نهاية المطلب في دراية المذهب

الفصل الثالث تعريف بإمام الحرمين، ومنزلته بين أئمة المذهب

(المقدمة/183)


تعريف بإمام الحرمين
نتناول في هذه العجالة ترجمة موجزة لإمام الحرمين، نحاول فيها أن نُظهر بعضَ ملامح عصره والعوامل المؤثرة في حياته، وسمات شخصيته.
وسآخذ نفسي بأمرين:
الأول: الإيجاز؛ ذلك لأنني كتبت عن إمام الحرمين: علمه ومنهجه، ومنزلته، في دراسات أفردتها لذلك، وفي مقدمات كتبه التي وفقني الله سبحانه لتحقيقها ونشرها، ومن أجل هذا سيكون ما اكتبه في جملته معاداً مكروراً، وهذا من أشق الأمور على نفسي، وأثقلها على قلبي، وأصعبها على قلمي، وتلك خطة التزمتها، فمذ حملت القلم، كُرِّه إلى الكتابة في موضوعات معادة مكرورة، ولعل هذا من آثار صحبة إمام الحرمين، فقد كان يقول: " حق على من تتقاضاه قريحته تأليفاً، وجمعاً وترصيفاً، أن يجعل مضمون كتابه أمراً لا يلفى في كتاب، ولا يصادف في تصنيف " أ. هـ ومن بعده قال ابن العربي تلميذُ تلميذه: " لا ينبغي لحصيف يتصدى لتصنيف أن يعدل عن غرضين:
إما أن يخترع معنى، وإما أن يبتدع وضعاً ومبنى، وما سوى هذين الوجهين، فهو تسويد الورق، والتحلّي بحلية السرق " أ. هـ.
الثاني: سأحاول أن أضيف جديداً من ملامح شخصية إمام الحرمين، مما رأيته في كتابه أكبر (نهاية المطلب في دراية المذهب).
***

(المقدمة/185)


إمام الحرمين في الزمان والمكان
ولد إمام الحرمين رضي الله عنه في ثامن عشر المحرم سنة 419 تسع عشرة وأربعمائة من هجرة المصطفى صلى الله عليه وصلم، وتوفي ليلة الأربعاء بعد صلاة العشاء الخامس والعشرين من شهر رييع الآخر سنة ثمان وسبعين وأربعمائة (25 ربيع الآخر سنة 478) فكانت حياته رضي الله عته تسعاً وخمسين سنة وثلاثة أشهر وسبعة أيام.
كانت ولادته في نيسابور من أشهر مدن إقليم خراسان، ذلك الإقليم الذي كان من مدنه: هراة، ومرو، وبلخ، وطالقان، ونسا، وأبيورد، وسرخس، وغيرها.
هذا ما شغله من الزمان والمكان، مضافاً إليه أنه أُخرج أو خرج -في قصة طويلة- مع نحو أربعمائة من أئمة الإسلام، في المحنة المعروفة بمحنة أهل السنة، فخرج إلى الحرمين الشريفين، وكان الأئمة يقدمونه ليصلِّي بهم، ومن أجل ذلك جاءه هذا اللقب، الذي عرف به: إمام الحرمين هذا كل ما شغله من المكان والزمان، أما المكانة والمنزلة، فقد ملأ سمع الدنيا بمشرقها ومغربها منذ نبغ، وملأ أيامها منذ كان إلى اليوم، بل إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

العوامل التي ساعدت في بناء شخصيته العلمية
أ- بيته ونشأته:
ولد إمام الحرمين في حِجْر الإمامة، فوالده هو الإمام أبو محمد، عبد الله بن يوسف بن محمد الجويني. كان إمام عصره في نيسابور، تفقه على أبي الطيب سهل بن محمد الصعلوكي، وأبي بكر عبد الله بن أحمد القفال المروزي، وقرأ الأدب على والده يوسف الأديب (بجوين)، وسمع أستاذَيه أبا عبد الرحمن السلمي، وأبا محمد بن بابَوَيْه الأصبهاني، وببغداد أبا الحسن محمد بن الحسين بن الفضل بن نظيف الفراء، وغيرهم.

(المقدمة/186)


برع في الفقه، وصنف فيه التصانيف المفيدة، وشرح المزني شرحاً شافياً، وشرح الرسالة للشافعي.
وكان ورعاً دائم العبادة شديد الاحتياط، مبالغاً فيه. توفي سنة 438 هـ.
هذا والده الإمام الفقيه المحدث الورع العابد، شارح الرسالة والمزني.
وأما عمه، فهو أبو الحسن علي بن يوسف الجويني المعروف بشيخ الحجاز، كان -فيما حكاه ياقوت في معجمه- صوفياً لطيفاً ظريفاً فاضلاً، مشتغلاً بالعلم، والحديث، صنف كتاباً فى علوم الصوفية مرتباً مبوباً سماه كتاب السلوة، سمع شيوخ أخيه، وسمع أيضاً أبا نعيم بن عبد الملك بن الحسن الإسفراييني بنيسابور، وبمصر أبا محمد عيد الرحمن بن عمر النحاس، وروى عنه زاهر ووجيه ابنا طاهر الشحاميان، ومات بنيسابور سنة 463 هـ (1).
أما جده، فكان علمه الذي نبغ فيه وعرف به علم الأدب، قال ياقوت وهو يترجم لوالد الإمام: إنه قرأ عليه الأدب في جوين.
فجده أديب مرموق، وعمه محّدث صوفي، ووالده فقيه أصولي، وقد أحسن ابن عساكر التعبير عن ذلك في التبيين، فقال: " رباه حجر الإمامة، وحرك ساعدُ السعادة مهده، وأرضعه ثديُ العلم والورع، إلى أن ترعرع فيه ونبغ " (2).

ب- الحياة العلمية في عصره:
كان القرن الخامس الهجري يمثل أخصب فترات الحصاد لنهضة أمتنا العلمية الرائعة، فقد نبغ فيه أعلامٌ وأئمة في كل فن، نذكر منهم على سبيل المثال:
* أبو عبد الرحمن محمد بن الحسن بن بن موسى الأزدي النيسابوري صاحب التصانيف التي بلغت نحو مائة مصنف ت 412 هـ.
* القاضي عبد الجبار بن أحمد شيخ المعتزلة، قاضي القضاة، الأصولي، المتكلّم، صاحب المغني، ت 415 هـ.
__________
(1) معجم البلدان 2/ 193 - بتصرف.
(2) التبيين: ج 2، ورقة 73 - 74.

(المقدمة/187)


* القفال الصغير - المروزي عبد الله بن أحمد أبو بكر، وحيد زمانه، علَم الشافعية، أستاذ أبي محمد الجويني ت 417 هـ.
* الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني، الإمام في الفقه والأصول ت 418 هـ.
* ابن مِسكويه من أعلام علم الفلسفة والأخلاق ت 421 هـ.
* ابن سينا الشيخ الرئيس، صاحب الشفاء ت 428 هـ.
* عبد القاهر البغدادي بن طاهر بن محمد بن عبد الله، عالم متفنن، صاحب الفرق بين الفرق، كان يدرّس في سبعة عشر فناً ت 429 هـ.
* أبو محمد عبد الله بن يوسف الجويني، والد إمام الحرمين، شارح الرسالة، والمزني شيخ الشافعية ت 438 هـ.
* البِيروني: محمد بن أحمد أبو الريحان، الرياضي الفيلسوف، صاحب التصانيف التي تفوق العَدَّ في الهيئة والنجوم، والمنطق والفلسفة ت 440 هـ.
* أبو عبد الله الخبازي عالم القراءات، والتفسير ت 449 هـ.
* أبو عثمان الصابوني، إسماعيل بن عبد الرحمن، شيخ الإسلام، الواعظ، المفسر، المصنف، عمدة التفسير والحديث ت 449 هـ.
* الماوردي، أبو الحسن، أقضى القضاة، إمام الشافعية، صاحب الحاوي، والأحكام السلطانية ت 450 هـ.
* ابن حزم، علي بن أحمد، الفقيه الصولي الأديب، إمام أهل الظاهر، عبقرية الأندلس، صاحب المحلّى، والإحكام، والفِصَل في الملل والنحل ت 456 هـ.
* أبو يعلى، القاضي، محمد بن الحسين الفراء، الفقيه الحنبلي ت 458 هـ.
* ابن سيده، علي بن إسماعيل، صاحب المخصص، من أثمن كنوز العربية، وصاحب المحكم والمحيط الأعظم، وشارح الحماسة ت 458 هـ.
* البيهقي أبو بكر، أحمد بن الحسين بن علي، إمام الحديث والفقه، جامع نصوص الشافعي، وناشر علمه ت 458 هـ.

(المقدمة/188)


* الفُوراني، أبو القاسم، عبد الرحمن بن محمد بن أحمد بن فوران، تلميذ القفال، صاحب الإبانة ت 461 هـ.
* ابن عبد البر أبو عمر، يوسف بن عبد البر، النمري، القرطبي، المحدث الفقيه، صاحب الاستذكار ت 463 هـ.
* الخطيب البغدادي، الحافظ، أبو بكر، أحمد بن علي، صاحب تاريخ بغداد، والكفاية، والجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، بلغت مؤلفاته نحو ثمانين مؤلفاً، ت 463 هـ.
* القُشَيري، عبد الكريم بن هوازن، صاحب الرسالة ت 465 هـ.
* الحرة، كريمة بنت أحمد، راوية الصحيح ت 465 هـ.
* الباخرزي، علي بن الحسن بن علي بن أبي الطيب، أبو الحسن، أديب من الشعراء والكتاب، له علم بالفقه والحديث، صاحب دمية القصر وعصرة أهل العصر ت 467 هـ
* الجرجاني، عبد القاهر بن عبد الرحمن بن محمد الجرجاني، أبو بكر، واضع أصول البلاغة، أحد أئمة اللغة والبيان، صاحب أسرار البلاغة، ودلائل الإعجاز ت 471 هـ.
* الباجي، سليمان بن خلف بن سعد، التُّجِيبي القرطبي، أبو الوليد، فقيه المالكية وأحد أعلامهم، أصولي محدث، صاحب إحكام الفصول في أحكام الأصول، وشرح المدونة ت 474 هـ.
* والأعلم الشَّنْتَمري، يوسف بن سليمان بن عيسى أبو الحجاج، عالم بالأدب والشعر، صاحب شرح ديوان زهير، وشرح الحماسة، والنكت على كتاب سيبويه، ت 476 هـ.
* المجاشعي، علي بن فَضّال بن علي بن غالب، أبو الحسن، صاحب شجرة الذهب في معرفة أئمة الأدب، ت 479 هـ.

