كفاية الأخيار في حل غاية الإختصار

كتاب الْإِيمَان وَالنُّذُور
بَاب الْيَمين
(لَا تَنْعَقِد الْيَمين إِلَّا بِاللَّه تَعَالَى أَو باسم من أَسْمَائِهِ أَو صفة من صِفَات ذَاته)
الْيَمين فِي أصل اللُّغَة الْيَد الْيُمْنَى وأطلقت على الْحلف لأَنهم كَانُوا إِذا تحالفوا أَخذ كل بِيَمِين صَاحبه وَقيل لِأَن الْيَمين تحفظ الشَّيْء كَمَا تحفظه الْيَد وَالْيَمِين وَالْحلف وَالْإِيلَاء وَالْقسم أَلْفَاظ مترادفة
وَهِي فِي الشَّرْع تَحْقِيق الْأَمر أَو توكيده بِذكر الله تَعَالَى أَو صفة من صِفَاته كَذَا ذكره الرَّافِعِيّ وَالنَّوَوِيّ هُنَا وَقَالَ بَعضهم تَحْقِيق مَا يحْتَمل الْمُخَالفَة أَو تأكيده وَأَظنهُ ابْن الرّفْعَة وَهُوَ معنى مَا ذكرَاهُ وأوضح من هَذِه الْعبارَة مَا ذكره الرَّافِعِيّ وَالنَّوَوِيّ فِي الطَّلَاق أَن الْحلف مَا تعلق بِهِ حنث أَو منع أَو تَحْقِيق خبر
وَالْأَصْل فِي الْأَيْمَان الْآيَات وَالْأَخْبَار قَالَ الله تَعَالَى {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كسبت قُلُوبكُمْ} وَقَوله تَعَالَى {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً} وَقَوله تَعَالَى {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} وَغَيرهَا وَمن السّنة أَحَادِيث كَثِيرَة جدا مِنْهَا حلفه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالله لأغزون قُريْشًا وَقَول ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام كَانَ كثيرا

(1/539)


مَا يحلف فَيَقُول لَا ومقلب الْقُلُوب وَغير ذَلِك من الْأَخْبَار ثمَّ الْيَمين لَا تَنْعَقِد إِلَّا بِمَا ذكره الشَّيْخ وَلَا شكّ أَن الْأَسْمَاء على ثَلَاثَة أَنْوَاع
أَحدهَا مَا يخْتَص بِاللَّه تَعَالَى وَلَا يُطلق فِي حق غَيره كالله وَرب الْعَالمين وَمَالك يَوْم الدّين وخالق الْخلق والحي الَّذِي لَا يَمُوت وَنَحْو ذَلِك فَهَذَا تَنْعَقِد بِهِ الْيَمين سَوَاء أطلق أم نوى الله تَعَالَى أَو غَيره وَإِذا قَالَ قصدت غَيره لم يقبل ظَاهرا قطعا وَكَذَا لَا يقبل فِيمَا بَينه وَبَين الله تَعَالَى على الصَّحِيح
