نهاية المطلب في دراية المذهب

الفصل الثاني المذهب الشافعي: من التأسيس إلى الاستقرار، مع شيء من مصطلحاته
وفيه أربعة مباحث:
المبحث الأول - الإمام الشافعي.
المبحث الثاني - حملة الفقه عن الإمام الشافعي.
المبحث الثالث - مرحلة تحرير المذهب.
المبحث الرابع - من مصطلحات المذهب.

(المقدمة/95)


المبحث الأول: الإمام الشافعي
لا أريد هنا أن أكتب ترجمة للإمام الشافعي رضي الله عنه وأرضاه، فقد ترجم له كثيرون قديماً وحديثاً تراجمَ مطولة، وموجزة، وهي متاحة ميسورة، مَدَّ اليد لمن يطلبها، ولا أريد أن أقع فيما تبّرم به إمام الحرمين، وحذَّر منه حين قال: " ومعظم المتلقبين بالتصنيف في هذا الزمان السخيف يكتفون بتبويب أبواب، وترتيب كتاب، متضمنه كلامُ مَنْ مضى، وعلوم من تصرّم وانقضى" (1)، وأملي أن ألتزم نُصحه ومنهجه، فقد قال: " حقٌّ على من تتقاضاه قريحته تصنيفاً، وجمعاً وترصيفاً أن يجعل مضمون كتابه أمراً لا يُلفى في مجموع، وغرضاً لا يصادف في تصنيف " (2).
ومن هنا سأحاول أن أشير إلى معنىً ظهر لي أثناء مراجعتي وتأملي لتراجم الإمام الشافعي التي أفاد وأجاد في كتابتها السابقون واللاحقون، وعسى أن يوفقني الله في الإبانة والتعبير عن هذا المعنى الذي أدركته.
إن المتأمل في حياة الإمام الشافعي يستطيع أن يرى أن الأقدار قد هيأت للشافعي، وهيأت الشافعيَّ، قد هيأت للشافعي البيئة بعنصريها الزمان والمكان، وساقته المقادير بوقائعَ ومواقفَ أو ساقتها له.
فقد ولد الشافعي في سنة 150 هـ، فكانت نشأته وحياته في النصف الثاني من القرن الثاني الهجري، حيث كان العصر -كما رسمنا ملامحه فيما سلف- عصرَ رخاء وسَعة، واستقرار وعمران، ومن الناحية الفكرية كان التدوين قد بدأ، وشاعت الكتابة، وكان العلم قد استبحر، وتنوعت فنونه، وأخذت مناهج كل فن تتضح وتتمايز، فبدأ تدوينُ السنة، وتدوين الفقه، وتدوين القراءات، واللغة، وغيرها، وبدأت حلقات العلم، ومجالس المناظرة.
__________
(1) ر. الغياثي: فقرة رقم 45.
(2) ر. السابق نفسه: فقرة رقم 242.

(المقدمة/97)


وقد نقول: إن الفقه كان أسبق كل هذه الفنون نضوجاً، فكان الإمام أبو حنيفة، وتلاميذه قد ملؤوا العراق علماً سارت به الركبان إلى الآفاق، وارتحل الناس إليه من كل فجّ، وفي المدينة كان مالك إمام دار الهجرة، قد علا ذكره، وانتشر علمه، وأخذ يُرسي قواعدَ منهج جديد، ومذهب يغاير مذهب أهل العراق، وأخذت الدنيا تموج بالعلم. في هذا الزمان جاء الشافعي.
وأما المكان، فقد اتسعت مساحته، وترامت أطرافه فيما بين فلسطين، ومكة المكرمة، ومضارب هُذيل بالبادية، والمدينة المنورة، واليمن، ثم بغداد، ثم مكة، ثم بغداد، ثم مكة، فبغداد، فمصر.
قدَّرتْ أمُّ الشافعي -كما تقول الروايات- أنها تنتقل بابنها الطفل القرشي المطلبي من غزة إلى مكة المكرمة، حفاظاً على نسبه الشريف، حيث ينشأ بين من يعرفه من قومه وعشيرته، ولكن الأقدار أرادت هذا الانتقال لأمرٍ أكبر، ولشأن أعظم، فقد نشأ هذا الطفل، فوجد حوله حلقات العلم تملأ الحرم الشريف: الفقهاء، والقراء، والمحدِّثون، والمفسرون.
ووجد نفسه بين عرب أَقْحاح، يعرفون للسان العربي مكانته، ويَرَوْن اللحنَ هُجنة تُزري بصاحبها، فدفعته نفسُه الأبية إلى أن يلحق بالبادية، يلازم هُذيلاً -من أفصح قبائل العرب- يظعن بظعنهم، ويقيم بإقامتهم، ويحفظ الأشعار، ويستوعب اللغة، ويقول هو عن ذلك: " خرجت عن مكة، فلازمت هذيلاً بالبادية، أتعلم كلامها، وآخذ طبعها، وكانت أفصح العرب، أرحل برحيلهم، وأنزل بنزولهم، فلما رجعت إلى مكة، جعلت أنشد الأشعار، وأذكر الآداب، والأخبار " ا. هـ
طالت إقامته بالبادية حتى بلغت -في رواية عند ابن كثير- عشرَ سنوات، فاستقام لسانه، واستعصى على اللحن، حتى قال فيه معاصره ابنُ هشام صاحبُ السيرة:
" الشافعي تؤخذ منه اللغة " (1)، ويكفيك دليلاً على هذا أمران:
أ- أن الأصمعي -وهو مَنْ هو في مجال اللغة- يجلس بين يديه يُصحح عليه أشعار الهُذليين.
__________
(1) ر. مقدمة الشيخ شاكر للرسالة ص 13، 14 ففيهما كلام مفيد في هذا المعنى، بل اقرأ المقدمة كاملة، ففيها من العلم ما لا يصح أن يفوتك.

(المقدمة/98)


ب- والأمر الثاني أن تنظر في كتبه، وبخاصة (الرسالة) بخط الربيع، التي أخرجها العلامة الشيخ أحمد شاكر محافظاً على لغة الشافعي، منبهاً على أن ما يخالف معهودنا من النحو واللغة إنما هو صحيح فصيح، وإن جهله مَنْ جهله.
[ودَعْ عنك العبثَ الذي قام به محققو عصرنا الأشاوس بنص الرسالة، بدعوى تصويب الأخطاء اللغوية، حتى تجرّأ بعضهم على الشيخ شاكر، وسخر منه، لاستمساكه -فيما زعم- بالأخطاء التي في نسخة الربيع!!! أي والله!!! تصوَّر!!! سبحان الله!!! وهو وحده المستعان على كل بَلِيّة].

اشتغال الشافعي بالفقه
أتقن الشافعي اللغة، وشغل بها، وبروايتها، وبرواية الأدب والأشعار، ولكن قيض الله له من يَلْفته إلى ميدان آخر: إلى الفقه والحديث؛ فقد لقيه مسلم بن خالد الزنجي شيخ الحرم ومفتي مكة وهو خارج يطلب النحو، فدار بينهما حوار حكاه الشافعي بقوله: " قال لي: يا فتى من أين أنت؟ قلتُ: من أهل مكة. قال: وأين منزلك بها؟ قلتُ: بِشعب الخَيْف.
قال: من أي قبيلة أنت؟ قلت: من ولد عبد مناف. قال: بخٍ بخٍ؛ لقد شرفك الله في الدنيا والآخرة؛ ألا جعلت فهمك هذا في الفقه، فكان أحسن بك " وُيروى أن الذي وجهه إلى الفقه آخرُ غيرُ مسلم بن خالد، ولا مانع أن يكون هذا قد تكرر من أكثر من شخص.
كان الشافعي قد حفظ القرآن الكريم قبل أن يخرج إلى البادية، فيضيف إليه الإحاطة بلغة العرب وآدابها وأشعارها؛ فيصبح بهذا محيطاً بكتاب الله لفظاً ومعنىً، ولذا ما إن استجاب لتوجيه من وجهه، وجلس في حلقات الفقه والحديث حتى ظهرت مواهبه، فلم يمض كثير وقت حتى استحق الإمامة في الدين، فقد أجازه شيخ الحرم، مسلمُ بنُ خالد بالإفتاء، وكانت سنه نحو الخامسة عشرة!!!
ولا عجب في هذا، فالفتى قد عرف كتاب الله نصاً حينما حفظه عن ظهر قلب، وقد أحاط به استنباطاً حين حفظ اللغة، ووعى أشعارها وآدابها، وعرف تصرُّفَ العرب في لغتها، وهذه كانت أدوات الصحابة رضوان الله عليهم في فتاواهم، وقد رأينا الشافعي الإمام، وهو يُنظِّر لأصول الفقه، ويضع ضوابط الاجتهاد وشروطه يكتفي بهذا؛ فيقول:

(المقدمة/99)


" من عرف كتاب الله نصاً واستنباطاً، استحق الإمامةَ في الدين " (1)
وقد علق إمام الحرمين على عبارة الشافعي هذه، قائلاً: " جمع الإمامُ المطّلبي الشافعي رضي الله عنه الصفات اللازمة في المجتهدين في هذه الكلمة الوجيزة ... وكل التفاصيل التي قدمناها مندرجة تحت هذه الكلم " (2).
قد يفُهم من هذه الروايات التي نصح فيها الناصحون الشافعي بالاشتغال بالفقه بأن ذلك كان بعد السنوات العشر التي قضاها في البادية، ولكن هذا غير صحيح؛ فقد صحت روايات عن الشافعي أنه قال عن اشتغاله باللغة، وإقامته بالبادية: " ما أردتُ بهذا إلا الاستعانة على الفقه ".
والذي لا يصح في العقل غيره أن الشافعي ما كان منقطعاً في البادية هذه السنوات العشر انقطاعاً متصلاً، بل كان يرواح بين الإقامة في مكة والارتحال إلى البادية، بل إن الروايات التي رُويت عن نُصحه بالاشتغال بالفقه توحي بأن ذلك كان أثناء اشتغاله باللغة والتردّد على البادية.
فالمراحل متداخلة، وليست متتابعة، وعلى هذا يمكن أن تُفهم هذه الروايات، فهو قد خرج أولاً إلى البادية لطلب اللغة، ولما اشتغل بالفقه -استجابةً لنصح الناصحين- وجد أن اللغة أَلْزم للفقه، فزاد اشتغاله بها، والارتحال من أجلها، وصح ما روي من قوله: " إنه ما أراد باللغة والشعر إلا الاستعانة على الفقه ".
فتكون السنوات العشر، أو الإحدى عشرة، قبل رحيله إلى الإمام مالك بالمدينة قد كانت بين حلقات الفقه، والارتحال إلى البادية. (جاء إلى مكة وهو ابن عامين ورحل إلى مالك وهو ابن ثلاثة عشر عاماً).

مدرسة مكة
كانت مكةُ إذاً مراحَ طفولة الشافعي، ومربعَ صباه، ودار نشأته، ومجلى نبوغه، ففيها حفظ القرآن الكريم، وأتمه وهو بعدُ غضّ الإهاب طري العود، وفي البادية من
__________
(1) ر. الرسالة: فقرة رقم 46.
(2) ر. الغياثي: فقرة رقم 577، 578. بتصرف يسير.

(المقدمة/100)


حولها أخذ اللغة، وحفظ الشعر، وأحاط بالأخبار، وعرف الأنساب، وحذَق الرميَ، وفي مجالس علمها تلقى السنَّة عن أعلامها، والفقهَ عن شيوخها وأئمتها، كل ذلك في نحو عشر سنوات مباركات أو أكثر منها قليلاً، كان يراوح فيها بين الإقامة للارتواء من حلق العلم، والارتحال لارتضاع اللغة من نبعها الصافي بالبادية.
وكانت مكة تمثل بين مراكز العلم والفقه مدرسة متميزة، ذات خصائص ومنهج خاص بها، قال ذلك -بحق- شيخنا العلامة الشيخ محمد أبو زهرة، قال: " تتميز بأنها تُعنى بتفسير القرآن، وتعرّف أسباب نزوله، ورواية تفسيره، وتفهم القرآن على ضوء ذلك، وفي ضوء لغة العرب، وبعض عاداتهم (1) " فهي مدرسة ابن عباس التي اتخذها مقاماً له.
" وكانت المماثلة في الجملة قائمة بين ابن عباس والشافعي: فالشافعي كان فصيح البيان، كما كان ابن عباس من قبل، وكان يُعنى بعلم القرآن كما عُني ابن عباس وأجاد، وكان يعنى بالشعر كما يعنى بالفقه كما فعل ابن عباس، ثم كان يحضر دروسه طالبو القرآن، وطالبو الحديث، وطالبو الفقه، ورواة الشعر والعربيه، كما كان الشأن مع ابن عباس. فهل كان الشافعي يجعل من ابن عباس مَثلَه الكامل ويترسم خطاه؟
أيّاً كان الأمر، فمن المؤكد أن الشافعي بإقامته في مكة ودراسته بها قد استفاد علماً لم يكن بالعراق ولا بالمدينة، وهو الأخذ بطريقة ابن عباس في العناية بدراسة القرآن، والعناية بمجمله ومفصله، ومطلقه، ومقيده، وخاصه وعامّه؛ حتى خرج بفقهٍ جديد، غير ما في العراق وما في المدينة " (2).

الرحلة إلى الإمام مالك
بعد أن أحاط الشافعي بعلم شيوخه في مكة المكرمة من المحدثين والفقهاء، وبلغ بينهم من المنزلة ما بلغ تاقت نفسه للهجرة إلى المدينة؛ فقد كانت شهرة مالك قد طبقت الآفاق، وسارت بها الركبان، وسواء كانت رحلته إلى مالك بنصحٍ وتوجيهٍ، أو بباعث شخصي خاص به -وهذا ما نرجحه- فقد أحب أن ينظر في الموطأ قبل أن يلقى
__________
(1) ر. الشافعي: حياته وعصره: 42 - 45.
(2) السابق: نفسه.

(المقدمة/101)


مالكاً، وتُجمع الروايات على أنه استعار الموطأ وحفظه عن ظهر قلب، وتحدد بعض الروايات أنه حفظه في تسع ليالٍ.
ولم يشأ -وهو الشريف النسيب- أن يلقى مالكاً الذي يتحدث الناس بمهابته ومكانته من غير أن يحمل كتاباً من والي مكة، فحمل الكتاب إلى والي المدينة، الذي صحبه إلى باب مالك، في قصة لسنا لتفصيلها ولا لإيجازها، ولكن الذي يعنينا منها أن الذي شفع عند مالك، وقدّم الشافعي له -بحق- هو علم الشافعي: قراءته للموطأ ظاهراً، وليس كتاب الوالي.
ذلك أن مالكاً رضي الله عنه نظر إلى الشافعي، ورأى حداثة سنه، فقال له: تجيء الغد، والتْمس من يقرأ لك، فقال له الشافعي: أنا أقرأ ظاهراً.
فلما كان الغد جلس الشافعي بين يدي مالك، فقرأ ظاهراً والكتاب في يده، كما روى عن هذا اللقاء العلمي الأول، يقول: قرأت قدراً ثم تهيبت مالكاً، فأمسكت، فأشار: زِدْ، وكلما هبتُه وأمسكت يقول: يا فتى زِدْ، أعجبه حسنُ قراءتي وإعرابي.
جلس الشافعي إلى مالك، وقرأ عليه الموطأ في أيامٍ يسيرة، ثم لزمه يتفقه علمه، ويدارسه المسائل، ويتأمل منهجه في الفتوى والاستنباط.
وقد تنبأ له مالك بأنه سيكون ذا شأن فقال له: " يا غلام، إن الله ألقى في قلبك نوراً، فلا تطفئه بالمعصية "!!
لزم الشافعي مالكاً، وحاز فقهه، ولكن في كم من السنين؟ وكم سنة دامت هذه الصحبة؟
* أكثر الروايات أنه لزمه حتى وفاته في سنة 179 هـ، وعلى هذا يكون بقاؤه في المدينة ستة عشر عاماً؛ فقد رحل إليها وسنه ثلاثة عشر عاماً، أي في سنة 163 هـ باتفاق.
* ويقول الشيخ زاهد الكوثري -في تعليقاته على ترجمة ابن عبد البر للشافعي في الانتقاء-: إنه رحل إلى اليمن وسنه سبعة عشر عاماً، وعلى ذلك تكون صحبته لمالك وبقاؤه في المدينة أربع سنوات فقط، يستدل على ذلك بأن الشافعي يروي عن مالك -في غير الموطأ- بثلاث وسائط فأكثر.
* وتكاد تجمع الروايات على أن مسلم بن خالد أجازه بالفتوى في سن خمسة عشر، وكان ذلك في مكة بالطبع؛ فيكون بقاؤه في المدينة مدة سنتين فقط.

(المقدمة/102)


والذي نقوله للجمع بين هذه الروايات -وهو صحيح إن شاء الله-: إن صحبة الشافعي لمالك استمرت حتى وفاته فعلاً، أي لمدة ستة عشر عاماً، ولكنها لم تكن إقامة دائمة متصلة بالمدينة، بل كان يقيم بالمدينة ما شاء الله أن يقيم، ثم يعود إلى مكة فيقيم بها ما شاء الله أن يقيم، ثم يرحل إلى المدينة، " بل ربما إلى غيرها من البلاد والأمصار الإسلامية، يستفيد في هذه الرحلات ما يستفيده المسافر الأريب من علمٍ بأحوال الناس وأخبارهم، وشؤون اجتماعهم، فلم تكن ملازمته لمالك رضي الله عنه بمانعة من سفره واختباراته " على حد تعبير شيخنا الشيخ محمد أبو زهرة في كتابه عن الشافعي.
ولكن الذي لا يصح مع هذا هو قول العلامة الكوثري: " إنه انتقل إلى اليمن وسنه سبعة عشر عاماً؛ فالانتقال إلى اليمن، والانشغال بالولاية، مع بعد الشقة يقطع صحبته لمالك التي تضافرت الروايات أنها استمرت حتى وفاة مالك سنة 179 هـ هذا أولاً، وثانياً - المتفق عليه أن انتقاله إلى اليمن كان ليتولى (ولاية)، فهل يصح أن يكون ذلك وسنه سبعة عشر عاماً؟؟
وأما الاستدلال بأنه يروي عن مالك بثلاثة وسائط فأكثر، فمع قوة هذا الاستدلال، فلا ينهض دليلاً على أن الشافعي انتقل إلى اليمن وسنه سبعة عشر عاماً، فالجهة مُنْفكّة -كما يقول المناطقة- ولا ينهض دليلاً على انقطاع تلمذة الشافعي لمالك ومدارسته له، فلم لا يكون انصراف الشافعي مع مالك إلى مدارسة الفقه وطرق الاستنباط، أما الأخبار والآثار، فكان يحصلها من تلاميذ مالك، ثم إن الشافعي الْتقى بفقه مالك وأخبار مالك مرة ثانية حينما انتقل إلى مصر، وكان بها أعلام تلاميذ مالك، فسمع منهم ودارسهم، فمن هنا كانت الوسائط.
ثم نحن قد أثبتنا أن اتصاله بمالك والتلمذة له -مع أنها دامت حتى وفاته- إلا أنها كانت منقطعة تتخللها رحلات عن المدينة إلى مكة أو غيرها، فمن هنا كان الأخذ عن مالك بالوسائط.

الرحلة إلى اليمن
بعد وفاة الإمام مالك، واستقرار الشافعي بمكة، وكان قد حاز فقه مدرسة المدينة، وأحاط بمنهجها، وضم ذلك إلى ما تلقاه عن شيوخ مكة ومدرستها، وصار من أعلام

(المقدمة/103)


الفقهاء، بعد ذلك آن له أن يدخل ميداناً آخر، فتطلعت نفسه إلى عمل يسدّ به خَلَّتَه، ويدفع حاجته، وفي زيارةٍ لوالي اليمن إلى مكة كلّمه بعض القرشيين في شأن الشافعي؛ فصحبه معه، وهناك ولاه على نجران، وفي هذا العمل ظهرت مواهب الشافعي، وذكاؤه وخبرته بالناس، ونبله وشرف نسبه، إلى علمه وفقهه، فذاع في الناس ذكره، وشاع عدله، ثم إنه في نجران رأى تطبيقاً عملياً لأحكام الجزية وقضايا نصارى نجران.
ومضى الحال على ذلك نحو خمس سنوات، والأمور توحي بالاستقرار والاستمرار، ولكن فوجىء الشافعي بتهمة غليظة!! اتهم بمناهضة الدولة، والانضمام إلى العلويين الذين يدبرون للانقلاب على أبناء عمهم العباسيين، وتلك تهمة عقوبتها حزُّ الرؤوس.
أما لماذا اتهم؟ فتفصل الروايات أسباب ذلك الاتهام، وخلاصته ترجع إلى الاستقامة الكاملة، والحرص على العدل الكامل، ففي كل زمانٍ ومكان يحاول المحاولون أن يأكلوا بالولاة، يميلونهم حيث يشاؤون، فمن استعصى عليهم، فله الوشاية، والسعاية.
أما لماذا كانت هذه التهمة بالذات، فالشافعي مأثور عنه، وثابت في شعره وأقواله حبُّ آل البيت، يصرح بذلك ويتمدّح به، فوجد الساعون الوشاة في هذا ما يرشحه لهذه التهمة، وأنها أليق شيء به.

الشافعي يحمل إلى بغداد
تتفق الروايات على أن الشافعي حمل إلى بغداد في سنة 184 هـ، ولكنها تختلف في أنه حمل من اليمن أم من مكة، ويمكن الجمع بينها بأنه اتهم باليمن، ثم حمل من مكة أثناء تردّده عليها لزيارة أهله.
حُمل الشافعي متهماً إلى بغداد هو ومَنْ معه من (المتآمرين) التسعة، وتصف الروايات المصير الذي كان ينتظره، حيث أدخلوا على الرشيد وبين يديه النِّطْع والسيف، وتستطيع أن ترى معي الآن الشافعيَّ الأبي الحسيب النسيب وهو يدخل على الرشيد عالي الهامة، مرفوع القامة، مُدِلاًّ بعلمه، واثقاً بذكائه، شامخاً بمواهبه،

(المقدمة/104)


مطمئناً لبراءته، فيروع الرشيدَ مرآه، ويعجب بمخايله، فيفسح له ليلقي بحجته، فيؤخذ ببلاغته وبراعته، ويدرك أنه من أهل العلم - فقد كان الخلفاء حتى ذلك العصر ممن يشتغلون بالعلم، ويدارسون أهله، ويحضرون مناظراتهم، ويحكمون بينهم.
ترك الرشيد القضيةَ، وخاض مع (المتهم) في ضروب من العلم، فوقع في قلبه، وكان محمد بن الحسن حاضراً، فقال لمحمد بن الحسن: خذه إليك حتى أنظر في أمره، ووصله بخمسين ألفاً، فرقها الشافعي على مَنْ بباب الخليفة، قبل أن يبرح.
ويلوح لي أن (قرار الاتهام) كان أحدَ الأسباب التي لفتت نظر الرشيد إلى الشافعي، وجعلت اللقاء يجري على هذه الصورة، فقد روَوْا أن مَنْ رفع أَمْر الشافعي إلى الرشيد قال في (عريضة الاتهام): " إن فيهم رجلاً من ولد شافع المطلبي يعمل بلسانه ما لا يقدر عليه المقاتل بسيفه ".
المهم أن الشافعي نجا من القتل الذي سيق له!! والأهم أنه وجد نفسه في نفس اللحظة في معية محمد بن الحسن، ينزل عليه، ضيفاً في بيته!!
سبحان من له الأمر والتدبير!!
ماذا لو لم يذهب الشافعي إلى اليمن؟
وماذا لو ذهب إلى اليمن ولم يُقَيَّض له الحاسد الواشي ليتهمه؟
من كان سينقل الشافعي من اليمن إلى العراق؟ ومن كان سيصرف الشافعي عن العمل بالولايات والإدارات؟
إنها الأقدار. هيأت للشافعي أن ينتقل إلى العراق، وأن يلقى محمدَ بنَ الحسن، وأن يكون ذلك في سن النضج واستحصاد الخبرة.
أقبل الشافعي على حلقة محمد بن الحسن، يأخذ، ويدوّن، ويدارس، ويناقش، ويناظر.
لم يناظر محمد بن الحسن في أول الأمر، وإنما كان يناقش تلاميذه بعد أن ينصرف عن الحلقة، ولما علم بذلك محمد بن الحسن دعاه لمناظرته، فتردّد الشافعي حياءً وتقديراً لمنزلة محمد وسنّه، ولكن محمد بن الحسن أصرّ؛ فكانت بينهما

(المقدمة/105)


مناظرات، ملأت أخبارها بغداد، وشهد هارون الرشيد بعضَها، وأُعجب بالشافعي.
ظل الشافعي بالعراق، يدرس، ويسمع، ويناظر حتى أتقن طريقة العراقيين، وجمع علمهم إلى ما جمعه من علم مالك ومدرسة المدينة، وإلى ما حصله قبلاً من مدرسة مكة، وإلى ما تلقاه من علماء اليمن.
وكانت إقامته في العراق في هذا القَدْمة نحو عامين، حمل فيهما من علم محمد بن الحسن وحده وِقْر بعير، ليس فيها شيء إلا وقد سمعه عليه.
وقيل: إن إقامته ببغداد كانت خمس سنوات، وأنه لم يغادرها إلا بعد وفاة محمد بن الحسن في عام 189 هـ.