(المقدمة/189)


* فاطمة بنت الحسن، الكاتبة، وهي التي كتبت كتاب الخليفة إلى طاغية الروم، ت 480 هـ.
* السرخسي، محمد بن أحمد بن سهل، شمس الأئمة، إمام الأحناف، صاحب المبسوط، ت 483 هـ.
* الزَّوْزَني، حسين بن أحمد، القاضي العالم بالأدب، شارح المعلقات، ت 486 هـ.
* ابن بُندار، عبد السلام بن محمد القزويني، شيخ المعتزلة في عصره، له تفسير في 300 جزء، ت 488 هـ.
* الراغب الأصفهاني، الحسين بن محمد أبو القاسم، أديب لغوي، مفسر، من الحكماء العلماء، كان يقرن بالغزالي، صاحب الذريعة إلى مكارم الشريعة، وجامع التفاسير، والمفردات، ت 502 هـ.
* الروياني، عبد الواحد بن إسماعيل، فخر الإسلام، إمام الشافعية، صاحب بحر المذهب، ت 502 هـ.
* أبو حامد الغزالي، محمد بن محمد، حجة الإسلام، تلميذ إمام الحرمين، الفقيه الأصولي، المتكلم، النظار، المتصوف، قامع الباطنية، وملاحدة الفلاسفة، ت 505 هـ.
هؤلاء الأعلام نماذج لآلاف من الأئمة كانت تموج بهم الحياة حول إمام الحرمين، في كل مدن الإسلام وحواضره، كانت مدارس، ومعاهد، ومكتبات، ومجالس علم، ومناظرات، ومحاورات، وجدل وصراع، وهجوم ودفاع، كانت الحياة العلمية والفكرية تمور وتفور، تصطرع فيها تيارات، ومذاهب واتجاهات، كان هناك الفكر الوافد من الترجمات عن اليونانية (علوم الأوائل) وكان هناك بقايا من عقائد وملل بائدة، فظهرت الباطنية، والغنوصية، والقرمطية، والزندقة، إلى جانب الجدل الإسلامي المسيحي، إلى ما كان من تأثر بفلسفة اليونان، في الإلهيات، كل هذا جعل الحياة الفكرية العلمية تعيش أزهى فترات نشاطها، وتوثبها، وقوتها، وحيويتها، وفي هذا الخضم المتلاطم كان إمام الحرمين.

(المقدمة/190)


ج- صفاته:
وكان الأمر الثالث الذي ساعد على بلوغ الإمام هذه المكانة، وجعله يتبوأ هذه المنزلة هو ما يعبر عنه في أيامنا هذه بالاستعداد الفطري، والموهبة، فقد حباه الله سبحانه بصفات نادرة منها:
* أنه كان يتمتع بذاكرة نادرة، وحافظة لاقطة، روَوْا عنه أنه " كان يذكر دروساً يقع كل واحد منها في عدة أوراق، ولا يتلعثم في كلمة منها، ولا يحتاج إلى إبدال كلمة منها مكان غيرها، بل يمر فيها مراً كالبرق الخاطف، بصوت مطابقٍ كالرعد القاصف " (1).
* كما وهبه الله ذكاء نادراً، فقد ظهرت عليه مخايل النجابة والنبوغ من صغره، حتى " كان أبوه يُزهَى بطبعه وتحصيله، وجودة قريحته، وكياسة غريزته، لما يرى فيه من المخايل " (2).
وقد هيأ له ذلك الذكاء، وهذا النبوغ، تلك المنزلة التي جعلت الأئمة يُقعدونه للتدريس مكان أبيه، وهو دون العشرين سنة (3)، على حين كانت نيسابور تموج بالأئمة الأعلام.
* كما تميز بصبر ودأب نادرين في طلب العلم والبحث، فمع أنه أقعد للتدريس مكان أبيه مبكراً، إلا أن ذلك لم يشغله عن البحث والدرس، " فكان يقيم الرسمَ في درسه ويخرج منه إلى مدرسة البيهقي يتتلمذ على أبي القاسم الإسكافي " (4).
" وكان يبكر قبل الاشتغال بدرس نفسه إلى مسجد الأستاذ أبي عبد الله الخبازي يقرأ عليه القراءات ويقتبس من كل نوع من العلوم " (5).
__________
(1) وفيات الأعيان 2/ 341.
(2) تبيين كذب المفتري 2/ورقة 74.
(3) المنتظم 7 ورقة 1.
(4) تبيين كذب المفتري: 2/ورقة 75.
(5) السابق نفسه.

(المقدمة/191)


روى ابن عساكر بسنده أن إمام الحرمين كان يقول: "أنا لا أنام، ولا آكل عادة، وإنما أنام إذا غلبني النوم ليلاً كان أو نهاراً، وآكل إذا اشتهيت الطعام، أيَّ وقت كان" (1).
* كان يؤمن أن العلم لا نهاية له، ولا حدود، وما كان يترك فرصة يستزيد فيها علماً، إلا واغتنمها، وسعى إليها: في سنة 469 هـ، وهو في ذلك الحين إمام الأئمة، فخر الإسلام، وكان قد جاوز الخمسين من عمره، في ذلك الحين قدم إلى نيسابور الشيخ أبو الحسن علي بن فَضَّال بن علي المجاشعي، النحوي، الأديب، فقابله إمام الحرمين بالإكرام، وأخذ في قراءة النحو عليه والتلمذة له، وكان يحمله كل يوم إلى داره، ويقرأ عليه كتاب (إكسير الذهب في صناعة الأدب) وكان المجاشعي يقول: " ما رأيت عاشقاً للعلم -أي نوعِ كان- مثل هذا الإمام " (2).
* التواضع " فما كان يستصغر شأن أحد أياً كان، حتى يسمع كلامه، شادياً كان أو متناهياً، فإن أصاب كياسةً في طبع، أو جرياً على منهاج الحقيقة، استفاد منه صغيراً أو كبيراً، ولا يستنكف أن يعزو الفائدة المستفادة إلى قائلها، ويقول: هذه الفائدة مما استفدته من فلان " (3).
ولعل أوضح ما يوضح ذلك -مما لا نعرف له مثيلاً- أنه كان لا يستنكف أن يتعلم من تلاميذه بعض الفنون التي نبغوا فيها، ولا يجد في ذلك حرجاً، ولا غضاضة، جاء في ترجمة الإمام عبد الرحيم بن الإمام عبد الكريم أبي القاسم القشيري: " تخرج على إمام الحرمين، وواظب على درسه، وصحبه ليلاً ونهاراً، وكان الإمام يعتد به، ويستفرغ أكثر أيامه معه، مستفيداً منه بعض مسائل الحساب في الفرائض، والدَّوْر، والوصية " (4).
وليس هذا فقط، بل كان ينقل عنه ما يتعلّمه منه، ويدوّنه في كتبه، قال
__________
(1) التبيين: نفسه.
(2) طبقات السبكي: 5/ 180.
(3) التبين: 2/ورقة 79.
(4) طبقات السبكي 7/ 165.

(المقدمة/192)


السبكي: " وأعظم ما عظم به الإمام عبد الرحيم أن إمام الحرمين نقل عنه في كتاب الوصية (1)، وهذه مرتبةٌ رفيعة " (2) رضي الله عن إمام الحرمين، ورضي الله عن إمامنا الشافعي، الذي كان يقول لتلميذه أحمد بن حنبل: " يا أحمد إذا صح عندك الحديث، فأعلمني به ".
* ومع هذا التواضع، كان حرّ الرأي والضمير، لا يقلد أحداً، ولا يلتزم إلا بالدليل، ولا يخضع إلا للبرهان، " فمنذ شبابه رفض أن يقلد والده وأصحابه، وأخذ في التحقيق " (3) وفي هذا المجال " لم يكن يحابي أحداً، ولو كان أباه، أو أحد الأئمة المشهورين، قال في اعتراض على والده: هذه زلة من الشيخ رحمه الله " (4).
* كان من الكرم والسخاء مضرب الأمثال، ولم يشتغل بمالٍ يثمره، أو يدّخره، بل " كان ينفق من ميراثه، ومن معلوم له على المتفقهة " (5).
* كذلك رزقه الله رقة القلب والخشوع، حتى إنه " كان يبكي إذا سمع بيتاً، أو تفكر في نفسه ساعة، وإذا وعظ ألبس الأنفس من الخشية ثوباً جديداً، ونادته القلوب: إننا بشر فأسجح، فلسنا بالجبال ولا الحديدا " (6).
في هذه البيئة العلمية درج، وفي هذا البيت الطاهر نما، وبهذه المواهب الربانية سما ونبغ.

د- أساتذته وشيوخه:
تتلمذ أول ما تتلمذ، وسمع أول ما سمع من أبيه، الإمام أبي محمد صاحب التفسير الكبير، والتبصرة، والتذكرة، وشرح الرسالة .. وغيرها، فقد "أتى على
__________
(1) انظر نهاية المطلب 11/ 201، لترى تفصيل ما نقله إمام الحرمين عن تلميذه.
(2) طبقات السبكي، الموضع السابق نفسه.
(3) تبيين كذب المفتري: 7 ورقة 74.
(4) شذرات المذاهب: 32/ 360.
(5) طبقات السبكي: 5/ 175.
(6) السابق نفسه: 5/ 167.

