فتح القريب المجيب في شرح ألفاظ التقريب = القول المختار في شرح غاية الاختصار

كتاب أحكام الحدود
• أنواع الزاني وحدّه
الحدود جمع حَدٍّ، وهو لغةً المنعُ، وسميت الحدود بذلك لمنعها من ارتكاب الفواحش. وبدأ المصنف من الحدود بحد الزنا المذكور في أثناء قوله: (والزاني على ضربين: محصن، وغير محصن؛ فالمحصن) - وسيأتي قريبا - أنه البالغ العاقل الحُر الذي غيَّب حشفته أو قدرها من مقطوعها بقُبل في نكاح صحيح، (حدُّه الرجم) بحجارة معتدلة، لا بحصى صغيرة ولا بصخر؛ (وغير المحصن) مِن رجُل أو امرأة (حده مائة جلدة). سميت بذلك لاتصالها بالجلد، (وتغريب عام إلى مسافة القصر) فأكثرَ برأي الإمام. وتحسب مدة العام من أول سفر الزاني، لا من وصوله مكانَ التغريب. والأولى أن يكون بعد الجلد.

(1/280)


• شروط الإحصان
(وشرائط الإحصان أربع): الأول والثاني (البلوغ، والعقل)؛ فلا حدَّ على صبي ومجنون، بل يؤدبان بما يزجرهما عن الوقوع في الزنا. (و) الثالث (الحرية)؛ فلا يكون الرقيق والمبعض والمكاتب وأم الولد محصنا وإن وطىء كل منهم في نكاح صحيح. (و) الرابع (وجود الوطء) من مسلم أو ذمي (في نكاح صحيح). وفي بعض النسخ «في النكاح الصحيح». وأراد بالوطء تغييب الحشفة أو قدرها من مقطوعها بقُبل. وخرج بالصحيح الوطءُ في نكاح فاسد؛ فلا يحصل به التحصين.
(والعبد والأمة حدُّهما نصف حد الحر)؛ فيُحدُّ كل منهما خمسين جلدة، ويغرب نصف عام. ولو قال المصنف: «ومن فيه رِقٌّ حده…إلخ» كان أولى، ليعم المكاتب والمبعض وأم الولد.

• اللواط وإتيان البهائم
(وحكم اللواط وإتيان البهائم كحكم الزنا) فمن لاط بشخص بأن وطئه في دبره حُدَّ على المذهب. ومن أتى بهيمة حُدَّ كما قال المصنف، لكن الراجح أنه يعزر.

(1/281)


(ومن وطئ) أجنبيةً (فيما دون الفرج عزر، ولا يبلغ) الإمام (بالتعزير أدنى الحدود). فإن عزر عبدا وجب أن ينقص في تعزيره عن عشرين جلدةً، أو عزر حُرًّا وجب أن ينقص في تعزيره عن أربعين جلدة؛ لأنه أدنى حد كل منهما.

• حد القذف
{فصل} في بيان أحكام القذف. وهو لغةً الرمي، وشرعًا الرمي بالزنا على جهة التعيير لتخرج الشهادة بالزنا. (وإذا قذف) بذال معجمة (غيرَه بالزنا) كقوله: «زَنَيتَ» (فعليه حدُّ القذف) ثمانين جلدة كما سيأتي. هذا إن لم يكن القاذف أبا أو أُمًّا وإن عَلِيَا - كما سيأتي. (بثمانية شرائط: ثلاثة). وفي بعض النسخ «ثلاث»: (منها في القاذف، وهو: أن يكون بالغا، عاقلا)؛ فالصبي والمجنون لا يحدان

(1/282)


بقذفهما شخصا، (وأن لا يكون والدا للمقذوف). فلو قذف الأب أو الأم وإن علا ولدَه وإن سفل لا حدَّ عليه.
(وخمسة في المقذوف، وهو: أن يكون مسلما، بالغا، عاقلا، حرا، عفيفا) عن الزنا؛ فلا حد بقذف الشخص كافرا أو صغيرا أو مجنونا أو رقيقا أو زانيا.
(ويحد الحر) القاذف (ثمانين) جلدة، (والعبد أربعين) جلدة.
(ويسقط) عن القاذف (حد القذف بثلاثة أشياء): أحدها (إقامة البينة)، سواء كان المقذوف أجنبيا أو زوجة، والثاني مذكور في قوله: (أو عفو المقذوف) أي عن القاذف، والثالث مذكور في قوله: (أو اللعان في حق الزوجة). وسبق بيانه في قول المصنف: «فصل وإذا رمى الرجل…إلخ».