عودٌ إلى مكة
عاد الشافعي إلى مكة، وطالت إقامته بها نحو تسع سنوات، كانت هذه الفترة من أخصب الفترات في حياة الشافعي، فقد عاد إلى مكة بعد أن استوعب علم هاتيك البلاد والأمصار التي زارها، ومناهج هذه المدارس التي جلس إلى شيوخها، فكانت هذه الفترة فترة التأمل والنقد، وكانت مكة أنسب الأماكن لهذه التأمل والاختبار، فهي بعيدة عن ضجيج بغداد ومناظراتها، ومصارعة المذاهب والتيارات التي تموج بها، ثم فيها الاستقرار في كنف الأهل والعشيرة، والأنس ببيت الله الحرام.
ثم هي مثابة العلماء يفدون إليها في كل موسم، فيلقاهم، ويفيد ما عندهم، ويختبر ما عنده.
في هذه السنوات التسع عكف الشافعي على وضع مقاييس وقواعد يرجع إليها عند الاختلاف، فأخذ يبحث في القرآن الكريم: ناسخه ومنسوخه، والعام والخاص، وطرق الدلالة، وفي السنة ومنزلتها من الكتاب، وصحيحها وسقيمها، وكيف تستنبط الأحكام إذا لم يكن قرآن وسنة، وضوابط الاجتهاد، و ....
ومن هنا بدأ استقلال الشافعي بمذهبٍ أو بمنهج خاص (1).
__________
(1) ر. الشافعي، حياته وعصره: 26، 27.

(المقدمة/106)


إلى بغداد طواعية
رحل الشافعي إلى بغداد طواعية هذه المرة، فلماذا؟ وما الذي دعاه إلى الانتقال إلى بغداد؟
كان الشافعي في القَدْمة الأولى قد حصَّل علم أهل العراق، وأحاط بما عند فقهائهم، وعرف مناهجهم، وخصائص مذهبهم، وسمع ما عندهم من آثار وأخبار، فلأيّ أمرٍ يعود الآن؟
لم يعد الشافعي هذه المرة ليأخذ من العراق، وإنما عاد ليعطي، كان الشافعي قد رأى بعينيه مكانة بغداد وسعة سوق العلم، وكثرة مجالسها وحلقاتها، وأنها تموج بأفواج العلماء من كل حدب وصوب، فقد كانت حاضرة الدّولة، بل حاضرة الدنيا، فمن أراد أن يعلن جديداً، أو يُذيع مذهباً، أو ينشر رأياً، فلن يجد أعلى من منابر بغداد.
من أجل هذا قصد الشافعي بغداد -هذه المرة- ليقرر مذهباً جديداً، وفقهاً جديداً، لا هو بالفقه المالكي الذي حصَّله على مالك وعلماء المدينة، ولا بالفقه الحنفي الذي حمله عن محمد بن الحسن وعلماء العراق.
دخل الشافعي بغداد هذه المرة ليكون صاحب حلقة يدرِّس ويقرر، لا ليسمع ويتلقى، دخل الشافعي المسجد الكبير في بغداد واتخذ مجلسه في صدر حلقته، وكان في المسجد عشرات الحلقات، انفض أكثرها، واتسعت حلقة الشافعي، ورفع به أصحاب الحديث رؤوسهم، وأطلقوا على الشافعي. (ناصر الحديث) (1).
في بغداد هذه المرة أظهر الشافعي مذهبه، ووضع كتبه، ووضع ضوابط مذهبه: وضع كتبه التي عرفت بالمذهب القديم، ووضع ضوابط مذهبه في (الرسالة) التي أرسلها إلى عبد الرحمن بن مهدي.
وكان بقاؤه في بغداد مدة سنتين، إذ جاءها سنة 195 هـ وغادرها سنة 197 هـ.
__________
(1) عن منهج الشافعي في الاستنباط، الذي جمع به بين المدرستين اقرأ بحثاً قيماً بعنوان (منهجية الإمام محمد بن إدريس الشافعي في الفقه والأصول) للعلامة الأستاذ الدكتور عبد الوهاب إبراهيم أبو سليمان، عضو هيئة كبار العلماء بالمملكة السعودية، بيروت، دار ابن حزم، 1420 هـ، 1999 م.

(المقدمة/107)


عود إلى مكة، فبغداد ثالثةً، فمصر (97 - 98 - 99)
عاد الشافعي إلى مكة بعد أن أرسى قواعد مذهبه في العراق، وترك وراءه كتبه وتلاميذه يحملون علمه، وينشرون مذهبه.
ويلوح لي أن عودته إلى مكة لم تكن للإقامة والاستقرار، فقد كان وراءه عملٌ في بغداد لم ينضج بعد، وفيما أقدر أن عودته إلى مكة كانت للبّر بآله وقومه وعشيرته ولشهود الموسم.
ولذا نراه يشد الرحال عائداً إلى بغداد في سنه 98 هـ ولكنه لم يتلبّث بها إلا قليلاً حتى غادرها إلى مصر.
فما الذي أزعجه عن بغداد فلم يُلق عصا الترحال بها؟
لم تذكر روايات المترجمين للشافعي سبباً مقنعاً لذلك، وأقرب تعليل ما قاله شيخنا الشيخ محمد أبو زهرة، من أنه حين عاد إلى بغداد وجد وجهها قد تغير، فقد انتهى عهد الأمين بن هارون الرشيد، وبدأ عهد المأمون، ورأى الشافعي غلبة العنصر الفارسي على الدولة؛ فقد كان الفرس جيشَ المأمون الذي حارب به أخاه الأمين، وقضى عليه.
أدرك الشافعي ذلك، ورأى المأمون يقرب المعتزلة -وإن لم يكن قد ظهر خطر ذلك بعد- فلم ينشرح صدره للإقامة ببغداد.

الشافعي في مصر
تغير وجه بغداد؛ فلم تطب الإقامة بها، فلماذا اختار مصر؟ ولماذا لم يرجع إلى مكة؟
نذكّر بما هيأته الأقدار للشافعي، فقد ذكر ياقوت في معجم الأدباء أن الشافعي لقي ببغداد الوالي العباسي على مصر، فدعاه إلى مصر، وطلب أن يصحبه إليها، وقبل دعوته واختار الذهاب إلى مصر.

(المقدمة/108)


وعلى هذا يكون الشافعي قد استقر على ترك بغداد لما رأى من تغير وجهها، ولما استشعره -بفراسته- من ظهور أمر المعتزلة، فجاءته دعوة والي مصر لتحدد الجهة التي يترك بغداد إليها، وليست الدعوة -فيما نقدر- صالحةً وحدها لتغيير قراره بالبقاء في بغداد، وإنما جاءته وهو يهم بالرحيل عن بغداد لتحدد وجهته التي ينتقل إليها، ولا مانع أن نقول: إنها أيضاً صادفت رغبة في نفس الشافعي الذي كان يرى في الانتقال والترحال معرفةً وخبرة بالحياة والناس، وإحاطة بما عند من يلقاهم من العلماء والقراء والمحدثين.
ومعروف مشهور أقوال الإمام الشافعي في مدح السفر وتعديد فوائده.

فقه الشافعي في مصر
نزل الشافعي بمصر، فوجد حياة تموج بالفقه والفقهاء، وجد فقه الإمام الليث، وفقه الإمام الأوزاعي، وفقه الإمام أبي حنيفة، وفقه الإمام مالك.
وعلى عادة أئمتنا -قديماً- رضوان الله عليهم، كانوا يرون أن الاحتفال بمن يقدم إليهم من العلماء لا يكون إلا بعقد مجالس العلم، والاستماع إلى ما عنده، وعَرْض ما عندهم، ويتبع ذلك المُدارسة والمناظرة، كل ذلك طلباً للحق، وتحصيلاً للفوائد والفرائد.
اطلع الشافعي على ما عند علماء مصر، واتخذ حلقته في جامع عمرو بالفسطاط، وأقبل عليه الفقهاء يسمعون ويدارسون، حتى انحاز إليه الكثير من أتباع مالك وأبي حنيفة، بل من رؤوسهم مَنْ صار من أخص تلاميذ الشافعي مثل: عبد الله بن عبد الحكم، ومحمد ابنه، والبويطي، والمزني، فقد كانوا يقولون بقول مالك قبلاً.
استقر الشافعي في مصر نحو خمس سنوات فقط، ولكنها كانت سنوات مباركات؛ فإذا أحصينا ما ألفه الشافعي وأملاه من كتب، وما قعد له من دروس ومواعظ، وما عقد من مناظرات ... إذا أحصينا ذلك، وجدنا أن الزمن الذي قضاه

(المقدمة/109)


في مصر لا يمكن أن يسع ذلك في العرف والعادة، ومن هنا عُدَّ هذا من الكرامات.
طابت الإقامة للشافعي بمصر، ولكن لم تطل، فقد وافاه الأجل المحتوم ليلة الجمعة بعد المغرب، ودفن بعد العصر من يوم الجمعة آخر يوم من شهر رجب سنة 204 هـ.
...
ونعود، فنذكر بأننا لا نقدم ترجمة للشافعي وإنما ننبه إلى معنىً لاحظناه أثناء قراءاتنا لتراجم الإمام الشافعي، وهو ما هيأته الأقدار للشافعي، وهيأت الأقدار الشافعي به، ونلخص ذلك فنقول:
لقد هيأت الأقدار للشافعي أمّاً تعرف قيمة شرف النسب ومنزلته، فتنتقل بابنها إلى مكة، وهناك يعرف قيمة العربية وفصاحة اللسان، فيطلب اللغة في البادية، وهيأت له من يوجهه إلى الفقه، فيجعل اللغة وعلوم العربية والشعر والأدب في سبيل الفقه، وهيأت له شيوخاً في مكة ورثوا فقه ابن عباس، وهيأت له التلمذة على مالك خاصة وفقهاء المدينة ومحدِّثيها بعامة، وقدر الله أن ينشأ فقيراً، فلو كان ذا مالٍ وفير، ربما كان اشتغاله بتثميره، ونشأته في الوفرة والدعة غيرت مجرى حياته.
وأوضح ما تراه من ذلك هو رحلته -من أجل العمل والارتزاق منه- إلى اليمن، وإتهامه بسبب هذا العمل وحمله قسراً إلى بغداد ليضرب عنقه، وتَهْيئة محمد بن الحسن ليكون في مجلس الخليفة ساعة مثوله بين يديه، فيجتمع له أمران في لحظة واحدة، نجاته من السيف بمساعدة من محمد بن الحسن، ثم لقاؤه واتصاله بمحمد بن الحسن وعلم محمد بن الحسن!!! فيحمل علمه وعلم العراقيين عامة.
ثم يعود إلى مكة، ويتردد بينها وبين العراق، ولكن تهيىء له الأقدار من الأحداث ما يزهده في العراق، ومن يدعوه إلى مصر، فيلقى فيها من العلم والعلماء، والأخبار والأحداث (1)، ما يجعله يُخرج للدنيا هذا العلم الذي ملأ سمع الزمان، وانتقل إلى كل مكان.
هذا ما هيأته الأقدار للشافعي.
__________
(1) انظر الشكل رقم (1) لترى كيف حاز الشافعي فقه الأمصار كلها في الصفحة التالية.

(المقدمة/110)


أما ما هيأت الأقدار الشافعيَّ به، فقد وهبه الله حافظةً لاقطة، وذاكرة واعية، وذكاءً نادراً؛ وعقلاً صافياً، وقلباً تقياً نقياً، وجناناً ثابتاً، ولساناً فصيحاً مبيناً، وخُلقاًَ رصياً.
كان الشافعي أحد عباقرة الدنيا، وواحداً من نوادر الموهوبين الذين قلّما ترى الدنيا مثلهم، وحسبك أن تعلم أنه لما أراد أن يقصد مالكاً من مكة أحب أن ينظر في الموطأ قبَل أن يلقى مالكاً، يقول: " استعرت الموطأ، فحفظته في تسع ليالٍ " ولما لقي مالكاً قرأه عليه ظاهراً من حفظه، وكانت سنه يومئذ ثلاث عشرة سنة.
وما أصدق ما قاله له الإمام مالك: "إن الله ألقى على قلبك نوراً، فلا تطفئه بالمعصية".
نعم ألقى الله!! وهَبَ الله!!
وصدق الإمام مالك، فبهذا النور الذي هيأته به الأقدار، وألقته في قلبه أجازه شيخ الحرم مسلم بنُ خالد الزنجي بالإفتاء، وهو ابن خمسَ عشرة سنة!! تأمل!! يُفتي في حرم الله، في البلد الأمين وهو ابن خمس عشرة سنة، ومكة يومئذ مثابة العلماء والفقهاء.
ثم تأمل!! لقد ملأ الشافعي طباق الأرض علماً، وملأ سمع الدنيا، وخلف كل هذا العلم، مع رحيله المبكر: في الرابعة والخمسين من عمره!! وكيف لو عاش إلى الرابعة والثمانين!!
...
هذا هو إمامنا الشافعي رضي الله عنه، لم نقصد أن نترجم له، وإنما أردنا أن نتأمل مواقف وأحداثاً في سيرته، تظهر فيها حكمة الله جل وعلا، وما يختاره ويهيئه سبحانه لمن يرثون نبيه، فيحملون أمانته، ويبلغون رسالته.

شيوخ الإمام الشافعي
ذكر أصحاب التراجم شيوخاً مباشرين للإمام الشافعي وعّدوا منهم عشرين شيخاً خمسة منهم في مكة، وستة في المدينة، وأربعة في اليمن، وخمسة في العراق.

(المقدمة/112)


ولسنا نريد أن نترجم لهم، وإنما نريد أن نعرّف بهم فقط، أو بالتحديد أن نضبط أسماءهم، ونوضحها كاملة، فقد ذكرت مختصرة في الشكل رقم (1).
شيوخه في مكة:
1 - سفيان بن عيينة، أبو محمد سفيان بن أبي عمران، أصله من أهل الكوفة، ورحل واستوطن مكة. ت 198 هـ
2 - مسلم بن خالد بن مسلم بن سعيد (الزنجي) أصله من أهل الشام، وكان أبيض مشرباً بحُمرة؛ فسمي (الزنجي) من باب الأضداد. ت 180 هـ
3 - داود بن عبد الرحمن العطار، كان أبوه نصرانياً من أهل الشام، فخرج منها ونزل مكة، وولد له أولاد فأسلموا، فكان -مع كفره- يعلمهم القرآن والفقه، ويحثهم على ملازمة أهل الخير، ونبغ منهم داود هذا، وقد ولد سنة 100 هـ، وتوفي 174 هـ
4 - ابن أبي رَوَّاد (بفتح الراء وتشديد الواو المفتوحة) هو عبد المجيد بن عبد العزيز الأزدي مولى المهلّب أبو عبد الحميد، المكي، ت 206 هـ.
5 - سعيد بن سالم القداح، أبو عثمان، المكي، خراساني الأصل، ويقال: كوفي، سكن مكة توفي قبل سنة 200 هـ.
شيوخه في المدينة:
6 - مالك بن أنس (وكفى). ت 179 هـ
7 - عبد العزيز الدرَاوَرْدي، عبد العزيز بن محمد بن أبي عُبيد الدرَاوَرْدي، أبو محمد، المدني، مولى جهينة، وأصله من دَرَاوَرْد قرية بخراسان، ولد بالمدينة ونشأ بها، وبها عاش، وبها توفي سنة 187 هـ
8 - عبد الله الصائغ، وهو عبد الله بن نافع، الصائغ المخزومي، مولاهم، أبو محمد، المدني، ت 206 هـ
9 - إبراهيم بن محمد، وهو إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى، الأسلمي ويكنى أبا إسحاق، مولى لأسلم؛ توفي بالمدينة سنة 184 هـ

(المقدمة/113)


10 - إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهري، أبو إسحاق، المدني ت 183 هـ.
11 - ابن أبي فُدَيْك (مصغراً) وهو محمد بن إسماعيل بن مسلم، واسمه دينار الديلي، مولاهم، وكنيته أبو إسماعيل، المدني ت 200 هـ
شيوخه في اليمن:
12 - أبو أيوب، مطرِّف بن مازن، الكناني، مولاهم، قاضي صنعاء. ت 191 هـ
13 - هشام بن يوسف، الصنعاني، أبو عبد الرحمن، قاضي صنعاء. ت 197 هـ
14 - عمرو بن أبي سلمة، التنِّيسي، أبو حفص الدمشقي، مولى بني هاشم، روى عن الأوزاعي. ت 214 هـ
15 - يحيى بن حسان بن حيان التِّنيسي البكري، أبو زكريا البصري. ت 208 هـ
شيوخه في العراق:
16 - وكيع بن الجراح بن مليح، الرُّؤَاسي، أبو سفيان، الكوفي، الحافظ. ت 197 هـ
17 - أبو أسامة الكوفي، وهو حماد بن أسامة بن زيد القرشي، مولاهم، أبو أسامة الكوفي. ت 201 هـ
18 - محمد بن الحسن. ت 189 هـ
19 - إسماعيل بن عُليّة البصري، وهو إسماعيل بن إبراهيم، بن سهم، بن مِقْسَم الأسدي، أسد خزيمة، مولاهم، الإمام، أبو بشر، البصري، أصله كوفي، وعُلية أمه، وكان يكره أن ينسب إليها. ت 193 هـ ويلتبس بابن عُلية الآخر (ابنه) إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم، وكنيته: أبو إسحاق، فالأب ثقة إمام، قالوا فيه: " ريحانة الفقهاء " والآخر جهمي " مذاهبه عند أهل السنة مهجورة ". ت 218 هـ
20 - عبد الوهاب بن عبد المجيد بن الصلت بن عُبيد الله بن الحكم بن أبي العاص، الثقفي، أبو محمد، البصري. ت 194 هـ

(المقدمة/114)


المبحث الثاني: حملة الفقه عن الإمام الشافعي (1)
لقد حظي بالجلوس إلى الشافعي والأخذ عنه خلائق لا يحصون عدّاً، ولكن اشتهر بالنقل عنه، وحَمْلِ علمه عشرةٌ: أربعة منهم نقلوا المذهب القديم الذي أملاه بالعراق، وهؤلاء هم:
1 - الزعفراني، أبو علي الحسن بن محمد بن الصباح البغدادي الزعفراني، سُمع يقول: إني لأقرأ كتب الشافعي وتقرأ عليَّ منذ خمسين سنة. ت 260 هـ
2 - أحمد بن حنبل، أعرف من أن يعرّف، ولد سنة 164 هـ وتوفي 241 هـ
3 - أبو ثور، إبراهيم بن خالد بن اليمان، الكلبي البغدادي، تبع الشافعي، وحمل فقهه، وأقرأ كتبه، وكان له مع ذلك اجتهاداته التي استقلّ بها، حتى عُدَّ من الأئمة أصحاب المذاهب. ت 240 هـ
4 - الكرابيسي، أبو علي الحسين بن علي بن يزيد الكرابيسي البغدادي، جمع بين الفقه والحديث، أخذ الفقه عنه خلق كثير. ت 245 هـ
أما رواة المذهب الجديد، فهم ستة:
1 - البويطي، أبو يعقوب يوسف بن يحيى البويطي المصري، نُسب إلى بويط من صعيد مصر، وهو أكبر أصحاب الشافعي المصريين، وله المختصر المشهور الذي اختصره من كلام الشافعي رضي الله عنه، ولما اختصره قرأه على الشافعي بحضرة الربيع، فلهذا يُروى عن الربيع أيضاً، وكان الشافعي يعتمد البويطي في الفتيا، واستخلفه على أصحابه بعد موته. وكانت وفاته ببغداد سنة 232 هـ
__________
(1) انظر الشكل الثاني الذي يبين سلسلة التفقه عن الشافعي.

(المقدمة/115)


الشكل الثاني: يبين سلسلة التفقه عن الشافعي إلى ما قبل ظهور طريقتي الخراسانيين والعراقيين
من الطبقة الأولى: (الذين جالسوا الشافعي وسمعوا عنه)
اشتهر بالنقل عنه عشرة من كبار الصحابة:
أ- رواة المذهب القديم
1 - الحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني* (ت 260 هـ)
2 - ابن حنبل* (ت 241 هـ)
3 - أبو ثور* (ت 240 هـ)
4 - أبو علي الكرايسي* (سنة 245 هـ)

ب- رواة المذهب الجديد
1 - البويطي* (ت 231 هـ)
2 - حرملة * (ت 243)
3 - الربيع الجيزي* (ت 256 هـ)
4 - المزني * (سنة 264 هـ)
5 - الربيع* (ت 270 هـ)
6 - يونس بن عبد الأعلى* (سنة 264 هـ)

من الطبقة الثانية:
1 - إبراهيم* البلدي (نحو 299 هـ)
2 - أحمد * بن بنت الشافعي (ت 295 هـ)
3 - أحمد بن سيار (ت 268 هـ)
4 - الأنماطي* (ت 288 هـ)
5 - داود بن علي * (ت 290 هـ)
6 - عبدان (ت 293 هـ)
7 - محمد بن نصر المروزي* (ت 294 هـ)

من الطبقة الثالثة:
1 - أبو أحمد الجرجاني (ت 365 هـ)
2 - أبو إسحاق المروزي * تفقه بابن سريج (ت 340 هـ)
3 - الاصطخري* فقيه العر اق (ت 328 هـ)
4 - أبو بكر الإسماعيلي * (ت 371 هـ)
5 - أبو بكر الصبغي (ت 342 هـ)
6 - أبو بكر الصيرفي* تفقه بابن سريج (ت 330 هـ)
7 - أبو بكر الفارسي * تفقه بابن سريج وقيل باصحاب الشافعي
(ت 305 وقيل 350 هـ)
8 - أبو بكر المحمودي * المروزي (ت بعد 300 هـ)
9 - أبو بكر النيسابوري ابن خزيمة (ت 311 هـ)
10 - ابن الحداد * تفقه بابي إسحاق (ت 345 هـ)
11 - ابن حَزبويه* البغدادي (ت 319 هـ)
12 - أبو الحسن الجوري (ت بعد 300 هـ)
13 - أبو حفص ابن الوكيل البابشامي (ت بعد 300 هـ)
14 - الخِضري * شيخ القفال (نحو 373 هـ)
15 - ابن خيران * تفقه بالأنماطي (ت 320 هـ)
16 - زاهر السرخسي* تفقه بأبي إسحاق (ت 389 هـ)
17 - الزبيري * أبو عبد الله صاحب الكافي (ت 317 هـ)
18 - أبو زرعة الدمشقي الثقفي (ت 302 هـ)
19 - أبو زيد المروزي* شيخ القفال (ت 371 هـ)
20 - ابن سريج* تفقه بالأنماطي (ت 306 هـ)
21 - سهل الصعلوكي* (ت 404)
22 - الشيخ أبو حامد الاصفراييني (ت 406)
23 - القاضي أبو حامد المرورّوذي * (ت 362)
24 - صاحب التقريب: القاسم بن محمد الشاشي* (ت نحو 339 هـ)
25 - صاحب التلخيص: ابن القاص * تفقه بابن سريج (ت 335 هـ)
26 - أبو الطيب بن سلمة* (ت 308 هـ)
27 - أبو علي الطبري* تفقه بابن أبي هريرة (ت 350 هـ)
28 - أبو علي بن أبي هريرة* تفقه بابن سريج وأبي إسحاق (ت 345 هـ)
29 - أبو عوانة (ت 336 هـ)
30 - أبو القاسم الصيمري تخرج به الماوردي (ت 386 هـ)
31 - القفال الكبير* (ت 365 هـ)
32 - الماسَرجسي* أبو الحسن (ت 384 هـ)
33 - ابن المنذر (ت 319 هـ)
34 - أبو يحى البلخي * (ت 330 هـ)
__________
* نجمة يعني أنه مذكور في (نهاية المطلب)

(المقدمة/116)


2 - حَرْملة بن يحيى بن عبد الله بن حَرْملة بن عمران بن قُراد، التُّجِيبي: نسبة إلى قبيلة تُجِيب: بضم المثناة الفوقية وكسر الجيم وسكون الياء. وقولهم: قال حرملة، معناه قال الشافعي في الكتاب الذي نقله عنه حرملة، فسُمّي الكتاب باسم راويه مجازاً.
روي عن الخطابي أنه قال: إن أصحاب الشافعي المتقدمين يعتمدون روايات المزني، والربيع المرادي عن الشافعي ما لا يعتمدون حرملة والربيع الجيزي، ت 243 هـ
3 - الربيع الجيزي، أبو محمد، الربيع بن سليمان بن داود، الأزدي، مولاهم، المصري، الأعرج، وقيل: ابن الأعرج، والجيزي نسبة إلى الجيزة تقع قبالة القاهرة على الجانب الغربي من النيل، كان فقيها صالحاً، وعلى طول صحبته للشافعي كان قليل الرواية عنه، وإنما روى عن عبد الله بن عبد الحكم كثيراً، وعن ابن وهب. ت 256 هـ
4 - المزني، أبو إبراهيم، إسماعيل بن يحيى بن إسماعيل بن عمرو بن إسحاق، المزني، المصري، الإمام الجليل ناصر المذهب، كان معظماً بين أصحاب الشافعي، وكان جبلَ علمٍ، مناظراً محجاجاً، زاهداً مجتهداً، صنف كتباً كثيرةً: الجامع الكبير، والجامع الصغير، والمختصر، والمنثور، والمسائل المعتبرة، والترغيب في العلم، وكتاب الوثائق، وكتاب العقارب، وكتاب نهاية الاختصار، وهو إمام الشافعيين، وأعرفهم بطرقه وفتاويه، وما ينقله عنه.
ومختصره أصل الكتب المصنفة في مذهب الشافعي، وعلى مثاله رتبوا، ولكلامه فسروا وشرحوا، وأخذ عنه خلائق من علماء خراسان والعراق والشام، توفي بمصر سنة 264 هـ
5 - يونس بن عبد الأعلى بن موسى بن ميسرة بن حفص بن حيان، أبو موسى، الصَّدَفي، المصري، الفقيه المقرىء، قرأ القرآن على ورش وغيره، وأقرأ الناس، روى عنه مسلم والنسائي وأبو عوانة، والنيسابوري، صاحب الشافعي، وأحد رواة مذهبه الجديد، وانتهت إليه رياسة العلم بمصر، وهو من المكثرين في الرواية عن

