نهاية المطلب في دراية المذهب

الفصل الرابع تعريف بنهاية المطلب، ومنزلته بين كتب المذهب

(المقدمة/221)


تعريفٌ بنهاية المطلب ومنزلته بين كتب المذهب

تمهيد
لما استوى علم الفقه على سوقه، واستقامت مناهج الأئمة، ودوّنت المذاهب المتبوعة، وصار لكل إمام تلاميذ ورواة يحملون علمه، ويروون نصوصه، انتشرت هذه النصوص، وصار الفقهاءُ أتباعُ كل إمام يلتزمون نصوصه، ويجعلونها أساس استنباطهم وبحثهم، وموضعَ تفصيلهم وتفريعهم.
وكان مختصر المزني الذي جمع نصوص الشافعي من أوفر الكتب حظَّاً وقبولاً لدى علماء الشافعية وأئمة المذهب، فقد شرحه منذ فجر التأليف في المذهب جمعٌ من الأئمة منهم:
ابن سريج المتوفى 306 هـ
أبو إسحاق المروزي المتوفى 340 هـ
أبو علي الطبري المتوفى 350 هـ
القاضي أبو حامد المرورُّوذي المتوفى 362 هـ
القاضي أبو الحسن الجوري المتوفى بعد 300 هـ
الشيخ أبو علي السنجي المتوفى 427 وقيل 430 هـ
الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني المتوفى 418 هـ
القاضي أبو علي البندنيجي المتوفى 425 هـ
القاضي أبو الطيب الطبري المتوفى 450 هـ

(المقدمة/223)


الشيخ أبو بكر الصيدلاني المتوفى 327 هـ
قاضي القضاة أبو الحسن الماوردي المتوفى 450 هـ
وفي هذا المضمار جرى إمام الحرمين أيضاً، فنسج على منوال هؤلاء الأئمة، وشرح مختصر المزني بكتابنا هذا.
(نهاية المطلب في دراية المذهب)
وننبه هنا أن المراد بالشرح ليس حل الألفاظ، وبيان غوامض التراكيب، وإنما الشرح الذي رأيناه -في الحاوي للماوردي، وفي النهاية لإمام الحرمين- هو جعل نصّ الشافعي أصلاً تُستنبط منه الأحكام، وحوله يدور التبويب والتفصيل، والمسائل والفروع.
ولذا وجدنا إمام الحرمين يقول في مقدمة (النهاية):
" وسأجري على أبواب (المختصر) ومسائلها جهدي، ولا أعتني بالكلام على ألفاظ (السواد) (1)، فقد تناهى في إيضاحها الأئمة الماضون، ولكني أنسب النصوص التي نقلها المزني إليه، وأتعرض لشرح مايتعلق بالفقه منها -إن شاء الله تعالى- وما اشتهر فيه خلاف الأصحاب ذكرته، وما ذكر فيه وجهٌ كريب منقاس، ذكرتُ ندوره وانقياسه ... ".
...
ولم يذع وينتشر من هذه الشروح -فيما نقدِّر- سوى اثنين: (الحاوي) للماوردي، و (نهاية المطلب) لإمام الحرمين، ولكن الذي كان له التأثير الأكبر، وصار عليه المعوّل، هو (نهاية المطلب)، فعنه ومنه وحده -تقريباً- كان أَخْذُ الأئمة واستمدادهم، بل شاع بينهم القول: " منذ صنف الإمام كتابه (نهاية المطلب) لم يشتغل الناس إلا بكلام الإمام " (2).
__________
(1) السواد: المراد به (مختصر المزني).
(2) انظر الشكل الخامس.

(المقدمة/224)


تحرير المذهب:
وبيان ذلك أن تحرير المذهب الشافعي انتهى إلى الإمامين: الرافعي، أبو القاسم عبد الكريم بن محمد بن الفضل، القزويني المتوفى 624 هـ، والإمام النووي، محيي الدين، أبو زكريا، يحيى بن شرف المتوفى سنة 676 هـ فإليهما يرجع الفضل في تحرير المذهب وتنقيحه، وهما العمدة في معرفة ما هو من المذهب، وتمييزه مما ليس منه، فهما شيخا المذهب في لسان من بعدهما من طبقات المذهب، فحيث قيل: (الشيخان) فهما الرافعي والنووي، وإليهما ينتهي الاجتهاد؛ فالراجح ما رجحاه، والمَفْتِيُّ به ما اعتمداه؛ ولم يخرُج مَنْ بعدهما على قولهما، حتى شاع بين المتأخرين قول ابن حجر الهيتمي:
" ... ومن جوّز اعتماد المفتي ما يراه في كتابٍ فيه تفصيل لا بدّ منه -ودل عليه كلام النووي في المجموع (1) وغيره- وهو أن الكتب المتقدمة على الشيخين لا يعتمد شيء منها إلا بعد مزيد الفحص والتحرّي، حتى يغلب على الظن أنه المذهب، ولا يغتر بتتابع كتب متعددة على حكم واحد؛ فإن هذه الكثرة قد تنتهي إلى واحد: ألا ترى أن أصحاب القفال أو الشيخ أبي حامد مع كثرتهم لا يفرّعون ويؤصلون إلا على طريقته غالباً، وإن خالفت سائر الأصحاب، فتعين سبرُ كتبهم.
هذا كله في حكمٍ لم يتعرض له الشيخان أو أحدهما -وإلا فالذي أطبق عليه محققو المتأخرين- ولم تزل مشايخنا يوصون به، وينقلونه عن مشايخهم، وهم عمن قبلهم، وهكذا -أن المعتمد ما اتفق عليه الشيخان الرافعي والنووي، فإن اختلفا، فالنووي، فإن وجد للرافعي ترجيح دونه فالرافعي-" ا. هـ بنصه (2).
وهذا كلام واضح مُبينٌ دالٌّ على أن تحرير المذهب، وتمييز ما هو منه عما سواه انتهى إلى الإمامين الرافعي والنووي.
__________
(1) ر. المجموع للنووي: 1/ 4، ونصُّ كلام النووي الذىِ يشير إليه ابن حجر هو: " واعلم أن كتب المذهب فيها اختلافٌ شديد بين الأصحاب بحيث لا يحصل للمطالع وثوق بكون ما قاله مصنفٌ منهم هو المذهب حتى يطالع معظمَ كتب المذهب المشهورة ".
(2) ر. تحفة المحتاج بهامش حواشي الشرواني وابن قاسم: 1/ 39.

