فتح القريب المجيب في شرح ألفاظ التقريب = القول المختار في شرح غاية الاختصار

كتاب أحكام الجنايات
• أنواع القتل
الجنايات جمع جناية، أعم من أن تكون قتلا أو قطعا أو جرحا. (القتل على ثلاثة أضرب)، لا رابع لها: (عمد محض)، وهو مصدر عمَد بوزن ضرَب، ومعناه القصد، (وخطأ محض، وعمد خطأ). وذكر المصنف تفسير العمد في قوله:
(فالعمد المحض هو أن يعمِد) الجاني (إلى ضربه) أي الشخص (بما) أي بشيء (يقتل غالبا). وفي بعض النسخ «في الغالب»، (ويقصد) الجاني (قتلَه) الشخص (بذلك) الشيء. وحينئذ (فيجب القَود) أي القصاص (عليه) أي الشخص الجاني.
وما ذكره المصنف من اعتبار قصد القتل ضعيفٌ؛ والراجح خلافُه. ويشترط لوجوب القصاص في نفس القتيل أو قطع أطرافه إسلامٌ أو أمانٌ؛ فيُهدر الحربي والمرتدُّ في حق المسلم؛ (فإن عفا عنه) أي عفا المجني عليه عن الجاني في صورة العمد المحض

(1/267)


(وجبت) على القاتل (دِيةٌ مغلظةٌ حالةً في مال القَاتل). وسيذكر المصنف بيانَ تغليظها.
(والخطأ المحض أن يرمي إلى شيء) كصيد (فيصيب رجلا فيقتله؛ فلا قودَ عليه) أي الرامي، (بل تجب عليه ديةٌ مخففةٌ). وسيذكر المصنفُ بيانَ تخفيفها، (على العاقلة مؤجلة) عليهم (في ثلاث سنين) يؤخذ آخرَ كلِّ سنةٍ منها قدرُ ثُلث دية كاملة، أو على الغني من العاقلة من أصحاب الذهب آخرَ كل سنة نصفُ دينار، ومن أصحاب الفضة ستةُ دراهم - كما قاله المتولي وغيرُه. والمراد بالعاقلة عصبةُ الجاني، لا أصله وفرعه.
(وعمدُ الخطأ أن يقصد ضربَه بمَا لا يقتل غالبًا) كأن ضرَبَه بِعَصَا خفيفةٍ، (فيموت) المضروب (فلا قودَ عليه، بل تجب ديةٌ مغلظة على العاقلة مؤجلةً في ثلاث سنين)، وسيذكر المصنف بيان تغليظَها.

(1/268)


• شروط وجوب القصاص
ثم شرع المصنف في ذكر مَن يجب عليه القصاصُ المأخوذُ من اقتصاص الأثر أي تتبعه، لأن المجني عليه يتبع الجناية، فيأخذ مثلها؛ فقال:
(وشرائط وجوب القصاص) في القتل (أربعة). وفي بعض النسخ «فصل وشرائط وجوب القصاص أربع»: الأول (أن يكون القاتل بالغا)؛ فلا قصاصَ على صبي. ولو قال: «أنا الآن صبي»، صدق بلا يمين. الثاني أن يكون القاتل (عاقلا)؛ فيمتنع القصاص من مجنون إلا أن تقطَّع جنونه، فيقتص منه زمنَ إفاقته. ويجب القصاص على من زال عقله بشرب مُسكر مُتعدٍ في شربه؛ فخرج مَن لم يتعدَّ، بأن شرب شيئا ظنه غيرَ مُسكر فزال عقلُه، فلا قصاصَ عليه. (و) الثالث (أن لا يكون) القاتل (والدا للمقتول)؛ فلا قصاصَ على والد بقتل ولده وإن سفل الولد. قال ابن كج: «ولو حكم حاكم بقتل والد لولده نقض حكمه». (و) الرابع (أن لا يكون المقتول أنقص من القاتل بكفر أو رِقِّ)؛ فلا يُقتل مسلمٌ بكافر حربيا كان أو ذميا أو معاهدا، ولا يقتل حُرٌّ برقيق.