(المقدمة/117)


الشافعي والملازمين له، كان كثير الورع، متين الدين، توقي بمصر سنة 264 هـ ودفن في مقابر الصدقة.
6 - الربيع المرادي، أبو محمد، الربيع بن سليمان بن عبد الجبار بن كامل، المرادى، مولاهم، المؤذن، المصري، راوي اكثر كتب الشافعي، وقال الشافعي في حقه: " الربيع راويتي " وقال: "ما أخذ مني أحد ما أخذ الربيع" وهو أثبت أصحاب الشافعي في الرواية عنه؛ حتى لو تعارض هو وأبو إبراهيم المزني، لقدم الأصحاب روايته، مع علو قدر أبي إبراهيم علماً وديناً، وجلالة، وموافقة ما رواه للقواعد، وكانت الرحلة في كتب الشافعي إليه من الآفاق، وكانت وفاته بمصر سنة 270 هـ

بقية ممن جالسوا الشافعي:
وممن جالسوا الشافعي وأخذوا عنه -غير هؤلاء العشرة الأشهر ذكراً وأثراً- ترجم السبكي وغيره لعشراتٍ منهم، نذكر بعضهم؛ تبعاً لشهرتهم، ولدوران ذكرهم في الكتب، فمن هؤلاء:
1 - ابن مهدي، عبد الرحمن بن مهدي بن حسان بن عبد الرحمن، أبو سعيد، الأزدي، مولاهم، البصري، اللؤلؤي، إمام أهل الحديث في عصره، وهو الذي سأل الشافعي أن يضع له بعض ضوابط في الاستنباط للأحكام، فألف الشافعي الرسالة، وحملها إليه الحارث بن سريج، النقال. ت بالبصرة 198 هـ
2 - الأصمعي عبد الملك بن قُرَيب بن عبد الملك بن علي بن أصمع، إمام اللغة والأدب والأخبار، ت 216 هـ
3 - الحُمَيْدي، أبو بكر، عبد الله بن الزبير بن عيسى، القرشي، الأسدي، المكي، أبو بكر الحميدي نسبة إلى حُمَيد بن زهير بن الحارث بن أسد، محدّث مكة ومفتيها، قال الحاكم: هو لأهل الحجاز في السنة كأحمد بن حنبل لأهل العراق. ت 219 هـ

(المقدمة/118)


4 - أبو عُبيد، القاسم بن سلاّم، الإمام الجليل، الأديب الفقيه المحدث، صاحب التصانيف الكثيرة، صاحب كتاب الأموال، وغريب الحديث، تفقه على الشافعي، وناظره في معنى (القُرء) هل هو الطهر أو الحيض، إلى أن رجع كل منهما إلى ما قاله صاحبه، وهي مناظرة مشهورة تروى في كتب الفقه. ت 224 هـ
5 - ابن مِقلاص، الإمام، أبو على عبد العزيز بن عمران بن أيوب بن مقلاص، الخزاعي، مولاهم، المصري الفقيه، كان فقيها زاهداً. ت 234 هـ
6 - قَحْزَم بنُ عبد الله بن قَحْزَم، أبو حنيفة، الأسواني، آخر من صحب الشافعي موتاً، قال ابن عبد البر: روى عنه كثيراً من كتبه، وكان مفتياً، وأصله من قبط مصر، قالوا: ما أخمل ذكرَه إلا إقامتُه بأسوان، بأقصى صعيد مصر. ت 271 هـ
7 - أخت المزني، كانت تحضر مجلس الشافعي، نقل عنها الرافعي في زكاة المعدن، فإنه صح أن الحول فيه لا يشترط، ثم قال: وفيه قول: "أنه يشترط، نقله البويطي"، إنما رواه المزني في المختصر عمن يثق به عن الشافعي، واختاره، وذكر بعض الشارحين أن أخته روت له ذلك، فلم يحب تسميتها.
...

انتشار المذهب وشيوعه في الآفاق
ثم توالى حملة الفقه طبقة بعد طبقة، كل طبقة عن سابقتها، ولم يكونوا سواء في حَمْل المذهب ونشره، فمنهم المقلّ في التأليف ومنهم المكثر، ومنهم النَّظََّار الذي يُعنى بعلم الخلاف، ومنهم الذي يهتم بالتدريس والتعليم، ومنهم من برع في الأصول والتخريج على نصوص الشافعي، وهم أصحاب الوجوه في المذهب، بل منهم من وصل إلى درجة الاجتهاد المطلق، وقد عُني كثير من الأئمة بالترجمة لعلماء المذهب، والتعريف بهم، فيما عرف بكتب (الطبقات)، وتنوعت طرقهم في التقسيم على الطبقات، ومفهوم الطبقة، كما تنوعت في البسط والإيجاز، وسنشير إلى طرفٍ من ذلك فيما يأتي.

(المقدمة/119)


حول طبقات علماء المذهب:
ترجم مؤلفو كتب الطبقات لعلماء المذهب وأعلامه، وهم يقسمونهم ويرتبونهم على طبقات زمنية، فمنهم من جعل أهل كل مائة سنة طبقة، كالسبكي، ومنهم من جعل كل عشرين سنة طبقة، كابن قاضي شُهبة، ومنهم من جعل كل خمسين سنة طبقة، كابن كثير، ثم عاد فقسم كل طبقة خمس مراتب، كل مرتبة عشر سنين، فيما عدا الطبقة الثالثة فقد جعلها مرتبتين، وكلَّ مرتبة خمساً وعشرين سنة، وكذلك الطبقة الرابعة جعلها مرتبتين، لكن جعل الأولى عشرين سنة، والثانية ثلاثين سنة.
وجعل كل خمسين طبقة ابن هداية الله الحسيني (ت 1014 هـ).
المهم أن الترتيب على السنين هو السائد والملتزم لدى الجميع عادةً، لكن هناك من رتب على الألفبائية مثل ابن الصلاح، والنووي في تهذيب الأسماء واللغات (إذا عُدّ من كتب الطبقات).
لكن ابن الملقن في طبقاته (العِقد المُذْهَب في طبقات حملة المذهب) انفرد بأمرٍ لم أره عند غيره من أصحاب كتب الطبقات، فقد قسم كلَّ حملة المذهب بدءاً من تلاميذ الإمام الشافعي إلى المعاصرين له -أي لابن الملقن- إلى طبقتين فقط، بمفهومٍ آخر ومعيارٍ آخر غير المعيار الزمني؛ ذلك أنه عَنَى بالطبقة هنا المنزلة والمكانة، والأثرَ في المذهب، فالطبقة الأولى عنده ومثلها الثانية كل منهما تبدأ بتلاميذ الشافعي والآخذين عنه، وصولاً إلى أوائل القرن الثامن، حيث انتهى بطبقاته، قبل أن يُلحقهما بمَنْ عاصَرهم من العلماء، وسماهم الطبقة الثالثة.
فالفرق إذاً بين الطبقتين ليس السبق الزمني، وإنما هو المنزلة والمكانة.
وقد سمى الطبقة الأولى "طبقة أصحاب الوجوه ومن داناهم، وعددهم يُنيف على الخمسمائة".
وقال عن الطبقة الثانية: " نذكر فيها جماعات دون أصحاب الوجوه ومن داناهم، وعددهم يُنيف على سبعمائة ".
ثم قسم الطبقة الأولى إلى أربع وثلاثين طبقة، يرتب كلاً منها على حروف

(المقدمة/120)


المعجم، وأما الطبقة الثانية فقد قسمها إلى ست وثلاثين طبقة كذلك.
ويؤكد أنه عَنَى بالطبقة المكانة والمنزلة قولُه عن الطبقة الثانية (دون أصحاب الوجوه ومن داناهم) وقولُه في أول الذيل الذي صنعه لطبقاته: "رتبتُه على حروف المعجم، لا على السِّير".
وصنيعُ ابن الملقن هذا في حاجة إلى دراسةٍ لمعرفة المعايير التي قدّم بها من قدم وأخَّر بها من أخَّر، ولنرى هل التزم المعيار الزمني داخل الطبقات الفرعية، أم راعى المنزلة والمكانة، ولنُحصي من قدَّمهم، وندرس أحوالهم، ولماذا قدمهم.
نقول ذلك لما هو معروف من منزلة ابن الملقن ومكانته، فنظره في رجال المذهب وتصنيفه لهم يستحق كل اهتمام ودراسة، فعسى أن يَنْهَد أحدٌ من شباب الباحثين لهذا الأمر، كما يجعل من غرضه إعادة إخراج طبقات ابن الملقن، فقد خرجت في طبعة لا خير فيها، كثيرة التصحيف والتحريف والتشويش، تمثل أبشع صورة للعبث بالتراث.
هذا، وقد رأينا العلاّمة أحمد بك الحسيني في الجزء الأول من مقدمته الضافية لكتابه (مرشد الأنام لبّر أم الإمام) (1) يستخدم عبارة ابن الملقن، فعند ذكره " من انتسب إلى مذهب الشافعي رضي الله عنه من حين تدوين مذهبه إلى وقتنا هذا " قال: "ولنتكلم عليهم في فصول:
(الفصل الأول: في سرد أسماء أصحابه الآخذين عنه ومَنْ بعدهم من أصحاب الوجوه ومن داناهم) ولكنه اختلف عن ابن الملقن في أمور:
1 - قسمهم إلى طبقات متبعاً تقسيم السبكي على المئات: كل مائة طبقة.
2 - انتهى بهم إلى آخر الطبقة التاسعة (الذين توفوا فيما بين التسعمائة والألف)، ولم يذكر ممن توفي أوائل القرن الحادي عشر إلا الشمس الرملي، وعبد العزيز
__________
(1) تقع هذه المقدمة في جزأين كبيرين، كل جزء يزيد على ثمانمائة صفحة بخط اليد، فأما الكتاب فيقع في أربعة وعشرين مجلداً في شرح ربع العبادات فقط، من كتاب الأم، كما هو واضح من اسمه، ولا يزال مخطوطاً أيضاً.

(المقدمة/121)


الزمزمي، وقال: " هؤلاء هم أصحاب الوجوه، وأصحاب المصنفات المعتبرة في المذهب ".
3 - أنه لم يجعل مَنْ دونهم طبقةً خاصة، بل سردهم في الفصل الثاني ضمن ذكره للمنتسبين للشافعي جميعاً.
4 - أنه لم يجعل أحداً ممن سمع الشافعي وجالسه، وكذا كل من تُوفي قبل الثلثمائة، لم يجعل أحداً من هؤلاء دون أصحاب الوجوه ومن داناهم.
5 - أنه نص على أصحاب الوجوه بأعيانهم، وميزهم عمن (داناهم) وهو يسردهم معاً.
6 - وقف بأصحاب الوجوه عند سنة 740 هـ وهي السنة التي توفي فيها آخر أصحاب الوجوه أبو خلف الطبري.
...
هذا وقد تصفحنا عدداً من كتب الطبقات:
1 - طبقات العبادي المتوفى 458 هـ
2 - طبقات الشيرازي المتوفى 476 هـ
3 - طبقات ابن الصلاح ت 643 هـ
4 - طبقات السبكي المتوفى 771 هـ
5 - طبقات الإسنوي المتوفى سنة 772 هـ
6 - طبقات ابن كثير (1) 776 هـ
7 - طبقات ابن قاضي شهبة 851 هـ
8 - طبقات ابن هداية الله ت 1014 هـ
فلم نجد أحداً من هؤلاء يُعنَى بتمييز أصحاب الوجوه، وإثبات هذه الصفة لهم عناية النووي، ويبدو أن الاتفاق على حصر أصحاب الوجوه غير ممكن؛ فهذا يقتضي
__________
(1) نص ابن كثير -فيما رأينا- على بعض أصحاب الوجوه، وكذلك صنع ابن قاضي شهبة.

(المقدمة/122)


نَخْل فقه كل واحد من هؤلاء، ومعرفة ما خرّجه من وجوه لم يُسبق بها.

ومع ذلك هناك اتفاق على عددٍ ليس بالقليل بأنهم من أصحاب الوجوه.
الإمام النووي هو الأكثر عناية بهذا الشأن
والذي تأكد لي بعد طول البحث والتقصي في المؤلفات التي تؤرخ للمذهب ورجاله، أن النووي كان أكثر عناية والتفاتاً إلى تمييز أصحاب الوجوه عن غيرهم، والنصِّ عليهم في كتابه (تهذيب الأسماء واللغات).
والنووي هو أهل هذا الشأن؛ فجهده وجهاده في الفقه -مع الرافعي- هو تحرير المذهب، أي تنقيحه، وتحديد ما يصح أن ينسب إلى الشافعي، ويسمى مذهباً له، وتمييزه عن غيره من تخريجات، واجتهادات لمجتهدي المذهب على طول القرون التي سبقت عصره. (وسيأتي مزيد إيضاح لهذه القضية).
ولذا كان حاضراً في ذهنه، ماثلاً أمام عينه منزلة أعلام المذهب وأئمته في هذا الشأن، فحيثما ذكر واحداً منهم ميزه من هذه الجهة، وقال: " من أصحاب الوجوه ".
وهذا يؤكد ما قلناه من قبل: إن الإحاطة بجميع أصحاب الوجوه غير ميسورة، فالنووي لم يترجم في تهذيبه لجميع رجال المذهب، فهناك كثير من أصحاب الوجوه غير المذكورين في (تهذيب الأسماء واللغات).
وسنعرّف ببعض أصحاب الوجوه فيما يأتي:
من أصحاب الوجوه
سنعرّف في الصفحات الآتية بالمشهورين من أصحاب الوجوه ممن نصَّ عليهم النووي في تهذيبه، وابن كثير، وابن قاضي شهبة في طبقاتهما، وكذلك أحمد بك الحسيني، وابن سُميط العلوي، وسنقتصر على من له ذكر في كتابنا هذا (نهاية المطلب)، وسنرتبهم على تاريخ الوفاة الأسبق فالأسبق، فمنهم:

(المقدمة/123)


(من الطبقة الثانية)
1 - أحمد بن سيار بن أيوب، أبو الحسن المروزي السياري.
سمع عَبْدَان بن عثمان، وعفان بن مسلم، وسليمان بن حرب، وإسحاق بن راهويه، وغيرهم، وروى عنه النسائي، وابن خزيمة، ومحمد بن نصر المروزي. ت 240 هـ.
2 - محمد بن نصر المروزي إمام أهل الحديث في عصره، كان أعلم الناس باختلاف الصحابة، ولد ونشأ بنيسابور.
سمع من هشام بن عمار، وهشام بن خالد، والربيع بن سليمان، ويونس بن عبد الأعلى، وتفقه على أصحاب الشافعي.
وروى عنه أبو العباس السراج، ومحمد بن المنذر ت 294 هـ
3 - أبو جعفر الترمذي، محمد بن أحمد بن نصر شيخ الشافعية بالعراق قبل ابن سريج، ت 295 أربع وتسعين سنة.
(من الطبقة الثالثة)
4 - أبو الطيب بن سلمة، محمد بن الفضل بن سلمة بن عاصم البغدادي، واشتهر بأبي الطيب بن سلمة نسبةً إلى جده.
قال الخطيب البغدادي: يقال: إنه تفقه على ابن سريج. ت 308 هـ.
5 - أبو عبد الله الزبيري. ويعرف بصاحب الكافي، وهو الزبير بن أحمد بن سليمان بن عبد الله بن عاصم بن المنذر بن الزبير بن العوام، الأسدي. ت 317 هـ
6 - ابن حَرْبَوَيْه، القاضي، أبو عُبيد، علي بن الحسين بن حرب بن عيسى البغدادي، قاضي مصر.
حمل العلم عن أبي ثور، وداود الظاهري. توفي ببغداد سنة 319 هـ
7 - أبو حفص بن الوكيل، البابشامي، عمر بن عبد الله بن موسى.

(المقدمة/124)


فقيه جليل، من نظراء ابن سريج، وأصحاب الأنماطي، وتفقه عليه، وهو من كبار المحدثين، وكانت وفاته ببغداد سنة 320 هـ
8 - ابن خيران: أبو علي الحسين بن صالح، أحد أركان المذهب ببغداد، تفقه بالأنماطي، ت 320 هـ
9 - أبو بكر النيسابوري، عبد الله بن محمد بن زياد بن واصل بن ميمون، مولى آل عثمان رضي الله عنه.
سمع يونس بن عبد الأعلى، والربيع، والمزني، وأبا زُرعة، وروى عنه الدارقُطني وجماعة كان من أحفظ الناس للفقهيات واختلاف الصحابة. ت 324 هـ
10 - أبو سعيد، الإصطخري، الإمام الجليل، حسن بن أحمد بن يزيد بن عيسى بن الفضل بن بشار بن عبد الحميد، قاضي (قم).
كان هو وابن سريج شيخي الشافعية ببغداد. ت 328 هـ
11 - أبو يحيى البلخي، زكريا بن أحمد بن المحدث يحيى بن موسى ختّ، القاضي الكبير، من كبار أئمة الشافعية. ت 330 هـ
12 - أبو بكر الصيرفي، محمد بن عبد الله البغدادي.
الإمام الجليل الأصولي، كان يقال: أعلم خلق الله بالأصول بعد الشافعي، تفقه على ابن سريج، وشرح رسالةَ الشافعي. ت 330 هـ
13 - ابن القاص، الشيخ، الإمام، أبو العباس، أحمد بن أبي أحمد الطبري.
أخذ الفقه عن ابن سريج، صاحب المفتاح، والمواقيت، وأدب القاضي، والتلخيص، وهو أنفسها، وقد اعتنى الأصحاب بشرحه، فشرحه أبو عبد الله الختن، ثم القفال، ثم أبو علي السِّنجي، وآخرون. توفي بطرسوس سنة 332 هـ
14 - أبو إسحاق المروزي، إبراهيم بن أحمد بن إسحاق.
تفقه على ابن سُريج. وإليه تنتهي طريقة العراقيين والخراسانيين، شرح مختصر المزني، وانتقل آخر عمره إلى مصر، وجلس مجلس الشافعي، فاجتمع الناس عليه، توفي بمصر، ودفن عند الشافعي سنة 340 هـ

(المقدمة/125)


15 - أبو بكر الصِّبغي، أحمد بن إسحاق بن أيوب بن يزيد بن عبد الرحمن بن نوح، النيسابوري. توفي 342 هـ
وهو غير أبي بكر الصِّبغي النيسابوري الآخر الذي اسمه محمد بن عبد الله بن محمد بن الحسين المتوفى سنة 344 هـ. فهما متفقان في الكنية والنسبة واللقب، ولا يختلفان إلا في الاسم وسنة الوفاة.
16 - ابن أبي هريرة: أبو علي الحسن بن الحسين، الإمام الجليل، القاضي، أحد رفعاء المذهب، تفقه بابن سريج وأبي إسحاق المروزي، ت 345 هـ.
17 - ابن الحداد، أبو بكر، محمد بن محمد بن جعفر، الكناني، المصري الإمام الجليل، صاحب (الفروع) وهو من نظار الأصحاب وكبارهم، وله كتاب (الباهر)، و (أدب القضاء) و (جامع الفقه) وقد عني بكتابه الفروع عظماء الأصحاب، فشرحه القفال، وأبو علي السنجي، والقاضي، وغيرهم. ت 345 هـ
18 - أبو علي الطبري، صاحب الإفصاح، الحسين بن قاسم، له الوجوه المشهورة في المذهب، والإفصاح شرحٌ على المختصر، تفقه على أبي علي ابن أبي هريرة، سكن بغداد، وتوفي بها سنة 350 هـ.
19 - أبو بكر الفارسي، أحمد بن الحسن (1) بن سهل، من أئمة الأصحاب ومتقدميهم، صاحب (عيون المسائل)؛ من تلاميذ ابن سريج، وفي تاريخ وفاته اختلاف واضطراب، قيل: ت سنة 305، وقيل: سنة 350 وهو ما ذكره النووي في تهذيبه، وهو الأرجح، فقد صح أنه كان موجوداً في ذي الحجة من سنة 339 هـ، ذكر ذلك السبكي في ترجمته، واستدلّ عليه بما فيه مقنع.
20 - أبو بكر المحمودي، محمد بن محمود المروزي، المعروف بالمحمودي، تفقه على أبي إسحاق المروزي، وأخذ عن عَبْدان تلميذ المزني والربيع. توفي بعد 300 هـ
__________
(1) كذا في طبقات السبكي، وعند العبادي، وكذلك النووي: " أحمد بن الحسين " (ر. طبقات السبكي: 2/ 184، وطبقات العبادي: 45، وتهذيب الأسماء واللغات: 2/ 195).

(المقدمة/126)


21 - ابن القطان، أبو الحسين أحمد بن محمد بن أحمد البغدادي، آخر أصحاب ابن سريج وفاة، أخذ عنه علماء بغداد. ت 359 هـ
22 - الإمام، سهل الصعلوكي، هو محمد بن سليمان بن محمد بن سليمان، العِجلي، الأصبهاني، ثم النيسابوري. تفقه على أبي إسحاق المروزي. ت 369 هـ
23 - أبو زيد المروزي، محمد بن أحمد بن عبد الله بن محمد، الفاشاني، من قرية فاشان، إحدى قرى مرو (بفاء مفتوحة ثم ألف ثم شين معجمة ثم ألف ثم نون) من أصحابنا الخراسانيين، من أحفظ الناس لمذهب الشافعي، وأحسنهم نظراً، تفقه على أبي إسحاق المروزي، وروى عنه الحاكم والدارقطني. ت 371 هـ
24 - أبو أحمد الجرجاني، محمد بن إبراهيم بن الصباغ، صاحب أبي إسحاق الشيرازي، تفقه على أبي إسحاق المروزي. ت 373 هـ
25 - الماسَرْجِسي، أبو الحسين، محمد بن علي بن سهل، النيسابوري، شيخ القاضي أبي الطيب، أخذ عن أبي إسحاق المروزي، وصحبه إلى مصر، ولازمه إلى أن توفي، فانصرف إلى بغداد، ثم إلى خراسان ومات بها. ت 384 هـ
26 - أبو بكر الأُودني، محمد بن عبد الله بن محمد بن نصير بن ورقة، البخاري، روى عنه الحاكم وغيره، كان إمام الشافعيين بما وراء النهر، توفي ببخارى سنة 385 هـ
27 - أبو القاسم الصيمري، عبد الواحد بن الحسين بن محمد، القاضي، نزيل البصرة، ارتحل إليه الناس من البلاد، وهو ممن تفقه عليه الماوردي، وصنف كتباً كثيرةً، منها الإيضاح. ت 386 هـ
28 - زاهر السرخسي، أبو علي، زاهر بن أحمد بن محمد بن عيسى، منسوب إلى سَرَخْس من نواحي خُراسان. تفقه على أبي إسحاق المروزي 389 هـ
29 - الخِضري، أبو عبد الله محمد بن أحمد المروزي، إمام مرو، ومقدم الشافعية، أحد شيوخ القفال. ت في عشر الثمانين والثلاثمائة. (نحو 373 هـ)

(المقدمة/127)


30 - أبو الحسن الجوري (1)، القاضي، علي بن الحسين. منسوب إلى (الجور) بضم الجيم من بلاد فارس، لقي أبا بكر النيسابوري، وحدث عنه وعن جماعة، ومن تصانيفه كتاب المرشد، في شرح مختصر المزني. ت بعد 300 هـ
(من الطبقة الرابعة)
31 - الحَليمي، أبو عبد الله، الحسين بن الحسن بن محمد بن حليم الجرجاني. أحد أئمة الدهر وشيخ الشافعيين بما وراء النهر، روى عنه الحاكم وغيره. ت 403 هـ
32 - أبو علي السِّنجي، الحسين بن شعيب بن محمد المروزي، والسِّنجي نسبة إلى (سِنج) قرية من قرى مرو. إمامُ زمانه في الفقه، تفقه على الإمامين شيخي الطريقتين: أبي حامد الإسفراييني شيخ العراقيين، وأبي بكر القفال المروزي، شيخ الخراسانيين، وجمع بين طريقتيهما، وشرح المختصر شرحاً مطولاً، وشرح أيضاً تلخيص ابن القاص، وفروع ابن الحداد، وهو والقاضي حسين أنجب تلامذة القفال. ت 430 هـ
33 - الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني، إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن مهران، إمام في الكلام والأصول والفقه وغيرها، أقام بالعراق مدةً، ثم رجع إلى وطنه إسفراين، فطلب منه أهل نيسابور الانتقال إليهم، فأجابهم، وبنَوْا له مدرسة عظيمة، فلزمها إلى أن توفي بها. ت 418 هـ
34 - أبو عاصم العبادي، القاضي، محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الله بن عباد، الهروي، صاحب المؤلفات المتعددة. ت 458 هـ
35 - القاضي حُسين، الإمام، المحقق، أبو علي، حسين بن محمد بن أحمد، المرورّوذي. أحد رفعاء المذهب، ومن له الصِّيت في الآفاق، وهو من أجلّ أصحاب القفال المروزي، تخرج عليه كثير من الأئمة، له شرح على فروع ابن الحداد. ومتى
__________
(1) وهو الوحيد الذي وجدنا العبادي في طبقاته ينص على أنه من أصحاب الوجوه (ر. طبقات العبادي: 85).