الثَّانِي مَا يُطلق على الله تَعَالَى وعَلى غَيره إِلَّا أَن الْأَغْلَب اسْتِعْمَاله فِي حق الله تَعَالَى ويقيد فِي حق غَيره بِضَرْب من التَّقْيِيد كالجبار وَالْحق والرب والمتكبر والقادر والقاهر وَنَحْو ذَلِك فَإِذا حلف باسم مِنْهَا وَنوى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَو أطلق فيمين فَإِذا نوى غير الله تَعَالَى فَلَيْسَ بِيَمِين
الثَّالِث مَا يُطلق على الله تَعَالَى وعَلى غَيره على السوَاء كالحي وَالْمَوْجُود والغني والكريم وَنَحْو ذَلِك فَإِن نوى غير الله أَو أطلق فَلَيْسَ بِيَمِين وَإِن نوى الله تَعَالَى فَفِيهِ خلاف الْأَصَح فِي الرَّافِعِيّ وَبِه أجَاب الشَّيْخ أَبُو حَامِد وَابْن الصّباغ وَسَائِر الْعِرَاقِيّين وَالْإِمَام وَالْغَزالِيّ لَا يكون يَمِينا لِأَن الْيَمين إِنَّمَا تَنْعَقِد باسم مُعظم وَهَذِه الْأَسْمَاء الَّتِي تطلق فِي حق الْخَالِق والمخلوق إطلاقاً وَاحِدًا لَيْسَ لَهَا حُرْمَة وَلَا عَظمَة وَقَالَ النَّوَوِيّ الْأَصَح أَنه يَمِين وَبِه قطع الرَّافِعِيّ فِي الْمُحَرر وَصَاحب التَّنْبِيه والجرجاني وَغَيرهمَا من الْعِرَاقِيّين لِأَنَّهُ اسْم يُطلق على الله تَعَالَى وعَلى غَيره وَقد نَوَاه وَقَوْلهمْ لَيْسَ لَهُ حُرْمَة مَمْنُوع وَالله أعلم قلت وَبِه قطع الْبَغَوِيّ وَصَاحب التَّقْرِيب وَأَبُو يَعْقُوب ونقلوه عَن شُيُوخ الْأَصْحَاب وَقَالَ الْمَاوَرْدِيّ إِن كثير اسْتِعْمَاله فِي الله تَعَالَى وَقل فِي غَيره فَيكون يَمِينا ظَاهرا لَا بَاطِنا وَاعْلَم أَن السَّمِيع والبصير والعليم والحكيم من هَذَا النَّوْع على الْأَصَح لَا من الثَّانِي وَالله أعلم قَالَ
(وَمن حلف بِصَدقَة مَاله فَهُوَ مُخَيّر بَين الصَّدَقَة وَالْكَفَّارَة وَلَا شَيْء فِي لَغْو الْيَمين)
هَذِه الْمَسْأَلَة لَهَا شبه بِالْيَمِينِ من حَيْثُ إِن فِيهَا حثاً أَو منعا وَلِهَذَا ذكرهَا الرَّافِعِيّ فِي كتاب الْأَيْمَان وَلها شبه بِالنذرِ من حَيْثُ الِالْتِزَام وَلِهَذَا ذكرهَا فِي الرَّوْضَة فِي بَاب النّذر وللأصحاب فِيهَا فِيمَا يلْزمه خلاف منتشر حَاصله يرجع إِلَى ثَلَاثَة أَقْوَال
أَحدهَا يلْزمه الْوَفَاء بِمَا الْتزم لِأَنَّهُ الْتزم عبَادَة فِي مُقَابلَة شَرط فَيلْزمهُ عِنْد وجود الشَّرْط