(المقدمة/226)


وإذا نظرنا إلى علمهما نجده -في جملته- يرجع إلى كلام الإمام، أي إلى كتابه " نهاية المطلب ".
وبيان ذلك أن فقه إمام الحرمين في (نهاية المطلب) حازه تلميذه (الغزالي) في كتابه (البسيط)، ثم اختصره إلى (الوسيط) ثم اختصر الوسيط في مجلدٍ لطيف سماه (الوجيز) واشتغل الإمام الرافعي (بالوجيز)، فشرحه شرحين: مختصراً لم يسمّه، ومطوّلاً سماه (العزيز) واشتهر (بالشرح الكبير)، كما اختصر الوجيز في مختصرٍ سمّاه (المحرر) (1).
ثم جاء الإمام النووي فاختصر الشرح الكبير في كتابه (روضة الطالبين)، كما اختصر المحرر إلى (المنهاج).
وبعد الإمامين الرافعي والنووي بدأ طور الاستقرار في المذهب، وكان فقههما -ممثلاً في (روضة الطالبين) و (المنهاج) - هو المعتمد، وعليه المدار، فتتابع رجال المذهب على (الروضة) و (المنهاج) شرحاً، واختصاراً، ونظماً، وحواشي، ومضى الحال على ذلك قروناً، حتى استقر المذهب عند شيخي المتأخرين: ابن حجر الهيتمي (974 هـ)، والرملي (1004 هـ) الأول في (تحفته) والثاني في (نهايته)، وكلاهما شرح على (المنهاج) للنووي (2) وصار الاعتماد عليهما، ولا يفتى إلا بقولهما.
ويصور هذا التسلسل الدكتور محمد إبراهيم أحمد علي بقوله: "وهذا الاعتماد على كتب ابن حجر (يعني الهيتمي) والرملي ينبغي ألاّ يصرف نظر الباحث عن الحقيقة العلمية وراء ذلك، وهي أن كتب ابن حجر والرملي إنما هي حلقة في سلسلة ذهبية من كتب أكابر العلماء الشافعية، تمتد عبر القرون، حتى تصل إلى مؤسس المذهب (الإمام الشافعي): فالتحفة والنهاية كلاهما شرح لمنهاج الطالبين. ومنهاج الطالبين مختصر النووي من المحرر. والمحرر مختصر الرافعي من الوجيز. والوجيز مختصر
__________
(1) كذا في البجيرمي على شرح المنهج وغيره أن الرافعي اختصر المحرر من الوجيز، لكن ابن حجر في التحفة يقول: " وتسميته (أي المحرر) مختصراً لقلة لفظه، لا لكونه من كتابٍ بعينه " (الفوائد المكية: 35، والتحفة مع حاشيتي الشرواني وابن قاسم: 1/ 35).
(2) الفوائد المكية: 36، 37 بتصرف كثير.

(المقدمة/227)


من الوسيط. والوسيط مختصر من البسيط والبسيط مختصر من (نهاية المطلب) ونهاية المطلب شرح لنصوص الشافعي التي جمعها (مختصر المزني) " (1).
وتعبير ابن حجر الهيتمي -الذي تناقلته الكتب عنه- يوحي بأن " اشتغال الناس بكلام الإمام -منذ صنف (النهاية) - دون سواه " كان أمراً مقرراً شائعاً، ذائعاً، بالغاً: حدّ الاستفاضة، ولذلك لم ينسبه إلى أحد، ولم يروه عن راوٍ، كما هو نهج العلماء، وإنما قال: " وقولهم إنه منذ صنف الإمام كتابه (النهاية) ... لم يشتغل الناس إلا بكلام الإمام " (2) فأنت تراه يقول: (وقولهم) هكذا، بدون تحديد القائل، وضمير الجمع هنا عائد على علماء الشافعية وأئمتهم، كأنهم تكلموا بذلك جميعاً، واتفقوا عليه.
...

نهاية المطلب وتحرير المذهب:
ولعلنا لا نجاوز الحقيقة إذا قلنا: (إن نهاية المطلب) كانت الخطوة الأولى المبكرة في تحرير المذهب، قبل الرافعي والنووي، يشهد لذلك ما يأتي:
قولُ الإمام في خطبته: " ... وأبتهل إليه سبحانه في تيسير ما هممت بافتتاحه من تهذيب مذهب الإمام المطَّلبي الشافعي رضي الله عنه، يحوي تقريرَ القواعد وتحريرَ الضوابط، والمعاقد في تعليل الأصول، وتبيين مآخذ الفروع، وترتيب المفصّل منها والمجموع" فهو يؤكد أن عمله هذا تهذيبٌ لمذهب الإمام، وتقرير للقواعد.
ثم زاد هذا الأمر إيضاحاً، فقال: "وما اشتهر فيه خلاف الأصحاب ذكرته، وما ذكر فيه وجه غريب منقاس ذكرتُ ندورَه وانقياسه، وإن انضمَّ إلى ندوره ضعف القياس، نبهت عليه بأن أذكر الصواب قائلاً: "المذهب كذا" فهو يذكر خلاف الأصحاب، والوجوه المعتمدة في المذهب، منبهاً إلى ما يخرج بندوره وضعف قياسه عن المذهب.
__________
(1) ر. المذهب عند الشافعية، بحث منشور بمجلة جامعة الملك عبد العزيز -العدد الثاني- جمادى الآخرة 1398 = مايو 1978 ص 47 (بشيء من التصرف).
(2) انظر مثلا: الفوائد المكية للسيد علوي بن أحمد السقاف: 36.

(المقدمة/228)