(المقدمة/128)


أُطلق (القاضي) في كتب متأخري الخراسانيين، كالنهاية، والتتمة، والتهذيب، وكتب الغزالي، ونحوها، فإياه يعنون. ت 462 هـ
ونكتفي بهؤلاء، وقد عُنينا بهم، لأن أسماءهم وردت موجزة في الأشكال البيانية الملحقة بهذا المبحث (شكل رقم 2، 3، 4) فأردنا أن نعرف بهم بعض التعريف.

تحديد أصحاب الوجوه:
أشرنا من قبل إلى أن الاتفاق على أصحاب الوجوه ليس ميسوراً، وقد صدّق قولَنا هذا العلامة بن سُمَيط العلوي الحضرمي (1277 هـ-1343 هـ)، فقد عدّدَ من أصحاب الوجوه قوماً، اتفق مع أحمد بك الحسيني في بعضهم، وزاد عنه بعضاً آخر، لم يعدّه الحسيني منهم.
فمن هؤلاء الذين زادهم ابنُ سُميط: 1 - أبو علي بن خَيْران. 2 - أبو علي بن أبي هريرة. 3 - ابن الحداد. 4 - القفال الشاشي. 5 - أبو عبد الرحمن القزاز.
فهؤلاء لم يعدَهم الحسيني من أصحاب الوجوه، لا سهواً، ولا اختصاراًَ، بل ترجم لهم، ولم يقل: (من أصحاب الوجوه) كما قال في الذين عدّدهم.
بل إن عبارة ابن سُميط توحي بأنه يرى أن أصحاب الوجوه موجودون في الطبقات بعد الرابعة، حيث يقول: "ثم جاء بعدهم بقية أصحاب الوجوه طبقة بعد طبقة" (1).
وقد خالفه في ذلك السيد علوي بن أحمد السقاف المتوفى 1335 هـ وهو -أيضاً- من محققي المتأخرين، حيث ينقل عن ابن حجر الهيتمي المتوفَّى سنة 974 هـ ما لفظه: " وفي الاصطلاح المرادُ بالأصحاب المتقدمون، وهم أصحاب الأوجه غالباً، وضُبطوا بالزمن، وهم من الأربعمائة " (2). فأنت تراه متفقاً في ذلك مع أحمد بك الحسيني، وهذا هو المقبول والراجح، وإن كنا لا نمنع أن يوجد آحاد بعد ذلك لهم القدرة على التخريج.
__________
(1) ر. الابتهاج في بيان اصطلاح المنهاج: 7، 8.
(2) ر. الفوائد المكية: 46.

(المقدمة/129)


من غير أصحاب الوجوه، أعمدة وأركان للمذهب:
ولم يكن أصحاب الوجوه وحدهم أصحاب الأثر في نشر المذهب وشيوعه، فإذا كان أصحاب الوجوه هؤلاء قد أفادوا المذهب بتفريعهم وتَخريجهم على نصوص الشافعي -على ما سنشرح معنى الوجهين بعدُ- فإن هناك من الأصحاب من أوتي القبول في التدريس، والقدرة على المباحثة، فكثر تلاميذُه، وحملوا المذهب، وانساحوا به في الأرض.
ومنهم من وهب القدرة على التصنيف والإملاء، فحملت كتبه إلى الآفاق، وحَفِظَتْ مادةَ الفقه، ويسَّرت التفقه على المذهب.
ومن الأصحاب من مُنح القدرة على المناظرة، ونصرة المذهب أمام المخالفين، ومنهم من جمع الله له كلَّ ذلك، ولا حرج على فضل الله.
ونذكر بعض المشهورين من هؤلاء، سرداً بدون ترجمة؛ طلباً للإيجاز، فمنهم:
1 - داود الظاهري، أبو سليمان داود بن علي بن خلف، كان من أجل أنصار الشافعي قبل أن يستقل بمذهب الظاهر. ت 270 هـ
2 - الأنماطي، أبو القاسم، عثمان بن سعيد بن بشار توفي 288 هـ
3 - عَبْدان بن محمد بن عيسى، الإمام، أبو محمد، المروزي ت 293 هـ
4 - ابن بنت الشافعي، أحمد بن عبد الله بن محمد بن العباس بن عثمان بن شافع ت 295 هـ
5 - إبراهيم بن محمد البلدي ت (نحو 299 هـ).
من الطبقة الثالثة
6 - أبو زُرعة الدمشقي، القاضي، محمد بن عثمان بن إبراهيم بن زرعة، الثقفي، مولاهم، الدمشقي. ت 302 هـ

(المقدمة/130)


7 - ابن سُرَيْج (1)، أبو العباس، أحمد بن عمر البغدادي ت 306 هـ
8 - أبو عَوانة، الإسفراييني، الحافظ، يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، بن زيد النيسابوري ت 316 هـ
9 - أبو الوليد النيسابوري، حسان بن محمد بن أحمد بن هارون القرشي، الأموي ت 349 هـ
10 - القاضي أبو حامد المرورّوذي، أحمد بن بشر بن عامر العامري. ت 362 هـ
11 - القفال الكبير، الشاشي، أبو بكر، محمد بن علي بن إسماعيل. ت 365 هـ
12 - أبو بكر الإسماعيلي، أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن العباس، الإسماعيلي. ت 371 هـ
13 - صاحب التقريب، الإمام أبو الحسن القاسم، ابن القفال الشاشي الكبير، القاسم بن محمد بن علي بن إسماعيل. ت نحو 399 هـ
من الطبقة الرابعة
14 - أبو الحسن المحاملي، أحمد بن محمد بن أحمد بن القاسم بن إسماعيل الضبي، المعروف بابن المحاملي. ت 415 هـ
15 - القفال الصغير، المروزي، أبو بكر، عبد الله بن أحمد بن عبد الله. ت 417 هـ
16 - الصيدلاني، أبو بكر، محمد بن داود بن محمد الدّاودي. ت 427 هـ
17 - الجويني، أبو محمد، والد إمام الحرمين، عبد الله بن يوسف بن عبد الله بن يوسف بن محمد بن حَيُّوية. ت 438 هـ
18 - القاضي أبو الطيب الطبري، طاهر بن عبد الله بن طاهر بن عمر. ت 450 هـ
...
__________
(1) لم يذكر أحد من أصحاب الطبقات أنه من أصحاب الوجوه، ولكن الإمام أكثرَ من حكايات الوجوه عنه في (النهاية).

(المقدمة/131)


العراقيون والخراسانيون (1)
كما أشرنا من قبل انساح الفقه الشافعي في دار الإسلام، يحمله الأصحاب جيلاً عن جيل، حتى وصلنا إلى نهايات القرن الرابع وأوائل القرن الخامس، فظهر مصطلح: أصحابنا الخراسانيون، وأصحابنا العراقيون.
ثم تبع ذلك ما سُمي طريقةَ العراقيين، وطريقة الخراسانيين.
ونحب أن نؤكد هنا عدة أمور:
1 - أن هذه النسبة: عراقي أو خراساني، لا علاقة لها بالِعْرق والميلاد، وإنما تأتي هذه النسبة من الشيوخ والتلقي، وموطن المدَارَسة، والتّلْمذة، فقد يكون الصاحب خُراسانيّ الأصل والعِرْق، والمولد، ولكنه عاش في العراق، وسمع شيوخ العراق، فهو حينئذٍ عراقي، وأوضح مثالٍ على ذلك الشيخ أبو حامد الإسفراييني، شيخُ طريقة العراقيين، فهو إسفراييني المولد، بل والنشأة، فقد قدم بغداد شاباً، وتفقه على شيوخه العراقيين وتخرّج بهم، فصار بهذا عراقياً، بل هو شيخُ طريقة العراقيين.
قال السبكي في ترجمته: "ولد سنة أربع وأربعين وثلثمائة، وقدم بغداد شاباً، فتفقه على الشيخين: ابن المرزبان: [علي بن أحمد، أبو الحسن، البغدادي، المتوفى 366 هـ] (2) والداركي (3)، [أبو القاسم، عبد العزيز بن عبد الله بن محمد بن عبد العزيز، والدارَكي نسبة إلى (دارَك) من أعمال أصبهان ت 375 هـ] (4).
__________
(1) انظر الشكل الثالث.
(2) ما بين المعقفين زيادة منا لتوضيح ما أورده السبكي.
(3) طبقات السبكي: 4/ 61 - 65.
(4) ما بين المعقفين زيادة منا لتوضيح ما أورده السبكي.

(المقدمة/132)


الشكل الثالث: يبين أعلام طريقتي الفقه الشافعي ثم الجمع بين الطريقتين:
أ- الخراسانيون
القفال الصغير المروزي، أبو بكر عبد الله بن أحمد ت 417 هـ شيخ طريقة الخراسانيين ومن أشهرهم:
1 - أبو محمد الجويني ت 438 هـ
2 - الفوراني: أبو القاسم عبد الرحمن بن محمد بن فوران ت 461 هـ
3 - القاضي حسين: الحسين بن محمد بن أحمد، أبو علي المروزي ت 462هـ
4 - الشيخ أبو على السنجي: الحسين بن شعيب المروزي السنجي ت 427 هـ وقيل 430 هـ
5 - المسعودي: أبو عبد الله محمد بن عبد الملك بن المسعود بن أحمد المروزي، توفي سنة نيف وعنرين وأربع مئة هـ
6 - إمام الحرمين: عبد الملك بن عد الله بن يوصف الجويني ت 478 هـ

ب- العراقيون
الشيخ أبو حامد الاسفراييني ت 406 هـ رأس طريقة العراقيين، تبعه جماعة لا يحصون عدداً، أشهرهم:
1 - الماوردي: القاضي أبو الحسن علي بن حبيب ت 450 هـ
2 - القاضي أبو الطيِّب الطبري: طاهر بن عبد الله بن طاهر ت 450 هـ
3 - القاضي أبو علي البندنيجي: الحسن بن عبد الله ت 425 هـ
4 - المحاملي: أبو الحسن: أحمد بن محمد بن أحمد بن القاسم المحاملي، ت 415 هـ
5 - سيم الرازي: أبو الفتح: سليم بن أيوب الرازي ت 447 هـ
6 - أبو إسحاق الشيرازي ت 476 هـ
7 - القاضي أبو علي الفارقي: الحسن بن إبراهيم ت 528 هـ
8 - ابن أبي عصرون: أبو سعد عبد الله بن محمد بن هبة الله بن علي الموصلي ت 585 هـ

من جمع بين الطريقتين:
أ- هؤلاء خراسانيون جمعوا بين الطريقتين
1 - الشيخ أبو علي السنجي (ت 427 هـ)
2 - أبو عبد الله الحليمي (ت 403 هـ)
3 - المتولي صاحب التتمة (ت 448 هـ)
4 - إمام الحرمين (ت 478 هـ)
5 - الكليا الهراسي (ت 504)
6 - أبو حامد الغزالي (ت 505)

ب- هؤلاء عراقيون جمعوا بين الطريقتين
1 - أبو إسحاق الشيرازي (ت 476)
2 - ابن الصباغ صاحب الشامل (ت 477)
3 - الروياني صاحب البحر (ت 502)
4 - القفال الشاشي صاحب الحلية (ت 505)

(المقدمة/133)


فها هو الشيخ أبو حامد يولد في إسفراين - بكسر الهمزة والياء، كما ضبطها الفيروزآبادي، وكذلك ابن خلكان، أما ياقوت في معجم البلدان، فقد ضبطها بفتح الهمزة وياءين -وهي بلدة بخراسان من نواحي نيسابور على منتصف الطريق إلى جرجان- فهو خراساني المولد والنشأة، ولكنه عراقي التفقه، فصار من (أصحابنا العراقيين).
بل إن هذا ينطبق أيضاً على شيخه الدارَكي، فمع أنه دَارَكي، أصبهاني، نيسابوري، خراساني، وتفقه على الشيخ أبي إسحاق المروزي، ودرّس في نيسابور، إلا أنه انتهى بغدادياً (من أصحابنا العراقيين) وانتهى إليه الفقه في بغداد، وعنه أخذ عامة شيوخها (1).
2 - ومما ننبه إليه أيضاً أن الخراسانيين يسمّون أيضاً بالمراوزة، فتارة يقولون:
" أصحابنا الخراسانيون "، وأخرى يقولون: " أصحابنا المراوزة "، وهما سواء على
حد تعبير ابن الملقن في طبقاته، وقد علل لذلك بقوله: " لأن أكثر الخراسانيين من
مرو وما والاها " (2) فإن أراد " بما والاها " باقي مدن خراسان: نَيْسابور، وهَراة،
وبَلْخ، وما حولها، فهو صحيح إن شاء الله.
أما إذا أراد بذلك أن أكثر الخراسانيين من مدينة مرو بذاتها، فهذا خلاف الواقع،
فإن مرو ليست كبرى مدن خراسان، فقد حَكَوْا في سبب الجفوة التي كانت بين
أبي القاسم الفوراني وإمام الحرمين= أن الفوارني جاء من مرو إلى نيسابور للعزاء في
الشيخ أبي محمد والد إمام الحرمين، وكان في تقديره أن المتفقهة في نيسابور
سيُجلسونه مكان أبي محمد شيخاً لفقهاء نيسابور؛ فإنهاأكبر من مرو التي كان شيخاً
لها، ولكنه فوجىء بأن أهل نيسابور أجلسوا إمام الحرمين مكان أبيه؛ فأظهر أنه جاء
للعزاء لاغير.
وعلى عادة أئمتنا في ذلك العصر، بقي في نيسابور مدة، ليدرّس، ويناظر،
__________
(1) السبكي: 3/ 330 - 331.
(2) ر. العقد المُذهب في طبقات حملة المذهب، لابن الملقن: 216.

(المقدمة/134)


وكان إمام الحرمين يغشى حلقته، ويحضر مناظراته، فلم يكن يلتفت إليه، ويحلّه بالمحل اللائق به، فمن هنا كانت هذه الجفوة التي سجلها التاريخ، ورأينا آثارها في كتابنا هذا (نهاية المطلب)، حيث لم يصرح إمام الحرمين باسمه مرة واحدة، على طول هذا الكتاب، وإنما يقول عنه حيث يضطر لذكره: " بعض المصنفين " حتى تسمية كتبه لم يصرح بها إمام الحرمين، وإنما يقول: " وفي بعض التصانيف ".
ويعنينا من ذلك أن نثبت أن (مرو) لم تكن أكبر مدن خراسان، على الأقل في ذلك الوقت.
فما السبب الذي من أجله ساغ إطلاق لفظ (المراوزة) على (الخراسانيين)؟
أعتقد أن السبب في ذلك هو ما وقع اتفاقاً من أن شيخ الطريقة وهو القفال كان مروزيّاً، وكان شيخه أبا زيد المروزي، وشيخ شيخه أبو إسحاق المروزي؛ فمن أجل ذلك صح وضع أحد الاسمين مكان الآخر، وأن يقال عن أي خراساني: (مروزي) وإن لم يدخل (مرو).
واعتبر هذا بما لو كان شيخ الطريقة (بلخياً) أو (هروياً).
3 - والذي ننبه إليه ثالثاً أن بإطلاق لفظ (خراسانيين) في هذا المقام لا يراد به خراسان بحدودها الجغرافية -على سعتها وامتدادها- بل المراد كل الجناح الشرقي لدار الإسلام، فيشمل كلَّ ما وراء النهر إلى حدود الهند والصين.
وقد نبه إلى ذلك ابنُ الملقن، فقال وهو يُعدِّد مواطن الخراسانيين: " وجماعة من أصحابنا من بلاد المشرق كأصبهان، وجُرجان، وسمرقند، ونَسف، وهراة، ومرو، وبخارى، وشيراز، والرَّي، وطوس، وهمدان، ودامغان، وساوة، وتبريز، وبيهق، ومَيْهَنة، وإستراباذ، وغير ذلك من المدن الداخلة في أقاليم ما وراء النهر، وخراسان وأذربيجان، وماريدان، وخُوارِزْم، وغَزْنة، وكرمان، إلى بلاد الهند، وجميع ما رواء النهر إلى أطراف الصين والعراقَيْن -يقصد العراق العربي والعراق العجمي- وغير ذلك " (1) ا. هـ
__________
(1) ر. العقد المُذْهب في طبقات حملة المذهب: 216 (بتصرف يسير).

(المقدمة/135)


ويبدو أن (نيسابور) كانت عاصمة خراسان، أو كالعاصمة لها، ولهذا عقد ابن الملقن موازنةً بينهما حين قال: " وكل نيسابوري خراساني، ولا عكس؛ فالخراسانيون أعم منهم، وليس الخراسانيون مع نيسابور كالعراقيين مع بغداد، فثم جمعٌ من خُراسان لم يدخلوا نيسابور بخلاف العراقيين، لاتساع بلاد خراسان، وكثرة المدن بها (1) ".
فواضح أنه يفرق بين بغداد بالنسبة للعراقيين، ونيسابور بالنسبة للخراسانيين؛ فكل عراقي يدخل بغداد، وليس كل خراساني يدخل نيسابور؛ ويعلل ذلك باتساع بلاد خراسان، وإنما نبهنا إلى ذلك، وقلنا: إن المراد في هذا المقام ليس خراسان بحدودها الجغرافية؛ لأننا وجدنا ياقوت في معجم البلدان ينبه على أن ما وراء النهر ليس من خراسان فيقول: " ومن الناس من يُدخل أعمال خوارِزم في خراسان، ويعدّ ما وراء النهر منها، وليس الأمر كذلك " (2) وكأني به يردّ على هذا التوسّع الذي رآه في كتب طبقات المذهب ومصطلحاته. والله أعلم.
4 - وننبه أيضا أن لفظ أو مصطلح (العراقيين) يطلق أيضا ويراد به الأحناف، وأوضح ما يمثل ذلك الاستعمال كتاب إمامنا الشافعي بعنوان: (اختلاف العراقيَّين): يعني أبا حنيفة، وابنَ أبي ليلى، وهو ضمن كتاب الأم (الجزء السابع). وأيضاً كتاب الكوثري بعنوان: (فقه أهل العراق وحديثهم).
فإذا قيل أو أطلق لفظ (العراقيون) في مقابلة الخراسانيين، فالمراد به الأصحاب من أهل العراق، وأما إذا أطلق في مقابلة مذهب الشافعي أو غيره، فالمراد به أصحاب أبي حنيفة رضي الله عنه.
5 - ومما يلفت النظر أن المصريين لم يكن لهم طريقة خاصة بهم، مع أن المذهب مصري: اكتمل بناؤه، وبلغ أشده بمصر، فلماذا لم نجد طريقة المصريين بجوار طريقة العراقيين والخراسانيين؟
__________
(1) السابق نفسه.
(2) ر. معجم البلدان: 2/ 350.

(المقدمة/136)


وإذا قلنا: إن العراق كانت مهوى الأفئدة، ومحط رحال العلماء، حيث بغداد عاصمة دار الإسلام، بل عاصمة الدنيا في ذيّاك الزمان، فما بال خراسان وبلاد المشرق تناصي بغداد وحدها دون مصر؟
والجواب عن ذلك سهل ميسور، يظهر لمن عنده شيء من التأمل في تاريخ أمتنا، يوضح له الحقائق الآتية:
1 - لم تكن بلاد الإسلام على النحو الذي هي عليه الآن من الحدود والسدود، والقيود، وقوانين الجنسية، بل كانت كل بلاد الإسلام داراً واحدة، ينتقل فيها المسلم كيفما شاء، ويستوطن حيثما شاء؛ فلا يصح قياس الغائب على الحاضر، ولا تتصور ما كان على ما هو كائن اليوم.
ب- إن الرحلة في طلب العلم كانت ديدن علمائنا وأئمتنا، ينبغ الواحد منهم حيث نبغ، فيأخذ عن أهل بلده، وعلماء إقليمه، حتى إذا شعر أنه حاز كل ما عندهم انتقل إلى جهة أخرى، يبحث عن جديدٍ فيها، ويعرض ما عنده، ويمتحنه بالمناظرة، فيأخذ ويُعطي، ويظل هكذا يعلم ويتعلم طول حياته.
وليس من الاستطراد أن أقول: إن هذا -الرحلة في طلب العلم واعتبار كل بلاد الإسلام داراً واحدة- ظل إلى عهد قريب، فقد كان الشيخ محمد الخضر حسين شيخاً للأزهر في عام 1952 م وهو تونسي الأصل، لم يقل أحدٌ يومها: كيف يتولى مشيخة الأزهر (أجنبي)؟ ومن الطريف أن وكيل الأزهر في أيامه كان الشيخ محمد نور الحسن، وهو (سوداني). تأمل. شيخ الأزهر تونسي، ووكيله سوداني، وأين علماء مصر؟ لم يقل أحد ذلك، بل لم يخطر على بال أحد أن ينظر إلى ذلك.
كان الشيخ محمد الخضر حسين تونسياً، تخرج في الزيتونة، وعمل بالقضاء، ثم التدريس في الزيتونة، ثم انتقل إلى دمشق واستقر بها، ولكنه عاد فشد الرحال إلى مصر، وتقدم للامتحان بالأزهر، فحصل على شهادة العالمية، وأنشأ بمصر جميعة أهلية (جمعية الهداية) ومجلة الهداية، وخاض معارك أدبية وعلمية ضد الشيخ علي عبد الرازق وكتابه: الإسلام وأصول الحكم. وضد طه حسين في كتابه (في الشعر الجاهلي).

(المقدمة/137)


وظل يصول ويجول في الساحة الفكرية والسياسية المصرية حتى توفي 1958، ودفن بناءً على وصيته في مقبرة صديقه العلامة أحمد تيمور باشا.
ونذكر في هذا الباب أيضاً العلامة الشيخ محمد رشيد رضا الذي رحل من طرابلس لبنان إلى مصر، فأنشأ بها مجلة المنار، وظل علماً من أعلام الفكر، له مدرسته الخاصة التي لها أثرها للآن. توفي سنة 1935 م.
ونذكر أيضاً الشيخ الدمشقي محب الدين الخطيب الذي أنشأ بمصر المطبعة السلفية ومكتبة ومجلة الفتح والزهراء، ورأس تحرير مجلة الأزهر. ت 1969 م.
فهؤلاء مُثل لما كان عليه الحال في هذا التاريخ القريب. فتأمل كيف صارت أمورنا الآن!
ومن يتأمل كتب التراجم والطبقات يجد في هذا الباب (الرحلة في طلب العلم) عجباً، مما يجعله جديراً بأن يكون موضوعاً لبحثٍ أو أطروحةٍ علمية، على أني أريده بحثاً إحصائياً أولاً، بمعنى تتبع الذين ارتحلوا في طلب العلم، وحصر أعدادهم، ومدة ارتحالهم، وعدد المواطن التي ارتحلوا إليها، وأكثر المَواطن اجتذاباً للعلماء في كل عصر، وعدد الذين عادوا إلى موطنهم الأصلي، وعدد الذين استجدّوا لهم موطناً ... إلخ.
ثم يأتي بعد ذلك أثر الرحلة في علومهم، ومن تأثر، ومن أثر ... إلخ.
جـ- إذا تأملت البندين السابقين سهل عليك أن تعلم أن تلامذة الشافعي الذين كانوا يجلسون إليه ويتلقَّون عنه لم يكونوا جميعاً مصريين، وأن من سمعه وأخذ عنه من المصريين لم يبقوا جميعاً في مصر، وهذا نقوله عن مجرد ملاحظة ويحتاج الأمر إلى إحصاء وتتبع، لسنا له الآن.
ولكن المقطوع به أن الذين حملوا المذهب عن تلاميذ الشافعي غير المصريين كانوا أضعاف أضعاف المصريين، ويكفي دليلاً على ذلك ما رواه النووي في تهذيب الأسماء واللغات عن محمد بن أحمد بن سفيان الطرائقي البغدادي أنه كان يقول: "سمعت

(المقدمة/138)


الربيع بن سليمان يوماً، وقد حط على باب داره تسعمائة راحلة في سماع كتب الشافعي رضي الله عنه" (1).
وربما يغني عن كل ذلك أن نقول: إن الفاطميين دخلوا مصر في سنة 358 هـ واستقروا بها، وقضوا على المذهب الشافعي بها.
فإذا عرفنا أنّ ظهور الطريقتين كان في أواخر القرن الرابع وأوئل القرن الخامس، وأن أبا إسحاق المروزي الذي أخذ عنه شيوخ رأسي الطريقتين توفي سنة 340 هـ إذا عرفنا ذلك أدركنا لماذا لم تتميز مصر بطريقة خاصة بها مثل خراسان والعراق، فقد انتهى وجود المذهب في مصر قبل نشوء الطريقتين.

