فتح القريب المجيب في شرح ألفاظ التقريب = القول المختار في شرح غاية الاختصار

كتاب أحكام البيوع
وغيرها من المعاملات كقراض وشركة
والبيوعُ جمعُ بَيع، والبَيعُ لغةً مُقابلةُ شيءٍ بشيء، فدخل ما ليس بمال كخمر؛ وأما شرعا فأحسن ما قيل في تعريفه: أنه تمليك عين مالية بمعاوضة بإذن شرعي، أو تمليك منفعة مباحة على التأبيد بثمن مالي. فخرج بمعاوضة القرضُ، وبإذن شرعي الربا. ودخل في منفعة تمليكُ حق البناء، وخرج بثمنٍ الأجرةُ في الإجارة؛ فإنها لا تسمى ثمنا.
(البيوع ثلاثة أشياء): أحدها (بيع عين مشاهدة) أي حاضرة (فجائز) إذا وجدت الشروط من كون المبيع طاهرا منتفعا به، مقدورا على تسليمه، للعاقد عليه ولاية. ولا بد في البيع من إيجاب وقبول؛ فالأول كقول البائع أو القائم مقامه: «بعتُك وملكتُك بكذا»؛ والثاني كقول المشتري أو القائم مقامه: «اشتريت وتملكتُ» ونحوهما. (و) الثاني من الأشياء (بيع شيء موصوف في الذمَّة) ويسمى هذا بالسلم (فجائز إذا وجدت) فيه (الصفة على ما وُصف به) من صفات

(1/163)


السلَم الآتية في فصل السلم. (و) الثالث (بيع عين غائبة لم تشاهد) للمتعاقدين؛ (فلا يجوز) بيعها. والمراد بالجواز في هذه الثلاثة الصحةُ. وقد يشعر قوله: «لم تشاهد» بأنها إن شوهدت ثم غابت عند العقد أنه يجوز، ولكن محل هذا في عين لا تتغير غالبا في المدة المتخللة بين الرؤية والشراء.
(ويصح بيع كل طاهر منتفع به مملوك). وصرح المصنف بمفهوم هذه الأشياء في قوله: (ولا يصح بيع عين نجسة) ولا متنجسة كخمر ودهن وخل متنجس ونحوه مما لا يمكن تطهيره، (ولا) بيع (ما لا منفعة فيه) كعقرب ونمل وسبع لا ينفع.

• الربا في الذهب والفضة والمطعومات
{فصل} في الربا - بألف مقصورة - لغةً الزيادةُ، وشرعًا مقابلةُ عوض بآخر مجهول التماثل في معيار الشرع حالةَ العقد أو مع تأخير في العِوَضَين أو أحدهما.

(1/164)


(والربا حرام، وإنما يكون في الذهب والفضة و) في (المطعومات). وهي ما يقصد غالبا للطعم اقتياتا أو تفكها أو تداويا. ولا يجري الربا في غير ذلك.
(ولا يجوز بيع الذهب بالذهب، ولا الفضة كذلك) أي بالفضة، مضروبين كانا أو غير مضروبين (إلا متماثلا) أي مثلا بمثل؛ فلا يصح بيع شيء من ذلك متفاضلا. وقوله: (نقدا) أي حالا يدا بيد؛ فلو بِيع شيء من ذلك مؤجلا لم يصح.
(ولا) يصح (بيع ما ابتاعه) الشخص (حتى يقبضه)، سواء باعه للبائع أو لغيره. (ولا) يجوز (بيع اللحم بالحيوان)، سواء كان من جنسه، كبيع لحم شاة بشاة أو من غير جنسه، لكن من مأكول كبيع لحم بقر بشاة. (ويجوز بيع الذهب بالفضة متفاضلا) لكن (نقدا) أي حالا مقبوضا قبل التفرق. (وكذلك المطعومات، لا يجوز بيع الجنس منها بمثله إلا متماثلا نقدا) أي حالا مقبوضا قبل التفرق. (ويجوز بيع الجنس منها بغيره متفاضلا) لكن (نقدًا) أي حالا مقبوضا قبل التفرق؛ فلو تفرق

(1/165)


المتبايعان قبل قبض كله بطل، أو بعد قبض بعضه ففيه قولاَ تفريقِ الصفقة. (ولا يجوز بيع الغرر) كبيع عبد من عبيده أو طير في الهواء.

• الخيار
{فصل} في أحكام الخيار. (والمتبايعان بالخيار) بين إمضاء البيع وفسخه، أي يثبت لهما خيار المجلس في أنواع البيع كالسَلَم (مالم يتفرقا) أي مدة عدم تفرقهما عرفا، أي ينقطع خيارُ المجلس إما بتفرُّق المتبايعين ببدنهما عن مجلس العقد أو بأن يختار المتبايعان لزومَ العقد. فلو اختار أحدهما لزومَ العقد ولم يختر الآخر فورا سقط حقه من الخيار، وبقي الحق للآخر.
(ولهما) أي المتبايعين، وكذا لأحدهما إذا وافقه الآخرُ (أن يشترطا الخيارَ) في أنواع المبيع (إلى ثلاثة أيام). وتحسب من العقد، لا من التفرق. فلو زاد الخيار على الثلاثة بطل العقد؛ ولو كان المبيع مما يفسد في المدة المشترطة بطل العقد.
(وإذا وجد بالمبيع عيب) موجود قبل القبض تنقص به القيمةُ أو العينُ

(1/166)


نقصًا يفوت به غرضٌ صحيح، وكان الغالب في جنس ذلك المبيع عدمَ ذلك العيب كزنا رقيق وسرقته وإباقه (فللمشتري ردُّه) أي المبيع.

• بيع الثمرة
(ولا يجوز بيع الثمرة) المنفردة عن الشجرة (مطلقا) أي عن شرط القطع (إلا بعدَ بُدُوِّ) أي ظهورِ (صلاحها)، وهو فيما لا يتلون انتهاءُ حالها إلى ما يقصد منها غالبا، كحلاوة قصب وحموضة رُمان ولين تِين، وفيما يتلون بأن يأخذ في حُمْرَةٍ أو سَوادٍ أو صُفرة، كالعناب والإجاص والبلح. أما قبل بُدُوِّ الصلاح فلا يصح بيعها مطلقا، لا من صاحب الشجرة ولا من غيره إلا بشرط القطع، سواء جرت العادة بقطع الثمرة أم لا. ولو قُطعت شجرةٌ عليها ثمرةٌ جاز
بيعها بلا شرطِ قطعها. ولا يجوز بيع الزرع الأخضر في الأرض إلا بشرطِ قطعِه أو قلعِه، فإن بيع الزرع مع الأرض أو منفردا عنها بعد اشتداد الحَبِّ جاز بلا شرط. ومن باع ثمرا أو زرعا لم يبدُ صلاحُه لزمه سقيُه قدر ما تنمو به الثمرةُ وتسلم عن التلف، سواء خَلَّى البائعُ بين المشتري والمبيع أو لم يُخَلِّ. (ولا) يجوز (بيع ما فيه الربا بجنسه رَطْبا) بسكون الطاء المهملة. وأشار بذلك إلى أنه يعتبر في بيع الربويات حالة الكمال؛ فلا يصح مثلا بيع عِنَب بعنب. ثم استثنى المصنفُ مما سبق قولَه: (إلا اللبنَ)، أي

(1/167)


فإنه يجوز بيع بعضه ببعض قبل تَجْبِينه. وأطلق المصنف اللبنَ فشمل الحليب والرائب والمخيض والحامض. والمعيارُ في اللبن الكيلُ حتى يصحَّ بيعُ الرائب بالحليب كيلا وإن تفاوتَا وزنًا.