ثم تابع التأكيد لهذا المنهج قائلاً: " وإن جرت مسألة لم يبلغني فيها مذهب الأئمة، خرّجتها على القواعد، وذكرت مسالك الاحتمال فيها على مبلغ علمي وفهمي ".
فهو يؤكد أن المسائل التي لا يجد فيها حكماً لأئمة المذهب سيخرّجها على (القواعد) أي قواعد المذهب.
ويشهد لما نحاوله -من إثبات أن هذا الكتاب كان أسبقَ في تحرير المذهب- الاسمُ الذي اختاره له الإمام (نهاية المطلب في دراية المذهب)، فهو اسم معمودٌ مقصودٌ لأداء معنىً وتحقيق غاية، صرح بذلك الإمام قائلاً: " وقد استقرّ رأي على تلقيبه بما يشعر بمضمونه، فليشتهر بـ (نهاية المطلب في دراية المذهب) فمضمونه: (علم المذهب درايةً).
...
ثم من يطالع (النهاية) يجد الإمامَ التزمَ بما وعد به من (تهذيب مذهب الإمام المطلبي) فحينما ينقل وجوه الأصحاب، ويكون فيها ما لا يمكن تخريجه على أصول الشافعي ينبه على ذلك، ويميز ما ليس من المذهب عما هو منه، بل قد ينقدح عنده هو وجهٌ يخالف المذهب، فيعرضه، ويقرره، ولكنه يقول معقباً: " والمذهب كذا ".
وهاك بعض نماذج وأمثلة مما جاء في (النهاية):
* قال في كتاب الزكاة عند الحديث عن زكاة الحلي: " وهذا الذي ذكرته إشكال ابتديته، وليس قاعدةً للمذهب، فحقٌ على من يعتني بجمع المذهب أن يعتمد ما يصح نقله، ويستعمل فكره في تعليله جهده، حتى يكون نظره تبعاً لمنقوله، فأما أن يستتبع المذهَب، فهذا قصد لوضع مذهب " ا. هـ بنصه.
فهو يضع الضابط لتحرير المذهب، وهذا الضابط يقوم أولاً على التأكد من صحة النص المنقول عن الإمام الشافعي، وثانياً أن يكون الجهد في التخريج والتعليل والاستنباط (تبعاً لمنقوله) أي ملتزماً به، أما أن يجعل المذهب تابعاً لاجتهاده، وتعليله، " فهذا قصدٌ لوضع مذهب " أي ابتداع مذهب غير المذهب الشافعي، هذا منهجه في نهاية المطلب.

(المقدمة/229)


ولكنه مع هذا لا يمنع من إبداء وجوه الاحتمال والإشكال، فيصرح بذلك قائلاً بعد هذا مباشرة: " نعم بعد النقل يحسن إبداء الإشكال، وذكر وجوه الاحتمال في الرأي، لا ليُعتقد مذهباً، ولكن لينتفع الناظر فيها بالتدرب في مسالك الفقه " ا. هـ بنصه.
فهو إن عرض في كتابه لوجوهٍ من الاحتمال والإشكال، فذلك للتدرّب في مسالك الفقه، لا أن تُعتقد مذهباً.
* وعندما تعرض لعلة الربا في الأصناف الستة وأشار إلى طرفٍ من الخلاف، تجده يكف نفسه عن الاسترسال في ذلك قائلاً: " ولا يليق التعرّض للاختلاف بهذا الكتاب المقصور على بيان مذهب الشافعي وأصحابه، فالوجه الاقتصار على هذا المذهب " ا. هـ
* وفي كتاب الغصب في مسألة إيجاب المثل مع اختلاف الأمكنة وأثره في ذلك، كمن غصب ماءً من مسافرٍ في صحراء، تجده يقول: " وحكينا عن شيخنا إيجاب المثل مع اختلاف الأمكنة من غير تفصيل. وهذا منقاس، لكني لست أثق به؛ فإني لم أره في شيء من الطرق، وسبيلي فيما أنفرد بنقله إذا لم أجده في عين طريقة أن أتوقف، ولا أخلي الكتاب عن ذكره " ا. هـ.
فهو أولاً يردّ قولَ والده، ثم يعلق أنه لا يثق بنقله، مع أنه يعترف بأنه منقاس، وذلك تطبيق للضابط الذي ذكرناه سابقاً، فهو لا يلتزم إلا باعتماد ما رآه في عين طريقة، أي من طرق نقل المذهب، فلا ينسب إلى المذهب إلا ما يتحقق نقله، (فالمذهب نقلٌ)، أما ما لم يتحقق نقله، فهو لا يخلي الكتاب عن ذكره، ولكنه لا يعدّه من المذهب.
* وإذا كان المنقول ظاهر الشذوذ والبعد عن المذهب، لا يتردد في دفعه، ولو كان عن والده، ويحمل ذلك على خطأ الناقل أو المستمع، جاء في كتاب الزكاة عند الكلام عن أخذ المعيبة في الزكاة قوله: " وما حكيته عن شيخي من التسوية بين الضحايا والزكاة في هذه العيوب غير معدود من المذهب، وإنما هفوة من الناقل، أو المستمع " ا. هـ.

(المقدمة/230)


* وفي كتاب الصلاة عند الكلام عن اشتراط الطهارة في البدن يعرض لمسألة وصل العظم المنكسر بعظم نجس، فيقول:
" ... ولولا أن المذهب نقلٌ، وإلا لكان القياس، بل القواعد الكلية تقتضي أن أقول: لا يُنزع [أي العظم النجس] عند الخوف، وجهاً واحداً، ولا عند الاكتساء بالجلد، وحصول الستر والبطون، وكان لا يبقى احتمال إلا في صورةٍ، ألا وهي إذا أمكن الوصل بعظم طاهر، واعتمد الوصل بالنجس واعتدى، فهل ينزع والحالة هذه؟ الظاهر أنه لا ينزع مع الخوف، وفيه احتمال بسبب تفريطه، وتسببه إلى هذا ... " ا. هـ.
وهذا كلام مبين غاية البيَان، بالغٌ النهاية في إثبات ما نحاوله.
* وفي كتاب الحجر قال عند الكلام على نفقة المحجور عليه بالإفلاس وزوجه وأقاربه الذين تلزم المفلس نفقتهم، قال: " وفي القلب من نفقة الأقارب مخالجة ظاهرة، ولكن المذهب نقلٌ، ونحن لا نذكر وجهاً إلا عن نقل صريح، أو أخْذٍ من رمز وفحوى في كلام الأصحاب، ولم أر فيما حكيته شيئاًً ".
وكان قد ذكر قبل ذلك بسطورٍ ما نصه:
" الحاكم قبل تفرقة مال المفلس ينفق عليه، وعلى من تلزمه نفقته من زوجاته وأقاربه الذين يستحقون إنفاقه عليهم .... " ثم قال: "وكان لا يمتنع أن يُلحَقَ في حقوقهم بالفقير الذي لا مال له، ولكن أجمع الأصحاب على ما ذكرناه، فليثق الطالب بما نقلناه" ا. هـ
فهو نقل إجماع الأصحاب على النفقة على الأقارب، ولكنه في صدره منه شيء، فلم ير نقلاً صريحاً، ولا مرامز إلى شيء من هذا.
* ويعرض صوراً لما يقطع القدوة في صلاة الجماعة وما لا يقطعها، وفي إحداها يميل إلى ما يخالف المذهب، أو بالتحديد يرى احتمالاً آخراً مقابلاً للمذهب، فيعبر عن ذلك قائلاً: "فلو قيل: ينقطع حكم القدوة، لم يكن بعيداً عن القياس، ولكن لم يصر إلى هذا أحد من الأصحاب، والمذهب نقلٌ، وأنا لا أعتمد قط احتمالاً إلا إذا