عودٌ إلى مسألة الطريقتين
أول ما نلاحظه أنه مع كثرة ترداد المصطلح في كتب الأئمة، فتراهم يقولون: في طريقة العراقيين كذا، وفي طريقة الخراسانيين كذا، مع كثرة هذا الترداد لم نجد عناية تذكر بهذه القضية ممن ألف في طبقات المذهب ومصطلحاته؛ فلم نجد كتابة شافيه، ولا كافية في هذا الشأن.
فكل ما وجدناه عن الطريقتين عند الإمام النووي في الفصل الذي عقده في مقدمة المجموع لبيان القولين والوجهين والطريقين، كل ما وجدناه هو قوله: " وأما الطرق، فهي اختلاف الأصحاب في حكاية المذهب، فيقول بعضهم مثلاً: في المسألة قولان أو وجهان، ويقول الآخر: لا يجوز، قولاً واحداً، أو وجهاً واحداً أو يقول أحدهما: في المسألة تفصيل، ويقول الآخر: فيها خلاف مطلق. وقد يستعملون الوجهين، في موضع الطريقين وعكسه " (2).
ومن بين مؤلفي كتب الطبقات وجدنا ابن الملقن وحده الذي يعقد فصلاً افتتحه بقوله: " وقد انقضى الكلام بحمد الله ومنِّه على الطبقة الأولى بأقسامها مستقصىً،
__________
(1) ر. تهذيب الأسماء واللغات: 1/ 48، 49.
(2) ر. مقدمة المجموع: 1/ 66.

(المقدمة/139)


ونختم الكلام فيها بقاعدة مهمة، وهي بيان انقسام أصحابنا إلى عراقيين وخراسانيين" (1).
ولكنه تحت هذا العنوان لم يزد على بيان من هم العراقيون، ومن هم الخراسانيون، وشغل الفصل كلَّه ببيان مدن خراسان، ومن أَرَّخ لكل مدينةٍ منها، بعد أن قال في مفتتح الفصل: " فاعلم أن أصحابنا تفرّقوا، فالعراقيون أهل بغداد، وما والاها، وقد صنف الخطيب (تاريخ بغداد) وذيّل عليه ابنُ النجار، وابنُ السمعاني " (2). ثم أكمل -كما أشرنا- بذكر مدن خراسان ومَنْ أرّخ لها.
ولم يُشر إلى معنى الطريقة، ولا متى نشأت، وكيف نميز بين رجال هذه وتلك، بل يُفهم من صنيعه أنه لا يقصد إلى شيء من ذلك، فإنه يدعونا إلى التعرف على الأصحاب العراقيين من خلال تاريخ بغداد وذيوله، والتعرف على الخراسانيين من تاريخ نيسابور للحاكم، وتاريخ أصبهان لأبي نُعيم، وتاريخ مرو لابن السمعاني ... إلخ.
ومعلوم أن كل كتاب من هذه الكتب يترجم لكل من دخل المدينة التي يؤرخها ممن لهم شأن: قادة كانوا، أو أمراء، أو شعراء، أو نحاة، أو لغويين، أو فقهاء، فلا علاقة لها بما نحن فيه من معنى الطريقة ورجالها.
وفيما عدا ذلك لم نجد إلا شذرات وإشارات تتكرر في كل كتب الطبقات تقريباً، وربما بنفس الألفاظ.
فعند الترجمة للقفال المروزي المتوفى 417 هـ يقولون: رأس طريقة أصحابنا الخراسانيين.
وعند ترجمة الشيخ أبي حامد الإسفراييني المتوفى 406 هـ يقولون: رأس طريقة العراقيين.
__________
(1) ر. العِقد المُذْهَب في طبقات حملة المذهب: 215، 216.
(2) السابق نفسه.

(المقدمة/140)


وعند ترجمة الشيخ أبي على السنجي المتوفى 430 هـ يقولون: أول من جمع بين الطريقين.
وعند ترجمة الشيخ أبي إسحاق المروزي المتوفى 340 هـ يقولون: وعنده تلتقي الطريقتان.
هذا كل ما وجدناه عن الطريقتين. أما معنى الطريقة ومفهومها، فلم نجد عندهم شيئا، وأما عوامل تباين الطريقتين وسبب نشأتهما، فلم نجد شيئاً، كما لم نجد شيئاً ذا بال عن الأصحاب في كل طريقة، وعما امتازت به كتب ومؤلفات كل طريقة.
هذا ما وجدناه عند المتقدمين وفي كتبهم.
أما المتأخرون، فقد وجدنا خاتمة المحققين منهم العلامة، أحمد بك الحسيني المتوفى 1332 هـ-1914 م يقول في مقدمات كتابه (دفع الخيالات) -بعد أن لخص كلامَ النووي في معنى القولين والوجهين والطريقين- يقول: " وكل ذلك قد بسطته بسطاً وافياً، وبينته بياناً شافياً في مقدمة كتابنا: شرح الأم المسمى (مرشد الأنام لِبّر أُم الإمام) يعز على أهل عصرنا، بل ومن قبلهم بمئين من السنين أن يقفوا عليه، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء " (1).
فكان هذا القول، بهذا الأسلوب، وبهذه المباهاة دافعاً للبحث عن مقدمته تلك، فهي ما زالت مخطوطة، فوجدنا فيها ما نصه:
"تتميم في بيان المراد من قولهم: (طريقة العراقيين وطريقة الخراسانيين)
اعلم أن مدار كتب أصحابنا العراقيين أو جماهيرهم مع جماعة من الخراسانيين على تعليق الشيخ أبي حامد الإسفراييني، وهو في نحو خمسين مجلداً، جمع فيه من النفائس ما لم يشاركه في مجموعه غيره، من كثرة المسائل والفروع وذكر مسائل العلماء وبسط أدلتها والجواب عنها وعنه انتشر فقه أصحابنا العراقيين، وهو شيخ طريقة العراق. وممن تفقه عليه من أئمة الأصحاب أبو الحسن الماوردي، صاحب الحاوي الكبير، والقاضي أبو الطيب الطبري، صاحب التعليقة المشهورة، وسُليم
__________
(1) دفع الخيالات عن القول الوضاح: 8.

(المقدمة/141)


الرازي، صاحب المجرد، وأبو الحسن المحاملي، صاحب المجموع، وأبو علي البندنيجي صاحب الذخيرة، وغير هؤلاء ممن لا يُحصى كثرة.
فإذا أطلقوا في الكتب لفظ قال أصحابنا العراقيون كذا، وطريقة أصحابنا العراقيين كذا، فمرادهم الشيخ أبو حامد الإسفراييني وأتباعه هؤلاء المذكورن.
كما أنهم إذا أطلقوا لفظ قال أصحابنا الخراسانيون كذا وطريقة أصحابنا الخراسانيين كذا فمرادهم القفال المروزي، شيخ طريقة خراسان وأتباعه، وهم أبو بكر الصيدلاني، وأبو القاسم الفوراني، والقاضي حسين المرورّوزي، والشيخ أبو محمد الجويني، وأبو علي السنجي، قيل والمسعودي، فتارة يقولون: قال الخراسانيون، وتارة يقولون: قال المراوزة، وهما عبارتان عن معبَّر واحد.
فالخراسانيون، وإن كانوا أعم من المراوزة؛ لأن مدن خراسان العظيمة أربعة: مرو، ونيسابور، وبلخ، وهراة، لكنهم يعبرون تارة عن طريقة الخراسانيين بقولهم: قال المراوزة، لأن شيخ طريقة الخراسانيين ومعظم أتباعه مراوزة، فالقفال المروزي أخذ عن أبي زيد المروزي، عن أبي إسحاق المروزي، والشيخ أبو حامد الإسفراييني أخذ عن أبي القاسم الداركي، عن أبي إسحاق المروزي، فأبو إسحاق المروزي إليه منتهى الطريقين.
وأما إذا قالوا: في كتب الخراسانيين كذا، فإن هذا الإطلاق يشمل كتب أصحاب الطريقة المذكورين وسائر كتب أئمة خراسان، كما أنهم إذا قالوا: في كتب العراقيين كذا، فإنه يشمل كتب أصحاب الطريقة المذكورين وسائر كتب أئمة العراقيين، فمن كتب الخراسانيين: النهاية لإمام الحرمين، والوسيط للغزالي، وتعليق القاضي حسين، والإبانة للفوراني، والتتمة للمتولي، والتهذيب للبغوي، والعدة لأبي المكارم الروياني، وبحر المذهب لأبي المحاسن الروياني وغيرها.
ومن كتب العراقيين: المجموع واللباب والمقنع للمحاملي، والذخيرة لأبي علي البندنيجي، والمجرد لسُليم، وتعليق القاضي أبي الطيب الطبري، والحاوي الكبير للماوردي، والمعتمد لأبي نصر البندنيجي، والمهذب والتنبيه للشيخ أبي إسحاق الشيرازي، والشامل لابن الصباغ، والتهذيب لنصر المقدسي، والحلية لفخر الإسلام

(المقدمة/142)


الشاشي، والعدة للحسين بن علي الطبري، والذخائر لمجلي، وغيرها.
وأما إذا أطلقوا في الكتب لفظ الأصحاب فهذا الإطلاق يعم أصحاب الطريقين ومن عاصرهم ومن كان قبلهم من الأئمة العظام ومن كان بعدهم.
ثم بعد أصحاب الطريقين جماعة من الأصحاب ينقلون الطريقين كأبي عبد الله الحَليمي، والروياني صاحب البحر، ومجلي صاحب الذخائر، وإمام الحرمين، والمتولي صاحب التتمة، والغزالي، وغيرهم.
وأما أصحاب الوجوه، فهم أخص من لفظ الأصحاب لأن كل من كان من أصحاب الوجوه يدخل تحت لفظ الأصحاب ولا عكس، وأصحاب الوجوه معروفون ويدخل فيهم أصحاب الطريقين" ا. هـ (1)
هذا ما كتبه الشيخ في المقدمة عن الطريقتين، فإن أراد بقوله: " بسطته، وبينته بسطاً يعز على أهل عصرنا، ومن قبلهم بمئين السنين أن يقفوا عليه " أنه جمع مفرّقه، ولمّ شعثه، ورتب مشوشه، فقد فعل، وجزاه الله خيراً، وهذا أحد الأغراض السبعة التي يصح فيها التأليف.
وأما إذا أراد أنه زاد القضيةَ إيضاحاً أو تفسيراً، أو تعليلاً، أو استنبط مما قاله السابقون شيئاً، فلم يكن شيء من ذلك، وما أظنه يقصده.
وقد عاصر الشيخَ اثنان من علماء المذهب الذين عُنوا بالكتابة عن تطوره ومصطلحاته، وهما السيد علوي بن أحمد السقاف، المتوفى 1335 هـ-1916 م، وابنُ سُميط العلوي، أحمد بن أبي بكر، المتوفى 1343 هـ-1924 م.
الأول له كتاب: (الفوائد المكية فيما يحتاجه طلبة الشافعية من المسائل والضوابط والقواعد الكلية)
وكما هو واضح من عنوانه فإنه يتناول فيما يتناول المصطلحات التي تدور ويتداولها طلاب المذهب الشافعي، وقد أفاد فعلاً في ذكر قواعد وضوابط، ومقدمات ومبادىء لا يستغني عنها طالب العلم، وعقد فصلاً خاصاً بمصطلحات الشافعية أجاد فيه وأفاد
__________
(1) مقدمة مرشد الأنام: 2/ 678 وما بعدها.

(المقدمة/143)


إلا أنه مرّ مرور الكرام على مصطلح الطريقتين، فلم يتكلم فيه بِجملةٍ واحدة.
وأما ابن سُمَيْط، فله رسالة لطيفة بعنوان: (الابتهاج في بيان اصطلاحات المنهاج) تحدث في هذه الرسالة عن نشاة المذهب وتطوره، وأهم أعلامه، والمؤلفات المشهورة والمعتمدة حتى عصره، كل ذلك في إيجاني بليغ، لم يزد عن بضع ورقات.
ومع ذلك عرض لمصطلح الطريقتين والجمع بينهما كحلقة من حلقات تطوّر المذهب، فتكلم عن نشأتهما، وشيخيهما، ورجالهما، وكتبهما بنحو ما تكلم به الشيخ أحمد بك الحسيني، وربما بالألفاظ نفسها تقريباً، فكلاهما نقل كلام النووي في (تهذيب الأسماء واللغات)، وما جاء في كتب الطبقات.
أما البحوث المعاصرة بما فيها الأطروحات الجامعية (1)، فلم نجد فيها من التفت إلى هذه المسألة إلا ذلك البحث الرائد (2) للعلامة الشيخ محمد إبراهيم أحمد علي من علماء أم القرى، زادها الله تعظيماً وتشريفاً، وقد عزا ما قاله إلى الشيخ أحمد بك الحسيني في مقدمة دفع الخيالات ص 5؛ ولذا جاء كلامه موجزاً عما نقلناه لك آنفاً من مقدمة (مرشد الأنام).
وأما شيخنا وشيخُ شيخنا الإمام محمد أبو زهرة، فقد عقد فصلاً، في كتابه الذي كتبه (الإمام الشافعي) (3)، بعنوان (المجتهدون في المذهب الشافعي) تحدث فيه عن طبقات المجتهدين في المذهب وأصحاب الوجوه، ولكنه لم يلتفت إلى مصطلح
__________
(1) رأينا عملين جدين الأول: الإمام الشافعي في مذهبيه القديم والجديد للدكتور نحراوي عبد السلام رسالة دكتوراة من كلية الشريعة بالأزهر بالقاهرة، مكتبة الشباب، 1408 هـ-1988 م.
والثاني بعنوان (المدخل إلى مذهب الإمام الشافعي) رسالة دكتوراة من كلية الشريعة بالجامعة الأردنية من الدكتور أكرم يوسف عمر القواسمي، عمان دار النفائس، 1423 هـ-2003 م.
(2) هذا البحث بعنوان: (المذهب عند الشافعية، منشور بمجلّة جامعة الملك عبد العزيز (أم القرى فيما بعد)، العدد الثاني، جمادى الآخرة 1398 هـ- مايو 1978 م الصفحات من 25 إلى 48.
(3) الإمام الشافعي -حياته وعصره- أراؤه وفقهه: 384.

(المقدمة/144)


الطريقتين، مع أنه اعتمد فيما قاله على ما ذكره النووي في مقدمة المجموع، وفيه تعريف وبيان لمعنى الطريقة، ولكن شيخنا صرف النظر عن المسألة بالكلية، وسنحاول تفسير ذلك فيما يأتي.
...

من ثمار البحث
وبعد هذا البحث والتنقير ومحاولة الاستقصاء لم نجد جديداً نزيده على ما نقلناه لك حول مصطلح (الطريقتين).
ولكن ذلك لم يخل من ثمار تستحق أن نسجلها فيما يأتي:
1 - تصحيحُ وهم وقع من شيخنا الإمام محمد أبو زهرة، حين ظن أن (الأستاذ أبا إسحاق) الذي نقل عنه النووي قوله: " إن أصحاب مالك، وأحمد، وأبو داود، وأكثر الحنفية صاروا إلى مذهب أئمتهم رحمهم الله تقليداً لهم، ثم قال:
والصحيح الذي ذهب إليه المحققون ما ذهب إليه أصحابنا، وهو أنهم صاروا إلى مذهب الشافعي، لا تقليداً له، بل إنهم لما وجدوا طرقه في الاجتهاد والقياس أسدَّ الطرق، ولم يكن لهم يد من الاجتهاد، سلكوا طريقه، فطلبوا معرفة الأحكام بطريق الشافعي".
سبق إلى ظنه أن الأستاذ أبا إسحاق هو الشيخ أبو إسحاق الشيرازي، فترجم له في حاشية كتابه (1)، بناء على هذا الظن.
ولكن صاحب هذا القول هو الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني، إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن مهران المتوفى 418 هـ.
والذي جعلنا نتوقف في صنيع شيخنا هو أننا لم نجد أحداً ممن ترجم للشيخ أبي إسحاق الشيرازي لقبه (بالأستاذ)، فدائماً يلقبونه (بالشيخ)، على حين أن أبا إسحاق الإسفراييني لا يذكر إلا بهذا اللقب (الأستاذ)، والذي يتأمل هذه الكتب، كتب التراجم والطبقات، يجد أن هذه الألقاب لم تكن تلقى جزافاً، بل يجد أنها تُلتزم دائماً حتى تصير أعلاماً أو كالأعلام على أصحابها.
__________
(1) الشافعي - حياته وعصره: 386.

(المقدمة/145)


ولكن هذا لم يكن كافياً بالجزم بأن المقصود أبو إسحاق الإسفراييني، فأعدنا قراءة كلام النووي في مصدره الذي أخذ منه شيخنا، وهو (مقدمة المجموع)، فوجدناه ينقل هذا الكلام عن (أبي عمرو) أي (ابن الصلاح) ولما كان الكلام في الفتوى وطبقات المفتين، رجعنا لكتاب (أدب الفتوى) لابن الصلاح، فوجدناه يصرح بالاسم كاملاً، فيقول: " وقد بلغنا عن الأستاذ أبي إسحاق الإسفراييني ... إلخ (1) " فانكشف الأمر، واستيقن الظن، وأغنانا عن البحث في مظان أخرى.
وهذا مجرد نموذج لمعاناة المحقق وواجبه.
2 - كما ننبه أيضاً لعبارة موهمة وردت في البحث الأصيل لأخينا النبيل الشيخ محمد إبراهيم علي (المذهب عند الشافعية)، فقد جاء عند الحديث عن الطريقتين قوله: " وبقيت طريقة العراقيين وحيدة في الميدان الفقهي الشافعي، فقولها هو المعتمد، حتى نبغ القفال الصغير المروزي، واشتهر بالتدوين في الفقه، وتبعه جماعة لا يُحْصَون عدداً ... ".
فهذه العبارة توحي، بل تُصّرح أن طريقة العراقيين تقدّمت في النشأة عن طريقة الخراسانيين وظلت زماناً لا يعرف الفقهُ الشافعي غيرَها، حتى ظهرت طريقة الخراسانيين متأخرة عنها بزمانٍ طويل. هذا ما تقول به العبارة.
والواقع أن تمايز الطريقتين في رواية المذهب نشأ في وقتٍ واحد، وما قبلهما لم يكن يوصف بأنه عراقي ولا خراساني.
والذي يشهد بأنه نشوء الطريقتين كان متزامناً وفي وقت واحد، بصورة لا تقبل الشك هو النظر إلى ترجمة شَيْخي الطريقتين، الشيخ أبي حامد الإسفراييني، والقفال المروزي، فهما من طبقة زمنية واحدة، بل إن ميلاد القفال شيخ طريقة المراوزة قبل ميلاد أبي حامد شيخ طريقة العراقيين، فقد ولد القفال سنة 327 هـ على حين ولد أبو حامد سنة 344 هـ، وإذا قيل لنا: إن القفال تأخر اشتغاله بالفقه إلى سن الثلاثين، فالجواب أننا لو قدرنا تأخر ميلاده سبعة عشر سنة مثلاً (وهي فترة الطفولة والصبا)
__________
(1) أدب الفتوى، بتحقيق الدكتور رفعت فوزي: 40.

(المقدمة/146)


لوقع ميلاده في السنة نفسها التي ولد فيها شيخ طريقة العراق وهي سنة 344 هـ، أو نقول: إن القفال اشتغل بالفقه سنة 357 هـ بعد ما بلغ سنّ الثلاثين، وأفتى بعد نحو عشر سنوات من اشتغاله بالفقه أي في سنة 367 هـ، وقد ذكروا أن الشيخ أبا حامد كان مبكر النبوغ، فأفتى وهو ابن سبع عشرة سنة، أي في سنة 361 هـ.
فهذا التدقيق في تواريخ الميلاد والاشتغال بالفقه يضع أمامك الدليل القاطع بأنهما متعاصران تماماً، وإن تفاوتا بعض التفاوت ميلاداً ووفاةً (القفال 327 - 417 هـ) و (الشيخ أبو حامد 344 - 406 هـ).
وواضح أن هذا الوهم بسَبْق طريقة العراقيين مبنيٌّ على ما هو أكبر منه، وهو أن العراقيين كانوا يروون المذهب القديم فقط، والخراسانيون كانوا يروون المذهب الجديد فقط، حتى مطلع القرن الخامس، حين جمع بينهما الشيخُ أبو علي السنجي المتوفى نحو سنة 430 هـ، وهذا هو نص كلامه الذي أَفْهمَ ذلك: " وبظهور هؤلاء العلماء الذين جمعوا بين الطريقتين، بدأ الرافدان الأساسيان الناقلان لفقه الشافعي: قديمه وجديده يلتقيان في قولٍ موحَّد يمثل مذهبَ الشافعي والراجحَ من قوله (1) ".
وهذا لا قائل به، ولا هو بمعقول، فمنذ قرر الشافعي مذهبه الجديد، ودُوّنت كتبه الجديدة، وهي تُروى في العراق كما كانت تُروى في خراسان.
وهذا الوهم جاء الباحثَ من عبارة الشيخ أحمد بك الحسيني -التي هي مصدره-، حيث قال بعد أن ذكر طريقة العراقيين: "وحتى جاء القفال الصغير، وتبعه جماعة ... " (2) فأوهم تعبيرُه بـ (حتى) وجودَ (غاية) زمنية، ومدّةٍ بين ظهور الطريقتين.
والواقع أن (حتى) في عبارة الحسيني معطوفة على مثلها بالنسبة لطريقة العراقيين، ونص كلامه وهو يتكلم عن تطور المذهب: " ... ثم جاء بعدهم بقية أصحاب الوجوه طبقة بعد طبقة، حتى جاء الشيخ أبو حامد الإسفراييني، وتبعه جماعة ... وحتى جاء القفال المروزي وتبعه جماعة ... " فعند التنبه لهذا (العطف) لا توحي العبارة بوجود سبق زمني بين الطريقتين.
__________
(1) المذهب عند الشافعية: 34.
(2) من مقدمة كتاب (دفع الخيالات). ص 5.

(المقدمة/147)


وخلاصة ما نحاول إثباته هو أن الطريقتين نشأتا معاً بدون فارق زمني، ولم تختص طريقة العراقيين بالمذهب القديم وحده، بل كل واحدة منهما كانت تنقل القديم والجديد معاً.
3 - وأمرٌ ثالث ننبه إليه، وهو أن العلامة أحمد بك الحسيني شبه الطريقتين في المذهب بالمدرستين البصرية والكوفية في علم العربية، وذلك في قوله: " وانتهى فقه الشافعيه إلى الطريقتين، ... ، ولم يوجد بعدهما إلا من هو تابع طريقتيهما، فإما عراقي، وإما خراساني، وكان مثلهما في فقه الشافعي مثل الكوفيين والبصريين في علم العربية " (1).
وهذا لا يسلّم له، وأقل ما يقال فيه: إنه توسع في العبارة؛ فالذي يتضح من كلام النووي، وهو الأَقْمن بالتعبير عن المذهب: " أن الطرق هي اختلاف الأصحاب في حكاية المذهب " أي أنه خلاف في الرواية، فما يروي فيه المراوزة قولاً قد يروي فيه العراقيون قولين.
أما الخلاف بين مدرسة البصرة والكوفة في اللغة، فهو أبعد من الحكاية والرواية عمن تؤخذ منه اللغة، فتراه في التعليل، والتقعيد والتخريج، والله أعلم.

حقيقة المسألة
والواقع الذي انتهينا إليه -بعد طول التأمل والبحث- أن مسألة الطريقتين أهونُ بكثير من (اسمها) وكثرة تردادها، فحقيقة الأمر تتضح بالنظر إلى الحقائق الآتية:
1 - معلوم أن العلم عندنا يؤخذ بالتلقي عن الشيوخ، وينقل بالرواية والإجازة، فلما انتشر المذهب وحمله تلامذة الإمام الشافعي بعد وفاته إلى العراق وما حولها، وإلى خراسان وما وراءها، -كان ذلك في أول القرن الثالث- وأخذ عنهم تلاميذهم، ثم تلاميذ تلاميذهم عن تلاميذهم، وهكذا ... ، فمع تباعد الديار وتنائي المجامع والمجالس، ومرور الأزمان، وكثرة التدوين والمراجعة، ومضي أكثر من قرن ونصف، أي في أواخر القرن الرابع، ظهر أن ما يحكيه الخراسانيون في مجالس علمهم، وحلقات دروسهم، ويدونونه في مصنفاتهم يختلف عما يحكيه العراقيون في بعض المسائل،
__________
(1) السابق نفسه.

(المقدمة/148)


سواء كانت الحكاية عن إمام المذهب، أو عن أصحاب الوجوه من الجانبين.
2 - لم يدم الأمر على ذلك طويلاً، فقد رأينا من درس على شيوخٍ من الجانبين، وجمع بين الطريقين، وكان ذلك في مطلع القرن الخامس على يد الشيخ أبي علي السِّنجي المتوفى سنة 430 هـ وقيل سنة 427 هـ ولم نصل إلى تاريخ ميلاده، فإذا فرضنا أنه توفي عن ستين عاماً، والمعهود أن يكون قد بلغ درجة الفتوى في سنّ الثلاثين، فمعنى هذا أن الجمعَ بين الطريقتين، قد بدأ في نحو سنة 400 هـ، أي بعد نشأة الطريقتين بنحو ثلاثين سنة.
ولسنا نقول: إنه بظهور الشيخ أبي علي السنجي انتهت الطريقتان، وانقطع أثرهما في التدوين والتدريس، بل ظل القرن الخامس يشهد من يجمع من المصنفين بين الطريقتين، ومن يقتصر في تصنيفه على طريقة واحدة من الطريقتين، إلى أن انتهى الأمر بالجمع بين الطريقتين.
فكأن تمايز الطريقتين في حكاية المذهب لم يدم طويلاً، بل لم يكد يظهر حتى ظهر الجمع بين الطريقتين.
3 - والحقيقة الثالثة التي نقررها أن العبارة عن الطريقتين ومصنفاتهما فيها كثير من التوسع، وآية ذلك أنهم يعدون إمام الحرمين مروزياً من أركان المراوزة، ومن تلاميذ القفال شيخ طريقة المراوزة، وفي الوقت نفسه يعدونه، ممن جمع بين الطريقتين، وهو فعلاً قد جمع بينهما.
كما يعدون كتابه (نهاية المطلب) هذا الذي بين أيدينا من كتب أصحابنا الخراسانيين، ذكر ذلك صراحة التقيُّ السبكي في أول تكملته للمجموع، وهو يعدّد المصادر التي يعتمدها في تكملة شرحه للمهذب، حيث قال: " وعندي من كتب الخراسانيين تعليقة القاضي حسين، والسلسلة، والجمع والفرق للشيخ أبي محمد الجويني، والنهاية لامام الحرمين، والبسيط للغزالي، و ... إلخ" (1).
وكما ترى يعدّ (النهاية) و (البسيط) من كتب الخراسانيين، وهما يجمعان بين
__________
(1) المجموع: 10/ 6.

