فتح القريب المجيب في شرح ألفاظ التقريب = القول المختار في شرح غاية الاختصار

كتاب أحكام الجهاد
• شروط وجوب الجهاد
وكان الأمر به في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد الهجرة فرض كفاية. وأما بعده فللكفار حالان: أحدهما أن يكونوا ببلادهم فالجهاد فرض كفاية على المسلمين في كل سنة؛ فإذا فعله من فيه كفاية سقط الحَرَج عن الباقين. والثاني أن يدخل الكفار بلدة من بلاد المسلمين أو ينزلوا قريبا منها، فالجهاد حينئذ فرض عين عليهم؛ فيلزم أهلَ ذلك البلد الدفعُ للكفار بما يمكن منهم.
(وشرائط وجوب الجهاد سبع خصال): أحدها (الإسلام)؛ فلا جهاد على كافر. (و) الثاني (البلوغ)؛ فلا جهاد على صبي. (و) الثالث (العقل)؛ فلا جهاد على مجنون. (و) الرابع (الحرية)؛ فلا جهاد على رقيق ولو أمره سيده، ولا مبعض ولا مدبر ولا مكاتب.

(1/294)


(و) الخامس (الذكورية)؛ فلا جهاد على امرأة وخنثى مشكل. (و) السادس (الصحة)؛ فلا جهاد على مريض بمرض يمنعه عن قتال وركوب إلا بمشقة شديدة كحُمَّى مطبقة. (و) السابع (الطاقة على القتال)، أي فلا جهاد على أقطع يد مثلا، ولا على من عدم أهبة القتال كسلاح ومركوب ونفقة.
(ومن أسر من الكفار فعلى ضربين: ضرب) لا تخيير فيه للإمام بل (يكون) - وفي بعض النسخ بدل يكون «يصير» - (رقيقا بنفس السبي) أي الأخذ، (وهم الصبيان والنساء) أي صبيان الكفار ونساؤهم. ويلحق بما ذكر الخناثى والمجانين. وخرج بالكفار نساء المسلمين، لأن الأسر لا يتصور في المسلمين.
(وضرب لا يرقُّ بنفس السبي، وهم) الكفار الأصليون (الرجال البالغون) الأحرار العاقلون.
(والإمام مخير فيهم بين أربعة أشياء):

(1/295)


أحدها (القتل) بضرب رقبة، لا بتحريق ولا تغريق مثلا. (و) الثاني (الاسترقاق). وحكمهم بعد الاسترقاق كبقية الأموال الغنيمة. (و) الثالث (المَنُّ) عليهم بتخلية سبيلهم. (و) الرابع (الفدية) إما (بالمال أو بالرجال) أي الأسرى من المسلمين. ومال فدائهم كبقية أموال الغنيمة. ويجوز أن يفادى مشرك واحد بمسلم أو أكثر، ومشركون بمسلم. (يفعل) الإمام (من ذلك ما فيه المصلحة) للمسلمين؛ فإن خفي عليه الأحظ حبسهم حتى يظهر له الأحظ، فيفعله. وخرج بقولنا سابقا «الأصليون» الكفارُ غير الأصليين كالمرتدين؛ فيطالبهم الإمام بالإسلام؛ فإن امتنعوا قتلهم.
(ومن أسلم) من الكفار (قبل الأسر) أي أسر الإمام له (أحرز ماله ودمه وصغار أولاده) عن السبي، وحكم بإسلامهم تبعا له؛ بخلاف البالغين من أولاده؛ فلا يعصمهم إسلام أبيهم. وإسلام الجد يعصم أيضا الولد الصغير. وإسلام الكافر لا يعصم زوجته عن استرقاقها ولو كانت حاملا. فإن استرقت انقطع نكاحه في الحال.