(المقدمة/231)


وجدت رمزاً وتشبيباً لبعض النقلة، فإذا وضح ذلك، عدنا إلى البناء على ما هو المذهب" ا. هـ
* ثم نراه في هذا الكتاب لا يُعنى بذكر الخلاف المذهبي، وحيثما تطرّق الكلام إلى مسألة خلافية أحال على (مجموعاته-أي كتبه-في الخلاف)، وإذا ذكر المذهبَ المخالف في مسألة -وما أكثر ما فعل- فهو لا يذكر الخلاف لذاته، فليس هذا معمودَه ولا مقصوده، وإنما الكتاب موضوع لبيان مذهبنا وحفظه وتأصيله، نبه على ذلك مراراً بأجلى بيان، من مثل قوله في باب نكاح المشركات تعقيباً على إحدى المسائل: " ونذكر أصول مذهب أبي حنيفة، والغرض من ذكرها أن يكون تقييداً لمذهبنا في الحفظ؛ فإن الشيء قد يحفظ بذكر ضده " ا. هـ
* ومن عنايته بتحرير المذهب أنه يكرر الضابط الذي وضعه لتحرير المذهب، وأشرنا إليه قبلاً، بنفس الألفاظ تقريباً، فيقول:
" وحق من يريد الاعتناء بالمذهب أن يفهم ما قيل، ويتثبت في النقل، ثم يحيط بالمشكلات، ويستمسك بها في نصرة قولٍ على قول " ا. هـ (قال هذا في كتاب النكاح في مسألة ما إذا أصدق نسوة في عقد واحد صداقاً واحداً).
هكذا: الفهم لما قيل.
التثبت في النقل
الإحاطة بالمشكلات في التفريع.
الاستمساك بها في نصرة قولٍ على قولٍ.
فملاك الأمر -كما ترى- قولُ إمام المذهب، ونصوصُه، والتثبتُ من صحة النقل وحسنُ الفهم لها، والتفريعُ عليها، وقد تؤدي المشكلات التي تظهر في التفريع إلى نصرة قولٍ على قول، وترجح صحة نقله.
* ولأنه التزم بيان المذهب وتحريره، فهو يورد الوجوه كلها، قويها وضعيفها، ويبذل أقصى الإمكان في توجيهها، عبّر عن ذلك مراراً، من مثل قوله في كتاب

(المقدمة/232)


الطهارة: " ومما يجب الاعتناء به أن الوجه البالغ في الضعف -إذا كان مشهوراً- فيتعين ذكر متعلّق له على حسب الإمكان ".
وقوله في كتاب الصلاة: " وإذا عسر عليّ في فصلٍ تخريج المذهب المنقول على قياسٍ أو ربطه بخبر، فأقصى ما أقدر عليه استيعاب وجه الإشكال، وإيضاح أقصى الإمكان في الجواب عن توجيه الاعتراضات " (1).
* ويصرح بأنه ملتزم بذكر المذهب والإحاطة به، فيعتذر عن ذكر الجليات التي قد يقول قائل: لا مجال لمثلها في مثل هذا الكتاب، فيقول: " ولكني أضطر إلى ذكر الجليات؛ إذ التزمت نظم مذهب جامع ".
* ومن هذا الباب أيضاً -أعني تأصيل المذهب وتحريره- فحصُه تخريجات المزني وقوله عنها:
" والذي أراه أن يُلحق مذهب المزني في جميع المسائل بالمذهب؛ فإنه ما انحاز عن الشافعي في أصلٍ يتعلق الكلام فيه بقاطع، وإذا لم يفارق الشافعيَّ في أصوله، فتخريجاته خارجة على قاعدة إمامه، فإن كان لتخريج مُخرِّج التحاقٌ بالمذهب، فأَوْلاها تخريج المزني لعلو منصبه في الفقه، وتلقّيه أصول الشافعي من فَلْق فيه، وإنما لم يُلحق الأصحابُ مذهبَه في هذه المسألة (2) بالمذهب، لأن من صيغة تخريجه أن يقول: قياس مذهب الشافعي كذا وكذا.
وإذا انفرد بمذهب، استعمل لفظة تشعر بانحيازه، وقد قال في هذه المسألة -لما حكى جواب الشافعي-: " ليس هذا عندي بشيء " واندفع في توجيه ما رآه " ا. هـ بنصه
فهو يعرف للمزني حقه، ويقر بعلوّ منصبه، ويفضل تخريجاته التي التزم فيها أصول الشافعي على تخريجات غيره، ويجعلها الأَوْلى بالالتحاق بالمذهب، أما التي
__________
(1) قال هذا تعقيباً على خلاف الأصحاب في وجوب نزع العظم النجس إذا تداوى بوصله بعظمه أحد، وقد أشرنا إلى المسألة آنفاً.
(2) واحدة من مسائل كتاب الخلع، لا نطيل بذكرها، فقد تُسوّد عدة صفحات.

(المقدمة/233)


لا يلتزم فيه أصول الشافعي، فهي ليست من المذهب، مع علوّ منصب صاحبها.
والذي نلفت النظر إليه تنبّه إمام الحرمين، وتنبيهه لصيغة المزني وعباراته، ومتى تدل على التزامٍ بأصول المذهب، ومتى تدل على الخروج عليها.
* وقد نرى للإمام في كتابه هذا اجتهاداً يخالف فيه المذهب، أو يزيده وجهاً، ولكنه يحرص دائماً على أن يميزه عن المذهب بتعبيرٍ واضح، لا احتمال فيه، من مثل قوله: " كنت أودّ لو قال قائل من أئمة المذهب بكذا ".
* بل قد يختار مذهباً مخالفاً، ويعلل لاختياره، ويستدلّ له، ولكنه دائماً يميز اختياره عن المذهب، مثال ذلك: حينما يعرض لرأي الشافعي في الزكاة، وأنه لا يجوز إخراج البدل، وأن الزكاة تخرج من المال الذي تجب فيه الزكاة، فمن كان ماله ذهباً لا يخرج عنه فضة، وهكذا، نجده يشير إلى رأي مالك وقوله: بأن الوَرِق يجزىء عن الذهب، والذهب يجزىء عن الوَرِق، فنراه يعلن ميله لرأي مالك صراحة، فيقول: " وهذا فيه قرب ". ثم يعلل لرأي مالك ويوجهه، فيقول: " إن الماشية إن قدّرت نامية، واعتُقد فيها اختصاص، فلا اختصاص لأحد النقدين عن الثاني بشيء ".
ومع هذا فالحرص واضح على عدم عدّ ذلك من المذهب.
ونكتفي بهذه النماذج -وما أكثرها في تضاعيف الكتاب- فهي كافية بالغة الدلالة، ونخوض في وجهٍ آخر يبين منزلة كتابنا هذا في بناء المذهب.
...