(1/540)


وَالثَّانِي يلْزمه كَفَّارَة يَمِين لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَفَّارَة النذور كَفَّارَة الْيَمين وَرُوِيَ أَن رجلا قَالَ لعمر رَضِي الله عَنهُ إِنِّي جعلت مَالِي فِي رتاج الْكَعْبَة إِن كلمت أخي فَقَالَ إِن الْكَعْبَة لغنية عَن مَالك كلم أَخَاك وَكفر عَن يَمِينك وَرُوِيَ نَحوه عَن عَائِشَة وَحَفْصَة وَأم سَلمَة رَضِي الله عَنْهُن وَكَذَا عَن ابْن عَبَّاس وَابْن عمر وَأبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنْهُم وَلم يظْهر لَهُم مُخَالف وَهَذَا مَا صَححهُ الرَّافِعِيّ وَقطع بِهِ جمَاعَة لِأَنَّهُ فِي الْمَعْنى يَمِين
الْوَجْه الثَّالِث أَنه يتَخَيَّر بَين الْوَفَاء بِمَا الْتزم وَبَين أَن يكفر كَفَّارَة يَمِين لِأَنَّهُ يشبه النّذر من حَيْثُ إِنَّه الْتِزَام قربَة وَالْيَمِين من حَيْثُ إِن مَقْصُوده مَقْصُود الْيَمين فَلَا سَبِيل إِلَى الْجمع بَين موجبيهما وَلَا إِلَى تعطيلهما فَوَجَبَ التَّخْيِير وَهَذِه الْمَسْأَلَة يعبر عَنْهَا تَارَة بِنذر اللجاج وَالْغَضَب وَيُقَال لَهَا أَيْضا نذر الغلق وَيَمِين الغلق لِأَنَّهُ يغلق عَنهُ مَا يُرِيد فعله أَو تَركه وَصورتهَا كَأَن يَقُول إِن كلنت فلَانا أَو دخلت دَاره أَو إِن لم أسافر أَو إِن سَافَرت وَنَحْو ذَلِك فَللَّه عَليّ صَوْم شَهْرَيْن أَو صَلَاة أَو اعتاق رَقَبَة أَو أَتصدق بِمَال أَو أحج وَنَحْو ذَلِك ثمَّ يفعل الْمُعَلق عَلَيْهِ وَقيل يلْزمه الْحَج أَو الْعمرَة تَفْرِيعا على قَول التَّخْيِير لِأَن الْحَج أَو الْعمرَة لما كَانَا يلزمان بِالدُّخُولِ فيهمَا لقوتهما دون غَيرهمَا لزما بِالنذرِ وَهُوَ ضَعِيف جدا لِأَن الْعتْق أَيْضا يلْزم اتمامه بالتقويم وَهُوَ لَا يلْزم بِالنذرِ وَالله أعلم
(فرع) إِذا قَالَ شخص إِن فعلت كَذَا فعلي كَفَّارَة يَمِين لَزِمته بِلَا خلاف وَإِن قَالَ فَللَّه عَليّ يَمِين فَالْأَصَحّ أَنه لَغْو فَإِنَّهُ لم يَأْتِ بِنذر وَلَا بِصِيغَة يَمِين وَلَيْسَت الْيَمين مِمَّا يثبت فِي الذِّمَّة وَقيل يلْزمه كَفَّارَة يَمِين وَالله أعلم وَقَول الشَّيْخ وَلَا شَيْء فِي لَغْو الْيَمين صورته فِيمَن سبق لِسَانه إِلَى لفظ الْيَمين بِلَا قصد كَقَوْلِه فِي حَال غَضَبه لَا وَالله بلَى وَالله وَكَذَا فِي حَال عجلته أَو صلَة كَلَامه فَهَذَا لَا ينْعَقد يَمِينه وَلَا تتَعَلَّق بِهِ كَفَّارَة وَاحْتج لَهُ بقوله تَعَالَى {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} قَالَت عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا وَهُوَ قَول الْإِنْسَان لَا وَالله وبلى وَالله وَفِي رِوَايَة عَنْهَا هُوَ قَول الرجل فِي بَيته كلا وَالله وبلى وَالله وروى ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا مثل قَول عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا وَفِي معنى اللجاج وَالْغَضَب مَا لَو كَانَ يحلف على شَيْء فَسبق لِسَانه إِلَى غَيره فَكل هَذَا يُسمى لَغْو الْيَمين فَإِذا حلف وَقَالَ لم أقصد الْيَمين صدق وَفِي الطَّلَاق وَالْعتاق وَالْإِيلَاء لَا يصدق فِي الظَّاهِر قَالَ الإِمَام وَالْفرق أَن الْعَادة جَارِيَة بإجراء لفظ الْيَمين بِلَا قصد بِخِلَاف الطَّلَاق

(1/541)