(المقدمة/193)


هذه المصنفات، وقلبها ظهراً لبطن، وتصرف فيها، وخرج المسائل بعضها على بعض" (1).
وانكب على علوم عصره وفنونه يأخذها عن أعلامها، فخرج إلى مدرسة البيهقي يأخذ الأصول عن أبي القاسم الإسكافي الإسفراييني. كما درس في أول أمره على الشيخ أبي القاسم الفوراني (2).
* أما الحديث، فقد سمع من أبي بكر أحمد بن محمد بن الحارث الأصبهاني التميمي، كما سمع من أبي سعد عبد الرحمن بن حمدان النيسابوري النَّضْروي، وأبي حسان محمد بن أحمد المزكي، ومنصور بن رامش.
كما سمع من أبي عبد الله محمد بن إبراهيم بن يحيى المزكي، وسمع سنن الدارقطني من أبي سعد، عبد الرحمن بن الحسن بن عَلِيَّك، وسمع من أبي عبد الرحمن محمد بن عبد العزيز النيلي، وأجاز له أبو نُعيم صاحب الحلية، وحدّث.
* وأما القراءات، فقد كان يبكر كل يوم إلى مسجد أبي عبد الله الخبازي يقرأ عليه القراءات، ويقتبس من كل نوع من العلوم.
* وأما النحو فقد درس -مع ما درس في مطلع حياته- كتاب إكسير الذهب في صناعة الأدب، على مؤلفه الشيخ أبي الحسن علي بن فَضَّال المجاشعي، كما أشرنا إلى ذلك من قبل.
درس إمام الحرمين على هؤلاء الأعلام وغيرهم، ولم يكن هذا هو طريقه الوحيد طبعاً، فقد جاء في (تبيين كذب المفتري) عنه أنه قال عن دراسته لعلم أصول الفقه، على أستاذه أبي القاسم الإسكافي الإسفراييني: "كنت قد علّقت عليه في الأصول
__________
(1) وفيات الأعيان: 2/ 341.
(2) ولقد حدثت بينه وبين الفوراني نفرة، حيث رأى أن الفوراني لم يحلّه المحلّ اللائق به، فانصرف عنه، وظل لهذه النفرة أثر في نفس إمام الحرمين، جعلته يكثر من الحط عليه، وإذا تعرض للنقل عنه أو مناقشة آرائه، لم يصرح باسمه، وإنما قال عنه: " بعض المصنفين " وسترى ذلك مراتٍ لا تعدّ ولا تحصى في كتابنا هذا.

(المقدمة/194)


أجزاء معدودة، وطالعت في نفسي مائة مجلّدة".
هكذا درس مع أستاذه أجزاء معدودة، " وطالع في نفسه مائة مجلدة " وتلك لعمري هي الدراسة، فمهما اتسع وقت الشيخ لتلميذه، فلن يحيط معه بأكثر من " أجزاء معدودة ". أما المطالعة والتحصيل، فلا حدود لها، وهذا ما يعبر عنه عند علماء التربية المعاصرين، بأن الشيخ لا يعلّم التلميذ العلم، وإنما يعلّمه كيف يتعلم، أي كيف يحصّل العلم.
ونستطيع من معايشتنا لإمام الحرمين ومصاحبتنا له هذا العمر، واستماعنا إليه طول هذه السنوات أثناء تحقيقنا لآثاره أن نقول: إنه استوعب علوم عصره، وأحاط بآثار أعلام الأئمة في كل فن، واستوعب علومهم، فمن هؤلاء:
الإمام أبو الحسن الأشعري، والقاضي أبو بكر الباقلاني، من متكلمي أهل السنة والقاضي عبد الجبار بن أحمد، والنظّام، وأبو علي الجبائي، وابنه أبو الهاشم، والكعبي من متكلمي المعتزلة.
* كما ظهر من كتابه الفذ (نهاية المطلب في دراية المذهب) أنه استوعب علم القاضي أبي حامد أحمد بن بشر المرورُّزي ثم البصري (ت 362 هـ) وعلمَ الشيخ أبي حامد الإسفراييني أحمد بن محمد بن أحمد، ويعرف أيضاً بابن أبي طاهر (ت 406 هـ) وكذلك أحاط بفقه ابن الحداد، أبو بكر محمد بن أحمد القاضي المصري، تلميذ أبي إسحاق المروزي (ت 345 هـ)، فهو كثير النقل عن كتابه الفروع، ومناقشة مسائله.
أما ابن سُرَيْج، فهو أحمد بن عمر أبو العباس المتوفى 306 هـ، أحد أعمدة المذهب، فقد تردد ذكره في (النهاية) والنقل عنه مما يوحي بتلمذة الإمام له، والإحاطة بفقهه، وربما كان أكثر من عني الإمام بالنقل عنهم هما الشيخ أبو علي، وصاحب التقريب، فأما الشيخ أبو علي، فهو أبو علي السنجي، الحسين بن شعيب بن محمد، من سِنْجه، أكبر قرى مرو، أول من جمع بين طريقتي الخراسانيين والعراقيين، له شرح الفروع، وشرح التلخيص (ت 430 هـ).

(المقدمة/195)


وأما صاحب التقريب، فهو القاسم بن محمد بن علي بن إسماعيل، ابن القفال الكبير محمد بن علي بن إسماعيل الشاشي، وكنية الكبير أبو بكر، أما صاحب التقريب، فكنيته أبو الحسن ويخطىء من يقول: أبو القاسم، بل القاسم اسمه، وقد توفي الكبير 365 هـ، وأما صاحب التقريب، فقد توفي نحو 400 هـ.
كما أخذ الإمام عن القفال الأشهر، والأكثر ذكراً في كتب الخراسانيين، وهو القفال الصغير، عبد الله بن أحمد بن عبد الله المروزي، وكنيته أبو بكر مثل الكبير، ويفرق بينهما بأن هذا مروزي، والكبير شاشي، وهذا أكثر ذكراً في كتب الفقه، والكبير أكثر ذكراً في كتب التفسير والحديث والأصول والكلام والجدل، وقد توفي القفال الصغير سنة 417 هـ.
وكذلك عن القاضيين، القاضي حسين، وهو الحسين بن محمد بن أحمد أبو علي المرورّوزي، وهو الذي إذا أطلق المراوزة (القاضي) فإياه يعنون (توفي 462 هـ).
والقاضي الثاني هو القاضي أبو الطيب الطبري، وهو طاهر بن عبد الله بن طاهر بن عمر، وحيث أطلق العراقيون لفظ (القاضي) فإياه يعنون (ت 450 هـ).
وكذلك ينقل عن صاحب التلخيص، أبو العباس أحمد بن أبي أحمد الطبري المعروف بابن القاصّ (ت 335 هـ).
كما اعتمد في كتاب الفرائض والوصايا على فقه أبي منصور البغدادي، عبد القاهر بن طاهر بن محمد التميمي الأستاذ أبي منصور البغدادي، كان يدرّس في سبعة عشر فناً، وبرع في الجبر والحساب (ت 429 هـ).
هؤلاء الأعلام أهم شيوخه وأساتذته، أخذ عمن أخذ منهم مشافهة ومجالسة، وعن باقيهم بالرواية والمطالعة.
***

(المقدمة/196)


منزلته العلمية
(علومه وفنونه-كتبه ومؤلفاته-منهجه-تلاميذه-أثره)

أولاً: علومه وفنونه التي نبغ فيها:
مثل كل علماء عصره وأئمته درس كل فنون العصر وعلومه، ما كان يعرف منها بعلوم الوسائل، وما كان يعرف بعلوم الغايات، وهكذا كان علماؤنا، وأئمتنا، ما كانوا يعرفون هذا الذي نسميه (الآن) التخصص الضيق، ولذا نجد كتب التراجم والطبقات تترجم لأحدهم، فتقول -بعد أن تذكر دراسته، وشيوخه- "وعلمه الذي نبغ فيه كذا ... ".
نبغ إمامنا في علومٍ وفنون كثيرة، منها:
1 - علم الفقه.
2 - أصول الفقه.
3 - علم الخلاف وعلم الجدل.
4 - السياسة الشرعية.
5 - علم الكلام.

1 - علم الفقه:
لقد خالفتُ الترتيب المعهود المعروف عن الإمام، حيث اشتهر بالمقام الأول أنه (متكلم) ولكن طول معايشتي للإمام، وإصغائي إليه، وقراءتي عليه، وسماعي منه ومناجاتي إياه جعل صورته تتضح لي تمام الوضوح، فرأيته فقيهاً أصولياً، قبل أن يكون متكلماً، كما شاع وعرف عنه.
رأيته فقيهاً من أعلام الفقه الإسلامي بعامة، والشافعي منه بخاصة، رأيته صاحب المدرسة النظامية، حاملة راية الفقه بنيسابور، ورأيته وقد انتهت إليه رياسة الشافعية

(المقدمة/197)


بخراسان، ورأيت معاصريه من الأئمة والمؤرخين، يكبرونه، ويعرفون له منزلته في الفقه، فيقولون عنه: " لولاه، لأصبح مذهب الحديث حديثاً " يعنون بمذهب الحديث، مذهب الإمام الشافعي.
ورأيته رضي الله عنه يكره (علم الكلام)، وكأني به قد اشتغل به من باب " إن لم تكن إلا الأسنة مركبا ".
ذلك أني رأيته منذ بواكير حياته، وهو في غمرة الاشتغال بالكلام يسخر من المتكلمين، وينهى عن الاستغراق في علم الكلام، فمن ذلك قوله في مقدمة كتابه " الغياثي ": ومن ضَرِي بالكلام صدي جنانه ويقول في البرهان: " وهذا الذي اختلج في عقول المتكلمين وطيْش أحلامهم " (فقرة: 227).
قال هذا وغيره في أكثر من كتاب من كتبه المتقدمة، أي قبل ما يقال عن رجوعه عن علم الكلام.
من هنا ومحاولةً لتصحيح هذا الفهم الشائع، قدمت (علم الفقه)، على أنه العلم الأول لإمام الحرمين رضي الله عنه.
2 - علم أصول الفقه:
علم أصول الفقه هو علم إمام الحرمين الأول كعلم الفقه تماماً، فكلاهما (أول علومه)، إذ هما لا ينفصلان وبخاصة عند كبار الأئمة أصحاب المدارس والتجديد.
ويعتبر إمام الحرمين أحد أركان علم الأصول الأربعة، هكذا قال ابن خلدون في مقدمته، حيث عد كتاب (البرهان) لإمام الحرمين أحد الكتب الأربعة التي قام عليها علم أصول الققه، وإليها ترجع معظم المؤلفات في هذا العلم، حيث قال -وهو يتحدث عن علم الأصول- "ومن أحسن ما كتب فيه المتكلمون:
1 - كتاب (البرهان) لإمام الحرمين.
2 - وكتاب (المستصفى) للغزالي.
(وهما من الأشعرية).
3 - وكتاب (العمد) للقاضي عبد الجبار بن أحمد.