(1/283)


• حد شرب الخمر أو المسكر
{فصل} في أحكام الأشربة وفي الحد المتعلق بشربها. (ومن شرب خمرا) وهي المتخَذة من عصير العِنَب (أو شرابا مسكرا) من غير الخمر كالنبيذ المتخذ من الزبيب (يحد) ذلك الشارب إن كان حرا (أربعين) جلدة. (ويجوز أن يبلغ) الإمام (به) أي حد الشرب (ثمانين) جلدة. والزيادة على أربعين في حر، وعشرين في رقيق (على وجه التعزير). وقيل الزيادة على ما ذكر حد؛ وعلى هذا يمتنع النقص عنها.
(ويجب) الحد (عليه) أي شارب المسكر (بأحد أمرين: بالبينة) أي رجُلين يشهدان بشرب ما ذكر (أو الإقرار) من الشارب بأنه شرب مسكرا؛ فلا يحد بشهادة رجل وامرأة، ولا بشهادة امرأتين، ولا بيمين مردودة، ولا بعلم القاضي، ولا بعلم غيره. (ولا يحد) أيضا الشارب (بالقيء والاستنكاه) أي بأن يشم منه رائحة الخمر.

(1/284)


• حد السرقة
{فصل} في أحكام قطع السرقة. وهي لغةً أخذ المال خُفيةً، وشرعًا أخذه خفية ظُلمًا من حِرز مثله. (وتقطع يد السارق بثلاثة شرائط). وفي بعض النسخ «بست شرائط»: (أن يكون) السارق (بالغا، عاقلا) مختارا مسلما كان أو ذميا؛ فلا قطع على صبي ومجنون ومُكرَه. ويقطع مسلم وذمي؛ وأما المعاهد فلا قطع عليه في الأظهر. وما تقدم شرط في السارق. وذكر المصنف شرط القطع بالنظر للمسروق في قوله: (وأن يسرق نصابا قيمته ربع دينار) أي خالصا مضروبا، أو يسرق قدرا مغشوشا يبلغ خالصه ربع دينار مضروبا أو قيمته (من حرز مثله). فإن كان المسروق بصحراء أو مسجد أو شارع اشترط في إحرازه دوام اللحاظ؛ وإن كان بحصن كبيتٍ كفى لحاظ معتاد في مثله. وثوب ومتاع وضعه شخص بقربه بصحراء مثلا إن لاحظه بنظره له وقتا فوقتا ولم يكن هناك ازدحام طارقين فهو محرز،

(1/285)


وإلا فلا. وشرط الملاحظ قدرته على منع السارق. ومن شروط المسروق ما ذكره المصنف في قوله: (لا مِلكَ له فيه، ولا شُبهةَ) أي للسارق (في مال المسروق منه)؛ فلا قطع بسرقة مال أصلٍ وفرعٍ للسارق، ولا بسرقة رقيقٍ مالَ سيِّده.
(وتقطع) من السارق (يده اليمنى من مفصل الكوع) بعد خلعها منه بحبل يجر بعنف. وإنما تقطع اليمنى في السرقة الأولى؛ (فإن سرق ثانيا) بعد قطع اليمنى (قطعت رجله اليسرى) بحديدة ماضية دفعة واحدة بعد خلعها من مفصل القدم؛ (فإن سرق ثالثا قطعت يده اليسرى) بعد خلعها؛ (فإن سرق رابعا قطعت رجله اليمنى) بعد خلعها من مفصل القدم كما فعل باليسرى، ويغمس محل القطع بزيت أودهن مغلي؛ (فإن سرق بعد ذلك) أي بعد الرابعة (عزر، وقيل يقتل صبرا). وحديث الأمر بقتله في المرة الخامسة منسوخ.