المذهب الكبير:
ويؤكد منزلة كتابنا هذا ومكانته في تحرير المذهب وبنائه أنه عُرف باسم (المذهب الكبير) وصار عَلَماً عليه، يشهد لذلك ما ذكره ابن الصلاح في (أدب الفتوى) قال: حدثني أحد المفتين بخراسان أيام مقامي بها عن بعض مشايخه، أن الإمام أحمد الخَوافي قال للغزالي في مسألةٍ أفتى فيها: لقد أخطأت، فقال الغزالي: من أين والمسألة ليست مسطورة؟

(المقدمة/234)


فقال الخَوافي: بلى، في (المذهب الكبير).
فقال الغزالي: ليست فيه.
قال ابن الصلاح: ولم تكن في الموضع الذي يليق بها، فأخرجها له الخوافي من موضعٍ أجراها فيه المصنف استشهاداً ... الخ الحكاية". ا. هـ
وعقب على هذه الحكاية ابنُ الصلاح قائلاً: " والمذهب الكبير هو نهاية المطلب تأليف الشيخ أبي المعالي الجويني " (1).
وجاء في مشكل الوسيط قول ابن الصلاح: " وقوله -أي الغزالي- " المذهب البسيط " عبارة خراسانية، ويسمون (نهاية المطلب) المذهب الكبير، أي كتاب (المذهب البسيط)، والله أعلم " (2) ا. هـ
وقال السبكي في ترجمة عبد الجبار بن محمد الخُواري ت 536 هـ: " تفقه على إمام الحرمين، وعلَّق المذهب عليه وبرع فيه، وكان سريع القلم، نسخ بخطه (المذهب الكبير) للجويني أكثر من عشرين مرة، وكان يكتبه ويبيعه، قلتُ (السبكي): المذهب الكبير هو (نهاية المطلب) " (3) ا. هـ
وشيوع هذا الاسم (المذهب الكبير) وتسمية (النهاية) به لا يحتاج إلى دليل أكثر من هذا، فهو شائع ذائع، يعرفه كل من له إلفٌ بأمهات كتب المذهب.
...

الإمام:
يطلق لقب (الإمام) مطلقاً بدون تقييد في كتب الشافعية، ويراد به إمام الحرمين، وهذا الإطلاق مبكرٌ جداً، فقد رأيناه عند البغوي المتوفى سنة 516 هـ، فهل لهذا الإطلاق علاقة بما قام به من تحرير المذهب في كتابه هذا (نهاية المطلب)؟؟
أكاد أجزم بهذا؛ فلم تكن هذه الألقاب تطلق هزلاً، وإذا كان لقب (الإمام) إذا
__________
(1) أدب الفتوى: 83.
(2) مشكل الوسيط لابن الصلاح بهامش الوسيط: 1/ 471.
(3) طبقات السبكي: 7/ 144.

(المقدمة/235)


أطلق عند رجال أي مذهب، فمعناه مؤسس المذهب، فلا شك أن إمام الحرمين ما صار (الإمام) بعد الإمام الشافعي إلا لأن كتابه صار معتمد المذهب ومرجوعه، فهذه (إمامته للمذهب).
وإطلاق هذا اللقب على إمام الحرمين من الشيوع بحيث لا يحتاج إلى إثبات وتدليل. وقد كان شيوع هذا اللقب مبكراً جدّاً؛ فالبغوي المتوفى 516 هـ عن ثمانين عاماً -فقد ولد سنة 436 هـ- ويكاد يكون معاصراً لإمام الحرمين؛ فقد كانت سنُه فوق الأربعين يوم وفاته، وجدناه يقول في (شرح السنة) عند الكلام عن حديث: " مطل الغني ظلم ": " ... قال الإمام: فيه دليل على أنه يجوز لصاحب الحق التشديد على المديون المليء بالقول" (1).
وبلغ شيوع هذا اللقب حَدّاً صار به علماً على إمام الحرمين، فبين يديّ كتاب أدب القضاء لابن أبي الدم المتوفى سنة 642 هـ، وقد ورد فيه ذكر إمام الحرمين، والنقل عنه والاستشهاد بكلامه نحو مائتي مرة معظمها بلفظ الإمام، على سبيل المثال جاء في ص 484: " قال الإمام: وهذا عندي خطأ ... " وفي ذات الصفحة يقول: "قال الإمام: والمسألة محتملة مع ما ذكرناه" وفي الصفحة التالية 485 يقول: " قلت أنا: هذا الخلاف بين الإمام والصيدلاني " وفي ذات الصفحة يقول: " وظاهر فحوى كلام الإمام ... " فهذه أربع مرات متتالية في صفحتين متتاليتين مما يشهد بأن ذلك اللقب صار (علماً) على إمام الحرمين.
ونجد ابن الصلاح المتوفى سنة 643 هـ -مع تحامله على إمام الحرمين لما بين المحدّثين والمتكلمين- في كتابه (مشكل الوسيط) جعل هذا اللقب (الإمام) علماً على إمام الحرمين، كرر ذلك في كتابه مراراً، في ثنايا تعقبه لمؤلف (الوسيط) أبي حامد الغزالي، وشيخه إمام الحرمين.
وكذلك نجد العلائي، خليل بن كيْكلدي المتوفى سنة 761 هـ يحكي في كتابه (جامع التحصيل في أحكام المراسيل) كلام إمام الحرمين في تعريف الحديث
__________
(1) شرح السنة: 8/ 194 وهذا عين ما قاله الإمام في النهاية.