(1/269)


ولو كان المقتول أنقص من القاتل بكبر أو صغر أو طول أو قصر مثلا فلا عبرةَ بذلك.
(وتقتل الجماعة بالواحد) إن كافأهم، وكان فعل كل واحد منهم لو انفرد كان قاتلا. ثم أشار المصنف لقاعدة بقوله: (وكل شخصين جرى القصاص بينهما في النفس يجري بينهما في الأطراف) التي لتلك النفس، فكما يشترط في القاتل كونه مكلفًا يشترط في القاطع لطَرف كونُه مكلفا؛ وحينئذ فمن لا يقتل بشخص لا يقطع بطرفه.

• شروط وجوب القصاص في الأطراف
(وشرائط وجوب القصاص في الأطراف بعد الشرائط المذكورة) في قصاص النفس (اثنان): أحدهما (الاشتراك في الاسم الخاص) للطرف المقطوع. وبيَّنه المصنف بقوله: (اليمنى باليمنى) أي تقطع اليمنى مثلا من أذن أو يد أو رِجل باليمنى من ذلك، (واليسرى) مما ذكر (باليسرى) مما ذكر؛ وحينئذ فلا تقطع يمنى بيسرى، ولا عكسه.

(1/270)


(و) الثاني (أن لا يكون بأحد الطرفين شلل)؛ فلا تقطع يدٌ أو رِجلٌ صحيحة بشلاء، وهي التي لا عملَ لها. أما الشلاء فتقطع بالصحيحة على المشهور، إلا أن يقول عدلان من أهل الخبرة: «أن الشلاء إذا قطعت لا ينقطع الدم، بل تنفتح أفواه العروق، ولا تنسد بالحسم». ويشترط مع هذا أن يقنع بها مستوفيها، ولا يطلب أرشا للشلل. ثم أشار المصنف لقاعدة بقوله:
(وكل عضو أُخذ) أي قطع (من مفصل) كمرفق وكوع (ففيه القصاص). وما لا مفصل له لا قصاص فيه. واعلم أن شجاج الرأس والوجه عشرة: (1) حارصة بمهملات، وهي ما تشق الجلد قليلا، (2) ودامية تدميه، (3) وباضعة تقطع اللحم، (4) ومُتلاحمة تغوص فيه، (5) وسِمْحَاق تبلغ الجلدة التي بين اللحم والعظم، (6) ومُوضِحَة توضح العظمَ من اللحم، (7) وهاشِمة تكسر العظم سواء أوضحَته أم لا،

(1/271)


(8) ومُنَقِّلة تُنقل العظم من مكان إلى مكان آخر، (9) ومأمومة تبلغ خريطة الدِماغ المسماة أُمَّ الرأس، (10) ودامِغة بغين معجمة تخرق تلك الخريطة وتصل إلى أم الرأس. واستثنى المصنف من هذه العشرة ما تضمنه قوله: (ولا قصاص في الجروح) أي المذكورة (إلا في الموضحة) فقط، لا في غيرها من بقية العشرة.

• أنواع الدية
{فصل} في بيان الدية. وهي المال الواجب بالجناية على حُرٍّ في نفس أو طرف. (والدية على ضربين: مغلظة، ومخففة)، لا ثلاث لها؛ (فالمغلظة) بسبب قتل الذكر الحر المسلم عمدا (مائة من الإبل) والمائة مثلثة: (ثلاثون حِقَّةً، وثلاثون جذعة)، وسبق معناهما في كتاب

(1/272)