وَالْعتاق فدعواه فيهمَا يُخَالف الظَّاهِر فَلَا يقبل وَلَو اقْترن بِالْيَمِينِ مَا يدل على الْقَصْد لم يقبل قَوْله على خلاف الظَّاهِر وَالله أعلم
قلت قَضِيَّة هَذَا الْفرق أَن يقبل قَول أهل الْبَوَادِي من أجلاف الفلاحين وَمن نحا نحوهم فَإِن الْحلف بِالطَّلَاق عِنْدهم فِي الْكَثْرَة أَكثر من الْحلف بالأيمان وَيَنْبَغِي أَن يفرق بِأَن الْحلف بِالطَّلَاق وَالْعتاق أَمر يتَعَلَّق بالإبضاع وَالْحريَّة فاحتيط فيهمَا بِعَدَمِ الْقبُول لتأكد أَمرهمَا وَالله أعلم
(فرع) إِذا قَالَ شخص إِن فعلت كَذَا فَهُوَ يَهُودِيّ أَو نَصْرَانِيّ أَو بَرِيء من الله أَو من رَسُوله أَو مستحل الْخمر وَنَحْوه لم يكن يَمِينا وَلَا كَفَّارَة فِي الْحِنْث بِهِ ثمَّ إِن قصد بذلك تبعيد نَفسه عَنهُ يَعْنِي عَن هَذَا الْيَمين لم يكفر وَإِن قصد بِهِ الرِّضَا بذلك أَو مَا فِي مَعْنَاهُ إِذا فعله فَهُوَ كَافِر فِي الْحَال وَإِذا لم يكفر فِي الصُّورَة الأولى فَلْيقل لَا إِلَه إِلَّا الله مُحَمَّد رَسُول الله ويستغفر الله تَعَالَى وَيسْتَحب لكل من تكلم بقبيح أَن يسْتَغْفر الله تَعَالَى وَتجب التَّوْبَة من كل كَلَام محرم وَالله أعلم قَالَ
(وَمن حلف أَن لَا يفعل شَيْئا فَأمر غَيره بِفِعْلِهِ لم يَحْنَث وَمن حلف لَا يفعل شَيْئَيْنِ فَفعل أَحدهمَا لم يَحْنَث)
اعْلَم أَن مدَار الْبر أَو الْحِنْث رَاجع إِلَى مُقْتَضى اللَّفْظ الَّذِي تعلّقت بِهِ الْيَمين فَإِذا حلف لَا يضْرب عَبده أَو لَا يَبِيع أَو لَا يَشْتَرِي فَوكل غَيره لم يَحْنَث لِأَن مُقْتَضى اللَّفْظ أَن لَا يُبَاشر ذَلِك بِنَفسِهِ نعم إِن أَرَادَ الْمَعْنى الْمجَازِي بِأَن حلف أَن لَا يَشْتَرِي الشَّيْء الْفُلَانِيّ وَأَرَادَ عدم دُخُوله فِي ملكه فَإِنَّهُ يَحْنَث لِأَنَّهُ غلظ على نَفسه وَيُقَاس بِمَا ذكرته مَا يشابه ذَلِك وَلَا فرق فِي ذَلِك بَين الْحلف بِاللَّه أَو الطَّلَاق وَالله أعلم وَإِذا حلف على شَيْئَيْنِ فَفعل أَحدهمَا لم يَحْنَث لِأَنَّهُ لم يُوجد الْمَحْلُوف عَلَيْهِ كَمَا إِذا حلف لَا يَأْكُل هذَيْن الرغيفين فَأكل أَحدهمَا فَإِنَّهُ لَا يَحْنَث وَيُقَاس بِهَذِهِ الصُّورَة مَا شابهها وَالله أعلم
(فرع) لَو حلف شخص أَن لَا يتَزَوَّج فَوكل شخصا قبل لَهُ نِكَاح امْرَأَة فَهَل يَحْنَث فِيهِ وَجْهَان لَيْسَ فِي الرَّوْضَة والشرحين هُنَا تَصْحِيح وَفِي التَّنْبِيه أَنه لَا يَحْنَث كَالْبيع وَسكت النَّوَوِيّ عَلَيْهِ فِي التَّصْحِيح وَالَّذِي فِي الْمُحَرر والمنهاج أَنه يَحْنَث وَهُوَ الصَّحِيح وَقد جزم بِهِ الرَّافِعِيّ فِي كتاب النِّكَاح فِي بَاب الْأَوْلِيَاء عِنْد تَوْكِيل الْوَكِيل وَالله أعلم قَالَ
وَكَفَّارَة الْيَمين هُوَ مُخَيّر فِيهَا بَين ثَلَاثَة أَشْيَاء عتق رَقَبَة أَو إطْعَام عشرَة مَسَاكِين كل مِسْكين مدا أَو كسوتهن ثوبا ثوبا فَإِن لم يجد فَصِيَام ثَلَاثَة أَيَّام)
سميت الْكَفَّارَة كَفَّارَة لِأَنَّهَا تكفر الذَّنب أَي تستره وَلِهَذَا سمي الاكار كَافِرًا أَي الْفَلاح لِأَنَّهُ

(1/542)