(1/286)


• قُطَّاع الطريق
{فصل} في أحكام قاطع الطريق. وسمي بذلك لامتناع الناس من سلوك الطريق خوفا منه، وهو مسلم مكلف له شوكة؛ فلا يشترط فيه ذكورة، ولا عدد. فخرج بقاطع الطريق المختلسُ الذي يتعرض لآخر القافلة، - وفي بعض النسخ «لأخذ القافلة» - ويعتمد الهرب.
(وقُطَّاع الطريق على أربعة أقسام): الأول مذكور في قوله: (إن قتلوا) أي عمدا عدوانا من يكافؤنه (ولم يأخذوا المال قتلوا) حتما. وإن قتلوا خطأ أو شبه عمد أو من لم يكافؤه لم يقتلوا. والثاني مذكور في قوله: (فإن قتلوا وأخذوا المال) أي نصاب السرقة فأكثر (قتلوا وصلبوا) على خشبة ونحوها، لكن بعد غسلهم وتكفينهم والصلاة عليهم. والثالث مذكور في قوله: (وإن أخذوا المال ولم يقتلوا) أي نصاب السرقة فأكثر من حرز مثله ولا شبهة لهم فيه (تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف) أي تقطع منهم أولا اليد اليمنى والرِجل

(1/287)


اليسرى. فإن عادوا فيُسراهم ويُمناهم تُقطعان؛ فإن كانت اليمنى أو الرجل اليسرى مفقودةً اكتفى بالموجودة في الأصح. والرابع مذكور في قوله: (فإن أخافوا) المارين في (السبيل) أي الطريق (ولم يأخذوا) منهم (مالا ولم يقتلوا) نفسا (حبسوا) في غير موضعهم (وعزروا) أي حسبهم الإمام وعزرهم.
(ومن تاب منهم) أي قطاع الطريق (قبل القدرة) من الإمام (عليه سقطت عنه الحدود) أي العقوبات المختصة بقاطع الطريق؛ وهي تحتم قتله وصلبه وقطع يده ورجله. ولا يسقط باقي الحدود التي لله تعالى كزنا وسرقة بعد التوبة. وفُهم من قوله: (وأُخذ) بضم أوله (بالحقوق) أي التي تتعلق بالآدميين، كقصاص وحد قذف، ورد مال أنه لا يسقط شيء منها عن قاطع الطريق بتوبته، وهو كذلك.

• الصيال وإتلاف البهائم
{فصل} في أحكام الصيال وإتلاف البهائم. (ومن قُصد) بضم أوله (بأذى في نفسه أو ماله أو حريمه) بأن صال

(1/288)


عليه شخص يريد قتله أو أخذ ماله وإن قل أو وطء حريمه (فقاتل عن ذلك) أي عن نفسه أو ماله أو حريمه، (وقُتل) الصائل على ذلك دفعا لصياله (فلا ضمان عليه) بقصاص ولا دية ولا كفارة.
(وعلى راكب الدابة) سواء كان مالكها أو مستعيرها أو مستأجرها أو غاصبها (ضمان ما أتلفته دابته)، سواء كان الإتلاف بيدها أو رجلها أو غير ذلك. ولو بالت أو راثت بطريق فتلف بذلك نفس أو مال فلا ضمان.

• البُغاة
{فصل} في أحكام البُغاة. وهم فِرقَة مسلمون مخالفون للإمام العادل. ومفرد البُغاة بَاغٍ من البغي، وهو الظلم. (ويُقاتَل) بفتح ما قبل آخره (أهل البغي) أي يقاتلهم الإمام (بثلاث شرائط): أحدها (أن يكونوا في منعة)، بأن يكون لهم شوكة بقوة وعدد

(1/289)