(المقدمة/236)


المرسل، ثم يعقب على ذلك قائلاً: " هذا كلام الإمام في البرهان " (1).
وفي أول كتاب العلم -باب فضل العلم- من فتح الباري يطالعنا قول ابن حجر: " وقد أنكر ابن العربي في شرح الترمذي على من تصدّى لتعريف العلم، وقال: هو أَبْين من أن يبيّن " قلت: وهذه طريقة الغزالي وشيخه الإمام أن العلم لا يحد لوضوحه أو لعسره (2) "
وفي (المنثور) (3) نجد قول الزركشي: "وقال الإمام في (الغياثي): أهم المطالب في الفقه التدزب في مآخذ الظنون في مجال الأحكام، وهو الذي يسمى فقه النفس" (4).
وتجد الزركشي أيضاً في إعلام الساجد بأحكام المساجد يعرض لحكام الصلاة على سطح الكعبة والخلاف في ذلك، ويحكي رأي إمام الحرمين قائلاً: " وقال الإمام: لا شك أنه يجزئه في السطح (5) " وجاء مثل ذلك في مواضع أخرى، على سبيل المثال: ص 95، 99 (6) ونجده كذلك في (خبايا الزوايا) يذكره بالإمام مطلقاً في مواضع كثيرة: (انظر مثلاً: ص 59، 85، 96، 159، 197 (7)).
__________
(1) جامع التحصيل في أحكام المراسيل ت 23.
(2) فتح الباري: 1/ 141.
(3) المنثور: 1/ 68.
(4) الغياثي: فقرة: 582.
(5) إعلام الساجد: 94.
(6) ومما يذكر هنا أن المحقق الفاضل لم يعرف أن المقصود بالإمام هو إمام الحرمين، ولذا لم يذكر هذه الصفحات له في فهرس الأعلام.
(7) وهم المحقق الفاضل أبو الفضل إبراهيم رحمه الله في تحقيقه لكتاب (البرهان في علوم القرآن) للزركشي، حيث فهرس تحت لقب إمام الحرمين لفظ الإمام مطلقاً حيثما ورد في الكتاب، على ما جرت به العادة في كتب الشافعية، فقد جاء في كلام الزركشي (2/ 263) قوله: " واستشكله الإمام في تفسيره ... ".
ففسر الإمام في الحاشية بأنه (إمام الحرمين)، مع أن المراد بلفظ الإمام هنا الإمام الفخر الرازي، فمن المعلوم أن لقب الإمام مطلقاً بغير قيد في كتب التفسير يراد به الإمام فخر الدين الرازي.

(المقدمة/237)


أما شيخا المذهب الرافعي والنووي نجد هذا الإطلاق شائعاً في كتبهما، وبخاصة الشرح الكبير، والمجموع شرح المهذب، وروضة الطالبين، وبلغ شيوع هذا الإطلاق حدّاً لا يحتاج معه إلى إيراد نماذج، وذكر أمثلة، ومواضع وأرقام صفحات، فحيثما قلبت في هذه الكتب تجده أمامك.
وكذلك تجد هذا الإطلاق في مؤلفات السبكي التقيّ، والسبكي التاج.
كما تجد هذا أيضاً عند الخطيب الشربيني في الإقناع، وفي النهاية لولي الدين البصير، وتتابع على هذا أئمة الشافعية في كتبهم وشروحهم وحواشيهم.
وما ذكرناه مجرد أمثلة فقط. فحيثما وجدت لقب (الإمام) مطلقاً -في كتب مَنْ بعد إمام الحرمين- فاعلم أنه إمام الحرمين، وحذارِ أن تظن أنه الإمام الشافعي.
ومن أوهام الخواصّ في هذا الباب أن مصحح روضة الطالبين (1) -على فضله- قرأ قول النووي: 1/ 215: " قلت لم يجزم الإمام بأنه يكون على ذلك الخلاف، بل قال: في هذا تردد عندي "، فظن خطأً أن هذا الإطلاق يعني أن المقصود هو الإمام الشافعي، وواضح أن مثل هذا لا يكون من كلام الشافعي، فراجَعَ الشرحَ الكبير الذي هو أصل الروضة، وراجعَ المجموع، فوجد العبارة فيهما منسوبةً لإمام الحرمين، فغيّر عبارة النووي حتى صارت: " لم يجزم إمام الحرمين ... " وقال في الهامش: " في الأصل (الإمام) وقد صوّبتها من المجموع للنووي، والشرح الكبير للرافعي " ا. هـ.
والواقع أنه خطّأ الصواب، وأتى مكانه بمرادافٍ؛ فالإمام هو إمام الحرمين بعينه.
وهذا الوهم إلى هنا أمره محتمل غير خطير، ولكن تُرى ماذا فعل المحقق الكريم بما رآه من عشرات المرات للفظ الإمام، ولم يجد تصريحاً في مصدرٍ آخر بأن
__________
= ومما يسجل هنا أن الزركشي كان دقيقاً في استعمال هذا اللقب، فقد رأيناه في كتبه الفقهية يطلق على إمام الحرمين لقب (الإمام) مطلقاً، وأما في البرهان في علوم القرآن فاحتاط للأمر فذكر إمام الحرمين في كل موضع ورد فيه بهذا الاسم (إمام الحرمين) أو يقول: الجويني.
(1) طبعة المكتب الإسلامي، فقد طبعت بعدها طبعة لا خير فيها، ولا ثقة بها.

(المقدمة/238)


المقصود إمام الحرمين؟!! هل فسرها بأنها الإمام الشافعي؟ أم بأي إمام؟ إن هذا الوهم وأمثاله لو لم يتدارك، لقلب الموازين، وغيّر وبدّل، وسمى الأشياء بغير أسمائها، وذلك لعمري خلل عظيم.

عُدنا للحديث عن منزلة الإمام.
ولعل من أعظم الأدلة على شيوع وذيوع هذا اللقب (الإمام) وإطلاقه على إمامنا أنه انتقل إلى لسان أئمة المذاهب المخالفة، وتردد في كتبهم، فقد وجدنا صاحب مسلّم الثبوت (ابن عبد الشكور) المتوفى 1119هـ -عند الحديث عن تعبد النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة، وهل كان متعبداً بشرعٍ، أو بغير شرع- يقول: " ونفاه المالكية، وجمهور المتكلمين: فالمعتزلة قالوا: التعبد بشرعٍ مستحيل، وأهل الحق: غير واقع، وعليه القاضي، وتوقف الإمام (1) والغزالي " (2).
وعند الحديث عن تعدد العلة وتعليل الحكم بأكثر من علة، يقول: " والإمام قال: يجوز التعدد عقلاً ويمتنع شرعاً " (3).
والأبلغ من ذلك دلالة أن يذيع تلقيب الإمام بهذا حتى ينتقل إلى لسان أئمة فنون أخرى غير الفقه والأصول، والعلوم الشرعية كلها، فنجده عند أئمة اللغة، وفي كتبهم، فها هو ابن هشام في كتابه الفذ (مغني اللبيب) عند الحديث عن (الواو) ومعانيها يقول: " ونقل (الإمام) في (البرهان) عن بعض الحنفية أن الواو للجمع " (4).
...
__________
(1) ر. البرهان في أصول الفقه: 1/فقرة رقم: 423، حيث يقول الإمام بالتوقف في هذه المسألة.
(2) ر. شرح مسلم الثبوت: 2/ 183.
(3) السابق نفسه: 2/ 282، وانظر البرهان: 2/فقرة رقم: 791، حيث يقول الإمام: " تعليل الحكم الواحد بعلتين ليس ممتنعاً عقلاً وتسويغاً، ونظراً إلى المصالح الكلية، ولكنه ممتنع شرعاً " ا. هـ بنصه.
(4) مغني اللبيب عن كتب الأعاريب: 464.