(المقدمة/198)


4 - وكتاب (المعتمد) لأبي الحسين البصري.
(وهما من المعتزلة).
وكانت الأربعة قواعدَ هذا الفن، وأركانه" ا. هـ.
ولم يصلنا من كتب أهل السنة في الأصول مما ألف على طريقة المتكلمين قبل (البرهان) (1) إلا أصل الأصول: (الرسالة) للإمام الشافعي.
ولقد كان هذا الكتاب فتحاً جديداً في علم أصول الفقه، يؤكد ذلك السبكي في طبقاته قائلاً: " إن هذا الكتاب وضعه إمام الحرمين في أصول الفقه على أسلوب غريب، لم يقتد فيه بأحد، " وأنا أسميه (لغز الأمة) لما فيه من مصاعب الأمور وأنه لا يخلي مسألة عن إشكال، ولا يخرج إلا عن اختيار يخترعه لنفسه، وتحقيقاتٍ يستبدّ بها " (2).
ثم تحدث عن شراح البرهان ولاحظ أنهم كلهم من المالكية، وأنهم عندهم بعض تحامل على إمام الحرمين، وفسر ذلك " بانهم يستصعبون مخالفة الإمام أبي الحسن الأشعري، ويرونها هُجنة عظيمة، والإمام لا يتقيد لا بالأشعري، ولا بالشافعي، لا سيما في (البرهان) وإنما يتكلم على حسب تأدية نظره واجتهاده، وربما خالف الأشعري، وأتى بعبارة عالية، على عادة فصاحته، فلا تحتمل المغاربة أن يقال مثلها في حق الأشعري ". وقد حكينا كثيراً من ذلك في (شرحنا على مختصر ابن الحاجب) (3).
ومع دفاع السبكي وردّه لتحامل شراح البرهان، ومنهم المازري، تراه يثني على المازري قائلاً عنه: "إن هذا الرجل كان من أذكى المغاربة قريحةً، وأحدهم ذهناً؛ بحيث اجترأ على شرح (البرهان) لإمام الحرمين، وهو لغز الأمة، الذي لا يحوم نحو
__________
(1) لا يعكر على هذا القول كتاب (العدة) لأبي يعلى الفراء الحنبلي، لأن سبقه لإمام الحرمين ليس بذي بالٍ من حيث الزمن أولاً، وثانياً لأن كتاب أبي يعلى لم يقع من الأئمة والعلماء موقع البرهان، ولم يكن له من الأثر ما كان للبرهان.
(2) الطبقات: 5/ 192.
(3) نفسه.

(المقدمة/199)


حماه، ولا يدندن حول مغزاه إلا غواصٌ على المعاني ثاقب الذهن مبرز في العلم" (1).
كما أكد ذلك السبكي في عبارة أخرى، فقال: " لم يُرَ أجلّ، ولا أفْحل في علم الأصول من البرهان " (2).
ثم إن البرهان قد حفظ لنا الآراء الأصولية لجماعة من الأئمة الأعلام ضاعت كتبهم، فيما ضاع من تراث أمتنا ومجدها، فمن ذلك مثلاً: أنه يعرض لآراء القاضي أبي بكر الباقلاني في كل مسألة تقريباً، ولا شك أن هذه الآراء كانت مدونة في كتبه (الأصول الكببر)، و (الأصول الصغير)، و (المقنع)، وغيرها، ولم يصلنا للآن أي من هذه الكتب.
كما ورد ذكرٌ في البرهان لآراء (ابن فورك) في (مجموعاته) وللأشعري في كتاب (أجوبة المسائل البصرية) وللقاضي عبد الجبار في (العمد) وفي (شرح العمد)، ولابن الجبائي في كتاب (الأبواب)، وهي كتب لم تصلنا للآن، بل ربما لم نعرف نسبة بعضها إلى أصحابها.
وغير هؤلاء كثيرون ذكرهم الإمام، مثل: الدقاق، والصيرفي، وداود، وابنه، والحليمي، والحارث بن أسد المحاسبي، والصيدلاني، و ... هذا ولم يكن (البرهان) هو كتابه الأصولي الوحيد، فله أيضاً:
- التلخيص: وهو تلخيص لكتاب الباقلاني (الإرشاد والتقريب).
- الورقات: وهو خلاصة موجزة لعلم أصول الفقه، وقد طوّف هذا الكتاب ما طوّف، فشرق وغرب، وحظي بكثير من الشروح، والحواشي، والتعليقات، والنظم، فكان محور التدريس والتحصيل لعلم أصول الفقه زماناً طويلاً.
- التحفة في أصول الفقه، وهي من كتب الإمام المفقودة.
__________
(1) الطبقات: 6/ 243.
(2) الطبقات: 5/ 343.

(المقدمة/200)


3 - علم الخلاف والجدل:
يعتبر علم الخلاف والجدل قمة الإحاطة بالفقه والأصول، ودليل الإمامة والتمكن من العلم.
فهو في تعريف حاجي خليفة: " علم يعرف به كيفية إيراد الحج الشرعية، ودفع الشبه، وقوادح الأدلّة الخلافية، بإيراد البراهين القطعية، وهو الجدل الذي هو قسم من المنطق، إلا أنه خُصّ بالمقاصد الدينية " (1).
ويقول ابن خلدون: " ولا بدّ لصاحبه من معرفة القواعد التي يتوصل بها إلى استنباط الأحكام كما يحتاج إليها المجتهد، إلا أن المجتهد يحتاج إليها للاستنباط، وصاحب الخلافيات يحتاج إليها لحفظ تلك المسائل المستنبطة من أن يهدمها المخالف بأدلته " (2).
وربما كان أوضح دلالة على منزلة علم الخلاف، ما قاله الإمام الشاطبي، واستدلّ عليه بطائفة صالحة من أقوال السلف، قال: " جعل الناسُ العلمَ معرفةَ الاختلاف، قال قتادة: من لم يعرف الاختلاف، لم يشَمّ أنفُه الفقه، وعن هشام بن عبيد الله الرازي: من لم يعرف اختلاف القراء، فليس بقارىء، ومن لم يعرف اختلاف الفقهاء، فليس بفقيه، وعن عطاء: لا ينبغي لأحد أن يفتي الناس حتى يكون عالماً باختلاف الناس، فإنه إن لم يكن كذلك، ردّ من العلم ما هو أوثق من الذي في يديه ... إلى آخر الفصل " (3).
وقد برع إمامنا في هذا العلم، وضرب فيه بسهم وافر، فقد عُني بجانبيه: وسائله، ومسائله. فألف في وسائل علم الخلاف كتابه القيم.
(الكافية في الجدل)
ويقع في مجلد ضخم، ويعتبر من أهم الكتب في هذا الباب (4).
__________
(1) كشف الظنون: 1/ 721.
(2) المقدمة: 457.
(3) الموافقات: 4/ 161 - 162.
(4) عُنيت بنشره وتحقيقه الدكتورة الفاضلة فوقية حسين محمود، رحمها الله رحمة واسعة.

(المقدمة/201)


وألف كذلك في مسائل علم الخلاف، فله في هذا الجانب المؤلفات الآتية:
1 - الأساليب في الخلافيات: ذكره الإمام وأحال عليه في عشرات المواضع من كتبه، وذكر حاجي خليفة أنه يقع في مجلدين (1).
2 - العُمَد: وهو من كتبه بالقطع، فقد ذكره في البرهان بصورة قاطعة، لا تدع مجالاً للشك في اسم الكتاب وموضوعه، حيث قال: " وقد أجرينا في (الأساليب) و (العمد) مسائل، ومعتمد المذهب فيها الأخبار ". (فقرة: 48).
كما ذكره أيضاً في خاتمة الدّرة المضية، عندما قال: " إنها جاءت إيفاءً بمسائل لم تكن جرت في (العمد) و (الأساليب) "، والدّرة المضية في الخلاف قطعاً، فهي بين أيدينا، فحيثما كانت تكملة وتوفية (للعمد) و (الأساليب)، فالعمد إذاً في الخلاف.
3 - الغنية: واسمه الكامل (غنية المسترشدين)، ذكره كثير ممن ترجموا للإمام كالسبكي والذهبي، ولكن الذي يدل دلالة قاطعة لا تقبل الشك، هو ما ذكره تقي الدين السبكي في أول تكملته للمجموع: 10/ 7، حيث عده من كتب الأصحاب في الخلاف التي بين يديه، ويرجع إليها، ويستمد منها تكملته للمجموع.
ولكن الأكثر وضوحاً، هو ما قاله في (نهاية المطلب) تعقيباً على إحدى المسائل: " وتوجيه القولين قد استقصيناه في (الأساليب) و (الغنية) " ا. هـ.
قلت: وهذه الكتب الثلاثة: على أهميتها - لما نعثر عليها للآن.
4 - الدّرة المضية فيما وقع فيه الخلاف بين الشافعية والحنفية (2):
وهو الكتاب الوحيد الذي وصلنا من أصل أربعة كتب ألفها الإمام في الخلاف، ومع أنها نسخة وحيدة إلا أنها عالية الجودة، على نقصٍ في بعض الكلمات، وتآكل في بعض الحروف، وانمحاء في بعضٍ آخر، ولكن كل ذلك -على خطورته- يمكن تداركه، بمزيد من المعاناة والصبر والدأب، وتكرار القراءة، والاستعانة بما كتب
__________
(1) كشف الظنون: 1/ 75.
(2) وقد أعاننا الله على إخراج قسم منها، ونسأله أن يتم علينا نعمته فنخرج الباقي.

(المقدمة/202)


الإمام عن المسألة في النهاية، وبما جاء في كتب الخلاف المتاحة، ومن قبل ذلك ومن بعده توفيق الله سبحانه، الذي لا يضيع أجر من أحسن عملاً.
4 - علم السياسة الشرعية:
كان إمام الحرمين مثل كل أئمتنا، يعيش واقعه، ولا ينفصل عنه، يظهر ذلك في علاجه لمسائل الفقه المختلفة، إن في العبادات، أو في المعاملات، وسواء في الأنكحة أو الجنايات، وليس كما قال بعض الباحثين (1): " إن المؤسسة العلمية انفصلت مبكراً عن المؤسسة السياسية، فمنذ فجر تاريخنا - بعد العصر الراشدي، بل من يوم مقتل عثمان رضي الله عنه أخذت المؤسسة العلمية في الانفصال عن المؤسسة السياسية، أو تمت العزلة بين الزعامة السياسية، والزعامة الفكرية، وعزلت الزعامة الإسلامية الملتزمة " هكذا قال بنص حروفه.
وأقول: إن هذا الكلام باطل ببديهة العقل، وباطل بحقائق التاريخ، باطل ببديهة العقل، فليس يصح في العقل السليم أن أمة هذا حالها (عَزلٌ للزعامة الفكرية وإقصاء لها) تنتج، وتصنع كلَّ هذه الحضارة التي ارتادت للبشرية طريق الحق والعدل والسلام والأمن والإيمان، والإخاء والمساواة، ودانت لها الدنيا أكثر من ألف عام.
وباطلٌ بحقائق التاريخ الذي يثبت أن كثيراً من (زعماء السياسة أنفسهم) مَنْ جمع بين الزعامة السياسية والفكرية، مثل عبد الملك بن مروان، وعمر بن عبد العزيز، وأبو جعفر المنصور، وهارون الرشيد، والمأمون، وغير هؤلاء ممن لا نعلمهم.
وباطل أيضا بحقائق التاريخ التي تثبت أن أئمتنا (زعماء الفكر) لم يعتزلوا ولم يُعزلوا أبداً على طول التاريخ، فأبو جعفر المنصور يطلب من الإمام مالك أن يضع له (الموطأ) وهارون الرشيد يطلب من أبي يوسف أن يضع له الخراج، والإمام
__________
(1) لم ألتزم بعزو هذا الكلام إلى صاحبه، فليس المقصود الرد على شخصٍ بعينه، ولكن الذي يعنينا هذا النمط من التفكير، وصاحب هذا الكلام ليس فرداً، فهذا الكلام أصبح بديهية من البديهيات، ومسلمة من المسلّمات عند كثيرٍ ممن يدعون بالمجددين أو المستنيرين، وهذا الكلام أصلاً مسلوخ من كلام المستشرقين.