• السَلَم
{فصل} في أحكام السلم. وهو والسلف لغةً بمعنى واحد، وشرعًا بيع شيء موصوف في الذمة، ولا يصح إلا بإيجاب وقبول.
(ويصح السَلَمُ حالاً ومؤجلا) فإن أطلق السلم انعقد حالا في الأصح؛ وإنما يصح السلم (فيما) أي في شيء (تكامل فيه خمسُ شرائط): أحدها (أن يكون) المُسلَم فيه (مضبوطا بالصفة) التي يختلف بها الغرضُ في المسلم فيه بحيث تنتفي بالصفةِ الجهالةُ فيه، ولا يكون ذكر الأوصاف على وجهٍ يؤدي لعِزَّة الوجود في المُسلَم فيه، كلؤلؤ كِبار وجاريةٍ وأختِها أو ولدها. (و) الثاني (أن يكون جنسا لم يختلط به غيره)؛ فلا يصح السلم في المختلط المقصود الأجزاء التي لا تنضبط كهريسة ومعجون؛ فإن انضبطت أجزاؤه صح السلم فيه كجبن وأقط.

(1/168)


والشرط الثالث مذكور في قوله: (ولم تدخله النار لإحالته) أي بأن
دخلته لطَبخ أو شَيٍّ؛ فإن دخلته النار للتمييز كالعَسل والسمِن صح السلم فيه. (و) الرابع (أن لا يكون) المسلم فيه (مُعيَّنا) بل دَينا؛ فلو كان معينا كأسلمت إليك هذا الثوب مثلا في هذا العبد فليس يسلم قطعا، ولا ينعقد أيضا بيعا في الأظهر. (و) الخامس أن (لا) يكون (من معين)، كأسلمت إليك هذا الدرهم في صاع من هذه الصُبْرة.

• شروط صحة المُسلم فيه
(ثم لصحة المُسلَم فيه ثمانية شرائط). وفي بعض النسخ «ويصح السلم بثمانية شرائط»: الأول مذكور في قول المصنف: (وهو أن يصفه بعدَ ذِكر جنسه ونوعه بالصفات التي يختلف بها الثمن)، فيذكر في السلَم في رقيقٍ مثلا نوعَه كتُركي أو هندي، وذُكورتَه أو أُنوثتَه، وسِنَّه تقريبا، وقَدَّه طولا أو قصرا أو رَبْعةً، ولونَه كأبيضَ، ويصف ببياضه بسمرة أو شقرة؛ ويذكر

(1/169)


في الإبل والبقر والغنم والخيلِ والبغالِ والحمير الذكورةَ والأنوثة والسنَّ واللون والنوعَ؛ ويذكر في الطير النوعَ والصغر والكبر والذكورةَ والأنوثةَ والسن إن عُرف؛ ويذكر في الثوب الجنسَ كقطن أو كتان أو حريرٍ، والنوعَ كقطن عراقي، والطولَ والعَرض والغِلظة والدقةَ والصفاقة والرقة والنعومة والخشونة. ويقاس بهذه الصوَر غيرُها. ومطلق السلم في الثوب يحمل على الخام، لا على المقصور. (و) الثاني (أن يذكر قدره بما ينفي الجهالة عنه)، أي أن يكون المسلم فيه معلومَ القدر كيلاً في مكيل، ووزنا في موزون، وعدًّا في معدود، وذرعا في مذروع. والثالث مذكور في قول المصنف: (وإن كان) السلم (مؤجلاً ذكر) العاقد (وقتَ محله) أي الأجل كشهر كذا؛ فلو أجل السلم بقدوم زيد مثلا لم يصح. (و) الرابع (أن يكون) المسلم فيه (موجودا عند الاستحقاق في الغالب) أي استحقاق تسليم المسلم فيه. فلو أسلم فيما لا يوجد عند المحل كرطب في الشتاء لم يصح. (و) الخامس (أن يذكر موضع قبضه)، أي محل التسليم إن كان

(1/170)


الموضع لا يصلح له أو صلح له، ولكن لحمله إلى موضع التسليم مؤنةٌ. (و) السادس (أن يكون الثمن معلوما) بالقدر أو بالرؤية له. (و) السابع (أن يتقابضا) أي المُسلِم والمُسلَم إليه في مجلس العقد (قبل التفرق)؛ فلو تفرقا قبل قبض رأس المال بطل العقد، أو بعد قبض بعضه ففيه خلاف تفريق الصفقة. والمعتبر القبض الحقيقي. فلو أحال المسلِم برأس مال السلم وقبضَه المُحتالُ، وهو المسلم إليه من المُحال عليه في المجلس لم يكفِ. (و) الثامن (أن يكون عقدُ السلم ناجزا لا يدخله خيار الشرط)، بخلاف خيار المجلس فإنه يدخله.

• الرهن
{فصل} في أحكام الرهن. وهو لغةً الثبوت، وشرعا جعل عين مالية وثيقةً بِدَينٍ يُستوفى منها عند تعذر الوفاء. ولا يصح الرهن إلا بإيجاب وقبول. وشرط كل

(1/171)


من الراهن والمُرْتهِن أن يكون مطلقَ التصرف. وذكَر المصنف ضابط المرهون في قوله: (وكل ما جاز بيعه جاز رهنه في الديون إذا استقر ثبوتها في الذمة). واحترز المصنف بـ «الديون» عن الأعيان؛ فلا يصح الرهن عليها كعين مغصوبة ومستعارة ونحوهما من الأعيان المضمونة. واحترز بـ «استقرار» عن الديون قبل استقرارها كدين السلم وعن الثمن مدةَ الخيار.
(وللراهن الرجوع فيه مالم يقبضه) أي المرتهن؛ فإن قبض العين المرهونة ممن يصح إقباضه لزم الرهن وامتنع على الراهن الرجوع فيه. والرهنُ وضعه على الأمانة. (و) حينئذ (لا يضمنه المرتهن) أي لا يضمن المرتهن المرهونَ (إلا بالتعدى) فيه. ولا يسقط بتلفه شيء من الدين. ولو ادعى تلفه ولم يذكر سببا لتلفه صدق بيمينه؛ فإن ذكر سببا ظاهرا لم يقبل إلا ببينة. ولو ادعى المرتهن ردَّ المرهون على الراهن لم يقبل إلا ببينة.
(وإذا قبض) المرتهن (بعض الحق) الذي على الراهن (لم يخرج) أي لم ينفك (شيء من الرهن حتى يُقضَى جميعُه) أي الحق الذي على الراهن.

(1/172)


• الحِجر
{فصل} في حِجر السفيه والمفلس. (والحِجْر) لغةً المنع، وشرعًا منع التصرف في المال، بخلاف التصرف في غيره كالطلاق، فينفذ من السفيه. وجعل المصنف الحجرَ (على ستة) من الأشخاص: (الصبي، والمجنون، والسفيه). وفسره المصنف بقوله: (المبذر لماله) أي الذي لم يصرفه في مصارفه، (والمفلس) وهو لغةً مَنْ صار مالُه فُلوسًا، ثم كنى به عن قلة المال أو عدمه، وشرعا الشخص (الذي ارتكبته الديون)، ولا يفي مالُه بدينه أو ديونه، (والمريض المخوف عليه) من مرضه. والحجر عليه (فيما زاد على الثلث) وهو ثلثا التركة لأجل حق الورثة. هذا إن لم يكن على المريض دينٌ؛ فإن كان عليه دين يستغرق تركتَه حجر عليه في الثلث وما زاد عليه، (والعبد الذي لم يؤذن له في التجارة)؛ فلا يصح تصرفه بغير إذن سيده. وسكت المصنف عن أشياء من الحِجْر مذكورة في المطولات. منها الحجر على المرتد لحق المسلمين، ومنها الحجر على الراهن لحق المرتهن.