(1/296)


• إسلام الصبي
(ويحكم للصبي بالإسلام عند وجود ثلاثة أسباب): أحدها (أن يسلم أحد أبويه)؛ فيحكم بإسلامه تبعا لهما. وأما من بلغ مجنونا أو بلغ عاقلا ثم جن فكالصبي. والسبب الثاني مذكور في قوله: (أو يسبيه مسلم) حال كون الصبي (منفردا عن أبويه). فإن سبي الصبي مع أحد أبويه فلا يتبع الصبي السابي له.
ومعنى كونه مع أحد أبويه أن يكونا في جيش واحد وغنيمة واحدة، لا أن مالكهما يكون واحدا. ولو سباه ذمي وحمله إلى دار الإسلام لم يحكم بإسلامه في الأصح، بل هو على دين السابي له. والسبب الثالث مذكور في قوله: (أو يوجد) أي الصبي (لقيطا في دار الإسلام). وإن كان فيها أهل ذمة فإنه يكون مسلما. وكذا لو وجد في دار كفار وفيها مسلم.

(1/297)


• السلب وتقسيم الغنيمة
{فصل} في بيان أحكام السلب وقسم الغنيمة. (ومن قتل قتيلا أعطي سلَبه) بفتح اللام بشرط كون القاتل مسلما، ذكرا كان أو أنثى، حرا أو عبدا، شرطه الإمام له أو لا. والسلب ثياب القتيل التي عليه، والخف والران، وهو خف بلا قدم يلبس للساق فقط، وآلات الحرب، والمركوب الذي قاتل عليه، أو أمسكه بعنانه، والسرج، واللجام، ومقود الدابة، والسِوار، والطَوق، والمنطقة، وهي التي يشد بها الوسط، والخاتم، والنفقة التي معه، والجنيبة التي تقاد معه.
وإنما يستحق القاتل سلبَ الكافر إذا غرّ بنفسه حال الحرب في قتله بحيث يكفي بركوب هذا الغرر شر ذلك الكافر. فلو قتله وهو أسير أو نائم أو قتله بعد انهزام الكفار فلا سلب له. وكفاية شر الكافر أن يزيل امتناعه، كأن يفقأ عينيه، أو يقطع يديه أو رجليه.
والغنيمة لغةً مأخوذة من الغنم، وهو الربح؛ وشرعًا المال الحاصل للمسلمين من كفار أهل حرب بقتال وإيجاف خيل أو إبل. وخرج بـ «أهل الحرب» المالُ الحاصل من المرتدين؛ فإنه فيء، لا غنيمةٌ.
(وتقسم الغنيمة بعد ذلك) أي بعد إخراج السلب منها (على خمسة أخماس: فيعطى أربعة أخماسها) من عقار ومنقول (لمن شهد) أي

(1/298)


حضر (الوقعة) من الغانمين بنية القتال وإن لم يقاتل مع الجيش؛ وكذا من حضر لا بِنِيَّة القتال وقاتَل في الأظهر. ولا شيء لمن حضر بعد انقضاء القتال. (ويعطى للفارس) الحاضر الوقعة وهو من أهل القتال بفرس مهيأ للقتال عليه، سواء قاتل أم لا. (ثلاثة أسهم) سهمين لفرسه وسهما له. ولا يعطى إلا لفرس واحد ولو كان معه أفراس كثيرة، (وللراجل) أي المقاتل على رجليه (سهم) واحد.
(ولا يسهم إلا لمن) أي الشخص (استكملت فيه خمس شرائط: الإسلام، والبلوغ، والعقل، والحرية، والذكورية. فإن اختل شرط من ذلك رضخ له ولم يسهم له) أي لمن اختل فيه الشرط، إما لكونه صغيرا أو مجنونا أو رقيقا أو أنثى أو ذميا. والرضخ لغةً العطاءُ القليل؛ وشرعًا شيء دون سهم يُعطى للراجل. ويجتهد الإمام في قدر الرضخ بحسب رأيه، فيزيد المقاتل على غيره، والأكثر قتالا على الأقل قتالا. ومحل الرضخ الأخماس الأربعة في الأظهر، والثاني محله أصل الغنيمة.
(ويقسم الخمس) الباقي بعد الأخماس الأربعة (على خمسة أسهم:

