حاجا كان أو لا، طويلا كان السفر أو قصيرا. وما ذكره المصنف من سنيته قول مرجوح، لكن الأظهر وجوبه.

• الإحرام
(ويتجرد الرجل) حتما - كما في شرح المهذب - (عند الإحرام عن المخيط) من الثياب وعن منسوجها وعن معقودها وعن غير الثياب من خُفٍّ ونعل، (ويلبس إزارا ورداء أبيضين) جديدين، وإلا فنظيفين.

• ما يحرم على المحرم
{فصل} في أحكام محرمات الإحرام، وهي ما يحرم بسبب الإحرام. (ويحرُم على المُحرِم عشرةُ أشياء):

(1/153)


أحدها (لبس المخيط) كقميص وقباء وخف، ولبس المنسوج كدِرْعٍ، أو المعقود كلِبد في جميع بدنه.
(و) الثاني (تغطية الرأس) أو بعضه (من الرجل) بما يُعَدُّ ساترا، كعِمامة وطين؛ فإن لم يُعدّ ساترا لم يضُرَّ، كوضع يده على بعض رأسه، وكانغماسه في ماء واستظلاله بمحمل وإن مس رأسه، (و) تغطية (الوجه) أو بعضه (من المرأة) بما يعد ساترا، ويجب عليها أن تستر من وجهها ما لا يتأتى ستر جميع الرأس إلا به. ولها أن تسبل على وجهها ثوبا متجافيا عنه بخشبة ونحوها. والخنثى - كما قاله القاضي أبو الطيب - يؤمر بالستر ولبس المخيط. وأما الفدية فالذي عليه الجمهور أنه إن ستر وجهه أو رأسه لم تجب الفدية للشك وإن سترهما وجبت.
(و) الثالث (ترجيل) أي تسريح (الشعر) كذا عدَّه المصنف من المحرمات، لكن الذي في شرح المهذب أنه مكروه، وكذا حَكُّ الشعر بالظفر.

(1/154)


(و) الرابع (حلقه) أي الشعر أو نتفه أو إحراقه. والمراد إزالته بأيِّ طريق كان ولو ناسيا.
(و) الخامس (تقليم الأظفار) أي إزالتها من يد أو رِجل بتقليم أو غيره، إلا إذا انكسر بعضُ ظفر المحرم وتأذى به، فله إزالة المنكسر فقط.
(و) السادس (الطيب) أي استعماله قصدا بما يقصد منه رائحة الطيب نحو مسك وكافور في ثوبه، بأن يلصقه به على الوجه المعتاد في استعماله أو في بدنه، ظاهره أو باطنه، كأكله الطيب، ولا فرق في مُستعمِل الطيب بين كونه رَجُلا أو امرأة، أخشمَ كان أو لا. وخرج بـ «قصدا» ما لو ألقت عليه الريح طيبا أو أُكرِه على استعماله أو جهل تحريمَه أو نسي أنه مُحرِم، فإنه لا فدية عليه؛ فإن علم تحريمه وجهل الفدية وجبت.
(و) السابع (قتل الصيد) البري المأكول أو ما في أصله مأكول من وحش وطير. ويحرم أيضا صيده، ووضع اليد عليه والتعرض لجزئه وشعره وريشه.
(و) الثامن (عقد النكاح) فيحرم على المحرم أن يعقد النكاح لنفسه أو غيره، بوكالة أو ولاية.
(و) التاسع (الوطء) من عاقل عالم بالتحريم، سواء جامَع في حج أو

(1/155)


عمرة، في قبل أو دبر، من ذكر أو أنثى، زوجة أو مملوكة أو أجنبية.
(و) العاشر (المباشرة) فيما دون الفرج كلمس وقُبلة (بشهوة)؛ أما بغير شهوة فلا يحرم.
(وفي جميع ذلك) أي المحرمات السابقة (الفدية) وسيأتي بيانها. والجماع المذكور تفسد به العمرة المفردة. أما التي في ضمن حج في قران فهي تابعة له صحةً وفسادا. وأما الجماع فيفسد الحج قبل التحلل الأول بعد الوقوف أو قبله. أما بعد التحلل الأول فلا يفسد (إلا عقد النكاح؛ فإنه لا ينعقد ولا يفسده إلا الوطء في الفرج)، بخلاف المباشرة في غير الفرج، فإنها لا تفسده. (ولا يخرج) المحرم (منه بالفساد) بل يجب عليه المضي في فاسده. وسقط في بعض النسخ قوله: «في فاسده» أي النسك من حج أو عمرة، بأن يأتي ببقية أعماله.

• فوات الوقوف بعرفة
(ومن) أي والحاج الذي (فاته الوقوف بعرفةَ) بعذر وغيره (تحلل)

(1/156)


حتمًا (بعمل عمرة)، فيأتي بطواف وسعي إن لم يكن سعي بعد طواف القدوم، (وعليه) أي الذي فاته الوقوف (القضاء) فورا، فرضا كان نسكه أو نفلا. وإنما يجب القضاء في فوات لم ينشأ عن حصر؛ فإن أحصر شخص وكان له طريق غير التي وقع الحصر فيها لزمه سلوكُها وإن علم الفوات. فإن مات لم يقض عنه في الأصح. (و) عليه مع القضاء (الهدي). ويوجد في بعض النسخ زيادة، وهي: (ومن ترك ركنا) مما يتوقف عليه الحج (لم يحل من إحرامه حتى يأتي به) ولا يجبر ذلك الركن بدم؛ (ومن ترك واجبا) من واجبات الحج (لزمه الدم) وسيأتي بيان الدم. (ومن ترك سنة) من سنن الحج (لم يلزمه بتركها شيءٌ). وظهر من كلام المتن الفرق بين الركن والواجب والسنة.