الزكاة، (وأربعون خَلِفة) بفتح الخاء المعجمة وكسر اللام وبالفاء، وفسرها المصنف بقوله: (في بطونها أولادها). والمعنى أن الأربعين حوامل، ويثبت حملها بقول أهل الخبرة بالإبل.
(والمخففة) بسب قتل الذكر الحر المسلم (مائة من الإبل) والمائة مخمسة: (عشرون حقة، وعشرون جذعة، وعشرون بنت لبون، وعشرون ابن لبون، وعشرون بنت مخاض). ومتى وجبت الإبل على قاتل أو عاقلة أخدت من إبل من وجبت عليه، وإن لم يكن له إبل فتؤخذ من غالب إبل بلدة بلدي أو قبيلة بدوي؛ فإن لم يكن في البلدة أو القبيلة إبلٌ فتؤخذ من غالب إبل أقرب البلاد أو القبائل إلى موضع المؤدي.
(فإن عدمت الإبل انتقل إلى قيمتها). وفي نسخة أخرى فإن أعوزت الإبل انتقل إلى قيمتها. هذا ما في القول الجديد وهو الصحيح، (وقيل) في القديم (ينتقل إلى ألف دينار) في حق أهل الذهب، (أو) ينتقل إلى (اثني عشر ألف درهم) في حق أهل الفضة، وسواء فيما ذكر الدية المغلظة

(1/273)


والمخففة؛
(وإن غلظت) على القديم (زيد عليها الثلث) أي قدره؛ ففي الدنانير ألف وثلثمائة وثلاثة وثلاثون دينارا وثلث دينار، وفي الفضة ستة عشر ألف درهم.
(وتغلظ دية الخطأ في ثلاثة مواضع): أحدها (إذا قتل في الحرم) أي حرم مكة. أما القتل في حرام المدينة أو القتل في حال الإحرام فلا تغليظ فيه على الأصح. والثاني مذكور في قول المصنف: (أو قتل في الأشهر الحرم) أي ذي القعدة وذي الحجة والمحرم ورجب. والثالث مذكور في قوله: (أو قتل) قريبا له (ذا رحم مَحْرم) بسكون المهملة؛ فإن لم يكن الرحم محرما له كبنت العم فلا تغليظ في قتلها.
(ودية المرأة) والحنثى المشكل (على النصف من دية الرجل) نفسا وجرحا؛ ففي دية حرة مسلمة في قتل عمد أو شبه عمد خمسون من الإبل: خمسة عشر حِقَّة، وخمسة عشر جَذعة، وعشرون خَلِفة إبلا حوامل. وفي قتل خطأ عشر بنات مخاض، وعشر بنات لبون، وعشر بني لبون، وعشر

(1/274)


حقاق، وعشر جذاع. (ودية اليهودي والنصراني) والمستأمن والمعاهد (ثلث دية المسلم) نفسا وجرحا. (وأما المجوسي ففيه ثلثا عشر دية المسلم) وأخصر منه ثلث خمس دية المسلم.
(وتكمل دية النفس). وسبق أنها مائة من الإبل (في قطع) كل من (اليدين، والرجلين) فيجب في كل يد أو رجل خمسون من الإبل، وفي قطعها مائة من الإبل، (و) تكمل الدية في قطع (الأنف) أي في قطع ما لاَن منه، وهو المارن. وفي قطع كل من طرفيه والحاجز ثلث دية. (و) تكمل الدية في قطع (الأذنين) أو قلعهما بغير إيضاح؛ فإن حصل مع قلعهما إيضاحٌ وجب أرشه. وفي كل أذن نصف دية، ولا فرق فيما ذكر بين أذن السميع وغيره. ولو أيبس الأذنين بجناية عليهما ففيها دية، (والعينين) وفي كل منها نصف دية، وسواء في ذلك عينٌ أحْوَلُ أو أَعْوَر أو أعمَش، (و) في (الجفون الأربعة) في كل جفن منها ربع دية، (واللسان) الناطق سليم الذوق ولو كان اللسانُ لِأَلثغَ وأرت، (والشفتين) وفي قطع إحداهما نصف دية، (وذهاب الكلام) كله، وفي ذهاب بعضه بقسطه من

(1/275)