(1/173)


(وتصرف الصبي والمجنون والسفيه غير صحيح)؛ فلا يصح منهم بيعٌ ولا شراءٌ ولا هبة ولا غيرها من التصرفات. وأما السفيه فيصح نكاحه بإذن وليه.
(وتصرف المفلس يصح في ذمته)؛ فلو باع سلَما طعاما أو غيرَه أو اشترى كلا منهما بثمن في ذمته صح، (دون) تصرفه في (أعيان ماله) فلا يصح. وتصرفه في نكاح مثلا أو طلاق أو خلع صحيح. وأما المرأة المفلسة، فإن اختلعت على عين لم يصح، أو دينٍ في ذمتها صح.
(وتصرف المريض فيما زاد على الثلث موقوف على إجازة الورثة)؛ فإن أجازوا الزائدَ على الثلث صح، وإلاَّ فلا. وإجازةُ الورثة وردُّهم حالَ المرض لا يعتبران، وإنما يعتبر ذلك (من بعده) أي من بعد موت المريض. وإذا أجاز الوارث ثم قال: «إنما أجزت لظني أن المال قليل، وقد بان خلافَه»، صدق بيمينه.
(وتصرف العبد) الذي لم يؤذن له في التجارة (يكون في ذمته). ومعنى كونه في ذمته أنه (يتبع به بعد عتقه إذا عتق). فإن أذِن له السيد في التجارة صح تصرفه بحسب ذلك الإذن.

(1/174)


• الصلح
{فصل} في الصلح. وهو لغةً قطع المنازعة، وشرعا عقدٌ يحصل به قطعُها. (ويصح الصلح مع الإقرار) أي إقرار المدعَى عليه بالمُدَّعَى به (في الأموال) وهو ظاهر، (و) كذا (ما أفضى إليها) أي الأموال كمن ثبت له على شخص قِصاصٌ، فصالحه عليه على مال بلفظ الصلح، فإنه يصح، أو بلفظ البيع فلا. (وهو) أي الصلح (نوعان: إبراء، ومعاوضة. فالإبراء) أي صلحه
(اقتصاره من حقه) أي دَينه (على بعضه)؛ فإذا صالحه من الألف الذي له في ذمة شخص على خمسمائة منها فكأنه قال له: أعطني خمسمائة وأبرأتُك من خمسمائة. (ولا يجوز) بمعنى لا يصح (تعليقه) أي تعليق الصلح بمعنى الإبراء (على شرط)، كقوله: إذا جاء رأس الشهر فقد صالحتك.
(والمعاوضة) أي صلحها (عدوله عن حقه إلى غيره) كأن ادعى عليه دارا أو شِقْصًا منها وأقرَّ له بذلك وصالحه منها على معين

(1/175)


كثوب، فإنه يصح، (ويجري عليه) أي على هذا الصلح (حكمُ البيع) فكأنه في المثال المذكور باعه الدار بالثوب، وحينئذ فيثبت في المصالح عليه أحكامُ البيع كالرد بالعيب ومنع التصرف قبل القبض، ولو صالحه على بعض العين المدعاة فهبة منه لبعضها المتروك منها، فيثبت في هذه الهبة أحكامها التي تذكر في بابها، ويسمى هذا صلح الحطيطة، ولا يصح بلفظ البيع للبعض المتروك كأن يبيعه العين المدعاة ببعضها.

• إشراع الروشن
(ويجوز للإنسان) المُسلِم (أن يُشرِع) بضم أوله وكسر ما قبل آخره، أي يُخْرِج (روشنا) ويسمى أيضا بالجناح، وهو إخراج خشب على جدار (في) هواء (طريق نافذ)، ويسمى أيضا بالشارع (بحيث لا يتضرر المارُّ به) أي الروشن، بل يرفع بحيث يمر تحته المار التام الطويل منتصبا.

(1/176)


واعتبر الماوردي أن يكون على رأسه الحمولة الغالبة. وإن كان الطريق النافذ ممَرَّ فرسان وقوافل فليرفع الروشن بحيث يمر تحته المحمل على البعير مع أخشاب المظلة الكائنة فوق
المحمل. أما الذمي فيمنع من إشراع الروشن والساباط وإن جاز له المرور في الطريق النافذ.
(ولا يجوز) إشراع الروشن (في الدرب المشترك إلا بإذن الشركاء) في الدرب. والمراد بهم من نفذ بابُ داره منهم إلى الدرب، وليس المراد بهم من لاصقه منهم جداره بلا نفوذ باب إليه. وكل من الشركاء يستحق الانتفاع من باب داره إلى رأس الدرب دون ما يلي آخر الدرب.
(ويجوز تقديم الباب في الدرب المشترك، ولا يجوز تأخيره) أي الباب (إلا بإذن الشركاء) فحيث منعوه لم يجز تأخيره. وحيث منع من التأخير فصالح شركاء الدرب بمال صح.

• شروط الحوالة
{فصل} في الحَوالَة، بفتح الحاء، وحكى كسرها. وهي لغةً التحول أي الانتقال،

(1/177)


وشرعا نقل الحق من ذمة المحيل إلى ذمة المُحال عليه. (وشرائط الحوالة أربعة): أحدها (رضا المحيل) وهو من عليه الدين، لا المحال عليه؛ فإنه لا يشترط رضاه في الأصح. ولا تصح الحوالة على من لا دَينَ عليه. (و) الثاني (قبول المحتال)، وهو مستحق الدين على المحيل. (و) الثالث (كون الحق) المحال به (مستقرا في الذمة). والتقييد بالاستقرار موافق لما قاله الرافعي، لكن النووي استدرك عليه في الروضة. وحينئذ فالمعتبر في دين الحوالة أن يكون لازما أو يؤول إلى اللزوم. (و) الرابع (اتفاق ما) أي الدين الذي (في ذمة المحيل والمحال عليه في الجنس) والقدر (والنوع والحلول والتأجيل) والصحة والتكسير، (وتبرأ بها) أي الحوالة (ذمة المحيل) أي عن دَين المحتال، ويبرأ أيضا المحالُ عليه عن دين المحيل، ويتحول حق المحتال إلى ذمة المحال عليه حتى لو تعذر أخذه من المحال عليه بفلس أو جحد للدين

(1/178)


ونحوهما لم يرجع على المحيل. ولو كان المحال عليه مفلسا عند الحوالة وجهله المحتال فلا رجوع له أيضا على المحيل.

• الضمان
{فصل} في الضمان. وهو مصدر ضمِنْتُ الشَيءَ ضَمانا إذا كفلتُه، وشرعًا التزام ما في ذمة الغير من المال. وشرط الضامن أن يكون فيه أهلية التصرف. (ويصح ضمان الديون المستقرة في الذمة إذا عُلم قدرُها). والتقييد بالمستقرة يشكل عليه صحة ضمان الصداق قبل الدخول؛ فإنه حينئذ غير مستقر في الذمة؛ ولهذا لم يعتبر الرافعي والنووي إلا كون الدَين ثابتا لازما. وخرج بقوله: «إذا عُلم قدرُها» الديونُ المجهولة؛ فلا يصح ضمانها - كما سيأتي.
(ولصاحب الحق) أي الدَين (مُطالبَة من شاء من الضامن والمضمون عنه) وهو من عليه الدين. وقوله: (إذا كان الضمان على ما بيَّنَّا) ساقط في أكثر نسخ المتن.

(1/179)


(وإذا غرم الضامن رجع على المضمون عنه) بالشرط المذكور في قوله: (إذا كان الضمان والقضاء) أي كل منهما (بإذنه) أي المضمون عنه. ثم صرح بمفهوم قوله سابقا «إذا عُلم قدرُها» بقوله هنا: (ولا يصح ضمان المجهول) كقوله: «بِع فلانا كذا، وعليَّ ضمانُ الثمن». (ولا) ضمان (ما لم يجب) كضمان مائة تجب على زيد في المستقبل (إلا دَرَك المبيع) أي ضمان درك المبيع،
بأن يضمن للمشتري الثمن إن خرج المبيع مستحقا، أو يضمن للبائع المبيع إن خرج الثمن مستحقا.