(1/299)


سهم) منه (لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -)، وهو الذي كان في حياته. (يصرف بعده للمصالح) المتعلقة بالمسلمين، كالقضاة الحاكمين في البلاد. أما قضاة العسكر فيرزقون من الأخماس الأربعة - كما قال الماوردي وغيره - وكسَدِّ الثغور، وهي المواضع المخوفة من أطراف بلاد المسلمين الملاصقة لبلادنا. والمراد سد الثغور بالرجال وآلات الحرب. ويقدم الأهم من المصالح فالأهم. (وسهم لذوي القربى) أي قربى رسول الله - صلى الله عليه وسلم؛ (وهم بنو هاشم وبنو المطلب). يشترك في ذلك الذكرُ والأنثى، والغني والفقير. ويفضل الذكر، فيعطى مثل حظ الأنثيين. (وسهم لليتامى) المسلمين، جمع يتيم وهو صغير لا أب له، سواء كان الصغير ذكرا أو أنثى، له جد أو لا، قتل أبوه في الجهاد أو لا. ويشترط فقر اليتيم. (وسهم للمساكين، وسهم لأبناء السبيل). وسبق بيانهما قبيل كتاب الصيام.

(1/300)


• الفيئ
{فصل} في قسم الفيء على مستحقيه. والفيء لغة مأخوذ من فَاءَ إذا رجَع، ثم استُعمل في المال الراجع من الكفار إلى المسلمين. وشرعًا هو مالٌ حصل من كفار بلا قتال ولا إيجاف خيل ولا إبل، كالجزية وعشر التجارة.
(ويقسم مال الفيء على خمس فرق: يصرف خمسه) يعني الفيء (على من) أي الخمسة الذين (يصرف عليهم خمس الغنيمة). وسبق قريبا بيان الخمسة. (ويعطى أربعة أخماسها). وفي بعض النسخ «أخماسه» أي الفيء (للمقاتلة). وهم الأجناد الذين عيَّنهم الإمام للجهاد وأثبت أسماءهم في ديوان المرتزقة بعد اتصافهم بالإسلام والتكليف والحرية والصحة؛ فيفرق الإمام عليهم الأخماس الأربعة على قدر حاجاتهم، فيبحث عن حال كلٍّ من المقاتلة وعن عياله اللازمة نفقتهم وما يكفيهم؛ فيعطيه كفايتهم من نفقة وكسوة وغير ذلك، ويراعي فى الحاجة الزمان والمكان والرخص والغلاء. وأشار المصنف بقوله: (وفي مصالح المسلمين) إلى أنه يجوز للإمام أن يصرف الفاضل عن حاجات

(1/301)


المرتزقة في مصالح المسلمين من إصلاح الحصون والثغور ومن شراء سِلاح وخَيلٍ على الصحيح.

• الجزية
{فصل} في أحكام الجزية. وهي لغةً اسم لخَرَّاج مجعول على أهل الذمة. سميت بذلك لأنها جزت عن القتل، أي كفت عن قتلهم. وشرعًا مالٌ يلتزمه كافر بعقد مخصوص. ويشترط أن يعقده الإمام أو نائبه، لا على جهة التأقيت؛ فيقول: «أقررتكم بدار الإسلام غير الحجاز، أو أذنتُ في إقامتكم بدار الإسلام على أن تبذلوا الجزيه وتنقادوا لحكم الإسلام». ولو قال الكافر للإمام ابتداء: «أقررني بدار الإسلام» كفى.

• شروط وجوب الجزية
(وشرائط وجوب الجزية خمس خصال): أحدها (البلوغ)؛ فلا جزية على الصبي. (و) الثاني (العقل)؛ فلا جزية على مجنون أطبق جنونه. فإن تقطع جنونه قليلا كساعة من شهر لزمته الجزية، أو تقطع جنونه كثيرا عن ذلك كيوم يجن فيه ويوم يفيق فيه، لفقت أيام الإفاقة؛ فإن بلغت سنةً وجب جزيتها.