يستر الْبذر وَمِنْه الْكَافِر لِأَنَّهُ يُغطي نعْمَة الله تَعَالَى لَا يحصي ثَنَاء على الله تَعَالَى هُوَ كَمَا أثنى على نَفسه فَإِذا حلف الشَّخْص وَحنث وَجَبت الْكَفَّارَة لقَوْله تَعَالَى {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} إِلَى قَوْله {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} أَي وحنثتم وَفِي سَبَب وُجُوبهَا خلاف الصَّحِيح أَنه الْيَمين والحنث مَعًا ثمَّ كَفَّارَة الْيَمين أَولهَا تَخْيِير وَآخِرهَا تَرْتِيب فَيتَخَيَّر أَولا بَين الْخِصَال الثَّلَاث الَّتِي ذكرهَا الشَّيْخ لقَوْله تَعَالَى {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} فَلَا يجوز أَن يطعم خَمْسَة ويكسو خَمْسَة كَمَا لَا يجوز أَن يعْتق نصف رَقَبَة وَيطْعم خَمْسَة لِأَن الله تَعَالَى إِنَّمَا خير بَين ثَلَاثَة أَشْيَاء فَلَو جَوَّزنَا إِخْرَاج جِنْسَيْنِ لأثبتنا تخييراً رَابِعا فَإِن أَرَادَ اعتاق رَقَبَة أعتق رَقَبَة كَمَا فِي الظِّهَار وَالْجَامِع التَّكْفِير وَإِن أَرَادَ الْإِطْعَام أطْعم كل مِسْكين رطلا وَثلثا لِأَنَّهُ سداد الرَّغِيف وكفاية المقتصد وَنِهَايَة الزهيد وَإِن أَرَادَ الْكسْوَة دفع إِلَى كل مِسْكين مَا يَقع عَلَيْهِ اسْم الْكسْوَة من قَمِيص وَسَرَاويل ومئزر بِالْهَمْز وَهُوَ الازار الَّذِي يتزر بِهِ الْمحرم وَمثل ذَلِك الْعِمَامَة والجبة والمقنعة والخمار والكساء لِأَن الشَّرْع أطلق الْكسْوَة وَلَا عرف لَهُ فِيهَا وَلَا يجب لكل مِسْكين بدلة اتِّفَاقًا فَاكْتفى بِمَا ينْطَلق عَلَيْهِ الِاسْم وَهُوَ الصَّحِيح وَقيل يَكْفِي ستر الْعَوْرَة وَهل يشْتَرط تمكن الْآخِذ من لبسه حَتَّى لَا يَجْزِي دفع ثوب طِفْل لكبير فِيهِ وَجْهَان أصَحهمَا لَا يشْتَرط كَمَا يجوز أَن يدْفع ثوب الرجل إِلَى الْمَرْأَة وَبِالْعَكْسِ وَلَا يشْتَرط أَن يكون مخيطاً وَالله أعلم
(فرع) أعْطى عشرَة ثوبا طَويلا هَل يَكْفِي قَالَه الْمَاوَرْدِيّ إِن أَعْطَاهُم بعد قطعه أجرأه أَو قبل فَلَا لِأَنَّهُ ثوب وَاحِد وَالله أعلم وَلَا تُجزئ القلنسوة أَي الطاقية على الْأَصَح وَلَا الْغَزل قبل النسج وَلَا الْبسط وَلَا الانطاع وَيجْزِي مَا يلبس من الْجُلُود واللبود وَلَا يجزى الْخُف والمكعب والتبان وَلَا يجزى الثَّوْب الْبَالِي كَمَا لَا يجزى الطَّعَام المسوس وَالْعَبْد الزَّمن وَالله أعلم فَإِن لم يجد المَال الَّذِي يصرفهُ فِي الْكَفَّارَة كفر بِالصَّوْمِ لِلْآيَةِ الْكَرِيمَة قَالَ الْبَنْدَنِيجِيّ والمحاملي وَالْمرَاد من يفضل عَن كِفَايَته على الْأَبَد وَقَالَ ابْن الصّباغ والرافعي المُرَاد من لَهُ الْأَخْذ من الزَّكَاة بِصفة الْفقر والمسكنة أَو من الْكَفَّارَة فَلهُ الصَّوْم حَتَّى لَو ملك نِصَابا وَلَا تحصل بِهِ الْكَفَّارَة لَزِمته الزَّكَاة لَهُ الصَّوْم لأَنا لَو أسقطنا الزَّكَاة عَنهُ لخلا النّصاب عَنْهَا وَهنا ينْتَقل إِلَى الْبَدَل وَهُوَ الصَّوْم وَهَذَا هُوَ الْمَنْصُوص وَفِي الْحَاوِي للماوردي لَا يَصُوم من فضلت الْكَفَّارَة عَن كِفَايَة وقته لقدرته على المَال وَإِن حل لَهُ أَخذ الزَّكَاة وَأبْدى الرَّافِعِيّ احْتِمَالا أَن يكون فَاضلا عَن كِفَايَة سنة وَهَذَا الِاحْتِمَال صرح بِهِ الْبَغَوِيّ وَيجوز صَوْم الثَّلَاثَة مُتَفَرِّقَة على الرَّاجِح لاطلاق الْآيَة الْكَرِيمَة وَوجه التَّتَابُع قِرَاءَة