• الكفالة
{فصل} في ضمان غير المال من الأبدان. ويسمى كفالة الوجه أيضا، وكفالة البدن كما قال: (والكفالة بالبدن جائزة إذا كان على المكفول به) أي ببدنه (حق لآدمي) كقصاص وحدِّ قذف. وخرج بحق الآدمي حقُّ الله

(1/180)


تعالى؛ فلا تصح الكفالة ببدن مَن عليه حق الله تعالى، كحد سرقة وحد خمر وحد زنا. ويبرأ الكفيل بتسليم المكفول ببدنه في مكان التسليم بلا حائل يمنع المكفول له عنه. وأما مع وجود الحائل فلا يبرأ الكفيل.

• الشركة
{فصل} في الشركة. وهي لغةً الاختلاط، وشرعًا ثبوت الحق على جهة الشيوع في شيء واحد لاثنين فأكثر.
(وللشركة خمس شرائط): الأول (أن تكون) الشركة (على ناض) أي نقد (من الدراهم والدنانير) وإن كانا مغشوشين، واستمر رواجهما في البلد. ولا تصح في تِبْر وحُلِي وسبائك. وتكون الشركة أيضا على المثلي كالحنطة، لا المتقوم كالعروض من الثياب ونحوها. (و) الثاني (أن يتفقا في الجنس والنوع)؛ فلا تصح الشركة في الذهب والدراهم، ولا في صحاح ومكسرة، ولا في حنطة بيضاء وحمراء. (و) الثالث (أن يخلطا المالين) بحيث لا يتميزان.

(1/181)


(و) الرابع (أن يأذن كل واحد منهما) أي الشريكين (لصاحبه في التصرُّف). فإذا أذن له فيه تصرَّف بلا ضرر؛ فلا يبيع كل منهما نسيئة، ولا بغير نقد البلد، ولا بغبن فاحش، ولا يسافر بالمال المشترك إلا بإذن. فإن فعل أحد الشريكين ما نُهِي عنه لم يصح في نصيب شريكه؛ وفي نصيبه قولا تفريق الصفقة. (و) الخامس (أن يكون الربح والخسران على قدر المالين)، سواء تساوى الشريكان في العمل في المال المشترك أو تفاوتا فيه. فإن اشترطا التساوى في الربح مع تفاوت المالين أو عكسه لم يصح.
والشركة عقد جائز من الطرفين، (و) حينئذ (لكل واحد منهما) أي الشريكين (فسخها متى شاء)، وينعزلان عن التصرف بفسخهما. (ومتى مات أحدهما) أو جُنَّ أو أُغْمِي عليه (بطلت) تلك الشركة.

(1/182)


• الوكالة
{فصل} في أحكام الوَكَالَة. وهي بفتح الواو وكسرها في اللغة التفويض، وفي الشرع تفويض شخص شيأ، له فعلُه مما يقبل النيابةَ إلى غيره ليفعله حالَ حياته. وخرج بهذا القيد الإيصاء. وذكر المصنف ضابط الوكالة في قوله: (وكل ما جاز للإنسان التصرف فيه بنفسه جاز له أن يُوكِّل فيه) غيرَه (أو يتوكل فيه) عن غيره. فلا يصح من صبي أو مجنون أن يكون مُوكِّلا ولا وكيلا. وشرط الموكَّل فيه أن يكون قابلا للنيابة؛ فلا يصح التوكيل في عبادة بدنية إلا الحج وتفرقة الزكاة مثلا، وأن يملكه الموكل؛ فلو وكل شخصا في بيع عبد سيملكه أو في طلاق امرأة سينكحها بطل.
(والوكالة عقد جائز) من الطرفين، (و) حينئذ (لكل منهما) أي الموَكِّل والوكيل (فسخها متى شاء. وتنفسخ) الوكالة (بموت أحدهما) أو جنونه أو إغمائه.

(1/183)


(والوكيل أمين). وقوله: (فيما يقبضه، وفيما يصرفه) ساقط في أكثر النسخ. (ولا يضمن) الوكيل (إلا بالتفريط) فيما وكل فيه. ومِن التفريط تسليمه المبيعَ قبل قبض ثمنه.
(ولا يجوز) للوكيل وكالةً مطلقة (أن يبيع ويشتري إلا بثلاثة شرائط): أحدها (أن يبيع بثمن المثل)، لا بدونه ولا بغبن فاحش، وهو ما لا يحتمل في الغالب. (و) الثاني (أن يكون) ثمن المثل (نقدا)؛ فلا يبيع الوكيل نسيئةً وإن كان قدر ثمن المثل. والثالث أن يكون النقد (بنقد البلد). فلو كان في البلد نقدان باع بالأغلب منهما؛ فإن استويا باع بالأنفع للموكل؛ فإن استويا تُخُيِّر، ولا يبيع بالفلوس وإن راجت رواجَ النقود. (ولا يجوز أن يبيع) الوكيل بيعا مطلقا (من نفسه) ولا من ولده الصغير ولو صرح الموكل للوكيل في البيع من الصغير - كما قاله المتولي خلافا

(1/184)


للبغوي. والأصح أنه يبيع لأبيه وإن علا ولابنه البالغ وإن سفل إن لم يكن سفيها ولا مجنونا. فإن صرح الموكل بالبيع منهما صح جزما.
(ولا يُقِرُّ) الوكيل (على موكله)؛ فلو وكل شخصا في خصومة لم يملك الإقرارَ على الموكل، ولا الإبراء من دَينه ولا الصلح عنه. وقوله: (إلا بإذنه) ساقط في بعض النسخ. والأصح أن التوكيل في الإقرار لا يصح.

• الإقرار
{فصل} في أحكام الإقرار. وهو لغةً الإثبات، وشرعا إخبارٌ بحقٍ على المُقِرّ؛ فخرجت الشهادة، لأنها إخبارٌ بحق للغير على الغير. (والمقَرُّ به ضربان): أحدهما (حق الله تعالى) كالسرقة والزنا، (و) الثاني (حق الآدمي) كحد القذف لشخص. (فحق الله تعالى يصح الرجوع فيه عن الإقرار به) كأن يقولَ من أقرَّ

(1/185)


بالزنا: «رجعتُ عن هذا الإقرار أو كذبت فيه». ويُسن للمُقِرِّ بالزنا الرجوعُ عنه. (وحق الآدمي لا يصح الرجوع فيه عن الإقرار به). وفرق بين هذا والذي قبله بأَنَّ حَقَّ الله تعالى مبني على المسامحة، وحق الآدمي مبني على المشاحة.
(وتفتقر صحة الإقرار إلى ثلاثة شرائط): أحدها (البلوغ)، فلا يصح إقرار الصبي ولو مراهقا ولو بإذن وليه. (و) الثاني (العقل)، فلا يصح إقرار المجنون والمغمى عليه وزائل العقل بما يعذر فيه؛ فإن لم يعذر فحكمه كالسكران. (و) الثالث (الاختيار)، فلا يصح إقرار مُكرَه بما أكره عليه. (وإن كان) الإقرار (بمال اعتبر فيه شرط رابع، وهو الرشد). والمراد به كون المقِرّ مطلقَ التصرف. واحترز المصنف بمال عن الإقرار بغيره كطلاق وظهار ونحوهما؛ فلا يشترط في المقِر بذلك الرشدُ، بل يصح من الشخص السفيه.
(وإذا أقرَّ) الشخص (بمجهول) كقوله: «لفلان عليَّ شيءٌ»، (رُجع)

(1/186)


بضم أوله (إليه) أي المقر (في بيانه) أي المجهول، فيقبل تفسيره بكل ما يُتمَوَّل وإن قل كفلس. ولو فسر المجهول بما لا يتمول لكن من جنسه كحَبَّة حِنطة، أو ليس من جنسه لكن يحل اقتناؤه كجلد ميتة وكلبٍ مُعَلَّم وزبلٍ قُبل تفسيره في جميع ذلك على الأصح.
ومتى أقر بمجهول وامتنع من بيانه بعد أن طولب به حبس حتى يبين المجهول. فإن مات قبل البيان طولب به الوارث ووقف جميع التركة.
(ويصح الاستثناء في الإقرار إذا وصله به) أي وصل المقر الاستثناء بالمستثنى منه؛ فإن فصل بينهما بسكوت أو كلام كثير أجنبي ضرَّ. أما السكوت اليسير كسكتة تنفس فلا يضر. ويشترط أيضا في الاستثناء أن لا يستغرق المستثنى منه؛ فإن استغرقه نحو: «لزيد عليَّ عشرة إلا عشرة» ضرَّ.
(وهو) أي الإقرار (في حال الصحة والمرض سواء)، حتى لو أقر شخص في صحته بدَين لزيد وفي مرضه بدين لعمرو لم يقدم الإقرار الأول، وحينئذ فيقسم المقَرّ به بينهما بالسوية.