(1/157)


• الدماء الواجبة في الإحرام
{فصل} في أنواع الدماء الواجبة في الإحرام بترك واجب أو فعل حرام. (والدماء الواجبة في الإحرام خمسة أشياء: أحدها الدم الواجب بترك نسك) أي تركِ مأمور به، كترك الإحرام من الميقات، (وهو) أي هذا الدم (على الترتيب) فيجب أولاً بترك المأمور به (شاة) تجزئ في الأضحية، (فإن لم يجدها) أصلا أو وجدها بزيادة على ثمن مثلها (فصيام عشرة أيام: ثلاثة في الحج) تسن قبل يوم عرفة، فيصوم سادسَ ذي الحجة وسابعَه وثامنه، (و) صيام (سبعة إذا رجع إلى أهله) ووطنه. ولا يجوز صيامها في أثناء الطريق. فإن أراد الإقامة بمكةَ صامها - كما في المحرر. ولو لم يصم الثلاثةَ في الحج ورجع لزمه صوم العشرة، وفرَّق بين الثلاثة والسبعة بأربعة أيام ومدة إمكان السير إلى الوطن. وما ذكره المصنف من كون الدم المذكور دم ترتيب موافق لما في الروضة وأصلها وشرح المهذب، لكن الذي في المنهاج تبعا للمحرر أنه دم ترتيب وتعديل؛ فيجب أولا شاة،

(1/158)


فإن عجز عنها اشترى بقيمتها طعاما وتصدق به، فإن عجز صام عن كل مد يوما.
(والثاني الدم الواجب بالحلق والترفه) كالطيب والدهن والحلق، إما لجميع الرأس أو لثلاث شعرات، (وهو) أي هذا الدم (على التخيير)، فيجب إما (شاة) تجزئ في الأضحية (أو صوم ثلاثة أيام، أو التصدق بثلاثة آصُعٍ على ستة مساكين) أو فقراء، لكل منهم نصف صاع من طعام يجزئ في الفطرة.
(والثالث الدم الواجب بإحصار، فيتحلل) المحرم بنية التحلل، بأن يقصد الخروج من نسكه بالإحصار (ويُهدِي) أي يذبح (شاة) حيث أحصر ويحلق رأسه بعد الذبح.
(والرابع الدم الواجب بقتل الصيد، وهو) أي هذا الدم (على التخيير) بين ثلاثة أمور (إن كان الصيد مما له مثلٌ). والمراد بمثل الصيد ما يقاربه في الصورة.

(1/159)


وذكر المصنف الأول من هذه الثلاثة في قوله: (أخرج المثل من النَّعَم) أي يذبح المثل من النعم ويتصدق به على مساكين الحرم وفقرائه؛ فيجب في قتل النعامة بدنةٌ، وفي بقر الوحش وحماره بقرة، وفي الغزال عنز. وبقية الصور الذي له مثل من النعم مذكورة في المطولات. وذكر الثاني في قوله: (أو قوَّمه) أي المثل بدراهم بقيمة مكة يومَ الإخراج (واشترى بقيمته طعاما) مجزئا في الفطرة (وتصدق به) على مساكين الحرم وفقرائه. وذكر المصنف أيضا الثالث في قوله: (أو صام عن كل مد يوما). فإن بقي أقل من مد صام عنه يوما. (وإن كان الصيد مما لا مثل له) فيتخير بين أمرين ذكرهما المصنف في قوله: (أخرج بقيمته طعاما) وتصدق به، (أو صام عن كل مد يوما). وإن بقي أقل من مد صام عنه يوما.
(والخامس الدم الواجب بالوطء) من عاقل عامد عالم بالتحريم، سواء جامع في قُبل أو دُبر كما سبق. (وهو) أي هذا الدم الواجب (على

(1/160)


الترتيب)؛ فيجب به أولا (بدنةٌ) وتطلق على الذكر والأنثى من الإبل، (فإن لم يجدها فبقرة، فإن
لم يجدها فسبع من الغنم، فإن لم يجدها قوَّم البدنة) بدراهم بسعر مكة وقت الوجوب، (واشترى بقيمتها طعاما وتصدق به) على مساكين الحرم وفقرائه، ولا تقدير في الذي يدفع لكل فقير. ولو تصدق بالدراهم لم يجزه، (فإن لم يجد) طعاما (صام عن كل مد يوما).
واعلم أن الهَدْي على قسمين: أحدهما ما كان عن إحصار، وهذا لا يجب بعثه إلى الحرم، بل ذبح في موضع الإحصار؛ والثاني الهدي الواجب بسبب ترك واجب أو فعل حرام، ويختص ذبحه بالحرم. وذكر المصنف هذا في قوله:
(ولا يجزئه الهدي ولا الإطعام إلا بالحرم). وأقل ما يجزئ أن يدفع الهدي إلى ثلاثة مساكين أو فقراء. (ويجزئه أن يصوم حيث شاء) من حرم أو غيره.

(1/161)


(ولا يجوز قتل صيد الحرم) ولو كان مُكرَهًا على قتله. ولو أحرم ثم جُنَّ فقتل صيدا لم يضمنه في الأظهر. (ولا) يجوز (قطع شجره) أي الحرم، ويضمن الشجرة الكبيرة ببقرة، والصغيرة بشاة، كل منهما بصفة الأضحية. ولا يجوز أيضا قطع ولا قلع نبات الحرم الذي لا يستنبته الناس، بل ينبت بنفسه. أما الحشيش اليابس فيجوز قطعه لا قلعه. (والمُحِلُّ) بضم الميم أي الحلال (والمُحْرِم في ذلك) الحكم السابق (سواء).
ولما فرغ المصنف من معاملة الخالق، وهي العبادات أخذ في معاملة الخلائق، فقال:

(1/162)