(1/543)


ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَات وَالله أعلم
(فرع) لَو كَانَ الحانث كَافِرًا لم يكفر بِالصَّوْمِ لِأَنَّهُ لَيْسَ من أَهله وَيكفر بِالْمَالِ وَالله أعلم

(مَسْأَلَة) حلف شخص لَا يفعل شَيْئا كَأَن حلف لَا يدْخل هَذِه الدَّار فَدَخلَهَا نَاسِيا للْيَمِين أَو جَاهِلا أَنَّهَا الدَّار الْمَحْلُوف عَلَيْهَا هَل يَحْنَث فِيهِ قَولَانِ سَوَاء كَانَ الْحلف بِاللَّه تَعَالَى أَو بِالطَّلَاق أَو غير ذَلِك وَوجه الْحِنْث قَوْله تَعَالَى {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} وَهِي عَامَّة فِي جَمِيع الْأَحْوَال وَوجه عدم الْحِنْث وَهُوَ الرَّاجِح قَوْله تَعَالَى {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} الْآيَة وَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن الله تَعَالَى تجَاوز لي عَن أمتِي الْخَطَأ وَالنِّسْيَان وَمَا اسْتكْرهُوا عَلَيْهِ وَالْيَمِين دَاخِلَة فِي هَذَا الْعُمُوم وَالْجَوَاب عَن قَوْله تَعَالَى {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} إِن فِيهَا إضماراً أَي وحنثتم فَلَا نسلم الْحِنْث وَكَانَ الْمَاوَرْدِيّ والصيمري وَأَبُو الْفَيَّاض لَا يفتون فِي يَمِين النَّاسِي بِشَيْء وَالله أعلم قَالَ
بَاب النّذر فصل النّذر يلْزم فِي المجازاة على الْمُبَاح بِطَاعَة كَقَوْلِه إِن شفى الله مريضي فَللَّه عَليّ أَن أَتصدق أَو أَصوم وَيلْزمهُ من ذَلِك مَا يَقع عَلَيْهِ الإسم
النّذر فِي اللُّغَة الْوَعْد بِخَير أَو شَرّ
وَفِي الشَّرْع الْوَعْد بِالْخَيرِ دون الشَّرّ قَالَه الْمَاوَرْدِيّ وَحده بَعضهم بِأَنَّهُ الْتِزَام قربَة غير لَازِمَة بِأَصْل الشَّرْع وَقيل غَيره ذَلِك
وَالْأَصْل فِي ذَلِك قَوْله تَعَالَى {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} وَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من نذر أَن يُطِيع الله فليطعه وَمن نذر أَن يَعْصِي الله فَلَا يَعْصِهِ وَهل هُوَ مَكْرُوه أم قربَة فِيهِ خلاف ثمَّ النّذر قِسْمَانِ نذر لجاج وَغَضب وَقد تقدم وَنذر تبرر وَهُوَ نَوْعَانِ

(1/544)