(1/187)


• العارية
{فصل} في أحكام العارية. وهي بتشديد الياء في الأفصح مأخوذة من عار إذا ذهب. وحقيقتها الشرعية إباحة الانتفاع من أهل التبرع بما يحل الانتفاع به مع بقاء عينه ليرده على المتبرع. وشرط المعير صحة تبرعه وكونه مالكا لمنفعة ما يعيره. فمن لا يصح تبرعه كصبي ومجنون لا تصح إعارته. ومن لا يملك المنفعة كمستعير لا تصح إعارته إلا بإذن المعير. وذكر المصنف ضابط المُعار في قوله: (وكل ما يمكن الانتفاع به) منفعةً مباحةً (مع بقاء عينه جازت إعارته)؛ فخرج بمباحة آلةُ اللهو، فلا تصح إعارتها؛ وببقاء عينه إعارةُ الشمعة للوقود، فلا تصح.
وقوله: (إذا كانت منافعه آثارا) مخرج للمنافع التي هي أعيان كإعارة شاة للبنها وشجرةٍ لثمرتها ونحو ذلك؛ فإنه لا يصح. فلو قال لشخص: خذ هذه الشاة فقد أبحتُك دَرَّها ونسلها، فالإباحة صحيحة والشاة عارية.
(وتجوز العارية مطلقا) من غير تقييد بوقت (ومقيدا بمدة) أي بوقتٍ كأعَرتُك هذا الثوب شهرا. وفي بعض النسخ «وتجوز العارية مطلقة ومقيدة بمدة». وللمعير الرجوع في كل منهما متى شاء.

(1/188)


(وهي) أي العارية إذا تلفت، لا باستعمال مأذون فيه (مضمونة على المستعير بقيمتها يوم تلفها) لا بقيمتها يوم طلبها، ولا بأقصى القِيَم. فإن تلفت باستعمال مأذون فيه كإعارة ثوب للُبسه فانسحق أو انمحق بالاستعمال فلا ضمان.

• الغصب
{فصل} في أحكام الغصب. وهو لغةً أخذ الشيء ظُلمًا مجاهرة، وشرعا الاستيلاء على حق الغير عُدْوانًا. ويُرجع في الاستيلاء للعرف. ودخل في حق الغير ما يصح غصبه مما ليس بمال كجلد ميتة. وخرج بعُدوانا الاستيلاء على مال الغير بعقد.
(ومن غصب مالا لأحد لزمه ردُّه) لمالكه ولو غرِم على رده أضعافَ قيمته. (و) لزمه أيضا (أرش نقصه) إن نقص، كمن غصب ثوبا فلبسه أو نقص

(1/189)


بغير لبس، (و) لزمه أيضا (أجرة مثله). أما لو نقص المغصوب برخص سعره فلا يضمنه الغاصب على الصحيح. وفي بعض النسخ «ومن غصب مال امرئ أجبر على رده».
(فإن تلف) المغصوب (ضمنه) الغاصب (بمثله إن كان له) أي المغصوب (مثل). والأصح أن المثلي ما حصره كيلٌ أو وزن وجاز السلم فيه، كنحاس وقطن، لا غالية ومعجون. وذكر المصنف ضمان المتقوم في قوله: (أو) ضمنه (بقيمته إن لم يكن له مثل) بأن كان متقوما، واختلفت قيمته (أكثر ما كانت من يوم الغصب إلى يوم التلف). والعبرة في القيمة بالنقد الغالب؛ فإن غلب نقدان وتساويا قال الرافعي: عَيَّن القاضي واحدا منهما.

• الشُّفْعة
{فصل} في أحكام الشفعة. وهي بسكون الفاء، وبعض الفقهاء يضمها، ومعناها لغةً الضم، وشرعا حق تملك قهري يثبت للشريك القديم على الشريك الحادث

(1/190)


بسبب الشركة بالعوض الذي ملك به. وشرعت لدفع الضرر.
(والشفعة واجبة) أي ثابتة للشريك (بالخلطة) أي خلطة الشيوع، (دون) خلطة (الجوار)؛ فلا شفعة لجار الدار ملاصقا كان أو غيره. وإنما تثبت الشفعة (فيما ينقسم) أي يقبل القسمة (دون ما لا ينقسم) كحمام صغير؛ فلا شفعةَ فيه. فإن أمكن انقسامه كحمام كبير يمكن جعله حمامين تثبت الشفعة فيه. (و) الشفعة ثابتة أيضا (في كل ما لا ينقل من الأرض) غير الموقوفة والمحتكرة (كالعَقار وغيره) من البناء والشجر تبعا للأرض. وإنما يأخذ الشفيع شِقْصَ العَقار (بالثمن الذي وقع عليه البيع). فإن كان الثمن مثليا كحَبٍّ ونقد أخذه بمثله، أو مُتقوَّما كعبد وثوب أخذه بقيمته يوم البيع.
(وهي) أي الشفعة بمعنى طلبها (على الفور). وحينئذ فليبادر الشفيع إذا علم بيع الشقص بأخذه. والمبادرة في طلب الشفعة على العادة؛ فلا يكلف الإسراع على خلاف عادته بعَدْو أو غيره، بل الضابط في ذلك أن ما عُدَّ توانيا في طلب الشفعة أسقطها، وإلا فلا. (فإن أخَّرها) أي الشفعة (مع القدرة عليها بطلت). فلو كان مريد الشفعة مريضا أو غائبا عن بلد المشتري أو محبوسا أو خائفا من

(1/191)


عَدُوٍّ فليوكل إن قدر، وإلا فليشهد على الطلب. فإن ترك المقدور عليه من التوكيل أو الإشهاد بطل حقه في الأظهر. ولو قال الشفيع: «لم أعلم أن حق الشفعة على الفور»، وكان ممن يخفى عليه ذلك صدق بيمينه.
(وإذا تزوج) شخص (امرأة على شِقْص أخذه) أي أخذ (الشفيعُ) الشِقصَ (بمهر المثل) لتلك المرأة، (وإن كان الشفعاء جماعة استحقوها) أي الشفعة (على قدر) حِصَصِهم من (الأملاك). فلو كان لأحدهم نصف عقار وللآخر ثلثه وللآخر سدسه فباع صاحب النصف حصته أخذها الآخران أثلاثا.

• القراض
{فصل} في أحكام القراض. وهو لغةً مشتق من القَِرْض، وهو القطع؛ وشرعا دفع المالك مالاً للعامل ليعمل فيه، والربح بينهما.

(1/192)


(وللقراض أربعة شرائط): أحدها (أن يكون على ناضٍ) أي نقد (من الدراهم والدنانير) الخالصة؛ فلا يجوز القراض على تبر، ولا على حُلي، ولا مغشوش، ولا عروض، ومنها الفلوس. (و) الثاني (أن يأذن رب المال للعامل في التصرف) إذنا (مطلقا)؛ فلا يجوز للمالك أن يضيِّق التصرفَ على العامل، كقوله: «لا تشتر شيئا حتى تشاورَني»، أو «لا تشتر إلا الحنطة البيضاء» مثلا. ثم عطف المصنف على قوله سابقا «مطلقا» قوله هنا: (أو فيما) أي في التصرف في شيء (لا ينقطع وجوده غالبا). فلو شرَّط عليه شراءَ شيء يندر وجودُه كالخيل البَلَق لم يصح. (و) الثالث (أن يشترط له) أي يشترط المالك للعامل (جزءا معلوما من الربح) كنصفه أو ثلثه. فلو قال المالك للعامل: قارَضتك على هذا المال على أن لك فيه شِركةً أو نصيبا منه فسد القراض، أو على أن الربح بيننا صح، ويكون الربح نصفين. (و) الرابع (أن لا يُقَدَّر) القراض (بمدة) معلومة، كقوله: «قارضتك سَنةً».