(المقدمة/203)


أبو نصر محمد بن عبد الملك البخاري الحنفي، نراه في طليعة جيش الإسلام في موقعة (ملاذ كرد) التي استؤصلت فيها جموع الروم، وأخذ إمبراطورهم أسيراً، تلك المعركة التي كان لها ما بعدها في التاريخ، وأخبارها للأسف مجهلة لعامة مثقفينا وعلمائنا (1).
والشيخ أبو إسحاق الشيرازي كان في قلب السياسة، يوم أصلح بين الخليفة العباسي في بغداد، والسلطان ملكشاه في (الرّي).
والإمام أبو الوليد الباجي هو الذي جيش جيوس المسلمين في معركة (الزلاقة) التي أعادت هيبة المسلمين في الأندلس، ولعدة مئات من السنين.
والإمام أسد بن الفرات يقود الجيوش في البر والبحر، ويموت شهيداً وهو من أعمدة الفقه المالكي، صاحب (الأسدية) من أمهات كتب المذهب.
وشيخ الإسلام ابن تيمية في قلب السياسة، والسجن، ويجَيِّش الجيوش لحرب التتار.
وسلطان العلماء العز بن عبد السلام صانع النصر في معركة عين جالوت.
وشيخ الإسلام محمد سعد الدين بن حسن المتوفى سنة 1008 هـ الذي كان بمعية السلطان محمد الثالث في حرب هنغاريا، فلما هم السلطان بالتراجع تحت وطأة الهجوم الصليبي، أخذ شيخُ الإسلام بزمام حصان السلطان، ووجهه ناحية العدو، وصاح زاجراً للسلطان: " إنما نعيش لمثل هذا اليوم!! نموت شهداء، ولا نرى انكسار جيش الإسلام " فكان النصر.
وعلماء الأزهر الذين كانوا يناقشون فرمانات السلطان، ويردّونها إذا خالفت الشرع (أي يناقشون دستورية القوانين) والذين انتزعوا وثيقة بحقوق الشعب مكتوبة موقعة من الأمراء المماليك قبل الحملة الفرنسية بسنوات (1794 م).
__________
(1) اقرأ أخبار هذه المعركة في كتاب (زبدة التواريخ - أخبار الأمراء والملوك السلجوقية - صدر الدين علي بن ناصر الحسيني تحقيق. د محمد نور الدين. (بيروت. دار اقرأ 1405 هـ 1985 م).

(المقدمة/204)


هذه نماذج عفو الخاطر، وبادي الرأي، ولكنها كافية ناطقة بتكذيب هذه المقولة التي تزعم (العزلة بين القيادة السياسية والقيادية الفكرية).
إن العزل ولا أقول العزلة أو الإنعزال لم يكن إلا في القرنين الماضيين: القرن التاسع عشر والعشرين الميلاديين. وهما فيما يزعمون عصر النهضة، لم يعزل العلماء والأئمة عن قيادة الأمة إلا في هذين القرنين، حين بدأ التغريب في الفكر والثقافة والقوانين ... ولذلك حديث يطول.
ولكني أحببت أن أقول: إن انشغال إمام الحرمين بالسياسة الشرعية فكراً وتنظيراً، ثم ممارسة وعملاً إنما هو شأن كل أئمة الإسلام. نجد هذا في ثنايا كتبهم، وفي طيات أقوالهم، وبين فتاويهم وخلال قضاياهم وأحكامهم. كما نجده فيما أفرده طائفة كبيرة منهم من بحوث وكتب مستقلة في السياسة، لم تظفر بعدُ هذه الكتب بمن يعتني بها تحقيقاً وتعليقاً، وطبعاً ونشراً.
وكان من هذه الكتب كتاب إمام الحرمين:
(غياث الأمم في التياث الظلم)
المشهور بالغياثي
وهو من أجلّ كتب الفكر السياسي الإسلامي، ولم يعرف وينشر إلا من نحو عشرين عاماً، وقدّر الله لنا شرفَ القيام بهذا العمل.
لقد عرف الدارسون والباحثون كتاب (الأحكام السلطانية) للماوردي وشغلوا به منذ قرنٍ تقريباً. والسبب في ذلك هو انشغال المستشرقين به، حيث نشروه وترجموه، وكأننا لا نعرف قيمة علمائنا ولا نعترف بهم إلا إذا نوّه بهم المستشرقون!!، على حين يرى إمام الحرمين - في نقده للأحكام السلطانية .. أنه ليس خالصاً للسياسة الشرعية.
وما زال المجال واسعاً أمام دراسة (الغياثي) والمقارنة بينه وبين (الأحكام السلطانية). ولعلّ أحسن وأصدق تقييم لكتاب (الغياثي) ما كتبه العلامة المحقق المرحوم السيد أحمد صقر إذ قال: " يعتبر هذا الكتاب من أجلّ كتب إمام الحرمين قدراً من حيث الموضوع وطريقة العرض، ودقة الأداء، وهو كتاب فريد في بابه، لم

(المقدمة/205)


ينسج ناسج على منواله، ولم يخض خائض في تياره، قد تنوّق مؤلفه في رصفه، واتخذ الرمز والإشارة سبيلاً إلى التعبير عن مضمونه الخطير، واتخذ أبحاثه العلمية ذريعة إلى عرضه الأصيل من الكتاب ... ثم تفضيل مؤلِّفه على علماء عصره، وأنه يفوقهم بالبحث العميق، والاستنتاج الدقيق، وفهم أسرار الشريعة على نحو لم يسبقه إليه سابق".
ثم قال: " وكتاب الغياثي هو الكتاب الذي فيه لُمَع وإشارات وتلويحات تكشف عن أخلاق كاتبه، وهو في أمسّ الحاجة إلى دراسة واعية متأنية، تضاف إلى الدراسة الجيدة التي كتبها عنه محققه " ا. هـ.
وأقول: إن هذا الكتاب يحوي نظريات ومبادىء سياسية تشمل سياسة الدولة بجوانبها المختلفة: الرئاسة، والوزارة، والأمن، والثقافة، والجيش، والضرائب ... إلخ.
وكل ذلك في حاجة إلى دراسة فاحصة متأنية من أهل الاختصاص في كل جانب من هذه الجوانب تستخرج مكنونه وتدرك سرّه، لنعرف قدره ومكانه في الفكر السياسي الإسلامي.
ثم يشهد لعناية الإمام بهذا الجانب، واهتمامه به، وقصده إليه، أنه كان يأخذ على الفقهاء عدم اعتنائهم به، فقد جاء في كتابه (نهاية المطلب) قوله " ... والشريعة بحاجة إلى أحكام الإيالات، وليس للفقهاء اعتناءٌ بها " (11/ 378) وأحكام الإيالات هي أحكام السياسة الشرعية كما هو معروف.
5 - علم الكلام:
هذا هو العلم الذي اشتهر به إمام الحرمين وعرف به أكثر من غيره من علومه، وحظي هذا الجانب بأكبر عناية، فنشرت كتبه في هذا الفن، واعتني بها مبكراً، قبل أن ينشر له كتاب آخر -حاشا الورقات في أصول الفقه- نشر الإرشاد في سنة 1938 م نشره (لوسيان) في باريس، ثم نشر في القاهرة سنة 1984 م، نشره الدكتور محمد يوسف موسى وعلي عبد المنعم عبد الحميد، ثم علق عليه هلموت كلوبفر - القاهرة 1955 م.

(المقدمة/206)


ثم نشُرت العقيدة النظامية، نشرها العلامة محمد زاهد الكوثري سنة 1948 م، ثم أعيد نشرها سنة 1978 م.
ثم نشُر الشامل سنة 1959 م في أنقره، نشره هلموت كلوبفر، ثم أعيد نشره سنة 1969 م نشره علي سامي النشار وآخرون.
ثم نشر لمع الأدلة وشفاء الغليل فيما وقع في التوراة والإنجيل من التحريف والتبديل سنة 1968 م نشرهما معاً في غلافٍ واحد الأب آلار ميشال بدار المشرق ببيروت.
ونشرت الدكتورة فوقية حسين محمود لمع الأدلة سنة 1965 م بالقاهرة وأعيد نشر الشفاء أيضاً سنة 1979 م.
هكذا رأينا العناية مصروفة كلها إلى كتبه الكلامية نشراً وتحقيقاً، ولم ير شيء من كتبه الأصولية والفقهية النورَ إلا منذ سنة 1980 م، حيث خرج (البرهان في أصول الفقه) ثم خرج (الغياثي) و (التلخيص) و (المجتهدين) حتى وإن حُقَِّقت بعض هذه الكتب قبل ذلك مثل البرهان الذي انتهينا من تحقيقه سنة 1975 م، والغياثي الذي انتهينا منه سنة 1976 م، فلم تتيسر الطباعة والنشر إلا بعد هاتيك السنين.
وإذا كان هذا في جانب العناية بالكتب وتحقيقها، فقد كان كذلك في جانب الدراسات، والندوات، والمحاضرات، ففي نحو سنة 1946 م قدم الشيخ علي جبر أطروحته للدكتوراة بعنوان: (إمام الحرمين باني المدرسة الأشعرية الحديثة) إلى كلية أصول الدين بجامعة الأزهر.
وفي سنة 1965 م نشرت الدكتورة فوقية حسين محمود بحثاً بعنوان (الجويني إمام الحرمين) كان عمدته وخلاصته التعريف بمنزلة الإمام في علم الكلام، وما تميز به وجدد فيه.
وكذلك كانت الدراسات في مقدمة كتبه الكلامية تنحو هذا المنحى، سواء ما كتبه الدكتور محمد يوسف موسى، أو الدكتور علي سامي النشار، أو المستشرق هلموت كلويفر، أو الأب ميشال آلار، أو غيرهم.
ثم قُدمت أطروحة بعنوان (منهج إمام الحرمين في دراسة العقيدة) إلى كلية الدعوة

(المقدمة/207)


وأصول الدين بجامعة أم القرى للدكتور أحمد بن عبد اللطيف.
هذا هو مكانه في علم الكلام، وهذه هي مؤلفاته في هذا العلم -مع أنه لم يكن علمه الأول، كما أشرنا من قبل- وقد ذكر السبكي " أن المغاربة - حصل لهم بعض التحامل على الإمام، مع اعترافهم بعلوّ قدره، واقتصارهم -لا سيما في علم الكلام- على كتبه، ونهيهم عن كتب غيره " (1).
هكذا اندفع إمام الحرمين يخوض تيار علم الكلام، مدافعاً عن دين الله ذاباً عن عقائد أهل السنة، يقمع أهل الزيغ والضلال والتعطيل، والتجبسيم والتمثيل.