(1/302)


(و) الثالث (الحرية)؛ فلا جزيةَ على رقيق ولا على سيده أيضا. والمكاتب والمدبر والمبعض كالرقيق. (و) الرابع (الذكورية)؛ فلا جزية على امرأة وخنثى. فإن بانت ذكورته أخذت منه الجزية للسنين الماضية - كما بحثه النووي في زيادة الروضة، وجزم به في شرح المهذب. (و) الخامس (أن يكون) الذي تعقد له الجزية (من أهل الكتاب) كاليهودي والنصراني، (أو ممن له شبهة كتاب). وتعقد أيضا لأولاد من تهود أو تنصر قبل النسخ، أو شككنا في وقته، وكذا تعقد لمن أحد أبويه وَثَنيٌّ والآخر كتابي، ولزاعم التمسك بصحف إبراهيم المنزلة عليه أو بزبور داود المنزل عليه.
(وأقل) ما يجب في (الجزية) على كل كافر (دينار في كل حول) ولا حدَّ لأكثر الجزية. (ويؤخذ) أي يسن للإمام أن يماكس من عقدت له الجزية؛ وحينئذ يؤخذ (من المتوسط) الحال (ديناران، ومن الموسر أربعة دنانير) استحبابا إذا لم يكن كل منها سفيها؛ فإن كان سفيها لم يماكس

(1/303)


الإمام ولي السفيه. والعبرة في التوسط واليسار بآخر الحول. (ويجوز) أي يسن للإمام إذا صالح الكفار في بلدهم، لا في دار الإسلام (أن يشترط عليهم الضيافة) لمن يمرُّ بهم من المسلمين المجاهدين وغيرهم، (فضلا) أي زائدا (عن مقدار) أقل (الجزية) وهو دينار كل سنة إن رضوا بهذه الزيادة.
(ويتضمن عقد الجزية) بعد صحته (أربعة أشياء): أحدها (أن يؤدوا الجزية) وتؤخذ منهم برفق - كما قال الجمهور، لا على وجه الإهانة. (و) الثاني (أن تجري عليهم أحكام الإسلام) فيضمنون ما يتلفونه على المسلمين من نفس أو مال. وإن فعلوا ما يعتقدون تحريمه كالزنا أقيم عليهم الحد. (و) الثالث (أن لا يذكروا دين الإسلام إلا بخير. و) الرابع (أن لا يفعلوا ما فيه ضرر على المسلمين) أي بأن آووا من يطلع على عورات المسلمين وينقلها إلى دار الحرب. ويلزم

(1/304)


المسلمين بعد عقد الذمة الصحيح الكف عنهم نفسا ومالا. وإن كانوا في بلدنا أو في بلد مجاور لنا لزمنا دفع أهل الحرب عنهم. (ويعرفون بلبس الغِيار) بكسر الغين المعجمة، وهو تغيير اللباس وأن يخيط الذمي على ثوبه شيئا يخالف لون ثوبه. ويكون ذلك على الكتف. والأولى باليهودي الأصفر، وبالنصراني الأزرق، وبالمجوس الأسود والأحمر. وقول المصنف: «ويعرفون» عبَّر به النووي أيضا في الروضة تبعا لأصلها، لكنه في المنهاج قال: «ويؤمر» أي الذمي، ولا يعرف من كلامه، أن الأمر للوجوب أو الندب، لكن مقتضى كلام الجمهور الأول. وعطف المصنف على الغيار قوله: (وشد الزنار)، وهو بالزاء المعجمة خيطٌ غليظ يُشَدُّ في الوسط فوق الثياب. ولا يكفي جعله تحتها. (ويمنعون من ركوب الخيل) النفيسة وغيرها، ولا يمنعون من ركوب الحمير ولو كانت نفيسة، ويمنعون من أسماعهم المسلمين قول الشرك، كقولهم: «الله ثالث ثلاثة». تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

(1/305)