(1/193)


وأن لا يعلق بشرط، كقوله: «إذا جاء رأس الشهر قارضتك».
والقرض أمانة (و) حينئذ (لا ضمانَ على العامل) في مال القراض (إلا بعدوان) فيه؛ وفي بعض النسخ «بالعدوان». (وإذا حصل) في مال القراض (ربح وخسران جبر الخسران بالربح). واعلم أن عقد القراض جائز من الطرفين، فلكل من المالك والعامل فسخه.

• المساقاة
{فصل} في أحكام المُساقاة. وهي لغةً مشتقة من السقي، وشرعًا دفع الشخص نخلا أو شجرَ عِنَب لمن يتعهده بسقي وتربية على أن له قدرا معلوما من ثمره. (والمساقاة جائزة على) شيئين فقط: (النخل والكَرْم)؛ فلا تجوز المساقاة على غيرهما كتِينٍ ومِشْمِش. وتصح المساقاة من جائز التصرف لنفسه ولصبي ومجنون بالولاية عليهما عند المصلحة.

(1/194)


وصيغتها: «ساقيتُكَ على هذا النحل بكذا، أو سلمته إليك لتتعهده» ونحو ذلك. ويشترط قبول العامل. (ولها) أي للمساقاة (شرطان: أحدهما أن يقدرها) المالك (بمدة معلومة) كسنة هلالية. ولا يجوز تقديرها بإدراك الثمرة في الأصح. (والثاني أن يعيّن) المالك (للعامل جزءا معلوما من الثمرة)، كنصفها أو ثلثها. فلو قال المالك للعامل: «على أن ما فتح الله به من الثمرة يكون بيننا» صح، وحمل على المناصفة.
(ثم العمل فيها على ضربين): أحدهما (عمل يعود نفعه إلى الثمرة)، كسقي النخل وتلقيحه بوضع شيء من طلع الذكور في طلع الإناث؛ (فهو على العامل، و) الثاني (عمل يعود نفعه إلى الأرض) كنصب الدواليب وحفر الأنهار؛ (فهو على رب المال).

(1/195)


ولا يجوز أن يشرط المالك على العامل شيئا ليس من أعمال المساقاة كحفر نهر. ويشترط أيضا انفراد العامل بالعمل. فلو شرط رب المال عمل غلامه مع العامل لم يصح.
واعلم أن عقد المساقاة لازم من الطرفين. ولو خرج الثمر مستحقا، كأن أوصى بثمرة النحل المساقى عليها؛ فللعامل على رب المال أجرةُ المثل لعمله.

• الإِجارة
{فصل} في أحكام الإِجارة. وهي بكسر الهمزة في المشهور، وحكي ضمها. وهي لغةً اسم للأجرة، وشرعًا عقدٌ على منفعة معلومة مقصودة قابلة للبذل والإباحة بعوض معلوم. وشرط كل من المؤجِر والمستأجر الرشدُ وعدم الإكراه. وخرج بمعلومة الجعالةُ، وبمقصودة استئجارُ تفاحة لشمها، وبقابلة للبذل منفعةُ البُضع؛ فالعقد عليها لا يسمى إجارة، وبالإباحة إجارةُ الجواري للوطء، وبعوضٍ الإعارةُ، وبمعلومٍ عَوضُ المساقاة.
ولا تصح الإجارة إلا بإيجابٍ كآجرتُك، وقبولٍ كاستأجرتُ. وذكر المصنف ضابطَ ما تصح إجارته بقوله: (وكل ما أمكن الانتفاع به مع

(1/196)


بقاء عينه) كاستئجار دار للسكنى، ودابة للركوب (صحت إجارتُه)، وإلا فلا. ولصحة إجارة ما ذكر شروط، ذكرها بقوله: (إذا قُدِّرَت منفعته بأحد أمرين): إما (بمدة)، كآجرتك هذه الدار سَنةً (أو عمل) كاستأجرتك لتخيط لي هذا الثوب.
وتجب الأجرة في الإجارة بنفس العقد. (وإطلاقها يقتضي تعجيل الأجرة إلا أن يشترط) فيها (التأجيل)، فتكون الأجرة مؤجلة حينئذ.
(ولا تبطل الإجارة بموت أحد المتعاقدين) أي المؤجر والمستأجر، ولا بموت المتعاقدين، بل تبقى الإجارة بعد الموت إلى انقضاء مدتها، ويقوم وارث المستأجر مقامه في استيفاء منفعة العين المؤجَرة. (وتبطل) الإجارة (بتلف العين المستأجرة)، كانهدام الدار وموت الدابة المعينة. وبطلانُ الإجارة بما ذكر بالنظر للمستقبل، لا الماضي؛ فلا تبطل الإجارة فيه في الأظهر، بل يستقر قسطه من المسمى باعتبار أجرة المثل، فتُقَوَّم المنفعةُ حال العقد في المدة الماضية. فإذا قيل كذا يؤخذ بتلك النسبة من المسمى. وما تقدم من عدم الانفساخ في

(1/197)


الماضي مقيد بما بعد قبض العين المؤجرة، وبعد مضي مدة لها أجرةٌ، وإلاَّ تنفسخ في المستقبل والماضي. وخرج بالمعيَّنة ما إذا كانت الدابةُ المؤجرة في الذمة، فإن المؤجر إذا أحضرها وماتت في أثناء المدة فلا تنفسخ الإجارة، بل يجب على المؤجر إبدالها.
واعلم أن يد الأجير على العين المؤجرة يدُ أمانة، (و) حينئذ (لا ضمان على الأجير إلا بعدوان) فيها، كأن ضرب الدابة فوق العادة، أو أركبها شخصا أثقل منه.

• الجعالة
{فصل} في أحكام الجِعالة. وهي بتثليث الجيم، ومعناها لغةً ما يُجعَل لشخص على شيء يفعله، وشرعا التزام مطلق التصرف عوضا معلوما على عمل معين أو مجهول لمعين أو غيره. (والجعالة جائزة) من الطرفين: طرف الجاعل، والمجعول له. (وهي أن يشترط في رد ضالته عوضا معلوما) كقول مطلق التصرف: «مَن ردَّ ضالتي

(1/198)


فله كذا». (فإذا ردها استحقَّ) الرادُّ (ذلك العوض المشروط) له.

• المخابرة
{فصل} في أحكام المخابرة. وهي عمل العامل في أرض المالك ببعض ما يخرج منها، والبذر من العامل. (وإذا دفع) شخص (إلى رجل أرضا ليزرعها وشرط له جزءا معلوما من رَيعها لم يجز) ذلك، لكن النووي تبعا لابن المنذر اختار جواز المخابرة. وكذا المزارعة؛ وهي عمل العامل في الأرض ببعض ما يخرج منها، والبذر من المالك. (وإن أكراه) أي شخصا (إياها) أي أرضا (بذهب أو فضة أو شرط له طعاما معلوما في ذمته جاز). أما لو دفع لشخص أرضا فيها نخل كثير أو قليل فساقاه عليه وزرعه على الأرض فتجوز هذه المزارعة تبعا للمساقاة.