موقف إمام الحرمين من علم الكلام:
إن المتتبع لآراء أئمة علم الكلام، كالأشعري، والجويني، والغزالي، والفخر الرازي وغيرهم، يجد أنه مع انشغالهم بعلم الكلام، وركوبهم سفائنه، وجدّهم واجتهادهم فيه، وتشقيقهم وتفصيلهم لقضاياه ومسائله، وتركهم المؤلفات المتعددة، التي تقرأ وتدرس للآن، يجدهم مع ذلك ينهَوْن عن علم الكلام، ويعلنون كراهيتهم للاشتغال به، ويدعون إلى منهج السلف في العقيدة يدعون إلى ذلك صراحة، لا رمزاً.
عرف هذا عن هؤلاء الأعلام، وكان التفسير الذي شاع لدى الدارسين والباحثين أن هذا تطورٌ في الرأي والفكر، فهم قد عادوا عن علم الكلام، ورجعوا عن منهجه، ونهَوْا عن التعلق به، وأكثروا الزراية عليه. وكان هذا آخرَ ما استقر عليه رأيهم، هذا هو التفسير السائد المعروف لدى الباحثين والدارسين والعلماء المعاصرين.
ولكن يلوح لي أن المسألة ليست قضية تطور أو رجوع، وإنما دخل هؤلاء الأئمة ميدان علم الكلام، وهم على كره لذلك الأمر، فكانوا يخوضون فيه مضطرين، من أجل المنافحة عن دين الله ضد هؤلاء الذين لا يعرفون إلا هذه المناهج، وهذه القضايا التي أخذوها عن اليونان، فرأى هؤلاء الأئمة أن يُحسنوا هذه الطرائق،
__________
(1) الطبقات: 5/ 193.

(المقدمة/208)


ويتعلموا هذه الأساليب، ليعرفوا كيف ينقضونها على رؤوس أصحابها، وليدفعوهم بنفس أسلحتهم، ويهدموا بناءهم بنفس طرائقهم.
فالأئمة -أو على الأقل إمام الحرمين فيما أقدِّر- كانوا دائماً على ذكر ووعي بأساليب القرآن، يدعون إليها ويرغبون فيها، ولكنهم في الوقت نفسه درسوا أساليب اليونان (علم الكلام) وتمرسوا بها، ليدفعوا بها شبه المبطلين.
والدليل على ذلك أن إمام الحرمين مبكراً في صدر حياته، نجد له لمعاً وإشارات، تسخر من علم الكلام والمتكلمين، في الوقت الذي كان مشتغلاً به أشد الاشتغال.
وقد أشرت من قبل إلى سخريته من المتكلمين وكراهيته لعلم الكلام في خطبة كتابه (الغياثي) وفي كتابه (البرهان).
والعقيدة النظامية التي قيل إنه رجع فيها إلى مذهب السلف متقدمة قطعاً عن الغياثي، وعن البرهان، فقد ذكر (النظامي) في خطبة الغياثي مصرحاً أن الغياثي جاء وفاءً بوعدٍ قطعه في (النظامي)، ثم هو ذكر الغياثي في البرهان.
فإذا كان النظامي -ومنه أخذت العقيدة النظامية- قد أهدي إلى نظام الملك، ذلك الوزير العالم ناصر السنة، الذي تولى الوزارة سنة 455 هـ، فمعنى ذلك أن إمام الحرمين قال ما قاله في العقيدة النظامية من دعوة صريحة إلى مذهب السلف قبل نحو 460 هـ أي قبل وفاة إمام الحرمين بنحو ثمانية عشر عاماً.
فإذا عرفنا أنه توفي رضي الله عنه عن تسع وخمسين سنة، وأنه لم يعرف له مؤلف قبل وفاة والده سنة 438 هـ، حين أُقعد للتدريس مكانه، وعُد ذلك من نوادر النبوغ المبكر، إذاً تقع العقيدة النظامية في منتصف عمره العلمي - إن صح هذا التعبير، وليس في أواخر أيامه.
وقد يفصل في هذه القضية ويقطع كل شغب ما جاء في كتابنا هذا وهو من أواخر تآليفه حيث يوضح بما لا يدع مجالاً للتأويل نظرته إلى علم الكلام وأنه علم ضروري لقمع المبتدعة، ولو عاد الناس لصفو العقيدة ما كان لنا به حاجة، وهذا نصّ عبارته:

(المقدمة/209)


" ولو قيل: العلم المترجم بالكلام هل يُستلحق بفرائض الكفايات؟ قلنا: لو بقي الناس على ما كانوا عليه في صفوة الإسلام، لكنا نقول: لا يجب التشاغل بالكلام، وقد كنا ننتهي إلى النهي عن الاشتغال به، والآن قد ثارت الآراء، واضطربت الأهواء، ولا سبيل إلى ترك البدع، فلا ينتظم الإعراض عن الناس يتهالكون على الردى، فحق على طلبة العلم أن يُعِدّوا عتاد الدعوة إلى المسلك الحق والذريعة التامة إلى حل الشُّبه، ولما مسّت الحاجة إلى إثبات الحشر والنشر على المنكرين، وإلى الرد على عبدة الأصنام، [صار من فروض الكفايات الاحتواء] على صيغ الحجاج، وإبداء منهاجه.
ولا شك أن هذه الآراء الفاسدة لو بُلي الناس بها، لأقام الشرع حجاج الحق من منابعها.
فإذاً علم التوحيد من أهم ما يطلب في زماننا هذا، وإن استمكن الإنسان من ردّ الخلق إلى ما كانوا عليه أولاً، فهو المطلوب وهيهات، فهو أبعد من رجوع اللبن إلى الضرع في مستقر العادة " (نهاية المطلب: 17/ 417).
وأتمنى أن يَنْهد أحد الباحثين لهذه المهمة، فيقرأ مؤلفات الإمام كلها قراءة متأنية ويحصي كل إشاراته إلى علم الكلام ونظرته إليه، كما يحصي كل إشاراته إلى منهج السلف ودعوته إليه، وأكاد أجزم بصحة قولي هذا: " لم يكن هناك ندم ولا رجوع، وإنما كان علم الكلام هو الأسنة التي لم يكن للمضطر حيلة إلا ركوبها ". والله أعلم ...
...
6 - علم الحديث.
7 - علم اللغة والنحو.
8 - علوم الأدب والبلاغة.
9 - علم الحساب والجبر والمقابلة.
هذه من العلوم التي ضرب فيها إمام الحرمين بحظ وافر، عرفنا ذلك من ترجمته والفنون التي حذقها، وشيوخه في كلٍّ منها، كما رأينا أثرها في مصنفاته ومؤلفاته.

(المقدمة/210)


وإنما لم نفرد كلاً منها بحديثٍ لأمرين:
أ- أنه لم يصنف فيها مؤلفات وكتباً.
ب- إيثاراً للإيجاز والاختصار.
ولكن الذي نريد أن نعود إليه ونبسط القول فيه هو علمه بالحديث، فقد ظُلم في هذا الجانب ظلماً بيناً (1)، وقيل عنه: " إنه لا يُعتمد عليه في هذا الشأن " (2) وقيل عنه: " إنه كان لا يدري الحديث لا متناً ولا إسناداً كما يليق به " (3) وقيل عنه: " ... كان قليل المعرفة بالآثار النبوية، ولعله لم يطالع الموطأ بحال، حتى يعلم ما فيه، فإنه لم يكن له علم بالصحيحين: البخاري، ومسلم، ولا سنن أبي داود، والنسائي، والترمذي، لم يكن له بهذه السنن علمٌ أصلاً، فكيف بالموطأ ونحوه ... وإنما كان عمدته سنن أبي الحسن الدارقطني " (4) ... ، وقيل عنه: " إنه عديم المراجعة لكتب الحديث المشهورة، فضلاً عن غيرها " (5). هذا فيض من غيض قيل في هذا الصدد.
ولقد تتبعت كثيراً، من هذه العبارات، وعايشت المؤلفات التي وردت فيها طويلاً، حتى أحسست روحَها، وشممت أنفاسَها، وسمعت حسّها وجرسَها، مثلما وزنتُ هذه الأقوال وراجعت دليلها وحجتها، فتأكد لي أن مصدر هذا أمران:
أحدهما: أن بعض القائلين ينقل عن بعض، حتى يفشو الكلام، ويصبح بالتكرار والاستفاضة من المسلمات والبديهيات التي لا تحتاج إلى دليل.
الثاني: أن بعضاً آخر من أصحاب هذه الأقوال عنده نوع تحامل على إمام الحرمين، يبعث على ذلك التحامل اختلافٌ في المذهب، والمنهج، وبخاصة في المذهب الكلامي.
__________
(1) انظر الفصل السادس من هذه المقدمات.
(2) مشكل الوسيط لابن الصلاح بهامش الوسيط: 6/ 529.
(3) سير أعلام النبلاء: 18/ 470.
(4) فتاوي شيخ الإسلام ابن تيمية: 5/ 299 طبعة دار المعرفة.
(5) تلخيص الحبير: 2/ 50 حديث 5، 6.