(المقدمة/149)


الطريقتين، ولكنه سوى بين المؤلفات التي تحكي طريقة الخراسانيين، والمؤلفات التي تجمع بين الطريقتين، فكأنه ينظر إلى نسبة أصحابها الجغرافية دون لون التفقه وطريقته، وهذا ما عنيناه بالتوسع في العبارة.
النتيجة:
في ضوء هذه الحقائق الثلاث، وما تقدم من حديث حول مسألة أو مصطلح الطريقتين نستطيع أن نفسر عدم العناية من أئمة المذهب والمؤرخين لتطوره وأعلامه بالكتابة عن الطريقتين؛ حيث لم يكن ذلك بالحجم أو بالشأن الذي يلفتهم إليه، فلم يكن ذلك عن تقصيرٍ منهم - حاشاهم!!
وبهذا نكون أيضا قد فسرنا -كما وعدنا- عدم ذكر شيخنا الإمام أبي زهرة مصطلح (الطريقتين) ولو بكلمة واحدة.
ثم نعود ونؤكد ما قلناه من قبل، وهو أن العمدة في كل ما كُتب -وقد سجلناه- هو كلام الإمام النووي، رضي الله عنه.
وأخيراً نقول: إن النظر إلى الشكل البياني رقم (3) يوضح بإيجازٍ بليغ كلَّ ما قيل عن طريقتي الخراسانيين والعراقيين، فنكتفي به، ونحيل إليه.
البصرويون والكوفيون والبغداديون:
وقد حكى إمام الحرمين خلافاً بين البصريين والكوفيين في عدة مواضع في كتاب الفرائض، ولكنها كلها تقع بين فقهاء السلف، وليس خلافاً داخل المذهب.
ولكن الماوردي في كتابه (الحاوي) حكى خلافاً بين البغداديين والبصريين، نقله عنه النووي في (المجموع)، في حكم الوطء في الحيض، والتصدق بدينارٍ أو بنصف، قال الماوردي: " كان أبو حامد الإسفراييني وجمهور البغداديين يجعلونه قولاً قديماً، وكان أبو حامد المروزي وجمهور البصر لا يجعلونه قولاً قديماً، ولا يحكونه مذهباً للشافعي ... " (المجموع: 3/ 360).
ويلوح لي أن هذا خلاف ثانوي داخل طريقة العراقيين، ولذا لم يُشر إليه النووي وهو يتكلم عن الطرق في حكاية المذهب.

(المقدمة/150)


المبحث الثالث: مرحلة تحرير المذهب
يزداد كلامنا عن تحرير المذهب وضوحاً إذا تذكرنا ما قلناه من قبل عن أصحاب الوجوه، وعن المجتهدين من داخل المذهب، وعن رواة المذهب، إذا تذكرنا كل ذلك، عرفنا أن حملة فقه الشافعي من تلاميذه، والأَمَنة على نصوصه ومناهجه، لم يكونوا مجرد نقلة، بل كان فيهم مجتهدون مستقلون وإن انتسبوا إلى الشافعي كالمحمَّدِين الأربعة: محمد بن جرير الطبري، ومحمد بن نصر المروزي، وابن خزيمة محمد بن إسحاق، وابن المنذر محمد بن إبراهيم، وغيرهم.
ومنهم من استقل فعلاً بمذهبٍ وعرف به، كأحمد بن حنبل، وداود الظاهري.
ومنهم من كان يُخرِّج على أصول الشافعي ونصوصه حيناً، وينفرد برأيه ومذهبه حيناً آخر كالمزني، قال إمام الحرمين في (نهاية المطلب): "إن كان لتخريج مخرّج التحاقٌ بالمذهب، فأَوْلاها تخريج المزني؛ لعلو منصبه في الفقه، وتلقِّيه أصول الشافعي من فَلْق فيه، وإذا تفرد برأي، فهو صاحب مذهب".
ومنهم من التزم التخريج على نصوصه وأصوله لم يَخْرج عنها، وهؤلاء هم أصحاب الوجوه الذين ذكرنا طائفة من أشهرهم فيما سلف، وأشرنا إلى "أن الأستاذ أبا إسحاق الإسفراييني ادعى لهم الاجتهاد المستقل، وأنهم صاروا إلى مذهب الشافعي لا تقليداً له، بل لما وجدوا طرقَه في الاجتهاد والقياس أسدَّ الطرق، ولم يكن لهم بدٌّ من الاجتهاد، سلكوا طريقَه، فطلبوا معرفة الأحكام بطريق الشافعي".
وقد ذكر الشيخ أبو علي السِّنجي نحو هذا، فقال: اتبعنا الشافعي دون غيره؛ لأنا وجدنا قوله أرجح الأقوال وأعدلها، لا أنا قلدناه" (1).
__________
(1) المجموع للنووي: 1/ 43.

(المقدمة/151)


حكى النووي هذا، وعقب قائلاً: " قلت: هذا الذي ذكراه موافق لما أمرهم به الشافعي، ثم المزني في أول مختصره " يعني نَهْيَ الشافعي أصحابه عن تقليده، وأَمْرهم أن يجتهدوا كما اجتهد هو.
استبحر الفقه الشافعي وملأ المكان والزمان، فكان له أنصاره وأتباعه في العراق، وفي بلاد الحجاز، واليمن وفارس، وخراسان، وما وراء النهر، وعاصر دولاً وأحداثاً، ونَصَره نظامُ الملك، ومكن له في دولة السلاجقة على اتساعها، وبنى لعلمائه وشيوخه المدارسَ النظامية، ببغداد، ونيسابور، وسائر مدن الدولة.
حمل ذلك التيارُ الهادرُ -مع تباعد الأقاليم وامتداد الزمان- تخريجاتٍ وآراءً، تتأثر -لا شك- بالبيئة هنا وهناك، وبالمشارب والمنازع، وأُودع كل ذلك مصنفات المذهب ومدوّناته، وكان فيها -بداهة- ما لا يتفق مع المذهب بصورةٍ أو بأخرى، من البعد والقرب.
يقول شيخنا الإمام أبو زهرة: " ولو أننا درسنا آراء فقهاء خراسان ونيسابور، وآراء فقهاء العراق، وحللَّناها، لوجدنا أثر البيئة واختلافَ النزعات يلوح وراءها، ولعل اجتهاد العراقيين، كان أقرب إلى المنقول عن الشافعي من اجتهاد الخراسانيين، والنيسابوريين (1) ".
وإلى شيء من هذا الفرق بين المدرستين قال النووي: " اعلم أن نقل أصحابنا العراقيين لنصوص الشافعي وقواعد مذهبه، ووجوه متقدمي أصحابنا أتقنُ وأثبتُ من نقل الخراسانيين غالباً، والخراسانيون أحسنُ تصرّفاً وبحثاً وتخريجاً وترتيباً غالباً " (2).
...
__________
(1) ر. الشافعي - حياته وعصره: 385. ويلاحظ أن شيخنا يعطف (النيسابوريين) على (الخراسانيين) من باب عطف الخاص على العام، وليس المغايرة.
(2) السابق نفسه، عن المجموع: 1/ 69.

(المقدمة/152)


معنى تحرير المذهب، ولماذا؟
بات الآن واضحاً معنى تحرير المذهب، وهو نَخْل مصنفات أئمته وشيوخه، وبيان ما هو موافق لقول الشافعي وأصوله، حتى يصح أن ينسب إليه، ويتميز عن غيره من الوجوه والاجتهادات التي لا يصح أن تنسب إلى الشافعي، وتُعتبر مذهباً له.
أما لماذا هذا التحرير، فيجيبنا على هذا التساؤل، الشيخ محمد إبراهيم علي في مفتتح بحثه بقوله:
" تُحتم الأمانة العلمية على الباحث أن يتحرى الصحة التامة في عزو الأقوال إلى قائليها، وخاصة الأقوال الفقهية، لما يترتب على الخطأ في عزوها من نسبة التحليل والتحريم إلى من لم يقل به.
ومن ثّم كان لزاماً على كل من يتعرض للبحث الفقهي -وخاصة المقارن منه- أن يعرف الاصطلاح المتفق عليه بين علماء المذهب -أيّ مذهب- والكتب التي اعتُمدت ممثلةً لرأي المذهب ودرجات اعتمادها ".
إذاً كان تحرير المذهب ضرورة بمقتضى الأمانة العلمية التي تحتم نسبة الأقوال إلى قائليها، فهذه الأقوال تتعلق بدين الله، تتعلق بالتحريم والتحليل، وقائلها كما سماه ابنُ القيم -رحمه الله- موُقِّعٌ عن رب العالمين، وأي منصب أخطرُ من هذا.
وواضح أننا حينما نتكلم عن تحرير المذهب، ببيان وتحديد ما يصح أن يُنسب للإمام الشافعي، ويعتبر قولاً له، واضح أننا حينما نقول ذلك لا يخطر ببالنا أن الوجوه والاجتهادات التي لم تُعدّ من المذهب ليست فقهاً، أو ليست صحيحة، لا يخطر هذا ببال أحد، ولكن أحببنا أن ننبه إليه؛ قطعاً لأي وهم.
بل إن هذه الأقوال والاجتهادات -التي لا تُعد من المذهب- أهمُّ المصادر لاجتهادات الفقهاء المعاصرين (الآن)، منها يختارون، وعليها يتكئون، بعد أن يمتحنوا القواعد والأصول التي قامت عليها، والأدلة التي استندت إليها.

(المقدمة/153)


شيخا المذهب:
في مفتتح القرن السابع الهجري، وجد أئمةُ المذهب هذه الثروة الفقهية الهائلة التي نمت وترعرعت واكتملت في غضون القرون السابقة، فكان من طبيعة الأمور، وسنن التطور أن ينصرف عملهم وجهدهم إلى تحرير المذهب، لم يكن أمامهم إلا العمل في هذا المجال، فقد كان الفقه قد نَضِج، وصار بعيداً -كما قال إمام الحرمين-: " أن تقع مسألة لم يُنصّ عليها في المذهب، ولا هي في معنى المنصوص، ولا مندرجة تحت ضابط ".
ومن هنا كان قَدَرُ الشيخين: الرافعي، عبد الكريم بن محمد القزويني. ت 624 هـ، والنووي، يحيى بن شرف المُرِّي. ت 676 هـ أن يصرفا جهدهما، ويستفرغا وُسعهما في تتقيح المذهب وتحريره: الأول في كتابه (فتح العزيز بشرح الوجيز)، المسمى بالشرح الكبير، و (المحرر)، والثاني في (روضة الطالبين)، و (منهاج الطالبين)، و (المجموع) شرح المهذب لأبي إسحاق الشيرازي (لم يتمه)
عُني هذان الإمامان الجليلان بتتبع كتب المتقدمين، والنظر في الأقوال والأوجه والاجتهادات والاختيارات، ووزن الأدلة وتقديرها، لتحديد ما هو المذهب منها.
ولهذا اصطلح علماء الشافعية بعدهما على تلقيبهما بشيخي المذهب، وصار القول المعتمد في المذهب ما اتفق عليه الشيخان، فإن اختلفا، فما جزم به النووي، ثم ما جزم به الرافعي.
"فَرَأْيُ الشيخين مقدم حتى لو عارضه نصُّ الشافعي، مع أن نص الشافعي في حقهم كنص الشارع في حق المجتهد.
وقد عللوا هذا التقديم بأن المتبحر في المذهب -كأصحاب الوجوه- له رتبة الاجتهاد المقيد، ومن شأن هذا أنه إذا رأى نصاً خرج عن قاعدة الإمام، ردّه إليها - أي أَوَّلَه- إن أمكن، وإلا عمل بمقتضى القاعدة، وخالف نص الإمام، فقد ترك الأصحاب إذاً نصوص الشافعي الصريحة، أو أوّلوها؛ لخروجها عن قاعدته.
فلا ينبغي الإنكار على الأصحاب في مخالفة النصوص، ولا يقال: إنهم لم يطلعوا

(المقدمة/154)


عليها؛ فإنها شهادة نفي، بل الظاهر أنهم اطلعوا عليها، وصرفوها عن ظاهرها بالدليل، ولا يخرجون بذلك عن متابعة الإمام الشافعي" (1).
وبلغ الوثوق بعملهما، والاعتماد على أقوالهما أن منع المتأخرون من الرجوع إلى الكتب المتقدمة على الشيخين واعتمادها في الفتوى، وإن تتابعت على حكم واحد؛ لأن هذه الكثرة قد ترجع إلى الحكاية عن واحد (2).
وهذا المنع من كتب المتقدمين على الشيخين لا يمكن أن يؤخذ على إطلاقه، بل هو بالقطع خاص بالذين ليسوا من أهل الترجيح والنظر، وبالذين يريدون الحكم المتفق عليه من أقرب طريق.

إمام الحرمين وتحرير المذهب:
استقر الرأي عند علماء الشافعية أن تحرير المذهب بدأ بجهد الإمامين الرافعي والنووي، وذلك واضح من أعمالهما مطولة ومختصرة، ومن منهجهما الذي صرحا به أو رأيناه مطبقاً ملتزماً في مصنفاتهما.
ولكن ألم يسبقهما أحدٌ من أئمة المذهب؟
أستطيع أن أقول: إن إمام الحرمين كان -فيما رأينا للآن- أولَ من عُني بتحرير المذهب، وذلك في كتابنا هذا (نهاية المطلب). صرح بذلك في مقدمته، والتزمه على طول كتابه؛ فقد كان يحكي الأوجهَ والأقوالَ كلها، ويميز ما هو من المذهب عما عداه.
بل عندما كان ينصر وجهاً أو يبدي احتمالاً على خلاف المذهب كان يبين ذلك بوضوح تام، ويقول: لكن المذهب كذا" أي غير ما يراه.
(وسنبين ذلك، ونؤيده بالأمثلة والشواهد في فصلٍ آتٍ بعنوان: منزلة نهاية المطلب وأثره، فلا نكرر ما سنقوله هناك).
__________
(1) المذهب عند الشافعي: 39 (بتصرف يسير) وهو عن الفوائد المدنية: 20، 21 عن ابن حجر الهيتمي في الفتاوى: 4/ 324، 325.
(2) السابق نفسه.

(المقدمة/155)


استقرار المذهب:
ظلت آراء الشيخين ومؤلفاتهما المعين الوحيد الذي يستقي منه علماء المذهب وأئمتُه، لا يعرفون غير كتبهما، ولايقولون بغير آرائهما، وانشغلوا بمؤلفاتهما -وبخاصة النووي- اختصاراً، وشرحاً، ونظماً، وتحشية، حتى يوفروا منها الزاد والري الذي يناسب مختلف الواردين: من الشُداة المبتدئين إلى الطامحين إلى الاجتهاد المنتهين.
وعلى طول القرون الثلاثة منذ وفاة الشيخين الرافعي والنووي في القرن السابع إلى القرن العاشر ظل الحال كما وصفنا؛ فقد كانت كتب الشيخين القطبَ الذي تدور حوله جميع التآليف، ومع ذلك لم يخل زمان من محقِّقٍ ينظر في كلام الشيخين، فيرجِّح بينهما إذا اختلفا، بل يخالفهما أحياناً.
وحظي القرن العاشر بعددٍ من هؤلاء المحققين، جمعوا إلى تحقيقاتهم تحقيق من سبقوهم، من هؤلاء: شيخ الإسلام زكريا الأنصاري، المتوفى سنة 926 هـ
والخطيب الشربيني، محمد بن أحمد، شمس الدين، صاحب (مغني المحتاج) المتوفى سنة 977 هـ.
والشهاب الرملي -نسبة إلى رملة المنوفية-، أحمد بن حمزة، صاحب (فتح الجواد)، المتوفى سنة 957 هـ.
وابنه شمس الدين، محمد بن أحمد بن حمزة، كان يلقب بالشافعي الصغير، صاحب (نهاية المحتاج)، المتوفى 1004 هـ.
وابن حجر، الهيتمي، أحمد بن محمد، والهيتمي نسبة إلى محلة أبي الهيتم، وتسمى الآن (الهياتم)، من قُرى دلتا النيل بمصر، صاحب (تحفة المحتاج) ت 974 هـ.
هؤلاء المحققون وغيرهم كان لهم من الجهد ما يمكن أن نسميه التحرير الثاني للمذهب فقد أدى اجتهادهم إلى مخالفة الشيخين في شيءٍ من ترجيحاتهما؛ وانتهى الأمر إلى اعتماد (التحفة) لابن حجر، (والنهاية) للشمس الرملي، في حق من لم

(المقدمة/156)


يكن من أهل الترجيح، فمن كان من أهل الترجيح، والقدرة على النظر في الأدلة ووزنها وتقديرها، له أن ينظر في كلام الرافعي والنووي، فيرجح ويختار، كما اختار الرملي وابن حجر، ولا يجوز له أن يعدو الرافعي والنووي إلى من فوقهما؛ لما استقر عليه المحققون طوال القرون الثلاثة على أنه لا يجوز العدول عن قولهما.
فإذا لم يكن من أهل الترجيح، فكما قلنا: يلزمه اعتماد (تحفة المحتاج) لابن حجر، (ونهاية المحتاج) للشمس الرملي، لا يعدوهما، فإن اتفقا، فلا كلام، وإن اختلفا يختار أيَّهما، على خلافٍ فيمن هو أولى بالتقديم منهما بين علماء الشام وحضرموت، والأكراد، وداغستان (1)، وأكثر اليمن والحجاز الذين يقدمون ما في تحفة ابن حجر، وعلماء مصر الذين يقدمون ما في (النهاية) للرملي (2).
على هذا استقر المذهب في مطلع القرن الحادي عشر واستمر الحال على هذا نحو ثلاثة قرون أو تزيد، أي إلى أوائل القرن الرابع عشر، في هذه القرون كان عمل علماء المذهب -بالدرجة الأولى- هو التحشية على كتب المحققين من علماء الطور السابق، وعُرف من هؤلاء:
* الشيخ عطية الأجهوري صاحب حاشية على شرح التحرير، وحاشية على شرح المنهج، وثالثة على شرح ابن قاسم. توفي 1190 هـ.
* والشيخ محمد الكردي المدني، صاحب حاشية كبرى على شرح الحضرمية لابن حجر الهيتمي، وأخرى صغرى وحاشية ثالثة على شرح الغاية للخطيب، وهو صاحب الفوائد المدنية فيمن يُفتى بقوله من أئمة الشافعية، وله فتاوى جمعت في مجلدين.
توفي سنة 1194 هـ.
* والشيخ البجيرمي، العلامة، الفاضل، المحدث أحمد بن أحمد بن جمعة البجيرمي، توفي سنة 1197 هـ.
__________
(1) تأمل!! (علماء داغستان)، واسأل، لتعرف أن داغستان (الآن) ضمن الاتحاد الروسي، وانظر كيف كنا، وكيف أصبحنا.
(2) الفوائد المكية: 37، واقرأ (المذهب عند الشافعية)؛ ففيه تفصيل وبيان مفيد.

(المقدمة/157)


* والشيخ سليمان الجمل، سليمان بن عمر بن منصور، العجيلي نسبة إلى منية عجيل إحدى قرى الغربية بمصر، المعروف بالجمل، صاحب الحاشية المشهورة على تفسير الحلالين، وله حاشية على شرح المنهج. توفي 1204 هـ.
* والشيخ عبد الحميد الشرواني " الداغستاني "، نزيل مكة، صاحب الحاشية المشهورة على تحفة ابن حجر، فرغ من تأليفها 1289 هـ.
* الباجوري، العلامة الشيخ إبراهيم الباجوري، (نسبة إلى بلدة الباجور منوفية مصر)، له الحاشية المشهورة على شرح ابن قاسم الغزي.
* الشبراملسي (نسبة إلى شبراملس) قرية قريبة من قريتنا، فهو بلدُّينا من الغربية بمصر، وهو أبو الضياء، علي بن علي، صاحب حاشية على شرح ابن قاسم للورقات في أصول الفقه لإمام الحرمين، وحاشية مشهورة على نهاية المحتاج للشمس الرملي، توفي سنة 1087 هـ.
* القليوبي، شهاب الدين، أبو العباس، أحمد بن أحمد بن سلامة القليوبي (نسبة إلى قليوب) شمال القاهرة، صاحب الحاشية المشهورة على شرح الجلال المحلي للمنهاج، طُبعت مع حاشية أخرى، واشتهرت: بقليوبي وعميرة، و (عميرة) هو شهاب الدين البرلسي المتوفى سنة 957 هـ، أما قليوبي، فقد توفي سنة 1069 هـ.
* ونختم بالعلامة خاتمة المحققين -بحق- أحمد بك الحسيني، شهاب الدين، أحمد بن أحمد بن يوسف، الحسيني المصري، صاحب كثير من المصنفات التي تشهد له بالمنزلة والمكانة في علمي الأصول والفقه، مع الإحاطة بفقه الواقع، ونور البصر والبصيرة، فمن ذلك:
إعلام الباحث بقُبح أم الخبائث (الخمر)، ودليل المسافر في مسائل قصر الصلاة والمسافات، وأحكام النية، وتحفة الرأي السديد في الاجتهاد والتقليد، وغيرها من الكتب والرسائل، ولكن عمدة مؤلفاته هو (مرشد الأنام لبر أم الإمام) الذي وقع ربع العبادات منه في أربعة وعشرين مجلداً، وقدم له في مجلدين كبيرين، توفي رحمه الله سنة 1332 هـ.

(المقدمة/158)


الحالة الفقهية المعاصرة
صرفتُ النظر عمداً عن لفظ (النهضة) الذي يستخدمه الباحثون المعاصرون كافة في هذا المقام، حيث يقولون: (النهضة الفقهية المعاصرة)؛ وذلك أن هذا الوصف بـ (النهضة) يأتي معبراً عن ثقافة فاسدة، ومفاهيم مغلوطة، تقوم على أن عالمنا العربي والإسلامي كان في تخلف وانحطاط (كذا، بهذا اللفظ يصفون عالمنا منذ القرن السابع الهجري)، ولم نستيقظ، ولم ننهض إلا بعد أن أخذ بيدنا الغرب.
فقد كانت كتب التعليم -وأظنها ما زالت- تضع عنواناً رئيساً يقول: (عصر الضعف والانحطاط) (1) ويدرّسون تحت هذا العنوان الفترة التي تبدأ من سقوط بغداد سنة 656 هـ إلى غزو نابليون للشرق.
ثم تطالعنا هذه المناهج بعنوان آخر يقول: (عصر النهضة) (2) وتبدأ هذه النهضة بغزو نابليون للشرق (3)، فقد صوروا لنا هذا الغازي المبير الذي سفك دماء العباد، وخرب البلاد، واتخذ من الأزهر اصطبلاً لخيوله، صوروا لنا هذا الغازي، الصليبي الحاقد بأنه جاءنا بالحضارة والتنوير، وأخذ بيدنا نحو الرقي.
ليس هذا استطراداً، ولا بعيداً عن الفقه -الذي هو موضوعنا- ذلك أن هذه الثقافة قادتنا في طريق التبعية للغرب، فأصبحت حياتنا كلها صورة مشوهة منقولة عن حياة الغربيين: في طراز المسكن، والأثاث، والزي، وألوان الطعام، إلى نظم التعليم ومؤسسات الاقتصاد، ومؤسسة القضاء والقوانين ... إلخ فجدت حياةٌ جديدة، في كل مظاهرها، قُنِّن فيها تعاطي الربا، وصناعة الخمور، وصالات القمار، واللهو
__________
(1) درست أجيالنا هذه الكتب بهذا (التحقيب) في مجال التاريخ السياسي والتاريخ الأدبي.
(2) حتى الثمانينات من القرن الميلادي الماضي، كنت أقرأ في كتاب تاريخ الأدب بأيدي أولادي هذه العبارة بنصها " استيقظ الشرق على طلقات مدافع نابليون " يفتتح بها مؤلفو الكتابِ الحديثَ تحت عنوان (عصر النهضة).!!!.
(3) في وثائق الحملة الفرنسية يسمونها (الحملة على الشرق) ولكن من التضليل المصطلحي سموها في مناهج تعليمنا (الحملة على مصر) حتى يحاصروا الشعور بالوحدة بيننا.