أَحدهمَا نذر المجازاة وَهُوَ أَن يلْتَزم قربَة فِي مُقَابلَة حُدُوث نعْمَة أَو اندفاع بلية كَقَوْلِه إِن شفى الله مريضي أَو رَزَقَنِي ولدا وَنَحْو ذَلِك فَللَّه عَليّ اعتاق أَو صَوْم أَو صَلَاة فَإِذا حصل الْمُعَلق عَلَيْهِ لزمَه الْوَفَاء بِمَا الْتزم وَكَذَا لَو قَالَ فعلي وَلم يقل لله على الصَّحِيح وَحجَّة ذَلِك قَوْله تَعَالَى {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} وَقَوله تَعَالَى {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ} وَغير ذَلِك من الْآيَات ونذرت امْرَأَة ركبت الْبَحْر إِن نجاها الله تَعَالَى أَن تَصُوم شهرا فنجت وَلم تصم حَتَّى مَاتَت فَجَاءَت بنتهَا أَو أُخْتهَا إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأمرهَا أَن تَصُوم عَنْهَا الثَّانِي أَن يلْتَزم ابْتِدَاء من غير تَعْلِيق على شَيْء فَيَقُول لله عَليّ أَن أُصَلِّي أَو أَصوم أَو أعتق فَقَوْلَانِ الرَّاجِح اللُّزُوم كالنوع الأول وَنَصّ عَلَيْهِ الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ وَاحْتج لَهُ باطلاق قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من نذر أَن يُطِيع الله فليطعه وَالثَّانِي لَا يَصح وَلَا يلْزمه لعدم الْمُقَابل كَمَا أَن البيوعات لما لم يكن لَهَا عوض لم تلْزمهُ بِالْعقدِ وَلِأَن النّذر عِنْد الْعَرَب وعد بِشَرْط قَالَه ثَعْلَب وَقَول الشَّيْخ على الْمُبَاح احْتَرز بِهِ عَن الْمعْصِيَة وَسَيَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى
وَاعْلَم أَن السَّبَب الَّذِي تعلق بِهِ النّذر أَي الْمَنْذُور قد يكون مُبَاحا كشفاء الْمَرِيض وَقد يكون طَاعَة كَقَوْلِه إِن صليت أَو حججْت فَللَّه عَليّ كَذَا وَمَعْنَاهُ إِن وفقني الله تَعَالَى للصَّلَاة أَو يسر لي الْحَج فعلي كَذَا وَقد يكون مَعْصِيّة كَقَوْلِه إِن حصلت لي الْمعْصِيَة الْفُلَانِيَّة فَللَّه عَليّ كَذَا وتتمة هَذَا تَأتي وَقَول الشَّيْخ وَيلْزمهُ من ذَلِك مَا يَقع عَلَيْهِ الِاسْم أَي من الْمَنْذُور كَمَا إِذا علق بِمُطلق الصَّدَقَة أَو الصَّوْم أَو الاعتاق فَيصح أَن يعْتق رَقَبَة وَإِن كَانَت مُعينَة غير مُؤمنَة على مَا صَححهُ النَّوَوِيّ لصدق اسْم الرَّقَبَة الصَّدَقَة بِالْقَلِيلِ وَقيل لَا بُد من رَقَبَة كَفَّارَة وَالْخلاف مَبْنِيّ على أَن النّذر يسْلك بِهِ مَسْلَك جَائِز الشَّرْع أَو واجبه وَمن فروع هَذِه الْقَاعِدَة أَنه هَل يجب عَلَيْهِ التبييت فِي الصَّوْم الْمَنْذُور أم يَكْفِي بنية قبل الزَّوَال قَالَ الرَّافِعِيّ إِن قُلْنَا أَن النّذر ينزل على أقل الْوَاجِب وَهُوَ الْأَصَح أَوجَبْنَا التبييت وَإِن قُلْنَا على أقل الْجَائِز فَلَا وَوَافَقَ النَّوَوِيّ الرَّافِعِيّ هُنَا على تَصْحِيح وجوب التبييت وَأَن يسْلك بِهِ مَسْلَك وَاجِب الشَّرْع وَخَالف هَذِه الْقَاعِدَة فِي بَاب الرّجْعَة فَقَالَ من زِيَادَته الْمُخْتَار أَنه لَا يُطلق تَرْجِيح وَاحِد من الْوَجْهَيْنِ بل يخْتَلف الرَّاجِح مِنْهُمَا بِحَسب الْمسَائِل لظُهُور دَلِيل أحد الطَّرفَيْنِ فِي بَعْضهَا أَو عَكسه فِي بعض وَقَالَ فِي شرح الْمُهَذّب إِنَّه الصَّوَاب وَالله أعلم قَالَ
(وَلَا نذر فِي مَعْصِيّة كَقَوْلِه إِن قتلت فلَانا فَللَّه عَليّ كَذَا)

(1/545)