(1/199)


• إحياء الموات
{فصل} في أحكام إحياء الموات. وهو - كما قال الرافعي في الشرح الصغير - أرضٌ لا مالكَ لها، ولا ينتفع بها أحدٌ. (وإحياء الموات جائز بشرطين): أحدهما (أن يكون المحي مسلما)، فيسن له إحياء الأرض الميتة، سواء أذن له الإمام أم لا، اللهُمَّ إلا أن يتعلق بالموات حق، كأن حمَّى الإمام قطعة منه فأحياها شخص، فلا يملكها إلا بإذن الإمام في الأصح. أما الذمي والمُعاهَد والمُستأمَن فليس لهم الإحياء ولو أذن لهم الإمام. (و) الثاني (أن تكون الأرض حرة، لم يجرِ عليها مِلكٌ لمسلم). وفي بعض النسخ «أن تكون الأرض حرة». والمراد من كلام المصنف أن ما كان معمورا وهو الآن خراب فهو لمالكه إن عُرف، مسلما كان أو ذميا. ولا يُملَك هذا الخراب بالإحياء. فإن لم يُعرف مالكُه والعمارة إسلامية، فهذا المعمور مال ضائع، الأمر فيه لرأي الإمام في حفظه أو بيعه وحفظ ثمنه. وإن كان المعمور جاهليةً مُلِك بالإحياء.

(1/200)


(وصفة الإحياء ما كان في العادة عمارة للمُحيا)، ويختلف هذا باختلاف الغرض الذي يقصده المحي؛ فإذا أراد المحي إحياء الموات مسكنا اشترط فيه تحويط البقعة ببناء حيطانها بما جرت به عادةُ ذلك المكان من آجر أو حَجَر أو قصب. واشترط أيضا سقف بعضها ونصب باب. وإن أراد المحي إحياء الموات زريبة دواب فيكفي تحويط دون تحويط السكنى. ولا يشترط السقف. وإن أراد المحي إحياء الموات مزرعةً فيجمع التراب حولها، ويسوي الأرض بكَسْح مُستَعل فيها، وطَمِّ مُنخَفض، وترتيب ماء لها بشق ساقية من بئر أو حفر قناة، فإن كفاها المطر المعتاد لم يحتج لترتيب الماء على الصحيح. وإن أراد المحي إحياء الموات بستانا فجمع التراب والتحويط حول أرض البستان إن جرت به عادةٌ. ويشترط مع ذلك الغرس على المذهب.

• بذل الماء
واعلم أن الماء المختص بشخص لا يجب بذله لماشية غيره مطلقا. (و) إنما (يجب بذل الماء بثلاثة شرائط): أحدها (أن يفضُل عن حاجته) أي صاحب الماء؛ فإن لم يفضل عن حاجته بدأ بنفسه، ولا يجب بذله لغيره.

(1/201)


(و) الثاني (أن يحتاج إليه غيرُه) إما (لنفسه أو لبهيمته). هذا إذا كان هناك كلاء ترعاه الماشية، ولا يمكن رعيه إلا بسقي الماء. ولا يجب عليه بذل الماء لزرع غيره ولا لشجره. (و) الثالث (أن يكون) الماء في مقره وهو (مما يستخلف في بئر أو عين). فإذا أخذ هذا الماء في إناء لم يجب بذله على الصحيح. وحيث وجب البذل للماء فالمراد به تمكين الماشية من حضورها البئرَ إن لم يتضرر صاحب الماء في زرعه أو ماشيته؛ فإن تضرر بورودها منعت منه واستقى لها
الرعاة - كما قاله الماوردي. وحيث وجب البذل للماء امتنع أخذ العوض عليه على الصحيح.

(1/202)


• الوقف
{فصل} وهو لغةً الحبس، وشرعًا حبسُ مالٍ مُعَيَّن قابل للنقل يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه وقطع التصرف فيه على أن يصرف في جهة خير تقربا إلى الله تعالى. وشرط الواقف صحة عبارته وأهلية التبرع.
(والوقف جائز بثلاثة شرائط). وفي بعض النسخ «والوقف جائز، وله ثلاثة شروط»: أحدها (أن يكون) الموقوف (مما ينتفع به مع بقاء عينه)، ويكون الانتفاع مباحا مقصودا؛ فلا يصح وقف آلة اللهو، ولا وقف دراهم للزينة. ولا يشترط النفع في الحال، فيصح وقف عبد وجحش صغيرين. وأما الذي لا تبقى عينه كمطعوم وريحان فلا يصح وقفه. (و) الثاني (أن يكون) الوقف (على أصل موجود وفرع لا ينقطع)، فخرج الوقف على من سيولد للواقف، ثم على الفقراء. ويسمى هذا منقطع الأول؛ فإن لم يقل «ثم على الفقراء» كان منقطعَ الأول والآخر. وقوله: «لا ينقطع» احترازٌ عن الوقف المنقطع الآخر، كقوله: «وقفت هذا على زيد ثم نسله»، ولم يزد على ذلك. وفيه طريقان: أحدهما أنه

(1/203)


باطل كمنقطع الأول، وهو الذي مشى عليه المصنف، لكن الراجح الصحة. (و) الثالث (أن لا يكون) الوقف (في محظور) بظاء مُشالَة، أي مُحرَم؛ فلا يصح الوقف على عمارة كنيسة للتعبد. وأفهم كلامُ المصنف أنه لا يشترط في الوقف ظهور قصد القربة، بل انتفاء المعصية، سواء وجد في الوقف ظهورُ قصد القربة كالوقف على الفقراء، أم لا كالوقف على الأغنياء. ويشترط في الوقف أن لا يكون مؤقتا كوقفت هذا سنةً. وأن لا يكون معلقا كقوله: إذا جاء رأس الشهر فقد وقفت كذا.
(وهو) أي الوقف (على ما شرط الواقف) فيه (من تقديم) لبعض الموقوف عليهم، كوقفت على أولادي الأورع منهم، (أو تأخير) كوقفت على أولادي. فإذا انقرضوا فعلى أولادهم، (أو تسوية) كوقفت على أولادي بالسوية بين ذكورهم وإناثهم، (أو تفضيل) لبعض الأولاد على بعض، كوقفت على أولادي للذكر منهم حظ الأنثيين.

(1/204)


• الهبة
{فصل} في أحكام الهبة. وهي لغةً مأخوذة من هُبوب الريح. ويجوز أن تكون من هَبَّ من نومه إذا استيقظ، فكأن فاعلها استيقظ للإحسان. وهي في الشرع تمليكٌ منجزٌ مطلق في عينٍ حالَ الحياة بلا عوض ولو من الأعلى. فخرج بالمنجز الوصيةُ، وبالمطلق التمليكُ المؤقت، وخرج بالعين هِبَّةُ المنافع، وخرج بحال الحياة الوصيةُ. ولا تصح الهبة إلا بإيجاب وقبول، لفظًا. وذكر المصنف ضابط الموهوب في قوله: (وكل ما جاز بيعه جازت هِبَّتُه). وما لا يجوز بيعه كمجهول لا تجوز هبته إلا حبتي حنطة ونحوهما، فلا يجوز بيعهما ويجوز هبتهما ولا تملك. (ولا تلزم الهبة إلا بالقبض) بإذن الواهب؛ فلو مات الموهوب له أو الواهب قبل قبض الهبة لم تنفسخ الهبة، وقام وارثه مقامَه في القبض والإقباض. (وإذا قبضها الموهوب له لم يكن للواهب أن يرجع فيها إلا أن يكون والدا) وإن علا.

(1/205)


(وإذا أعمر) شخص (شيئا) أي دارا مثلا، كقوله: «أعمرتُك هذه الدار»، (أو أرقبه) إياها، كقوله: «أرقبتك هذه الدار وجعلتها لك رقبي»، أي إن إن مِتَّ قبلي عادت إليَّ، وإن مِتُّ قبلك استقرت لك، فقبل وقبض (كان) ذلك الشيء (للمُعَمَّر أو للمرَقَّب) بلفظ اسم المفعول فيهما (ولورثته من بعده). ويلغو الشرط المذكور.