وبمُطاع فيهم وإن لم يكن المطاع إماما منصوبا، بحيث يحتاج الإمام العادل في ردهم لطاعته إلى كلفة من بذل مال وتحصيل رجال؛ فإن كانوا أفرادا يسهل ضبطهم فليسوا بغاة. (و) الثاني (أن يخرجوا عن قبضة الإمام) العادل إما بترك الانقياد له أو بمنع حق توجه عليهم، سواء كان الحق ماليا أو غيرَه كحد وقصاص. (و) الثالث (أن يكون لهم) أي للبغاة (تأويل سائغ) أي محتمل كما عبر به بعض الأصحاب كمطالبة أهل صفين بدم عثمان حيث اعتقدوا أن عليًّا - رضي الله عنه - يعرف من قتل عثمان. فإن كان التأويل قطعيَ البطلان لم يعتبر، بل صاحبه معاند. ولا يقاتل الإمام البغاة حتى يبعث إليهم رسولا أمنيا فطنا يسألهم ما يكرهونه؛ فإن ذكروا له مظلمة هي السبب في امتناعهم عن طاعته أزالها؛ وإن لم يذكروا شيئا أو أصروا بعد إزالة المظلمة على البغي نصحهم ثم أعلمهم بالقتال.
(ولا يقتل أسيرهم) أي البغاة. فإن قتله شخص عادل فلا قصاص عليه في الأصح. ولا يطلق أسيرهم وإن كان صبيا أو امرأة حتى تنقضي الحرب، ويتفرق جمعهم إلاَّ أن يطيع أسيرهم مختارا بمتابعته للإمام، (ولا يغنم مالهم). ويرد سلاحهم وخيلهم إليهم إذا انقضى الحرب وأمنت

(1/290)


غائلتهم بتفرقهم أوردهم للطاعة. ولا يقاتلون بعظيم كنارٍ أو منجنيق إلا لضرورة، فيقاتلون بذلك، كأن قاتلونا به أو أحاطوا بنا، (ولا يذفف على جريحهم). والتذفيف تتميم القتل وتعجيله.

• الردة
{فصل} في أحكام الردة. وهي أفحش أنواع الكفر. ومعناها لغة الرجوع عن الشيء إلى غيره، وشرعا قطع الإسلام بنية كفر أو قول كفر أو فعل كفر، كسجود لصنم، سواء كان على جهة الاستهزاء أو العناد أو الاعتقاد، كمن اعتقد حدوث الصانع. (ومن ارتد عن الإسلام) من رجل أو امرأة كمن أنكر وجودَ الله، أو كذب رسولا من رُسل الله، أو حلل محرما بالإجماع كالزنا وشرب الخمر، أو حرَّم حلالا بالإجماع كالنكاح والبيع، (استُتيب) وجوبا في الحال في الأصح فيهما. ومقابل الأصح في الأولى أنه يسن الاستتابة، وفي الثانية أنه يمهل (ثلاثا) أي إلى ثلاثة أيام؛ (فإن تاب) بعوده إلى

(1/291)


الإسلام بأن يقرَّ بالشهادتين على الترتيب بأن يؤمن بالله أولا ثم برسوله؛ فإن عكس لم يصح - كما قاله النوي في شرح المهذب في الكلام على نية الوضوء؛ (وإلا) أي وإن لم يتب المرتد (قتل) أي قتله الإمام إن كان حرا بضرب عُنقه، لا بإحراق ونحوه؛ فإن قتله غير الإمام عزر. وإن كان المرتد رقيقا جاز للسيد قتله في الأصح. ثم ذكر المصنف حكم الغسل وغيره في قوله: (ولم يغسل ولم يصل عليه، ولم يدفن في مقابر المسلمين). وذكر غير المصنف حكم تارك الصلاة في ربع العبادات؛ وأما المصنف فذكره هنا فقال.

• تارك الصلاة
{فصل} (وتارك الصلاة) المعهودة الصادقة بإحدى الخمس (على ضربين: أحدهما أن يتركها) وهو مكلف (غير معتقد لوجوبها؛ فحكمه)

(1/292)


أي التارك لها (حكم المرتد). وسبق قريبا بيان حكمه.
(والثاني أن يتركها كسلا) حتى يخرج وقتها حالَ كونه (معتقدا لوجوبها، فيستتاب؛ فإن تاب وصلى) وهو تفسير للتوبة، (وإلا) أي وإن لم يتب (قتل حدًّا) لا كفرا. (وكان حكمه حكم المسلمين) في الدفن في مقابرهم، ولا يطمس قبره، وله حكم المسلمين أيضا في الغسل والتكفين والصلاة عليه. - والله أعلم.

(1/293)