(المقدمة/211)


وقد تجمع لي قدرٌ صالح من الأدلة القاطعة التي تنفي هذا الكلام، وترد هذا الاتهام، وتثبت علم الإمام بالحديث رواية ودراية، وإن كنا لا نطمع أن نثبت أنه من الحفاظ المحدّثين، ولا هو ادعى لنفسه ذلك، رضي الله عنه.
وحين يتم هذا البحث -إن شاء الله- بالمنهج العلمي السليم والأدلة الموثقة، سنرى أن هذه المسلمة -عدم علم إمام الحرمين بالحديث- مثل كثير من المسلمات في حياتنا الفكرية والثقافية في حاجة إلى مراجعة علمية، تقوم على دراسة نصوص أئمتنا وقراءتها، واستخراج الأحكام عليهم من واقع أعمالهم، لا من قول بعضهم في بعض. ونسأل الله أن يعيننا على إخراج هذا البحث قريباً.
...

ثانياً: كتبه آثاره:
لم تقف جهود الإمام في سبيل الدفاع عن الدين والسنة عند مناظراته ودروسه، ومواعظه وخطبه، بل خلّف مصنفات كثيرة في معارف متنوعة: شملت الكلام، وأصول الفقه، والخلاف، والجدل، والفقه، والتفسير، والخطب والمواعظ.
وقد بلغت هذه المؤلفات من التنوع والكثرة حداً جعل السبكي (1) يستدل بها على وجود الكرامات، حُسبت أعداد الأوراق التي احتوت عليها كتبه ومؤلفاته، وقسمت على أيام عمره وساعاته، مع ما كان يلقيه من الدروس، ويحضره من مجالس التذكير، فوجد أن عمره لا يفي بذلك!!
وقد بلغ عدد ما تحققنا من نسبته إليه أكثر من أربعين عنواناً، ومنها ما هو موجود ومنها ما هو مفقود، وقد أفردنا لذلك فصلاً في كتابنا (إمام الحرمين: حياته وعصره-آثاره وفكره) كما أشرنا إلى كثير منها أثناء حديثنا عن علومه، ونكتفي الآن بسرد أشهرها سرداً مجرداً، فمنها:
* في علوم أصول الفقه: التلخيص، والبرهان، والتحفة، والورقات.
__________
(1) الطبقات: 2/ 343.

(المقدمة/212)


* في علم الفقه: نهاية المطلب في دراية المذهب، ومختصر النهاية، والرسالة النظامية في الأركان الإسلامية.
* في علم الخلاف والجدل: الأساليب، والغنية، غنية المسترشدين (1)،
والعُمد، والدرة المضية فيما وقع فيه الخلاف بين الشافعية والحنفية، والكافية في الجدل.
* في السياسة الشرعية: الغياثي (غياث الأمم في التياث الظلم).
* في علم الكلام: الشامل، والإرشاد، واللمع، وشفاء الغليل، والعقيدة النظامية، وقصيدة على غرار قصيدة ابن سينا في النفس، لم يذكرها أحد ممّن ترجموا له، ولكنها وقعت لنا في غير مظانها، أثناء بحثنا عن مؤلفات الإمام في مكتبات العالم، وله أيضاً مسائل الإمام عبد الحق الصقلي وأجوبتها (2).
* وله كتاب (في التكفير والتبرؤ) هكذا قال: " لنا مجموع في التكفير والتبرؤ فليتأمله طالبه " (3) ولكن لم نعرف عنوانه. ولا موضوعه، وإن كان بعلم الكلام أشبه.
* كتاب في النفس: قال عنه في العقيدة النظامية (4): " إنه يقع في نحو ألف ورقة " ولسنا ندري عنوانه ولا حقيقة موضوعه.
* تفسير القرآن الكريم: ذكره السيوطي في مقدمة الإتقان: (1/ 21) (5)،
__________
(1) كان هناك تكراراً في صياغة عنوان الكتاب فالغنية وغنية المسترشدين شيء واحد.
(2) وتقع في رسالة لطيفة، أعددناها للنشر، نسأل الله العون حتى ترى النور قريبا.
(3) البرهان: فقرة 673.
(4) ص: 59 تحقيق الكوثري.
(5) جاء عند السيوطي في قطف الأزهار (1/ 312): "قال الجويني في تفسيره: سمعت أبا الحسن بن الدهان يقول ... " فوهم ابننا الفاضل محقق الكتاب فترجم لإمام الحرمين، مع أن السيوطي يقصد بالجويني الشيخ أبا محمد والد إمام الحرمين، ومن عجب أن المحقق الفاصل رجع لبرهان الزركشي وقابل نصّ السيوطي عليه وسجل الفرق بين النصين بأن الزركشي يقول: " أبا الحسين بن الدهان "، ومع ذلك لم يلتفت إلى قول الزركشي " قال الشيخ أبو محمد الجويني " وظل على وهمه في أن السيوطي يريد بالجويني إمام الحرمين.

(المقدمة/213)


وحاجي خليفة في كشف الظنون (1/ 443) وطاش كبري زاده في مفتاح السعادة (2/ 110)
...

ثالثاً: منهجه في مؤلفاته:
من الطبيعي أن تتنوع المناهج بحسب موضوع كل مؤلف، ولكننا نستطيع أن نشير إلى سمات عامة نجدها في كل مؤلفاته، منها:
1 - الاقتصار على الجديد، وعدم الاكتفاء بحكاية كلام السابقين، وترداد مذاهبهم بدون إضافة أي جديد، أو استثمار ذلك في توليد معنى، أو ابتداع مبنى، فهو لا يدوّن في مصنفاته إلا الجديد الذي " لم يسبق إليه، ولم يزحم عليه " فإذا كان لا بد من حكاية أقوال السابقين، كان ذلك " في معرض التذرع إلى موضوعه، وفى إيجاز، وأحال كل شيء على محله وفنه ".
ويصرح بذلك قائلاً: " ... ولو ذهبت أذكر المقالات، وأستقصمها، وأنسبها إلى قائليها وأعزيها (1)، لخفت خصلتين:
إحداهما: خصلة أحاذرها في مصنفاتي وأتقيها، وتعافها نفسي الأبية وتحتويها، وهي سرد فصول من كلام المتقدمين مقول، وهذا عندي يتنزل منزلة الاختزال والانتحال، والتشبع بعلوم الأوائل، والإغارة على مصنفات الأفاضل" (الغياثي: فقرة 242).
فانظر أيّ نفورٍ من هذا: اختزال -انتحال- إغارة.
ثم يرسم المنهج لمن يريد أن يؤلف، وهو يعني نفسَه، فيقول: " حق على كل من تتقاضاه قريحته تأليفاً، وجمعاً وترصيفاً، أن يجعل مضمون كتابه أمراً لا يلفى في مجموع، وغرضاً لا يصادف في تصنيف ".
2 - تحديد الغرض والغاية التي يتغياها من كل مؤلّف، وبعبارة أخرى تحرير
__________
(1) هذا الفعل واوي ويائي: عزا يعزو، وعزا يعزي (كلاهما صواب).

(المقدمة/214)


المقصود وتخليصه مما يختلط به، جاء في مفتتح البرهان قوله: " حق على كل من يحاول الخوض في فن من فنون العلم أن يحيط، بالمقصود منه، وبالموادّ التي يستمد منها ذلك الفن، وبحقيقته وحدّه إن أمكنت عبارة سديدة على صناعة الحد، وإن عسر، فعليه أن يحاول الدرك بمسلك التقاسيم ".
وهذا مجرد لمعة مما في مؤلفاته.
3 - تحديد معاني الألفاظ والمصطلحات التي تستخدم في مخاوضاته ومناقشاته، وعرضه لآرائه، يظهر هذا واضحاً في مقدمات كتبه: مثل الإرشاد، ولمع الأدلة، والبرهان، والكافية.
4 - عرض آراء المخالفين وأدلتهم كاملة بكل أمانة ووضوح، ثم مناقشتها ودفعها، وقد رأينا أثر هذا في تلميذه حجة الإسلام الغزالي، الذي قيل: إنه عرض آراء المتفلسفة قبل أن يبين (تهافتها) بأحسن مما عرضها بها أصحابها.
5 - التحرر من كل فكرة سابقة قبل البحث، وعدم التعصب لمذهبٍ بعينه، اسمعه يقول: " وأنا الآن أنخل للناظر جميع مصادر المذاهب ليحيط بها، ويقضي العجب منها، ويتنبه لسبب اختلاف الآراء فيها، وبجعل جزاءنا منه دعوة بخير " (1).
وأوضح من هذا قوله: " ... وحقنا أن نُحكِّم الأصول فيما نأتي ونذر، ولا نخرج بمسلك الحقائق ذباً عن مذهب " (2).
6 - الدقة في الترتيب والتقسيم والتبويب، حتى تجد المسائل يأخذ بعضها بحُجز بعض، ويترتبه بعضها على بعض في تسلسل منطقي بديع، يعمد إلى ذلك عمداً، وينبه إليه في ثنايا كتابه من آن لآخر، مثل قوله: " ونحن الآن نجدد العهد بترتيب يشمل على ما مضى من الكتاب، وعلى ما سيأتي منه، حتى يتجدد عهد الناظر بترتيب أبواب الكتاب، فإن معرفة الترتيب من أظهر الأعوان على درك مضمون العلوم القطعية " (3)
__________
(1) البرهان فقرة: 506.
(2) البرهان فقرة: 532.
(3) البرهان فقرة: 486.

(المقدمة/215)


هكذا. يجدد العهد بالترتيب، لأنه من أظهر الأعوان على درك مضمون الكتاب.
وهذا الاهتمام بالترتيب والتبويب رأيناه أيضاً عند تلميذه حجة الإسلام الغزالي غايةً في الوضوح، والدقة، حتى تفوق فيه على شيخه.
7 - التمييز بين المظنون والمقطوع، وبين ما يكفي فيه غلبة الظن، وما لا بد فيه من القطع، ويعلن أن منشأ الاختلاف في الرأي، وأن الزلل والخطأ في الفكر هو الخلط بين المقطوع والمظنون، ولذا نراه يقدم بين يدي كل قضية يعرضها، التمييزَ بين القطعيات والظنيات، فيقول عن " الخبط والتخليط والإفراط والتفريط " في قضايا الإمامة:
" والسبب الظاهر في ذلك، أن معظم الخائضين في هذا الفن يبغون مسلك القطع في مجال الظن، ويمزجون عَقْدهم باتباع الهوى، ويمرحون في تعاليل النفوس والمنى ".
ثم يقول: " ونحن بتوفيق الله نذكر معتبراً يتميز به موضع القطع من محل الظن " (1).
ولا يفوته رضي الله عنه أن يؤكد قيمة هذا الأساس من أسس المنهج؛ فيقول: " ومن وفقه الله تعالى للوقوف على هذه الأسطر، واتخذها في المعْوِصات مآبه ومثابه، لم يعتَصْ عليه مُعضل، ولم يخْف عليه مشكل، وسرد المقصود على موجب الصواب بأجمعه، ووضع كل معلوم ومظنون في موضعه وموقعه " (2).
ويقول في ختام أحد الفصول مؤكداً التزامه بهذا المنهج: " فقد نجز الفصل، مختوماً على التقدير بالمقطوع به في مقصوده، مثنى مما هو من فن المجتهدات، وقبيل المظنونات " (3).
ولا يملّ من تأكيد هذا المعنى، والالتزام بهذا المنهج، فيقول في مفتتح الفصل الذى ختمه بالعبارة السابقة: " فنجري على الترتيب المقدّم والملتزم، ونبدأ بالمقطوع به " (4).
__________
(1) الغياثي الفقرات: 69 - 72.
(2) الغياثي فقرة: 72.
(3) السابق: 81.
(4) السابق: 84.