• اللقطة
{فصل} في أحكام اللُّقَطة. وهي بفتح القاف اسم للشيء المُلتَقَط. ومعناها شرعًا مالٌ ضاع من مالكه بسقوط أو غفلة ونحوهما. (وإذا وجد) شخص بالغا كان أو لا، مسلما كان أو لا، فاسقا كان أو لا (لُقَطةً في موات أو طريق فله أخذها أو تركها؛ و) لكن (أخذها أولى من تركها إن كان) الآخذ لها (على ثِقة من القيام بها). فلو تركها من غيرِ أَخْذٍ لم يضمنها، ولا يجب الإشهاد على التقاطها لتملك أو حفظ. وينزع

(1/206)


القاضي اللقطة من الفاسق ويضعها عند عَدْل. ولا يعتمد تعريف الفاسق اللقطةَ بل يضم القاضي إليه رقيبا عَدْلاً يمنعه من الخيانة فيها. وينزع الولي اللقطة من يد الصبي ويُعرِّفها، ثم بعد التعريف يتملك اللقطة للصبي إن رأى المصلحة في تملكها له.
(وإذا أخذها) أي اللقطة (وجب عليه أن يَعرِف) في اللقطة عقبَ أخذها (ستة أشياء: وِعاءها) من جلد أو خرقة مثلا، (وعِفاصَها)، وهو بمعنى الوعاء (ووِكاءها) بالمد، وهو الخيط الذي تربط به، (وجنسها) من ذهب أو فضة، (وعددها، ووزنها). ويُعْرف بفتح أوله وسكون ثانيه من المعرفة، لا من التعريف. (و) أن (يحفظها) حتما (في حرز مثلها، ثم) بعد ما ذكر (إذا أراد) الملتقط (تملكها عرَّفها) بتشديد الراء من التعريف، لا من المعرفة (سنةً على أبواب

(1/207)


المساجد) عند خروج الناس من الجماعة، (وفي الموضع الذي وجدها فيه)، وفي الأسواق ونحوها من مجامع الناس. ويكون التعريف على العادة زمانا ومكانا. وابتداء السَنة يحسب من وقت التعريف، لا من وقت الالتقاط. ولا يجب استيعاب السنة بالتعريف، بل يُعرِّف أولاً كلَّ يوم مرتين طرفَي النهار، لا ليلا، ولا وقتَ القيلولة، ثم يُعَرِّف بعد ذلك كل أسبوع مرةً أو مرتين. ويذكر الملتقط في تعريف اللقطة بعض أوصافها؛ فإن بالغ فيها ضمن، ولا يلزمه مؤنة التعريف إن أخذ اللقطة ليحفظها على مالكها، بل يرتبها القاضي من بيت المال أو يقترضها على المالك. وإن أخذ اللقطة ليتملكها وجب عليه تعريفها ولزمه مؤنة تعريفها، سواء تملكها بعد ذلك أم لا.
ومن التقط شيأ حقيرا لا يُعرِّفه سَنةً، بل يعرفه زمنا يظن أن فاقده يعرض عنه بعد ذلك الزمن. (فإن لم يجد صاحبها) بعد تعريفها سنة (كان له أن يتملكها بشرط الضمان) لها. ولا يتملكها الملتقطُ بمجرد مُضِي السنة، بل لا بد من لفظ يدل على التملك، كتملكت هذه اللقطة. فإن تملكها وظهر مالكها وهي باقية واتفقا على رد عينها أو بدلها، فالأمر فيه واضح؛ وإن تنازعا فطلبها المالك وأراد الملتقط العدول إلى بدلها أجيب المالك في الأصح. وإن تَلِفَت اللقطة بعد تملكها

(1/208)


غرم الملتقط مثلَها إن كانت مثلية، أو قيمتَها إن كانت متقومة يومَ التملك لها. وإن نقصت بعيب فله أخذها مع الإرش في الأصح.
(واللقطة) وفي بعض النسخ «وجملة اللقطة» (على أربعة أضرب: أحدها ما يبقى على الدوام) كذهب وفضة؛ (فهذا) أي ما سبق من تعريفها سنةً وتملكها بعد السنة (حكمه) أي حكم ما يبقى على الدوام.
(و) الضرب (الثاني ما لا يبقى) على الدوام، (كالطعام الرطب؛ فهو) الملتقط له (مُخَيَّر بين) خصلتين (أكلِه وغرمِه) أو غرم قيمته (أو بيعه وحفظ ثمنه) إلى ظهور مالكه.

(1/209)


(والثالث ما يبقى بعلاج) فيه، (كالرطب) والعِنب (فيفعل ما فيه المصلحة، مِن بيعه وحفظ ثمنه، أو تجفيفه وحفظه) إلى ظهور مالكه.
(والرابع ما يحتاج إلى نفقة، كالحيوان؛ وهو ضربان): أحدهما (حيوان لا يمتنع بنفسه) من صغار السباع كغنم وعِجل؛ (فهو) أي الملتقط (مخير) فيه (بين) ثلاثة أشياء: (أكله وغرم ثمنه، أو تركه) بلا أكل (والتطوع بالإنفاق عليه أو بيعه وحفظ ثمنه) إلى ظهور مالكه. (و) الثاني (حيوان يمتنع بنفسه) من صغار السباع، كبعير وفرس؛ (فإن وجده) الملتقط (في الصحراء تركه) وحرم التقاطه للتملك. فلو أخذه للتملك ضمنه، (وإن وجده) الملتقط (في الحضر؛ فهو مخَيَّر بين الأشياء

(1/210)


الثلاثة فيه). والمراد الثلاثة السابقة فيما لا يمتنع.

• اللقيط
{فصل} في أحكام اللقيط. وهو صبيٌّ منبوذٌ لاَ كافِلَ له من أب أو جد أو ما يقوم مقامهما. ويلحق بالصبي - كما قال بعضهم - المجنون البالغ.
(وإذا وُجِد لقيطٌ) بمعنى ملقوط (بقارعة الطريق فأَخْذُه) منها (وتربيته وكفالتُه واجبةٌ على الكفاية). فإذا التقطه بعض ممن هو أهل لحضانة اللقيط سقط الإثمُ عن الباقي؛ فإن لم يلتقطه أحدٌ أَثِم الجميعُ. ولو علم به واحدٌ فقط تعيَّن عليه، ويجب في الأصح الإشهاد على التقاطه. وأشار المصنف لشرط الملتقط بقوله: (ولا يُقَرُّ) اللقيط (إلا في يد أمين) حُرٍّ مسلم رشيد؛ (فإن وُجد معه) أي اللقيط (مال أنفق عليه

(1/211)


الحاكم منه). ولا ينفق الملتقط عليه منه إلا بإذن الحاكم. (وإن لم يوجد معه) أي اللقيط (مال فنفقته) كائنة (في بيت المال) إن لم يكن له مال عام كالوقف على اللقطاء. - وفي بعض النسخ «اللقطى».

• الوديعة
{فصل} في أحكام الوديعة. هي فَعِيلة مِنْ وَدَعَ إذا ترك. وتطلق لغةً على الشيء المودوع عند غير صاحبه للحفظ. وتطلق شرعا على العقد المقتضي للاستحفاظ.
(والوديعة أمانة) في يد الوديع. (ويُستحب قبولُها لمن قام بالأمانة فيها) إن كان ثَمَّ غيرُه، وإلا وجب قبولها - كما أطلقه جمعٌ. قال في الروضة كأصلها: وهذا محمول على أصل القبول، دون إتلاف منفعته وحرزه مجانا. (ولا يضمن) الوديع الوديعةَ (إلا بالتعدي) فيها. وصور التعدي كثيرة مذكورة في المطولات. منها أن يُودِع الوديعةَ عند غيره بلا إذن من المالك، ولا عذر من الوديع. ومنها أن ينقلها من محلة أو دار إلى أخرى

(1/212)


دونها في الحرز. (وقول المُودَع) بفتح الدال (مقبول في ردها على المُودِع) بكسر الدال.
(وعليه) أي الوديع (أن يحفظها في حرز مثلها)؛ فإن لم يفعل ضمن. (وإذا طولب) الوديع (بها) أي الوديعة (فلم يخرجها مع القدرة عليها حتى تلفت ضمن). فإن أخَّر إخراجَها لعذر لم يضمن.

(1/213)