(المقدمة/159)


الفاضح، ولم يعد هناك ارتباط بين مواعيد العمل ومواقيت الصلاة ...
نشأت لهذا المجتمع مشكلات، وجدت له قضايا، وطُلب من الفقه الإسلامي أن يضع حلولاً لمشكلات لمجتمعٍ غير ملتزمٍ بالإسلام (1).
هذا هو المأزق الذي يعيشه فقهاء العصر، أعانهم الله، وأنا أتحدث عن صفوة كرام بلغوا من الفضل والفقه والورع درجة تؤهلهم للاجتهاد في نوازل هذا العصر، هؤلاء الصفوة وراء النجاحات التي تحققها المجامع الفقهية، ومراكز البحوث، والموسوعات الفقهية. في ضوء هذا المأزق الذي صورناه تُدرس هذه الجهود إنصافا لهؤلاء الأفاضل.
وهناك زعانف كُثر حملوا ألقاباً علميةً، وإن لم تَشَم أنوفُهم رائحة الفقه، راحوا يسخرون من تراثنا الفقهي، ويردّدون ترديد الببغاء: (إنه جهد بشري نشأ لعصرٍ غير عصرنا) ويدعون لاطّراحه وإلقائه وراءنا ظهرياً، والأَخدَ مباشرة من القرآن والسنة، ولو أردت واحداً منهم على أن يقرأ صفحة واحدة من صحيح البخاري ما استطاع أن يقيم لسانه بها إعراباً، ناهيك عن معرفة المعنى اللغوي للمفردات، ولا أقول معرفة العام من الخاص، والمطلق من المقيد، والناسخ من المنسوخ.
هؤلاء لا كلام لنا معهم، ولا شأن لنا بهم، ولكنْ للأسف لهم صوتٌ عالٍ، وكثيراً ما يشغبون على الفقهاء الأصلاء المتبتَّلين للعلم والبحث.
وبعد
نعود فنقول: إننا لم ننس أننا في هذه المقدمات نتكلم عن تطوّر المذهب الشافعي وحاله في هذا العصر. وقد وضح الآن مما أشرنا إليه آنفاً أن الفقه المذهبي -مع أنه ما زال يدرس في كليات الشريعة- لم يعد له مكان في الفتوى، والتشريع، والبحوث، بل صارت كلها دراسات مقارنة، تنظر في كل الفقه الموروث بمذاهبه الأربعة، بل أحياناً الثمانية، وتزن الأدلة وتقدّرها في قضية معينة، وتختار ما تراه
__________
(1) التعبير الأوضح (لمجتمع غير إسلامي)، ولكني عدلتُ عنه لأنه قد يوحي بتكفير المجتمع، وحاشا لله أن نقول بهذا.

(المقدمة/160)


أرجح من بينها، مما يجعلنا نسمي هذا بالاجتهاد الجزئي، فمن أحاط ببابٍ من أبواب العلم، وعرف أدلته يمكن أن يجتهد فيه، ويكون مفتياً في مسائله، قال النووي: "قطع بذلك الغزالي، وصاحبه ابن بَرهان، وغيرهما، ومنهم من منعه مطلقاً، وأجازه ابن الصباغ في الفرائض خاصة، والأصح جوازه مطلقاً" (1).
...
__________
(1) ر. المجموع: 1/ 43، وانظر تاريخ المذاهب الإسلامية للإمام أبي زهرة: 340.

(المقدمة/161)


المبحث الرابع من مصطلحات المذهب وبخاصة ما جاء في نهاية المطلب
القديم والجديد:
عُرف في تاريخ المذهب الشافعي مصطلح (القديم) و (الجديد)، بل يقولون: (المذهب القديم) و (المذهب الجديد).
وعلى ذلك صار يُنظر في (القول) الذي يُروَى عن الشافعي أقديم هو أم جديد؟
القديم: هو ما أملاه الشافعي وقرره ببغداد من آراء وأقوال فقهية، ورواه عنه تلاميذه العراقيون، وأشهرهم الأربعة الذين عرّفنا بهم من قبل (1) (وانظر الشكل الأول)، وقد أُودعت هذه المجموعة من فقه الشافعي كتابه (الحجة)، ويسمى كتابه (العراقي).
الجديد: هو الفقه الذي قرره الشافعي وأملاه بمصر، ورواه عنه تلاميذه المصريون، واشتهر منهم الستة المعروفون (2).
هذا القدر من اصطلاح القديم والجديد متفق عليه بين أهل المذهب، ولكنهم اختلفوا فيما قرره الشافعي أو أملاه في المدة التي كانت بين مغادرته بغدادَ ودخوله مصر واستقراره فيها -وهي نحو عامٍ- هل يُعد هذا من القديم أم يُعدّ من الجديد؟ فابن حجر الهيتمي يرى " أن القديم ما قاله قبل دخولها " (3)، وذلك يشمل ما نقل عنه وهو في طريقه إلى مصر قبل دخولها.
__________
(1) ر. الفصل الأول من هذه المقدمات، ص: 128.
(2) ر. الفصل الأول من هذه المقدمات، ص: 128، 129.
(3) تحفة المحتاج: 1/ 45 (عن المذهب عند الشافعية).

(المقدمة/162)


في حين أن آخرين يرون أن القديم ما قاله الشافعي بالعراق تصنيفاً، أو أفتى به (1)، وأما ما وجد بين مصر والعراق، فالمتأخر جديد، والمتقدم قديم.
والرأي الأول أقرب إلى الراجح، وقد أيده الرملي في نهاية المحتاج (2).
مدى الاختلاف بين القديم والجديد:
قد يتبادر إلى الذهن لدى البعض أن الشافعي أضرب عن القديم كَملاً، وأبطله كلَّه، وقد يساعد على ذلك ما روي عن الشافعي: " لا أجعل في حِلٍّ من روى القديم عني "، وما قاله الماوردي من " أن الشافعي غَيَّر جميع كتبه في الجديد إلا الصداق؛ فإنه ضرب على مواضعَ منه، وزاد في مواضعَ " (3).
وهذا عند التأمل يظهر أنه غير معقولٍ، ولا مقبول، بل الواقع يقول بخلافه، فما يروى من خلافٍ بين القديم والجديد، قدرٌ محصور من فقه الشافعي، بمعنى أن ما حفظه تلامذة الشافعي ببغداد، وروَوْه من فقهه لا يخالف الجديد في كل حرفٍ ورأي.
وعلى هذا فما رواه تلاميذ الشافعي العراقيون مما أملاه وقرره بالعراق يعد مذهباً للشافعي غير مرجوعٍ عنه، ما لم يرد فيما أملاه بمصر ما يخالفه.
وأما النصوص الموهمة غير ذلك، فصرفها عن ظاهرها ميسور، وربما كان التشديد في عدم رواية القديم، وما يُفيد التغاير بين القديم والجديد خاصاً بالأصول؛ فمن المعروف أن الشافعي أعاد كتابة (الرسالة) في مصر، وغيَّرها عما كانت عليه عندما كتبها بالعراق، وأرسلها إلى عبد الرحمن بن مهدي.
أيّاً كان الأمر، فقد وضح ما نحاوله من بيان معنى القديم والجديد.
__________
(1) مغني المحتاج للخطيب الشربيني: 1/ 12 (عن المذهب عند الشافعية).
(2) المذهب عند الشافعية.
(3) نهاية المحتاج: 1/ 50، ومغني المحتاج: 1/ 13، والفوائد المدنية: 50 (عن المذهب عند الشافعية).

(المقدمة/163)


القولان والوجهان:
القولان للإمام الشافعي صاحب المذهب، والوجهان للأصحاب الذين عرفوا بأنهم من أصحاب الوجوه.
القولان:
"قد يكون القولان قديمين، وقد يكونان قديماً وجديداً، وقد يكونان جديدين، وقد يقولهما في وقتٍ، وقد يقولهما في وقتين، وقد يرجح أحدهما، وقد لا يرجح" (1).
فهذه عدة صور، فما حكم كل صورة.
* إن كان القولان (قديمين) بمعنى أنه قالهما قبل الدخول إلى مصر، فإما أن يقول قولاً مخالفاً لهما في الجديد أو لا.
فإن قال قولاً يخالفهما في الجديد، فالعمل بالجديد.
وإن لم يقل بخلافهما في الجديد، يرجح بينهما بطرق الترجيح التي سنشير إليها، ويعمل بالراجح منهما.
وهذا معنى كلام النووي رحمه الله، إذ قال: " واعلم أن قولهم: القديم ليس مذهباً للشافعي، أو مرجوعاً عنه، أو لا فتوى عليه، المراد به قديم نصَّ في الجديد على خلافه.
أما قديم لم يخالفه في الجديد، أو لم يتعرض لتلك المسألة في الجديد، فهو مذهب الشافعي واعتقادُه، ويعمل به، ويفتى عليه؛ فإنه قاله ولم يرجع عنه، وهذا النوع وقع منه مسائل كثيرة " (2).
فإن كانا قديماً وجديداً، فالعمل بالجديد، والقديم مرجوع عنه، وكما قال إمام الحرمين في كتابنا هذا: " المرجوع عنه ليس مذهباً للراجع ".
__________
(1) ر. مقدمة المجموع: 1/ 66.
(2) السابق: 68.

(المقدمة/164)


" واستثنى الأصحاب نحو عشرين مسألة أو أكثر، وقالوا يفتى فيها بالقديم، وقد يختلفون في كثير منها " (1).
هذا نص كلام النووي، وقد عدّد نحو عشرين مسألة، مع الخلاف في بعضها، فطالعها إن شئت، ولا داعي للإطالة بذكرها.
ولكن هل تعدّ هذه المسائل من مذهب الشافعي، أم يقال: إن أصحاب الشافعي خالفوه في هذه المسائل، وعملوا فيها بخلاف مذهبه؟
الصواب الذي قاله المحققون، وجزم به المتقنون من الأصحاب: أن العمل في هذه المسائل والفتوى بالقديم فيها ليس من مذهب الشافعي (2).
وخالف آخرون حكى النووي قولهم بقوله: " وقال بعض الأصحاب: إذا نص المجتهد على خلاف قوله، لا يكون رجوعاً عن الأول، بل يكون له قولان " وعقب قائلاً:
" قال الجمهور: هذا غلط؛ لأنهما كنصين للشارع تعارضا، وتعذر الجمع بينهما، يعمل بالثاني، ويترك الأول، فإذا علمت حال القديم، ووجدنا أصحابنا أفتوا بهذه المسائل على القديم، حملنا ذلك على أنه أداهم اجتهادهم إلى القديم لظهور دليله، وهم مجتهدون، فأفتَوْا به، ولا يلزم من ذلك نسبته إلى الشافعي، ولم يقل أحد من المتقدمين في هذه المسائل: إنها مذهب الشافعي، قال ابن الصلاح: فيكون اختيار أحدهم للقديم فيها من قبيل اختيار مذهب غير الشافعي إذا أداه اجتهاده إليه؛ فإنه إذا كان ذا اجتهادٍ، اتبع اجتهاده " (3).
وكل هذا إذا لم يعضد القديمَ حديثٌ صحيح، لا معارض له، فإنه حينئذٍ يكون مذهباً للشافعي؛ عملاً بقوله: " إذا صح الحديث، فهو مذهبي ".
__________
(1) المجموع للنووي: 1/ 66.
(2) معنى كلام النووي في السابق نفسه.
(3) مقدمة المجموع: 1/ 67 (بتصرف).

(المقدمة/165)


بل قد رأينا بعض المتأخرين لا يسلم بأن هذه من القديم، ويقول: إنه تتبعها، فوجد أن المذهب فيها موافق للجديد (1).
* فإن كان القولان جديدين، وقد قالهما في وقتين مختلفين، فالعمل بالمتأخر منهما إن علمه.
* فإن كان القولان جديدين، وقد رجح أحدهما، فالعمل بما رجحه.
* فإن كانا جديدين، ولم يعلم السابق منهما، ولم يرجح أحدهما، وجب البحث عن أرجحهما، فيعمل به، فإن كان أهلاً للتخريج أو الترجيح، استقل به متعرفاً ذلك من نصوص الشافعي، ومأخذه وقواعده.
فإن لم يكن أهلاً، فلينقله عن أصحابنا الموصوفين بهذه الصفة، فإن كتبهم موضحة لذلك، فإن لم يحصل له ترجيح بطريقٍ، توقف حتى يحصل (2).
* فإن كان القولان جديدين، وقالهما في وقتٍ واحد، ولم يرجح أحدهما، فهو ترديد قولٍ، وتوقفٌ عن الفتوى والحكم، وحصرٌ له في هذين القولين.
وحكم العمل في هذه الحالة حكم الحالة السابقة تماماً، من وجوب البحث والترجيح ممن هو أهله ...
ويقول النووي وأئمة المذهب: إن ذلك لم يوجد إلا في ست عشرة أو سبع عشرة مسألة.
ويقول شيخنا الإمام أبو زهرة: (إن الشافعية يحاولون تقليل عدد هذه المسائل تعصباً للشافعي، ظناً منهم أن ذلك يغض من قدره، ويوحي بقصور اجتهاده، على حين العكس هو الصحيح، قال شيخنا: وإنك لترى الرازي كغيره من متعصبي الشافعية يظنون أن كثرة الآراء للشافعي لا تليق به، فيدفعونها عنه، ويقللون عدد المسائل التي
__________
(1) المذهب عند الشافعية، أَخْذاً من نهاية المحتاج: (1/ 50) والفوائد المدنية: 242 - 248، والشرواني على التحفة: 1/ 54.
(2) ر. المجموع: 1/ 68.

(المقدمة/166)


قال فيها أكثرَ من رأي، وترى بجوارهم المتعصبين على الشافعي يرون كثرة الآراء منقصة فيه، ودليلاً على عدم الوصول إلى الحق.
وذلك نقص في العلم، وقد رددنا زعمهم، وبينا أن العلم يوجب التردد في كثير من الأحيان، وأن التردد عن بينةٍ علمٌ، واليقين عن غير بينة جهل.
والحق أن الشافعي كان مخلصاً في طلب ما يعتقد أنه الحق في هذه الشريعة الغراء، والمخلص لا تستحوذ عليه فكرة، ولا يسترقُّه رأي يجمد عليه؛ فإن له مقصداً معيناً، وهو طلب العلم لله. وذلك يجعله يفحص آراءه بميزانٍ ناقدٍ كاشف، ونظرٍ مستبين فاحص، وفوق ذلك كان الشافعي ذا فكرٍ حي متحرك يسير في طلب الغايات العلمية صعداً، لا يسكن إلى غاية حتى يطلب ما وراءها.
ومن كانت هذه حاله لا يجمد على آرائه، بل يسبرها دائماً بالميزان الذي يصل إليه في طوره العلمي الأخير" (1).
وقد ذكر الشيخ أبو زهرة ثماني مسائل من فقه الشافعي له فيها أكثر من قول (2)، وكأنه يريد بهذا أن يردّ القول بأن هذه المسائل محصورة في ست عشرة مسألة، ولذا عقب عليها قائلاً: " هذه أمثلة مما عثرنا عليه عند قراءتنا للمجموعة الفقهية المنسوبة للشافعي وتلاميذه، وهي كاشفة عما وراءها ومبينة، وإن لم تكن هي كل ما وجدناه من أقوال الشافعي رضي الله عنه " (3).
ويبدو أن اعتبار ترديد الأقوال منقصة وقصوراً في فقه الشافعي أمر قديم، فقد وجدنا إمام الحرمين يقول في البرهان: "استبعد مستبعدون من الذين قصرت هممهم عن درك الحقائق ترديدَ الشافعي أقوالَه في المسائل؛ وتخيلوا أن ذلك حكم منه بحكمين متناقضين، وجمعٌ بين تحليل وتحريم في قضية واحدة.
وهذا جهلٌ من الظان، وعماية، وقلة دراية؛ فإن التردد الذي ذكره الشافعي نَفْيُ
__________
(1) الشافعي - حياته وعصره: 181، 182.
(2) اقرأ هذه المسائل. السابق: 179 - 179.
(3) السابق نفسه: 179.

(المقدمة/167)


المذهب، واعتراف بالاعتراض والإشكال، وتصريح منه أنه لا مذهب لي في الواقعة بعدُ.
والشافعي بعدما ردد الأقوال، استقر رأيه على قولٍ واحد في جلة المسائل، ولم يبق على التردد إلا في ثماني عشرة صورة، فهو ليس كثير التردد" (1).
ولم يكن إمام الحرمين وحده الذي عُني بهذه القضية، بل وجدنا ذلك أيضاً عند الإمام أبي إسحاق الشيرازي (2).
وفي كتابنا هذا (12/ 229) قال إمام الحرمين أيضاً: " وقول عثمان هذا يدل على أن ترديد القول في الشرع ليس بدعاً، وفي مساق قول عمر ما يدل على مثله.
وبالجملة لا ينكر تردد المجتهد في المظنونات إلا أخرق، لا يعرف مسالك الاجتهاد ".
قال ذلك تعقيباً على قول عثمان رضي الله عنه في حكم الجمع بين الأختين في الوطء بملك اليمين، إذ قال رضي الله عنه: " أحلتهما آية، وحرمتهما آية " أي ردّد رأيه، ولم يقطع، وهو يشير إلى آية: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المعارج: 30]، فعموم الآية يقتضي الإباحة، وأراد بالآية الأخرى قوله تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} [النساء: 23].
وأما قول عمر الذي يُفهم منه التردد أيضاً، فهو قوله حينما سئل عن ذلك: " أما أنا، فلا أحب أن أفعل ذلك " فكرهه في خاصة نفسه، ولم يقطع بتحريمه.
ووضع شمس الدين محمد السلمي الشافعي الشهير بالمناوي رسالة في هذه المسألة وحدها بعنوان: (فرائد الفوائد في اختلاف القولين لمجتهدٍ واحد).
وعنوانها يكفي للدلالة على مضمونها، وهي رسالة كافية شافية، تحقق غرض الشافعية في الدفع عن إمامهم بأسلوب بعيد عن التعصب والإساءة.
وإن كانت القضية أصلاً لا تحتاج إلى اتهام ودفاع، كما قال شيخنا أبو زهرة.
__________
(1) البرهان في أصول الفقه: ج 2 فقرة: 1553.
(2) شرح اللمع: 2/ 1075 فقرة: 1219، والتبصرة في أصول الفقه: 511.

(المقدمة/168)


الوجهان:
الوجه أو الوجهان أو الأوجه، هي لأصحاب الشافعي المنتسبين إلى مذهبه، يخرجونها على أصوله، ويستنبطونها من قواعده، ويجتهدون في بعضها، وإن لم يأخذوه من أصله. فتارة يخرّج من نصٍّ معين لإمامه، وتارة لا يجده، فيخرج على أصوله، بأن يجد دليلاً على شرط ما يحتج به إمامه، فيفتي بموجبه، وتارة يجد نصاً لإمامه في مسألة، ونصاً على حكم مخالف في مسألة تشبهها، فيخرّج من أحدهما إلى الآخر قولاً، فيقال: في كلا المسألتين قولان، أحدهما بالتخريج، والآخر بالنص.
وشرط هذا التخريج ألا يوجد بين النصين فرق، فإن وُجد، وجب أن يقرّهما قرارهما: وعلى ظاهرهما، ويكثر الخلاف في هذا اللون من التخريج، لاختلافهم في إِمكان الفرق (1).
ومما ينبغي ذكره هنا قولُ إمام الحرمين: " ولعل الفقيه المستقلّ بمذهب إمامٍ أقدرُ على الإلحاق بأصول المذهب الذي حواه من المجتهد -أي صاحب المذهب- في محاولته الإلحاق بأصول الشريعة؛ فإن الإمام المقلَّد المقدّم بذل كُنه مجهوده في الضبط، وَوَضْع الكتاب وتبويب الأبواب، وتمهيد مسالك القياس، والأسباب.
والمجتهد الذي يبغي ردّ الأمر إلى أصل الشرع، لا يصادف فيه من التمهيد والتقعيد ما يجده ناقل المذهب في أصل المذهب المفرَّع المرتَّب " (2).
والكلام على الأوجه من ناحيتين:
أولاً- ماذا يعد منها من المذهب، وما لا يعد.
إذا خرّج المجتهد المنتسب إلى المذهب على غير قواعد إمامه، وغير مستنبطٍ من نصوصه، فتخريجاته لا تعد وجوهاً في المذهب، بل تعدّ مذهباً خاصاً له، كبعض
__________
(1) مأخوذٌ من كلام النووي في مقدمة المجموع: 42، 43، ومن الفوائد المكية: 46، 47، ومن أدب الفتوى: 40 - 45.
(2) الغياثي: فقرة: 631.

(المقدمة/169)


تخريجات المزني، ومحمد بن نصر المروزي، ومحمد بن جرير وغيرهم، وقد أشرنا إلى شيء من ذلك فيما سلف.
إما إذا خرّج على أصول إمامه وقواعده، أو خرّج من نصٍّ معين لإمامه، أو اكتفى في الحكم بدليل إمامه من غير أن يبحث عن معارض كفعل المجتهد المستقل في النصوص، فهذه الوجوه تعد من المذهب، قال إمام الحرمين في (نهاية المطلب) في باب ما ينقض الوضوء: " إذا انفرد المزني برأي، فهو صاحب مذهب، وإذا خرج للشافعي قولاً، فتخريجه أولى من تخريج غيره، وهو ملتحق بالمذهب، لا محالة ".
وعقب النووي على ذلك قائلاً: " وهذا الذي قاله الإمام حسن، لا شك أنه متعين " (1) وقد ذكر إمام الحرمين هذا المعنى بألفاظ أخرى حيث قال: " إن المفتي يحل في حق المستفتي محل الإمام المجتهد ... ، ثم يقلد المستفتي ذلك الإمامَ المقَّلدَ المنقلبَ إلى رحمة الله تعالى ورضوانه، لا الفقيهَ الناقلَ القيَّاسَ " (2).
وإذا قلنا: إن هذه الوجوه المخرجة على أصول الشافعي وقواعده، والمأخوذة من نصوصه تلحق بمذهبه، ويقال فيها: هذا مذهب الشافعي، فهل يصح أن تنسب إلى الشافعي قولاً له؟
اختلف الأصحاب في ذلك، والأصح أنه لا يصح نسبته إلى الشافعي قولاً له، اختار ذلك أبو اسحاق الشيرازي، وابن الصلاح، والنووي، قال الشيرازي في (شرح اللمع): "فأما ما يخرجه أصحابنا على قوله، فلا يجوز أن ينسب إليه، ويجعل قولاً له.
ومن أصحابنا من أجاز ذلك، وقال: حكمه حكم المنصوص عليه.
والدليل عليه أن قول الإنسان ما نص عليه، أو دل عليه بما يجري مجرى النص، فأما إذا لم ينص عليه، ولم يدل عليه بما يجري مجرى النص، فلا يحل أن يضاف
__________
(1) المجموع: 1/ 72.
(2) الغياثي: فقرة 633.

(المقدمة/170)


إليه، ولهذا قال الشافعي: ولا ينسب إلى ساكت قول" (1).
وقد ذكر الشيرازي، ذلك المعنى أيضاً في كتابه (التبصرة في أصول الفقه) (2) وبه أخذ ابن الصلاح والنووي (3).
ثانياً - العمل بالوجهين:
الوجهان والأوجه لها صور لا تخرج عنها، ولكل منها حكمها:
* إذا كان أحد الوجهين منصوصاً أي لإمام المذهب، وما عداه للأصحاب، فالعمل بالمنصوص، إلا إذا كان المخرج من مسألة يتعذر فيها الفرق، فقيل: لا يترجح عليه المنصوص، وفيه احتمال، وقل أن يتعذر الفرق.
* إذا كان الوجهان أو الأوجه لواحدٍ من الأصحاب، فإن عرف المتأخر عمل به، وكان ما سبقه مرجوعاً عنه.
وإن لم يعرف المتقدم من المتأخر، وجب الترجيح لمن هو أهله على نحو ما ذكرنا في القولين.
* إذا كان الوجهان أو الأوجه لأكثر من شخص واحد، فلا اعتبار بالتقدم والتأخر، وهنا أيضاً يجب الترجيح ممن هو أهلٌ لذلك.
أما من لم يكن أهلاً للترجيح، فليأخذه عن الأصحاب الموصوفين بذلك، فإن وجد خلافاً بينهم، فليعتمد في الاختيار والتقديم الضوابط الآتية:
- يقدم الأكثر والأعلم والأورع.
- فإن تعارض الأعلم والأورع، قدم الأعلم.
- فإن لم يجد ترجيحاً عن أحد اعتبر صفات الناقلين للقولين والوجهين، فما رواه البويطي والربيع المرادي والمزني عن الشافعي مقدم عند أصحابنا على ما رواه الربيع
__________
(1) شرح اللمع: 1084 فقرة: 1228.
(2) التبصرة: 517.
(3) أدب الفتوى: 44، ومقدمة المجموع: 1/ 43.

(المقدمة/171)


الجيزي وحرملة (1). (هذا في نقل القولين، وهو مثال لما يجب العمل به في نقل الوجهين).

الطريقة:
تكلمنا قبلاً عن نشأة الطريقتين، وأعلامهما، والجمع بينهما، وبيان أن ذلك مرحلة في تطور المذهب ونموه.
والآن بقي علينا تعريف الطريقة بصفتها مصطلحاً من المصطلحات التي تتردّد في مصنفات المذهب.
" الطرق: هي اختلاف الأصحاب في حكاية المذهب، فيقول بعضهم مثلاً: في المسألة قولان أو وجهان. ويقول الآخر: لا يجوز قولاً واحداً، أو وجهاً واحداً.
أو يقول أحدهما: في المسألة تفصيل، ويقول الآخر: فيها خلاف مطلق.
وقد يستعملون الوجهين في موضع الطريقين وعكسه " (2).
الأصحاب: هم في الأصل أصحاب الشافعي، ثم توسّعوا في اللفظ فأصبح يشمل كل أعلام المذهب وفقهائه، فلم يقتصر على أصحاب الشافعي الذين جالسوه وأخذوا عنه.
ثم هم يسمَّوْن الأصحاب، ولو تباعد بينهم الزمان والمكان، ولذا يقول النووي في (تهذيبه): " وهذا مجاز مستفيض للموافقة بينهم، وشدة ارتباط بعضهم ببعض كالصاحب " يعني (كالصاحب) من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
...
والأصحاب عند ابن حجر الهيتمي " هم المتقدمون من أئمة المذهب، وهم أصحاب الوجوه غالباً، وضبطوا بالزمن، وهم من الأربعمائة (3) ".
المتأخرون: وهم من بعد الأربعمائة، كما يفهم من كلام ابن حجر السابق.
__________
(1) المجموع: 1/ 68 (بتصرف).
(2) المجموع: 1/ 66.
(3) قاله في الفتاوى، ونقله عنه السيد علوي السقاف في الفوائد المكية: 46.