(المقدمة/239)


ولم يكن لقب (الإمام) وإطلاقه عليه بغير تقييد هو وحده الذي عظّم به الشافعية إمام الحرمين، فأنت واجدٌ في كتبهم تعظيم الإمام شائعاً بأكثر من لقب، سواء وافقوه أو خالفوه، ويكفي أن نشير إلى نموذج يسير من ذلك، فها هو النووي يحكي كلامه في مسألة من مسائل المياه، فيقول: "قال إمام الحرمين، وهو عمدة المذهب ... " (1).
وعندما يردّ قوله ويخالفه يقول: "ومن أظرف العجائب قول إمام الحرمين هذا مع علو مرتبته، ونفوذه في العلوم مطلقاً (2) ".
فمع هذا الرّدّ لقول الإمام إلا أنه لم يسعه إلا الإقرار بعلوّ مرتبته، ونفوذه في العلوم مطلقاً.
أما السبكي، فيسميه: "لسان المذهب ولسان الشريعة"، ونص عبارته:
" مسألة: اشتهر عن الشافعي رضي الله عنه أن تَرْك الاستفصال في حكاية الأحوال، مع قيام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال، وهذا وإن لم أجده مسطوراً في نصوصه، فقد نقله عنه لسان مذهبه، بل لسان الشريعة على الحقيقة أبو المعالي رضي الله عنه (3) ".
ولم يكن هذا -أيضاً- عند علماء الشافعية وأئمتهم، بل رأيناه عند المخالفين، بل أشدهم خلافاً، فقد وجدنا ملا علي القاري، وهو أحد أقطاب الحنفية، وأحد مجددي القرن الحادي عشر، شيخ الإسلام ببلد الله الحرام، وجدناه وقد ألف رسالة في الرد على إمام الحرمين في كتابه (مغيث الخلق (4)، قال في مقدّمة هذه الرسالة (5) عن إمام الحرمين: " لا شك أن مدار أصول الشافعية، وفروعهم عليه " فمع أن المقام مقام
__________
(1) المجموع: 1/ 54.
(2) المجموع: 6/ 525.
(3) ر. الأشباه والنظائر: 2/ 137.
(4) هذا الكتاب مزيف مدَّعَّى على إمام الحرمين، وقد صار عندنا من الشواهد والأدلة ما يقطع بذلك، فعسى الله أن ينسأ في الأجل، ويعيننا على إتمام هذا البحث، وإخراجه، فقد ظلم إمام الحرمين بسبب هذا الكتاب ظلماً بينا من بعض المتعصبة.
(5) مخطوطة بمكتبة الحرم المكي، عندي صورة لها، هدية من الأخ العلامة الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان عضو هيئة كبار العلماء في السعودية.

(المقدمة/240)


تعصب مذهبي، وردٌ ومحاجة وخصومة، إلا أن منزلة إمام الحرمين لم تغب عن بال صاحب الرسالة، رضي الله عنه وعن إمامنا، وكل الأئمة الأبرار.
ومن أئمة المذهب المالكي نجد الإمام ابن العربي يسمي إمام الحرمين (رأس التحقيق)، ومن عجب أنه يقول هذا في ثنايا ردّه على الإمام واختلافه معه. (انظر المسألة كاملة في أحكام القرآن: 1/ 374).
ثم نذكِّر بأن حديثنا هذا هو حديث عن (النهاية) ومنزلتها، فالإمام إنما بلغ هذه المنزلة، واستحق هذه المكانة، وتحلّى بهذه الألقاب لكونه صاحب (النهاية)، ونقرّب ذلك بقولنا: إذا كانوا يقولون: إن الأسلوب هو الرجل، فلم لا نقول نحن هنا: " إن الكتاب هو الرجل ".
...
ومن جانب آخر حفظت لنا (النهاية) نصوصاً أصيلة لأئمة كبار، لم تصل إلينا مؤلفاتهم للآن، وتعتبر في عداد المفقود الذي ضاع من تراث أمتتا، مثل مؤلفات ابن سُريج، وابن الحداد، وأبي علي السنجي، والقفال، وصاحب التقريب وغيرهم، احتفظت لنا (النهاية) بكثير من هذه النصوص، بل أهمها، أعني ما هو موضع المناقشة والاستشهاد، أو المخالفة والردّ من أقوال الأئمة الأعلام.
...
بقي أن نعرض لقضية اتصال كتب الغزالي (بنهاية المطلب) وابتناؤها عليها، ومع أن ذلك معروف يتردد بوضوح في كتب المذهب الشافعي، ولا يحتاج منا إلى إثبات، ولكن الذي يدعونا إلى ذلك، أن علماً من أعلام الفقه في عصرنا، وهو من الأثبات الذين يعتد برأيهم، ويستمع لقولهم، ناقش في ذلك ذات يوم قائلاً: " إنه رجع إلى (وسيط الغزالي)، فلم يشعر بأن الغزالي يعتمد على إمام الحرمين، أو ينقل عنه ".
ومن أجل ذلك نقول: إن مما يؤكد ذلك، ويشهد به أدلةٌ وشواهد، لا تقع تحت حصر وعدٍّ منها:
* إن ذلك شاع وذاع عن الغزالي حتى أُوخذ به، وعيب عليه، كما نقله طاش

(المقدمة/241)