(المقدمة/216)


ولو ذهبنا نتتبع الإشارات والتأكيدات لضرورة الالتزام بهذا المنهج، لأعيانا الحصر والعد، وضاقت الأوراق، وكلّت الأقلام.
8 - الإيجاز والميل إلى الاقتصاد في غير مقصود الكتاب:
هذه السمة من سمات المنهج كالتي قبلها، لم نصل إليها بالملاحظة والاستقراء لمؤلفاته وآثاره فحسب، ولكنه يعلن عنها صراحة، ويؤكد التزامه بها بوضوح فيقول:
" ... على أني آتي فيها بالعجائب والآيات، وأشير بالمرامز إلى منتهى الغايات، وأوثر الأيجاز والتقليل، مع تحصيل شفاء الغليل، واختيار الإيجاز على التطويل، بعد وضوح ما عليه التعويل " (1).
ويقول عندما يقتضيه الموضوع البسطَ والإطالة: " وعلى المنتهي إلى هذا الموضع أن يقبل في هذه الإطالة عذري، ويحسِّن أمري " هكذا يعتذر إلى قارئه حينما شعر أنه خالف منهجه في التزام الإيجاز، فيمهد عذره قائلاً: " فقد انجرّ الكلام إلى غائلة، ومعاصة هائلة، لا يدركها أولو الآراء الفائلة، والوجه عندي قبض الكلام فيما لا يتعلق بالمقصود والمرام، وبسطه على أبلغ وجه في التمام فيما يتعلق بأحكام الإمام، وفيها الاتساق والانتظام " (2).
ويكرر هذا المعنى نفسَه قائلاً: " فالوجه البسط في مقصود الكتاب، وإيثار القبض فيما ليس من موضوعه، وإحالة الاستقصاء في كل شيء على محله وفنِّه " (3).
هكذا حينما تُعوص المشكلة، وتغمض المسألة، لا يتردّد في البسط والتفصيل، أما عندما يتضح المقصود والمعمود، فيجب قبض الكلام وإيثار الإيجاز.
9 - تأصيل المسائل والقضايا:
يعمل دائماً على تقديم أصل للمسألة ووضع ضابط لها، ثم يبدأ في مناقشات
__________
(1) الغياثي فقرة: 9.
(2) السابق: 152.
(3) السابق: 273.

(المقدمة/217)


الجزئيات والفرعيات في ضوء الأصل الذي أَصَّله.
فمن ذلك قوله عند افتتاح الفصل الخاص بالتعديل والجرح: " ونقدم على غرضنا أصلاً هو مرجوع الكتاب وأصل الباب " (1) وقوله في موضع سابق: " وفي كل أصل من الأصول قاعدة كلية معتبرة، قكل تفصيل رجع إلى الأصل، فهو جارٍ على السييل المطلوب، وكل ما لم نجد مستنداً فيه، ومتعلقه تخييل ظن، فهو مُطرح " (2).
10 - التحري والتدقيق في النقل عن الأئمة السابقين:
هذا مما يتبجح به بعض المعاصرين، ويسميه (التوثيق)، ويظنه من بدْع هذا العصر، ولكنه موجود أصيل في تراث أمتنا، وله مكانه ومكانته، وإمام الحرمين يضرب المثل في ذلك. ويعلِّمنا إياه، فيقول: " وحكى القاضي عن العراقيين طريقة أخرى، لم أطلع عليها مع بحثي عنها ".
فهو ينسب الطريقة (الرأي) إلى صاحبه، ثم يبين مصدره، وعمن أخذه، ثم يبحث عن صواب النقل حينما يتشكك في صدور هذا الرأي عن المنقول عنه، ويعلن أنه لم يطلع على هذا الرأي للعراقيين (المنقول عنهم) مع طول بحثه.
ثم يؤكد خطأ هذا الرأي عنده، فيقول: " ولا شك أن ما حكاه غلط " وهنا غاية الدقة في العبارة: " إن ما حكاه غلط " ولم يقل: أخطأ العراقيون؛ لأنه غير واثق من صحة النقل، فيقول بعد العبارة السابقة مباشرة: " لكني أخشى أن يكون الناقل غالطاً " وتشككه هذا ليس شيئاًً بالهوى والتشهي إنما هو مبني على معرفته بالمنقول عنه، وبحدود المسألة، وقيمة الرأي المنقول، ولذلك يقول: " فلا يستجيز المصير إلى ما حكاه عن العراقيين من أحاط بأطراف الكلام في أحكام هذه المعاملة " أي أن من عرف أطراف الكلام، أي الشادي المبتدىء لا يمكن عقلاً أن يصير إلى هذا الرأي ويقول به.
جاء هذا في (نهاية المطلب) عند الكلام عن إحدى مسائل القراض.
__________
(1) البرهان فقرة: 559.
(2) السابق: 557.

(المقدمة/218)


هذه أهم سمات وملامح منهج إمام الحرمين في مصنفاته بصفةٍ عامة وسنفرد فصلاً لملامح شخصيته وسمات منهجه في كتابه هذا بخاصة.
...

رابعاً: تلاميذه:
يظهر أثر إمام الحرمين رضي الله عنه في مجال آخر، حيث لمع اسمُه في تاريخ الفقه الإسلامي بصفته أستاذاً ومعلِّماً، وهذه منزلة لا تتاح لكل عالم، فقد يكون الرجل فقيهاً باحثاً يترك أعظمَ المؤلفات، ولكن لا يكون له في تربية الفقهاء وتخريج المتفقة شأن، ولم يكن إمام الحرمين من هؤلاء، فقد تولى التدريسَ وهو في نحو العشرين من عمره، فما إن استحصدت خبرته، ونضِجت معارفُه، وذاع صِيتُه، حتى صارت حلقته كعبة يشد إليها الرحال طالبو الفقه من أنحاء العالم الإسلامي، وحين تربع على عرش المدرسة النظامية بنيسابور التي بناها (نظام الملك) باسمه، صارت نظامية نيسابور ميدان بحث ومناظرة، تخرج فيها على يد إمام الحرمين من الأئمة ما تزدهي بهم نيسابور، ويزهو بهم الفقه الإسلامي إلى اليوم.
ولو رحنا نعد هؤلاء الأعلام الذين ذكرت الكتب أنهم تفقهوا بإمام الحرمين -وناهيك بمن لم تذكر- لطال بنا الكلام، ولاستعصى علينا الحصر والإحصاء، ألم يقولوا: إنهم كانوا عند وفاته نحو أربعمائة تلميذ، ولذلك يكفي أن نذكر منهم:
حجة الإسلام الغزالي، والكيا الهراسي، والخَوافي (1)، والباخرزي، وعبد الغافر الفارسي، وقالوا عنه: أورثته صحبة إمام الحرمين فناً من الفصاحة، وأكسبته إياه سهراً حُمد صباحُه.
ومنهم: الإمام أبو نصر، عبد الرحيم بن الإمام عبد الكريم القشيري.
ومنهم: هاشم بن علي بن إسحاق بن القاسم الأبيوردي، وغانم الموشيلي، وعبد الكريم بن محمد الدامغاني، وعبد الجبار بن محمد بن أبي صالح المؤذن،
__________
(1) نسبة إلى (خَواف) بفتح الخاء المعجمة، وفي آخرها الفاء بعد الواو والألف (الأنساب للسمعاني).

(المقدمة/219)


وأبو عبد الله الفُراوي، وأبو المظفر الأبيوردي، وأبو الفضل الماهياني، وسعد بن عبد الرحمن الأستراباذي.
ومما يذكر في هذا المجال أن إمام الحرمين كان أستاذاً بصيراً بتلاميذه، يُحسن رعايَتهم ويشجعُهم، ويسعَد بنباهتهم ونبوغِهم، وقد وردت عنه كلماتٌ تدل على أستاذيةٍ ماهرة حاذقة، فقد كان الغزالي والكيا الهراسي والخَوافي أنداداً، وتناظروا يوما أمامه، فقال موازناً بينهم: " التحقيق للخَوافي، والجزئيات للغزالي، والبيان للكيا " وقال مرة أخرى: " الغزالي بحر مغدق، والكيا أسد محدق، والخَوافي نار تحرق " (1).
...

خامساً: أثره:
لقد كان إمام الحرمين رائداً مجدداً مجتهداً في أكثر من فن: في الفقه، في الأصول، في علم الخلاف والجدل، في السياسة الشرعية، في علم الكلام، كان له الأثر والريادة والقيادة بما جدد واجتهد، في هذه الفنون التي تحدثنا عنها، وعن دوره فيها آنفا، وكان له الأثر بما خلّف من مؤلفات ظلت تحمل علمه وفكره على كرّ العصور والدهور، وكانت زاداً، ومرجعاً، وموئلاً لمن جاء بعده، واقتفى أثره، رأينا أثر هذه المؤلفات، في آثار كثير من الأئمة، وبخاصة أنجب تلاميذه حجة الإسلام الغزالي، فمؤلفاته تحمل فكر شيخه وعلم إمامه، وأحياناً بألفاظ إمامه وعباراته نفسها.
ولقد عقدنا الباب الرابع من كتابنا (فقه إمام الحرمين-خصائصه-أثره ومنزلته) بعنوان (منزلة إمام الحرمين) وجاء في نحو مائة صفحة، فلتراجعه إن شئت، ولا داعي للتكرار والإعادة هنا.
...
__________
(1) الغزالي: دكتور أحمد فريد الرفاعي: 1/ 98، 99.

(المقدمة/220)