الدية. والحروف التي توزع الدية عليها ثمانية وعشرون حرفا في لغة العرب، (وذهاب البصر) أي إذهابه من العينين. أما إذهابه من إحداهما ففيه نصف دية، ولا فرقَ في العين بين صغيرةٍ وكبيرة، وعين شيخٍ وطفل، (وذهاب السمع) من الأذنين. وإن نقص من أذن واحدة سدت. وضبط منتهى سماع الأخرى. ووجب قسط التفاوت، وأخذ بنسبته من تلك الدية، (وذهاب الشم) من المَنخَرين. وإن نقص الشم وضبط قدره وجب قسطه من الدية، وإلا فحكومة، (وذهاب العقل). فإن زال بجرح على الرأس له أرش مقدر أو حكومة وجبت الدية مع الأرش، (والذكر) السليم ولو ذكر صغير وشيخ وعنين. وقطع الحشفة كالذكر؛ ففي قطعها وحدَها دية، (والأنثيين) أي البيضتين ولو من عَنِين ومجبوب. وفي قطع إحداهما نصف دية.
(وفي الموضحة) من الذكر الحر المسلم، (و) في (السن) منه (خمس من الإبل، وفي) إذهاب (كل عضو لا منفعة فيه حكومة). وهي جزء من الدية نسبته إلى دية النفس نسبة نقصها أي الجناية من قيمة المجني عليه لو كان رقيقا بصفاته التي هو عليها؛ فلو كانت قيمة المجني عليه بلا جناية

(1/276)


على يده مثلا عشرة، وبدونها تسعة فالنقص عشر. فيجب عشر دية النفس.
(ودية العبد) المعصوم (قيمته)، والأمة كذلك ولو زادت قيمة كل منهما على دية الحر. ولو قطع ذكر عبد وأنثياه وجبت قيمتان في الأظهر. (ودية الجنين الحر) المسلم تبعا لأحد أبويه إن كانت أمه معصومة حال الجناية (غرة) أي نسمة من الرقيق (عبد أو أمة) سليم من عيب مبيع. ويشترط بلوغ الغرة نصف عشر الدية. فإن فقدت الغرة وجب بدلها، وهو خمسة أبعرة. وتجب الغرة على عاقلة الجاني. (ودية الجنين الرقيق عشر قيمة أمه) يوم الجناية عليها ويكون ما وجب لسيدها ويجب في الجنين اليهودي أو النصراني غرة كثلث غرة مسلم، وهو بعير وثلثا بعير.

• القسامة
{فصل} في أحكام القسامة. وهي أيمان الدماء. (وإذا اقترن بدعوى الدم لوثٌ) بمثلثة، وهو لغةً الضعف، وشرعا

(1/277)


قرينة تدل على صدق المدعي، بأن توقع تلك القرينة في القلب صدقه. وإلى هذا أشار المصنف بقوله: (يقع به في النفس صدق المدعي) بأن وجد قتيل أو بعضه كرأسه في محلة منفصلة عن بلد كبير - كما في الروضة وأصلها، أو وجد في قرية كبيرة لأعدائه، ولا يشاركهم في القرية غيرهم (حلف المدعي خمسين يمينا). ولا يشترط موالاتها على المذهب. ولو تخلل بين الأيمان جنونٌ من الحالف أو إغماءٌ بُني بعد الإفاقة على ما مضى منها إن لم يعزل القاضي الذي وقعت القسامة عنده؛ فإن عزل وولى غيره وجب استئنافها. (و) إذا حلف المدعي (استحق الدية). ولا تقع القسامة في قطع طرف. (وإن لم يكن هناك لوثٌ فاليمين على المدَّعَى عليه) فيحلف خمسين يمينا.

(1/278)


(وعلى قاتل النفس المحرمة) عمدا أو خطأ أو شبه عمد (كفارةٌ) ولو كان القاتل صبيا أو مجنونا، فيعتق الولي عنهما من مالهما. والكفارة (عتق رقبة مؤمنة سليمة من العيوب المضرة) أي المخلة بالعمل والكسب، (فإن لم يجد) ها (فصيام شهرين) بالهلال (متتابعين) بنية الكفارة. ولا يشترط نبة التتابع في الأصح. فإن عجز المُكَفِّر عن صوم شهرين لهرم أو لحقه بالصوم مشقةٌ شديدة أو خاف زيادة المرض كفَّر بإطعام ستين مسكينا أو فقيرا، يدفع لكل واحد منهم مُدًّا من طعام يجزىء في الفطرة، ولا يطعم كافرا ولا هاشميا ولا مطلبيا.?

(1/279)