وَلَا يَصح نذر الْمعْصِيَة لقَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام لَا نذر فِي مَعْصِيّة وَلقَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام من نذر أَن يَعْصِي الله فَلَا يَعْصِهِ وَقد مثل الشَّيْخ لذَلِك بِمَا ذكره وَكَانَ يَنْبَغِي أَن يمثل بِغَيْر مَا ذكره بِأَن يَجْعَل الْمُلْتَزم مَعْصِيّة بِنَفسِهِ كنذر شرب الْخمر أَو الزِّنَا أَو الْقَتْل أَو الصَّلَاة فِي حَال الْحَدث أَو نذر أَن يذبح نَفسه أَو وَلَده فَإِذا نذر ذَلِك وَلم يفعل الْمَحْلُوف عَلَيْهِ فقد أحسن وَلَا كَفَّارَة عَلَيْهِ أَيْضا على الْمَذْهَب الَّذِي قطع بِهِ الْجُمْهُور وَحكى الرّبيع قولا أَنه تجب الْكَفَّارَة وَاخْتَارَهُ الْبَيْهَقِيّ لحَدِيث لَا نذر فِي مَعْصِيّة وكفارته كَفَّارَة يَمِين قَالَ الرَّافِعِيّ قَالَ الْجُمْهُور وَالْمرَاد بِالْحَدِيثِ نذر اللجاج قَالُوا وَرِوَايَة الرّبيع من كيسه قَالَ النَّوَوِيّ هَذَا الحَدِيث بِهَذَا اللَّفْظ ضَعِيف بِاتِّفَاق الْمُحدثين وَإِنَّمَا صَحَّ لَا نذر فِي مَعْصِيّة من حَدِيث عمرَان بن حُصَيْن وَحَدِيث عقبَة كَفَّارَة النّذر كَفَّارَة يَمِين وَالله أعلم قَالَ
(وَلَا يلْزم النّذر على ترك مُبَاح كَقَوْلِه لَا آكل لَحْمًا وَلَا أشْرب لَبَنًا وَمَا أشبهه)
اعْلَم أَن الْمُبَاح الَّذِي لم يرد فِيهِ ترغيب كَالْأَكْلِ وَالنَّوْم وَالْقِيَام وَالْقعُود سَوَاء كَانَ نفيا كَقَوْلِه لَا آكل كَذَا أَو اثباتاً كَقَوْلِه آكل كَذَا أَو ألبس كَذَا فَهَذَا وَمَا أشبهه لَا ينْعَقد نَذره لِأَنَّهُ لَا قربَة فِيهِ وَلِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رآى رجلا قَائِما فِي الشَّمْس فَسَأَلَ عَنهُ فَقَالَ هَذَا أَبُو إِسْرَائِيل نذر أَن يقوم وَلَا يقْعد وَلَا يستظل وَلَا يتَكَلَّم ويصوم فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام مروه فَلْيَتَكَلَّمْ وليقعد وليتم صَوْمه وَلَو خَالف فِي الْمُبَاح وَفعله فَهَل يلْزمه كَفَّارَة يَمِين قَضِيَّة الرَّافِعِيّ وَالرَّوْضَة أَن الْمَذْهَب أَنه لَا يلْزمه وَبِه صرح الرَّافِعِيّ فِي أَوَائِل الْإِيلَاء لَكِن صحّح فِي الْمُحَرر وجوب الْكَفَّارَة وَتَبعهُ النَّوَوِيّ فِي الْمِنْهَاج وَالله أعلم
(فرع) قَالَ الْقفال من نذر أَن لَا يكلم الْآدَمِيّين يحْتَمل أَن يُقَال إِنَّه يلْزمه لِأَنَّهُ مِمَّا يتَقرَّب بِهِ وَيحْتَمل أَن يُقَال أَنه لَا يلْزم لما فِيهِ من التَّضْيِيق وَالتَّشْدِيد وَلَيْسَ ذَلِك من شرعنا كَمَا لَو نذر الْوُقُوف فِي الشَّمْس كَذَا ذكره الرَّافِعِيّ وَصَححهُ النَّوَوِيّ أَنه لَا يلْزمه وَحَدِيث أبي إِسْرَائِيل يدل لَهُ أَن

(1/546)


امْرَأَة حجت صامتة عَن الْكَلَام فَقَالَ لَهَا الصّديق رَضِي الله عَنهُ تكلمي فَإِن هَذَا لَا يحل وَالله أعلم
(فرع) إِذا نذر زيتاً أَو شمعاً أَو نَحوه ليسرج فِي مَسْجِد أَو غَيره ينظر إِن كَانَ ذَلِك فِي مَكَان بِحَيْثُ قد ينْتَفع بِهِ وَلَو على النذور مثل مصل هُنَاكَ أَو نَائِم أَو غَيرهمَا صَحَّ النّذر وَلزِمَ الْوَفَاء وَإِن كَانَ مغلوقاً وَلَا يتَمَكَّن أحد من الدُّخُول إِلَيْهِ وَلَا الِانْتِفَاع بِهِ لم يَصح وَكَذَا لَو وقف شَيْئا ليَشْتَرِي من غَلَّته زيتاً أَو غَيره ليسرج فِي مَسْجِد أَو غَيره فَحكمه فِي الصِّحَّة مَا ذَكرْنَاهُ فِي النذور وَالله أعلم قَالَ

(1/547)