(المقدمة/172)


النص: المراد به نص الشافعي، من إطلاق المصدر على اسم المفعول، سمي بذلك لأنه مرفوع إلى الإمام، أو لأنه مرفوع القدر لتنصيص الإمام عليه (1)

من المصطلحات الخاصة برجال المذهب
الإمام: حيث يقال (الإمام) مطلقاً، فالمراد به إمام الحرمين. (طبعاً بعد إمام الحرمين)
* إذا قيل (الإمام) في كتب التفسير، فالمراد به الفخر الرازي
* وفي كتابنا هذا إذا قيل (الإمام)، فالمراد به شيخه ووالده، أبو محمد الجويني.
الربيع: إذا أطلق (الربيع) بدون تقييد، فالمراد به الربيع المرادي
الشيخان: المراد بهما الرافعي والنووي.
الشيوخ: يراد بهذا المصطلح الرافعي، والنووي، ومعهما (السبكي) تقي الدين.
القاضي: حيث يطلق (القاضي) فالمراد به القاضي حُسين بن محمد بن أحمد المرورّوزي، عند إمام الحرمين وغيره من الخراسانيين، ثم شاع وذاع عند الجميع؛ حيث بدأ الجمع بين الطريقتين منذ القرن الخامس.
والقاضي: عند أبي إسحاق الشيرازي، وشبهه من العراقيين، هو أبو الطيب الطبري، ولكن هذا توقَّف بعد القرن الخامس، وأصبح القاضي هو القاضي حسين.
والقاضي: إذا أطلق في كتب الأصول لغير المعتزلة، فالمراد به القاضي أبو بكر الباقلاني، وأما في كتب الأصول للمعتزلة، فالمراد به القاضي عبد الجبار بن أحمد الهمذاني.
القفال: إذا أطلق في النهاية وغيرها من كتب الخراسانيين كتعليق القاضي حسين،
__________
(1) السابق نفسه.

(المقدمة/173)


والإبانة للفوراني، والتتمة للمتولي، والوسيط للغزالي، والبحر للروياني - فهو القفال الصغير المروزي، أبو بكر، عبد الله بن أحمد بن عبد الله، المتوفى 417 هـ عن تسعين سنة، وهو المذكور في كتب المذهب بعامة بعد الجمع بين الطريقين، وعند المتأخرين؛ فحيثما يقال: القفال مطلقاً، فاعلم أنه القفال المروزي الصغير، وهو رأس طريقة المراوزة، كما قررنا من قبل.
* القفال الكبير: وهناك قفالٌ آخر يشترك معه في الكنية، فكل منهما أبو بكر، ولكنهما يتميزان بالإسم والنسبة، فالكبير الشاشي، والصغير المروزي، والشاشي اسمه محمد بن علي بن إسماعيل، والصغير عبد الله بن أحمد بن عبد الله، والكبير أسبق وفاة، فقد توفي 365 هـ.
ويتميزان أيضاً بأن الصغير المروزي أكثر ذكراً في كتب الفقه، والكبير أكثر ذكراً في كتب الحديث والتفسير، وإذا ذكر في كتب الفقه قُيِّد، كما فعل الإمام في النهاية.
وغير لائق أن نترك الكلام عن القفال الكبير الشاشي دون أن نقول إنه واحدٌ من أئمة المسلمين الذين أثر عنهم أنهم خرجوا غزاة في الجيوش الإسلامية، فقد كان فيمن غزا الروم من أهل خُراسان وما وراء النهر في الغزوة التي سميت عامَ النفير.
كما نذكر أنه كان في قلب السياسة، بقصيدته التي أجاب بها هجاء نقفور اللعين، فكان لها وقع الصواعق على الروم وملكهم وقادتهم.
وقد أحسن السبكي حين شغل بهذه القصة نحو عشر صفحات من الجزء الثالث من كتابه الطبقات.
* وهناك قفالٌ ثالث، وهو ابن القفال الكبير الشاشي، واسمه القاسم، فهو القاسم بن محمد بن علي بن إسماعيل، ومع أنه أولى بلقب (الصغير)، لكنه أبداً لم يعرف به، وذاعت شهرة كتابه (التقريب)، وتخرج به فقهاء خراسان، فغلب اسمُ الكتاب اسمَ صاحبه، فيقال دائماً: صاحب التقريب، كما في النهاية، فلم يذكره إمام الحرمين مرة واحدة باسمه، بل دائماً: (صاحب التقريب) على كثرة ما ذكره.
وعندي أن هذا هو الذي أوقع الاختلاف في اسمه، فبعضهم يخطىء، فيقول:

(المقدمة/174)


" أبو القاسم " والصواب كما قلنا: أنه (القاسم) وكنيته أبو الحسن. توفي رحمه الله نحو 399 هـ.
المحمدون الأربعة: يراد بهم: محمد بن نصر المروزي
محمد بن إبراهيم بن المنذر
محمد بن جرير الطبري.
محمد بن إسحاق بن خزيمة
* ومما يدخل في باب المصطلحات، قول السبكي (1): ومن مستحسن الكلام: الشيخ والقاضي زينة خراسان: وهما الشيخ أبو علي السنجي، والقاضي حُسين بن محمد بن أحمد المرورّوزي.
والشيخ والقاضي زينة العراق، وهما الشيخ أبو حامد الإسفراييني، والقاضي أبو الطيب الطبري.
* ومن هذا الباب التفرقة بين القاضي أبي حامد، والشيخ أبي حامد:
فالأول هو القاضي، أبو حامد، أحمد بن بشر بن عامر العامري، المرورُّذي، بميم مفتوحة، ثم راء ساكنة، ثم واو مفتوحة، ثم راء مضمومة مشدّدة (وقد تخفف) ثم ذال معجمة مكسورة نسبة إلى مرو الروذ، وقد يقال: المرُّوذي بضم الراء الأولى وتشديدها، وحذف الراء الثانية. صنف الجامع في المذهب، واشتهر به، فيقال: صاحب الجامع، وشرح مختصر المزني. توفي سنة 362 هـ
وأما الشيخ أبو حامد، فهو شيخ طريقة العراقيين، الشيخ أبو حامد، أحمد بن محمد بن أحمد، الإسفراييني، ويعرف بابن أبي طاهر. توفي سنة 406 هـ
* وكذلك التفرقة بين الأستاذ أبي إسحاق، والشيخ أبي إسحاق.
فالأول هو الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني، ويقال له غالباًْ الأستاذ أبو إسحاق، وهو إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن مهران، الأستاذ، الإسفراييني، برع في الكلام والأصول، ثم الفقه، ولذا تراه تكرر في البرهان لإمام الحرمين عشرات المرات على
__________
(1) قال هذا في ترجمة الشيخ أبي علي السنجي: 4/ 344.

(المقدمة/175)


حين لم يذكره بهذه الكثرة في النهاية. قيل فيه: إنه بلغ حد الاجتهاد؛ لتبحره في العلوم، واستجماعه شروط الإمامة، توفي سنة 418 هـ.
أما الشيخ أبو إسحاق، فهو الشيخ أبو إسحاق، إبراهيم بن علي بن يوسف بن عبد الله، الشيرازي الفيروزابادي، صاحب المهذب والتنبيه، بدأ تفقهه بفارس، ثم انتقل مبكراً إلى البصرة، فبغداد، وتفقه فيها على شيخه القاضي أبي الطيب الطبري، وجماعة من مشايخه، فهو عراقي وذاك خراساني، توفي ببغداد سنة 472 هـ.
* وهناك أبو إسحاق ثالث، ولكنه لا يشتبه مع هذين، وهو أبو إسحاق المروزي، وهو إمام جماهير الأصحاب، وإليه منتهى الطريقتين، ولعلو منزلته إذا قيل (أبو إسحاق) مطلقاً عرف أنهم إياه يعنون، توفي سنة 345 هـ.

من المصطلحات التي تتردّد في كتابنا هذا (نهاية المطلب) ومنها ما هو خاص به، لم نره في غيره
وهذه المصطلحات بعضها علمية، وبعضها خاص بالرجال والكتب. فمن المصطلحات العلمية:
الاستناد، وقد يقال: الإسناد.
وهو مصطلح أصولي: معناه أن يثبت الحكم في الحال بوجود الشرط في الحال، ثم يستند الحكم في الماضي أي يرجع الملك القهقرى لوجود السبب في الماضي، وذلك كالحكم في المضمونات؛ تملك عند الضمان مستنداً إلى وقت وجود سبب الضمان، كما في الغصب، فإن الغاصب يملك المغصوب عند أداء القيمة مستنداً إلى وقت وجود السبب وهو الغصب، فإذا استولد الغاصب الجارية المغصوبة، فهلكت، ثم أدى الضمان، يثبت النسب من الغاصب؛ لأنها صارت ملكه من وقت الغصب وكما في الزكاة؛ فإن وجوبها عند تمام الحول يستند إلى ملك النصاب أول الحول.
التبين: وهو أن يظهر في الحال أن الحكم كان ثابتاً من قبل في الماضي بوجود علة الحكم والشرط كليهما في الماضي، مثل أن يقول في يوم الجمعة: إن كان زيد في الدار، فأنت طالق، ثم يتبين يوم السبت أنه كان في الدار يوم الجمعة، فوقع الطلاق يوم الجمعة، ويعتبر ابتداء العدة منه، لكن ظهر هذا الحكم يوم السبت.

(المقدمة/176)


وإتماماً للفائدة نذكر مصطلحين آخرين يتصلان بما سبق ويتم بهما الكلام، وإن لم يكن لهما ذكر في (نهاية المطلب)، فالأحكام تثبت بطرق أربعة هي:
الأول - الاقتصار: وهو أن يثبت الحكم عند وجود علته، لا قبله، ولا بعده، كما في الطلاق المنجز، فإن قال: أنت طالق، فيقع الطلاق عند قوله هذا، لا قبله ولا بعده.
الثاني - الانقلاب: وهو صيرورة ما ليس بعلة علة، كما في تعليق الطلاق بالشرط، بأن قال: إن دخلت الدار، فأنت طالق؛ فعند حدوث الشرط ينقلب ما ليس بعلة علة، يعني أن قوله: أنت طالق في صورة التعليق ليس بعلة قبل وجود الشرط، وهو دخول الدار، وإنما يتصف بالعلّية عند الدخول.
والثالث والرابع، هما الاستناد والتبين، وقد تقدما.
...
الارتكاب: تكرر هذا اللفظ بأكثر من صيغة من صيغ الاشتقاق، في مواضع كثيرة، على طول هذا الكتاب، ومنها على سبيل المثال قوله في خطبة الكتاب: " وما اشتهر فيه خلاف الأصحاب ذكرته، وما ذكر فيه وجهٌ غريب منقاس ذكرت ندوره وانقياسه، وإن انضم إلى ندوره ضعف القياس نبهت عليه ... وإن ذكر أئمة الخلاف وجهاً مرتكباً أنبه عليه ". وحين يعرض للاجتهاد في القبلة، يعقب على أحد الوجوه في صورة من الصور قائلاً: " وهذا إن ارتكبه مرتكب، ففيه بعدٌ ظاهر " وفي باب آخر يعقب على أحد الوجوه قائلاً: "ولم يصر إلى هذا أحد من أئمة المذهب، وإنما هو من ركوب أصحاب الخلاف" وفي كتاب النكاح يعقب على إحدى المسائل قائلاً: " ولما نظر القفال إلى ما ذكرناه، لم يجد فرقاً، وارتكب طرد القياس في المسألتين اللتين ذكرهما صاحب التقريب، وقال أولاً: إنه حكى فيهما نص الشافعي، وقد تتبعت النصوص، فلم أجد ما حكاه من المسألتين منصوصاً ... ".
هذه نماذج لورود هذا اللفظ، وصورٌ من اشتقاقاته، ولقد تبادر إلى الذهن أن هذا (الارتكاب) أحد مصطلحات علم الجدل والمناظرة، فبحثت واستقصيت جهدي في كل مظانه: في الكافية في الجدل لإمام الحرمين، المعونة في الجدل لأبي

(المقدمة/177)


إسحاق الشيرازي، واصطلاحات المتكلمين والفلاسفة للآمدي، المعجم الفلسفي لمجمع اللغة العربية، وكشاف اصطلاحات الفنون للتهانوي، وتعريفات الجرجاني، وكليات أبي البقاء، ثم غريب ألفاظ الشافعي، ثم معاجم اللغة، ثم معجم الألفاظ التي شرحها ابن خلكان في الوفيات.
ويبدو أن المراد بالارتكاب هنا التعسف وركوب الطريق غير السوي، يظهر ذلك من سياق العبارات التي أمامنا، والذي يرشح هذا التفسير أن هذا (الارتكاب) يكون عادة من أئمة الخلاف، عند نصرة كل صاحب رأي لرأيه فيعتسف أيّ طريق، انتصاراً لرأيه، وفراراً من إلزامات خصمه. والله أعلم.

ومن المصطلحات الخاصة بالكتب والرجال (1):
السواد: يعني به الإمام مختصر المزني، وهذا اصطلاح خاص به، فلم نره لغيره.
صاحب التلخيص: وهو أبو العباس أحمد بن أبي أحمد، القاص، الطبري، توفي سنة 335 هـ.
صاحب التقريب: هو الإمام، أبو الحسن، القاسم بن الإمام أبي بكر محمد بن علي القفال الشاسي، توفي نحو سنة 399 هـ وقد تقدم آنفاً بأتم من هذا.
الأستاذ أبو منصور البغدادي، وقد يطلقه، فيقول: الأستاذ بغير قيد، وذلك في كتاب الفرائض فقط، ويسميه إمام الصناعة مطلقاً، فلا يشتبه بالأستاذ أبي إسحاق.
وأبو منصور، هو الأستاذ أبو منصور، عبد القاهر بن طاهر بن محمد بن عبد الله، البغدادي، التميمي، الإسفراييني، كان يدرّس في سبعة عشر فناً، صاحب (الفرق بين الفرق) ولد ونشأ في بغداد، ورحل إلى خراسان، فاستقر في نيسابور، ثم فارقها، مات في إسفراين سنة 429 هـ.
بعض المصنفين: يعني به أبا القاسم الفوراني، صاحب الإبانة، وهو الإمام، أبو القاسم، عبد الرحمن بن محمد بن أحمد بن فوران، توفي سنة 461 هـ.
(وقد بينا حاله مع إمام الحرمين في أكثر من موضع، وأكثر من تعليق)
__________
(1) انظر الشكل الرابع.

(المقدمة/178)


الشكل الرابع: يبين اصطلاح الإمام في الألقاب والكنى التي يطلقها على رجال المذهب الذين لهم ذكر في (نهاية المطلب).
1 - إبراهيم البلدي: إبراهيم بن محمد نسبة إلى بلد. ت قبل 300 هـ.
2 - الأستاذ أبو إسحاق: لا يأتي إلا بهذا اللقب والمقصود أبو إسحاق الإسفراييني. ت 418 هـ.
3 - الأستاذ أبو منصور البغدادي. ت 429 هـ.
4 - أبو إسحاق: ويقيده أحياناً فيقول أبو إسحاق المروزي. ت 340 هـ. وأحيانا المروزي
5 - الاصطخري وأحياناً أبو سعيد الإصطخري. ت 328 هـ.
6 - أحمد بن بنت الشافعي: يأتي هكذا دائماً. ت 295هـ.
7 - أبو بكر الإسماعيلي: يأتي هكذا دائماً. ت 371 هـ.
8 - أبو بكر الطوسي ت420 هـ.
9 - أبو بكر الفارسي: لايأتي إلا هكذا. ت 305 أو 350 هـ.
10 - أبو بكر المحمودي: وقد يقول: المحمودي. ت بعد 300 هـ.
11 - الأودني أبو بكر ت 385.
12 - بعض المصنفين: لا يأتي إلا هكذا، والراد أبو القاسم الفوراني. ت 461 هـ
13 - البويطي: يأتي هكذا دائماً. ت 231 هـ.
14 - أبو ثور: يأتي هكذا دئماً. ت 240 هـ.
15 - أبو جعفر الترمذي- ت 295 هـ.
16 - أبو حامد المروروذي يأتي هكذا والمقصود القاضي أبوحامد. ت 362 هـ.
17 - ابن الحداد: يأتي هكذا دائماً. ت 345 هـ.
18 - حرملة: يأتي هكذا دائماً. ت 243 هـ.
19 - الحسين الكراييسي: ومرة قال: الكرابيسي. ت 245 هـ.
20 - أبو حفص الوكيل: ومرة ابن الوكيل. ت 310 هـ.
21 - الحليمي أبو عبد الله. ت 403 هـ.
22 - الخضري: يأتي هكذا دائماً. ت 373 هـ.
23 - ابن خيران: يأتي هكذا دائماً. ت 320 هـ.
24 - الربيع: يأتي هكذا مطلقاً: فحيث أطلق فهو ابن سليمان المرادي ت 270 هـ.
25 - الربيع بن سليمان الجيزي: يأتي هكذا دائماً. ت 256 هـ.
26 - الزبيري: وأحياناً أبوعد الله الزبيري وقد يذكره بصاحب الكافي. ت 317 هـ.
27 - الزعفراني، الحسن بن محمد ت260 هـ.
28 - الزيادي، أبو طاهر محمد بن محمد ت 411 هـ.
29 - أبو زيد: وقد يرد أبو زيد المروزي، وأحيا ناً الشيخ أبو زيد المروزي. ت 371 هـ.
30 - الساجي، زكريا بن يحيى ت 307 هـ.
31 - ابن سريج: لا يأتي إلا هكذا. ت 306 هـ.
32 - الشيخ الإمام سهل الصعلوكي ت 404 هـ.
33 - الشيخ أبوحامد الاسفراييني. ت 406 هـ.
34 - الشيخ أبو علي: يرد هكذا غالباً، والمراد به: أبو علي السنجي. ت 430 هـ.
وقد يرد: الشيخ (مطلقاً) الشيخ في الشرح
الشيخ في شرح التلخيص، الشيخ في شرح الفروع
الشيخ أبو علي في شرح التلخيص، الشيخ أبو علي في شرح الفروع.
35 - شيخي: المراد به: أبو محمد الجويني الأب. 438 هـ.
وأحياناً يقول: شيخنا، وأحياناً: الإمام.
ومرة قال: الشيخ الأب.
ومرة قال: الشيخ أبو محمد ومرة قال: الشيخ والدي.
36 - صاحب التقريب: لا يأتي إلا هكذا. قبل: 400 هـ.
37 - صاحب التلخيص: يأتي هكذا ومرة قال: أبو العباس. 335 هـ.
38 - الصيدلاني: يأتي هكذا غالباً وأحياناً الشيخ أبو بكر. 427 هـ
أو أبو بكر الصيدلاني أو شيخنا أبو بكر الصيدلاني. ونادراً أبو بكر.
39 - الصيرفي أبو بكر محمد بن عبد الله 330 هـ.
40 - أبو الطيب بن سلمة. ت 308 هـ.
41 - أبو عبيد بن حربويه 319 هـ.
42 - أبو علي الطبري: لا يأتي إلا هكذا. ت350 هـ.
43 - أبو القاسم الأنماطي: يأتي هكذا غالباً. ت 288 هـ.
44 - القاضي أبو الطب الطبري: ومرة القاضي أبو الطيب. ت 450 هـ.
45 - القاضي يأتي هكذا مطلقاً، وأحياناً: القاضي حسن. ت 462 هـ.
46 - القفال: يأتي هكذا فقط مطلقاً والمراد القفال الصير المروزي. ت 417 هـ.
47 - القفال الشاشي: لا يأتي إلا هكذا، وهو القفال الكبير. ت 365هـ.
48 - ابن اللبان ت 446 هـ.
49 - الماسَرْجِسِي، أبو الحسن. ت 384 هـ.
50 - المحاملي: يأتي هكذا دائماً. ت 415 هـ.
51 - المزني يأتي هكذا. ت 264 هـ.
52 - أبو نصر الفشيري: الإمام عبد الرحيم بن الإمام عبد الكريم. ت 514 هـ.
53 - ابن أبي هريرة: وأحيا ناً أبوعلي بن أبي هربرة. ت 345 هـ.
54 - أبو الولد النيسابوري ت 349 هـ.
55 - أبو يحيى البلخي ت 330 هـ.
56 - أبو يعقوب الأبيوردي نحو 400 هـ.
57 - يونس بن عبد الأعلى: يأتي هكذا. ت 264 هـ.

(المقدمة/179)


بعض التصانيف: ويقصد بها مصنفات الفوراني (بعض المصنفين) وأشهرها (الإبانة).
شيخي: يريد به والده الشيخ أبا محمد الجويني. المتوفى سنة 438 هـ.
الشيخ: إذا أطلقه الإمام، فهو الشيخ أبو علي الجويني، وكذلك لو قال: الشيخ أبو علي، أو الشيخ في الشرح، فالمراد بهذه كلها الشيخ أبو علي، الحسين بن شعيب بن محمد السنجي، المتوفى سنة 430 هـ ومرة واحدة -فيما أذكر- قال: (الشيخ) وأراد به القفال، وقد بيناها في الحاشية ..
الشيخ أبو بكر: ويقصد به أبا بكر الصيدلاني. ت 427
المحاملي: هذا اللقب أو النسبة حمله نحو ستة من أعلام الفقه الشافعي بعضهم أب لبعض، والذي يعنيه الإمام هنا هو أبو الحسن أحمد بن محمد بن أحمد بن القاسم بن إسماعيل بن محمد بن إسماعيل الضبي، ويعرف بابن المحاملي، صاحب اللباب، والمجموع، والمقنع، وغيرها، وله تعليقة عن الشيخ أبي حامد.
والمحاملي هذا هو الأكثر ذكراً وأثراً في الفقه، توفي سنة 415 هـ.
المحققون: يستخدم الإمام هذا اللفظ كثيراً، وبالتتبع والملاحظة ظهر أن المحققين عنده هم:
1 - صاحب التقريب. توفي قبل 400 هـ.
2 - القفال الصغير المروزي، عبد الله بن أحمد ت 417 هـ.
3 - الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني. ت 418 هـ.
4 - الشيخ أبو بكر الصيدلاني. ت 427 هـ.
5 - الشيخ أبو علي السنجي. ت 430 هـ.
6 - الشيخ أبو محمد الجويني. ت 438 هـ.
7 - القاضي حسين. ت 462 هـ.
أثبات النقلة: يعني بهم الإمام:

(المقدمة/180)


1 - الشيخ أبا بكر الصيدلاني
2 - الشيخ أبا علي السنجي
3 - الشيخ أبا محمد الجويني
4 - القاضي حسين
الأئمة المعتبرون في المذهب: وهم أثبات النقلة السابقون، وزاد عليهم: الحليمي وهو الإمام الكبير أبو عبد الله الحسين بن الحسن بن محمد الحليمي، صاحب (المنهاج) في شعب الإيمان، وهو من كبار أصحاب الوجوه. توفي سنة 403 هـ.
القفاليون = المراوزة الآخذون عن القفال = أصحاب القفال (يعبّر عنهم بواحدة من هذه العبارات الثلاث) وهم:
1 - أبو بكر الصيدلاني
2 - أبو علي السنجي
3 - أبو محمد الجويني
4 - القاضي حسين.
أئمتنا: يعبر الإمام -أحياناً- بهذا اللفظ عن شيوخ المراوزة، وذلك عندما يستحضر صفته المروزية؛ فيقول: أئمتنا ويعني بهم أئمة المراوزة.
مَنْ لا أعدل به أحداً من بني الزمان: جاء في كتاب الخلع قول الإمام: " قال من لا أعدل به أحداً من بني الزمان: سألت القاضي -وهو على التحقيق حَبْر المذهب- لم غلّبنا في بعض هذه المسائل حكم المعاوضة؟ وغلبنا في بعضها حكم التعليق؟ وأثبتنا الأحكام على الاشتراك في بعضها؟ ... "
وقد يتبادر إلى الذهن أنه يعني بمن لا يعدل به أحدً من بني الزمان، والده الشيخ أبا محمد، ولكن يعكر على هذا أن والده أسنّ من القاضي، حيث توفي سنة 438 هـ.
في حين كانت وفاة القاضي سنة 462 هـ.
وقد كدنا نقول إن المقصود هو الإمام أبو نصر عبد الرحيم بن الإمام عبد الكريم القشيري. فالإمام كان يعتز به ويكثر الثناء عليه، ونقل عنه مسائل في الدور والوصية

(المقدمة/181)


في كتابنا هذا، وكان يجلس بين يديه مع أنه تلميذه، ولكن يعكر على هذا أيضاً أن الإمام عبد الرحيم بين وفاته ووفاة القاضي حسين اثنان وخمسون سنة، ولم نجد من يبين لنا تاريخ الإمام عبد الرحمن فإذا فرضنا أنه مات قي نحو الستين من عمره.
فيكون عمره عند وفاة القاضي لا يسمح بنقل العلم عنه.
ولذا لا يترجح عندنا بعد من يعنيه الإمام هنا.
***

(المقدمة/182)