كبري زاده، بعد أن ترجم له وعدّد مناقبه ومؤلفاته (1) - قال:
" ومع هذا الفضل الغزير لم يسلم من قيل وقال، حتى خوطب بأنك ما عملت شيئاًً: أخذت الفقه من كلام شيخك، يعني إمام الحرمين في (نهاية المطلب) والتسمية لكتبك من الواحدي (2) " ا. هـ وبلغ من ذيوع ذلك القول أن الزركلي جزم به في الأعلام، فقال في ترجمة الواحدي، بعد أن عدد أسماء كتبه: " أخذ الغزالي هذه الأسماء وسمى بها تصانيفه ".
وقد ذكر هذه العبارة الصفدي في الوافي، وزاد عليها: " ويقال: إن (نهاية المطلب) لإمام الحرمين، كانت زُبر حديد، فجعلها الغزالي زُبر خشب " (3).
* إن النووي في المجموع أكثر نقلاً عن (النهاية) وإمام الحرمين، وإذا ذكر الغزالي، أو كتابه البسيط، يذكره تبعاً لإمام الحرمين، ونهاية المطلب، وعباراته عن ذلك غالباً -بل دائماً- " اختاره الإمام، والغزالي في البسيط ".
* إن ابن الصلاح والنووي في تعقباتهما للغزالي -في مشكل الوسيط والتنقيح- يقولان -غالباً- وهذا أخذه عن شيخه في (النهاية) وكأنهما يورّكان بالخطأ على إمام الحرمين، ويحمّلانه خطأ الغزالي فيما تعقباه فيه.
* ومما يشهد، بل يؤكد اختصار (البسيط) (للنهاية) ما قاله النووي في المجموع: 1/ 146، وسلك إمام الحرمين طريقاً جامعاً مبسوطاً في هذه المسألة، ثم " اختصره الغزالي في البسيط "، فقال: ...
وذكر عبارة الغزالي، وعند مقارنتها بعبارة النهاية وجدنا الاختصار واضحاً جلياً.
* وأكثر دلالة، وأوضح عبارة قول ابن الصلاح، وهو يتعقب الغزالي في واحدة
__________
(1) مفتاح السعادة ومصباح السيادة: 2/ 202 طبعة حيدر آباد، عن عبد الرحمن بدوي - مؤلفات الغزالي: 479.
(2) الواحدي، علي بن أحمد بن محمد بن علي، أبو الحسن الواحدي: مفسر، عالم بالأدب، مولده ووفاته بنيسابور، له البسيط والوسيط والوجيز كلها في التفسير توفي 468 هـ (الأعلام للزركلي، وانظر النجوم الزاهرة: 5/ 104 وطبقات السبكي: 5/ 240).
(3) الوافي بالوفيات للصفدي: 1/ 274.

(المقدمة/242)


من مسائل الوسيط: " وهذا مشكل غير مذكور في (البسيط) وأصله وهو (النهاية (1)) ".
وقوله في موضع آخر: " كذا وقع في (الوسيط) و (البسيط) وفي أصلهما (نهاية المطلب (2)) " فهذا نصٌّ في القضية.
* وتستطيع أن ترى هذا بعينك إذا وضعت (النهاية) و (البسيط) بين يديك، ونظرت المسألة الواحدة فيهما، فعلى سبيل المثال لو عرضنا مسألة من مسائل النذر، وهي قوله: " لله علي أن أصوم يوم يقدم فلان ".
لو عرضنا هذه المسألة بحروفها في نهاية المطلب، وكذلك بحروفها في (البسيط)، لوجدنا التأثر واضحاً تماماً، لا يحتاج إلى تعليق، فما قدم به الإمام للمسألة من تأصيل قدم به الغزالي بنفس الألفاظ تقريباً، ثم في عرض صور المسألة وتفريعاتها تجد الترتيب هو هو (3).
* وبعد أن كتبنا هذا، ورتبناه، حصلنا على صورة غير مبتورة للجزء الأول من مخطوط (البسيط)، فوجدنا الغزالي يقول في خطبة الكتاب: " .... وجعلته حاوياً لجميع الطرق، ومذاهب الفرق القديمة والجديدة، والأوجه القريبة والبعيدة، ومشتملاً على جميع ما اشتمل عليه مجموع إمامي إمام الحرمين أبي المعالي قدس الله روحه " وبهذا "قطعت جهيزة قول كل خطيب".
* ومع كل ذلك نقول: إننا لا نريد أن نثبت أن الغزالي مجرد ناقلٍ لفقه إمام الحرمين -حاشاه-، فلم يأخذ النهاية عفواً صفواً، وكيف يصح هذا في عقل عاقل، والغزالي هو من هو، إن عمل الغزالي في إعادة صياغة (النهاية)، وترتيبه المسائل والفصول ترتيباً منطقياً، وبناء بعضها على بعض، ليس عملاً هيناً، بل يحتاج إلى عقلٍ
__________
(1) ر. مشكل الوسيط، مطبوع بهامش الوسيط: 1/ 322 - 323.
(2) السابق نفسه: 1/ 483 - 484.
(3) هممت أن أعرض النصين، فوجدت ذلك يستغرق نحو عشر صفحات، فلم أشأ التطويل والإثقال، فراجع ذلك إن شئت.

(المقدمة/243)


واعٍ وفكر ثاقب، وذهن متوقد، وقدرة على الإحاطة الشاملة الكاملة بالأبواب والفصول، وإدراك ضوابطها، ومعاقدها، ومفاصلها.
ثم إن الغزالي له مع ذلك زياداته، واختياراته.
فالقول بأنه اختصر (النهاية) في (البسيط) لا يقدح في منزلته، ولا ينال من علو منصبه، وارتفاع مرتبته.
...
ونوجز ما قلناه عن منزلة النهاية ومكانتها فيما يأتي:
- إن الإمام حدد الغاية التي يتغياها من تأليفها بقوله: إنه أرادها تهذيباً للمذهب، وسماها اسماً يشعر بمضمونها.
- ثم التزم ذلك منهجا له على طول الكتاب، يذكِّر به، ويجدد العهد بالتزامه من حين لآخر.
- وقد عرف رجال المذهب ذلك، فسمَّوْها (المذهب الكبير).
- وبها عرفوا قدر مؤلفها، فسمَّوْه (الإمام) مطلقاً.
- ثم قد حفظت لنا نصوصاً لأئمة كبار لم نعرف عنها شيئاًً للآن.
- وعليها بنيت كتب المذهب، حتى استفاض بين أئمته القول: " منذ ألف الإمام كتابه (نهاية المطلب) لم يشتغل الناس بغير كلامه ".
***

(المقدمة/244)